فصل: تفسير الآية رقم (64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (64):

{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)}
أي: قرّبناهم من منتصف البحر، ثم أطبقه الله عليهم حين أمر الماء أن يعود إلى سيولته وقانون استطراقه، وهكذا يُنجِّي الله ويُهلِك بالشيء الواحد و{الآخرين} [الشعراء: 64] يعني: قوم فرعون، و{ثَمَّ} [الشعراء: 64] أي: هناك وسط البحر.
وللعصا مع موسى عليه السلام تاريخ طويل منذ أن سأله ربه {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17] فأخبر بما يعرفه عنها {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18].
وقوله {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18] لا تعني كما يظن البعض أنها مجرد الإشارة بها إلى الغنم أو ضربها، فأهشُّ تعني أضرب بها أوراقَ الشجر لتتساقط، فتأكلها الأغنام الصغار التي لا تطول أوراقَ الشجر، أو الكبار التي أكلتْ ما طالته أعناقها وتحتاج المزيد.
ولما وجد موسى نفسه قد أطال في هذا المقام قال {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] كأنْ أدافع بها عن نفسي ليلاً، إنْ تعرَّض لي كلب أو ذئب مثلاً، أو أغرسها في الأرض وأُلقي عليها بثوبي لأستظلَّ به وقت القيلولة، أو أجعلها على كتفي وأُعلِّق عليها متاعي حين أسير.. إلخ.
هذه مهمة العصا كما يراها موسى عليه السلام لكن للعصا مهمة أخرى لا يعلمها، فهي حُجّته وآية من الآيات التي أعطاه الله، فبها انتصر في معركة الحجة مع السَّحَرة، وبها انتصر في معركة السلاح حين ضرب بها البحر فانفلق.
ومن العجيب في أمر العصا أن يضرب بها البحر، فيصر جبلاً، ويضرب بها الحجر فينفجر بالماء، وهذه آيات باهرات لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
لذلك جعلوا عصا موسى حجة ودليلاً وعَلَماً على الانتصار في كل شيء، فلما كان الخصيب والياً على مصر، وتمرد عليه بعض قُطَّاع الطرق، وكانت لديه القوة التي قهرهم بها، لذلك قال:
فَإِنْ يَكُ بَاقٍ إِفْكُ فِرْعوْنَ فيكُمْ ** فَإنَّ عَصَا مُوسَى بكَفِّ خَصِيبِ

وفي هذا المعنى يقول شاعر آخر:
إذَا جَاءَ مُوسَى وأَلْقَى العَصَا ** فَقَدْ بَطُلَ السِّحْرُ والسَّاحِرُ

إذن: صارتْ عصا موسى عليه السلام مثَلاً وعَلَماً للغَلبة في أيِّ مجال من مجالات الحياة.

.تفسير الآية رقم (65):

{وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)}
فقد حُسِمتْ هذه المعركة لصالح موسى ومَنْ معه دون إراقة دماء، ودون خسارة جندي واحد، في حين أن المعارك على فرض الانتصار فيها لابد أن تكون لها نسبة خسائر في الأرواح وفي العَتَاد، أما هذه فلا.

.تفسير الآية رقم (66):

{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)}
أي: بنفس السبب الذي أنجى الله به موسى وقومَه أهلك فرعون وقومه؛ لأنه وحده سبحانه القادر على أن يُنجِي، وأنْ يُهلِك بالشيء الواحد.

.تفسير الآية رقم (67):

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)}
قوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء: 67] أي: فيما حدث {لآيَةً} [الشعراء: 67] وهي الأمر العجيب الذي يخرج عن المألوف وعن العادة، فيثير إعجاب الناس، ويستوجب الالتفات إليه والنظر فيه، والآية تُقنِع العقل بأن الله هو مُجْريها على يَدَيْ موسى، وتدل على صِدْق رسالته وبلاغة عن الله، وإلا فهي مسألة فوق طاقة البشر.
ومع ذلك {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 67] أي: أن المحصلة النهائية للذين آمنوا كانوا هم القلة مع هذه الآيات، حتى الذين آمنوا مع موسى عليه السلام واتبعوه وأنجاهم الله من آل فرعون ومن الغرق، سرعان ما تراجعوا وانتكسوا، كما يحكي القرآن عنهم: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
سبحان الله، لقد كفروا بالله، وما تزال أقدامهم مُبتلَّة من عبور البحر، وما زالوا في نَشوة النصر وفرحة الغلبة!!

