فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (44):

{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}
{يَسْمَعُونَ} [الفرقان: 44] أي: سماع تعقُّل وتدبُّر، فلو سَمعُوا وعَقِلوا ما وصلتْ بهم المسائل إلى هذا الحدِّ {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام} [الفرقان: 44] مع أن الأنعام مُسخَّرة وتُؤدِّي مهمتها ولم تمتنع عن شيء خُلِقَتْ له، فقد شبَّههم الله بالأنعام؛ لأن الأنعام لا يُطلب منها أن تسمع الهداية لأنها مُسخَّرة، والذي يُطلب منه السماع والهداية هو المخيِّر بين أن يفعل أو لا يفعل.
كأن الحق سبحانه يقول: أتظن أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ وكلمة {أَكْثَرَهُمْ} [الفرقان: 44] تدل على أن بعضهم يسمع ويعقل، وهذا من قانون الاحتمال، فكثير من كفار قريش ناصبوا رسول الله العداء، وانتهى الأمر بهم إلى أَنْ أسلموا وحَسُن إسلامهم، إذن: كان فيهم مَنْ يسمع، ومَنْ يفكر ويعقل؛ لذلك قال: {أَكْثَرَهُمْ} [الفرقان: 44] ليحمي هذا الحكم، وليحتاط لما سيقع من إيمان هؤلاء البعض، هذا دِقَّة في تحرِّي الحقيقة.
وسبق أنْ ذكرنا ما كان من أسف المؤمنين حين يفوتهم قَتْل أحد صناديد الكفر في المعركة، فكانوا يألمون لذلك أشدَّ الألم، وهم لا يدرون أن حكمة الله كانت تدخرهم للإيمان فيما بعد، ومنهم خالد ابن الوليد الذي أصبح بعد ذلك سيف الله المسلول.
والأنعام قُلْنا: لا دخلَ لها في مسألة الهداية أو الضلال؛ لأنها مُسخَّرة لا اختيارَ لها؛ لذلك ضرب الله بها المثل لليهود: {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] فالحمار مهمته أنْ يحمل فحسب، أمّا أنت أيها اليهودي فمهمتك أن تحمل وتطبق، الحمار لا يطبق؛ لأنه لم يُطلب منه ذلك، مع أن الحيوان يعرف صاحبه ويعرف طعامه ومكان شرابه، ويعرف طريقه ومكان مبيته، حتى أن أحدهم مات على ظهر جواده، فسار به الجواد إلى بيته.
إذن: فالأنعام تفهم وتعقل في حدود المهمة التي خلقها الله لها، ولا تُقصِّر في مهمتها، أما المهمة الدينية فتعلمها في باطن الأمر، لكن لا يُطلَب منها شيء الآن، لأنها انتهتْ من هذه المسألة أولاً، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72]؟
فاختاروا أن يكونوا مُسيَّرين بالغريزة محكومين بها، إذن: فلهم اختيار، لكن نفّذوا اختيارهم جملةً واحدة من أول الأمر.
خُذْ مثلاً الهدهد وهو من المملوكات التي سخّرها الله لسليمان عليه السلام يقول له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] أيُّ ديمقراطية هذه التي تمتَّع بها الهدهد مع سليمان.؟! إذن: فحتى الحيوانات تعرف هذه القضية، وإنْ لم يُطلَب منها شيء، والحيوانات لا يمكن أنْ تفعل شيئاً إلا إذا كان منوطاً بغرائزها وفي مقدورها.
وسبق أنْ ضربنا مثلاً بالحمار إذا أردتَ منه أن يقفز فوق جدول ماء فإنه ينظر إليه، فإنْ كان في مقدوره قفزَ، وإنْ كان فوق مقدوره تراجَع، ولا يمكن أنْ يُقدِم مهما ضربته؛ لأنه علم بغريزته أنه فوق إمكاناته، أما الإنسان فقد يُقدِم على مثل هذا دون حساب للإمكانات، فيُوقع نفسه فيما لا تُحمد عقباه.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل}

