فصل: تفسير الآية رقم (59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (59):

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)}
إذن: لابد أن نُعْلِم بالمنهج، ويأتي رسول يقول: افعل كذا، ولا تفعل كذا، حتى إذا حَلَّ العذاب بالكافرين يكون بالعدْل، وبعد إلزامهم الحجة، لا أنْ نترك الناس يذنبون، ثم نقول لهم: هذا حرام.
وسبق أنْ قُلْنا ما قاله القانون: لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنصًّ، ولا نصَّ بإعلام. وما كان الله ليهلك قرية ظلماً، إنما عقوبةً لهم على ما فعلوا.
والقرية لها تسلسل فنقول:(نَجْع) وهو المكان الذي تسكنه أسرة واحدة، و(كَفْر) لعدة أسر، ثم(قرية) ثم(أم القرى) وهي الحضر أو العاصمة، وقد نزل القرآن في أمة مُتبدية، تعيش على الترحال، وتقيم في الخيام تتنقل بها بين منابت الكلأ، فقالوا(أم القرى) للمكان الذي تجد به القرى، وتتوفر فيه من مقومات الحياة ما لا يوجد في النجوع والكفور والقرى الصغيرة، كما يعيش الآن أهل الريف على قضاء حوائجهم من(البندر)، كأنّ أُمّ القرى لها حنان، يشمل صغار البلاد حولها.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة...}.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)}
معنى: {مِّن شَيْءٍ...} [القصص: 60] من أيِّ شيء من مُقوِّمات الحياة، ومن كمالياتها {فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا...} [القصص: 60] فمهما بلغ هذا من السُّمو، فإنه متاع عمره قليل، كما قال سبحانه: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} [النساء: 77].
لذلك طلبنا منكم ألاَّ تنشغلوا بهذا المتاع، وألاَّ تجعلوه غايةً، لأن بقاءك فيها مظنون، ومتاعك فيها على قَدْر نشاطك وحركتك.
وسبق أنْ قلنا: إن آفة النعيم في الدنيا إما أن يتركك أو تتركه، وأن عمرك في الدنيا ليس هو عمر الدنيا، إنما مدة بقائك أنت فيها، ومهما بلغتَ من الدنيا فلابد من الموت.
لذلك يدلُّنا ربنا- عَزَّ وجَلَّ- على حياة أخرى باقية مُتيقَّنة لا يفارقك نعيمها ولا تفارقه.
{وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [القصص: 60].
{خَيْرٌ...} [القصص: 60] لأن النعيم فيها ليس على قَدْر نشاطك، إنما على قَدْر الله وعطائه وكرمه، {وأبقى..} [القصص: 60] لأنه دائم لا ينقطع، فلو قارن العاقل بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة لاختار الآخرة.
لذلك، فإن الصحابي الذي حدَّثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهيد، وتيقَّن أنه ليس بينه وبين الجنة إلا أنْ يُقتل في سبيل الله، وكان في يده تمرات يأكلها فألقاها، ورأى أن مدة شغله بمضغها طويلة؛ لأنها تحول بينه وبين هذه الغاية، ألقاها وأسرع إلى الجهاد لينال الشهادة. لماذا؟ لأنه أجرى مقارنة بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة.
والحق سبحانه وتعالى حين يُجري هذه المقارنة بين الكفار وبين المؤمنين يقول: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين...} [التوبة: 52] إما أن ننتصر عليكم ونُذلكم، ونأخذ خيراتكم، وإما ننال الشهادة فنذهب إلى خير مما تركنا {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا...} [التوبة: 52].
إذن: لا تتربصون بنا إلا خيراً، ولا نتربّص بكم إلا شراً.
وفي موضع آخر قال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 16- 17] لذلك ذيَّل الآية هنا بقوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] لأن العقل لو قارن بين الدنيا والآخرة لابد أنْ يختار الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ....}.