.تفسير الآية رقم (68):

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}
أي: بعد ما مرّ من حيثيات فإن الله تعالى هو العزيز، أي: الذي لا يُغلَب ولا يُقهَر، إنماهو الغالب وهو القاهر، فهو سبحانه يغلِب ولا يُغلب، ويُطعِم ولا يُطعَم، ويُجير ولا يُجار عليه. ومع عِزته سبحانه وقوته بحيث يغلب ولا يُغلب هو أيضاً {الرحيم} [الشعراء: 68] لأنه رب الخَلْق أجمعين، يرحمهم إنْ تابوا، ويقبلُهم إنْ رجعوا إلى ساحته، كما جاء في الحديث الشريف: (لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح).

.تفسير الآية رقم (69):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)}
جاءت هذه الآية بعد الانتهاء في إيجاز مُبسّط لقصة موسى عليه السلام مع فرعون، وخُتمت بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} [الشعراء: 67- 68].
ثم تكلم الحق سبحانه عن نبيه إبراهيم عليه السلام {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء: 69] مما يدل على أن المسألة في القرآن ليست سَرْداً للتاريخ، فإبراهيم كان قبل موسى، ولو أردنا التأريخ لجاءت قصة إبراهيم أولاً، إنما الهدف من القصص في القرآن التقاط مواضع العِبْرة والعِظَة واتخاذ الأُسوة من تاريخ الرسل، ليُثبِّت الله بها فؤاد رسوله صلى الله عليه وسلم حينما يواجه الأحداث الشاقة والعصيبة.
والمتأمل في رسالة موسى ورسالة إبراهيم عليهما السلام يجد أن موسى جاء ليعالج مسألة هي قمة العقيدة، ويواجه مَنِ ادّعى الألوهية وقال: إني إله من دون الله، أما إبراهيم فقد عالج مسألة الشرك مع الله وعبادة الأصنام، فعندهم طَرَف من إيمان، بدليل أنهم إذا ضيّقنا عليهم الخناق قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3].
لذلك كانت قصة موسى أَوْلَى بالتقديم هنا.
ومعنى: {واتل عَلَيْهِمْ} [الشعراء: 69] أي: اقرأ، أو وضِّح، أو عبِّر، ونقول للقراءة(تلاوة) لأنه لا يُتلَى إلا المكتوب المعلوم المفهوم {عَلَيْهِمْ} [الشعراء: 69] على أمة الدعوة كلها، أَمْ على المكذبين خاصة؟
قالوا: على المكذِّبين خاصة؛ لأن المصدِّقين برسول الله لا يحتاجون هذه التلاوة، وإنْ تُليَتْ عليهم فإنما التلاوة للتذكرة أو لعلم التاريخ. إذن: المراد هنا المكذِّبون المنكرون ليعلموا أن نهاية كل رسل الله في دعوتهم النصر والغلبة، وأن نهاية المكذبين المخالفين الهزيمة والاندحار.
فكأن القرآن يقول لهم: لا تغتروا بقوتكم، ولا بجاهكم، ولا تنخدعوا بسيادتكم على العرب، ومعلوم أن مكانة قريش بين العرب إنما أخذوها من خدمة بيت الله الحرام، وما أَمِنُوا في طرق تجارتهم إلاَّ بقداسة بيت الله وحُرْمته.
ولولا البيت ما كان لقريش كل هذه المكانة، بدليل قوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 12].
ولو انهدم البيت في قصة الفيل ما كان لقريش سيادة ولا سيطرة على الجزيرة العربية، وما دام أن الله تعالى فعل معهم هذا {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 34].
ومعنى {نَبَأَ} [الشعراء: 69] أي: الخبر الهام الذي يجب أنْ يُقال، ويجب أنْ يُنصتَ له، وأنْ تُؤخَذ منه عِبْرة وعِظة، فلا يُقال(نبأ) للخبر العادي الذي لا يُؤبَهُ له.
ولو تتبعتَ كلمة(نبأ) في القرآن لوجدتها لا تُقَال إلا للأمر الهام، كما في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 12].
وقوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام والهدهد: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].
إذن: {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء: 69] يعني: الخبر الهام عنه. وإبراهيم هو أبو الأنبياء الذي مدحه ربه مدحاً عظيماً في مواضع عدة من القرآن، فقال الحق سبحانه عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل: 120].
والأمة لا تُطلَق إلا على جماعة تنتسب إلى شيء خاص، ويجمعهم مكان وزمان وحال. كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أضفى الله عليه كمالات من صفات كماله لا يستطيع بشر أن يتحملها.
لذلك جاء في الحديث الشريف: (الخير فِيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة).
الخير فيَّ حصراً، الخير على عمومه، وفي كل جوانب شخصيته: داعيةً وأباً وزوجاً.. الخ وخصال الخير من شجاعة، وحِلْم، وعِلْم، وكرم.. ألخ. وكذلك الخير في أمتي منثورٌ بين أفرادها، يأخذ كل منهم من الخير بطرف، وله منه نصيب، لكن لا أحدَ يستطيع أن يجمع الكمال المحمدي أبداً، ولا أن يتصف به.
كذلك كان سيدنا إبراهيم عليه السلام(أمة)؛ لأن خصال الخير تُوزَّع على أفراد الأمة: هذا ذكى، وهذا حليم، وهذا عالم، وهذا حكيم.. الخ أما إبراهيم عليه السلام فقد جمع من الخير ما في أمة بأكملها، وهذا ليس كلاماً يُقَال في مدح نبي الله إبراهيم، إنما من واقع حياته العملية.
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى عن إبراهيم: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124].
وحَسْب إبراهيم عليه السلام من الخير هذه الدعوة: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129].
فكان محمد صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم.