.تفسير الآية رقم (45):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)}
الحق سبحانه وتعالى وهو خالق الآيات في الكون يُنبِّه إليها الخَلْق، وكان من المفروض ممَّن يرى الآيات أنْ يتنبه إليها دون أنْ يُنبه، فإذا رأى عجيبة من عجائب الكون تأملها، وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً بمَنِ انقطعت به السُّبل في صحراء شاسعة، ليس بها أنيس ولا حياة، وقد بلغ به الجهد حتى نام، فلما استيقظ وجد مائدة عليها أطايب الطعام أو الشراب، بالله قبل أنْ تمتدَّ يده إلى الطعام، أليس من المفروض أنْ يفكر في هذا الطعام، مَنْ أتى به؟ وأعدَّه على هذه الصورة؟
إذن: في الكون آياتٌ كان يجب أنْ تشدَّ انتباهك لتبحث فيها وفي آثار وجودها وكلها آيات عالية عَنّا وفوق إمكاناتنا: الشمس والقمر، الهواء والمطر.. إلخ. ومع ذلك لم يتركك الله؛ لأن تتنبه أنت، بل نبَّهك ولفتَك وجذب انتباهك لهذه ولهذه.
وهنا، الحق تبارك وتعالى يعرض الآيات والكونيات التي يراها الإنسان برتابة كل يوم، يراها الفيلسوف كما يراها راعي الشاة، يراها الكبير كما يراها الصغير كل يوم على نظام واحد، لا يكاد يلتفت إليها.
يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} [الفرقان: 45] أي: ألم تعلم، أو ألم تنظر إلى صَنْعة ربك {كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً} [الفرقان: 45] نعم نرى الظل، فما هو؟ الظل أنْ يَحْجب شيء كثيف على الأرض مثل جبل أو بناء أو شجرة أو نحوه ضوءَ الشمس، فتظهر منطقة الظل في المكان المُشْمِس، فالمسألة إذن متعلقة بالشمس، وبالأرض التي نعيش عليها.
وقد علمنا أن الأرض كرة تواجه الشمس، فالجهة المواجهة منها للشمس تكون مُضَاءة، والأخرى تكون ظلاماً لا نقول ظلاً، فما الفرق بين الظلِّ والظلام؟ قالوا: إذا كان الحاجبُ لضوء الشمس من نفس الأرض فهي ظُلْمة، وإنْ كان الحاجب شيئاً على الأرض فهو ظل.
والظل نراه في كل وقت، وقد ورد في عدة مواضع من كتاب الله، فقال سبحانه: {إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41].
وقال: {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57] وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ} [النحل: 48].
ينبهنا ربنا تبارك وتعالى إلى مهمة أخرى من مهام الظل، وهي أنه يحمينا من وَخْزة الشمس وحرارتها، ويرتقي الإنسان في استخدام الظل فيجعله كما قال تعالى: {ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57] أي: أن الظل نفسه مُظلَّل، فيجعلون الخيمة مثلاً لها سقفان منفصلان حتى لا يتأثر داخلُ الخيمة بالحرارة خارجها.
لذلك تجد ظل الشجرة ألطفَ من ظِلِّ الحائط مثلاً أو المظلة؛ لأن أوراق الشجرة يُظلِّل بعضها بعضاً، فالظل يأتيك من مُظلل آخر، فتشعر تحت ظل الشجرة وكأنك في(تكييف)؛ لأن الأوراق تَحجب عنك حرارة الشمس، في حين تسمح بمرور الهواء، كما قال الشاعر في وصف دوحة:
يصدُّ الشمسَ أنَّي وَاجَهتْنَا ** فَيحْجُبُها وَيَأْذَنُ لِلْنَسِيمِ

