فصل: تفسير الآية رقم (7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بِالْعُقُودِ الَّتِي عَقَدْتُمُوهَا لِلَّهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ هَدَاكُمْ مِنَ الْعُقُودِ لِمَا فِيهِ الرِّضَا، وَوَفَّقَكُمْ لِمَا فِيهِ نَجَاتُكُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالرَّدَى فِي نِعَمٍ غَيْرَهَا جَمَّةٍ‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏"‏ قَالَ‏:‏ النِّعَمُ‏:‏ آلَاءُ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ‏"‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَاذْكُرُوا أَيْضًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِي نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ‏"‏ مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ، وَهُوَ عَهْدُهُ الَّذِي عَاهَدَكُمْ بِهِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ‏"‏المِيثَاقِ‏"‏ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيَّ مَوَاثِيقِهِ عَنَى‏؟‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى بِهِ مِيثَاقَ اللَّهِ الَّذِي وَاثَقَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَحَبُّوا وَكَرِهُوا، وَالْعَمَلِ بِكُلِّ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏"‏ الْآيَةُ، يَعْنِي‏:‏ حَيْثُ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَقَالُوا‏:‏ ‏"‏آمَنَّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْكِتَابِ، وَأَقْرَرْنَا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ‏"‏، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ مِيثَاقَهُ الَّذِي أَقَرُّوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏"‏، فَإِنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَنَا فَقُلْنَا‏:‏ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عَنَى بِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ مِيثَاقَهُ الَّذِي أَخَذَ عَلَى عِبَادِهِ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ‏:‏ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ بَلَى شَهِدْنَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَمِيثَاقَهِ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ‏"‏ قَالَ‏:‏ الَّذِي وَاثَقَ بِهِ بَنِي آدَمَ فِي ظَهْرِ آدَمَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏:‏ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ ‏"‏وَاذْكُرُوا‏"‏ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ‏"‏نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏"‏ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْكُمْ بِهِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ لِلْإِسْلَامِ ‏"‏وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ وَعَهْدَهُ الَّذِي عَاهَدَكُمْ بِهِ حِينَ بَايَعْتُمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ ‏"‏إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا‏"‏ مَا قُلْتَ لَنَا، وَأَخَذْتَ عَلَيْنَا مِنَ الْمَوَاثِيقِ وَأَطَعْنَاكَ فِيمَا أَمَرْتَنَا بِهِ وَنَهَيْتَنَا عَنْهُ، وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ أَيْضًا بِتَوْفِيقِكُمْ لِقَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ بِقَوْلِكُمْ لَهُ‏:‏ ‏"‏سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فَفُوا لِلَّهِ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ، وَنِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ بِإِقْرَارِكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِالسَّمْعِ لَهُ وَالطَّاعَةِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، يَفِ لَكُمْ بِمَا ضَمِنَ لَكُمُ الْوَفَاءَ بِهِ إِذَا أَنْتُمْ وَفَّيْتُمْ لَهُ بِمِيثَاقِهِ، مِنْ إِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ، وَبِإِدْخَالِكُمْ جَنَّتَهُ وَإِنْعَامِكُمْ بِالْخُلُودِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَإِنْقَاذِكُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏عَنَى بِهِ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي صُلْبِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏"‏، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَكَرَ بِعَقِبِ تَذْكِرَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ، مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَ بِهِ أَهْلَ التَّوْرَاةِ بَعْدَ مَا أَنْزَلَ كِتَابَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ فِيهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏)‏، الْآيَاتُ بَعْدَهَا ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 12‏]‏ مُنَبِّهًا بِذَلِكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدٍ عَلَى مَوَاضِعَ حُظُوظِهِمْ مِنَ الْوَفَاءِ لِلَّهِ بِمَا عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ وَمُعَرِّفَهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَضْيِيعِهِمْ مَا ضَيَّعُوا مِنْ مِيثَاقِهِ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَتَعْزِيرِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ زَاجِرًا لَهُمْ عَنْ نَكْثِ عُهُودِهِمْ، فَيُحِلُّ بِهِمْ مَا أَحَلَّ بِالنَّاكِثِينَ عُهُودَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَهُمْ‏.‏

