فصل: تفسير الآية رقم (81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (81):

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)}
لا شكّ أن سليمان- عليه السلام- قد استفاد بما علَّم الله به أباه داود، وأخذ من نعمة الله على أبيه، وهنا يزيده ربه تبارك وتعالى أموراً يتميز بها، منها الريح العاصفة أي: القوية الشديدة {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا...} [الأنبياء: 81] وكأنها مواصلات داخلية في مملكته من العراق إلى فلسطين.
وفي موضع آخر قال: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 35-36].
ؤُخَأء: أي: هيّنة ليّنة ناعمة، وهنا قال {عَاصِفَةً...} [الأنبياء: 81] فكأن الله تعالى جمع لهذه الريح صفة السرعة في(عاصفة) وصفة الراحة في(رخاء)، وهاتان صفتان لا يقدر على الجمع بينهما إلا الله، فنحن حين تُسْرِع بنا السيارة مثلاً لا تتوفر لنا صِفَة الراحة والاطمئنان، بل يفزع الناس ويطلبون تهدئة السرعة.
أما ريح سليمان فكانت تُسرع به إلى مراده، وهي في الوقت نفسه مريحة ناعمة هادئة لا تُؤثِّر في تكوينات جسمه، ولا تُحدث له رجَّة أو قوة اندفاع يحتاج مثلاً إلى حزام أمان، فمَنْ يقدر على الجمع بين هذه الصفات إلا الله القابض الباسط، الذي يقبض الزمن في حق قوم ويبسطه في حق آخرين.
ومعنى: {بَارَكْنَا فِيهَا...} [الأنبياء: 81] أي: بركة حِسِّية بما فيها من الزروع والثمار والخِصْب والخيرات، وبركة معنوية حيث جعل فيها مهابط الوحي والنبوات وآثار الأنبياء.
وليس تسخير الريح لسليمان أنها تحمله مثلاً، كما رأينا في(السينما) بساط الريح الذي نراه يحمل شيئاً ويسير به في الهواء، أو: أنها كانت تُسيِّر المراكب في البحار، إنما المراد بتسخيرها له أن تكون تحت مراده، وتأتمر بأمره، فتسير حيث شاء يميناً أو شمالاً، فهي لا تهٌُبُّ على مرادات الطبيعة التي خلقها الله عليها، ولكن على مراده هو.
وإنْ كانت هذه الريح الرُّخَاء تحمله في رحلة داخلية في مملكته، فهناك من الرياح ما يحمله في رحلات وأسفار خارجية، كالتي قال الله تعالى عنها: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ...} [سبأ: 12] فيجوب بها في الكون كيف يشاء {حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36].
ثم يقول تعالى: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81] أي عندنا علْم نُرتِّب به الأمور على وَفْق مرادنا، ونكسر لمرادنا قانون الأشياء فَنُسيِّر الريح كما نحب، لا كما تقتضيه الطبيعة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ...}.

.تفسير الآية رقم (82):

