فصل: تفسير الآية رقم (12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (12):

{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)}
معنى: {مَا لاَ يَضُرُّهُ..} [الحج: 12] هل الصنم الذي يعبده الكافر من دون الله يمكن أن يضره؟ لا، الصنم لا يضر، إنما الذي يضره حقيقة مَنْ عانده وانصرف عن عبادته، تضره الربوبية التي يعاندها والمجَازي الذي يجازيه بعمله، إذن: فما معنى: {يَضُرُّهُ..} [الحج: 12] هنا؟
المعنى: لا يضره إن انصرف عنه ولم يعبده، ولا ينفعه إنْ عبده: {ذلك هُوَ الضلال البعيد} [الحج: 12] نعم ضلال: لأن الإنسان يعبد ويطيع مَنْ يرجو نفعه في أيِّ شيء، أو يخشى ضره في أيِّ شيء.
وقد ذكرنا سابقاً قول بعض العارفين:(واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه)، ولو قلنا هذه المقولة لأبنائنا في الكتب الدراسية، واهتمَّ بها القائمون على التربية لما أغرى الأولاد بعضهم بعضاً بالفساد، ولوقفَ الولد يفكر مرة وألف مرة في توجيهات ربه، ونصائح أبيه وأمه، وكيف أنه سيترك توجيهات مَنْ يحبونه ويخافون عليه ويرجُون له الخير إلى إغراء صديق لا يعرف عنه وعن أخلاقه شيئاً.
لا بُدَّ أنْ نُطعِّم أبناءنا مبادئ الإسلام، ليعرف الولد منذ صِغَره مَنْ يحبه ومَنْ يكرهه، ومَنْ هو أَوْلَى بطاعته.
وتلحظ في الآية أن الضر سابق للنفع: {مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ..} [الحج: 12] لأن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة؛ لأن المفسدة خروج الشيء عن استقامة تكوينه، والنفع يزيدك ويضيف إليك، أما الضر فينقصك، لذلك خَيْر لك أنْ تظل كما أنت لا تنقص ولا تزيد، فإذا وقفتَ أمام أمرين: أحدهما يجلب خيراً، والآخر يدفع شراً، فلا شَكَّ أنك ستختار دَفْع الشر أولاً، وتشتغل بدَرْءِ المفسدة قبل جَلْب المصلحة.
وضربنا لذلك مثلاً: هَبْ أن إنساناً سيرمي لك بتفاحة، وآخر سيرميك بحجر في نفس الوقت، فماذا تفعل؟ تأخذ التفاحة، أو تتقي أَذى الحجر؟ هذا هو معنى (دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة).

.تفسير الآية رقم (13):

{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}
الأية السابقة تثبت أنه يدعو مَا لا يضُرُّه ومَا لا ينفعه، وهذه الآية تُثبت أنه يدعو مَنْ ضَرُّه أقرب من نَفْعه.
صيغة أفعل التفضيل(أقرب) تدل على أن شيئين اشتركا في صفة واحدة، إلا أن أحدهما زاد عن الآخر في هذه الصفة، فلو قُلْتَ: فلان أحسن من فلان. فهذا يعني أن كلاهما حَسَن، لكن زاد أحدهما عن الآخر في الحُسْن.
فقوله تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ..} [الحج: 13].
إذن: هناك نَفْع وهو قريب، لكن الضر أقرب منه، فهذه الآية في ظاهرها تُناقِض الآية السابقة، والحقيقة ليس هناك تناقض، ولابد أنْ نفهمَ هذه المسألة في ضوء قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82].
فالأوثان التي كانوا يعبدونها كان لها سَدَنة يتحكَّمون فيها وفي عابديها، فإذا أرادوا من الآلهة شيئاً قالوا للسدنة: ادعوا الآلهة لنا بكذا وكذا، إذن: كان لهم نفوذ وسُلْطة زمنية، وكانوا هم الواسطة بين الأوثان وعُبَّادها، هذه الواسطة كانت تُدِرُّ عليهم كثيراً من الخيرات وتعطيهم كثيراً من المنافع، فكانوا يأخذون كل ما يُهْدَى للأوثان.
