فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (18):

{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)}
معنى: تصعر من الصَّعَر، وهو في الأصل داء يصيب البعير يجعله يميل برقبته، ويشبه به الإنسان المتكبر الذي يميل بخدِّه، ويُعرض عن الناس تكبّراً، ونسمع في العامية يقولون للمتكبر(فلان ماشي لاوي رقبته).
فقول الله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ..} [لقمان: 18] واختيار هذا التشبيه بالذات كأن الحق سبحانه يُنبِّهنا أن التكبُّر وتصعير الخدِّ داء، فهذا داء جسدي، وهذا داء خلقي. وقد تنبه الشاعر إلى هذا المعنى فقال:
فَدَعْ كُلَّ طَاغِيةٍ للزَّمانِ ** فإنَّ الزمانَ يُقيم الصَّعَر

يعني: إذا لم يستطع أبناء الزمان تقويم صعر المتكبر، فدعْه للزمان فهو جدير بتقويمه، وكثيراً ما نرى نماذج لأناس تكبروا وتجبروا، وهم الآن لا يستطيع الواحد منهم قياماً أو قعوداً، بل لا يستطيع أنْ يذب الطير عن وجهه.
والإنسان عادة لا يتكبر إلا إذا شعر في نفسه بميزة عن الآخرين، بدليل أنه إذا رأى مَنْ هو أعلى منه انكسر وتواضع وقوَّم من صَعره، ومثَّلنا لذلك ب(فتوة) الحارة الذي يجلس على القهوة مثلاً واضعاً قدماً على قدم، غير مُبَال بأحد، فإذا دخل عليه(فتوة) آخر أقوى منه تلقائياً يعتدل في جلسته.
وهذه المسألة تفسر لنا الحكمة التي تقول(اتق شر من أحسنت إليه) لماذا؟ لأن الذي أحسنتَ إليه مرتْ به فترة كان ضعيفاً محتاجاً وأنت قوي فأحسنتَ إليه، وقدَّمْتَ له المعروف الذي قوّم حياته فأصبح لك يَدٌ عليه، وكلما رآك ذكَّرته بفترة ضعفه، ثم إن الأيام دُوَل تدور بين الخَلْق، والضعيف يصبح قوياً ويحب أنْ يُعلي نفسه بين معارفه، لكنه لابد أن يتواضع حينما يرى مَنْ أحسن إليه، وكأن وجود مَنْ أحسن إليه هو العقبة أمام عُلُوِّه وكبريائه؛ لذلك قبل:(اتق شر من أحسنت إليه).
ثم أن الذي يتكبر ينبغي أنْ يتكبَّر بشيء ذاتي فيه لا بشيء موهوب له، وإذا رأيتَ في نفسك ميزة عن الآخرين فانظر فيما تميزوا وهم به عليك، وساعة تنظر إلى الخَلْق والخالق تجد كل مخلوق لله جميلاً.
لذلك تروى قصة الجارية التي كانت تداعب سيدتها، وهي تزينها وتدعو لها بفارس الأحلام ابن الحلال، فقالت سيدتها: لكني مشفقة عليك؛ لأنك سوداء لم ينظر أحد إليك، فقالت الجارية: يا سيدتي، اذكري أن حُسْنك لا يظهر لأعين الناس إلا إذا رأوا قُبْحي- فالذي تراه أنت قبيحاً هو في ذاته جميل، لأنه يبدي جمال الله تعالى في طلاقة القدرة- ثم قالت: يا هذه، لا تغضبي الله بشيءٍ من هذا، أتعيبين النقش، أم تعيبين النقاش؟ ولو أدركت ما فيَّ من أمانة التناول لك في كل ما أكلف به وعدم أمانتك فيما يكلفك به أبوك لعلمت في أي شيء أنا جميلة.
ويقول الشاعر في هذا المعنى:
فَالوَجْه مِثْلُ الصُّبْح مُبيضُّ ** والشَّعْر مثْل الليْل مُسْوَدُّ

ضِدَّانِ لما اسْتجْمعَا حَسُناَ ** والضِّد يُظْهِر حُسْنَهُ الضِّدُّ

والله تعالى يُعلِّمنا هذا الدرس في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ...} [الحجرات: 11].
فإذا رأيتَ إنساناً دونك في شيء ففتش في نفسك، وانظر، فلابد أنه متميز عليك في شيء آخر، وبذلك يعتدل الميزان.
فالله تعالى وزَّع المواهب بين الخَلْق جميعاً، ولم يحابِ منهم أحداً على أحد، وكما قلنا: مجموع مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الآخر.
وسبق أن ذكرنا أن رجلاً قال للقمان: لقد عرفناك عبداً أسود غليظ الشفاه، تخدم فلاناً وترعى الغنم، فقال لقمان: نعم، لكني أحمل قلباً أبيض، ويخرج من بين شفتيَّ الغليظتين الكلام العذب الرقيق.
ويكفي لقمان فخراً أن الله تعالى ذكر كلامه، وحكاه في قرآنه وجعله خالداً يُتْلى ويُتعبَّد به، ويحفظه الله بحفظه لقرآنه.
ولنا مَلْحظ في قوله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ..} [لقمان: 18] فكلمة للناس هنا لها مدخل، وكأن الله تعالى يقول لمن يُصعِّر خده؛ لا تَدْعُ الناس إلى العصيان والتمرد على أقدار الله بتكبُّرك عليهم وإظهار مزاياك وسَتْر مزاياهم، فقد تصادف قليلَ الإيمان الذي يتمرد على الله ويعترض على قدره فيه حينما يراك متكبراً متعالياً وهو حقير متواضع، فإنْ كنت محترف صَعَر و(كييف) تكبُّر، فليكُنْ ذلك بينك وبين نفسك، كأن تقف أمام المرآة مثلاً وتفعل ما يحلو لك مما يُشْبع عندك هذا الداء.
فكأن كلمة {لِلنَّاسِ..} [لقمان: 18] تعني: أن الله تعالى يريد أنْ يمنع رؤية الناس لك على هذا الحال؛ لأنك قد تفتن الضعاف في دينهم وفي رضاهم عن ربهم.
ثم يقول لقمان: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً..} [لقمان: 18] المرح هو الاختيال والتبختر، فربُّكَ لا يمنعك أنْ تمشي في الأرض، لكن يمنعك أنْ تمشي مِشيْة المتعالي على الناس، المختال بنفسه، والله تعالى يأمرنا: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور} [الملك: 15].
فالمشي في الأرض مطلوب، لكن بهيئة خاصة تمشي مَشْياً سوياً معتدلاً، فعمر- رضي الله عنه- رأى رجلاً يسير متماوتاً فنهره، وقال: ما هذا التماوت يا هذا، وقد وهبك الله عافية، دَعْها لشيخوختك.
ورأى رجلاً يمشي مشية الشطار- يعني: قُطَّاع الطرق- فنهاه عن القفز أو الجري والإسراع في المشي.
إذن: المطلوب في المشي هيئة الاعتدال، لذلك سيأتي في قول لقمان: {واقصد فِي مَشْيِكَ...} [لقمان: 19] يعني: لا تمشِ مشية المتهالك المتماوت، ولا تقفز قفز أهل الشر وقُطَّاع الطريق.
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] المختال: هو الذي وجد له مزية عند الناس، والفخور الذي يجد مزية في نفسه، والله تعالى لا يحب هذا ولا ذاك؛ لأنه سبحانه يريد أنْ يحكم الناس بمبدأ المساواة ليعلم الناس أنه تعالى ربُّ الجميع، وهو سبحانه المتكبِّر وحده في الكون، وإذا كان الكبرياء لله وحده فهذا يحمينا أنْ يتكبِّر علينا غيره، على حدِّ قول الناظم:
والسُّجُود الذي تَجْتويه ** من أُلُوفِ السُّجُودِ فيه نَجَاةُ

فسجودنا جميعاً للإله الحق يحمينا أن نسجد لكل طاغية ولكل متكبر ومتجبر، فكأن كبرياء الحق تبارك وتعالى في صالح العباد.
ثم يقول الحق سبحانه على لسان لقمان عليه السلام: {واقصد فِي مَشْيِكَ...}.

.تفسير الآية رقم (19):

{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}
القصد: هو الإقبال على الحدث، إقبالاً لا نقيضَ فيه لطرفين، يعني: توسطاً واعتدالاً، هذا في المشي {واغضض مِن صَوْتِكَ..} [لقمان: 19] أي: اخفضه وحَسْبك من الأداء ما بلغ الأذن.
لكن، لماذا جمع السياق القرآني بين المشي والصوت؟ قالوا: لأن للإنسان مطلوبات في الحياة، هذه المطلوبات يصل إليها، إما بالمشي- فأنا لا أمشي إلى مكان إلا إذا كان لي فيه مصلحة وغرض- وإما بالصوت فإذا لم أستطع المشي إليه ناديته بصوتي.
إذن: إما تذهب إلى مطلوبك، أو أنْ تستدعيه إليك. والقصد أي التوسط في الأمر مطلوب في كل شيء؛ لأن كل شيء له طرفان لابد أن يكون في أحدهما مبالغة، وفي الآخرة تقصير؛ لذلك قالوا: كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
ثم يقول سبحانه مُشبِّهاً الصوت المرتفع بصوت الحمار: {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} [لقمان: 19] والبعض يفهم هذه الآية فهماً يظلم فيه الحمير، وعادة ما يتهم البشرُ الحميرَ بالغباء وبالذلة، لذلك يقول الشاعر:
ولاَ يُقيم علَى ضيَمْ يُرَادُ به ** إلاَّ الأذلاَّنِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ

هذا على الخسفْ مربوطٌ برمته ** وذَا يُشَدُّ فَلاَ يَرْثِى لَهُ أَحَد

ونعيب على الشاعر أن يصف عِيرَ الحي- والمراد الحمار- بالذلة، ويقرنه في هذه الصفة بالوتد الذي صار مضرب المثل في الذلة حتى قالوا(أذلّ من وتد) لأنك تدقّ عليه بالآلة الثقيلة حتى ينفلق نصفين، فلا يعترض عليك، ولا يتبرم ولا يغيثه أحد، فالحمار مُسخّر، وليس ذليلاً، بل هو مذلَّل لك من الله سبحانه.
ولو تأملنا طبيعة الحمير لوجدنا كم هي مظلومة مع البشر، فالحمار تجعله لحمل السباخ والقاذورات، وتتركه ينام في الوحل فلا يعترض عليك، وتريده دابة للركوب فتنظفه وتضع عليه السِّرْج، وفي فمه اللجام، فيسرع بك إلى حيث تريد دون تذمر أو اعتراض.
وقالوا في الحكمة من علو صوت الحمار حين ينهق: أن الحمار قصير غير مرتفع كالجمل مثلاً، وإذا خرج لطلب المرعى ربما ستره تلّ أو شجرة فلا يهتدي إليه صاحبه إلا إذا نهق، فكأن صوته آلة من آلات البادية الطبيعية ولازمة من لوازمه الضرورية التي تناسب طبيعته.
لذلك يجب أن نفهم قول الله تعالى: {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} [لقمان: 19] فنهيق الحمار ليس مُنكَراً من الحمار، إنما المنكر أن يشبه صوت الإنسان صوت الحمار، فكأن نهيق الحمار كمال فيه، وصوتك الذي يشبهه مُنكَر مذموم فيك، وإلا فما ذنب الحمار؟
إنك تلحظ الجمل مثلاً وهو أضخم وأقوى من الحمار إذا حمَّلته حِمْلاً فإنه(ينعَّر) إذا ثقل عليه، أما الحمار فتُحمِّله فوق طاقته فيحمل دون أنْ يتكلم أو يبدي اعتراضاً، الحمار بحكم ما جعل الله فيه من الغريزة ينظر مثلاً إلى(القناة) فإنْ كانت في طاقته قفز، وإنْ كانت فوق طاقته امتنع مهما أجبرته على عبورها.
أما الإنسان فيدعوه غروره بنفسه أنْ يتحمّل ماَلا يطيق. ويُقال: إن الحمار إذا نهق فإنه يرى شيطاناً، وعلمنا بالتجربة أن الحيوانات ومنها الحمير تشعر بالزلزال قبل وقوعه، وأنها تقطِّع قيودها وتفرّ إلى الخلاء، وقد لوحظ هذا في زلزال أغادير بالمغرب، ولاحظناه في زلزال عام 1992م عندما هاجت الحيوانات في حديقة الحيوان قبيل الزلزال.
ثم إن الحمار إنْ سار بك في طريق مهما كان طويلاً فإنه يعود بك من نفس الطريق دون أنْ تُوجِّهه أنت، ويذهب إليه مرة أخرى دون أنْ يتعدَّاه، لكن المتحاملين على الحمير يقولون: ومع ذلك هو حمار لأنه لا يتصرف، إنما يضع الخطوة على الخطوة، ونحن نقول: بل يُمدح الحمار حتى وإنْ لم يتصرف؛ لأنه محكوم بالغريزة.
كذلك الحال في قول الله تعالى: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً...} [الجمعة: 5].
فمتى نثبت الفعل وننفيه في آن واحد؟ المعنى: حملوها أي: عرفوها وحفظوها في كتبهم وفي صدورهم، ولم يحملوها أي: لم يؤدوا حق حملها ولم يعملوا بها، مثَلهم في ذلك {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً...} [الجمعة: 5] فهل يُعَدُّ هذا ذَماً للحمار؟ لا، لأن الحمار مهمته الحمل فحسب، إنما يُذَمّ منهم أَنْ يحملوا كتاب الله ولا يعملوا به، فالحمار مهمته أنْ يحمل، وأنت مهمتك أنْ تفقه ما حملت وأنْ تؤديه.
فالاعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلاة وفي التعبد يُعلِّمنا الحق سبحانه: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [الإسراء: 110] أما ما تسمعه من(الجعر) في مكبرات الصوت والنُّواح طوال الليل فلا ينالنا منه إلا سخط المريض وسخط صاحب العمل وغيرهم، ولقد تعمدنا عمل إحصاء فوجدنا أن الذين يأتون إلى المسجد هم هم لم يزيدوا شيئاً ب(الميكروفونات).
كذلك الذين يعرفون أصواتهم بقراءة القرآن في المساجد فيشغلون الناس، وينبغي أن نترك كل إنسان يتقرب إلى الله بما يخفّ على نفسه: هذا يريد أنْ يصلي، وهذا يريد أن يُسبِّح أو يستغفر، وهذا يريد أنْ يقرأ في كتاب الله، فلماذا تحمل الناس على تطوعك أنت؟
بعد أنْ عرضتْ لنا الآيات طرفاً من حكمة لقمان ووصاياه لولده تنقلنا إلى معنى كوني جديد: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله...}.

.تفسير الآية رقم (20):

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)}
التسخير: هو الانقياد للخالق الأعلى بمهمة يؤديها بلا اختيار في التنقُّل منها، كما سخر الله الشمس والقمر.. إلخ، فعلى الرغم من أن كثيراً من الناس منصرفون عن الله وعن منهج الله لم تتأبَّ الشمس في يوم من الأيام أنْ تشرق عليهم، ولا امتنع عنهم الهواء، ولا ضنَّتْ عليهم الأرض بخيراتها ولا السماء بمائها، لماذا؟ لأنها مُسخَّرة لا اختيار لها.
ولا نفهم من ذلك أن الله سخَّر هذه المخلوقات رغماً عنها، فهذا فهم سطحي لهذه المسألة، حيث يرى البعض أن الإنسان فقط هو الذي خُيِّر، إنما الحقيقة أن الكون كله خُيِّر، وهذا واضح في قول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
إذن: فالجميع خُيِّر، خُيِّرت السماوات والأرض والجبال فاختارت أن تكون مُسخَّرة لا إرادة لها، وخُيِّر الإنسان فاختار أنْ يكون مختاراً؛ لأن له عقلاً يفكر به ويقارن بين البدائل.
ومعنى التسخير أنك لا تستطيع أن تخضع ما ينفعك من الأشياء في الكون بعقلك ولا بإرادتك ولا بالمنهج، والدليل على ذلك أنك إذا صِدْتَ طيراً وحبسته في قفص ومنعته من أنْ يطير في السماء وتريد أن تعرف: أهو مُسخَّر لك أم غير مسخر وحبسه حلال أم حرام؟ فافتح له باب القفص، فإنْ ظلَّ في صحبتك فهو مُسخَّر لك، راضٍ عن بقائه معك باللقمة التي يأكلها أو المكان الذي أعددتَهُ له، وإنّ خرج وترك صحبتك فاعلم أنه غير مُسخَّر لك، ولا يحقُّ لك أن تستأنسه رغماً عنه.
لذلك سيدنا عمر- رضي الله عنه- لما مَرَّ بغلام صغير يلعب بعصفور أراد أنْ يُعلِّمه درساً وهو ما يزال(عجينة) طيِّعة، فأقنعه أنْ يبيعه العصفور، فلما اشتراه عمر وصار في حوزته أطلقه، فقال الغلام: فو الله ما قَصَرْتُ بعدها حيواناً على الأنس به.
وسبق أنْ تكلمنا عن مسألة التسخير، وكيف أن الله سخر الجمل الضخم بحيث يسوقه الصبي الصغير ولم يُسخِّر لك مثلاً البرغوث فلو لم يُذلِّل الله لك هذه المخلوقات ويجعلها في خدمتك ما استطعت أنت تسخيرها بقوتك.
وقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..} [لقمان: 20] أسبغ: أتمّ وأكمل، ومنها قوله تعالى عن سيدنا داود: {أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ...} [سبأ: 11] أي: دروعاً ساترة محكمة تقي لابسها من ضربات السيوف وطعنات الرماح، والدروع تُجعل على الأعضاء الهامة من الجسم كالقلب والرئتين، وقد علَّم الله تعالى داود أن يصنع الدروع على هيئة الضلوع، ليست ملساء، إنما فيها نتوءات تتحطم عليها قوة الضربة، ولا تتزحلق فتصيب مكاناً آخر.
ورُوِي أن لقمان رأى دواد- عليه السلام- يعجن الحديد بين يديه فتعجب، لكنه لم يبادر بالسؤال عما يرى وأمهله إلى أن انتهى من صنعته للدرع، فأخذه ولبسه وقال: نِعْمَ لَبُوس الحرب أنت، فقال لقمان: الصمت حُكْمٌ وقليل فاعله فظلت حكمة تتردد إلى آخر الزمان.
فمعنى أسبغ علينا النعمة: أتمها إتماماً يستوعب كل حركة حياتكم، ويمدكم دائماً بمقوِّمات هذه الحياة بحيث لا ينقصكم شيء، لا في استبقاء الحياة، ولا في استبقاء النوع؛ لأن الذي خلق سبحانه يعلم كل ما يحتاجه المخلوق.
أما إذا رأيتَ قصوراً في ناحية، فالقصور من ناحية الخَلْق في أنهم لم يستنبطوا من معطيات الكون، أو استنبطوا خيرات الكون، لكن بخلوا بها وضنُّوا على غيرهم، وهذه هي آفة العالم في العصر الحديث، حيث تجد قوماً قعدوا وتكاسلوا عن البحث وعن الاستنباط، وآخرين جدُّوا، لكنهم بخلوا بثمرات جدهم، وربما فاضتْ عندهم الخيرات حتى ألقَوْها في البحر، وأتلفوها في الوقت الذي يموت فيه آخرون جوعاً وفقراً.
إذن: فآفة العالم ليس في أنه لا يجد، إنما في أنه لا يحسن استغلال ما يجد من خيرات، ومن مُقوِّمات لله تعالى في كونه. فقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..} [لقمان: 20] هذه حقيقة لا ينكرها أحد، فهل تنكرون أنه خلقكم، وخلق لكم من أنفسكم أزواجاً منها تتناسلون؟
هل تنكرون أنه خلق السماوات بما فيها من الكواكب والمجرَّات، وخلق الليل فيه منامكم، والنهار وفيه سعيكم على معايشكم؟ ثم في أنفسكم وما خلقه فيكم من الحواس الظاهرة وغير الظاهرة، وجعل لكل منها مجالاً ومهمة تؤديها دون أنْ تشعر أنت بما أودعه الله في جسمك من الآيات والمعجزات، وكل يوم يطلع علينا العلم بجديد من نِعَم الله علينا في أنفسنا وفي الكون من حولنا.
