فصل: تفسير الآية رقم (49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (49):

{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)}
{بَلْ...} [العنكبوت: 49] حرف يفيد الإضراب عما قبله، وتأكيد ما بعده {هُوَ} أي: القرآن {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم...} [العنكبوت: 49] ولم يقل مثلاً: في ذاكرتهم؛ لأن الأذن تستقبل الكلام وتعرضه على العقل، فإنْ قبله يستقر في القلب وفي الصدر، وفيه يتحول إلى عقيدة وإلى يقين لا يقبل الشكَّ ولا يتزحزح.
لذلك يقول تعالى عن القرآن: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} [الشعراء: 193-194] فقال: {على قَلْبِكَ...} [الشعراء: 194] أي: مباشرة استقر في قلبه، ولم يقُلْ على أذنك.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ...}.

.تفسير الآية رقم (50):

{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)}
أي: بعد أنْ جاءهم القرآن وبعد أنْ أعجزهم يطلبون آيات أخرى، وسبق أنْ قلنا: إن الحق سبحانه كان إذا اقترح القومُ آيةً من رسولهم فأجابهم إلى ما طلبوا، فإنْ كذبوا بعدها أخذهم أَخْد عزيز مقتدر.
واقرأ مثلاً قوله سبحانه: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا...} [الإسراء: 59] فلما كذَّبوا بالآية التي طلبوها أهلكهم الله؛ لأن المسألة إذن ليست مسألة آيات وإقناع، إنما هي الإصرار على الكفر، إذن: فطلب الإنزال لآية خاصة باقتراحهم ليس مانعاً لهم أنْ يكفروا أيضاً برسول الله.
لذلك يقول سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات...} [الإسراء: 59] أي: التي اقترحوها {إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون...} [الإسراء: 59] وحين تنزل الآية ويُكذِّبون بها تنزل بهم عقوبة السماء، لكن الحق سبحانه وتعالى قطع العهد لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ألاَّ يُعذِّب أمته وهو فيهم، كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
فهذا هو السبب المانع من أنْ تأتي الآية المقترحة، ثم إن الآيات المقترحة آيات كونية تأتي وتذهب، كما تشعل عود الثقاب مرة واحدة، ثم ينطفئ، رآه مَنْ رآه، وأصبح خبراً لمن لم يَرَه.
وكلمة {لَوْلاَ...} [العنكبوت: 50] تستخدم في لغة العرب استخدامين: إنْ دخلتْ على الجملة الاسمية مثل: لولا زيد عندك لَزرتُك، وهي هنا حرف امتناع لوجود، فقد امتنعتْ الزيارة لوجود زيد. وإنْ دخلتْ على الجملة الفعلية مثل: لولا تذاكر دروسك، فهي للحضِّ وللحثِّ على الفعل.
فقولهم {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ...} [العنكبوت: 50] كان الآية التي جاءتهم من عند الله لا يعترفون بها، ثم يناقضون أنفسهم حينما يقولون: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
إذن: أنتم معترفون بالقرآن، مقتنعون به، لكن ما يقف في حلوقكم أن ينزل على محمد من بين الناس جميعاً. ثم نراهم يناقضون أنفسهم في هذه أيضاً، ويعترفون من حيث لا يشعرون بأن محمداً رسول الله حينما قالوا: {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ...} [المنافقون: 7] فما دُمْتم تعرفون أنه رسول الله، فلماذا تُعادونه؟ إذن: فالبديهة الفطرية تكذِّبهم، ينطق الحق على ألسنتهم على حين غفلة منهم.
ويرد الحق تبارك وتعالى عليهم: {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله...} [العنكبوت: 50] فهي عند الله، ليست عندي، وليست بالطلب حسب أهوائكم {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [العنكبوت: 50] أي: هذه مهمتي، واختار الإنذار مع أنه صلى الله عليه وسلم بشير ونذير، لكن خَصَّهم هنا بالإنذار، لأنهم أهل لِجَاج، وأهل باطل وجحود، فيناسبهم كلمة الإنذار دون البشارة ثم يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب...}.