فالأوثان- إذن- سبب في نَفْع سدنتها، لكن هذا النفع قصاراه في الدنيا، ثم يتركونه بالموت، فمدة النفع قصيرة، وربما أتاه الموت قبل أنْ يستفيد بما أخذه، وإنْ جاء الموت فلا إيمانَ ولا عملَ ولا توبةَ، وهذا معنى {ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ..} [الحج: 13].
لذلك يقول تعالى بعدها: {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير} [الحج: 13] كلمة(بئس) تُقَال للذم وهي بمعنى: ساء وقَبُح، والموْلَى: الذي يليك ويقرُب منك، ويُراد به النافع لك؛ لأنك لا تقرِّب إلا النافع لك، إما لأنه يعينك وقت الشدة، ويساعدك وقت الضيق، وينصرك إذا احتجتَ لِنُصْرته، وهذا هو الوليُّ.
وإما أنْ تُقرِّبه منك؛ لأنه يُسليك ويجالسك وتأنس به، لكنه ضعيف لا يقوى على نُصْرتك، وهذا هو العشير.
والأصنام التي يعبدونها بئست المولى؛ لأنها لا تنصرهم وقت الشدة، وبئست العشير؛ لأنها لا تُسليهم، ولا يأنسون بها في غير الشدة.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ..}.

.تفسير الآية رقم (14):

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)}
بعد أن تكلَّم الحق سبحانه وتعالى عن الكفار وأهل النار ومَنْ يعبدون الله على حَرْف، كان لابد أنْ يأتيَ بالمقابل؛ لأن النفس عندها استعداد للمقارنة والتأمل في أسباب دخول النار، وفي أسباب دخول الجنة، وهذا أَجْدى في إيقاع الحجة.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13- 14] وقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً..} [التوبة: 82].
فذِكْر النعمة وحدها دون أنْ تقابلها النِّقْمة لا تُؤتِي الأثر المطلوب، لكن حينما تقابل النعمة بالنقمة وَسَلْب الضّر بإيجاب النفع فإنَّ كلاهما يُظهر الآخر؛ لذلك يقول تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ..} [آل عمران: 185] فإنْ آمنتَ لا تُزَحْزح عن النار فقط- مع أن هذه في حَدِّ ذاتها نعمة- لكن تُزَحْزح عن النار وتدخل الجنة.
والإيمان: عمل قلبي ومواجيد تطمئن بها النفس، لكن الإيمان له مطلوب: فأنت آمنتَ بالله، واطمأنَّ قلبك إلى أن الله هو الخالق الرازق واجب الوجود.. إلخ، فما مطلوب هذا الإيمان؟
مطلوب الإيمان أنْ تستمع لأوامره، لأنه حكيم، وتثق في قدرته لأنه قادر، وتخاف من بطشه لأنه جبار، ولا تيأس من بَسْطه لأنه باسط، ولا تأمن قبضه لأنه قابض.
لقد آمنتَ بكل هذه القضايا، فحين يأمرك بأمر فعليك أنْ تستحضر حيثيات هذا الأمر، وأنت واثق أن ربك عز وجل لم يأمرك ولم يَنْهَكَ من فراغ، إنما من خلال صفات الكمال فيه سبحانه، أو صفات الجلال والجبروت، فاستحضر في كُلِّ أعمالك وفي كُلِّ ما تأتي أو تدع هذه الصفات.

لذلك، جمعت الآية بين الإيمان والعمل الصالح: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ..} [الحج: 14].
وفي سورة العصر: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات..} [العصر: 1- 3] ليس ذلك وفقط إنما أيضاً: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3].
فالتواصي بالحق والصبر على الشدائد من الاستجابة لداعي الإيمان وثمرة من ثماره؛ لأن المؤمن سيتعرَّض في رحلة الحياة لفِتَن كثيرة قد تزلزله، وسيواجه سُخْرية واستهزاءً، وربما تعرَّض لألوان العذاب.
فعليه إذن- أنْ يتمسَّك بالحق ويتواصى به مع أخيه، وعليه أن يصبر، وأنْ يتواصى بالصبر مع إخوانه، ذلك لأن الإنسان قد تعرض له فترات ضَعف وخَوَر، فعلى القوي في وقت الفتنة أنْ ينصحَ الضعيف.
وربما تبدَّل هذا الحال في موقف آخر وأمام فتنة أخرى، فَمنْ أوصيْتَه اليوم بالصبر ربما يوصيك غداً، وهكذا يُثمِر في المجتمع الإيماني التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
إذن: تواصَوْا؛ لأنكم ستتعرضون لِهزَّات ليست هزَّات شاملة جامعة، إنما هزَّات يتعرض لها البعض دون الآخر، فإنْ ضعُفْتَ وجدتَ من إخوانك مَنْ يُواسيك: اصبر، تجلَّد، احتسب.
وإياك أنْ تُزحزحك الفتنة عن الحق، أو تخرج عن الصبر، وهذه عناصر النجاة التي ينبغي للمؤمنين التمسك بها: إيمان، وعمل صالح، وتواصٍ بالحق، وتواصٍ بالصبر.
وقوله سبحانه: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار..} [الحج: 14].
الجنات: هي الحدائق والبساتين المليئة بأنواع المتَّع: الزرع، والخضرة، والنضارة، والزهور، والرائحة الطيبة، وهذه كلها بنت الماء؛ لذلك قال {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار..} [الحج: 14] ومعنى: {مِن تَحْتِهَا..} [الحج: 14] أن الماء ذاتيٌّ فيها، لا يأتيها من مكان آخر ربما ينقطع عنها، كما جاء في آية أخرى: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار..} [التوبة: 100].
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ..} [الحج: 14] لأنه سبحانه لا يُعْجِزه شيء، ولا يعالج أفعاله كما يعالج البشر أفعالهم {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] ولو تأملتَ هذه الآية لوجدتَ الشيء الذي يريده الله ويأمر بكونه موجوداً في الحقيقة، بدليل أن الله تعالى يخاطبه {يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] فهو- إذن- كائن فعلاً، وموجود حقيقةً، والأمر هنا إنما هو لإظهاره في عالم المشاهدة.
ثم يقول سبحانه: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ..}

.تفسير الآية رقم (15):

{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)}
(يظنُّ) تفيد عِلْماً غير يقيني وغير مُتأكد، وسبق أنْ تكلَّمنا في نسبة القضايا، فهناك حكم محكوم به ومحكوم عليه، تقول: زيد مجتهد، فأنت تعتقد في نِسْبة الاجتهاد لزيد، فإنْ كان اعتقادك صحيحاً فتستطيع أنْ تُقدِّم الدَليل على صحته فتقول: بدليل أنه ينجح كل عام بتفوق.
أما إذا اعتقد هذه القضية ولم يُقدِّم عليها دليلاً كأنْ سمع الناسَ يقولون: زيد مجتهد. فقال مثلهم، لكن لا دليلَ عنده على صِدْق هذه المقولة، كالطفل الذي نُلقّنه {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] هذه قضية واقعية يعتقدها الولد، لكن لا يستطيع أنْ يُقدِّم الدليل عليها إلا عندما يكُبر ويستوي تفكيره.
فمن أين أخذ الطفل هذه القضية واعتقدها؟ أخذها من المأمون عليه: من أبيه أو أستاذه ثم قلَّده. إذن: إنْ كانت القضية واقعة، لكِنْ لا تستطيع أنْ تقيم الدليل عليها فهي تقليد، فإنِ اعتقدتَ قضية واقعة، وأقمْتَ الدليل عليها، فهذا أسمْى مراتب العلم، فإنِ اعتقدتَ قضيةً غير واقعيةٍ، فهذا جهل.
فالجاهل: مَنْ يعتقد شيئاً غير واقع، وهذا الذي يُتعِب الدنيا كلها، ويُشقي من حوله، لأن الجاهل الأميَّ الذي لا يعلم شيئاً، وليست لديه فكرة يعتقدها صفحة بيضاء، تستطيع أنْ تقنعه بالحقيقة ويقبلها منك؛ لأنه خالي الذهن ولا يعارضك.
فإنْ تشككْتَ في النسبة بحيث استوت عندك نسبة الخطأ مع نسبة الصواب، فهذا هو الشَّكُّ، فلا تستطيع أنْ تجزم باجتهاد زيد، ولا بعدم اجتهاده، فإنْ غلب الاجتهاد فهو ظَنٌّ، فإنْ غلب عدم الاجتهاد فهو وَهْم.
إذن: نسبة القضايا إما علم تعتقده: وهو واقع وتستطيع أنْ تقيمَ الدليل عليه، أو تقليد: وهو ما تعتقده وهو واقع، لكن لا تقدر على إقامة الدليل عليه، أو جهل: حين تعتقد شيئاً غير واقع، أو شك: حين لا تجزم بالشيء ويستوي عندك النفي والإثبات، أو ظن: حين تُرجِّح الإثبات، أو وهم: حين تُرجِّح النفي.
فالظن في قوله تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله..} [الحج: 15] أي: يمرُّ بخاطره مجرد مرور أن الله لن ينصر محمداً، أو يتوهم ذلك- ولا يتوهم ذلك إلا الكفار- لأنهم يأملون ذلك في معركة الإيمان والكفر- مَنْ ظَنَّ هذا الظنَّ فعليه أنْ ينتهيَ عنه؛ لأنه أمر بعيد، لن يحدث ولن يكون.
وقد ظَنَّ الكفار هذا الظن حين رَأَوْا بوادر نصر الإيمان وعلامات فوزه، فاغتاظوا لذلك، ولم يجدوا شيئاً يريح خاطرهم إلا هذا الظن.
لذلك؛ يردُّ الله غيظهم عليهم، فيقول لهم: ستظلون بغيظكم؛ لأن النصر للإيمان ولجنوده مستمر، فليس أمامك إلا أنْ تجعل حبلاً في السماء وتربط عنقك به، تشنق نفسك حتى تقع، فإنْ كان هذا الكيد لنفسك يُنجيك من الغيظ فافعل: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15].
لكن ما الغيظ؟ الغيظ: نوع من الغضب مصحوب ومشُوب بحزن وأَسَىً وحَسْرة حينما ترى واقعاً يحدث أمام عينيك ولا يرضيك، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أن تفعل شيئاً تمنع به مَا لا يُرضيك.
وهذه المادة(غيظ) موجودة في مواضع أخرى من كتاب الله، وقد استُعْملَتْ حتى للجمادات التي لا تُحسُّ، اقرأ قول الله تعالى عن النار: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ..} [الملك: 8] وقال: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] فكأن النار مغتاظة من هؤلاء، تتأهب لهم وتنتظرهم.
والغَيْظ يقع للمؤمن والكافر، فحين نرى عناد الكفار وسُخريتهم واستهزاءهم بالإيمان نغتاظ، لكن يُذهب الله غيْظ قلوبنا، كما قال سبحانه: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ..} [التوبة: 15].
أما غيْظ الكفار من نصْر الإيمان فسوف يَبْقى في قلوبهم، فربُّنا سبحانه وتعالى يقول لهم: ثقُوا تماماً أن الله لم يرسل رسولاً إلا وهو ضامن أنْ ينصره، فإنْ خطر ببالكم خلافُ ذلك فلن يُريحكم ويَشْفي غيظكم إلاّ أنْ تشنقوا أنفسكم؛ لذلك خاطبهم الحق سبحانه في آية أخرى فقال: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ..} [آل عمران: 119].
ومعنى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء..} [الحج: 15] {فَلْيَمْدُدْ..} [الحج: 15]: من مدَّ الشيء يعني: أطاله بعد أنْ كان مجتمعاً، ومنه قوله تعالى: {والأرض مَدَدْنَاهَا..} [الحجر: 19] فكلما تسير تجد أرضاً ممتدة ليس لها نهاية حافَّة.
والسبب: الحبل، يُخرجون به الماء من البئر، لكن هل يستطيع أحد أنْ يربط حبلاً في السماء؟ إذن: علَّق المسألة على محال، وكأنه يقول لهم: حتى إنْ أردتم شَنْق أنفسكم فلن تستطيعوا، وسوف تظلُّون هكذا بغيظكم.
أو: يكون المعنى: {إِلَى السمآء..} [الحج: 15] يعني: سماء البيت وسقفه، كمَنْ يشنق نفسه في سَقْف البيت.
ويمكن أن نفهم(السبب) على أنه أيّ شيء يُوصِّلك إلى السماء، وأيّ وسيلة للصعود، فيكون المعنى: خذوا أيّ طريقة تُوصِّلكم إلى السماء لتمنعوا عن محمد أسباب النصر؛ لأن نَصْر محمد يأتي من السماء فامنعوه، وهذه أيضاً لا يقدرون عليها، وسيظل غيظهم في قلوبهم.
وتلحظ أننا نتكلم عن محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن الآية لم تذكر شيئاً عنه، وكل ما جاء في الآية ضمير الغائب المفرد في قوله تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله..} [الحج: 15] والحديث مُوجَّه للكفار المغتاظين من بوادر النصر لركْب الإيمان، فقوله: {يَنصُرَهُ..} [الحج: 15] ينصر مَنْ؟ لابد أنه محمد، لماذا؟
قالوا: لأن الأسماء حينما تُطلَق تدلُّ على مَعَانٍ، فعندما تقول (سماء) نفهم المراد، وعندما تقول (قلب) نفهم، (نور) نعرف المراد. والأسماء إما اسم ظاهر مثل: محمد وعلي وعمر وأرض وسماء، والأسماء إما اسم ظاهر مثل: أنا، أنت، هو، هم.
والضمير مُبْهم لا يُعيِّنه إلا التكلُّم، فأنت تقول: أنا وكذلك غيرك يقول أنا أو نحن، فالذي يُعيِّن الضمير المتكلّم به حال الخطاب، فعُمدْة الفهم في الضمائر ذات المتكلم وذات المخاطب. فإن لم يكن متكلّماً ولا مخاطباً فهو غائب، فمن أين تأتي بقرينة التعريف للغائب؟
حين تقول: هو، هي، هم. مَن المراد بهذه الضمائر؟ كيف تُعيِّنها؟ إنْ عيَّنْتَ المتكلم بكلامه، والمخاطب بمخاطبته، كيف تُعيِّن الغائب؟ قالوا: لابد أنْ يسبقه شيء يدل عليه، كأن تقول: جاءني رجل فأكرمتُه، أكرمت مَنْ؟ أكرمت الرجل الذي تحدثتُ عنه، جاءتني امرأة فأكرمتُها، جاء قوم فلان فأكرمتهم. إذن: فمرجع الضمير هو الذي يدلُّ عليه.
لكن لم يسبق ذِكْر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الضمير ليُعيِّنه ويدلُّ عليه، نعم لم يسبق ذِكْر لرسول الله، لكن تأمَّل المعنى: الكلام هنا عن النصر بين فريق الإيمان وعلى رأسه محمد صلى الله عليه وسلم، وفريق الكفر وعلى رأسه هؤلاء المعاندون، فالمقام مُتعيّن أنه لا يعود الضمير إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ..} [القدر: 1].
فالضمير هنا مُتعيِّن، ولا ينصرف إلا إلى القرآن، ولا يتعين الضمير إلا إذا كان الخاطر لا ينصرف إلى غيره في مقامه.
اقرأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تلحظ أن الضمير سابق على الاسم الظاهر، فالمرجع متأخر، ومع ذلك لا ينصرف الضمير إلا إلى الله، فإذا قِيلَ: هو هكذا على انفراد لا يمكن أن ينصرف إلا لله عز وجل.
كذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} [النحل: 61]. على ظَهْر أيِّ شيء؟ الذِّهْن لا ينصرف في هذا المقام إلا إلى الأرض.
وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] الاستفهام هنا مِمَّنْ يعلم، فهو استفهام للتقرير، ليِقُروا هم بأنفسهم أن غَيْظهم سيظلُّ كما هو، لا يشفيه شيء، وأنهم سيموتون بغيظهم، كما قال تعالى: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ..} [آل عمران: 119].
ثم يقول الحق سبحانه: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ..}.