فصل: تفسير الآية رقم (185):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (185):

{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)}
قلنا: إن مُسحَّر: أي سحَره غيره، وهي صغية مبالغة للدلاَلة على حدوث السحر ووقوعه عليه أكثر من مرة، فلو سُحِر مرة واحدة لَقُلْنا: مسحور والمعنى: أنك مخْتَلٌّ العقل والتفكير، مجنون، لن نسمع لك.

.تفسير الآية رقم (186):

{وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)}
وما دُمْت أنت بشراً مثلنا، ولم تتميز عنَّا بشيء، فكيف تكون رسولاً؟ ثم {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} [الشعراء: 186] أي: وما ظنك إلا كذاباً، كالذين سبقوك.

.تفسير الآية رقم (187):

{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)}
أي: إنْ كنتَ صادقاً {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء} [الشعراء: 187] يطلبون العذاب ويستعجلونه، كما قال سبحانه في آية أخرى: {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأحقاف: 22].
ومن العجيب حين ينزل بهم العذاب يقولون انظرنا، كيف وأنتم الذين استعجلتم العذاب؟
ومعنى {كِسَفاً} [الشعراء: 187] مفردها كِسْفة، مثل قِطَع وقطعة، وقد وردتْ هذه الكلمة على ألسنة كثير من المكذِّبين، وقالها الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 90- 92].
وقالوا {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
وكان عليهم أن يقولوا: اللهم إنْ كان هذا هو الحقّ من عندك فاهْدِنا إليه، وهذا يدلُّك على حُمْقهم وعنادهم.

.تفسير الآية رقم (188):

{قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)}
فهو سبحانه العليم بكم: إنْ كنتم أهلاً للتوبة والندم والأمل، أنْ تتوبوا فلن يصيبكم العذاب، أو كنتم مُصرِّين على العصيان والتكذيب، فسوف يصيبكم عذاب الهلاك والاستئصال، فأنا لن أحكمَ عليكم بشيء؛ لأنني بشر مثلكم لا أعرف ما في نياتكم؛ لذلك سأكلُ أمركم إلى ربكم عز وجل الذي يعلم أمري وأمركم، وسِرِّي وسرَّكم.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ}

.تفسير الآية رقم (189):

{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)}
فكيف يُكذّبونه، وهو لم ينسب الأمر لنفسه، ووكلهم إلى ربهم إذن: فهم لا يُكذِّبونه إنما يُكذِّبون الله؛ لذلك يأتي الجزاء: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} [الشعراء: 189].
وهو عذاب يوم مشهود، حيث سلط الله عليهم الحرارة الشديدة سبعة أيام، عاشوها في قيظ شديد، وقد حجز الله عنهم الريح إلا بمقدار ما يُبقي رَمَق الحياة فيهم، حتى اشتد عليهم الأمر وحميَتْ من تحتهم الرمال، فراحوا يلتمسون شيئاً يُروِّح عنهم، فرأوا غمامة قادمة في جو السماء فاستشرفوا لها وظنوها تخفف عنهم حرارة الشمس، وتُروِّح عن نفوسهم، فلما استظلُّوا بها ينتظرون الراحة والطمأنينة عاجلتهم بالنار تسقط عليهم كالمطر.
على حَدِّ قوْل الشاعر:
كَمَا أمطَرتْ يَوْماً ظماءً غمامةٌ ** فلمَّا رَأؤْهَا أقشعَتْ وتجلَّتِ

ويا ليت هذه السحابة أقشعت وتركتهم على حالهم، إنما قذفتهم بالنار والحُمَم من فوقهم، فزادتهم عذاباً على عذابهم.
كما قال سبحانه في آية أخرى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 24- 25].
لذلك وصف الله عذاب هذا اليوم بأنه {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189] فما وَجْه عظمته وهو عذاب؟ قالوا: لأنه جاء بعد استبشار واسترواح وأمل في الراحة، ففاجأهم ما زادهم عذاباً، وهذا ما نسميه (يأس بعد إطماع) وهو أنكَى في التعذيب وأشقّ على النفوس.

.تفسير الآية رقم (190):

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)}
قوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء: 190] أي: فما حدثتكم به {لآيَةً} [الشعراء: 190] يعني: عبرة، وسُمِّيَتْ كذلك لأنها تعبر بصاحبها من حال إلى حال، فإنْ كان مُكذباً آمن وصدق، وإن كان معانداً لاَنَ للحق وأطاع.
وما قصصتُه عليكم من مواكب الرسل وأقوامهم، وهذا الموكب يضم سبعة من رسل الله مع أممهم: موسى، وإبراهيم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب عليهم جميعاً وعلى نبينا السلام، وقد مضى هذا الموكب على سنة لله ثابتة لا تتخلف، هي: أن ينصر الله عز وجل رسله والمؤمنين معهم، ويخذل الكافرين المكذِّبين.
فلتأخذوا يا آل محمد من هذا الموكب عبرة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [الشعراء: 190] يعني عبرةً لكم، وسُمِّيتْ عبرة؛ لأنها تعبر بصاحبها من حال إلى حال، فإن كان مُكذِّباً آمن وصدَّق، وإنْ كان معانداً لاَنَ للحق وأطاع، وقد رأيتم أننا لم نُسْلِم رسولاً من رسلنا للمكذبين به، وكانت سنتنا من الرسل أن ننصرهم.
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 171- 172].
وقال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173].
ومن العبرة نقول: عبر الطريق يعني: انتقل من جانب إلى جانب، والعبرة هنا أن ننتقل من التكذيب واللدَد والجحود والكبرياء إلى الإيمان والتصديق والطاعة، حتى العَبرة(الدَّمْعة) مأخوذة من هذا المعنى.
وفي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 190] حماية واحتراس حتى لا نهضم حق القِلَّة التي آمنت.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ}

.تفسير الآية رقم (191):

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)}
ربك: الرب هو المتولِّي الرعاية والتربية. وبهذه الخاتمة خُتمتْ جميع القصص السابقة، ومع ما حدث منهم من تكذيب تُختم بهذه الخاتمة الدَّالة على العزة والرحمة.
ثم ينتقل السياق إلى خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد أنْ قدَّم لنا العبرة والعِظة في موكب الرسل السابقين، فيقول الحق سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ}

.تفسير الآية رقم (192):

{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)}
{وَإِنَّهُ} [الشعراء: 192] على أيِّ شيء يعود هذا الضمير؟ المفروض أن يسبقه مرجع يرجع إليه هذا الضمير وهو لم يُسبَق بشيء. تقول: جاءني رجل فأكرمتُه فيعود ضمير الغائب في أكرمته على(رجل).
وكما في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فالضمير هنا يعود على لفظ الجلالة، مع أنه متأخر عنه، ذلك لاستحضار عظمته تعالى في النفس فلا تغيب.
كذلك {وَإِنَّهُ} [الشعراء: 192] أي: القرآن الكريم وعرفناه من قوله سبحانه: {لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 192] وقُدِّم الضمير على مرجعه لشهرته وعدم انصراف الذِّهْن إلا إليه، فحين تقول: {هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لا ينصرف إلا إلى الله، {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 192] لا ينصرف إلا إلى القرآن الكريم.
وقال: {لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 192].
أي: أنه كلام الله لم أقلْهُ من عندي، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسبق له أنْ وقف خطيباً في قومه، ولم يُعرف عنه قبل الرسالة أنه خطيب أو صاحب قَوْل.
إذن: فهو بمقاييس الدنيا دونكم في هذه المسألة، فإذا كان ما جاء به من عنده فلماذا لم تأتُوا بمثله؟ وأنتم أصحاب تجربة في القول والخطابة في عكاظ وذي المجاز وذي المجنة، فإن كان محمد قد افترى القرآن فأنتم أقدر على الافتراء؛ لأنكم أهل دُرْبة في هذه المسألة.
و{العالمين} [الشعراء: 190]: كل ما سوى الله عزَّ وجلَّ؛ لذلك كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين للإنس وللجن وللملائكة وغيرها من العوالم.
لذلك لما نزلت: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]«سأل سيدنا رسول الله جبريل عليه السلام: أما لك من هذه الرحمة شيء يا أخي جبريل؟ فقال: نعم، كنت أخشى سوء العاقبة كإبليس، فلما أنزل الله عليك قوله: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} [التكوير: 20] أمنْتُ العاقبة، فتلك هي الرحمة التي نالتني».
وليس القرآن وحده تنزيلَ رب العالمين، إما كل الكتب السابقة السماوية كانت تنزيلَ رب العالمين، لكن الفرق بين القرآن والكتب السابقة أنها كانت تأتي بمنهج الرسول فقط، ثم تكون له معجزة في أمر آخر تثبت صِدْقه في البلاغ عن الله.
فموسى عليه السلام كان كتابه التوراة، ومعجزته العصا، وعيسى عليه السلام كان كتابه الإنجيل، ومعجزته إبراء الأكمة والأبرص بإذن الله، أما محمد صلى الله عليه وسلم فكان كتابه ومنهجه القرآن ومعجزته أيضاً، فالمعجزة هي عَيْن المنهج. فلماذا؟
قالوا: لأن القرآن جاء منهجاً للناس كافّةً في الزمان وفي المكان فلابد إذن أن يكون المنهج هو عَيْن المعجزة، والمعجزة هي عَيْن المنهج، وما دام الأمر كذلك فلا يصنع هذه المعجزة إلا الله، فهو تنزيل رب العالمين.
أما الكتب السابقة فقد كانت لأمة بعينها في فترة محددة من الزمن، وقد نزلتْ هذه الكتب بمعناها لا بنصِّها؛ لذلك عيسى عليه السلام يقول: «سأجعل كلامي في فمه» أي: أن كلام الله سكيون في فم الرسول بنصِّه ومعناه من عند الله، ما دام بنصِّه من عند الله فهو تنزيل رب العالمين.
ثم يقول الحق سبحانه: {نَزَلَ بِهِ الروح}

.تفسير الآية رقم (193):

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)}
كان من الممكن أن يكون الوحي من عند الله إلهاماً أو نَفْثاً في الرَّوْع؛ لذلك قال تعالى بعدها: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] إذن: الأمر ليس نَفْثاً في رَوْع رسول الله بحكم ما، إنما يأتيه روح القُدُس وأمين الوحي يقول له: قال الله كذا وكذا.
لذلك لم يثبت القرآن إلا بطريق الوحي، بواسطة جبريل عليه السلام، فيأتيه الملَك؛ ولذلك علامات يعرفها ويحسّها، ويتفصّد جبينه منه عرقاً، ثم يُسرِّي عنه، وهذه كلها علامات حضور الملَك ومباشرته لرسول الله، هذا هو الوحي، أمَّا مجرد الإلهام أو النَّفْث في الرَّوْع فلا يثبت به وَحْي.
لذلك كان جلساء رسول الله يعرفونه ساعة يأتيه الوحي، وكانوا يسمعون فوق رأسه صلى الله عليه وسلم كدويّ النحل أثناء نزول القرآن عليه، وكان الأمر يثقل على رسول الله، حتى إنه إنْ أسند فَخِذه على أحد الصحابة أثناء الوحي يشعر الصحابي بثقلها كأنها جبل، وإذا نزل الوحي ورسول الله على دابته يثقل عليها حتى تنخّ به، كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5].
ولم تهدأ مشقَّة الوحي على رسول الله إلا بعد أنْ فتَر عنه الوحي، وانقطع فترة حتى تشوَّق له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتظره، وبعدها نزل عليه قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 14].
ونزلت عليه: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 14].
يعني: سيعاودك الوحي في سهولة ودون مشقَّة، ولن تتعب في تلقيه، كما كنتَ تعاني من قبل.
وقوله: {نَزَلَ} [الشعراء: 193] تفيد العلو، وأن القرآن نزل من أعلى من عند الله، ليس من وضع بشر يخطئ ويصيب ويجهل المصحلة، كما نرى في القوانين الوضعية التي تُعدِّل كل يوم، ولا تتناسب ومقتضيات التطور، والتي يظهر عُوَارها يوماً بعد يوم.
ولأن القرآن نزل من أعلى فيجب علينا أن نستقبله استقبالَ الواثقِ فيه المطمئن به، لا نعانده، ولا نتكبر عليه؛ لأنك تتكبر على مساوٍ لك، أمّا ما جاءك من أعلى فيلزمك الانقياد له، عن اقتناع.
وفي الريف نسمعهم يقولون(اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم) لماذا؟ لأنه قُطِع بأمر الأعلى منك، بأمر الله لا بأمر واحد مثلك.
وحين نتأمل قوله تعالى في التشريع لحكم من الأحكام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151].
كلمة(تعالوا) تعني: اتركوا حضيض تشريع الأرض، وأَقْبلوا على رِفْعة تشريع السماء، فتعالوا أيْ: تعلَّوا وارتفعوا، لا تهبطوا إلى مستوى الأرض، وإلا تعبتُم وعضَّتكم الأحداث؛ لأن الذي يُشرِّع لكم بشر أمثالكم وإنْ كانوا حتى حَسَنِي النية، فهم لا يعلمون حقائق الأمور، فإنْ أصابوا في شيء أخطأوا في أشياء، وسوف تُضطرون لتغيير هذه التشريعات وتعديلها.
إذن: فالأسلم لكم أنْ تأخذوا من الأعلى؛ لأنه سبحانه العليم بما يُصلحكم.
إذنك {نَزَلَ} [الشعراء: 193] تفيد أنه من الأعلى من مصدر الخير حتى الحديد وهو من نِعَم الله، لما تكلم عنه قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} [الحديد: 25].
ولم يَقُلْ مثلاً: أنزلناه الألماظ أو الألماس، أو غيره من المعادن النفيسة، لماذا؟ لأن الحديد أداة من أدوات نُصْرة الدعوة وإعلاء كلمة الله.
وسُمِّي جبريل عليه السلام الروح؛ لأن الروح بها الحياة، والملائكة أحياء لكن ليس لهم مادة، فكأنهم أرواح مطلقة، أما البشر فمادة فيها روح.
كما أن كلمة الروح استُعملَتْ عدة استعمالات منها {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] والمراد الروح التي نحيا بها.
وسُمِّي القرآن روحاً: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] إذن: فالقرآن روح، والملَك الذي نزل به روح، فإنْ قلتَ: فما حاجتي إلى الروح وفيَّ روح؟
نقول لك: هذه الروح التي تحيا بها مادتك، والتي تفارقك حين تموت وتنتهي المسألة، أمّا الروح التي تأتيك في القرآن فهي روح باقية خالدة، إنها منهج الله الذي يعطيك الحياة الأبدية التي لا تنتهي.
لذلك، فالروح التي تحيا بها المادة للمؤمن وللكافر على حَدٍّ سواء، أمّا الروح التي تأتيك من كتاب الله وفي منهجه، فهي للمؤمن خاصة، وهي باقية، وبها تستأنف حياة جديدة خالدة بعد حياة المادة الفانية.
واقرأ إن شئت قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
كيف وها نحن أحياء؟ نعم، نحن أحياء بالروح الأولى روح المادة الفانية، أمَّا رسول الله فهو يدعونا للحياة الباقية، وكأنه عز وجل يشير إلى أن هذه الحياة التي نحياها ليست هي الحياة الحقيقية؛ لأنها ستنتهي، وهناك حياة أخرى باقية دائمة.
حتى مجرد قولنا نحن أحياء فيه تجاوز؛ لأن الأحياء هم الذين لا يموتون، وهذه الحياة لا تأتي إلا بمنهج الله، وهذا معنى قوله تعالى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] فالحيوان مبالغة في الحياة، أي: الحياة الحقيقية، أما حياة المادة فأيّ حياة هذه التي يموت فيها المرء يوم مولده، أو حتى بعد مائة عام؟!
ثم يَصِف الحق سبحانه وتعالى الروح بأنه {الأمين} [الشعراء: 193] أي: على الوحي، القرآن إذن مَصُون عند الله، مصون عند الروح الأمين الذي نزل به، مَصُون عند النبي الأمين الذي نزل عليه.
لذلك يقول سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44- 47].
وقال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} [التكوير: 24- 25].
ثم يقول الحق سبحانه: {على قَلْبِكَ لِتَكُونَ}