{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)}
فبعد أنْ سخَّر الله له الريح سخَّر له الشياطين {يَغُوصُونَ لَهُ...} [الأنبياء: 82] والغَوْصُ: النزول إلى أعماق البحر؛ ليأتوه بكنوزه ونفائسه وعجائبه التي ادخرها الله فيه {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك...} [الأنبياء: 82] أي: مما يُكلِّفهم به سليمان من أعمال شاقة لا يقدر عليها الإنسان، وقد شرحت هذه الآية في موضع آخر: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ...} [سبأ: 13] فأدخل مرادات العمل في مشيئته.
والمحاريب جمع محراب، وهو مكان العبادة كالقِبْلة مثلاً، والجِفَان: جمع جَفْنة، وهي القَصْعة الكبيرة الواسعة التي تكفي لعدد كبير، والقدور الراسيات أي: الثابتة التي لا تنقل من مكان لآخر وهي مبنية.
وقد رأينا شيئاً من هذا في الرياض أيام الملك عبد العزيز رحمه الله، وكان هذا القدْر من الاتساع والارتفاع بحيث إذا وقف الإنسان ماداً ذراعيه إلى أعلى لا يبلغ طولها، وفي الجاهلية أشتهرت مثل هذه القدور عند ابن جدعان، وعند مطعم بن عدي.
أما التماثيل فهي معروفة، والموقف منها واضح منذ زمن إبراهيم عليه السلام حينما كسَّرها ونهي عن عبادتها، وهذا يردُّ قول مَنْ قال بأن التماثيل كانت حلالاً، ثم فُتِن الناس فيها، فعبدوها من دون الله فَحرِّمت، إذن: كيف نخرج من هذا الموقف؟ وكيف يمتنّ الله على نبيه سليمان أن سخر له من يعملون التماثيل وهي مُحرَّمة؟
نقول: كانوا يصنعون له التماثيل لا لغرض التعظيم والعبادة، إنما على هيئة الإهانة والتحقير، كأن يجعلوها على هيئة رجل جبار، أو أسد أضخم يحمل جزءاً من القصر أو شرفه من شرفاته، أو يُصوِّرونها تحمل مائدة الطعام.. إلخ. أي أنها ليست على سبيل التقديس.
ثم يقول تعالى: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 82] حافظين للناس المعاصرين لهذه الأعمال يروْنَ البشر، والبشر لا يرَوْنَهم، كما قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ...} [الأعراف: 27].
أما سليمان عليه السلام فكان يرى الجنَّ ويراقبهم وهم يعملون له، وفي قصته: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ...} [سبأ: 14].
وفي هذا دليل على أن الجن لا يعلمون الغيب؛ لذلك قال تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين} [سبأ: 14].
ويُقال: إن سليمان- عليه السلام- بعد أنْ امتنَّ الله عليه، وأعطاه مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، أخذ هؤلاء الجن وحبسهم في القماقم حتى لا يعملوا لأحد غيره.
هذه مجرد لقطة من قصة سليمان، ينتقل السياق منها إلى أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ...}.

.تفسير الآية رقم (83):

{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)}
(نَأديَ): قلنا النداء لمثلك طلب إقبال، أما بالنسبة لله تعالى فهو بمعنى الدعاء، فمعنى {إِذْ نادى رَبَّهُ...} [الأنبياء: 83] أي: دعاه وناداه بمطلوب هو: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين...} [الأنبياء: 83] والضُّر: ابتلاء من الله في جسده بمرض أو غيره.
أما الضرَّ بفتح الضاد، فهو إيذاء وابتلاء في أي شيء آخر غير الجسد، ولا مانع أن يمرض الأنبياء لكن بمرض غير مُنفِّر.
لكن، كيف ينادي أيوب عليه السلام ربه ويتوجع {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر...} [الأنبياء: 83] أليس في علم الله أن أيوبَ مسَّه الضرُّ؟ وهل يليق بالنبي أنْ يتوجّع من ابتلاء الله؟
نعم، يجوز له التوجُّع؛ لأن العبد لا يَشْجَعُ على ربه؛ لذلك فإن الإمام علياً رضي الله عنه لما دخل عليه رجل يعوده وهو يتألم من مرضه ويتوجع، فقال له: أتتوجَّع وأنت أبو الحسن؟ فقال: أنا لا أشجع على الله يعني: أنا لست فتوة أمام الله.
ألا ترى أنه من الأدب مع مَنْ يريد أن يُثبِت لك قوته فيمسك بيدك مثلاً، ويضغط عليها لتضجّ وتتألم، أليس من الأدب أن تطاوعه فتقول: آه وتُظهِر له ولو مجاملة أنه أقوى منك؟
ومعنى: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} [الأنبياء: 83] ساعةَ أنْ ترى جَمْعاً في صفة من الصفات يُدخِل الله فيه نفسه مع خَلْقه، كما في: {أَرْحَمُ الراحمين} [الأنبياء: 83] و{أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] و{خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] فاعلم أن الله تعالى يُثبِت نفس الصفة لعباده، ولا يبخسهم حقهم.
فالرحمة من صفات البشر، كما جاء في الحديث الشريف: (الراحمون يرحمهم الرحمن).
وفي (ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء).
فالرحمة تخلُّق بأخلاق الحق سبحانه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تخلَّقوا بأخلاق الله».
إذن: للخَلْق صفة الرحمة، لكن الله هو أرحم الراحمين جميعاً؛ لأن رحمته تعالى وسعَتْ كل شيء. كما قلنا في صفة الخَلْق: فيمكنك مثلاً أن تصنع من الرمل كوباً، وتُخرِِجه إلى الوجود، وتنتفع به، لكن أخَلْقك للكوب كخَلْق الله؟
ثم يقول الحق سبحانه: {فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا...}.

.تفسير الآية رقم (84):

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)}
استجاب الله لأيوب فيما دعا به من كَشْف الضُّر الذي أصابه، وأعطاه زيادة عليه ونافلة لم يَدْعُ بها، حيث كان في قِلَّة من الأهل، وليس له عِزْوة.
{رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ...} [الأنبياء: 84] ليعلم كلُّ عابد أخلص عبادته لله تعالى، أنه إذا مسَّه ضُرٌّ أو كَرْب ولجأ إلى الله أجابه الله إلى ما يريد، وأعطاه فوق الإجابة نافلة أخرى، وكأن ما حدث لنبي الله أيوب نموذج يجب أن يُحْتَذَى. {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ...}.

.تفسير الآية رقم (85):

{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)}
قلنا: إن سورة الأنبياء لا تذكر قصَصاً كاملاً للأنبياء، إنما تعطينا طَرَفاً منها، وهنا تذكر إسماعيل وإدريس وذا الكفل بالاسم فقط.
ثم يقول تعالى: {كُلٌّ مِّنَ الصابرين} [الأنبياء: 85] كأن الصبر في حَدِّ ذاته حيثية يُرسل الله من أجلها الرسول، ولنتأمل الصبر عند إسماعيل، وكيف أنه صبر على أنْ يذبحه أبوه برؤيا رآها، فأيُّ صبر أعظم من هذا؟
ثم يعيش في صِغَره- وحتى كبر- في وَادٍ غير ذي زرع، ويتحمل مشاق هذه البيئة الجافة المجْدِبة، ويخضع لقول الله تعالى: {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة..} [إبراهيم: 37].
وكأن في خروجه من هذه الأرض وطلبه لأرض أخرى فيها النعيم والزروع والثمار تأبّياً على إقامة الصلاة؛ لذلك نراه يُفضّل البقاء في هذا المكان، ويزهد في نعيم الدنيا الذي يتمتع به غيره امتثالاً لأمر الله.
وتكون النتيجة أنْ أعطاه الله ما هو خَيْر من الزروع والثمار، أعطاه عطاءً يفخر به بين جميع الأنبياء، هو أنه جعل من نسله النبي الخاتم محمد بن عبد الله، وأيُّ ثمرة أحسن من هذه؟
وإدريس: وهو من الجيل الخامس من أولاد آدم عليه السلام، وبعض العلماء يقولون هو (أوزوريس)، ونحن لا نقول إلا ما قاله القرآن(إدريس) وأهل السير يقولون: إن نبي الله إدريس أول مَنْ علّمه الله غزل الصوف وخياطة الملابس، وكانوا قبلها يسترون عوراتهم بقطع الجلود.
وهو أول مَن استخدم النجوم لمعرفة الاتجاهات والأحوال، وأول مَنْ خط بالقلم، هذه يُسمُّونها أوليات إدريس.
وذا الكفل: الكِفْل هو الحظ والنصيب، فلماذا سُمِّي (ذو الكفل)؟ ذو الكفل ابن أيوب عليه السلام، ويظهر أن أولاد أيوب كانوا كثيرين، إنما اختص الله ذا الكفل بالرسالة، وكان هذا حظه دون غيره من أبناء أيوب؛ لذلك سُمِّي (ذو الكفل).
وقد جاءت هذه المادة(كَفَل) أيضاً في قوله الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ...} [الحديد: 28].
جاءت هذه الآية بعد الكلام عن عيسى- عليه السلام- والذين آمنوا به واتبعوه، يقول تعالى: يا مَنْ آمنتم بالرسل السابقين، وآخرهم عيسى- عليه السلام- آمنوا بالرسول الخاتم ليكون لكم كفلان أي: نصيبان وحظَّان من رحمةَ الله، نصيبٌ لإيمانكم بعيسى، ومَنْ سبقه من الرسل، ونصيبٌ لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول تعالى في وصفهم {كُلٌّ مِّنَ الصابرين} [الأنبياء: 85] فوصف كلّ الأنبياء بالصبر؛ لأنهم تعرَّضوا لأنواع الاضطهاد والإيذاء والأهوال في سبيل دعوتهم، وصبروا على هذا كله. {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا...}.