.تفسير الآية رقم (61):

{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)}
تُعد هذه الآية شرحاً وتأكيداً لما قبلها، والوعد: بشارة بخير، وإذا بشَّرك مُساوٍ لك بخير أتى خيره على قدر إمكاناته، وربما حالت الأسباب دون الوفاء بوعده، فإنْ كان الوعد من الله جاء الوفاء على قدر إمكاناته تعالى في العطاء، ثم إنَّ وعده تعالى لا يتخلف {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله...} [التوبة: 111].
لذلك قال {وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ...} [القصص: 61] أي: حتماً {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين} [القصص: 61] أي: للعذاب.
وهذه الكلمة {المحضرين} [القصص: 61] لا تستعمل في القرآن إلا للعذاب، وربما الذي وضع كلمة(مُحضر) قصد هذا المعنى؛ لأن المحضر لا يأتي أبداً بخير.
ويقول تعالى في موضع آخر: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158].
وقال تعالى: {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين} [الصافات: 57] ثم يقول سبحانه مُؤكِّداً هذا الإحضار يوم القيامة حتى لا يظن الكافر أن بإمكانه الهرب: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ...}.

.تفسير الآية رقم (62):

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)}
والسؤال هنا للذين أشركوا، لا لمن أُشرك بهم، وكلمة {وَيَوْمَ...} [القصص: 62] منصوبة على الظرفية، لابد أن نُقدِّر لها فعلاً يناسبها، فالتقدير: واذكر يوم يناديهم، والأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لمن يذكره رسول الله؟ يذكره للكافرين بهذا اليوم يوم القيامة.
والآية تعطينا لقطة من لقطات هذا اليوم الذي هو يوم الواقعة التي لا واقعةَ بعدها، ويوم الحاقَّة أي الثابتة التي لا تَزَحْزُحَ عنها، ويوم الصَّاخة أي: التي تصخّ الآذان التي انصرفتْ عنها في الدنيا، ويوم الطامة التي تطمُّ، ويوم الدين، أي: الذي ينفع فيه الدين.
والحق سبحانه يذكر هذه اللقطة لأمرين:
الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عُودي وأُوذِي وهزِيء به وسُخِر منه، واجتمعت عليه كل وسائل النكالَ من خصومة فبيَّتوا به بمكر، وصنعوا له سحراً.. إلخ.
وحين تجد دعوة تُقابَل بهذه الشراسة، فاعلم أنها ما قُوبلت هذه المقابلة إلا لأنها ستهدم فساداً ينتفع به قوم ترهبهم كلمة الإصلاح؛ لأنها تصيبهم في مصالحهم وفي شهواتهم وفي جاههم وعنجهيتهم وطغيانهم، فطبيعي أن يقفوا في وجهها.
لذلك نجد كثيراً من الغربيين يعرفون عظمة الإسلام من شراسة عداوة خصومه، يقولون: لو لم يكُنْ هذا الدين ضد فسادهم ما ائتمروا عليه، ولو كان أمراً هيِّناً لتركوه للزمن يمحوه، لكنهم أيقنوا أنه الحق الذي سيُذهِب باطلهم، ويقضي على طغيانهم.
فالحق سبحانه يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يذكر ذلك اليوم يذكره لنفسه، ويذكره لقومه ليعتبروا، فربما إذا سمعوا ما في هذا اليوم من القسوة والخزي والنكال ربما راجعوا أنفسهم فتابوا إلى الله.
إذن: ليس حظ الله تعالى من هذا العمل أنْ يُرهبهم إنما ليحذرهم، لئلا يقع منهم الكفر الذي يُوقِفهم هذا الموقف، كما تُبشِّع لولدك عاقبة الإهمال، وتُحذِّره من الرسوب لينفر من أسبابه، ويبحث عن أسباب النجاح.
يقول تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ...} [القصص: 62] وقد ناداهم في الدنيا: يا أيها الناس، يا بني آدم فصمُّوا آذانهم، وأعرضوا عن نداء الله، واليوم يناديهم نداءً لا يملكون أنْ يصمُّوا آذانهم عنه؛ لأنه {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] فكأن الحق يُذكِّرهم بهذا اليوم، لعلهم يرعوون، ولعلهم يرجعون.