.تفسير الآية رقم (51):

{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)}
والاستفهام هنا للتعجُّب وللإنكار، يعني: كيف لا يكفيهم القرآن ولا يقنعهم وهو أعظم الآيات، وقد أعجزهم أنْ يأتوا ولو بآية من آياته، وجاءهم بالكثير من العِبر والعجائب؟ إذن: هم يريدون أنْ يتمحّكوا، وألا يؤمنوا، وإلا لو أنهم طلاب حَقٍّ باحثون عن الهداية لكفاهم من القرآن آية واحدة ليؤمنوا به.
وقوله تعالى: {يتلى عَلَيْهِمْ...} [العنكبوت: 51] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي بعدة آيات، وقد يطول إلى رُبْعين أو ثلاثة أرباع، فلما أن يسري عنه يتلو ما نزل عليه على صحابته ليكتبوه، يتلوه كما أُنزِل عليه، فيكتبه الكتبة، ويحفظه مَنْ يحفظه منهم، وكانوا أمة رواية وأمة حفظ.
ثم يأتي وقت الصلاة فيصلي بهم رسول الله بما نزل عليه من الآيات، يُعيدها كما أملاها، وهذه هبة ربانية منحها لرسوله صلى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6].
وإلا، فَلَك أن تتحدى أكثر الناس حِفْظاً أنْ يُعيد عليك خطبة أو كلمة ألقاها على مدى نصف ساعة مثلاً، ثم يعيدها عليك كما قالها في المرة الأولى.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى...} [العنكبوت: 51] لكن لمن {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] لأن القرآن لا يثمر إلا فيمن يُحسن استقباله ويؤمن به، أما غير المؤمنين فهو في آذانهم وَقْر وهو عليهم عمى، لا يفقهونه ولا يتدبرونه؛ لأنهم يستقبلونه لا بصفاء نفس، وإنما ببُغْض وكراهية استقبال، فلا ينالون نوره ولا بركته ولا هدايته.
لذلك يقول تعالى في الذين يُحسِنون استقبال كلام الله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ...} [فصلت: 44].
أما الذين يجحدونه ولا يُحسنون استقباله، فيقول عنهم: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى...} [فصلت: 44].
وسبق أنْ قلنا: إن الفعل واحد، لكن المستقبل مختلف، ومثَّلْنا لذلك بمن ينفخ في يده ليُدفئها في البرد، ومَنْ ينفخ في الشاي ليُبرده، وأنت أيضاً تنفخ في الشمعة لتطفئها، وتنفخ في النار لتشعلها.
وفي موضع آخر يقول تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ...} [الإسراء: 82]، ففرْق بين الشفاء والرحمة، الشفاء يعني: أنه كانت هناك علة، فبرأت، لكن الرحمة ألاَّ تعاودك العلة، ولا يأتيك الداء مرة أخرى، فالقرآن نزل ليعالج الداءات النفسية، يعالجها بالقراءة ويُحصِّنك ضدها فلا تصيبك، وإنْ وقعت في شيء من هذه الداءات فاقرأ ما جاء فيها من القرآن فإنها تبرأ بإذن الله، إذن: الشفاء يعالج الداء إنْ وقع في غفلة من سلوك النفس.
ولو طبقنا قضايا القرآن في نفوسنا لنالتنا هذه الرحمة، فالإنسان بدن وقيم ومعان وأخلاق، هذه المعاني في الإنسان يسمونها النفسيات، فقد يكون سليم البنية والجسم لكنه سقيم النفس؛ لذلك نجد بين تخصصات الطب الطب النفسي، وكل مريض لا يجدون لمرضه سبباً عضوياً يُشخِّصونه على أنه مرض نفسي، وحين تسأل الطبيب النفسي تجد أن كل ما عنده عقاقير تهديء المريض أو تهده فينام حتى لا يفكر في شيء، وهل هذا هو العلاج؟
ولو تأملنا كتاب ربنا لوجدنا فيه العلاجيْن: العضوي والنفسي، فسلامة الجسم في أن الله تعالى أحلّ لك أشياء، وحرَّم عليك أشياء، وما عليك إلا أنْ تستقيم على منهج ربك فتسلم من داءات الجسد، فإنْ كنت من هؤلاء الذين يحبون الأكل من الحلال لكنهم يبالغون فيه إلى حَدِّ التًّخمة، فاقرأ في القرآن: {يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأعراف: 31].
ثم تجد في السنة النبوية مُذكِّرة تفسيرية لهذه الآية: (بحسب ابن آدم لُقيْمات يُقمْنَ صُلْبه)، فإنْ كان ولا بُدَّ: (فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه).
فالأصل أن يأكل الإنسان ليعيش، لا أن يعيش ليأكل. وبعض السطحيين يقولون: ما معنى (ثلث لنفَسه)، وهل النفَس في المعدة؟ والآن، ومع تطور العلوم عرفنا أن تُخمة البطن تضغط على الحجاب الحاجز وتضيق مجال الرئة فينتج عن ذلك ضيق في التنفس.
أما الناحية النفسية، فالمرض النفسي ناتج إما عن انقباض الجوارح عن طبيعة تكوينها، أو انبساطها عن طبيعة تكوينها، كالبيضة مثلاً لها حجم معين فإنْ ضيَّقْتَ هذا الحجم أو بسطته تنكسر.
وهذا أيضاً أساس الداء في النفس البشرية؛ لأن ملكات النفس ينبغي أنْ تظل في حالة توازن واستواء، وتجد هذا التوازن في منهج ربك- عز وجل- حيث يقول سبحانه: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ...} [الحديد: 23].
فمعنى: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ...} [الحديد: 23] الانقباض {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ...} [الحديد: 23] الانبساط. وكلاهما مذموم منهيٌّ عنه، لكن مَن ذا الذي لا يأسى على ما فات، ولا يفرح بما هو آتٍ؟
لذلك نجد البُلَداء الذين لا تَهزهم الأحداث بصحة قوية؛ لأنهم لا يهتمون للخطوب، حتى أن الشعراء لم يَفُتْهم هذا المعنى، حيث يقول أحدهم:
وَفِي البَلادةِ مَا في العَزْمِ منْ جَلَد ** إنَّ البليد قويُّ النفْسِ عَاتيها

فَاسْأل أُوِلي العَزْم إنْ خارتْ عزائمهمْ ** عَنِ البَلادةِ هَلْ مَادتْ رَوَاسِيهَا؟

فالذي تظنه بلادة هو عزم قويٌّ في استقبال الأحداث والصمود لها.
إذن: الرحمة في منهج الله إنِ التزمنا به نأمن من الأدواء، ماديةَ كانت أم معنوية.

.تفسير الآية رقم (52):

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)}
(قُلْ) أي: للمنكرين لك {كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً..} [العنكبوت: 52] أي: حسبي أن يشهد الله لي بأنِّي بلّغْتُ، فشهادتكم عندي لا تنفع، كما أنه لا ينفعني إيمانكم، ولا يضرني كفركم، فأجري آخذه من ربي على مجرد البلاغ وقد بلَّغْتُ، وشهد الله لي بذلك.
وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ...} [الرعد: 43] أي: أنكم لم تكتفوا بالآيات، ولم تؤمنوا بها، لكني أكتفي برب هذه الآيات شهيداً بيني وبينكم، إذن: هناك خصومة في البلاغ بين محمد صلى الله عليه وسلم وقومه الذين يُكذِّبونه في البلاغ عن ربه.
فلا بُدَّ إذن من فَصْل في هذه الخصومة، وإذا ما نظرنا إلى قضايا الخَلْق في الخصومات وجدنا إمَّا أنْ يُقر المتهم، وإما أن يشهد شاهد حَقٍّ لا شاهد زور، ثم يعرض الأمر على القاضي ليحكم بالشهادة أو البينة.
ولا بُدَّ في القاضي ألاّ يكون صاحب هوى، ثم يأتي دور تنفيذ الحكم، وهي السلطة التنفيذية، وهذه أيضاً ينبغي ألاَّ يكون لها هوى، فتنفذ الحكم على حقيقته، فكأن الخصومات عند البشر تمرُّ بمراحل متعددة، وقد تتميع الحقائق إذا لم تتوفر الشروط اللازمة لهذه الأطراف، فلو شهد الشاهد زوراً أو مال القاضي أو المنفِّذ للحكم ودلَّس في التنفيذ لانقلبت المسائل.
أما في حكومة الحق سبحانه وتعالى في الخصومة بين محمد وقومه، فكفى به سبحانه حاكماً وقاضياً ومُنفِّذاً، لماذا؟ لأنه سبحانه: {يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض...} [العنكبوت: 52].
فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم السر وأَخْفى، فأيُّ شهادة إذن أعدل من شهادته؟ وهو سبحانه قاضٍ عادل يحكم بالحق؛ لأنه ليس له سبحانه هوىً يميل به إلى الباطل، وهو سبحانه لا يُبدل في تنفيذ الأحكام؛ لأنه يُنفّذ حكمه هو سبحانه.
إذن: مَنِ الفائز في حكومة قاضيها الحق تبارك وتعالى وأطراف الخصومة فيها محمد وقومه؟ فاز رسول الله في أن يكون الله هو الشهيد، وخسر الكافرين حين كفروا به، ولم تكْفِهم البينة التي جاءتهم في القرآن الكريم.
وعِلْم الله للغيب ليس علاجاً ومذاكرة ليعلم، إنما تأتي الأمور بتوقيت منه قديم أزلاً، والعالم يظهر على وَفْق ما يراه أزلاً؛ لذلك يقول سبحانه: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
أي: يقول للشيء، فكأنه موجود فعلاً ينتظر الأمر من الله بالظهور للناس، فقوله(كُنْ) للظهور فقط، أما مسألة الخَلْق فمنتهية أزلاً، و(الماكيت) موجود، فالحق سبحانه يعلم غَيْب السماوات والأرض، أما نحن فلا نعلم حتى غَيْب أنفسنا.
ويقول سبحانه: {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] فهل هناك أخفى من السر؟ قالوا: السر ما تُسِرُّه في نفسك، والأخفى منه أنْ يعلمه سبحانه قبل أن يكون في نفسك.
وقد وقف البعض عند قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: 29] وقوله سبحانه: {يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110].