.تفسير الآية رقم (70):

{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)}
فأول دعوته كانت لأبيه، وأقرب الناس إليه لا للغريب، والدعوة التي توجه أولاً للقريب لابد أنها دعوة حَقٍّ ودعوة خير؛ لأن الإنسان يحب الخير أولاً لنفسه، ثم لأقرب الناس إليه، ولو كانت في خيريتها شَكٌّ لقصد بها الغرباء والأباعد عنه.
والمراد بأبيه هو(آزر) الذي ورد ذكره في موضع آخر.
وسؤاله لأبيه وقومه {مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 70] سؤال استهجان واستنكار، وسؤال استدلال ليظهر لهم بطلان هذه العبادة؛ لأن العبادة أنْ يطيعَ العابدُ المعبودَ فيما أمر وفيما نهى، فالذين يعبدون الأصنام بماذا أمرتهم وعمَّ نهتهم؟
إذن: فهي آلهة دون منهج، وما أسهلَ أن يعبد الإنسان مثل هذا الإله الذي يأمره بشيء، ولا ينهاه عن شيء، وكذلك هي آلهة دون جزاء ودون حساب؛ لأنها لا تثيب مَنْ أطاعها، ولا تعاقب مَنْ عصاها.
إذن: فكلمة عباده هنا خطأ، ومع ذلك يُسمِّيها الناس آلهة، لماذا؟ لأن الإله الحق له أوامر لابد أن تُنفّذ، وإنْ كانت شاقة على النفس، وله نواهٍ لابد أن تترك وإنْ كانت النفس تشتهيها، فهي عبادة شاقة، أما عبادة الأصنام فما أسهلها، فليس عندها أمْر ولا نَهْي، وليس عندها منهج يُنظِّم لهم حركة الحياة؛ لذلك تمسَّك هؤلاء بعبادة الأصنام، وسمَّوْها آلهة، وهذا خبل واضح.
كما أن الإنسان في مجال العبادة إذا عزَّتْ عليه أسباب الحياة وأعْيَتْه الحيل، أو خرجت عن طاقته، عندها يجد له رباً يلجأ إليه، ويستعين به فيقول: يا رب. فماذا عن عابد الأصنام إذا تعرَّض لمثل هذه المسائل؟ هل يتوجه إليها بالدعاء؟ وهَبْ أنه يدعو إنساناً مثله يمكن أنْ يسمعه أيستجيبُ له؟
لذلك يقول سبحانه: {قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 71- 73].
إذن: فعبادة غير الله حُمْق وغباء.
لكن هذا البحث من إبراهيم، وهذا الجدل مع أبيه وقومه، أكان بعد الرسالة أم قبلها؟ قالوا: إن إبراهيم عليه السلام كان ناضجاً مُتفتِّحاً منذ صِغَره، وكان مُنكراً لهذه العبادة قبل أن يُرسَل، لذلك قال الله عنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51].
وكذلك كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته كارهاً للأصنام، معترضاً على عبادتها، يتعجب حين يرى قومه يعبدونها، وقد رأى صلى الله عليه وسلم أحد الآلهة وقد كُسر ذراعه فاستعانوا بمَنْ يُصلح ذراع الإله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجَّب لما يرى: العابد يصلح المعبود؟ بعدها اعتزلهم رسول الله، ولجأ إلى الغار يفكر في الإله الحق والمعبود الحق.
فكأن أيَّ دين يأمر الله به لو تفكَّر فيه الإنسان برشد لانتهى إلى الحق بدون رسول؛ لأن دين الله هو دين الفطرة السليمة، فإنْ توفَّرت لدى الإنسان هذه الفطرة اهتدى بها إلى الحق.
بدليل ما كان يحدث من عمر رضي الله عنه وكان يُحدث رسول الله بالأمر، فتتنزل به الآيات من عند الله، وقد وافقتْ الآيات رأيه في أكثر من موقف، وقد أقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين لنا أن العقل السليم والفطرة المستقيمة يمكن أنْ ينتهيا إلى قضايا الدين دون رسول.
وتستطيع أنت أنْ تعرض أيَّ قضية من قضايا الدين على العقل السليم، وسوف تجد أنها طيبة وجميلة توافق الذَّوْق السليم والتفكير السويّ، فالكذب مثلاً خُلُق يأباه العقل ويأباه الدين، وكذلك الرشوة؛ لأنك بها تأخذ ما ليس لك، وقد يُسلِّط عليك رَاشٍ، فيأخذ منك حقك، كما أخذتَ أنت حقوق الناس.
ولو تأمل العقل مثلاً تحريم النظر إلى المحرمات، لوجد أن الدين قيَّد نظرك وأنت فرد، وقيَّد من أجلك نظر الناس جميعاً، فكما طلب منك طلب لك، وكذلك الأمر في تحريم السرقة والقتل.. إلخ.
وقد سُئلْنا في إحدى الرحلات عن قوله تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] ومرة يقول: {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة: 33] ومرة يقول: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [التوبة: 32].
يقولون: وبعد أربعة عشر قرناً، والمسلمون في الكون أقلية، ولم يظهر الدين على الدين كله، فكيف إذن نفهم هذه الآية؟
فقلتُ للسائل: لو فهمتَ الآية السابقة لعرفتَ الجواب: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [التوبة: 32].
فالمعنى: أن الدين سيظهر في وجود الأديان الأخرى، وليس المراد أن هذه الأديان ستزول، ولن يكون لها وجود، بل هي موجودة، لكن يظهر عليها الإسلام ظهور حجة، بدليل ما نراه من هجمات على الإسلام وأحكامه وتشريعاته، كما في مسألة الطلاق مثلاً، أو مسألة تعدُّد الزوجات وغيرها. وبعد ذلك تُلجِئهم الحياة الاجتماعية إلى هذه التشريعات، ولا يجدون غيرها لحل مشاكلهم.
ولما قامت الثورة الشيوعية في روسيا سنة 1917 أول ما شرَّعوا منعوا الربا الذي كان جائزاً عندهم، لقد منعوا الربا مع أنهم غير مسلمين، لكن مصالحهم في ذلك، فهذه وأمثالها غلبة لدين الله وظهور له على كل الأديان.
وليس معنى {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] أن يصير الناس جميعاً مؤمنين، لا، إنما يظل كُلٌّ على دينه وعلى شِرْكه أو كفره، لكن لا يجد حلاً لقضاياه إلا في الإسلام، وهذا أوقع في ظهور الدين.
ثم يقول الحق سبحانه عن قوم إبراهيم في ردِّهم على إبراهيم عليه السلام: {قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً}