فصل: تفسير الآية رقم (149):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (149):

{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)}
وحين تذهب إلى مدائن صالح تجد البيوت منحوتة في الجبال كما ينحتون الآن الأنفاق مثلاً، لا يبنونها كما نبني بيوتنا، ومعنى {فَارِهِينَ} [الشعراء: 149] الفاره: النشط القوي ظاهر الموهبة، يقولون: فلان فاره في كذا يعني؛ ماهر فيه، نشط في ممارسته.

.تفسير الآيات (150- 151):

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)}
المسرف: هو الذي يتجاوز الحدِّ؛ وتجاوز الحدِّ له مراحل؛ لأن الله تعالى أحلَّ أشياء، وحرّم أشياء، وجعل لكل منهما حدوداً مرسومة، فالسَّرَف فيما شرع الله أن تتجاوز الحلال، فتُدخل فيه الحرام.
أو: يأتي الإسراف في الكَسْب فيدخل في كَسْبه الحرام. وقد يُلزم الإنسان نفسه بالحلال في الكسب، لكن يأتي الإسراف في الإنفاق فينفق فيما حرَّمه الله. إذن: يأتي الإسراف في صور ثلاثة: إما في الأصل، وإما في الكسب، وإما في الإنفاق.
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى حينما يكلمنا عن الحلال، يقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
أما في المحرمات فيقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] أي: ابتعد عنها؛ لأنك لا تأمن الوقوع فيها، ومَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فلم يقل الحق سبحانه مثلاً: لا تُصَلُّوا وأنتم سكارى. إنما قال: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43].
والمعنى: خُذِ الحلال كله، لكن لا تتعداه إلى المحرَّم، أما المحرَّم فاحذر مجرد الاقتراب منه؛ لأن له دواعي ستجذبك إليه.
ونقف عند قوله تعالى: {وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين} [الشعراء: 151] حيث لم يقل: ولا تسرفوا، وكأن ربنا عزّ وجلّ يريد أن يُوقِظ غفلتنا ويُنبِّهنا ويُحذِّرنا من دعاة الباطل الذين يُزيِّنون لنا الإسراف في أمور حياتنا، ويُهوِّنون علينا الحرام يقولون: لا بأس في هذا، ولا مانع من هذا، وهذا ليس حرام. ربنا يعطينا المناعة اللازمة ضد هؤلاء حتى لا ننساق لضلالالتهم.
لذلك جاء في الحديث الشريف: (استفت قلبك، واستفتِ نفسك، وإنْ أفتوك، وإنْ أفتوك، وإنْ أفتوك).
وفي هذا دليل على أنه سيأتي أناس يُفتون بغير علم، ويُزيِّنون للناس الباطل، ويُقنعونهم به. والفتوى من الفُتوة القوة، ومنه قوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60].
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].
كذلك الفتوى تعني: القوة في أمر الدين والتمكُّن من مسائله وقضاياه، وإنْ كانت القوة المادية في أمر الدنيا لها حَدٌّ تنتهي عنده فإنْ القوة في أمر الدين لا تنتهي إلى حَدٍّ، لأن الدين أمدُه واسع، وبحره لا ساحلَ له. والقوة نعرفها في أي ناحية من النواحي، لكن قوة القوى هي القوة في أمر الدين.
نقول: فلان فتيٌّ يعني: قويٌّ بذاته، وأفتاه فلان أي: أعطاه القوة، كأنه كان ضعيفاً في حُكم من أحكام الشرع، فذهب إلى المفتي فأفتاه يعني: أعطاه فتوة في أمر الدين. مثل قولنا: غَنيَ فلان أي: بذاته، وأغناه أي: غيره، كما يقول سبحانه: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 74].
إذن: فمهمة المفتي أن يُقوِّي عقيدتي، لا أن يسرف لي في أمر من أمور الدين، أو يُهوِّن عليَّ ما حرّم الله فيُجرِّئني عليه، وعلى المفتي أن يتحرَّى الدقة في فتواه خاصة في المسائل الخلافية التي يقول البعض بحلِّها، والبعض بحرمتها، يقف عند هذه المسائل وينظر فيها رأي الإسلام المتمثل في الحديث الشريف:
«الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مُشْتبهات، فمن ترك ما شُبِّه له لا من فعل ما شُبِّه له يعني على الأقل نترك ما فيه شبهة فقد استبرأ لدينه إن كان متديناً وعِرْضه إن لم يكُنْ متديناً».
إذن: مَنْ لم يقف هذا الموقف ويترك ما فيه شبهة لم يستبرئ لدينه ولا لعِرْضه. ومَنْ لم يُفْتِ على هذا الأساس من العلماء فإنما يُضعِف أمر الدين لا يُقوِّيه، وبدل أن نقول: أفتاه. نقول: أضعفه.

.تفسير الآية رقم (152):

{الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)}
فوصف المسرفين بأنهم مفسدون في الأرض غير مصلحين، كأن الأرض خلقها الخالق عز وجل على هيئة الصلاح في كل شيء، لكن يفسدها الإنسان بتدخلّه في أمورها؛ لذلك سبق أن قلنا: إنك لو نظرتَ إلى الكون من حولك لوجدته على أحسن حال، وفي منتهى الاستقامة، طالما لا تتناوله يد الإنسان، فإنْ تدخّل الإنسان في شيء ظهرتْ فيه علامات الفساد.
ولا يعني هذا ألاَّ يتدخل الإنسان في الكون، لا إنما يتدخل على منهج مَنْ خَلقَ فيزيد الصالح صلاحاً، أو على الأقل يتركه على صلاحه لا يفسده، فإن تدخَّل على غير هذا المنهج فلابد له أن يفسد.
فحين تمر مثلاً ببئر ماء يشرب منه الناس، فإما أنْ تُصلح من حاله وتزيده ميزة وتُيسِّر استخدامه على الناس، كأن تبني له حافّة، أو تجعل عليه آلة رَفْع تساعد الناس، أو على الأقل تتركه على حاله لا تفسده؛ لذلك يقول تعالى: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 205].
أما هؤلاء القوم فلم يكتَفِ القرآن بوصفهم بالفساد وحسب، إنما أيضاً هم {وَلاَ يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 152] ذلك لأن الإنسان قد يُفسِد في شيء، ويُصلح في شيء، إنما هؤلاء دأبهم الفساد، ولا يأتي منهم الصلاح أبداً.
ونكبة الوجود من الذين يصنعون أشياء يروْنها في ظاهرها صلاحاً، وهي عَيْن الفساد؛ لأنهم لم يأخذوها بكل تقنيناتها القيمية، وانظر مثلاً إلى المبيدات الحشرية التي ابتكروها وقالوا: إنها فتح علمي، وسيكون لها دور كبير في القضاء على دودة القطن وآفات الزرع، وبمرور الزمن أصبحت هذه المبيدات وبالاً على البشرية كلها، كيث تسمِّم الزرع وتسمِّم الحيوان، وبالتالي الإنسان، حتى الماء والتُّرْبة والطيور، لدرجة أنك تستطيع القول أنها أفسدت الطبيعة التي خلقها الله.
وفي هؤلاء قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103- 104].
ثم يقول الحق سبحانه: {قالوا إِنَّمَآ أَنتَ}

.تفسير الآية رقم (153):

{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)}
{المسحرين} [الشعراء: 153] جمع مُسحَّر، وهي صيغة مبالغة تدلُّ على وقوع السحر عليه أكثر من مرة، نقول: مسحور يعني: مرة واحدة ومُسَحَّر يعني عدة مرات، ومن ذلك قوله تعالى عن ملأ فرعون أنهم قالوا له: {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء: 36- 37].
ولم يقل: بكل ساحر، إنما سحَّار يعني: هذه مهنته، وكما تقول: ناجر ونجار، وخائط وخياط.
وإنْ كان بعضهم قال عن نبيهم: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الإسراء: 47] فهؤلاء يقولون لنبيهم {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} [الشعراء: 153] وعجيب أمر أهل الباطل؛ لأنهم يتخبطون في هجومهم على الأنبياء، فمرَّة يقولون: ساحر. ومرة يقولون: مسحور، كيف والساحر لا يكون مسحوراً؛ لأنه على الأقل يستطيع أن يحمي نفسه من السحر. قالوا: بل المراد بالمسحور اختلاط عقله، حتى إنه لا يدري ما يقول.
ثم إن نبيكم صالحاً عليه السلام إنْ كان مسحوراً فمَنْ سحره؟ أنتم أم أتباعه؟ إنْ كان سحره منكم فأنتم تقدرون على كَفِّ سحركم عنه، حتى يعود إلى طبيعته، وترونه على حقيقته، وإنْ كان من أتباعه، لابد أنهم سيحاولون أنْ يعينوه على مهمته، لا أن يُقعدوه عنها.
إذن: فقولهم لنبيهم: {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} [الشعراء: 153] يريدون أن يخلُصُوا إلى عدم اتباعه هو بالذات، فهم يريدون تديُّناً على حسب أهوائهم، يريدون عبادة إله لا تكليفَ له ولا منهج. كالذين يعبدون الأصنام وهم سعداء بهذه العبادة، لماذا؟
لأن آلهتهم لا تأمرهم بشيء ولا تنهاهم عن شيء. لذلك، فكل الدجالين ومُدَّعُو النبوة رأيناهم يُخفِّفون التكاليف عن أتباعهم، فقديماً أسقطوا عن الناس الزكاة، وحديثاً أباحوا لهم الاختلاط، فلا مانع لديهم من الالتقاء بالمرأة والجلوس معها ومخاطبتها والخُلْوة بها والرقص معها، وماذا في ذلك ونحن في القرن الحادي والعشرين؟
فإنْ قالوا: ساحر، نردُّ عليهم نعم هو ساحر، قد سحر مَنْ آمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنتم وتنتهي هذه المسألة؟ إذن: هذه تُهَم لا تستقيم، لا هو ساحر، ولا هو مسحور، إنه مجرد كذب وافتراء على أنبياء الله، وعلى دعاة الخير في كل زمان ومكان.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {ما أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا}

.تفسير الآية رقم (154):

{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)}
وقولهم: {ما أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الشعراء: 154] إذن: فوجه اعتراضهم أن يكون النبي بَشَراً، كما قال سبحانه في آية أخرى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94].
ولو بعث الله لهم مَلَكاً لجاءهم على صورة بشر، وستظل الشُّبْهة قائمة، فمن يدريكم أن هذا البشر أصله مَلَك؟ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9].
فالمعنى: ما دام أن الرسول بشر، لا يمتاز علينا في شيء فنريد منه أنْ يأتينا بآية يعني: معجزة تُثبِت لنا صِدْقه في البلاغ عن ربه {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الشعراء: 154].
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى ينتهز فرصة طلَبهم لآية ومعجزة، فأسرع إليهم بما طلبوا، ليقيم عليهم الحُجة، فقال بعدها: {قَالَ هذه نَاقَةٌ}

.تفسير الآية رقم (155):

{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)}
هذا إجابة لهم؛ لأنهم طلبوا من نبيهم أنْ يُخرِج لهم من الصخرة ناقة تلد سَقْباً لا يكون صغيراً كولد الناقة، إنما تلد سَقْباً في نفس حجمها، فأجابهم {قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ} [الشعراء: 155] يعني: يوم تشرب فيه، لا يشاركها في شُرْبها شيء من مواشيكم.
{وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] أي: تشربون فيه أنتم، وكانت الناقة تشرب من الماء في يومها ما تشربه كلّ مواشيهم في يومهم، وهذه معجزة في حَدِّ ذاتها.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ}

.تفسير الآية رقم (156):

{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)}
يخبر الحق سبحانه رسوله بما سيكون، وأن القوم لن يتركوا هذه الآية، إنما سيتعرضون لها بالإيذاء، فقال: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء} [الشعراء: 156] لكنهم تعدَّوْا مجرد الإيذاء والإساءة فعقروها.
ثم يتوعدهم: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 156].
ثم يقول الحق سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ}

.تفسير الآية رقم (157):

{فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)}
قال(عقروها) بصيغة الجمع، فهل اشتركتْ كل القبيلة في عَقْرها؟ لا بل عقرها واحد منهم، هو قدار بن سالف، لكن وافقه الجميع على ذلك، وساعدوه، وارتضوا هذا الفعل، فكأنهم فعلوا جميعاً؛ لأنه استشارهم فوافقوا.
{فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ} [الشعراء: 157] وقال العلماء: الندم مقدمة التوبة.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَخَذَهُمُ العذاب إِنَّ فِي ذَلِكَ}

.تفسير الآية رقم (158):

{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)}
فإنْ قُلْتَ: كيف يأخذهم العذاب وقد ندموا، والندم من مقدمات التوبة؟
نعم، الندم من مقدمات التوبة، لكن توبة هؤلاء من التوبة التي قال الله عنها: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} [النساء: 18].
إذن: ندموا وتابوا في غير أوان التوبة، أو: أنهم أصبحوا نادمين لا ندمَ توبة من الذنب، إنما نادمون؛ لأنهم يخافون العذاب الذي هددهم الله به إنْ فعلوا.
ثم تُختم هذه القصة بهذا التذييل الذي عرفناه من قبل مع أمم أخرى مُكذِّبة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز}