فصل: تفسير الآية رقم (30)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَبَرًا عَنْ مَلَائِكَتِهِ‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِرَبِّهَا إِذْ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏، وَلَمْ يَكُنْ آدَمُ بُعْدُ مَخْلُوقًا وَلَا ذُرِّيَّتُهُ، فَيَعْلَمُوا مَا يَفْعَلُونَ عِيَانًا‏؟‏ أَعَلِمَتِ الْغَيْبَ فَقَالَتْ ذَلِكَ، أَمْ قَالَتْ مَا قَالَتْ مِنْ ذَلِكَ ظَنًّا‏؟‏ فَذَلِكَ شَهَادَةٌ مِنْهَا بِالظَّنِّ وَقَوْلٌ بِمَا لَا تَعْلَمُ‏.‏ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ صِفَتِهَا‏.‏ أَمْ مَا وَجْهُ قِيلِهَا ذَلِكَ لِرَبِّهَا‏؟‏ قِيلَ‏:‏ قَدْ قَالَتِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا‏.‏ وَنَحْنُ ذَاكِرُو أَقْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ مُخْبِرُونَ بِأَصَحِّهَا بُرْهَانًا وَأَوْضَحِهَا حُجَّةً‏.‏ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ مَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمْ ‏"‏الْحِنُّ ‏"‏، خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ‏:‏ وَكَانَ اسْمُهُ الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ وَكَانَ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَخُلِقَتَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الْحَيِّ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ- وَهُوَ لِسَانُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ فِي طَرَفِهَا إِذَا أَلْهَبَتْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ طِينٍ‏.‏ فَأَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ الْجِنُّ‏.‏ فَأَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ- وَهُمْ هَذَا الْحَيُّ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ الْحِنُ- فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَأَطْرَافِ الْجِبَالِ‏.‏ فَلَمَّا فَعَلَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ اغْتَرَّ فِي نَفْسِهِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ قَدْ صَنَعْتُ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ ‏"‏‏!‏ قَالَ‏:‏ فَاطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ، وَلَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ‏.‏ فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏‏.‏ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مُجِيبِينَ لَهُ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏، كَمَا أَفْسَدَتِ الْجِنُّ وَسَفَكَتِ الدِّمَاءَ، وَإِنَّمَا بُعِثْنَا عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنِّي قَدِ اطَّلَعْتُ مَنْ قَلَبِ إِبْلِيسَ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعُوا عَلَيْهِ، مِنْ كِبَرِهِ وَاغْتِرَارِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ أَمَرَ بِتُرْبَةِ آدَمَ فَرُفِعَتْ، فَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ- وَاللَّازِبُ‏:‏ اللَّزِجُ الصُّلْبُ، مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ- مُنْتِنٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا بَعْدَ التُّرَابِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ بِيَدِهِ، قَالَ فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَسَدًا مُلْقًى‏.‏ فَكَانَ إِبْلِيسُ يَأْتِيهِ فَيَضْرِبُهُ بِرِجْلِهِ فَيُصَلْصِلُ- أَيْ فَيُصَوِّتُ- قَالَ‏:‏ فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الرَّحْمَنِ‏:‏ 14‏]‏‏.‏ يَقُولُ‏:‏ كَالشَّيْءِ الْمَنْفُوخِ الَّذِي لَيْسَ بِمُصْمَتٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ يَدْخُلُ فِي فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، وَيَدْخُلُ مِنْ دُبُرِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ لَسْتُ شَيْئًا‏!‏- لِلصَّلْصَلَةِ- وَلِشَيْءٍ مَا خُلِقْتِ‏!‏ لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْكِ لَأُهْلِكَنَّكِ، وَلَئِنْ سُلِّطْتِ عَلَيَّ لِأَعْصِيَنَّكِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، أَتَتِ النَّفْخَةُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَجَعَلَ لَا يَجْرِي شَيْءٌ مِنْهَا فِي جَسَدِهِ إِلَّا صَارَ لَحْمًا وَدَمًا‏.‏ فَلَمَّا انْتَهَتِ النَّفْخَةُ إِلَى سُرَّتِهِ، نَظَرَ إِلَى جَسَدِهِ، فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ حُسْنِهِ، فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْإِسْرَاءِ‏:‏ 11‏]‏ قَالَ‏:‏ ضَجِرًا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى سَرَّاءَ وَلَا ضَرَّاءَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا تَمَّتِ النَّفْخَةُ فِي جَسَدِهِ عَطِسَ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين‏"‏ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمُ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً دُونَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ‏:‏ اسْجُدُوا لِآدَمَ‏.‏ فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ، لَمَّا كَانَ حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كِبْرِهِ وَاغْتِرَارِهِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ لَا أَسْجُدُ لَهُ، وَأَنَا خَيِّرٌ مِنْهُ وَأَكْبَرُ سِنًّا وَأَقْوَى خَلْقًا، خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ- يَقُولُ‏:‏ إِنَّ النَّارَ أَقْوَى مِنَ الطِّينِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا أَبَى إِبْلِيسُ أَنْ يَسْجُدَ أَبْلَسَهُ اللَّهُ- أَيْ آيَسَهُ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَجَعَلَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا عُقُوبَةً لِمَعْصِيَتِهِ‏.‏ ثُمَّ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَهِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ‏:‏ إِنْسَانٌ وَدَابَّةٌ وَأَرْضٌ وَسَهْلٌ وَبَحْرٌ وَجَبَلٌ وَحِمَارٌ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا‏.‏ ثُمَّ عَرَضَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ- يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ، الَّذِينَ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ- وَقَالَ لَهُمْ‏:‏ أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ- يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي لِمَ أَجْعَلْ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ مُؤَاخَذَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَكَلَّمُوا بِهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، قَالُوا‏:‏ سُبْحَانَكَ، تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ- تُبْنَا إِلَيْكَ، لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمَتْنَا، تَبَرِّيًا مِنْهُمْ مَنْ عَلِمِ الْغَيْبِ، إِلَّا مَا عَلَّمَتْنَا كَمَا عَلَّمْتَ آدَمَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ- يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ‏.‏ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ‏:‏ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ- أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ خَاصَّةً- إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرِي، وَأَعْلَمُ مَا تَبْدُونَ- يَقُولُ‏:‏ مَا تُظْهِرُونَ- وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ- يَقُولُ‏:‏ أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ، يَعْنِي مَا كَتَمَ إِبْلِيسَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبَرِ وَالِاغْتِرَارِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، تُنَبِّئُ عَنْ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرَضِ خَلِيفَةً‏}‏، خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِخَاصٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ دُونَ الْجَمِيعِ، وَأَنَّ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَانُوا قَبِيلَةَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً- الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُ جِنُّ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ- وَأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا خَصَّهُمْ بِقِيلِ ذَلِكَ امْتِحَانًا مِنْهُ لَهُمْ وَابْتِلَاءً، لِيُعَرِّفَهُمْ قُصُورَ عِلْمِهِمْ وَفَضْلَ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُوَ أَضْعَفُ خَلْقًا مِنْهُمْ مِنْ خَلْقِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ كَرَامَتَهُ لَا تُنَالُ بِقُوَى الْأَبْدَانِ وَشِدَّةِ الْأَجْسَامِ، كَمَا ظَنَّهُ إِبْلِيسُ عَدُوُّ اللَّهِ‏.‏ وَمُصَرِّحٌ بِأَنَّ قِيْلَهُمْ لِرَبِّهِمْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏، كَانَتْ هَفْوَةً مِنْهُمْ وَرَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَطْلَعَهُمْ عَلَى مَكْرُوهِ مَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَوَقَفَهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى تَابُوا وَأَنَابُوا إِلَيْهِ مِمَّا قَالُوا وَنَطَقُوا مِنْ رَجْمِ الْغَيْبِ بِالظُّنُونِ، وَتَبَرَّأُوا إِلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ الْغَيْبَ غَيْرُهُ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ مِنْ إِبْلِيسَ مَا كَانَ مُنْطَوِيًا عَلَيْهِ مِنَ الْكِبْرِ الَّذِي قَدْ كَانَ عَنْهُمْ مُسْتَخْفِيًا‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ، اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فَجَعَلَ إِبْلِيسَ عَلَى مُلْكِ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ- وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ لِأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ‏.‏ وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ مُلْكِهِ خَازِنًا، فَوَقَعَ فِي صَدْرِهِ كَبْرٌ، وَقَالَ‏:‏ مَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا إِلَّا لِمَزِيَّةٍ لِي- هَكَذَا قَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، وَقَدْ حَدَّثَنِي بِهِ غَيْرُهُ، وَقَالَ‏:‏ لِمَزِيَّةٍ لِي عَلَى الْمَلَائِكَةِ- فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ الْكِبْرُ فِي نَفْسِهِ، اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏‏.‏ قَالُوا‏:‏ رَبُّنَا، وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏.‏ قَالُوا‏:‏ رَبُّنَا، ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ يَعْنِي مِنْ شَأْنِ إِبْلِيسَ‏.‏ فَبَعَثَ جِبْرِيلَ إِلَى الْأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا فَقَالَتِ الْأَرْضُ‏:‏ إِنِّي أُعَوِّذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تَنْقُصَ مِنِّي أَوْ تَشِينَنِي‏.‏ فَرَجَعَ، وَلَمْ يَأْخُذْ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ رَبِ إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا‏.‏ فَبَعَثَ اللَّهُ مِيكَائِيلَ، فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَأَعَاذَهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ‏.‏ فَبَعَثَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَقَالَ‏:‏ وَأَنَا أُعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَهُ‏.‏ فَأَخَذَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَخَلَطَ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ‏.‏ فَصَعِدَ بِهِ، فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لَازِبًا- وَاللَّازِبُ‏:‏ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ- ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى أَنْتَنَ وَتَغَيَّرَ‏.‏ وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحِجْرِ‏:‏ 28‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ مُنْتِنٌ- ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ ص‏:‏ 72‏]‏‏.‏ فَخَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدَيْهِ لِكَيْلَا يَتَكَبَّرَ إِبْلِيسُ عَنْهُ، لِيَقُولَ لَهُ‏:‏ تَتَكَبَّرُ عَمَّا عَمِلْتُ بِيَدِي، وَلَمْ أَتَكَبَّرْ أَنَا عَنْهُ‏؟‏ فَخَلَقَهُ بَشَرًا، فَكَانَ جَسَدًا مِنْ طِينِ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ مِنْ مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ‏:‏ فَمَرَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فَفَزِعُوا مِنْهُ لَمَّا رَأَوْهُ‏.‏ وَكَانَ أَشَدَّهُمْ مِنْهُ فَزَعًا إِبْلِيسُ، فَكَانَ يَمُرُّ بِهِ فَيَضْرِبُهُ فَيُصَوِّتُ الْجَسَدُ كَمَا يُصَوِّتُ الْفَخَّارُ وَتَكُونُ لَهُ صَلْصَلَةٌ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الرَّحْمَنِ‏:‏ 14‏]‏ وَيَقُولُ لِأَمْرٍ مَا خُلِقَتْ‏!‏ وَدَخَلَ مِنْ فِيهِ فَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ‏.‏ فَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ لَا تَرْهَبُوا مِنْ هَذَا، فَإِنَّ رَبَّكُمْ صَمَدٌ وَهَذَا أَجْوَفٌ‏.‏ لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لِأُهْلِكَنَّهُ‏.‏ فَلَمَّا بَلَغَ الْحِينُ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ إِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَاسْجُدُوا لَهُ‏.‏ فَلَمَّا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَدَخَلَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ‏:‏ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ‏:‏ رَحِمَكَ رَبُّكَ‏.‏ فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ‏.‏ فَلَمَّا دَخَلَ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 37‏]‏‏.‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ – أَيِ اسْتَكْبَرَ- وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏.‏ قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏.‏ قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ أُخْرُجْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ- يَعْنِي مَا يَنْبَغِي لَكَ- أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا، فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ- وَالصَّغَارُ‏:‏ هُوَ الذُّلُّ- ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، ثُمَّ عَرَضَ الْخَلْقَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ‏:‏ أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ‏.‏ فَقَالُوا لَهُ‏:‏ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏.‏ قَالَ اللَّهُ‏:‏ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ‏:‏ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تَبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏.‏ قَالَ قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏، فَهَذَا الَّذِي أَبْدَوْا، ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، يَعْنِي مَا أَسَرَّ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبَرِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَهَذَا الْخَبَرُ أَوَّلَهُ مُخَالِفٌ مَعْنَاهُ مَعْنَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ الَّتِي قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا قَبْلُ، وَمُوَافِقٌ مَعْنَى آخِرِهِ مَعْنَاهَا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَأَلَتْ رَبَّهَا‏:‏ مَا ذَاكَ الْخَلِيفَةُ‏؟‏ حِينَ قَالَ لَهَا‏:‏ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ‏.‏ فَأَجَابَهَا أَنَّهُ تَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏.‏ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ حِينَئِذٍ‏:‏ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏؟‏ فَكَانَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ مَا قَالَتْ مِنْ ذَلِكَ لِرَبِّهَا، بَعْدَ إِعْلَامِ اللَّهِ إِيَّاهَا أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يَجْعَلُهُ فِي الْأَرْضِ‏.‏ فَذَلِكَ مَعْنَى خِلَافُ أَوَّلِهِ مَعْنَى خَبَرِ الضَّحَّاكِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ‏.‏

وَأَمَّا مُوَافَقَتُهُ إِيَّاهُ فِي آخِرِهِ، فَهُوَ قَوْلُهُمْ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏:‏ أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ إِذْ قَالَ لَهَا رَبُّهَا ذَلِكَ، تَبَرِّيًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ- ‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

وَهَذَا إِذَا تَدَبَّرَهُ ذُو الْفَهْمِ، عَلِمَ أَنَّ أَوَّلَهُ يُفْسِدُ آخِرَهُ، وَأَنَّ آخِرَهُ يُبْطِلُ مَعْنَى أَوَّلِهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنْ كَانَ أَخْبَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنَّ ذُرِّيَّةَ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يَجْعَلُهُ فِي الْأَرْضِ تُفْسِدُ فِيهَا وَتَسْفِكُ الدِّمَاءَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِرَبِّهَا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏، فَلَا وَجْهَ لِتَوْبِيخِهَا عَلَى أَنْ أَخْبَرَتْ عَمَّنْ أَخْبَرَهَا اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَهَا عَنْهُمْ رَبُّهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهَا فِيمَا طُوِيَ عَنْهَا مِنَ الْعُلُومِ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا عَلِمْتُمْ بِخَبَرِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنَ الْأُمُورِ فَأَخْبَرْتُمْ بِهِ، فَأَخْبَرُونَا بِالَّذِي قَدْ طَوَى اللَّهُ عَنْكُمْ عِلْمَهُ، كَمَا قَدْ أَخْبَرْتُمُونَا بِالَّذِي قَدْ أَطْلَعَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ- بَلْ ذَلِكَ خُلْفٌ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَدَعْوَى عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِفَةٌ‏.‏ وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ نَقَلَةِ هَذَا الْخَبَرِ هُوَ الَّذِي غَلِطَ عَلَى مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ مِنْهُمْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ‏:‏ ‏"‏أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا ظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ أَدْرَكْتُمُوهُ مِنَ الْعِلْمِ بِخَبَرِي إِيَّاكُمْ أَنَّ بَنِي آدَمَ يَفْسُدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، حَتَّى اسْتَجَزْتُمْ أَنْ تَقُولُوا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏‏.‏ فَيَكُونُ التَّوْبِيخُ حِينَئِذٍ وَاقِعًا عَلَى مَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ أَدْرَكُوا بِقَوْلِ اللَّهِ لَهُمْ‏:‏ ‏"‏ إِنَّهُ يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ‏"‏، لَا عَلَى إِخْبَارِهِمْ بِمَا أَخْبَرَهُمَ اللَّهُ بِهِ أَنَّهُ كَائِنٌ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَهُمْ عَمَّا يَكُونُ مِنْ بَعْضِ ذُرِّيَّةِ خَلِيفَتِهِ فِي الْأَرْضِ، مَا يَكُونُ مِنْهُ فِيهَا مِنَ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، فَقَدْ كَانَ طَوَى عَنْهُمَ الْخَبَرَ عَمَّا يَكُونُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ مَا يَكُونُ مِنْ طَاعَتِهِمْ رَبِّهِمْ، وَإِصْلَاحِهِمْ فِي أَرْضِهِ، وَحَقْنِ الدِّمَاءِ، وَرَفْعِهِ مَنْزِلَتَهُمْ، وَكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِذَلِكَ‏.‏ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏، عَلَى ظَنٍّ مِنْهَا- عَلَى تَأْوِيلِ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُ وَظَاهِرِهِمَا- أَنَّ جَمِيعَ ذُرِّيَّةِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يَجْعَلُهُ فِي الْأَرْضِ يُفْسِدُونَ فِيهَا وَيَسْفِكُونَ فِيهَا الدِّمَاءَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ- إِذْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا- ‏:‏ أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، عَلَى مَا ظَنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ- إِنْكَارًا مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِقَيْلِهِمْ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْجَمِيعِ وَالْعُمُومِ، وَهُوَ مِنْ صِفَةِ خَاصِّ ذُرِّيَّةِ الْخَلِيفَةِ مِنْهُمْ‏.‏ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ صِفَةٌ مِنَّا لِتَأْوِيلِ الْخَبَرِ، لَا الْقَوْلُ الَّذِي نَخْتَارُهُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ‏.‏

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ خَبَرِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ إِفْسَادِ ذُرِّيَّةِ الْخَلِيفَةِ وَسَفْكِهَا الدِّمَاءَ عَلَى الْعُمُومِ، مَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَعْنُونَ النَّاسَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏، فَاسْتَشَارَ الْمَلَائِكَةَ فِي خَلْقِ آدَمَ، فَقَالُوا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏- وَقَدْ عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَكْرَهُ إِلَى اللَّهِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ- ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ فَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ أَنْبِيَاءُ وَرُسُلٌ وَقَوْمٌ صَالِحُونَ وَسَاكِنُو الْجَنَّةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخَذَ فِي خَلْقِ آدَمَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ‏:‏ مَا اللَّهُ خَالِقٌ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا وَلَا أَعْلَمَ مِنَّا‏؟‏ فَابْتُلُوا بِخَلْقِ آدَمَ- وَكُلُّ خَلْقٍ مُبْتَلًى- كَمَا ابْتُلِيَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ بِالطَّاعَةِ، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ فُصِّلَتْ‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وَهَذَا الْخَبَرُ عَنْ قَتَادَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَتَادَةَ كَانَ يَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ مَا قَالَتْ مِنْ قَوْلِهَا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏، عَلَى غَيْرِ يَقِينِ عِلْمٍ تَقَدَّمَ مِنْهَا بِأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ، وَلَكِنْ عَلَى الرَّأْيِ مِنْهَا وَالظَّنِّ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهَا، وَرَدَّ عَلَيْهَا مَا رَأَتْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّةِ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْمُجْتَهِدُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ خِلَافُ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُمْ إِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏‏.‏

وَبِمَثَلِ قَوْلِ قَتَادَةَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ‏:‏ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَمُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ- وَأَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ- قَالَا قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏- قَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنِّي فَاعِلٌ- فَعَرَّضُوا بِرَأْيِهِمْ، فَعَلَّمَهُمْ عِلْمًا وَطَوَى عَنْهُمْ عِلْمًا عِلْمُهُ لَا يَعْلَمُونَهُ، فَقَالُوا بِالْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏- وَقَدْ كَانَتَ الْمَلَائِكَةُ عَلِمَتْ مِنْ عَلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ- ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ فَلَمَّا أَخَذَ فِي خَلْقِ آدَمَ، هَمَسَتِ الْمَلَائِكَةُ فِيمَا بَيْنَهَا، فَقَالُوا‏:‏ لِيَخْلُقْ رَبُّنَا مَا شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ، فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ‏.‏ فَلَمَّا خَلَقَهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ لِمَا قَالُوا، فَفَضَّلَهُ عَلَيْهِمْ، فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِخَيْرٍ مِنْهُ، فَقَالُوا‏:‏ إِنْ لَمْ نَكُنْ خَيْرًا مِنْهُ فَنَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُ، لِأَنَّا كُنَّا قَبْلَهُ، وَخُلِقَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهُ‏.‏ فَلَمَّا أُعْجِبُوا بِعَمَلِهِمُ ابْتُلُوا، فَ ‏{‏عَلَمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا إِلَّا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ، فَأَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَفَزِعَ الْقَوْمُ إِلَى التَّوْبَةِ- وَإِلَيْهَا يَفْزَعُ كُلُّ مُؤْمِنٍ- فَقَالُوا‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏- لِقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏لِيَخْلُقْ رَبُّنَا مَا شَاءَ، فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مَنًّا وَلَا أَعْلَمَ مِنَّا ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، هَذِهِ الْجِبَالِ وَهَذِهِ الْبِغَالِ وَالْإِبِلِ وَالْجِنِّ وَالْوَحْشِ، وَجَعَلَ يُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ كُلُّ أَمَةٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تَبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَمَّا مَا أَبْدَوْا فَقَوْلُهُمْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏، وَأَمَّا مَا كَتَمُوا فَقَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ‏:‏ ‏"‏ نَحْنُ خَيِّرٌ مِنْهُ وَأَعْلَمُ ‏"‏‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ الْجِنَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَكَفَرَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ، فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَهْبِطُ إِلَيْهِمْ فِي الْأَرْضِ فَتُقَاتِلُهُمْ، فَكَانَتِ الدِّمَاءُ، وَكَانَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ‏.‏ فَمِنْ ثَمَّ قَالُوا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

‏[‏حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ‏]‏‏:‏ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بِمِثْلِهِ- ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذَلِكَ حِينَ قَالُوا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا بَيْنَهُمْ‏:‏ لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ خَلْقًا إِلَّا كُنَّا نَحْنُ أَعْلَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ‏.‏ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَمَ‏.‏ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، فَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ ‏{‏أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، وَكَانَ الَّذِي أَبْدَوْا حِينَ قَالُوا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏، وَكَانَ الَّذِي كَتَمُوا بَيْنَهُمْ قَوْلَهُمْ‏:‏ ‏"‏ لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ خَلْقًا إِلَّا كُنَّا نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَكْرَمُ ‏"‏، فَعَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَمَ فِي الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ ذُعِرَتْ مِنْهَا الْمَلَائِكَةُ ذُعْرًا شَدِيدًا، وَقَالُوا‏:‏ رَبُّنَا لِمَ خَلَقْتَ هَذِهِ النَّارَ‏؟‏ وَلِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقَتْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ لِمَنْ عَصَانِي مِنْ خَلْقِي‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَمْ يَكُنْ لِلَّهِ خَلْقٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ، وَالْأَرْضُ لَيْسَ فِيهَا خَلْقٌ، إِنَّمَا خُلِقَ آدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْإِنْسَانِ‏:‏ 1‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْتَ ذَلِكَ الْحِينُ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ‏:‏ يَا رَبِّ، أَوَيَأْتِي عَلَيْنَا دَهْرٌ نَعْصِيكَ فِيهِ‏!‏- لَا يَرَوْنَ لَهُ خَلْقًا غَيْرَهُمْ- قَالَ‏:‏ لَا إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْلُقَ فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَأَجْعَلُ فِيهَا خَلِيفَةً، يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ‏.‏ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏‏؟‏ وَقَدِ اخْتَرْتَنَا، فَاجْعَلْنَا نَحْنُ فِيهَا، فَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وَنَعْمَلُ فِيهَا بِطَاعَتِكَ‏.‏ وَأَعْظَمَتِ الْمَلَائِكَةُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَعْصِيهِ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏"‏‏.‏ ‏{‏يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ‏}‏‏.‏ فَقَالَ‏:‏ فُلَانٌ وَفُلَانٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا رَأَوْا مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ أَقَرُّوا لِآدَمَ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِمْ، وَأَبَى الْخَبِيثُ إِبْلِيسُ أَنْ يُقِرَّ لَهُ، قَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا‏}‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِقُدْرَتِهِ لِيَبْتَلِيَهُ وَيَبْتَلِيَ بِهِ، لِعِلْمِهِ بِمَا فِي مَلَائِكَتِهِ وَجَمِيعِ خَلْقِهِ- وَكَانَ أَوَّلُ بَلَاءٍ ابْتُلِيَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مِمَّا لَهَا فِيهِ مَا تُحِبُّ وَمَا تَكْرَهُ، لِلْبَلَاءِ وَالتَّمْحِيصِ لِمَا فِيهِمْ مِمَّا لَمْ يَعْلَمُوا، وَأَحَاطَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ مِنْهُمْ- جَمَعَ الْمَلَائِكَةَ مِنْ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏- سَاكِنًا وَعَامِرًا لِيَسْكُنَهَا وَيُعَمِّرَهَا- خَلَفًا، لَيْسَ مِنْكُمْ‏.‏ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، فَقَالَ‏:‏ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَيَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي‏.‏ فَقَالُوا جَمِيعًا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏ لَا نَعْصِي، وَلَا نَأْتِي شَيْئًا كَرِهْتَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏- قَالَ‏:‏ إِنِّي أَعْلَمُ فِيكُمْ وَمِنْكُمْ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ- مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِتْيَانِ مَا أَكْرَهُ مِنْهُمْ، مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ، مِمَّا ذَكَرْتُ فِي بَنِي آدَمَ‏.‏ قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏قُلْ ‏{‏مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 72‏]‏‏.‏ فَذَكَرَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ مِنْ ذِكْرِهِ آدَمَ حِينَ أَرَادَ خَلْقَهُ، وَمُرَاجَعَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ فِيمَا ذَكَرَ لَهُمْ مِنْهُ‏.‏ فَلَمَّا عَزَمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى خَلْقِ آدَمَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ بِيَدِي- تَكْرِمَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَشْرِيفًا لَهُ- حَفِظَتِ الْمَلَائِكَةُ عَهْدَهُ وَوَعَوْا قَوْلَهُ، وَأَجْمَعُوا الطَّاعَةَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ صَمَتَ عَلَى مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْمَعْصِيَةِ‏.‏ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ أَدَمَةِ الْأَرْضِ، مِنْ طِينٍ لَازِبٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، بِيَدَيْهِ، تَكْرِمَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَشْرِيفًا لَهُ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ‏.‏ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ فَيُقَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ ثُمَّ وَضَعَهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَرْبَعِينَ عَامًا قَبْلَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ حَتَّى عَادَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ، وَلَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَيُقَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ إِنَّهُ لَمَّا انْتَهَى الرُّوحُ إِلَى رَأْسِهِ عَطَسَ فَقَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ‏!‏ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ رَبُّكَ، وَوَقَعَ الْمَلَائِكَةُ حِينَ اسْتَوَى سُجُودًا لَهُ، حِفْظًا لِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ، وَطَاعَةً لِأَمْرِهِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ‏.‏ وَقَامَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَلَمْ يَسْجُدْ، مُكَابِرًا مُتَعَظِّمًا بَغْيًا وَحَسَدًا‏.‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏{‏يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ إِلَى ‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ ص‏:‏ 85‏]‏‏.‏

قَالَ‏:‏ فَلَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ إِبْلِيسَ وَمُعَاتَبَتِهِ، وَأَبَى إِلَّا الْمَعْصِيَةَ، أَوْقَعَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةَ وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ‏.‏ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى آدَمَ، وَقَدْ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏- أَيْ، إِنَّمَا أَجَبْنَاكَ فِيمَا عَلَّمْتَنَا، فَأَمَّا مَا لَمْ تُعَلِّمْنَا فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ‏.‏ فَكَانَ مَا سَمَّى آدَمُ مِنْ شَيْءٍ، كَانَ اسْمُهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا تَكَلَّمُوا بِمَا أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْ خَلْقِ آدَمَ، فَقَالُوا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏‏؟‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَالَتْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏ لِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهَا فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ، بَعْدَ مَا أَخْبَرَهَا أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْ بَنِي آدَمَ‏.‏ فَسَأَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، فَقَالَتْ- عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْهَا- ‏:‏ وَكَيْفَ يَعْصُونَكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ خَالِقُهُمْ‏؟‏ فَأَجَابَهُمْ رَبُّهُمْ‏:‏ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، يَعْنِي‏:‏ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْهُمْ- وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ- وَمِنْ بَعْضِ مَنْ تَرَوْنَهُ لِي طَائِعًا‏.‏ يُعَرِّفُهُمْ بِذَلِكَ قُصُورَ عِلْمِهِمْ عَنْ عِلْمِهِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ‏:‏ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِنْكَارِ مِنْهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ، وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ لِيَعْلَمُوا، وَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُعْصَى اللَّهُ، لِأَنَّ الْجِنَّ قَدْ كَانَتْ أُمِرَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَعَصَتْ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْشَادِ عَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ ‏"‏يَا رَبِّ خَبِّرْنَا‏"‏، مَسْأَلَةَ اسْتِخْبَارٍ مِنْهُمْ لِلَّهِ، لَا عَلَى وَجْهِ مَسْأَلَةِ التَّوْبِيخِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، مُخْبِرًا عَنْ مَلَائِكَتِهِ قِيلِهَا لَهُ‏:‏ ‏{‏أَتُجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نَسْبَحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏، تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ مِنْهَا اسْتِخْبَارٌ لِرَبِّهَا، بِمَعْنَى‏:‏ أَعْلِمْنَا يَا رَبَّنَا أَجَاعِلٌ أَنْتَ فِي الْأَرْضِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَتَارِكٌ أَنْ تَجْعَلَ خُلَفَاءَكَ مِنَّا، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ- لَا إِنْكَارٌ مِنْهَا لِمَا أَعْلَمَهَا رَبُّهَا أَنَّهُ فَاعِلٌ‏.‏ وَإِنْ كَانَتْ قَدِ اسْتَعْظَمَتْ لَمَّا أُخْبِرَتْ بِذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ خَلْقٌ يَعْصِيهِ‏.‏

وَأَمَّا دَعْوَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ كَانَ أَذِنَ لَهَا بِالسُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلَتْهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ، فَدَعْوَى لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَلَا خَبَرَ بِهَا مِنَ الْحُجَّةِ يَقْطَعُ الْعُذْرَ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ فِي تَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ بِمَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ‏.‏

وَأَمَّا وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ مَنْ وَصَفَتْ- فِي اسْتِخْبَارِهَا رَبَّهَا عَنْهُ- بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، فَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي رَوَاهُ السُّدِّيُّ، وَوَافَقَهُمَا عَلَيْهِ قَتَادَةُ- مِنَ التَّأْوِيلِ‏:‏ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً تَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالُوا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏، عَلَى مَا وَصَفَتْ مِنَ الِاسْتِخْبَارِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَمَا وَجْهُ اسْتِخْبَارِهَا، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ، مِنْ أَنَّهَا قَدْ أُخْبِرَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ وَجْهُ اسْتِخْبَارِهَا حِينَئِذٍ يَكُونُ عَنْ حَالِهِمْ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ‏.‏ وَهَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ‏؟‏ وَمَسْأَلَتُهُمْ رَبَّهُمْ أَنْ يَجْعَلَهُمُ الْخُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَعْصُوهُ‏.‏ وَغَيْرُ فَاسِدٍ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ عِلْمِ سُكَّانِ الْأَرْضِ- قَبْلَ آدَمَ- مِنَ الْجِنِّ، فَقَالَتْ لِرَبِّهَا‏:‏ ‏"‏أَجَاعَلٌ فِيهَا أَنْتَ مِثْلَهُمْ مِنَ الْخَلْقِ يَفْعَلُونَ مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَ‏"‏‏؟‏ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْلَامِ مِنْهُمْ لِرَبِّهِمْ، لَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهَا إِخْبَارًا عَمَّا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ‏.‏ وَغَيْرُ خَطَأٍ أَيْضًا مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ قِيلُ الْمَلَائِكَةِ مَا قَالَتْ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ مِنْهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ خَلْقٌ يَعْصِي خَالِقَهُ‏.‏

وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقَوْلَ بِالَّذِي رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَبِالَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا خَبَرَ عِنْدَنَا بِالَّذِي قَالُوهُ مِنْ وَجْهٍ يَقْطَعُ مَجِيئُهُ الْعُذْرَ، وَيُلْزِمُ سَامِعَهُ بِهِ الْحُجَّةَ‏.‏ وَالْخَبَرُ عَمَّا مَضَى وَمَا قَدْ سَلَفَ، لَا يُدْرَكُ عِلْمُ صِحَّتِهِ إِلَّا بِمَجِيئِهِ مَجِيئًا يَمْتَنِعُ مَعَهُ التَّشَاغُبُ وَالتَّوَاطُؤُ، وَيَسْتَحِيلُ مَعَهُ الْكَذِبُ وَالْخَطَأُ وَالسَّهْوُ‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ كَذَلِكَ فِيمَا حَكَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ، وَلَا فِيمَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ‏.‏

فَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ- إِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ- بِالْآيَةِ، مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ دَلَالَةٌ، مِمَّا يَصِحُّ مُخْرَجُهُ فِي الْمَفْهُومِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَإِنْ كَانَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْتُ، مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّ ذُرِّيَّةَ خَلِيفَتِهِ فِي الْأَرْضِ يُفْسِدُونَ فِيهَا وَيَسْفِكُونَ فِيهَا الدِّمَاءَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏، فَأَيْنَ ذِكْرُ إِخْبَارِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي كِتَابِهِ بِذَلِكَ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ اكْتَفَى بِدَلَالَةِ مَا قَدْ ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَلَا تَدْفِنُونِي إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ *** عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ خَامِرِي أُمَّ عَامِرِ

فَحَذْفُ قَوْلِهِ ‏"‏دَعُوْنِي لِلَّتِي يُقَالُ لَهَا عِنْدَ صَيْدِهَا ‏"‏‏:‏ خَامِرِيأُمَّ عَامِرٍ‏.‏ إِذْ كَانَ فِيمَا أَظْهَرَ مِنْ كَلَامِهِ، دَلَالَةٌ عَلَى مَعْنَى مُرَادِهِ‏.‏ فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏، لَمَّا كَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا تَرَكَ ذِكْرَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏، مِنَ الْخَبَرِ عَمَّا يَكُونُ مِنْ إِفْسَادِ ذُرِّيَّتِهِ فِي الْأَرْضِ، اكْتَفَى بِدَلَالَتِهِ وَحَذَفَ، فَتَرَكَ ذِكْرَهُ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ‏.‏ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ وَكَلَامِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى‏.‏ فَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ، اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ أَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ‏}‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ إِنَّا نُعَظِّمُكَ بِالْحَمْدِ لَكَ وَالشُّكْرِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النَّصْرِ‏:‏ 3‏]‏، وَكَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الشُّورَى‏:‏ 5‏]‏، وَكُلُّ ذِكْرٍ لِلَّهِ عِنْدَ الْعَرَبِ فَتَسْبِيحٌ وَصَلَاةٌ‏.‏ يَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ‏:‏ قَضَيْتُ سُبْحَتِي مِنَ الذَّكَرِ وَالصَّلَاةِ‏.‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ التَّسْبِيحَ صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنْتَ جَالِسٌ‏!‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ امْضِ إِلَى عَمَلِكَ إِنْ كَانَ لَكَ عَمَلٌ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ مَا أَظُنُّ إِلَّا سَيَمُرُّ عَلَيْكَ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْكَ‏.‏ فَمَرَّ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ‏:‏ يَا فُلَانُ، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنْتَ جَالِسٌ‏!‏ فَقَالَ لَهُ مِثْلَهَا، فَقَالَ‏:‏ هَذَا مِنْ عَمَلِي‏.‏ فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ فَلَمَّا انْفَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إِلَيْهِ عُمْرُ فَقَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَرَرْتُ آنِفًا عَلَى فُلَانٍ وَأَنْتَ تُصَلِّي، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنْتَ جَالِسٌ‏!‏ فَقَالَ‏:‏ سِرْ إِلَى عَمَلِكَ إِنْ كَانَ لَكَ عَمَلٌ‏.‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَهَلَّا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ‏.‏ فَقَامَ عُمْرُ مُسْرِعًا‏.‏ فَقَالَ‏:‏ يَا عُمْرُ ارْجِعْ فَإِنَّ غَضَبَكَ عِزٌّ وَرِضَاكَ حُكْمٌ، إِنْ لِلَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مَلَائِكَةً يُصَلُّونَ، لَهُ غِنًى عَنْ صَلَاةِ فَلَانٍ‏.‏ فَقَالَ عُمْرُ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا صَلَاتُهُمْ‏؟‏ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، سَأَلَكَ عُمْرُ عَنْ صَلَاةِ أَهْلِ السَّمَاءِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ اقْرَأْ عَلَى عُمْرَ السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا سُجُودٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ ‏"‏، وَأَهْلُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ رُكُوعٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ ‏"‏، وَأَهْلُ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ قِيَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَسَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجِسْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَهُ- أَوْ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ عَادَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ، أَيُّ الْكَلَامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَ رَبِّي وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ رَبِّي وَبِحَمْدِهِ‏)‏‏.‏ فِي أَشْكَالٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ، كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِاسْتِقْصَائِهَا‏.‏

وَأَصْلُ التَّسْبِيحِ لِلَّهِ عِنْدَ الْعَرَبِ‏:‏ التَّنْزِيهُ لَهُ مِنْ إِضَافَةِ مَا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ إِلَيْهِ، وَالتَّبْرِئَةُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ‏:‏

أَقُولُ- لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ- ‏:‏ *** سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ

يُرِيدُ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ مِنْ فَخْرِ عَلْقَمَةَ، أَيْ تِنْزِيهًا لِلَّهِ مِمَّا أَتَى عَلْقَمَةُ مِنَ الِافْتِخَارِ، عَلَى وَجْهِ النَّكِيرِ مِنْهُ لِذَلِكَ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏{‏نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ‏}‏‏:‏ نُصَلِّي لَكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ نُصَلِّي لَكَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏{‏نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ‏}‏ التَّسْبِيحُ الْمَعْلُومُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ‏}‏، قَالَ‏:‏ التَّسْبِيحَ التَّسْبِيحَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالتَّقْدِيسُ هُوَ التَّطْهِيرُ وَالتَّعْظِيمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏"‏سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ ‏"‏، يُعْنَى بِقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏ سُبُّوحٌ ‏"‏، تَنْزِيهٌ لِلَّهِ، وَبِقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏قُدُّوسٌ ‏"‏، طَهَارَةٌ لَهُ وَتَعْظِيمٌ‏.‏ وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْأَرْضِ‏:‏ ‏"‏ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ ‏"‏، يُعْنَى بِذَلِكَ الْمُطَهَّرَةُ‏.‏ فَمَعْنَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ إِذًا‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ‏}‏، نُنَزِّهُكَ وَنُبَرِّئُكَ مِمَّا يُضِيفُهُ إِلَيْكَ أَهْلُ الشِّرْكِ بِكَ، وَنُصَلِّي لَكَ‏.‏ ‏{‏وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏، نَنْسِبُكَ إِلَى مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِكَ، مِنَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَمَا أَضَافَ إِلَيْكَ أَهْلُ الْكُفْرِ بِكَ‏.‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ تَقْدِيسَ الْمَلَائِكَةِ لِرَبِّهَا صَلَاتُهَا لَهُ‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏، قَالَ‏:‏ التَّقْدِيسُ‏:‏ الصَّلَاةُ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏{‏وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏‏:‏ نُعَظِّمُكَ وَنُمَجِّدُكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍِ الْمُؤَدَّبُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏، قَالَ‏:‏ نُعَظِّمُكَ وَنُمَجِّدُكَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عِيسَى- وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ- جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏، قَالَ نُعَظِّمُكَ وَنُكَبِّرُكَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏، لَا نَعْصِي وَلَا نَأْتِي شَيْئًا تَكْرَهُهُ‏.‏

وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏، قَالَ‏:‏ التَّقْدِيسُ‏:‏ التَّطْهِيرُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَ التَّقْدِيسَ الصَّلَاةُ أَوِ التَّعْظِيمُ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّطْهِيرِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ صَلَاتَهَا لِرَبِّهَا تَعْظِيمٌ مِنْهَا لَهُ، وَتَطْهِيرٌ مِمَّا يَنْسُبُهُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُفْرِ بِهِ‏.‏ وَلَوْ قَالَ مَكَانَ‏:‏ ‏{‏وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏ وَ‏"‏ نُقَدِّسُكَ ‏"‏، كَانَ فَصِيحًا مِنَ الْكَلَامِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ‏:‏ فُلَانٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ وَيُقَدِّسُهُ، وَيُسَبِّحُ لِلَّهِ وَيُقَدِّسُ لَهُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ‏.‏ وَقَدْ جَاءَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ طَهَ‏:‏ 34‏]‏، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْجُمُعَةِ‏:‏ 1‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ إِبْلِيسَ، وَإِضْمَارِهِ الْمَعْصِيَةَ لِلَّهِ وَإِخْفَائِهِ الْكِبْرَ، مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ وَخَفِيَ عَلَى مَلَائِكَتِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنِّي قَدِ اطَّلَعْتُ مَنْ قَلْبِ إِبْلِيسَ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعُوا عَلَيْهِ مِنْ كِبْرِهِ وَاغْتِرَارِهِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، يَعْنِي مِنْ شَأْنِ إِبْلِيسَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ- وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ- قَالَا جَمِيعًا‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلِمَ مِنْ إِبْلِيسَ الْمَعْصِيَةَ وَخَلَقَهُ لَهَا‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِمِثْلِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَلِمَ مِنْ إِبْلِيسَ الْمَعْصِيَةَ وَخَلَقَهُ لَهَا‏.‏

وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُزُورِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلِمَ مِنْ إِبْلِيسَ كِتْمَانَهُ الْكِبْرَ أَنْ لَا يَسْجُدُ لِآدَمَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ‏:‏- وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ- جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلِمَ مِنْ إِبْلِيسَ الْمَعْصِيَةَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوِيدٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلِمَ مِنْ إِبْلِيسَ الْمَعْصِيَةَ وَخَلَقَهُ لَهَا‏.‏

وَقَالَ مَرَّةً آدَمُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمُنْهَالِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ سَمِعَتْ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلِمَ مِنْ إِبْلِيسَ الْمَعْصِيَةَ وَخَلَقَهُ لَهَا، وَعَلِمَ مِنْ آدَمَ الطَّاعَةَ وَخَلَقَهُ لَهَا‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَالثَّوْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلِمَ مِنْ إِبْلِيسَ الْمَعْصِيَةَ وَخَلَقَهُ لَهَا‏.‏

وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ أَيْ فِيكُمْ وَمِنْكُمْ، وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ، مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ أَهْلُ الطَّاعَةِ وَالْوِلَايَةِ لِلَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، فَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ أَنْبِيَاءُ وَرُسُلٌ وَقَوْمٌ صَالِحُونَ وَسَاكِنُو الْجَنَّةِ‏.‏

وَهَذَا الْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّتِي قَالَتْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏، اسْتَفْظَعَتْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ خَلْقٌ يَعْصِيهِ، وَعَجِبَتْ مِنْهُ إِذْ أَخْبَرَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ‏.‏ فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ يَعْنِي بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ إِنَّكُمْ لَتَعْجَبُونَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَتَسْتَفْظِعُونَهُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ فِي بَعْضِكُمْ، وَتَصِفُونَ أَنْفُسَكُمْ بِصِفَةٍ أَعْلَمُ خِلَافَهَا مِنْ بَعْضِكُمْ، وَتَعْرِضُونَ بِأَمْرٍ قَدْ جَعَلْتُهُ لِغَيْرِكُمْ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا أَخْبَرَهَا رَبُّهَا بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ خَلِيفَتِهِ، مِنَ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، قَالَتْ لِرَبِّهَا‏:‏ يَا رَبِّ أَجَاعِلٌ أَنْتَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مِنْ غَيْرِنَا، يَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَعْصِيكَ، أَمْ مِنَّا، فَإِنَّا نُعَظِّمُكَ وَنَصْلَيْ لَكَ وَنُطِيعُكَ وَلَا نَعْصِيكَ‏؟‏- وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا عِلْمٌ بِمَا قَدِ انْطَوَى عَلَيْهِ كَشْحًا إِبْلِيسُ مِنِ اسْتِكْبَارِهِ عَلَى رَبِّهِ- فَقَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ‏:‏ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُونَ مِنْ بَعْضِكُمْ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ مَا كَانَ مَسْتُورًا عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ إِبْلِيسَ، وَانْطِوَائِهِ عَلَى مَا قَدْ كَانَ انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْكِبْرِ‏.‏ وَعَلَى قِيلِهِمْ ذَلِكَ، وَوَصَفِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْعُمُومِ مِنَ الْوَصْفِ عُوتِبُوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ بَعَثَ رَبُ الْعِزَّةِ مَلَكَ الْمَوْتِ فَأَخَذَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، مِنْ عَذْبِهَا وَمَالِحِهَا، فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ‏.‏ وَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ آدَمَ‏.‏ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلَيٍّ، قَالَ‏:‏ إِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، فِيهِ الطَّيِّبُ وَالصَّالِحُ وَالرَّدِيءُ، فَكُلُّ ذَلِكَ أَنْتَ رَاءٍ فِي وَلَدِهِ، الصَّالِحُ وَالرَّدِيءُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ‏:‏ خُلِقَ آدَمُ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، فَسُمِّيَ آدَمَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَ آدَمَ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَمَّا بُعِثَ لِيَأْخُذَ مِنَ الْأَرْضِ تُرْبَةَ آدَمَ، أَخَذَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَخَلْطَ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ‏.‏ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ آدَمَ، لِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ يُحَقِّقُ مَا قَالَ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ فِي مَعْنَى آدَمَ‏.‏ وَذَلِكَ مَا- ‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَوْفٍ- وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ- قَالَا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ- قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَوْفٌ- وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالُوا‏:‏ حَدَّثَنَا عَوْفٌ- وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ- عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَبْيَضُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ‏.‏

فَعَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَ ‏"‏آدَم‏"‏ مَنْ تَأَوَّلَهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ ‏"‏آدَم‏"‏ فِعْلًا سُمِّيَ بِهِ أَبُو الْبَشَرِ، كَمَا سُمِّيَ ‏"‏أَحْمَد‏"‏ بِالْفِعْلِ مِنَ الْإِحْمَادِ، وَ‏"‏ أَسْعَدُ ‏"‏ مِنَ الْإِسْعَادِ، فَلِذَلِكَ لَمَّ يُجَرَّ‏.‏ وَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ حِينَئِذٍ‏:‏ آدَمَ الْمَلَكُ الْأَرْضَ، يَعْنِي بِهِ بَلَغَ أَدْمَتَهَا- وَأَدَمَتُهَا‏:‏ وَجْهُهَا الظَّاهِرُ لِرَأْيِ الْعَيْنِ، كَمَا أَنَّ جِلْدَةُ كُلِّ ذِي جِلْدَةٍ لَهُ أَدَمَةٌ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَ الْإِدَامُ إِدَامًا، لِأَنَّهُ صَارَ كَالْجِلْدَةِ الْعُلْيَا مِمَّا هِيَ مِنْهُ- ثُمَّ نُقِلَ مِنَ الْفِعْلِ فَجُعِلَ اسْمًا لِلشَّخْصِ بِعَيْنِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيالْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَهَا آدَمَ ثُمَّ عَرَضَهَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا- ‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَهِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ‏:‏ إِنْسَانٌ وَدَابَّةٌ، وَأَرْضٌ وَسَهْلٌ وَبَحْرٌ وَجَبَلٌ وَحِمَارٌ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا‏.‏

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ- وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ‏.‏

وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ‏.‏

وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرْمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ عَلَّمَهُ اسْمَ الْغُرَابِ وَالْحَمَامَةِ وَاسْمَ كُلِّ شَيْءٍ‏.‏

وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيْكٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ‏:‏ عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى الْبَعِيرَ وَالْبَقَرَةَ وَالشَّاةَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ عَلَّمَهُ اسْمَ الْقَصْعَةِ وَالْفَسْوَةِ وَالْفُسَيَّةِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ حَتَّى الْفَسْوَةَ وَالْفُسَيَّةَ‏.‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْهَنَةُ وَالْهُنَيَّةَ وَالْفَسْوَةَ وَالضَّرْطَةَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ عَلَّمَهُ الْقَصْعَةَ مِنَ الْقُصَيْعَةِ، وَالْفَسْوَةَ مِنَ الْفُسَيَّةِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏{‏قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ‏}‏، فَأَنْبَأَ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْخَلْقِ بِاسْمِهِ، وَأَلْجَأَهُ إِلَى جِنْسِهِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، هَذَا جَبَلٌ، وَهَذَا بِحْرٌ، وَهَذَا كَذَا وَهَذَا كَذَا، لِكُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ عَرَضَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ‏:‏ أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ- وَمُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ- وَأَبِي بَكْرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، قَالَا عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ‏:‏ هَذِهِ الْخَيْلُ، وَهَذِهِ الْبِغَالُ وَالْإِبِلُ وَالْجِنُّ وَالْوَحْشُ، وَجَعَلَ يُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ‏.‏

وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ‏:‏ اسْمُ كُلِّ شَيْءٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنَّمَا عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ كُلَّهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبِدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ أَجْمَعِينَ‏.‏

وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ، وَأَشْبَهُهَا بِمَا دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏ إِنَّهَا أَسْمَاءُ ذَرِّيَّتِهِ وَأَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ، دُونَ أَسْمَاءِ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ أَعْيَانَ الْمُسَمَّيْنَ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَهَا آدَمَ‏.‏ وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تُكَنِّي بِالْهَاءِ وَالْمِيمِ إِلَّا عَنْ أَسْمَاءِ بَنِي آدَمَ وَالْمَلَائِكَةِ‏.‏ وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَنْ أَسْمَاءِ الْبَهَائِمِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ سِوَى مَنْ وَصَفْنَاهَا، فَإِنَّهَا تُكَنِّي عَنْهَا بِالْهَاءِ وَالْأَلْفِ أَوْ بِالْهَاءِ وَالنُّونِ، فَقَالَتْ‏:‏ ‏"‏ عَرَضَهُنَّ ‏"‏أَو‏"‏ عَرَضَهَا ‏"‏، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ إِذَا كَنَتْ عَنْ أَصْنَافٍ مِنَ الْخَلْقِ كَالْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ الْأُمَمِ وَفِيهَا أَسْمَاءُ بَنِي آدَمَ وَالْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّهَا تُكَنَّى عَنْهَا بِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْهَاءِ وَالنُّونِ أَوَ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ‏.‏ وَرُبَّمَا كَنَتْ عَنْهَا، إِذَا كَانَ كَذَلِكَ بِالْهَاءِ وَالْمِيمِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النُّورِ‏:‏ 45‏]‏، فَكَنَّى عَنْهَا بِالْهَاءِ وَالْمِيمِ، وَهِيَ أَصْنَافٌِ مُخْتَلِفَةٌ فِيهَا الْآدَمِيُّ وَغَيْرُهُ‏.‏ وَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، فَإِنَّ الْغَالِبَ الْمُسْتَفِيضَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا وَصَفْنَا، مِنْ إِخْرَاجِهِمْ كِنَايَةَ أَسْمَاءِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ- إِذَا اخْتَلَطَتْ- بِالْهَاءِ وَالْأَلْفِ أَوَ الْهَاءِ وَالنُّونِ‏.‏ فَلِذَلِكَ قُلْتُ‏:‏ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ الْأَسْمَاءُ الَّتِي عَلَّمَهَا آدَمَ أَسْمَاءَ أَعْيَانِ بَنِي آدَمَ وَأَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنْ كَانَ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَائِزًا عَلَى مِثَالِ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهَا فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏"‏ ثُمَّ عَرَضَهُنَّ ‏"‏، وَأَنَّهَا فِي حَرْفِ أُبَيِّ‏:‏ ‏"‏ ثُمَّ عَرَضَهَا‏"‏‏.‏

وَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَأَوَّلَ مَا تَأَوَّلَ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْفَسْوَةَ وَالْفُسَيَّةَ، عَلَى قِرَاءَةِ أُبَيٍّ، فَإِنَّهُ فِيمَا بَلَغَنَا كَانَ يَقْرَأُ قِرَاءَةَ أُبَيٍّ‏.‏ وَتَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ- عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ أُبَيٍّ مِنْ قِرَاءَتِهِ- غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ وَصْفِي ذَلِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا التَّأْوِيلَ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْآيَةِ، عَلَى قِرَاءَتِنَا وَرَسْمِ مُصْحَفِنَا، وَأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ‏}‏، بِالدَّلَالَةِ عَلَى بَنِي آدَمَ وَالْمَلَائِكَةِ، أَوْلَى مِنْهُ بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَجْنَاسِ الْخَلْقِ كُلِّهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ فَاسِدٍ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى جَمِيعِ أَصْنَافِ الْأُمَمِ، لِلْعِلَلِ الَّتِي وَصَفْنَا‏.‏

وَيَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ‏}‏، ثُمَّ عَرَضَ أَهْلَ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ‏}‏ نَحْوَ اخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏‏.‏ وَسَأَذْكُرُ قَوْلَ مَنِ انْتَهَى إِلَيْنَا عَنْهُ فِيهِ قَوْلٌ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ‏}‏، ثُمَّ عَرَضَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ، يَعْنِي أَسْمَاءَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، الَّتِي عَلَّمَهَا آدَمَ مِنْ أَصْنَافِ جَمِيعِ الْخَلْقِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبَى صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ‏}‏، ثُمَّ عَرَضَ الْخَلْقَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ كُلِّهَا، أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ عَرَضَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ‏}‏، عَرْضَ أَصْحَابَ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ

وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ‏}‏، يَعْنِي عَرَضَ الْأَسْمَاءَ، الْحَمَامَةَ وَالْغُرَابَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ،- وَمُبَارَكٌ عَنِ الْحَسَنِ- وَأَبِي بَكْرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ- قَالَا عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ‏:‏ هَذِهِ الْخَيْلُ، وَهَذِهِ الْبِغَالُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏ وَجَعَلَ يُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ أُمَّةٌ أُمَّةٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ أَنْبَئُونِي ‏"‏‏:‏ أَخْبِرُونِي، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ أَنْبَئُونِي ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ‏:‏

وَأَنْبَأَهُ الْمُنَبِّئُ أَنَّ حَيًّا *** حُلُولٌ مِنْ حَرَامٍ أَوْ جُذَامِ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَنْبَأَهُ‏"‏‏:‏ أَخْبَرَهُ وَأَعْلَمَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى- وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ‏}‏، قَالَ‏:‏ بِأَسْمَاءِ هَذِهِ الَّتِي حَدَّثْتُ بِهَا آدَمَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ الَّتِي حَدَّثْتُ بِهَا آدَمَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ‏.‏

فَحَدَّثْنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لِمَ أَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏.‏

وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ أَنَّ بَنِي آدَمَ يَفْسُدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ- وَمُبَارَكٌ عَنِ الْحَسَنِ- وَأَبِي بَكْرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ- قَالَا ‏{‏أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ أَنِّي لَمْ أَخْلُقْ خَلْقًا إِلَّا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ، فَأَخْبَرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ‏.‏ وَمَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ فَقَالَ أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ مَنْ عَرَضْتُهُ عَلَيْكُمْ أَيَّتُهَا الْمَلَائِكَةُ- الْقَائِلُونَ‏:‏ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ مَنْ غَيْرِنَا، أَمْ مِنَّا‏؟‏ فَنَحْنُ نَسْبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ‏؟‏ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قِيْلِكُمْ أَنِّي إِنْ جَعَلْتُ خَلِيفَتِي فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِكُمْ عَصَانِي ذُرِّيَّتُهُ وَأَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَإِنْ جَعَلْتُكُمْ فِيهَا أَطَعْتُمُونِي، وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرِي بِالتَّعْظِيمِ لِي وَالتَّقْدِيسِ‏.‏ فَإِنَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَرَضْتُهُمْ عَلَيْكُمْ مِنْ خَلْقِي، وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مَوْجُودُونَ تَرَوْنَهُمْ وَتَعَايِنُونَهُمْ، وَعَلِمَهُ غَيْرُكُمْ بِتَعْلِيمِي إِيَّاهُ، فَأَنْتُمْ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مِنَ الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ بَعْدُ، وَبِمَا هُوَ مُسْتَتِرٌ مِنَ الْأُمُورِ- الَّتِي هِيَ مَوْجُودَةٌ- عَنْ أَعْيُنِكُمْ أَحْرَى أَنْ تَكُونُوا غَيْرَ عَالِمَيْنِ، فَلَا تَسْأَلُونِي مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَإِنِّي أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُكُمْ وَيَصْلُحُ خَلْقِي‏.‏

وَهَذَا الْفِعْلُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَلَائِكَتِهِ- الَّذِينَ قَالُوا لَهُ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏، مِنْ جِهَةِ عِتَابِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ إِيَّاهُمْ- نَظِيرُ قَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ لِنَبِيِّهِ نُوحٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذْ قَالَ‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ هُودٍ‏:‏ 45‏]‏- ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عَلِّمْ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ هُودٍ‏:‏ 46‏]‏‏.‏ فَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ سَأَلَتْ رَبَّهَا أَنْ تَكُونَ خُلَفَاءَهُ فِي الْأَرْضِ لِيُسَبِّحُوهُ وَيُقَدِّسُوهُ فِيهَا، إِذْ كَانَ ذُرِّيَّةُ مَنْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ جَاعِلُهُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، يُفْسِدُونَ فِيهَا وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَكُمْ فَاتِحُ الْمَعَاصِي وَخَاتِمُهَا، وَهُوَ إِبْلِيسُ، مُنْكِرًا بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَوْلَهُمْ‏.‏ ثُمَّ عَرَّفَهُمْ مَوْضِعَ هَفْوَتِهِمْ فِي قِيْلِهِمْ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ، بِتَعْرِيفِهِمْ قُصُورَ عِلْمِهِمْ عَمَّا هُمْ لَهُ شَاهِدُونَ عِيَانًا،- فَكَيْفَ بِمَا لَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يُخْبَرُوا عَنْهُ‏؟‏- بِعَرْضِهِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ خَلْقِهِ الْمَوْجُودِينَ يَوْمَئِذٍ، وَقِيلِهِ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ أَنَّكُمْ إِنِ اسْتَخْلَفْتُكُمْ فِي أَرْضِي سَبَّحْتُمُونِي وَقَدَّسْتُمُونِي، وَإِنِ اسْتَخْلَفْتُ فِيهَا غَيْرَكُمْ عَصَانِي ذُرِّيَّتُهُ وَأَفْسَدُوا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ‏.‏ فَلَمَّا اتَّضَحَ لَهُمْ مَوْضِعَ خَطَأِ قَيْلِهِمْ، وَبَدَتْ لَهُمْ هَفْوَةَ زَلَّتِهِمْ، أَنَابُوا إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ فَقَالُوا‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏، فَسَارَعُوا الرَّجْعَةِ مِنَ الْهَفْوَةِ، وَبَادَرُوا الْإِنَابَةَ مِنَ الزَّلَّةِ، كَمَا قَالَ نُوحٌ- حِينَ عُوتِبَ فِي مَسْئَلَتِهِ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ لَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ- ‏:‏ ‏{‏رَبِ إِنِّي أَعُوَذٌ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ هُودٍ‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وَكَذَلِكَ فِعْلُ كُلِّ مُسَدَّدٍ لِلْحَقِّ مُوَفَّقٍ لَهُ- سَرِيعَةٌ إِلَى الْحَقِّ إِنَابَتُهُ، قَرِيبَةٌ إِلَيْهِ أَوْبَتُهُ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ ادَّعَوْا شَيْئًا، إِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ جَهْلِهِمْ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَعِلْمِهِ بِذَلِكَ وَفَضْلِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَنْبِئُونِي إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏- كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ‏:‏ ‏"‏ أَنْبِئْنِي بِهَذَا إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ ‏"‏‏.‏ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، يُرِيدُ أَنَّهُ جَاهِلٌ‏.‏

وَهَذَا قَوْلٌ إِذَا تَدَبَّرَهُ مُتَدَبِّرٌ، عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُ مُفْسِدٌ بَعْضًا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ قَائِلَهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ- إِذْ عَرَضَ عَلَيْهِمْ أَهْلَ الْأَسْمَاءِ- ‏:‏ أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا هُمُ ادَّعَوْا عِلْمَ شَيْءٍ يُوجِبُ أَنْ يُوَبَّخُوا بِهَذَا الْقَوْلِ‏.‏

وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ نَظِيرُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ‏:‏ ‏"‏ أَنْبِئْنِي بِهَذَا إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ ‏"‏‏.‏ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، يُرِيدُ أَنَّهُ جَاهِلٌ‏.‏

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ إِنَّمَا هُوَ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، إِمَّا فِي قَوْلِكُمْ، وَإِمَّا فِي فِعْلِكُمْ‏.‏ لِأَنَّ الصِّدْقَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِنَّمَا هُوَ صِدْقٌ فِي الْخَبَرِ لَا فِي الْعِلْمِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي لُغَةٍ مِنَ اللُّغَاتِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ صَدَقَ الرَّجُلُ بِمَعْنَى عَلِمَ‏.‏ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ- عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ هَذَا الَّذِي حَكَيْنَا قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- ‏:‏ ‏{‏أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ غَيْرُ صَادِقِينَ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ مَا أَنْكَرَهُ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَدَّعِ شَيْئًا، فَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَأَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ‏؟‏ هَذَا مَعَ خُرُوجِ هَذَا الْقَوْلِ- الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ صَاحِبِهِ- مِنْ أَقْوَالِ جَمِيعِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ‏.‏

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ إِذْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏.‏

وَلَوْ كَانَتْ ‏"‏إِن‏"‏ بِمَعْنَى ‏"‏إِذ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهَا بِفَتْحِ أَلِفِهَا، لِأَنَّ ‏"‏إِذ‏"‏ إِذَا تَقَدَّمَهَا فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ صَارَتْ عِلَّةً لِلْفِعْلِ وَسَبَبًا لَهُ‏.‏ وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏أَقُومُ إِذْ قُمْتُ ‏"‏‏.‏ فَمَعْنَاهُ أَقْوَمُ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ قُمْتَ‏.‏ وَالْأَمْرُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ- لَوْ كَانَت‏"‏ إِنْ ‏"‏بِمَعْنَى‏"‏ إِذْ ‏"‏- ‏:‏ أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ صَادِقُونَ‏.‏ فَإِذَا وُضِعَت‏"‏ إِنْ ‏"‏مَكَانَ ذَلِكَ قِيلَ‏:‏ أَنْبَئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ أَنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، مَفْتُوحَةَ الْأَلِفِ‏.‏ وَفِي إِجْمَاعِ جَمِيعِ قُرَّاءِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى كَسْرِ الْأَلْفِ مِن‏"‏ إِنْ ‏"‏، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى خَطَأِ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ ‏"‏إِن‏"‏ بِمَعْنَى ‏"‏إِذ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَّرَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ عَنْ مَلَائِكَتِهِ، بِالْأَوْبَةِ إِلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ عِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ لَهُ، وَتَبِرِّيهِمْ مِنْ أَنْ يَعْلَمُوا أَوْ يَعْلَمَ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا مَا عَلَّمَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏.‏

وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْعِبْرَةُ لِمَنِ اعْتَبَرَ، وَالذِّكْرَى لِمَنِ ادَّكَرَ، وَالْبَيَانُ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، عَمَّا أَوْدَعَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ آيَ هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ لَطَائِفِ الْحِكَمِ الَّتِي تَعْجِزُ عَنْ أَوْصَافِهَا الْأَلْسُنُ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ احْتَجَّ فِيهَا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِإِطْلَاعِهِ إِيَّاهُ مِنْ عُلُومِ الْغَيْبِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَطْلَعَ عَلَيْهَا مِنْ خَلْقِهِ إِلَّا خَاصًّا، وَلَمْ يَكُنْ مُدْرَكًا عِلْمُهُ إِلَّا بِالْإِنْبَاءِ وَالْإِخْبَارِ، لِتَتَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ صِحَّةُ نُبُوَّتِهِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ مَا أَتَاهُمْ بِهِ فَمِنْ عِنْدِهِ، وَدَلَّ فِيهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ خَبَرًا عَمَّا قَدْ كَانَ- أَوْ عَمَّا هُوَ كَائِنٌ مِمَّا لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يَأْتِهِ بِهِ خَبَرٌ، وَلَمْ يُوضَعْ لَهُ عَلَى صِحَّتِهِ بِرِهَانٌ،- فَمُتَقَوِّلٌ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ مِنْ رَبِّهِ الْعُقُوبَةَ‏.‏ أَلَّا تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ رَدَّ عَلَى مَلَائِكَتِهِ قِيلَهُمْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏، وَعَرَّفَهُمْ أَنْ قِيلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُمْ، بِمَا عَرَّفَهُمْ مِنْ قُصُورِ عِلْمِهِمْ عِنْدَ عَرْضِهِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَسْمَاءِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَفْزَعٌ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِالْعَجْزِ، وَالتَّبَرِّي إِلَيْهِ أَنْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ، بِقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏‏.‏ فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَوْضَحُ الدَّلَالَةِ وَأَبْيَنُ الْحُجَّةَ، عَلَى كَذِبِ مَقَالَةِ كُلِّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ عُلُومِ الْغَيْبِ مِنَ الْحُزَاةِ وَالْكَهَنَةِ وَالْعَافَةِ وَالْمُنَجِّمَةِ‏.‏ وَذَكَّرَ بِهَا الَّذِينَ وَصَفْنَا أَمْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ- سَوَالِفَ نِعَمِهِ عَلَى آبَائِهِمْ، وَأَيَادِيَهُ عِنْدَ أَسْلَافِهِمْ، عِنْدَ إِنَابَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَإِقْبَالِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ، مُسْتَعْطِفَهُمْ بِذَلِكَ إِلَى الرَّشَادِ، وَمُسْتَعْتِبَهُمْ بِهِ إِلَى النَّجَاةِ‏.‏ وَحَذَّرَهُمْ- بِالْإِصْرَارِ وَالتَّمَادِي فِي الْبَغْيِ وَالضَّلَالِ- حُلُولَ الْعِقَابِ بِهِمْ، نَظِيرَ مَا أَحَلَّ بِعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ، إِذْ تَمَادَى فِي الْغَيِّ وَالْخَسَارِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏، فَهُوَ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏قَالُوا سُبْحَانَكَ‏}‏ تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ، تُبْنَا إِلَيْكَ ‏{‏لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏، تَبَرِّيًا مِنْهُمْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، ‏{‏إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏ كَمَا عَلَّمْتَ آدَمَ‏.‏

وَسُبْحَانَ مُصَدِّرٌ لَا تَصَرُّفَ لَهُ‏.‏ وَمَعْنَاهُ‏:‏ نُسَبِّحُكَ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ نُسَبِّحُكَ تَسْبِيحًا، وَنُنَزِّهُكَ تَنْزِيهًا، وَنُبَرِّئُكَ مِنْ أَنْ نَعْلَمَ شَيْئًا غَيْرَ مَا عَلَّمْتَنَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبَّنَا الْعَلِيمُ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ بِجَمِيعِ مَا قَدْ كَانَ وَمَا وَهُوَ كَائِنٌ، وَالْعَالِمُ لِلْغُيُوبِ دُونَ جَمِيعِ خَلْقِكَ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏، أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عِلْمٌ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ رَبُّهُمْ، وَأَثْبَتُوا مَا نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ لِرَبِّهِمْ بِقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ‏}‏، يَعْنُونَ بِذَلِكَ الْعَالِمَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ، إِذْ كَانَ مَنْ سِوَاكَ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا بِتَعْلِيمِ غَيْرِهِ إِيَّاهُ‏.‏ وَالْحَكِيمُ‏:‏ هُوَ ذُو الْحِكْمَةِ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏الْعَلِيم‏"‏ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، وَ‏"‏ الْحَكِيمُ ‏"‏ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حُكْمِهِ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ، إِنَّ مَعْنَى الْحَكِيمِ‏:‏ الْحَاكِمُ، كَمَا أَنَّ الْعَلِيمَ بِمَعْنَى الْعَالِمِ، وَالْخَبِيرَ بِمَعْنَى الْخَابِرِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَرَّفَ مَلَائِكَتَهُ- الَّذِينَ سَأَلُوهُ أَنْ يَجْعَلَهُمَ الْخُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَوَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَالْخُضُوعِ لِأَمْرِهِ، دُونَ غَيْرِهِمُ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِيهَا وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ- أَنَّهُمْ، مِنَ الْجَهْلِ بِمَوَاقِعِ تَدْبِيرِهِ وَمَحَلِّ قَضَائِهِ، قَبْلَ إِطْلَاعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَيْهِ، عَلَى نَحْوِ جَهْلِهِمْ بِأَسْمَاءِ الَّذِينَ عَرَضَهُمْ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُعَلِّمْهُمْ فَيَعْلَمُوهُ، وَأَنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْعِبَادِ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ إِيَّاهُ رَبُّهُمْ، وَأَنَّهُيَخُصُّ بِمَا شَاءَ مِنَ الْعِلْمِ مَنْ شَاءَ مِنَ الْخَلْقِ، وَيَمْنَعُهُ مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ، كَمَا عَلَّمَ آدَمَ أَسْمَاءَ مَا عَرَضَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمَنَعَهُمْ عِلْمَهَا إِلَّا بَعْدَ تَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ‏.‏

فَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَ الْمَلَائِكَةَ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَنْبِئْهُم‏"‏ عَائِدَتَانِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏بِأَسْمَائِهِم‏"‏ يَعْنِي بِأَسْمَاءِ الَّذِينَ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ اللَّتَانِ فِي ‏"‏أَسْمَائِهِم‏"‏ كِنَايَةٌ عَنْ ذِكْرِ ‏"‏هَؤُلَاء‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ‏}‏‏.‏ ‏"‏فَلَمَّا أَنْبَأَهُم‏"‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَمَّا أَخْبَرَ آدَمُ الْمَلَائِكَةَ بِأَسْمَاءِ الَّذِينَ عَرَضَهُمْ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَعْرِفُوا أَسْمَاءَهُمْ، وَأَيْقَنُوا خَطَأَ قِيلِهِمْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏، وَأَنَّهُمْ قَدْ هَفَوْا فِي ذَلِكَ وَقَالُوا مَا لَا يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ وُقُوعِ قَضَاءِ رَبِّهِمْ فِي ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ، عَلَى مَا نَطَقُوا بِهِ،- قَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏.‏ وَالْغَيْبُ‏:‏ هُوَ مَا غَابَ عَنْ أَبْصَارِهِمْ فَلَمْ يُعَايِنُوهُ، تَوْبِيخًا مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ بِذَلِكَ، عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ قِيْلِهِمْ، وَفَرْطٍ مِنْهُمْ مِنْ خَطَأِ مَسْأَلَتِهِمْ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَخْبِرْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ- ‏{‏فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ‏}‏ أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ خَاصَّةً ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ وَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرِي‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قِصَّةِ الْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ‏:‏ فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ كَمَا لَمْ تَعْلَمُوا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فَلَيْسَ لَكُمْ عِلْمٌ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَهُمْ لِيُفْسِدُوا فِيهَا، هَذَا عِنْدِي قَدْ عَلِمْتُهُ، فَكَذَلِكَ أَخْفَيْتُ عَنْكُمْ أَنِّي أَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يَعْصِينِي وَمَنْ يُطِيعُنِي، قَالَ‏:‏ وَسَبَقَ مِنَ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ هُودٍ‏:‏ 119، وَسُورَةُ السَّجْدَةِ‏:‏ 13‏]‏، قَالَ‏:‏ وَلَمْ تَعْلَمِ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ وَلَمْ يَدْرُوهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا رَأَوْا مَا أَعْطَى اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْعِلْمِ أَقَرُّوا لِآدَمَ بِالْفَضْلِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَا تُظْهِرُونَ، ‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ‏.‏ يَعْنِي‏:‏ مَا كَتَمَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏، فَهَذَا الَّذِي أَبْدَوْا، ‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، يَعْنِي مَا أَسُرَّ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ مَا أَسُرَّ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ مَا أَسَرَّ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ أَلَّا يَسْجُدَ لِآدَمَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ الْأَنْمَاطِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُِ مَيْمُونٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ دِينَارٍ، قَالَ لِلْحَسَنِ- وَنَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَهُ فِي مَنْزِلِهِ- ‏:‏ يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، مَا الَّذِي كَتَمَتِ الْمَلَائِكَةُ‏؟‏ فَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ إِنَ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ رَأَتِ الْمَلَائِكَةُ خَلْقًا عَجِيبًا، فَكَأَنَّهُمْ دَخَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَأَسَرُّوا ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا‏:‏ وَمَا يُهِمُّكُمْ مِنْ هَذَا الْمَخْلُوقِ‏!‏ إِنَّ اللَّهَ لَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَسَرُّوا بَيْنَهُمْ فَقَالُوا‏:‏ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ أَنْ يَخْلُقَ، فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا إِلَّا وَنَحْنُ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، فَكَانَ الَّذِي أَبْدَوْا حِينَ قَالُوا‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏، وَكَانَ الَّذِي كَتَمُوا بَيْنَهُمْ قَوْلَهُمْ‏:‏ لَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا نَحْنُ أَعْلَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ‏.‏ فَعَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَمَ فِي الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ‏}‏، وَأَعْلَمُ- مَعَ عِلْمِي غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ- مَا تُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ، ‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، وَمَا كُنْتُمْ تُخْفُونَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ، سَوَاءٌ عِنْدِي سَرَائِرُكُمْ وَعَلَانِيَتُكُمْ‏.‏

وَالَّذِي أَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏، وَالَّذِي كَانُوا يَكْتُمُونَهُ، مَا كَانَ مُنْطَوِيًا عَلَيْهِ إِبْلِيسُ مِنَ الْخِلَافِ عَلَى اللَّهِ فِي أَمْرِهِ، وَالتَّكَبُّرِ عَنْ طَاعَتِهِ‏.‏ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ غَيْرُ خَارِجٍ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ، وَهُوَ مَا قُلْنَا، وَالْآخَرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ كِتْمَانُ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَهُمْ لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ‏.‏ فَإِذْ كَانَ لَا قَوْلَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ إِلَّا أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ، ثُمَّ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَوْجُودَةٍ عَلَى صِحَّتِهِ الدَّلَالَةُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ- صَحَّ الْوَجْهُ الْآخَرُ‏.‏

فَالَّذِي حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، غَيْرُ مَوْجُودَةٍ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنَ الْكِتَابِ، وَلَا مِنْ خَبَرٍ يَجِبُ بِهِ حُجَّةٌ‏.‏ وَالَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ خَبَرُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ إِبْلِيسَ وَعِصْيَانِهِ إِيَّاهُ، إِذْ دَعَاهُ إِلَى السُّجُودِ لِآدَمَ فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَإِظْهَارِهِ لِسَائِرِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَكِبْرِهِ، مَا كَانَ لَهُ كَاتِمًا قَبْلَ ذَلِكَ‏.‏

فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْخَبَرَ عَنْ كِتْمَانِ الْمَلَائِكَةِ مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ، لَمَّا كَانَ خَارِجًا مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْجَمِيعِ، كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَا رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ‏:‏ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ كِتْمَانِ إِبْلِيسَ الْكِبْرَ وَالْمَعْصِيَةَ- صَحِيحًا، فَقَدْ ظَنَّ غَيْرَ الصَّوَابِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ، إِذَا أَخْبَرَتْ خَبَرًا عَنْ بَعْضِ جَمَاعَةٍ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، أَنَّ تُخْرِجَ الْخَبَرَ عَنْهُ مُخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏ قُتِلَ الْجَيْشُ وَهُزِمُوا ‏"‏، وَإِنَّمَا قُتِلَ الْوَاحِدُ أَوِ الْبَعْضُ مِنْهُمْ، وَهُزِمَ الْوَاحِدُ أَوِ الْبَعْضُ‏.‏ فَتُخْرِجُ الْخَبَرَ عَنِ الْمَهْزُومِ مِنْهُ وَالْمَقْتُولِ مُخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ جَمِيعِهِمْ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحُجُرَاتِ‏:‏ 4‏]‏، ذُكِرَ أَنَّ الَّذِي نَادَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ- كَانَ رَجُلًا مِنْ جَمَاعَةِ بَنِي تَمِيمٍ، كَانُوا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ فَأَخْرَجَ الْخَبَرُ عَنْهُ مُخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْجَمَاعَةِ‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏، أَخْرَجَ الْخَبَرَ مُخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْجَمِيعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ‏.‏