الأمر الثاني: أن الآية جاءت تسلية لسيدنا رسول الله يقول له ربه: لا تيأس مما يصنعون معك، ولا يحزنك كيدهم وعنادهم؛ لأنني سأصنع بهم كيت وكيت. وأنت تستطيع أن تدرك سِرَّ هذا الإيعاز النفسي في نفس المضطهد وفي نفس المظلوم حين يشكو لك ولدك أن أخاه ضربه أو أهانه فتقول أنت لتُرضيه: انتظر سوف أفعل به كذا وكذا، فترى الولد ينبهر بهذه العقوبة المسموعة ويسعد بها، وكذلك حين يسمع رسول الله العقوبة التي تنال أعداءه على ما حدث منهم يسعد بها، وتُسرِّي عن نفسه ما يلاقي.
ومضمون النداء {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] فلم يقُلْ شركائي ويسكت، إنما وصفهم {الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] لأنه سبحانه واحد لا شريك له، وهؤلاء شركاء في زعمهم فقط، والزعم كما يقولون: مطية الكذب؛ لذلك لن يجدوا جواباً لهذا السؤال {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62].
ولو كان أمامهم شركاء لقالوا: ها هم الذين أضلُّونا، فأذِقْهم يا رب العذاب ضِعْفين، لكنهم لم يجيبوا فهذا دليل على أنهم غَير موجودين، لقد وقف هؤلاء المشركين حائرين، لا يدرون جواباً كما قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء...} [القصص: 66].
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول...}.

.تفسير الآية رقم (63):

{قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)}
والكلام هنا للشركاء الذين أضلوا المشركين وأغَووْهم، ومعنى {حَقَّ عَلَيْهِمُ...} [القصص: 63] أي: ثبت ووقع، فهو أمر لا محالة منه، ولم يعد هناك مجال لزحزحته عنهم، كما قال سبحانه في موضع آخر: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ} [الصافات: 31].
وقال الحق سبحانه وتعالى: {وَوَقَعَ القول عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} [النمل: 85].
لكن، ما هو القول الذي وقع وثبت لهم وحَقَّ عليهم؟ القول: أن كلَّ واحد له مكان عندي في الجنة على فَرْض أنكم جميعاً آمنتم، وكل واحد له مكان في النار على فَرْض أنكم جميعاً كفرتم.
وماذا قالوا؟ قالوا: {رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا...} [القصص: 63] سبحان الله الآن تقولون ربنا وتعترفون بربوبيته تعالى، كما قال تعالى في شأن فرعون: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91].
الآن تعترفون بعد أنْ سُلِب منكم الاختيار، ولم تعُد لكم إرادة حتى على جوارحكم وأبعاضكم، فيدُكَ التي كنت تبطش بها، ورِجْلك التي كنت تسعى بها ولسانك.. كلها خرجت عن إرادتك وطَوْع أمرك؛ لأنها الآن طَوْعٌ لأمر الله {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24].
ومعنى {هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ...} [القصص: 63] أي: المشركين {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا...} [القصص: 63] أي: لنكون سواء، هذه عِلَّة غوايتهم، أن يكونوا في الخُسْران سواء، وإلا فأهل الباطل يسعون جاهدين للإيقاع بأهل الحق ليشاركوهم باطلهم، وليكونوا أمثالهم.
وهذه المسألة تعطينا السيال النفسي لكل منحرف حين يرى ملتزماً مستقيماً، لا يشاركه فساده وانحرافه، فيعزّ عليه أنْ يكون في الهاوية وحده، ولماذا يمتاز عنه الآخرون؟ واقرأ قوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً...} [النساء: 89].
ألا ترى أهل الباطل والفساد والفجور يهزءُون من أهل الحق ويسخرون منهم، ليُزهدوهم في الخير والصلاح، وليغروهم بما هم فيه، حتى أصبح الإنسان الملتزم بدينه وشرع ربه لا يسلَم من ألسنتهم، كما يقول تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29- 30].
وليت الأمر ينتهي عند الغَمْز واللمز، إنما يتمادى هؤلاء، فيجعلون من سخريتهم بأهل الإيمان والطاعة مادةً للمسامرة والتسلية {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] يعني: فرحين مسرورين بما نالوه من أهل الطاعة، مما يدلّ على أنهم جميعاً تُسعِدهم هذه المسألة وتُرضي شيئاً في نفوسهم المريضة الحاقدة.
لكن المؤمن من طبيعته يحب أنْ يُكرم، وأنْ ينأى بنفسه عن مجاراة هؤلاء، لذلك يتولَّى ربه- عز وجل- الدفاع عنه يقول له: لا تحزن فسوف نقتصُّ لك، ونسخر منهم، ونجعلهم أضحوكة في يوم بَاقٍ لا ينتهي فيه عذابهم: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34-36].
وكأن الحق تبارك وتعالى يسترضي عباده المؤمنين: أيعجبكم ما آلوا إليه؟ أقَدرْنا أن نجازيهم على ما اقترفوه في حقكم؟ نعم يا رب، فسخرية الكفار من أهل الإيمان في دار الباطل الفانية انقلبت سخرية منهم في دار الحق الباقية، وهي سخرية دائمة لا نهاية لها.
إذن: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا...} [القصص: 63] يعني: حتى نكون سواء، لا يكون أحدنا أحسن من الآخر، ومن هذا المنطلق أغوى إبليس آدمَ، لأنه لما طغى وطُرد من رحمة الله، ومن الصفائية التي كان ينعمَ بها مع الملائكة. أراد أنْ يأخذ آدم بل وذريته إلى هذا المصير، فقد حَزَّ في نفسه أن يلاقي هذا المصير وحده، في حين ينعَم آدم وذريته برحمة الله ورضوانه.
لذلك نجد إبليس- لعنه الله- لا يكتفي بأن تُغوي ذريته ذريةَ آدم، إنما يطلب من الله أنْ يُنظره إلى يوم البعث ليباشر بنفسه هذه الغواية، فهو(المعلم) الكبير، وكأنه يحذر أن إمكانات ذريته في الغواية قد لا ترضيه؛ لذلك يتولى بنفسه هذه المهمة فيقول: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16].
والبعض يفهم قوله تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} [الأعراف: 14-15] أن الله تعالى أجاب إبليس إلى ما طلب، لكن {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} [الأعراف: 15] ليست إجابةً، إنما تقرير لشيء حادث بالفعل قبل أن يطلب، فالمعنى أن سؤالك ليس له معنى؛ لأنك من المنظرين فعلاً، لماذا؟ قالوا: لأن الله تعالى يريد أنْ يظلَّ إبليس الذي أغوى آدم وأخرجه من الجنة باقياً أمام ذريته ليُذكِّرهم دائماً: هذا الذي أغوى أباكم آدم.
وقولهم: {رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا...} [القصص: 63] لنا وقفة مع {هؤلاء} [القصص: 63] وهي اسم إشارة للجمع بنوعيه، تقول: هؤلاء الرجال، وهؤلاء النساء، وهي عبارة عن: الهاء للتنبيه، وأولاء اسم إشارة، وكذلك في هذا، هذه، هذان، هاتان، فالهاء فيها للتنبيه لتنبيه السامع أنك ستتكلم ليعطيك سمعه، ويهتم بما تقول، فلا يفوته من كلامك شيء.
هذا حين تخاطب مثلك لأنه يحتاج إلى تنبيه، أما إذا خاطبت ربك- عز وجل- فمن سوء الأدب أنْ تستخدم في خطابه أداة التنبيه، كما استخدمها المشركون، فما داموا قد قالوا {رَبَّنَا...} [القصص: 63] فليس من الأدب أن يقولوا {هؤلاء...} [القصص: 63] أيُنبِّهون الله عز وجل؟
لذلك نلحظ هذا الأدب في خطاب نبي الله موسى- عليه السلام- فيما حكاه عنه القرآن: {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} [طه: 84] فقال(أولاء) بدون هاء التنبيه تأدُّباً مع ربه عَزَّ وجَلَّ.
ونلحظ أنك لا تجد خطاباً من الكفار إلا باستخدام هؤلاء: {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا...} [الأعراف: 38] {رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا} [النحل: 86] أما المؤمن فلا يليق به أبداً أن يُنبِّه الله تعالى، بل ولا تصدر من مؤمن لمؤمن لأنه دائماً منتبه.
ثم يقولون: {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] الآن ينكُصون كما قالوا من قبل {رَبَّنَا...} [القصص: 63] يقولون الآن {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ..} [القصص: 63] لكن هيهات تنفعهم هذه البراءة، لقد انتهى وقتها، ومضى زمن التكليف والاختيار، والآن وقت الحساب وسلَبْ الإرادة والاختيار، وما أشبههم بفرعون حين قال الله له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91].
وقولهم: {مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] يقول الشركاء: ما كان معنا قوة قهر نحملكم بها على عبادتنا، ولا قوة سلطان أو حجة نقنعكم بها، إنما كنتم في انتظار إشارة منا، كما قال كبيرهم إبليس: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ...} [إبراهيم: 22].
إذن: فهؤلاء المشركون كانوا يعبدون أنفسهم وذواتهم؛ لأن الشركاء كانوا أصناماً أو غيرها، وليس لهم منهج يتكلَّمون به، ويدْعُون الناس إلى عبادتهم به، وإلا فماذا قالت الأصنام أو الشمس أو النجوم لمن عبدها؟ بِمَ أمرتهم، وعمَّ نهتْهم؟
إذن: هو إله بلا منهج وبلا تكليف، وهذا ما يريده المشركون؛ لأن الذي يُتعب الناس في قضية الإيمان بالألوهية ما تقتضيه من تكاليف، وما تفرضه من أمرأو نهي يحول بين النفس البشرية وما تشتهي، ويُوقفها عند حدود لا تتعداها.
إذن: {مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] بل يعبدون ذواتهم، ويعبدون شهواتهم ورغباتهم، وما أسهل أن يعبد الإنسان آلهة لا تلزمه بشيء، فيسير في حياته على هواه، وهذه هي التي روجَتْ لعبادة هذه الآلهة.
لذلك فإن الحق سبحانه يريد أنْ يلزم الإنسان حجة أن نفسه هي الوسيلة الأولى لشهواته، وإلا فلو أن المسألة كلها وسوسة شيطان، فمَن أغوى إبليس بالعصيان أولاً على حَدِّ قَوْل الشاعر:
إبليسُ لما عَصى مَنْ كان وسْوَسَهُ؟

إذن: فهي كبرياء النفس ورغباتها، وليس للشيطان إلا أنْ يُلوِّح لها فتقع؛ لذلك جاء في الحديث الشريف: (إذا أقبل رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وسُلْسلت الشياطين).
وما دامت الشياطين سُلسلت، فليس لها حركة مع الإنس؛ لأن الله تعالى يعلم منّا أنَّا نُعلِّق كل معاصينا على الشيطان، فكأنه سبحانه يقول: ها هي الشياطين صُفِّدت وسُلْسِلت، فمَنْ أغواكم وزيِّن لكم حال سَلْسلتها؟ إذن: هي نفسك التي تَوسوس لك؛ لذلك نقول: كل معصية تقع في رمضان ليس للشيطان فيها نصيب، إنما هي شهوة النفس.
وسبق أنْ بيِّنا كيف نُفرِّق بين المعصية متى تكون من الشيطان؟ ومتى تكون شهوة نفس؟ إنْ كانت المعصية تُوقفك عندها لا تتزحزح عنها إلى غيرها، فاعلم أنها من نفسك، أما إنْ عزَّتْ عليك معصية ففكَّرْتَ في غيرها، فهي من الشيطان؛ لأنه والعياذ بالله يريدك عاصياً على أي وجه، وبأيِّ طريقة فينقلك إلى معصية أخرى يستطيع أنْ يُوقِعك فيها، على خلاف شهوة النفس، فهي تريد شيئاً بذاته لا تريد غيره.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ...}.