وقال تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171].
وحين تتأمل هذه الظاهرة ساعة طلوع الشمس ترى الشيء الكثيف الذي يحجب ضوء الشمس يطول ظِلُّه إلى نهاية الأفق، ثم يأخذ في القِصر كلما ارتفعتْ الشمس إلى أنْ يصير في زوال، ثم ينعكس الظل مع ميل الشمس ناحية الغرب فيطول إلى نهاية الأفق.
والحق تبارك وتعالى يريد منا أن نلاحظ هذه الظاهرة، وأنْ نتأملها {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان: 45] أي: ساعة طلوع الشمس {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} [الفرقان: 45] لأن مشيئة الله تستطيع أن تخلق الشيء ونقيضه، فإنْ شاءَ مَدَّ الظل، وإنْ شاء أمسكه.
لكنه يتغير: ينقص في أول النهار، ويزيد في آخره وكل ما يقبل الزيادة يقبل النقص، والنقص أو الزيادة حركة، وللحركة نوعان: حركة قَفْزية كحركة عقرب الدقائق في الساعة، فهو يتحرك بحركة قفزية، وهي أنْ يمرَّ على المتحرك وقت ساكن ثم يتحرك، إنما أتدرك ذلك في حركة عقرب الساعات؟ لا؛ لأنه يسير بحركة انسيابية، بحيث توزع أجزاء الحركة على أجزاء الزمن.
ومثَّلْنا هذه الحركة بنمو الطفل الصغير الذي لا تدرك حركة نموه حالَ نظرك له منذ ولادته، إنما إنْ غبْتَ عنه فترة أمكنك أنْ تلاحظ أنه يكبر ويتغير شكله؛ لأن نموه مُوزَّع على فترات الزمن، لا يكبر هكذا مرة واحدة، فهي مجموعات كِبَر تجمعتْ في أوقات متعددة، وليس لديك المقياس الدقيق الذي تلاحظ به كبر الطفل في فترة قصيرة.
وإذا كنا نستطيع إجراء هذه الحركة في الساعات مثلاً، فالحق تبارك وتعالى يُحدِثها في حركة الظل وينسبها لعظمها إلى نفسه تعالى؛ لأن الظل لا يسير بحركة ميكانيكية كالتي تراها في الساعة إنما يسير بقدرة الله.
والحق سبحانه يلفتنا إلى هذه الظاهرة، لا لأنها مجرد ظاهرة كونية نراها وتعجب منها، إنما لأننا سنستغلها وننتفع بها في أشياء كثيرة.
فقدماء المصريين أقاموا المسلات ليضبطوا بها الزمن عن طريق الظل، وصنع العرب المسلمون المزْولة لضبط الوقت مع حركة الشمس، ونرى الفلاح البسيط الآن ينظر إلى ظل شيء ويقول لك: الساعة الآن كذا؛ لأنه تعودَّ أن يقيس الوقت بالظل، مع أن مثل هذا التقدير يكون غير دقيق؛ لأن للشمس مطالعَ متعددة على مرِّ أيام العام؛ لذلك في أحد معابد الفراعنة معبد به 365 طاقة، تدخل الشمس كل يوم واحدة منها.
إذن: أفادنا الظل في المسلات والمزاول، ومنها انتقل المسلمون إلى عمل الساعات، وأولها الساعة الدقاقة التي كانت تعمل بالماء، وقد أهدوْا شارلمان ملك فرنسا واحدة منها فقال: إن فيها شيطاناً، هكذا كان المسلمون الأوائل.
وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً} [الفرقان: 45] أي: أن الضوء هو الذي يدل على الظلِّ.

.تفسير الآية رقم (46):

{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)}
الحق تبارك وتعالى يُبيِّن الحركة البطيئة للظل فيقول: {قَبْضاً يَسِيراً} [الفرقان: 46] لا تدركه أنت أبداً؛ لأن في كل لحظة من لحظات الزمن حركة فلا يخلو الوقت مهما قَلَّ من الحركة، لكن ليس لديك المقياس الذي تدرك به بُطْءَ هذه الحركة.
وقوله: {قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} [الفرقان: 46] دليل على أن المسألة ليست ميكانيكاً، إنما هي بقيومية الله تعالى؛ لذلك فكأن الحق سبحانه يقول: يا عبادي ناموا مِلْءَ جفونكم، فربُّكم قيُّوم على مصالحكم لا ينام.
وأهل المعرفة يستنبطون من ظاهرة الظل أسراراً، فيروْنَ أن ظِلَّ الأشياء الشاهقة المتعالية يخضع لله تعالى، ويسجد على الأرض، رغم أنه متعالٍ شامخ، كما جاء في قوله سبحانه: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15].
وقال سبحانه: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] فللظل حركة بطيئة لا يعلمها إلا الله؛ لأنك لا تدرك مدى صِغَرها؛ لذلك قُلْنا في الهباء: إنه نهاية ما يمكن أن يكون من التفتيت المنظور.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً}

.تفسير الآية رقم (47):

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)}
{الليل} [الفرقان: 47] يعني: الظلْمة لا الظل، فالظلمة هي التي منعتْ النور، وإياك أن تظن أن الظلمة ضد النور، وتحاول أنت أن تنسخ الظلمة بنور من عندك، وهذه آفة الحضارة الآن أنْ جعلتَ الليل نهاراً.
وقد تنبه العلماء أخيراً إلى مدى ضرر الأشعة على صحة الإنسان، لذلك جاء في الحديث الشريف: (أطفئوا المصابيح إذا رقدتم) فالشعاع له عمل وقت حركتك، لكن ساعة نومك وراحتك ليس له مهمة، بل هو ضار في هذا الوقت.
والحق تبارك وتعالى يمتنُّ علينا بالليل والنهار، فيقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 71- 72].
إذن: فلليل مهمة، وللنهار مهمة يُوضِّحها هنا الحق سبحانه بقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً} [الفرقان: 47] أي: ساتراً، كما أن اللباس يستر الجسم، والنوم ردع ذاتي يقهر الكائن الحي، وليس ردعاً اختيارياً.
لذلك تلاحظ أنك إنْ أردت أنْ تنامَ في غير وقت النوم تتعب وترهق، أمّا إنْ أتاك النوم فتسكن وتهدأ، ومن هنا قالوا: النوم ضيف ثقيل إنْ طلبته أَعْنَتكَ، وإنْ طلبك أراحك.
لذلك ساعة يطلبك النوم تنام مِلْء جفونك، ولو على الحصى يغلبك النوم فتنام، وكأن النوم يقول لك: اهمد واسترح، فلم تَعُدْ صالحاً للحركة، أما مَنْ غالب هذه الطبيعة فأخذ مثلاً حبوباً تساعده على السهر، فإنْ سهر ليلة نام بعدها ليلتين، كما أن الذي يغالب النوم تأتي حركته مضطربة غير متوازنة.
فعليك إذن أن تخضع لهذه الطبيعة التي خلقك الله عليها وتستسلم للنوم إنْ ألحَّ عليك، ولا تكابر لتقوم في الصباح نشيطاً وتستأنف حركة حياتك قوياً صالحاً للعمل وللعطاء.
وللصوفية في النوم مَلْحظ دقيق يُبْنَى على أن الكون كله غير المختار مُسبِّح لربه، كما قاله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] وعليه، فذرات الكافر في ذاتها مؤمنة، يؤلمها ويغيظها أن صاحبها عَاصٍ أو كافر فتطيعه، وهي كارهة لفعله بدليل أنها ستشهد عليه يوم القيامة، فإنْ كانت مُسخِّرة لمراداته في الدنيا فإنها ستتحرر من هذه الإرادة في الآخرة.
فاللسان مُسخَّر لصاحبه، إنْ شاء نطق به الشهادتين، وإنْ شاء نطق به كلمة الكفر؛ لأنه مقهور لإرادته، أما في القيامة فلا إرادة إلا للحق تبارك وتعالى.
وفي النوم ترتاح هذه الجوارح وهذه الذرات من سيئات صاحبها ومن ذنوبه، تستريح من نكده وإكراهه لها على معصية الله. فالنوم رَدْع طاقيّ، فلم يَعُد الإنسان صالحاً للحركة، ولا للتعايش السالم مع جوارحه، لقد كثُرتْ ذنوبه ومعاصيه حتى ضاقتْ بها الجوارح، فيأتي النوم ليريحها.
وهذه الظاهرة نشاهدها مثلاً في موسم الحج، يقول لك الحاج: يكفيني أنْ أنامَ في اليوم ساعة أو ساعتين لماذا؟ لأن السيئات في هذا المكان قليلة، فجوارحك في راحة وانسجام معك فلا تحملك على النوم، أمّا العاصي فلا يكفيه أن ينام عشرة ساعات؛ لأن جوارحه وأعضاءه مُتْعَبة متضايقة من أفعاله.
وهذه نُفسِّر بها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه ذلك لأن جوارحه صلى الله عليه وسلم تصحبه خير صُحْبة، فهي في طاعة دائمة مستمرة، فكيف تحمله على أنْ ينام؟
والخالق عز وجل يعامل الناس على المعنى العام، فالنفوس دائماً ميَّالة للشر جانحة للسوء؛ لذلك تتعب الطاقة وتتعب الجوارح، وكأن الله تعالى يريد إحداث هُدْنة للتعايش بينك وبين جوارحك، نَمْ لتصبح نشيطاً.
ومعنى {والنوم سُبَاتاً} [الفرقان: 47] السّبْت أي: القطْع. فمعنى {سُبَاتاً} [الفرقان: 47] يعني: قاطعاً للحركة، لا انقطاعاً نهائياً، إنما انقطاعاً مُسْتأنفاً لحركة أفضل، وبدن أقوى وأصحّ، فالذي يقضي ليله ساهراً يقوم من نومه مُتْعباً مُضطرباً، على خلاف مَنْ جعل وقت النوم للنوم؛ لأن الخالق عز وجل جعل نومك بالليل على قَدْر ما تتحرك بالنهار، فإنْ أردتَ حركة مُتزنة نشيطة وقوية فنَمْ على مقدار هذه الحركة.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} [الفرقان: 47] النشور مثل الشُّكور: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} [الإنسان: 9] أي: شكر، وكذلك النشور أي نشر، والنشر يعني الانطلاق في الأرض بالحركة، كما في قوله تعالى: {فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10].
ثم يقول سبحانه: {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح}