فصل: تفسير الآية رقم (53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (53):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)}
عجيب أنْ يطلب الإنسان لنفسه العذاب، وأن يستعجله إن أبطأ عليه، إذن: ما طلبه هؤلاء إلا لاعتقادهم أنه غير واقع بهم، وإلا لو ووَثِقُوا من وقوعه ما طلبوه.
{وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب...} [العنكبوت: 53] لأن كل شيء عند الله بميقات، وأجل، والأجل يختلف باختلاف أصحابه وهو أجل الناس وأعمارهم، وهي آجال متفرقة فيهم، لكن هناك أجل يجمعهم جميعاً، ويتفقون فيه، وهو أجل الساعة.
فقوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] أي: بآجالهم المتفرقة. أما أجل القيامة فأجل واحد مُسمّى عنده تعالى، ومن عجيب الفَرْق بن الأجلين أن الآجال المتفرقة في الدنيا تنهي حياة، أمّا أجل الآخرة فتبدأ به الحياة.
والمعنى {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب...} [العنكبوت: 53] أن المسألة ليست على هواهم ورغباتهم؛ لذلك يقول تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ...} [الأنبياء: 37] ويقول: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37].
لذلك لما عقد النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية بينه وبين كفار مكة، ورضي أنْ يعود بأصحابه دون أداء فريضة العمرة غضب الصحابة وعلي وعمر، ولم يعجبهم هذا الصلح، وكادوا يخالفون رسول الله غيرةً منهم على دينهم، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة رضي الله عنها وقال: (هلك المسلمون) قالت: ولم يا رسول الله؟ قال: (أمرتهم فلم يمتثلوا) فقالت: يا رسول الله اعذرهم، فهم مكروبون، جاءوا على شَوْقٍ لبيت الله، وكانوا على مقربة منه هكذا، ثم يُمنعون ويُصدُّون، اعذرهم يا رسول الله، ولكن امْضِ فاصنع ما أمرك الله به ودَعْهم، فإنْ هم رأوْكَ فعلتَ فعلوا، وعلموا أن ذلك عزيمة.
وفعلاً ذهب رسول الله، وتحلّل من عمرته، ففعل القوم مثله، ونجحت مشورة السيدة أم سلمة، وأنقذت الموقف.
ثم بيَّن الله لهم الحكمة في العودة هذا العام دون قتال، ففي مكة إخوان لكم آمنوا، ويكتمون إيمانهم، فإنْ دخلتم عليهم مكة فسوف تقتلونهم دون علم بإيمانهم.
وكان عمر- رضي الله عنه- كعادته شديداً في الحق، فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق؟ قال: صلى الله عليه وسلم: «بلى» قال: أليسوا على الباطل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بلى». قال: فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر: الزم غَرْزك يا عمر. يعني قِف عند حدِّك وحجِّم نفسك، ثم قال بعدها ليبرر هذه المعاهدة: ما كان فتح في الإسلام أعظمَ من فتح الحديبية- لا فتح مكة.
لماذا؟ لأن الحديبية انتزعت من الكفار الاعترافَ بمحمد، وقد كانوا معارضين له غير معترفين بدعوته، والآن يكاتبونه معاهدة ويتفقون معه على رأي، ثم إنها أعطت رسول الله فرصة للتفرغ لأمرالدعوة ونشرها في ربوع الجزيرة العربية، لكن في وقتها لم يتسع ظنُّ الناس لما بين محمد وربه، والعباد عادةً ما يعجلون، والله- عز وجل- لا يعجل بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد سبحانه.
ثم يقول تعالى: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [العنبكوت: 53] يعني: فجأة، وليس حسب رغبتهم {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53] لا يشعرون ساعتها أم لا يشعرون الآن أنها حق، وأنها واقعة لأجل مسمى؟
المراد لا يشعرون الآن أنها آتية، وأن لها أجلاً مُسمى، وسوف تباغتهم بأهوالها، فكان عليهم أن يعلموا هذه من الآن، وأن يؤمنوا بها. إذن: فليس المراد أنهم لا يشعرون بالبغتة؛ لأن شعورهم بالبغتة ساعتها لا ينفعهم بشيء.
ثم يقول الحق سبحانه: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب....}.

.تفسير الآية رقم (54):

{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)}
أي: قُلْ لهم إنْ كنتم تستعجلون العذاب فهو آتٍ لا محالة، وإنْ كنتم في شوق إليه فجهنم في انتظاركم، بل ستمتلئ منكم وتقول: هل من مزيد؟ والعذاب يتناسب وقدرة المعذِّب قوة وضعفاً، وإحاطة وشمولاً، فإذا كان المعذِّب هو الله- عز وجل- فعذابه لا يُعذِّبه أحد من العالمين.
ومعنى {لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} [العنكبوت: 54] الإحاطة أن تشمل الشيء من جميع جهاته، فالجهات أربع: شمال وجنوب وشرق وغرب، وبين الجهات الأصلية جهات فرعية، وبين الجهات الفرعية أيضاً جهت فرعية، والإحاطة هي التي تشمل كل هذه الجهات.
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا...} [الكهف: 29] يعني: من كل جهاتهم.
ومن عجيب أمر النار في الآخرة أن النار في الدنيا يمكن أنْ تُعذِّب شخصاً بنار تحوطه لا يستطيع أنْ يُفلت منها، لكن النار بطبيعتها تعلو؛ لأن اللهب يتجه إلى أعلى، أما إنْ كانت تحت قدمك فيمكنك أنْ تدوسها بقدمك، كما تطفئ مثلاً(عُقْب) السيجارة، فحين تدوسه تمنع عنه الأكسوجين، فتنطفئ النار فيه، أما في نار الآخرة فتأتيهم من كل جهاتهم: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب...}.

.تفسير الآية رقم (55):

{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}
وفي موضع آخر يقول سبحانه: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16].
وهاتان الجهتان لا تأتي منهما النار في الدنيا؛ لأن النار تطبيعتها تصعد إلى أعلى، وإنْ كانت تحت القدم تنطفيء. إذن: هذا ترقٍّ في العذاب، حيث لا يقتصر على الإحاطة من جميع جهاته، إنما يأتيهم أيضاً من فوقهم ومن تحتهم.
لكن قد يتجلَّد المعذَّب للعذاب، ويتماسك حتى لا تشمت فيه، وهذا يأتيه عذاب من نوع آخر، عذاب يُهينه ويُذلُّه، ويُقال له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] لذلك وصف العذاب، بأنه: مهين، وأليم، وعظيم، وشديد.
وقوله تعالى: {وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 55] لم يقل: ذوقوا النار، إنما ذوقوا ما عملتم، كأن العمل نفسه سيكون هو النار التي تحرقهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {ياعبادي الذين...}.

.تفسير الآية رقم (56):

{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)}
بعد أنْ تحدَّث الحق سبحانه عن الكفار والمكذَّبين أراد أنْ يُحدِث توازناً في السياق، فحدَّثنا هنا عن المؤمنين ليكون أنكَى للكافرين، حين تردف الحديث عنهم، وعما يقع لهم من العذاب بما سينال المؤمنين من النعيم، فتكون لهم حسرة شديدة، فلو لم يأخذ المؤمنون هذا النعيم لكانَ الأمر أهونَ عليهم.
وقوله تعالى: {ياعبادي...} [العنكبوت: 56] سبق أن قُلْنا: إن الخَلْق جميعاً عبيد الله، وعبيد الله قسمان: مؤمن وكافر، وكل منهما جعله الله مختاراً: المؤمن وعبيد الله قسمان: مؤمن وكافر، وكل منهما جعله الله مختاراً: المؤمن تنازل عن اختياره لاختيار ربه، وفضَّل مراده سبحانه على مراد نفسه، فصار عبداً في كل شيء حتى في الاختيار، فلما فعلوا ذلك استحقوا أن يكونوا عبيداً وعباداً لله.
أما الكافر فتأبَّى على مراد ربه، واختار الكفر على الإيمان، والمعصية على الطاعة، ونسي أنه عبد الله مقهور في أشياء لا يستطيع أن يختار فيها، وكأن الله يقول له: أنت أيها الكافر تمردْتَ على ربك، وتأبَّيْتَ على منهجه في(افعل) و(لا تفعل)، واعتدْتَ التمرد على الله. فلماذا لا تتمرد عليه فيما يُجريه عليك من أقدار، لماذا لا تتأبَّى على المرض أو على الموت؟ إذن: فأنت في قبضة ربك لا تستطيع الانفلات منها.
وعليه، فالمؤمن والكافر سواء في العبودية لله، لكن الفرْق في العبادية حيث جاء المؤمن مختاراً راضياً بمراد الله، وفَرْق بين عبد يُطيعك وأنت تجرُّه في سلسلة، وعبد يخدمك وهو طليق حُرٌّ. وهكذا المؤمن جاء إلى الإيمان بالله مختاراً مع إمكانية أنْ يكفر، وهذه هي العبودية والعبادية معاً.
ومعنى {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ...} [العنكبوت: 56] يخاطبهم ربهم هذا الخطاب وهم في الأرض وفي سعتها، ليلفت أنظارهم أنهم سيضطهدون ويُعذَّبون، وسيقع عليهم إيذاء وإيلام، فيقول لهم: إياكم أن تَصِرْفكم هذه القسوة، إياكم أنْ تتراجعوا عن دعوتكم، فإذا لم يناسبكم هذا المكان فاذهبوا إلى مكان آخر فأرضي واسعة فلا تُضيِّقوها على أنفسكم.
لذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض لله، والعباد كلهم لله، فإنْ أبصرتَ خيراً فاقِمْ حيث يكون».
فالذي نعاني منه الآن هو هذه الحدود وهذه القيود التي وضعناها في جغرافية أرض الله، فضيَّقنا على أنفسنا ما وسَّعه الله لنا، فأرْضُ الله الواسعة ليست فيها تأشيرات دخول ولا جوازات سفر ولا(بلاك لست).
لذلك قلنا مرة في الأمم المتحدة: إنكم إنْ سعيتُم لتطبيق مبدأ واحد من مبادئ القرآن فلن يوجد شر في الأرض، ألا وهو قوله تعالى: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10].
والمعنى: الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام، فإن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر، وإلا فالذي يُتعِب الناس الآن أن توجد أرض بلا رجال، أو رجال بلا أرض، وها هي السودان مثلاً بجوارنا، فيها أجود الأراضي لا تجد مَنْ يزرعها، لماذا؟ للقيود التي وضعناها وضيَّقنا بها على أنفسنا.
وصدق الشاعر حين قال:
لَعْمرُكَ مَا ضَاقَتْ بِلادٌ بأهِلْها ** ولكنَّ أخْلاق الرجَالِ تَضِيقُ

ثم يقول سبحانه: {فَإِيَّايَ فاعبدون} [العنكبوت: 56] فإنْ أخذنا بمبدأ الهجرة فلابد أن نعلم أن للهجرة شروطاً أولها: أنْ تهاجر إلى مكان يحفظ عليك إيمانك ولا ينقصه، وانظر قبل أنْ تخرج من بلدك هل ستتمكن في المهجر من أداء أمور دينك كما أوجبها الله عليك؟ فإنْ كان ذلك فلا مانع، وإلا فلا هجرةَ لمكان يُخرِجني من دائرة الإيمان، أو يحول بيني وبين أداء أوامر ديني.
وهل يُرضيك أنْ تعيش لتجمع الأموال في بلاد الكفر، وأنْ تدخل عليك ابنتك مثلاً وفي يدها شاب لا تعرف عنه شيئاً قد فُرِض عليك فَرْضاً، فقد عرفته على طريقة القوم، ساعتها لن ينفعك كل ما جمعت، ولن يصلح ما جُرِح من كرامتك.
وسبق أن أوضحنا أن الهجرة قد تكون إلى دار أَمْن فقط، حيث تأمن فيها على دينك، وتأمن ألاَّ يفتنك عنه أحد، ومن ذلك الهجرة التي أمر بها رسول الله إلى الحبشة، وهي ليست أرْضَ إيمان، بل أرض أَمْن.
وقد عَّلل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالهجرة إليها بقوله: (إن فيها مَلِكاً لا يُظْلَم عنده أحد) وقد تبيَّن بعد الهجرة إليها صِدْق رسول الله، وكأنه على علم تام بالبيئة المحيطة به وبأحوال أهلها.
لذلك لم يأمرهم مثلاً بالهجرة أو أطراف الجزيرة العربية؛ لأنها كانت خاضعة لقريش بما لها من سيادة على الكعبة، فلا يستطيع أحد أنْ يحمي مَنْ تطلبه قريش، حتى الذين هاجروا بدينهم إلى الحبشة لم يَسْلَموا من قريش، فقد أرسلتْ إلى النجاشي مَنْ يكلمه في شأنهم، وحملوا إليه الهدايا المغرية ليسلمهم المهاجرين من المؤمنين بمحمد، لكن لم تفلح هذه الحيلة مع الملك العادل الذي راود الإيمانُ قلبه، فأحب المؤمنين ودافع عنهم ورفض إعادتهم ويقال: إنه آمن بعد ذلك، ولما مات صلَّى عليه رسول الله.
أما الهجرة إلى المدينة بعد الهجرة إلى الحبشة فكان لدار أَمْن وإيمان معاً، حيث تأمن فيها على دينك، وتتمكن فيها من نشره والدعوة إليه، وتجد بها إخواناً مؤمنين يُواسُونك بأموالهم، وبكل ما يملكون، وقد ضرب الأنصار في مدينة رسول الله أروع مثل في التاريخ في المواساة، فالأنصاري كان يرى أخاه المهاجر ترك أهله في مكة، وله إرْبة وحاجة للنساء، فيُطلِّق له إحدى زوجاته ليتزوجها، فانظر ماذا فعل الإيمان بالأنصار.
وفي قوله سبحانه: {فَإِيَّايَ فاعبدون} [العنكبوت: 56] أسلوب يُسمُّونه أسلوب قَصْر، مثل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
وفَرْق بين أنْ نقول: نعبدك. و(إياك نعبد): نعبدك لا تمنع أنْ نعبد غيرك، أمّا(إيَّاك نَعْبد) فتقصر العبادة على الله- عز وجل-، ولا تتجاوزه إلى غيره.
فالمعنى- إذن: إنْ كنت ستهاجر فلتكُن هجرتك لله، وقد فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (فَمْن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
ثم يقول الحق سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت...}.