يقولون: ما وجه امتنان الله بعلم الجهر من القول، وبعِلْم ما نُبدي، فهذا شيء غير مستور يعرفه الجميع؟
ونقول: افهم عن الله مراده، فالمعنى لم يقُلْ سبحانه: أعلم ما تبدي أنت، ولا ما تجهر به أنت، إنما ما تبدون كلكم، وما تجهرون به كلكم، ولتوضيح هذه المسألة تصوَّر مظاهرة من عدة مئات أو عدة آلاف تختلط بينهم الهتافات والأصوات وتتداخل الكلمات، بحيث لا تستطيع أن تميز صوت هذا من صوت ذاك.
لكن الحق سبحانه يستطيع تمييز هذه الأصوات، وإعادة كل منها إلى صاحبه؛ لذلك نرى في المظاهرات أن كل إنسان يستطيع أن يقول ما يشاء، ويهتف بما لا يجرؤ أن يهتف به منفرداً؛ لأن صوته سيختلط مع الأصوات، ويستتر فيها فلا يعرف مصدره، وهكذا يكون علم الجَهْر أقوى من علم الغَيْب.
فإنْ قلت: إن بعض العلماء باكتشافاتهم وبحوثهم توصلوا إلى معرفة أسرار كانت مستترة في الكون، كالكهرباء والذرة وغيرها، فهُمْ بذلك يعلمون الغيب. نقول: نعم، علموا شيئاً كان مستوراً في الكون، لكن علموه بمقدمات خلقها الله ويسَّرها لهم، فأخذوا هذه المقدمات وتوصَّلوا بها إلى اكتشافاتهم، كما يحلّ ولدك مثلاً تمرين الهندسة، فيستعين بالمعطيات.
إذن؛ فهو في حقيقة الأمر ليس غيباً، بل هو شيء موجود، لكن له ميلاد ووقت يظهر فيه، فإنْ جاء وقته يسَّر الله لخَلْقه الوصول إليه، إما بالبحث واستخدام المقدمات، فإذا صادف ميلاد السر بحث الخلق يُقال: إنهم أحاطواعِلْماً ببعض غيب الله.
ويقول تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ...} [البقرة: 255] أي: شاء أنْ يُولد، فإنْ جاء ميلاد السر، ولم يتوصَّلوا إليه ببحوثهم، ولم يقفوا على مقدماته كشفه الله لهم ولو مصادفة، وقد اكتشفوا كثيراً من أسرار الكون مصادفة.
فالغيب الحقيقي: هو الذي ليس له مقدمات تُوصِّل إليه، ولا يعلمه أحد إلا الله، والذي قال الله عنه: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ...} [الجن: 26-27] فالرسول- إذن- لا يعلم الغيب، إنما عُلِّم الغيب.
ثم يقول تعالى: {والذين آمَنُواْ بالباطل...} [العنكبوت: 52] أي: بعبادة ما دون الله من الأصنام والأوثان {وَكَفَرُواْ بالله...} [العنكبوت: 52] الخالق واجب الوجود {أولئك هُمُ الخاسرون} [العنكبوت: 52] لأن كفر الخَلْق بالخالق لا يؤثر في ذاته سبحانه، ولا في صفات الكمال فيه، لأنه سبحانه بصفات الكمال خلقهم، فله سبحانه صفات الكمال، آمنوا أم كفروا.
لكن فَرْق بين مَنْ يؤمن ومَنْ يكفر، فالإنسان بطبعه حريص على الحياة متمسك بها، حتى إنه إنْ أصابه مرض طلب العلاج ليصون حياته وهو يخاف الموت، ويرى مصارع الناس من حوله، وكيف سبقه أجداده ولم يخلد منهم أحد، ويرى أن الموت يأتي بلا أسباب؛ حتى قيل: والموت من غير سبب هو السبب.
إذن: فالموت حقيقة، لكن يشكُّ الناس فيها ولا يتصورونها لأنفسهم لأنهم يكرهونها؛ لذلك يقال في الأثر: ما رأيتْ يقيناً أشبه بالشكِّ من يقين الناس بالموت.
وليقين الإنسان في الموت نراه يحب البقاء في ولده، وفي ولد ولده ليبقى ذِكْره أطول فترة ممكنة، وما دام الأمر كذلك، فلماذا لا تؤمن بالله فيورثك الإيمانُ حياةً خالدة باقية لا نهايةَ لها، لا تفارقها ولا تفارقك، وهي حياة الآخرة. إذن: فمَن الخاسرون؛ الخاسرون هم الكافرون الذي قصروا حياتهم على عمرهم في الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ...}.