فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (32):

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}
{ذلك..} [الحج: 32] كما قلنا في السابقة: إشارة إلى الكلام السابق الذي أصبح واضحاً معروفاً، ونستأنف بعدها كلاماً جديداً تَنبَّه له.
{وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله..} [الحج: 32] الشعائر: جمع شعيرة، وهي المعالم التي جعلها الله لعباده لينالوا ثوابه بتعظيمها، فالإحرام شعيرة، والتكبير شعيرة، والطواف شعيرة، والسَّعْي شعيرة، ورمْي الجمار شعيرة.. إلخ. وهذه أمور عظّمها الله، وأمرنا بتعظيمها.
وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من فِعْله، أو أدائه، أو عمله، عَظَّم الشعائر يعني: أدَّاها بحبٍّ وعشْق وإخلاص، وجاء بها على الوجه الأكمل، وربما زاد على ما طُلِبَ منه.
ومثالنا في ذلك: خليل الله إبراهيم، عندما أمره الله أنْ يرفع قواعد البيت: كان يكفيه أنْ يبني على قَدْر ما تطوله يده، وبذلك يكون قد أدّى ما أُمِر به، لكنه عشق هذا التكليف وأحبَّه فاحتال للأمر ووضع حجراً على حجر ليقف عليه، ويرفع البناء بقدر ما ارتفع إليه.
فمحبة أمر الله مَرْقي من مراقي الإيمان، يجب أن نسموَ إليه، حتى في العمل الدنيوي: هَبْ أنك نُقِلْتَ إلى ديوان جديد، ووصل إلى عِلْمك أن مدير هذا الديوان رجل جادّ وصعب، ويُحاسب على كل صغيرة وكبيرة، فيمنع التأخير أو التسيّب أثناء الدوام الرسمي، فإذا بك تلتزم بهذه التعليمات حرفياً، بل وتزيد عليها ليس حباً في العمل، ولكن حتى لا تُسئَل أمام هذا المدير في يوم من الأيام.
إذن: الهدف أنْ نؤدي التكاليف بحُبٍّ وعِشْق يُوصِّلنا إلى حب الله عز وجل؛ لذلك نجد من أهل المعرفة مَنْ يقول: رُبَّ معصية أورثتْ ذلاً وانكساراً خَيْر من طاعة أورثت عِزاً واستكباراً.
فالمهم أن نصل إلى الله، أن نخضع لله، أنْ نذِلّ لعزته وجلاله، والمعصية التي تُوصِّلك إلى هذه الغاية خير من الطاعة التي تُسلِمك للغرور والاستكبار.
هذه المحبة للتكاليف، وهذا العشق عبَّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (وجُعلَتْ قُرَّة عيني في الصلاة) لذلك نَعَي القرآن على أولئك الذين {إِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً..} [النساء: 142].
وابنته فاطمة- رضي الله عنها- كانت تجلو الدرهم وتلمعه، فلما سألها رسول الله عما تفعل، قالت: لأنني نويتُ أنْ أتصدَّق به، وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أنْ يقع في يد الفقير. هذا هو التعظيم لشعائر الله والقيام بها عن رغبة وحب.
وفي عصور الإسلام الأولى كان الناس يتفاضلون بأسبقهم إلى صلاة الجماعة حين يسمع النداء، وبآخرهم خروجاً من المسجد بعد أداء الصلاة، ولك أن تقيس حال هؤلاء بحالنا اليوم. هؤلاء قوم عظَّموا شعائر الله فلم يُقدِّموا عليها شيئاً.
وقد بلغ حُبُّ التكاليف وتعظيم شعائر الله بأحد العارفين إلى أنْ قال: لقد أصبحتُ أخشى ألا يثيبني الله على طاعته، فسألوه: ولماذا؟ قال: لأنني أصبحتُ أشتهيها يعني: أصبحتْ شهوة عندي، فكيف يُثاب- يعني- على شهوة عندي؟!
لذلك أهل العزم وأهل المعرفة عن الله إذا ورد الأمر من الله وثبت أخذوه على الرَّحْب والسِّعَة دون جدال ولا مناقشة، وكيف يناقشون أمر الله وهم يُعظِّمونه؟ ومن هنا نقول للذين يناقشون في أمور فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل تعدُّد زوجاته مثلاً ويعترضون، بل ومنهم مَنْ يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق.
نقول لهم: ما دُمْتُم آمنتم بأنه رسول الله، فكيف تضعون له موازين الكمال من عند أنفسكم. وتقولون: كان ينبغي أنْ يفعل كذا، ولا يفعل كذا؟ وهل عندكم من الكمال ما تقيسون به فِعْل رسول الله؟ المفروض أن الكمال منه صلى الله عليه وسلم ومن ناحيته، لا من ناحيتكم.
ثم يقول سبحانه: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32] ليست من تقوى الجوارح، بل تقوى قلب لا تقوى قالب، فالقلب هو محلُّ نظر الله إليك، ومحلُّ قياس تعظيمك لشعائر الله.
وسبق أنْ ذكرنا أن الله تعالى لا يريد أنْ يُخضِع قوالبنا، إنما يريد أنْ يُخضع قلوبنا، ولو أراد سبحانه أنْ تخضع القوالب لخصعتْ له راغمة، كما جاء في قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3- 4].
وأنت تستطيع أنْ تُرغِم مَنْ هو أضعف منك على أيِّ شيء يكرهه، إنْ شئتَ سجد لك، لكن لا تملك أنْ تجعل في قلبه حباً أو احتراماً لك، لماذا؟ لأنك تجبر القالب، أمّا القلب فلا سلطةَ لك عليه بحال.
ثم يقول الحق سبحانه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى..}

.تفسير الآية رقم (33):

{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}
يعني: ما دامت هذه المسائل من شعائر الله ومن تقوى القلوب فاعملوها وعظِّموها؛ لأن لكم فيها منافع عرفتها أو لم تعرفها، وربما تعرف بعضها ولا تعرف الباقي؛ لأنه مستور عنك ولو أنك لا تعلم قيمة الجزاء على هذه الشعائر، فقيمة الجزاء على العمل بحسب أنفاس الإخلاص في هذا العمل.
ومعنى {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى..} [الحج: 33] ما دام الحق سبحانه وتعالى ذَيَّل الآية بقوله {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق..} [الحج: 33].
إذن: فالمراد هنا شعيرة الذَّبْح، ولا يخفى ما فيها من منافع حيث ننتفع بصوفها ووبرها ولبنها ولحمها، ونتخذها زينة وركوبة.
كل هذا {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى..} [الحج: 33] يعني: زمن معلوم، وهو حين تقول وتنوي: هذه هدية للحرم، ساعة تعقد هذه النية فليس لك الانتفاع بشيء منها، لا أنت ولا غيرك؛ لذلك يُميِّزونها بعلامة حتى إنْ ضلت من صاحبها يعرفون أنها مُهْداة لبيت الله، فلا يأخذها أحد.
وما دامت هذه منافع إلى أجل مسمى، فلابد أنها المنافع الدنيوية، أما المنافع الأخروية فسوف تجدها فيما بعد في الآخرة.
ثم يقول سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33] أي: بعد هذا الأجل المسمى ينتهي بها المطاف عند الحرم حيث تُذبَح هناك.
وقد كان للعلماء كلامٌ حول هذه الآية: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33] حيث قالوا: محل الذَّبْح في مِنَى، وليس في مكة، والآية تقول، محلها البيت العتيق.
نقول: الأصل كما جاء في الآية أن الذبح في مكة وفي الحرم، إلا أنهم لما استقذروا الذَّبْح في الحرم بسبب ما يُخلفه من قاذورات ودماء وخلافه نتيجة هذه العملية، فرُؤي أن يجعلوا الذبح بعيداً عن الحرم حتى يظل نظيفاً، وهذا لا يمنع الأصل، وهو أنْ يكون الذَّبْح في الحرم، كما جاء في آية أخرى: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة..} [المائدة: 95] وفي الحديث الشريف: (مكّةُ كلُّها مَنْحرٌ).
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام..}

.تفسير الآية رقم (35):

{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}
يُبيِّن لنا الحق سبحانه بعض صفات المختبين، فهم {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ..} [الحج: 35](وَجِلت): يعني خافت، واضطربت، وارتعدت لذكر الله تعظيماً له، ومهابة منه.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28].
فمرة يقول {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ..} [الحج: 35] ومرة {تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28]، لماذا؟ لأن ذكر الله إنْ جاء بعد المخالفة لابد للنفس أنْ تخاف وتَوْجَل وتضطرب هيبةً لله عز وجل، أما إنْ جاء ذِكْر الله بعد المصيبة أو الشدة فإن النفس تطمئنُّ به، وتأنَسُ لما فيها من رصيد إيماني ترجع إليه عند الشدة وتركَنُ إليه عند الضيق والبلاء، فإنْ تعرَّضَت لمصيبة وعزَّتْ أسبابُ دَفْعها عليك تقول: أنا لي رب فتلجأ إليه، كما كان من موسى- عليه السلام- حين قال: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
{والصابرين على ما أَصَابَهُمْ..} [الحج: 35] ومعنى أصاب: يعني جاء بأمر سيء في عُرْفك أنت، فتعده مصيبة؛ لأننا نُقدِّر المصيبة حَسْب سطحية العمل الإيذائي، إنما لو أخذتَ مع المصيبة في حسابك الأجر عليها لهانَتْ عليك وما أعتبرتَها كذلك؛ لذلك في الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: «المصاب من حرم الثواب».
هذا هو المصاب حقاً الذي لا تُجبَر مصيبته، أما أنْ تُصاب بشيء فتصبر عليه حتى تنالَ الأجر فليس في هذا مصيبة.
ثم يقول سبحانه: {والمقيمي الصلاة..} [الحج: 35] لأن الصلاة هي الولاء الدائم للعبد المسلم، والفرض الذي لا يسقط عنه بحال من الأحوال، فالشهادتان يكفي أنْ تقولها في العمر مرة، والزكاة إنْ كان عندك نِصَاب فهي مرة واحدة في العام كله، والصيام كذلك، شهر في العام، والحج إنْ كنتَ مستطيعاً فهو مرة واحدة في العمر، وإنْ لم تكُنْ مستطيعاً فليس عليك حج.
إذن: الصلاة هي الولاء المستمر للحق سبحانه على مَدار اليوم كله، وربك هو الذي يدعوك إليها، ثم لك أنْ تُحدِّد أنت موعد ومكان هذا اللقاء في حَضْرته تعالى؛ لأنه سبحانه مستعد للقائك في أيِّ وقت.
وتصور أن رئيس الجمهورية أو الملك مثلاً يدعوك ويُحتِّم عليك أنْ يراك في اليوم خمس مرات لتكون في حضرته، والحق سبحانه حين يدعو عباده للقائه، لا يدعوهم مرة واحدة إنما خمس مرات في اليوم والليلة؛ لأنه سبحانه لا يتكلف في هذه العملية تكرار لقاءات، فهو سبحانه يَلْقَى الجميع في وقت واحد.
ولما سئل الإمام علي- رضي الله عنه-: كيف يُحاسب اللهُ كلَّ هؤلاء الناس في وقت واحد؟ قال: كما أنه يرزقهم جميعاً في وقت واحد.
وقوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الحج: 35] لا ينفقون من جيوبهم، إنما من عطاء الله ورزقه.
ومن العجيب أن الله تعالى يعطيك ويهبُكَ ويُغدِق عليك تفضلاً منه سبحانه، فإذا أرادك تُعين محتاجاً قال لك: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً..} [الحديد: 11].
وكأن الله تعالى يقول لنا: أنا لا أعود في هبتي ولا عطائي، فأقول: أعْطِ ما أخذتَه لفلان، بل إنْ أعطيتَ الفقير من مالك فهو أيضاً لك مُدَّخر لا يضيع، فرِزْقك الذي وهبك الله إياه مِلْكك، ولا نغبنك في شيء منه أبداً، فربّك يحترم ملكيتك ويحترم جزاء عملك وجدِّك واجتهادك.
نقول- ولله المثل الأعلى-: كالرجل الذي يحتاج مبلغاً كبيراً لأحد الأبناء فيأخذ من الباقين ما معهم وما ادخروه من مصروفاتهم على وَعْد أنْ يُعوِّضهم بدلاً منها فيما بعد.
لذلك يقول بعدها: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ..} [الحديد: 11] فيعاملك ربك بالزيادة؛ لذلك يقول البعض: إن الله تعالى حرَّم علينا الربا وهو يعاملنا به، نعم يعاملك ربك بالربا ويقول لك: اترك لي أنا هذا التعامل؛ لأنني حين أزيدك لا أنقص الآخرين، ولا أُنقِص مما عندي، ولا أُرِهق ضعيفاً ولا محتاجاً ولا أستغلّ حاجته.
والصدقة في الإسلام تأمينٌ لصاحبها ضد الفقر إن احتاج، فأخوَفُ ما يخافه المرءُ الحاجة عند الكبَر، وعدم القدرة على الكَسْب، وعند الإعاقة عن العمل، يخاف أنْ ينفد ماله، ويحتاج إلى الناس حال كِبَره.
وعندها يقول له ربه: اطمئن، فكما أَعطيْتَ حال يُسْرك سيعطيك غيرُك حال عَوَزِك وحاجتك.
إذن: أخذ منك ليعطيك، وليُؤمِّن لك مستقبل حياتك الذي تخاف منه.
الصدقة في الإسلام صندوق لتكافل المجتمع، كصندوق التأمين في شركات التأمين، فإذا ما ضاقت بك أسباب الرزق وشكوْتَ الكِبَر والعجز نقول لك: لا تحزن فأنت في مجتمع مؤمن متكافل، وكما طلبنا منك أنْ تعطي وأنت واجد طلبنا من غيرك أنْ يعطيَك وأنت مُعْدم.
ثم يقول الحق سبحانه: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا..}

.تفسير الآية رقم (36):

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى في النفقة مِمَّا رزقكم الله تكلَّم في النفقة في البُدْن، والبُدْن: جمع بَدَنة، وهي الجمل أو الناقة، أو ما يساويهما من البقر، وسمَّاها بَدَنة إشارة إلى ضرورة أنْ تكون بدينة سمينة وافرة، ولابد أنْ تراعي فيها هذه الصفة عند اختيارك للهَدْي الذي ستُقدمه لله، واحذر أن تكون من أولئك الذين يجعلون لله ما يكرهون، إنما كُنْ من الذين قال الله لهم: {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ..} [البقرة: 267] وقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ..} [الحج: 36] أي: اذكروا الله بالشكر على أنْ وهبها وذلَّلها لكم، واذكروا اسم الله عليها حين ذَبْحها.
ومعنى {صَوَآفَّ..} [الحج: 36] يعني: واقفةً قائمة على أرْجُلها، لا ضعفَ فيها ولا هُزَال، مصفوفة وكأنها في معرض أمامك. وهذه صفات البُدْن الجيدة التي تناسب هذه الشعيرة وتليق أنْ تُقدَّمْ هَدْياً لبيت الله.
ومعنى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا..} [الحج: 36] وجبَ الشيء وجباً يعني: سقط سقوطاً قوياً على الأرض، ومعلوم أن البَدَنة لا تُذبح وهي مُلْقاة على الأرض مثل باقي الأنعام، وإنما تُنْحر وهي واقفة، فإذا ما نُحِرَتْ وقعتْ على الأرض وارتمتْ بقوة من بدانتها.
{فَكُلُواْ مِنْهَا..} [الحج: 36] وقلنا: إن الأكل لا يكون إلا من الهَدْي المحض والتطوع الخالص الذي لا يرتبط بشيء من مسائل الحج، فلا يكون هَدْيَ تمتُّع أو قِرَان، ولا يكون جِبْراً لمخالفة، ولا يكون نَذْراً.. إلخ.
وعِلَّة الأمر بالأكل من الهَدْي؛ لأنهم كانوا يتأففون أنْ يأكلوا من المذبوح للفقراء، وكأن في الأمر بالأكل منها إشارة لوجوب اختيارها مما لا تعافه النفس.
ومعنى: {القانع والمعتر..} [الحج: 36] القانع: الفقير الذي يتعفَّف أنْ يسأل الناس، والمعترّ: الفقير الذي يتعرَّض للسؤال.
ثم يقول سبحانه: {كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ..} [الحج: 36] يعني: سخّرناها لكم، ولو في غير هذا الموقف، لقد سخَّرها الله لكم منذ وُجِد الإنسان؛ لذلك عليكم أنْ تشكروا الله على أنْ أوجدها وملّككم إياها، وتشكروه على أنْ سخَّرها وذلَّلها لكم، وتشكروه على أنْ هداكم للقيام بهذا المنسك، وأداء هذه الشعيرة وعمل هذا الخير الذي سيعود عليكم بالنفع في الدنيا وفي الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانة: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ..}