.تفسير الآية رقم (86):

{وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)}
والرحمة هنا بمعنى النبوة، وهي أمر عظيم وعطاء كبير، فإنْ تحمّلوا في سبيله بعض المتاعب، فلا غضاضةَ في ذلك: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ...}.

.تفسير الآية رقم (87):

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)}
(ذو النون): هو سيدنا يونس بن متى صاحب الحوت، والنون من أسماء الحوت، وجمعه(نينان) كحوت وحيتان؛ لذلك سُمِّيَ به، وقد أُرسل يونس عليه السلام إلى أهل(نِينَويَ) من أرض الموصل بالعراق.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعداس: (أنت من بلد النبي الصالح: يونس ابن متّى).
والنون أيضاً اسم لحرف من حروف المعجم، لكن قد يوافق اسمُ الحرف اسماً لشيء آخر، كما في(ق) وهو اسم جبل، وكذلك السين، فهناك نهر اسمه نهر السين، وهكذا تصادف أسماء الحروف أسماء أشياء.
وقوله تعالى: {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً...} [الأنبياء: 87] مادة(غضب) نأخذ منها الوصف للمفرد. نقول: غاضب وغضبان، أمّا(مغاضب) فتعطي معنى آخر؛ لأنها تدل على المفاعلة، فلابد أن أمامك شخصاً آخر، أنت غاضب وهو غاضب، مثل: شارك فلان فلاناً.
لكن في أصول اللغة رجحنا جانب الفاعلية في أحدهما، والمفعُولية في الآخر، كما نقول: شارك زيدٌ عَمْراً، فالمشاركة حدثتْ منهما معاً، لكن جانب الفاعلية أزيد من ناحية زيد، فكلُّ واحد منهما فاعل مرة ومفعول أخرى.
واللغة أحياناً تلحظ هذه المشاركة؛ فتُحمِّل اللفظ المعنيين معاً: الفاعل والمفعول، كما جاء في قَوْل الشاعر العربي الذي يصف السير في أرض معقربة، والتي إذا سرْت فيها دون أنْ تتعرض للعقارب فإنها تسالمك ولا تؤذيك، فيقول:
قَدْ سَالَم الحياتُ مِنْه القَدَمَا ** الأفْعُوانَ والشُّجاعَ القَشْعَمَا

أي: أنه سَالَم الحيات، فالحيات سالمتْه، فالمسالمة منهما معاً، لكن غلب جانب الحيات فجاءت فاعلاً؛ لأن إيذاءَها أقوى من إيذائه، فلما أبدل من الحيات(الأفعوان والشجاع القشعما) وهما من أسماء الحيات كان عليه أنْ يأتي بالبدل مرفوعاً تابعاً للمبدل منه، إلا أنه نصبه فقال: الأُفْعَوانَ والشجاعَ القشعمَا؛ لأنه لاحظ في جانب الحيات أنها أيضاً مفعولٌ.
فَمِمَّ غضب ذو النون؟ غضب لأن قومه كذبوه، فتوعدهم إنْ لم يتوبوا أنْ يُنزل بهم العذاب، وأتى الموعد ولم ينزل بهم ما توعدهم به، فخاف أنْ يُكذِّبوه، وأن يتجرَّأَوا عليه، فخرج من بينهم مغاضباً إلى مكان آخر، وهو لا يعلم أنهم تابوا فأخّر الله عذابهم، وأجّل عقوبتهم.
وفي آية أخرى يُوضِّح الحق سبحانه هذا الموقف: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [يونس: 98].
أي: لم يحدث قبل ذلك أنْ آمنتْ قرية ونفعها إيمانها إلا قرية واحدة هي قوم يونس، فقد آمنوا وتابوا فأجّل الله عذابهم.
إذن: خرج يونس مُغاضِباً لا غاضباً؛ لأن قومه شاركوه، وكانوا سبب غضبه، كما حدث في مسألة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة لكنه لم يهْجرهَا، فسُمِّيَتْ هجرة؛ لأن أهل مكة هجروا رسول الله أولاً، وهجروا دعوته وألجئوه أيضاً إلى الهجرة وتَرْك مكة، فهم طرف في الهجرة وسببٌ لها.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً مكة: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منكِ ما خرجْتُ).
وقد أخذ المتنبي هذا المعنى، وعبَّر عنه بقوله:
إذَا ترحلْتَ عَنْ قَوْمٍ وقَدْ قَدَرُوا ** ألاَّ تُفارِقَهُمْ فالراحِلُون هُمُ

وقوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ...} [الأنبياء: 87] البعض ينظر في الآية نظرةً سطحية، فيقولون: كيف يظن يونس أن الله لن يقدر عليه؟ وهذا الفَهْم ناشيء عن جَهْل باستعمالات اللغة، فليس المعنى هنا من القدرة على الشيء والسيطرة، ولو استوعبتَ هذه المادة في القرآن(قَدَرَ) لوجدت لها معنى آخر، كما في قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله...} [الطلاق: 7] معنى قُدِر عليه رزقه يعني: ضُيِّق عليه.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ...} [الإسراء: 30].
وقوله سبحانه تعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15-16].
إذن: فقوله: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ...} [الأنبياء: 87] أي: أن يونس لما خرج من بلده مُغاضباً لقومه ظنَّ أن الله لن يُضيِّق عليه، بل سيُوسِّع عليه ويُبدله مكاناً أفضل منها، بدليل أنه قال بعدها {فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] يريد منه سبحانه تنفيس كربته، وتنفيس الكربة لا يكون إلا بصفة القدرة له.
فكيف يستقيم المعنى لو قلنا: لن يقدر عليه بمعنى: أن الله لا يقدر على يونس؟
إذن: المعنى: لن يُضيِّق عليه؛ لأنه يعلم أنه رسول من الله، وأن ربه لن يُسلْمه، ولن يخذله، ولن يتركه في هذا الكرب.
وقد وُجدَتْ شبهة في قصة يونس- عليه السلام- في قوله تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143-144].
فكيف يلبث في بطن الحوت إلى يوم يُبعثون، مع أن يونس سيموت، وسيأتي أجَل الحوت ويموت هو أيضاً، أم أن الحوت سيظل إلى يوم القيامة يحمل يونس في بطنه؟
وفات هؤلاء نظرية الاحتواء في المزيجات، كما لو أذبتَ قالباً من السكر في كوب ماء، فسوف تحتوي جزئيات الماء جزئيات السكر، والأكثر يحتوي الأقل، فقالب السكر لا يحتوي الماء، إنما الماء يحتوي السكر.
فلو مات الحوت، ومات في بطنه يونس- عليه السلام- وتفاعلت ذراتهما وتداخلتْ، فقد احتوى الحوتُ يونسَ إلى أن تقوم الساعة، وعلى هذا يظل المعنى صحيحاً، فهو في بطنه رغم تناثر ذراتهما. {فاستجبنا لَهُ...}.