فمعنى {ظَاهِرَةً..} [لقمان: 20] أي: التي ظهرتْ لنا: {وَبَاطِنَةً..} [لقمان: 20] لم نصل إليها بعد، ومن نِعَم الله علينا ما ندركه، ومنها ما لا ندركه.
تأمل في نفسك مثلاً الكليتين وكيف يعمل بداخلك وتصفي الدم من البولينا، فتنقيه وأنت لا تشعر بها، وأول ما فكر العلماء في عمل بديل لها حال فشلها صمموا جهازاً يملأ حجرة كبيرة، كانت نصف هذا المسجد من المعدات لتعمل عمل الكليتين، ثم تبين لهم أن الكُلْية عبارة عن مليون خلية لا يعمل منها إلا مائة بالتناوب.
وقالوا: إن الفشل الكُلَوي عبارة عن عدم تنبه المائة خلية المناط بها العمل في الوقت المناسب يعني المائة الأولى أدَّتْ مهمتها وتوقفت دون أنْ تنبه المائة الأخرى، ومن هندسة الجسم البشري أن خلق الله للإنسان كليتين، حتى إذا تعطلت إحداهما قامت الأخرى بدورها.
أما النعم الباطنة فمنه ما يُكتشف في مستقبل الأيام من آيات ونِعَم، فمنذ عدة سنوات أو عدة قرون لم نكُنْ نعرف شيئاً عن الكهرباء مثلاً، ولا عن السيارات وآلات النقل وعصر العجلة والبخار.
إلخ.
كلها نِعَم ظاهرة لنا الآن، وكانت مستورة قبل ذلك أظهرها النشاط العلمي والبحث والاستنباط من معطيات الكون، وحين تحسب ما أظهره العلم من نِعَم الله تجده حوالي 3% ونسبة 97% عرفها الإنسان بالصدفة.
وقلنا: إن أسرار الله ونعمه في كونه لا تتناهى، وليس لأحد أن يقول: إن ما وضعه الله في الأرض من آيات وأسرار أدى مهمته؛ لأنه باقٍ ببقاء الحياة الدنيا، ولا يتوقف إلا إذا تحقَّق قوله تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس...} [يونس: 24].
وفي الآخرة سنرى من آيات الله ومن عجائب مخلوقاته شيئاً آخر، وكأن الحق تعالى يقول لنا: لقد رأيتُم آياتي في الدنيا واستوعبتموها، فتعالوا لأُريكم الآيات الكبرى التي أعددتها لكم في الآخرة.
ففي الآخرة سأنشئكم نشأة أخرى، بحيث تأكلون ولا تتغوَّطون ولا تتألمون، وتمر عليكم الأعوام ولا تشيبون، ولا تمرضون، ولا تموتون، لقد كنتم في الدنيا تعيشون بأسبابي، أما في الآخرة فأنتم معي مع المسبِّب سبحانه، فلا حاجة لكم للأسباب، لا لشمس ولا لقمر ولا.. إلخ.
لذلك نقول: من أدب العلماء أنْ يقولوا اكتشفنا لا اخترعنا؛ لأن آيات الله ونِعَمه مطمورة في كونه تحتاج لمن يُنقِّب عنها ويستنتجها مما جعله الله في كونه من معطيات ومقدمات.
وسبق أنْ قلنا: إن كل سرٍّ من أسرار الله في كونه له ميلاد كميلاد الإنسان، فإذا حان وقته أظهره الله، إما ببحث العلماء وإلا جاء مصادفة تكرُّماً من الله تعالى على خَلْقه الذين قَصُرَت جهودهم عن الوصول إلى أسراره تعالى في كونه.
وفي هذا إشارة مقدمة لنْ نؤمن بالغيب الذي أخبرنا الله به، فما دُمْنا قد رأينا نِعَمه التي كانت مطمورة في كونه فينبغي علينا أنْ نؤمنَ بما يخبرنا به من الغيب، وأنْ نأخذَ من المُشاهَد دليلاً على ما غاب.
واقرأ في هذه المسألة قول الله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ...} [البقرة: 255] أي: شاء سبحانه أنْ يوجد هذا الغيب، وأن يظهر للناس بعد أنْ كان مطموراً، فإنْ صادف بحثاً جاء مع البحث، وإنْ لم يصادف جاء مصادفة وبلا أسباب، بدليل أنه نسب إحاطة العلم لهم.
أما الغيب الذي ليس له مُقدِّمات توصل إليه، ولا يطلع عليه إلا الله فهو المعنيّ بقوله تعالى: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ...} [الجن: 26-27].
وقال سبحانه: {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..} [لقمان: 20] لأن الظاهرة تلفتنا إلى الإيمان بالله واجب الوجود الأعلى، والباطنة يدخرها الله لمن يأتي بعد، ثم يدخر ادخاراً آخر، بحيث لا يظهر إلا حين نكون مع الله في جنة الله.
وقد حاول العلماء أن يُعدِّدوا النعم والآيات الظاهرة والباطنة، فالظاهرة ما يعطيه لنا في الدنيا ظاهراً، والباطنة ما أخبرنا الله بها، فمثلاً حين تريد الجهاد في سبيل الله تُعِدُّ لذلك عُدَّته من سلاح وجنود.. إلخ وتأخذ بالأسباب، فيؤيدك الله بجنود من عنده لم ترَوْها، كما قال سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ...} [الأنفال: 12].
والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا ببعض هذه النعم الباطنة، فيقول: (للمؤمن ثلاثة هي له وليست له- يعني ليست من عمله- أما الأولى: أن المؤمنين يصلون عليه، وأما الثانية فجعل الله له ثلث ماله يوصي به- يعني: لا يتركه للورثة إنما يتصرف هو فيه، وكان المنطق أن تستفيد بما لك وأنت حيٌّ، فإذا ما انتهيت فليس لك منه شيء وينتقل إلى الورثة يوزعه الله تعالى بينهم بالميراث الذي شرعه، فمن النعم أن يباح لك التصرف في ثلث ما لك توصي به لتُكفّر به عن سيئاتك وتُطَهر به ذنوبك- أما الثالثة: أن الله تعالى ستر مساويك عن خَلْقه، ولو فضحك بها لنبذك أهلك وأحبابك وأقرباؤك).
إن من أعظم النعم علينا أن يحجب الله الغيب عن خَلْق الله، ولو خيَّرتَ أيَّ إنسان: أتحب أن تعرف غَيْب الناس ويعرفوا غيبك؟ فلا شكَّ في أنه لن يرضى بذلك أبداً.
والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذه المسألة في قوله: (لو تكاشفتم ما تدافنتم) يعني: لو ظهر المستور من غيب الإنسان، واطلع الناس على ما في قلبه لتركوه إنْ مات لا يدفنونه، ولقالوا دَعُوه للكلاب تأكله، جزاءً له على ما فعل.
لكن لما ستر الله غيوب الناس وجدنا حتى عدو الإنسان يُسرع بحمله ودفنه، كما قال القائل: محا الموت أسباب العداوة بيننا. لكن من غباء الإنسان أن ينبشَ عن عيوب الآخرين، وأنْ يتتبعَ عوراتهم، فهل ترضى أنْ يعاملك الناس بالمثل، فيتتبعون عوراتك، ويبحثون عن عيوبك؟
ثم إن سيئة واحدة يعرفها الناس عنك كفيلة بأن تُزهَّدهم في كل حسناتك، والله تعالى يريد أنْ ينتفع الناس بعضهم ببعض ليثرى حركة الحياة.
ثم يقول تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20].
المجادلة: الحوار في أمر، لكل طرف فيه جنود، وكل منهم لا يؤمن برأي الآخر، والجدل لا يكون إلا في سبيل الوصول إلى الحقيقة، ويسمونه الجدل الحتمي، وهذا يكون موضوعياً لا لَددَ فيه، ويعتمد على العلم والهدى والكتاب المنير، وفيه نقابل الرأي بالرأي ليثمر الجدال.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ...} [العنكبوت: 46] أما الجدل الذي يريد فيه كل طرف أنْ يُعلي رأيه ولو بالباطل فهو مماراة وسفسطة لا توصل إلى شيء.
والجدل مأخوذ من الجَدْل أي الفَتْل، والشيء حين يُفتل على مثله يقويه، كذلك الرأي في الجدل يُقوِّي الرأي الآخر، فإذا ما انتهيا إلى الصواب تكاتفا على إظهاره وتقويته، فالجدل المراد به تقوية الحق وإظهاره.
فإنْ كان الجدل غير ذلك فهو مماراة يحرص فيها كل طرف على أن يعلي رأيه ولو بالباطل.
والحق سبحانه يبين لنا أن من الناس من أِلفَ الجدل في الله على غير علم ولا هُدىً ولا كتاب منير، فيقولون مثلاً في جدالهم: أللكون إله موجود؟ وإنْ كان موجوداً، أهو واحد أم متعدد؟ وإنْ كان موجوداً أيعلم الجزئيات أم الكليات؟ أيزاول مُلْكه كل وقت؟ أم أنه خلق القوانين، ثم تركها تعمل في الكون وتُسيِّره؟ كأن الله تعالى زاول سلطانه في الملْك مرة واحدة.
ومعلوم أن الله تعالى قيُّوم أي: قائم على أمر الخلَقْ كله في كل وقت، والدليل على ذلك هذه المعجزات التي خرقتْ النواميس لتدلّ على صِدْق الرسل في البلاغ عن الله، كما عرفنا في قصة إحراق إبراهيم- عليه السلام- فلو أن المسألة إنجاء إبراهيم من النار لما مكّنهم الله منه، أو مكَنهم منه ومن إلقائه في النار، ثم أرسل على النار سحابة تُطفِئها.
لكن أراد سبحانه أن يشعلوا النار، وأنْ يُلقوا بإبراهيم فيها، ومع ذلك يخرج منها سالماً ليروْا بأعينهم هذه المعجزة الخارقة لقانون النار ليكبتهم الله، ولا يعطيهم الفرصة ليخدعوا الناس، ولو أفلتَ إبراهيم من قبضتهم لوجودا هذه الفرصة ولقالوا: لو أمسكنا به لفعلنا به كذا وكذا.
ومعنى {بِغَيْرِ عِلْمٍ..} [لقمان: 20] العلم أن تعرف قضية وتجزم بها، وهي واقعة وتستطيع أنْ تُدلِّل عليها، فإنْ كانت القضية التي تؤمن بها غير واقعة، فهذا هو الجهل، فالجاهل لا يوضع في مقابل العالم؛ لأن الجاهل لديه علم بقضية لكنها باطلة، وهذا يتعبك في الإقناع؛ لأنه ليس خالي الذهن، فيحتاج أولاً لأنْ تُخرج من ذهنْه القضية الباطلة وتُحلِ محلها القضية الصحيحة، أما الأُميّ فهو خالي الذِّهن من أي قضيةَ.
فإنْ كانت القضية التي تجزم بها واقعة لكن لا تستطيع أنْ تُدلِّل عليها، كالولد الصغير الذي علمناه أن(الله أحد) واستقرتْ في ذهنه هذه المسألة؛ لأن أباه أو معلمه لقَّنه هذه القضية حتى أصبحتْ عقيدة عنده، فالذي يُدلِّل عليها مَنْ لقنّها له إلى أنْ يكبر، ويستطيع هو أن يُدلِّل عليها.
والعلم أنواع، منها وأولها: العلم البدهي الذي نصل إليه بالبديهة دون بحث، فمثلاً حين نرى الإنسان يتنفس نعلم أنه حيٌّ بالبديهة، ونعلم أن الواحد نصف الاثنين، وأن السماء فوقنا، والأرض تحتنا.. إلخ.
وإذا نظرتَ إلى معلومات الأرض كلها تجد أن أم هذه المعلومات البديهة. فعلم الهندسة مثلاً يقوم على نظريات تستخدم الأولى منها مقدمة لإثبات الثانية، والثانية مقدمة لإثبات الثالثة وهكذا.
فحين تعيد تسلسل النظريات الهندسية فإنك لابد عائد إلى النظرية الأولى وهي بديهة تقول: إذا التقى مستقيم بآخر نتج عن هذا الالتقاء زاويتان قائمتان.
إذن: فأعقد النظريات لابد أن تعود إلى أمر بدهي منثور في كون الله، المهم مَنْ يلتفت إليه، وقد قال الحق سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
فقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله...} [لقمان: 20] أي: وجوداً وصفاتاً {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20] يعني: أن الجدل يصحّ إنْ كان بعلم وهدى وكتاب منير، فإنْ كان بغير ذلك فلا يُعَدُّ جدلاً إنما مراء لا طائلَ من ورائه.
ومعنى الهدى: أي الاستدلال بشيء على آخر، كالعربي الذي ضَلَّ في الصحراء، فلما رأى على الرمال بَعْراً وأثراً لأقدام استأنس بها، وعلم أنه على طريق مطروق ولابد أن يمرَّ به أحد، فلما عرضتْ له قضية الإيمان استدل عليها بما رأى فقال: البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، نجوم تزهر، وبحار تزخر.. أَلاَ يدل ذلك على اللطيف الخبير.
فالإنسان حين ينظر في الكون وفي آياته لابد أنْ يصل من خلالها إلى الخالق عز وجل، فما كان لها أنْ تتأتى وحدها، ثم إنه لم يدَّعها أحدٌ لنفسه ممَّنْ ينكرون وجود الله، وقلنا: إن أتفه الأشياء التي نراها لا يمكن ان توجد هكذا بدون صانع، فمثلاً الكوب الذي نشرب فيه، هل رأينا مثلاً شجرة تطرح لنا أكواباً؟
إذن: لابد أن لها صانعاً فكر في الحاجة إليها، فصنعها بعد أنْ كان الإنسان يشرب الماء عباً، أو نزحاً بالكفن وما توصلنا إلى هذا الكوب الرقيق النظيف إلا بعد بحث العلماء في عناصر الوجود، أيها يمكن أنْ يعطيني هذه الزجاجة الشفافة، فوجدوا أنها تُصنَع من الرمل بعد صَهْره تحت درجة حرارة عالية، فهذا الكوب الذي يمكن أنْ نستغني عنه أخذ منا خبرة وقدرة وعلماً.. إلخ.
فما بالك بالشمس التي تنير الكون كله منذ خلق الله هذا الكون دون أنْ تكلّ أو تملَّ أو تتخلف يوماً واحداً، وهي لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى قطعة غيار، أليست جديرة بأن نسأل عمَّنْ خلقها وأبدعها على هذه الصورة، خاصة وانها فوق قدرتنا ولا تنالها إمكاناتنا.
هذه هي الآيات التي نأخذها بالأدلة، لكن هذه الأدلة لا تُوصِّلنا إلا إلى أن لهذا الكون بآياته العجيبة خالقاً مبدعاً، لكن العقل لا يصل بي إلى هذا الخالق: مَنْ هو، وما اسمه، إذن: لابد من بلاغ عن الله على يد رسول يبلغنا مَنْ هذا الخالق وما اسمه وما مطلوباته، وماذا أعدّ لمن أطاعه، وماذا أعدَّ لمن عصاه.
وفَرْق بين التعقُّل والتصوُّر، والذي أتعب الفلاسفة أنهم خلطوا بينهما، فالتعقل أن أنظر في آيات الكون، وأرى أن لها موجداً، أمّا التصور فبأنْ أتصور هذا الموجِد: شكله، اسمه، صفاته.. إلخ وهذه لا تتأتى بالعقل، إنما بالرسول الذي يأتي من قِبَل الإله الموجد.
وسبق أن ضربنا مثلاً- ولله تعالى المثل الأعلى- قلنا: لو أننا نجلس في مكان مغلق، وطرق الباب طارق، فكلنا يتفق على أن طارقاً بالباب لا خلاف في هذه، لكن نختلف في تصوُّره، فواحد يتصور انه رجل، وآخر يقول: طفل، وآخر يتصوَّره امرأة، وواحد يتصوره بشيراً، وآخر يتصوره نذيراً.. إلخ.
إذن: اتفقنا في التعقُّل، واختلفنا في التصور، ولكي تعرف مَن الطارق فعلينا أن نقول: من الطارق؟ ليعلن هو عن نفسه ويخبرنا مَنْ هو؟ ولماذا جاء؟ ويُنهي لنا في هذا الخلاف.
كذلك الحق تبارك وتعالى هو الذي يخبرنا عن نفسه، لكن كيف يتم ذلك؟ من خلال رسول من البشر يستطيع أنْ يتجلى الله عليه بالخطاب، بأن يكون مُعدّاً لتلقِّي هذا الخطاب، لا أنْ يخاطب كل الناس.
وقد مثَّلْنا لذلك أيضاً(بلمبة) الكهرباء الصغيرة أو(الراديو) الذي لا يتحمل التيار المباشر، يل يحتاج إلى(ترانس) أو منظم يعطيه الكهرباء على قَدْره وإلا حُرق، فحتى في الماديات لابد من قوي يستقبل ليعطي الضعيف.
والحق سبحانه يُعد من خَلْقه مَنْ يتلقى عنه، ويُبلِّغ الناس، فيكلم الله الملائكة، والملائكة تكلم الرسل من البشر؛ لذلك يقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً...} [الشورى: 51].
وإلا لو كلَّم الله جميع البشر، فما الحاجة للرسل؟ لذلك لما سُئِل الإمام علي رضي الله عنه: أعرفتَ ربك بمحمد، أم عرفتَ محمداً بربك؟ فقال: لو عرفتُ ربي بمحمد لكان محمد أوثقَ عندي من ربي، ولو عرفتُ محمداً بربي، فما الحاجة إذن للرسل، لكن عرفتُ ربي بربي، وجاء محمد، فبلَّغني مراد ربي منى. إذن: لابد من هذه الواسطة.
والحق سبحانه يعطينا في القرآن مثالاً يوضح هذه المسألة في قوله تعالى عن سيدنا موسى: {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ..} [الأعراف: 143] فبماذا أجابه ربه؟ {قَالَ لَن تَرَانِي...} [الأعراف: 143] ولم يقل سبحانه: أنا لا أُرىَ، والمعنى: لو أعددتُكَ الإعدادَ المناسب لهذه الرؤية لرأيتَ بدليل أننا سنُعَدُّ في الآخرة على هيئة نرى فيها الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].
وفي المقابل يقول عن الكفار الذين سيُحرمون هذه الرؤية {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
ثم لما تجلى الحق سبحانه للجبل، وهو الجنس الأقوى من موسى مادةً وصلابة أندكَّ الجبل، ونظر موسى إلى الجبل المتجلَّي عليه فخرَّ صَعقاً، فما بالك لو نظر إلى المتجلِّي سبحانه؟
إذن: الحق سبحانه حينما يريد أنْ يخاطب أحداً من خَلْقه، أو يتجلى عليه يُعِدُّه لذلك، ويُربِّيه على عينه، كما قال عن موسى: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] وقال في موضع آخر: {واصطنعتك لِنَفْسِي} [طه: 41] ثم يقوم هذا المربي الذي رباه الله بتربية الخَلْق.
وقد ربى محمد صلى الله عليه وسلم أمته في ثلاث وعشرين سنة، ولو أن الله تعالى خاطب كل إنسان بالمنهج لاستغرقتْ تربية الناس وقتاً طويلاً؛ لذلك يصطفي الله الرسل، ويعطيهم من الخصائص ما يُمكِّنهم من تربية الأمم بعد أنْ ربَّاهم الله، واصطنعهم على عينه.
إذن: كان ولابد من إرسال الرسل للبلاغ عن الله: مَنْ هو، ما اسمه، ما صفاته؟ ما مطلوباته؟ ماذا أعدَّ لمن اطاعه؟ وماذا أعد لمن عصاه.. إلخ. لذلك فأول دليل على بطلان الشرك أنْ تقول للذي يشرك الشمس أو القمر أو الأصنام مع الله في العبادة: وماذا قالت لك هذه الأشياء؟ ما مطلوباتها؟ ما مرادها منك؟ وإلا، فلماذا تعبدها والعبادة في أوضح معانيها: طاعة العابد لأمر المعبود ونهيه؟
فإنْ قُلْتَ: إذن لماذا قَبِلَتْ عقول هؤلاء القوم أنْ يعبدوا هذه الأشياء؟ نقول: لأن التديُّنَ طبيعة في النفس البشرية ومركوز في الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وسبق أنْ أوضحنا أن كلاً منا فيه ذرة حية من أبيه- عليه السلام- لم يطرأ عليها الفناء، وإلا لما وُجِد الإنسان، وهذه الذرة في كل منا هي التي شهدتْ الفطرة، وشهدتْ الخلقَ، وشهدتْ العهد الذي أخذه الله علينا جميعاً {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ...} [الأعراف: 172].
فإنْ حافظتَ على إشراقية هذه الذرة فيك، ولم تُعرِّضها لما يطمس نورها- ولا يكون ذلك إلا بالسير على منهج خالقك وبناء لبنات جسمه مما أحل الله- إنْ فعلتَ ذلك أنار الله وجهك وبصيرتك.
لذلك جاء في الحديث أن العبد يشكو: يقول (دعوتُ فلم يُستجب لي، لكن أنِّى يستجاب له، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، وملبسه من حرام؟) كيف وقد طمس الذرة النورانية فيه، وغفل عن قانون صيانتها؟ واقرأ قوله تعالى: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 123-124].
فالمعيشة الضنك والعياذ بالله تأتي حين تنطمس النورانية الإيمانية، وحين لا تحافظ على إشراقية هذه الذرة التي شهدتْ خَلْق الله، وشهدتْ له بالربوبية، ولو حافظت عليها لظلّتْ كل التعاليم واضحة أمامك، وما غفلت عن منهج ربك هذه الغفلة التي جرَّتْ عليك المعيشة الضنك، واقرأ قول الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً...} [الأنفال: 29] أي: نوراً يهديكم وتُفرِّقون به بين الحق والباطل.
والحق سبحانه يوضح لنا ما يطمس الفطرة الإيمانية، وهما أمران: الغفلة والتي قال الله عنها: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] والقدوة التي قال الله عنها: {إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ...} [الأعراف: 173].
فالذي يطمس الفطرة الإيمانية الغفلة عن المنهج، هذه الغفلة تُوجِد جيلاً لا يتمسك بمنهج الحق، وبذلك تكون العقبة في الجيل الأول الغفلة، لكن في الأجيال اللاحقة الغفلة والقدوة السيئة، وهكذا كلما تنقضي الأجيال تزداد الغفلة، وتزداد القدوة السيئة؛ لذلك يوالي الحق سبحانه إرسال الرسل ليزيح عن الخَلْق هذه الغفلة، وليوجد لهم من جديد قدوةً حسنة، ليقارنوا بين منهج الحق ومنهج الخَلْق.
فمَنْ أراد أنء يجادل في الله فليجادل بعلم وبهدى وبكتاب منير مُنزَّلٍ من عند الله، ووَصْف الكتاب بأنه منير يدلُّنا على أن الكتاب المنسوب إلى الله تعالى لابُدَّ أن يكون منيراً؛ لكنه قد يفقد هذا النور بما يطرأ عليه من تحريف وتبديل ونسيان وكتمان.. إلخ.
وقد أوضح الله تعالى هذه المراحل في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ...} [الأنعام: 44].
ثم: {يَكْتُمُونَ ما أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى..} [البقرة: 159].
وإن كان الإنسان يُعذَر في النسيان، فلا يُعذَر في الكتمان، ثم الذي نجا من النسيان ومن الكتمان وقع في التحريف {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ..} [المائدة: 13] ولَيْتهم اقتصروا على ذلك، إنما اختلفوا من عند أنفسهم كلاماً، ثم نسبوه إلى الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله...} [البقرة: 79] فأنواع الطمس هذه أربعة ظهرت كلها في اليهود.
إذن: فالكتب التي بأيديهم لا تصلح للجدل في الله؛ لأنها تفقد العلم والحجة والهدى، ولا تُعَدُّ من الكتاب المنير المشرق الذي يخلو من التضبيبات والفجوات، فجوات النسيان والكتمان، والتحريف والاختلاق.
فمَنْ يريد أنْ يجادل في الله فليجادل بناء على علم بدهىٍّ أو هدى استدلالي، أو كتاب منير. والكتب المنزلَّة كثيرة، منها صحف إبراهيم وموسى، ومنها زُبُر الأولين، والزبور نزل على سيدنا داود، والتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى- عليهم جميعاً السلام- وهذه كلها كتب من عند الله، لكن هل طرأ عليها حالة عدم الإنارة؟
نقول: نعم، لأنها انطمست بشهوات البشر فيها وبأهوائهم التي شوَّهتها وأخرجتها عن الإشراقية والنورانية التي كانت لها، وهذا نتيجة السلطة الزمنية وهي أقسى شيء في تغيير المناهج.
هذه السلطة الزمنية هي التي منعتْ اليهود أن يؤمنوا برسول الله، وهم يعلمون بعثته في بلاد العرب، ويعلمون موعده وأوصافه، وأنه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل؛ لذلك يقول القرآن عنهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ...} [الأنعام: 20].
ويقول عنهم: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] لذلك، سيدنا عبدالله بن سلام يقول عن سيدنا رسول الله: والله لقد عرفتُه حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد.
ويحكي القرآن عن أهل الكتاب أنهم كانوا يستفتحون برسول الله على الكفار فيقولون لهم: لقد أظل زمان نبي جديد نسبقكم إليه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].
لماذا؟ لأنهم يعلمون أنه سيسلبهم المكانة التي كانت لهم، والريادة التي أخذوها في العلم والاقتصاد والحرب.. إلخ، لقد كانوا يُعِدُّون واحداً منهم ليُنصِّبوه ملكاً عليهم في المدينة ليلة هاجر إليها رسول الله، فلما دخلها رسول الله لم تًعُد لأحد مكانة الريادة بعد رسول الله، فرفض هذا الملك الجديد.
إذن: فكل الكتب السماوية لحقها التحريف والتغيير، فلم يضمن لها الحق سبحانه الصيانات التي تحميها كما حمى القرآن، وما ذاك إلا ليظهر شرف النبي الخاتم، فالكتب السابقة للقرآن جاءت كتبَ أحكام، ولم تكن معجزة في ذاتها، فالرسل السابقون كانت لهم معجزات منفصلة عن الكتب وعن المنهج، فموسى عليه السلام معجزته: العصا واليد.. إلخ وكتابه ومنهجه التوراة، وعيسى عليه السلام معجزته أنْ يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله وكتابه ومنهجه الإنجيل.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فمعجزته وكتابه ومنهجه هو القرآن، فهو منهج ومعجزة ستصاحب الزمان إلى أنْ تقوم الساعة؛ لأن رسالته هي الرسالة الخاتمة، فلابد أن يكون كتابه ومعجزته كذلك فنقول: هذا محمد وهذه معجزته.
أما الرسالات السابقة فكانت المعجزة وقتية لمن رآها وعاصرها ولولا أن الله أخبرنا بها ما عرفنا عنها شيئاً، وما صدَّقنا بها، وسبق أنْ شبَّهناها بعود الكبريت الذي يشعل مرة واحدة رآه مَنْ رآه، ثم يصبح خبراً؛ لذلك لا نستطيع أن نقول مثلاً: هذا موسى عليه السلام وهذه معجزته؛ لأننا لم نَرَ هذه المعجزة.
ولما كانت الكتب السابقة كتباً تحمل المنهج، وليست معجزة في ذاتها ترك الله تعالى حفظها لأهلها الذين آمنوا بها، وهذا أمر تكليفي عُرْضة لأنْ يُطاع، ولأنْ يُعصَى، فكان منهم أنْ عصوا هذا الأمر فحدث تضبيب في هذه الكتب.
يقول تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله...} [المائدة: 44].
وساعة تسمع الهمزة والسين والتاء، فاعلم أنها للطلب: استحفظتُك كذا يعني: طلبتُ منك حِفْظه، مثل: استفهمتُ يعني طلبت الفهم، واستخرجت، واستوضحت.. إلخ.
فلما جُرِّب الخَلْق في حفظ كلام الخالق فلم يؤدوا، ولم يحفظوا، تكفَّل الله سبحانه بذاته بحفظ القرآن، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
لذلك ظلَّ القرآن كما نزل لم تَنَلْه يد التحريف أو الزيادة أو النقصان، وصدق الله تعالى حين قال في أول سوره {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ...} [البقرة: 2] لا الآن، ولا بعد، ولا إلى قيام الساعة، حتى أن أعداء القرآن أنفسهم قالوا: لا يوجد كتاب مُوثَّق في التاريخ إلا القرآن.
والعجيب في مسألة حِفْظ القرآن أن الذي يحفظ شيئاً يحفظه ليكون حجة له، لا حجة عليه، كما تحفظ أنت الكمبيالة التي لك على خصمك، أما الحق سبحانه وتعالى فقد ضمن حِفْظ القرآن، والقرآن ينبئ بأشياء ستوجد فيما بعد، والحق سبحانه لا يحفظ هذا ويُسجِّله على نفسه، إلا إذا ضمن صِدْق وتحقُّق ما أخبر به وإلا لما حفظه، إذن: فحِفْظ الحق سبحانه للقرآن دليل على أنه لا يطرأ شيء في الكون أبداً يناقض كلام الله في القرآن: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82].
وسبق أنْ قُلنا: إن القرآن حكم في أشياء مستقبلية للخلق فيها اختيار، فيأتي اختيار الخَلْق وفق ما حكم، مع أنهم كافرون بالقرآن، مكذبون له، ومع ذلك لم يحدث منهم إلا ما أخبر الله به، وكان بإمكانهم أنْ يمتنعوا، لكن هيهات فلا يتم في كون الله إلا ما أراد.
لكن، ماذا نفعل فيمَنْ يجادل في الله بغير علم ولا هُدىً ولا كتاب منير؟ نلفته إلى العلم، وإلى الهدى، وإلى الكتاب المنير.
ندعوهم إلى النظر في الآيات الكونية، وفي البدهيات التي تثبت وجود الخالق عز وجل، ندعوهم إلى الهدى، والاستدلال وإلى النظر في المعجزة التي جاء بها رسول الله، ألم يخبر وهو في شدة الحصارالذي ضربه عليه وعلى آله كفار مكة حتى اضطروهم إلى أكل الميتة وأوراق الشجر.. إلخ.
إلم يُخبر القرآن في هذه الأثناء بقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] حتى أن سيدنا عمر ليتعجب: أيُّ جمع هذا؟ ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟ فلما جاء يوم بدر ورأى بعينه ما حاق بالكفار قال: صدق الله {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
ألم يقل القرآن عن الوليد بن المغيرة {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] وفعلاً، لم يعرفوا الوليد يوم بدر بين القتلى إلا بضربة على خرطومه. ألم يُشِرْ رسول الله قبل المعركة إلى مصارع القوم، فيقول وهو يشير إلى مكان بعينه: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، ثم تأتي المعركة ويُقتل هؤلاء في نفس الأماكن التي أشار إليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحق سبحانه أعطانا في القرآن أشياء تدل على أنه كتاب يُنوِّر لنا الماضي، ويُنوِّر لنا الحاضر والمستقبل. وسبق أنْ قُلْنا: إن الغيب دونه حجب الزمان، أو حجب المكان، فما سبقك من أحداث يحجبها عنك حجاب الزمان الماضي، وما سيحدث في المستقبل يحجبه عنك حجاب الزمان المستقبل، أما الحاضر الذي تعيشه فيحجبه عنك المكان، بل وقد تكون في نفس المكان وتجلس معي، لكنك لا تعرف ما في صدري مثلاً.
وكل هذه الحجب خرقها الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً في غزوة مؤتة لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إليها، وبقي هو في المدينة قال: حين وزَّع القيادة: يحمل الراية فلان، فإذا قُتِل يحملها فلان، فإذا قُتِل يحملها فلان وسمَّى هؤلاء الثلاثة، ثم قال: فإذا قُتِل الثالث فاختاروا من بينكم مَنْ يحملها.
وجلس النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في المدينة، وأخذ يصف لهم المعركة وصفاً تفصيلياً، فلما عاد الجيش من مؤتة وجدوا واقع المعركة وفق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة.
وقد نبهتنا هذه المسألة إلى السر في تسمية مؤتة(غزوة) وكانوا لا يقولون غزوة إلا للتي شهدها رسول الله بنفسه، أما التي لا يخرج فيها فتسمّى(سرية) فلما أخبر صلى الله عليه وسلم بما يدور في المعركة مع بُعد المسافات اعتبرها المسلمون غزوة.
بل وأبلغ من ذلك، فالحق سبحانه كسف لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يدور في نفوس قومه: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ...} [المجادلة: 8].
هذه كلها من آيات الإنارة في القرآن التي استوعبتْ الماضي والحاضر والمستقبل.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا...}.