فَكَانَ إِذْ كَانَ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ فَوَعَظَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَرْكَبُوا مِنَ الْفِعْلِ مِثْلَهُ، مِيثَاقَ قَوْمٍ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ بَعْدَ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ وَاجِبًا أَنْ يَكُونَ الْحَالُ الَّتِي أُخِذَ فِيهَا الْمِيثَاقُ وَالْمَوْعُوظِينَ نَظِيرَ حَالِ الَّذِينَ وُعِظُوا بِهِمْ‏.‏ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ بَيِّنًا صِحَّةُ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ وَفَسَادُ خِلَافِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏"‏، فَإِنَّهُ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ اسْمُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ كَانُوا بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَتَهَدُّدًا لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا مِيثَاقَ اللَّهِ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ فِي رَسُولِهِ وَعَهْدِهِمُ الَّذِي عَاهَدُوهُ فِيهِ بِأَنْ يُضْمِرُوا لَهُ خِلَافَ مَا أَبْدَوْا لَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ‏.‏‏.‏

يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَخَافُوهُ أَنْ تُبَدِّلُوا عَهْدَهُ وَتَنْقُضُوا مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ، أَوْ تَخَالِفُوا مَا ضَمِنْتُمْ لَهُ بِقَوْلِكُمْ‏:‏ ‏"‏سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏"‏، بِأَنْ تُضْمِرُوا لَهُ غَيْرَ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ فِي أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِ صُدُورِكُمْ وَعَالِمٌ بِمَا تُخْفِيهِ نُفُوسُكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَيُحِلُّ بِكُمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، كَالَّذِي حَلَّ بِمَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْيَهُودِ مِنَ الْمَسْخِ وَصُنُوفِ النِّقَمِ، وَتَصِيرُوا فِي مَعَادِكُمْ إِلَى سُخْطِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، لِيَكُنْ مِنْ أَخْلَاقِكُمْ وَصِفَاتِكُمُ الْقِيَامُ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْعَدْلِ فِي أَوْلِيَائِكُمْ وَأَعْدَائِكُمْ، وَلَا تَجُورُوا فِي أَحْكَامِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ فَتَجَاوَزُوا مَا حَدَّدْتُ لَكُمْ فِي أَعْدَائِكُمْ لِعَدَوَاتِهِمْ لَكُمْ، وَلَا تُقَصِّرُوا فِيمَا حَدَّدْتُ لَكُمْ مِنْ أَحْكَامِي وَحُدُودِي فِي أَوْلِيَائِكُمْ لِوِلَايَتِهِمْ لَكُمْ، وَلَكِنِ انْتَهُوا فِي جَمِيعِهِمْ إِلَى حَدِّي، وَاعْمَلُوا فِيهِ بِأَمْرِي‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا‏"‏ فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَةُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا فِي حُكْمِكُمْ فِيهِمْ وَسِيرَتِكُمْ بَيْنَهُمْ، فَتَجُورُوا عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ‏}‏‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 135‏]‏ وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 2‏]‏ وَاخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَمَّتِ الْيَهُودُ بِقَتْلِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏"‏، نَزَلَتْ فِي يَهُودِ خَيْبَرَ، أَرَادُوا قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ‏:‏ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَهُودَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةٍ، فَهَمُّوا أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا‏}‏ ‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏اعْدِلُوا‏"‏ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَلِيًّا لَكُمْ كَانَ أَوْ عَدُوًّا، فَاحْمِلُوهُمْ عَلَى مَا أَمَرْتُكُمْ أَنْ تَحْمِلُوهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِي، وَلَا تَجُورُوا بِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏"‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏هُوَ‏"‏ الْعَدْلُ عَلَيْهِمْ أَقْرُبُ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى التَّقْوَى، يَعْنِي‏:‏ إِلَى أَنْ تَكُونُوا عِنْدَ اللَّهِ بِاسْتِعْمَالِكُمْ إِيَّاهُ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى، وَهُمْ أَهْلُ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُخَالِفُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، أَوْ يَأْتُوا شَيْئًا مِنْ مَعَاصِيهِ‏.‏

وَإِنَّمَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏"‏الْعَدْلَ‏"‏ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ ‏"‏أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏"‏ مِنَ الْجَوْرِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَادِلًا كَانَ لِلَّهِ بِعَدْلِهِ مُطِيعًا، وَمَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا، كَانَ لَا شَكَّ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى، وَمَنْ كَانَ جَائِرًا كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا، وَمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا، كَانَ بَعِيدًا مِنْ تَقْوَاهُ‏.‏

وَإِنَّمَا كَنَّى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏هُوَ أَقْرَبُ‏"‏ عَنِ الْفِعْلِ‏.‏ وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْأَفْعَالِ إِذَا كَنَّتْ عَنْهَا بِـ ‏"‏هُوَ‏"‏ وَبِـ ‏"‏ذَلِكَ‏"‏، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 271‏]‏ وَ ‏{‏ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 232‏]‏‏.‏ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ ‏"‏هُوَ‏"‏ لَكَانَ ‏"‏أَقْرَبَ‏"‏ نَصْبًا، وَلَقِيلَ‏:‏ ‏"‏اعْدِلُوا أَقْرَبَ لِلتَّقْوَى‏"‏، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 171‏]‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنْ تَجُورُوا فِي عِبَادِهِ فَتَجَاوَزُوا فِيهِمْ حُكْمَهُ وَقَضَاءَهُ الَّذَيْنِ بَيَّنَ لَكُمْ، فَيُحِلُّ بِكُمْ عُقُوبَتَهُ، وَتَسْتَوْجِبُوا مِنْهُ أَلِيمَ نَكَالِهِ ‏"‏إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ ذُو خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ بِمَا تَعْمَلُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، مِنْ عَمَلٍ بِهِ أَوْ خِلَافٍ لَهُ، مُحْصٍ ذَلِكُمْ عَلَيْكُمْ كُلَّهُ، حَتَّى يُجَازِيكُمْ بِهِ جَزَاءَكُمْ، الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، فَاتَّقُوا أَنْ تُسِيئُوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏"‏، وَعَدَ اللَّهُ أَيُّهَا النَّاسُ الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَعَمِلُوا بِمَا وَاثَقَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَأَوْفَوْا بِالْعُقُودِ الَّتِي عَاقَدَهُمْ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏لَنَسْمَعَنَّ وَلَنُطِيعَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏"‏ فَسَمِعُوا أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَأَطَاعُوهُ، فَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَهُمْ مَغْفِرَةٌ‏"‏ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَفُّوا بِالْعُقُودِ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ ‏"‏مَغْفِرَةٌ‏"‏ وَهِيَ سَتْرُ ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ وَتَغْطِيَتُهَا بِعَفْوِهِ لَهُمْ عَنْهَا، وَتَرْكِهِ عُقُوبَتَهُمْ عَلَيْهَا وَفَضِيحَتَهُمْ بِهَا ‏"‏وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَهُمْ مَعَ عَفْوِهِ لَهُمْ عَنْ ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ مِنْهُمْ، جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا وَوَفَائِهِمْ بِالْعُقُودِ الَّتِي عَاقَدُوا رَبَّهُمْ عَلَيْهَا ‏"‏أَجْرٌ عَظِيمٌ‏"‏، وَ ‏"‏العَظِيمُ‏"‏ مِنْ خَيْرِهِ غَيْرُ مَحْدُودٍ مَبْلَغُهُ، وَلَا يَعْرِفُ مُنْتَهَاهُ غَيْرُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ وَعَدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلَمْ يُخْبِرْ بِمَا وَعَدَهُمْ، فَأَيْنَ الْخَبَرُ عَنِ الْمَوْعُودِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ بَلَى إِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ الْمَوْعُودِ، وَالْمَوْعُودُ هُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏"‏‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَإِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏"‏ خَبَرٌ مُبْتَدَأٌ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمَوْعُودُ لَقِيلَ‏:‏ ‏"‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ ‏"‏لَهُمْ‏"‏، وَفِي دُخُولِ ذَلِكَ فِيهِ، دَلَالَةٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ، وَانْقِضَاءِ الْخَبَرِ عَنِ الْوَعْدِ‏!‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مَا ذَكَرْتَ، فَإِنَّهُ مِمَّا اكْتُفِيَ بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَا بَطَنَ مِنْ مَعْنَاهُ مِنْ ذِكْرِ بَعْضٍ قَدْ تَرَكَ ذِكْرَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَيَأْجُرَهُمْ أَجْرًا عَظِيمًا لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يُصْحِبُوا ‏"‏الْوَعْدَ‏"‏ ‏"‏أَنَّ‏"‏ وَيُعْمِلُوهُ فِيهَا، فَتُرِكَتْ ‏"‏أَنَّ‏"‏ إِذْ كَانَ ‏"‏الْوَعْدُ‏"‏ قَوْلًا‏.‏ وَمِنْ شَأْنِ ‏"‏الْقَوْلِ‏"‏ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ مِنْ جُمَلِ الْأَخْبَارِ مُبْتَدَأٌ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ جُمْلَةَ الْخَبَرِ اجْتِزَاءً بِدَلَالَةِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ، وَصَرْفًا لِلْوَعْدِ الْمُوَافِقِ لِلْقَوْلِ فِي مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ لِلَفْظِهِ مُخَالِفًا إِلَى مَعْنَاهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ ‏"‏قَالَ اللَّهُ‏:‏ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏"‏‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ، إِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏"‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏"‏، فِي الْوَعْدِ الَّذِي وُعِدُوا فَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى تَأْوِيلِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ‏:‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، ‏[‏فِيمَا وَعَدَهُمْ بِهِ‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا‏"‏ وَالَّذِينَ جَحَدُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ، وَنَقَضُوا مِيثَاقَهُ وَعُقُودَهُ الَّتِي عَاقَدُوهَا إِيَّاهُ‏"‏وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏"‏ يَقُولُ‏:‏ وَكَذَّبُوا بِأَدِلَّةِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَغَيْرِهَا ‏"‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ أَهْلُ ‏"‏الجَحِيمِ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ أَهْلَ النَّارِ الَّذِينَ يَخْلُدُونَ فِيهَا وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏"‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَقَرُّوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَرِسَالَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ ‏"‏اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏"‏، اذْكُرُوا النِّعْمَةَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاشْكُرُوهُ عَلَيْهَا بِالْوَفَاءِ لَهُ بِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ، وَالْعُقُودِ الَّتِي عَاقَدْتُمْ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا‏.‏ ثُمَّ وَصَفَ نِعْمَتَهُ الَّتِي أَمَرَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا مَعَ سَائِرِ نِعَمِهِ، فَقَالَ‏:‏ هِيَ كَفُّهُ عَنْكُمْ أَيْدِيَ الْقَوْمِ الَّذِينَ هَمُّوا بِالْبَطْشِ بِكُمْ، فَصَرَفَهُمْ عَنْكُمْ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا أَرَادُوهُ بِكُمْ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي ذَكَّرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَصْحَابَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ لَهُ عَلَيْهَا‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ اسْتِنْقَاذُ اللَّهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مِمَّا كَانَتْ الْيَهُودُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ هَمُّوا بِهِ يَوْمَ أَتَوْهُمْ يَسْتَحْمِلُونَهُمْ دِيَةَ الْعَامِرِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَا «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ لِيَسْتَعِينَهُمْ عَلَى دِيَةِ الْعَامِرِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ‏.‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا‏:‏ إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا مُحَمَّدًا أَقْرَبَ مِنْهُ الْآنَ، فَمَنْ رَجُلٌ يَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَيَطْرَحُ عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيحُنَا مِنْهُ‏؟‏ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشِ بْنِ كَعْبٍ‏:‏ أَنَا‏.‏ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ، وَانْصَرَفَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ فِيهِمْ وَفِيمَا أَرَادَ هُوَ وَقَوْمُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ‏}‏» ‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ‏"‏، قَالَ‏:‏ الْيَهُودُ، دَخَلَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا لَهُمْ، وَأَصْحَابُهُ مِنْ وَرَاءِ جِدَارِهِ، فَاسْتَعَانَهُمْ فِي مَغْرَمِ دِيَةٍ غَرِمَهَا، ثُمَّ قَامَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ بِقَتْلِهِ، فَخَرَجَ يَمْشِي الْقَهْقَرَى يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ دَعَا أَصْحَابَهُ رَجُلًا رَجُلًا حَتَّى تَتَامُّوا إِلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهَمْ عَنْكُمْ‏"‏‏:‏ يَهُودُ، حِينَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا لَهُمْ، وَأَصْحَابُهُ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ لَهُمْ، فَاسْتَعَانَهُمْ فِي مَغْرَمٍ، فِي الدِّيَةِ الَّتِي غَرِمَهَا ثُمَّ قَامَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ بِقَتْلِهِ، فَخَرَجَ يَمْشِي مُعْتَرِضًا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ خِيفَتَهُمْ ثُمَّ دَعَا أَصْحَابَهُ رَجُلًا رَجُلًا حَتَّى تَتَامُّوا إِلَيْهِ‏.‏ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ قَالَ‏:‏ «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي عَقْلٍ أَصَابَهُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ فَقَالَ‏:‏ أَعِينُونِي فِي عَقْلٍ أَصَابَنِي‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتَسْأَلَنَا حَاجَةً‏!‏ اجْلِسْ حَتَّى نُطْعِمَكَ وَنُعْطِيَكَ الَّذِي تَسْأَلُنَا‏!‏ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَنْتَظِرُونَهُ، وَجَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَهُوَ رَأْسُ الْقَوْمِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ‏:‏ فَقَالَ حُيَيٌّ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ لَا تَرُونَهُ أَقْرَبَ مِنْهُ الْآنَ، اطْرَحُوا عَلَيْهِ حِجَارَةً فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تَرَوْنَ شَرًّا أَبَدًا‏!‏ فَجَاءُوا إِلَى رَحًى لَهُمْ عَظِيمَةٍ لِيَطْرَحُوهَا عَلَيْهِ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْدِيَهُمْ، حَتَّى جَاءَهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَهُ مِنْ ثَمَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏"‏، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَادُوا بِه»‏.‏

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ‏"‏ الْآيَةُ، قَالَ‏:‏ يَهُودُ، دَخَلَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا، فَاسْتَعَانَهُمْ فِي مَغْرَمٍ غَرِمَهُ، فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ بِقَتْلِهِ، فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَخَرَجَ مُعْتَرِضًا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ خِيفَتَهُمْ، ثُمَّ دَعَا أَصْحَابَهُ رَجُلًا رَجُلًا حَتَّى تَتَامُّوا إِلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ‏:‏ «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ أَحَدَ بَنِي النَّجَّارِ وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فَبَعَثَهُ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَخَرَجُوا، فَلَقُوا عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى بِئْرِ مَعُونَةَ، وَهِيَ مِنْ مِيَاهِ بَنِي عَامِرٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ الْمُنْذِرُ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ كَانُوا فِي طَلَبِ ضَالَّةٍ لَهُمْ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا وَالطَّيْرُ تَحُومُ فِي السَّمَاءِ، يَسْقُطُ مِنْ بَيْنِ خَرَاطِيمِهَا عَلَقُ الدَّمِ‏.‏ فَقَالَ أَحَدُ النَّفَرِ‏:‏ قُتِلَ أَصْحَابُنَا وَالرَّحْمَنِ‏!‏ ثُمَّ تَوَلَّى يَشْتَدُّ حَتَّى لَقِيَ رَجُلًا فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَلَمَّا خَالَطَتْهُ الضَّرْبَةُ، رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ قَالَ‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، الْجَنَّةُ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ‏!‏‏!‏ فَكَانَ يُدْعَى‏"‏أَعْنَقَ لِيَمُوتَ‏"‏، وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ، فَلَقِيَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَلِيمٍ، وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قَوْمِهِمَا مُوَادَعَةً، فَانْتَسَبَا لَهُمَا إِلَى بَنِي عَامِرٍ، فَقَتَلَاهُمَا‏.‏ وَقَدِمَ قَوْمُهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُونَ الدِّيَةَ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، حَتَّى دَخَلُوا إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَيَهُودِ النَّضِيرِ، فَاسْتَعَانَهُمْ فِي عَقْلِهِمَا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَاجْتَمَعَتِ الْيَهُودُ لِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، واعتَلُّوا بِصَنِيعَةِ الطَّعَامِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ يَهُودُ مِنَ الْغَدْرِ، فَخَرَجَ ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا، فَقَالَ‏:‏ لَا تَبْرَحْ مَقَامَكَ، فَمَنْ خَرَجَ عَلَيْكَ مِنْ أَصْحَابِي فَسَأَلَكَ عَنِّي فَقُلْ‏:‏ ‏"‏وَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَدْرَكُوهُ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَى عَلِيٍّ، فَيَأْمُرُهُمْ بِالَّذِي أَمْرَهُ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ آخِرُهُمْ، ثُمَّ تَبِعَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ‏}‏» ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 13‏]‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهِمْ عَنْكُمْ‏"‏ قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ، حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَغْدِرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْالنِّعْمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ في قَوْلِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الْهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّكْرِ لَهُ عَلَيْهَا‏:‏ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ هَمَّتْ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَعَامٍ دَعَوْهُ إِلَيْهِ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَمُّوا بِهِ، فَانْتَهَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَيْهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ‏"‏ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ صَنَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ طَعَامًا لِيَقْتُلُوهُ إِذَا أَتَى الطَّعَامَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَأْنِهِمْ، فَلَمْ يَأْتِ الطَّعَامَ، وَأَمْرَ أَصْحَابَهُ فَلَمْ يَأْتُوهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ‏:‏ النِّعْمَةَ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاطِّلَاعِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا هَمَّ بِهِ عَدُوُّهُ وَعَدُوُّهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَطْنِ نَخْلٍ مِنَ اغْتِرَارِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَالْإِيقَاعِ بِهِمْ، إِذَا هُمُ اشْتَغَلُوا عَنْهُمْ بِصَلَاتِهِمْ فَسَجَدُوا فِيهَا، وَتَعْرِيفِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِذَارَ مِنْ عَدُوِّهِ فِي صَلَاتِهِ بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ صَلَاةَ الْخَوْفِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةُ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِبَطْنِ نَخْلٍ فِي الْغَزْوَةِ السَّابِعَةِ، فَأَرَادَ بَنُو ثَعْلَبَةَ وَبَنُو مُحَارِبٍ أَنْ يَفْتِكُوا بِهِ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا انْتُدِبَ لِقَتْلِهِ، فَأَتَى نَبِيَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَيْفُهُ مَوْضُوعٌ، فَقَالَ‏:‏ آخُذُهُ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ خُذْهُ‏!‏ قَالَ‏:‏ أَسْتَلُّهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ فَسَلَّهُ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ‏!‏‏.‏ فَهَدَّدَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَغْلَظُوا لَهُ الْقَوْلَ، فَشَامَ السَّيْفَ وَأَمَرَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِالرَّحِيلِ، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ عِنْدَ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ‏:‏ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ مَنْزِلًا وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ تَحْتَهَا، فَعَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلَاحَهُ بِشَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ فَسَلَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي‏؟‏ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏اللَّهُ ‏"‏، فَشَامَ الْأَعْرَابِيُّ السَّيْفَ، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ جَالِسٌ إِلَى جَنْبِهِ لَمْ يُعَاقِبْه» قَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ نَحْوَ هَذَا، وَذَكَرَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ أَرَادُوا أَنْ يَفْتِكُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلُوا هَذَا الْأَعْرَابِيَّ‏.‏ وَتَأَوَّلَ‏:‏ ‏"‏اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ‏"‏، الْآيَةُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ عَنَى اللَّهُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، نِعْمَتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي اسْتِنْقَاذِهِ نَبِيَّهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَتْ يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِ هَمَّتْ بِهِ مِنْ قَتْلِهِ وَقَتْلِ مَنْ مَعَهُ يَوْمَ سَارَ إِلَيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّيَةِ الَّتِي كَانَ تَحَمَّلَهَا عَنْ قَتِيلَيْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَقَّبَ ذِكْرَ ذَلِكَ بِرَمْيِ الْيَهُودِ بِصَنَائِعِهَا وَقَبِيحِ أَفْعَالِهَا، وَخِيَانَتِهَا رَبَّهَا وَأَنْبِيَاءَهَا‏.‏ ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَالصَّفْحِ عَنْ عَظِيمِ جَهْلِهِمْ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالصَّفْحِ عُقَيْبَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ‏"‏ وَغَيْرُهُمْ كَانَ يَبْسُطُ الْأَيْدِيَ إِلَيْهِمْ‏.‏ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الَّذِينَ هَمُّوا بِبَسْطِ الْأَيْدِي إِلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ لَكَانَ حَرِيًّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ، لَا عَمَّنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ بِذَلِكَ ذِكْرٌ وَلَكَانَ الْوَصْفُ بِالْخِيَانَةِ فِي وَصْفِهِمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لَا فِي وَصْفِ مَنْ لَمْ يَجْرِ لِخِيَانَتِهِ ذِكْرٌ، فَفِي ذَلِكَ مَا يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قَضَيْنَا لَهُ بِالصِّحَّةِ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ، دُونَ مَا خَالَفَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَاحْذَرُوا اللَّهَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تُخَالِفُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ، وَأَنْ تَنْقُضُوا الْمِيثَاقَ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ فَتَسْتَوْجِبُوا مِنْهُ الْعِقَابَ الَّذِي لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ‏"‏وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ وَإِلَى اللَّهِ فَلْيُلْقِ أَزِمَّةَ أُمُورِهِمْ، وَيَسْتَسْلِمْ لِقَضَائِهِ، وَيَثِقْ بِنُصْرَتِهِ وَعَوْنِهِ، الْمُقِرُّونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَرِسَالَةِ رَسُولِهِ، الْعَامِلُونَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ دِينِهِمْ وَتَمَامِ إِيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَلَأَهُمْ وَرَعَاهُمْ وَحَفِظَهُمْ مِمَّنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ، كَمَا حَفِظَكُمْ وَدَافَعَ عَنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْيَهُودَ الَّذِينَ هَمُّوا بِمَا هَمُّوا بِهِ مِنْ بَسْطِ أَيْدِيهِمْ إِلَيْكُمْ، كَلَاءَةً مِنْهُ لَكُمْ، إِذْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يُطِيقُ دَفْعَ سُوءٍ أَرَادَ بِكُمْ رَبُّكُمْ وَلَا اجْتِلَابَ نَفْعٍ لَكُمْ لَمْ يَقْضِهِ لَكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذِهِ الْآيَةُ أُنْزِلَتْ إِعْلَامًا مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، أَخْلَاقَ الَّذِينَ هَمُّوا بِبَسْطِ أَيْدِيهِمْ إِلَيْهِمْ مِنَ الْيَهُودِ‏.‏ كَالَّذِي‏:‏-

حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏"‏ قَالَ‏:‏ الْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏

وَأَنَّ الَّذِي هَمُّوا بِهِ مِنَ الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، مِنْ صِفَاتِهِمْ وَصِفَاتِ أَوَائِلِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَخْلَاقِ أَسْلَافِهِمْ قَدِيمًا وَاحْتِجَاجًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِ، بِإِطْلَاعِهِ إِيَّاهُ عَلَى مَا كَانَ عَلِمَهُ عِنْدَهُمْ دُونَ الْعَرَبِ مِنْ خَفِيِّ أُمُورِهِمْ وَمَكْنُونِ عُلُومِهِمْ وَتَوْبِيخًا لِلْيَهُودِ فِي تَمَادِيهِمْ فِي الْغَيِّ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِخَطَأِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ‏.‏

يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا تَسْتَعْظِمُوا أَمْرَ الَّذِينَ هَمُّوا بِبَسْطِ أَيْدِيهِمْ إِلَيْكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ بِمَا هَمُّوا بِهِ لَكُمْ، وَلَا أَمْرَ الْغَدْرِ الَّذِي حَاوَلُوهُ وَأَرَادُوهُ بِكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ أَوَائِلِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، لَا يَعْدُونَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجِ أَوَّلِهِمْ وَطَرِيقِ سَلَفِهِمْ‏.‏ ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَزَّ ذِكْرُهُ عَنْ بَعْضِ غَدَرَاتِهِمْ وَخِيَانَاتِهِمْ وَجَرَاءَتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمُ الَّذِي وَاثَقَهُمْ عَلَيْهِ بَارِئُهُمْ، مَعَ نِعَمِهِ الَّتِي خَصَّهُمْ بِهَا، وَكَرَامَاتِهِ الَّتِي طَوَّقَهُمْ شُكْرُهَا، فَقَالَ‏:‏ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ سَلَفِ مَنْ هَمَّ بِبَسْطِ يَدِهِ إِلَيْكُمْ مَنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَفَاءِ لَهُ بِعُهُودِهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏"‏ قَالَ‏:‏ أَخَذَ اللَّهُ مَوَاثِيقَهُمْ أَنْ يُخْلِصُوا لَهُ، وَلَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ‏.‏

‏"‏ ‏{‏وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏}‏ ‏"‏مَعْنَاهَا يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ كَفِيلًا كَفَلُوا عَلَيْهِمْ بِالْوَفَاءِ لِلَّهِ بِمَا وَاثَقُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُهُودِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَفِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ‏.‏

وَ ‏"‏النَّقِيبُ‏"‏ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَالْعَرِيفِ عَلَى الْقَوْمِ، غَيْرَ أَنَّهُ فَوْقَ ‏"‏الْعَرِيفِ‏"‏‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏نَقُبَ فَلَانٌ عَلَى بَنِي فُلَانٍ فَهُوَ يَنْقِبُ نَقْبًا فَإِذَا أُرِيدَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَقِيبًا فَصَارَ نَقِيبًا، قِيلَ‏:‏ ‏"‏قَدْ نَقُبَ فَهُوَ يَنْقِبُ نَقَابَةً‏"‏ وَمِنْ ‏"‏العَرِيفِ‏"‏‏:‏ ‏"‏عَرَفَ عَلَيْهِمْ يَعْرُفُ عِرَافَةً‏"‏‏.‏ فَأَمَّا ‏"‏المَنَاكِبُ‏"‏ فَإِنَّهُمْ كَالْأَعْوَانِ يَكُونُونَ مَعَ الْعُرَفَاءِ، وَاحِدُهُمْ ‏"‏مَنْكِبٌ‏"‏‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ‏:‏ هُوَ الْأَمِينُ الضَّامِنُ عَلَى الْقَوْمِ‏.‏

فَأَمَّا أَهْلُ التَّأْوِيلِ فَإِنَّهُمْ قَدِ اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ فِي تَأْوِيلِهِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ الشَّاهِدُ عَلَى قَوْمِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏"‏، مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلٌ شَاهِدٌ عَلَى قَوْمِهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏"‏النَّقِيبُ‏"‏، الْأَمِينُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ‏:‏ ‏"‏النُّقَبَاءُ‏"‏ الْأُمَنَاءُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ‏.‏

وَإِنَّمَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ أَمَرَ مُوسَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْثَةِ النُّقَبَاءِ الِاثْنَى عَشَرَ مِنْ قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَرْضِ الْجَبَابِرَةِ بِالشَّأْمِ، لِيَتَحَسَّسُوا لِمُوسَى أَخْبَارَهُمْ إِذْ أَرَادَ هَلَاكَهُمْ، وَأَنْ يُوَرِّثَ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مَسَاكِنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَا أَنْجَاهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، فَبَعَثَ مُوسَى الَّذِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِبَعْثِهِمْ إِلَيْهَا مِنَ النُّقَبَاءِ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ أَمَرَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالسَّيْرِ إِلَى أَرْيَحَا، وَهِيَ أَرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ بَعَثَ مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏ فَسَارُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْتُوهُ بِخَبَرِ الْجَبَابِرَةِ، فَلَقِيَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ يُقَالُ لَهُ‏"‏عَاجٌ‏"‏، فَأَخَذَ الِاثْنَى عَشَرَ، فَجَعَلَهُمْ فِي حُجْزَتِهِ وَعَلَى رَأْسِهِ حَمْلَةَ حَطَبٍ‏.‏ فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ‏:‏ انْظُرِي إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُقَاتِلُونَا‏!‏‏!‏ فَطَرَحَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَالَ‏:‏ أَلَا أَطْحَنُهُمْ بِرِجْلِي‏!‏ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ‏:‏ بَلْ خَلِّ عَنْهُمْ حَتَّى يُخْبِرُوا قَوْمَهُمْ بِمَا رَأَوْا‏.‏ فَفَعَلَ ذَلِكَ‏.‏ فَلَمَّا خَرَجَ الْقَوْمُ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ إِنْ أَخْبَرْتُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَبَرَ الْقَوْمِ، ارْتَدُّوا عَنْ نَبِيِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنِ اكْتُمُوهُ وَأَخْبِرُوا نَبِيَّا اللَّهِ، فَيَكُونَانِ هُمَا يَرَيَانِ رَأْيَهُمَا‏!‏ فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْمِيثَاقَ بِذَلِكَ لِيَكْتُمُوهُ، ثُمَّ رَجَعُوا فَانْطَلَقَ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ فَنَكَثُوا الْعَهْدَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُخْبِرُ أَخَاهُ وَأَبَاهُ بِمَا رَأَى مِنْ ‏[‏أَمْرِ‏]‏‏"‏عَاجٍ‏"‏ وَكَتَمَ رَجُلَانِ مِنْهُمْ، فَأَتَوْا مُوسَى وَهَارُونَ، فَأَخْبَرُوهُمَا الْخَبَرَ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏"‏ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ، أَرْسَلَهُمْ مُوسَى إِلَى الْجَبَّارِينَ، فَوَجَدُوهُمْ يَدْخُلُ فِي كُمِّ أَحَدِهِمُ اثْنَانِ مِنْهُمْ يُلْقُونَهُمْ إِلْقَاءً وَلَا يَحْمِلُ عُنْقُودَ عِنَبِهِمْ إِلَّا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ مِنْهُمْ فِي خَشَبَةٍ وَيَدْخُلُ فِي شَطْرِ الرُّمَّانَةِ إِذَا نُزِعَ حَبُّهَا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ أَوْ أَرْبَعٌ‏.‏ فَرَجَعَ النُّقَبَاءُ كُلٌّ مِنْهُمْ يَنْهَى سِبْطَهُ عَنْ قِتَالِهِمْ إِلَّا يُوشَعَ بْنَ نُونٍ وَكِلَابَ بْنَ يَافِنَةَ، يَأْمُرَانِ الْأَسْبَاطَ بِقِتَالِ الْجَبَابِرَةِ وَبِجِهَادِهِمْ، فَعَصَوْا هَذَيْنِ وَأَطَاعُوا الْآخَرِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ‏"‏ وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ ‏"‏يُلْقُونَهُمَا‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ أُمِرَ مُوسَى أَنْ يَسِيرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَقَالَ‏:‏ إِنِّي قَدْ كَتَبْتُهَا لَكُمْ دَارًا وَقَرَارًا وَمَنْزِلًا فَاخْرُجْ إِلَيْهَا، وَجَاهِدْ مَنْ فِيهَا مِنَ الْعَدُوِّ، فَإِنِّي نَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ، وَخُذْ مِنْ قَوْمِكَ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْ كُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا يَكُونُ عَلَى قَوْمِهِ بِالْوَفَاءِ مِنْهُمْ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ، وَقُلْ لَهُمْ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكُمْ‏:‏ ‏{‏إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏ وَأَخَذَ مُوسَى مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا اخْتَارَهُمْ مِنَ الْأَسْبَاطِ كُفَلَاءَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا هُمْ فِيهِ، عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ‏.‏ وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ خَيْرَهُمْ وَأَوْفَاهُمْ رَجُلًا‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏"‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏"‏ فَسَارَ بِهِمْ مُوسَى إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا نَزَلَ التِّيهَ بَيْنَ مِصْرَ وَالشَّامِ وَهِيَ بِلَادٌ لَيْسَ فِيهَا خَمَرٌ وَلَا ظِلٌّ دَعَا مُوسَى رَبَّهُ حِينَ آذَاهُمُ الْحُرُّ، فَظَلَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْغَمَامِ، وَدَعَا لَهُمْ بِالرِّزْقِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى‏.‏ وَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى فَقَالَ‏:‏ أَرْسِلْ رِجَالًا يَتَحَسَّسُونَ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ الَّتِي وُهِبَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلًا‏.‏ فَأَرْسَلَ مُوسَى الرُّءُوسَ كُلَّهُمُ الَّذِينَ فِيهِمْ، ‏[‏فَبَعَثَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مِنْ بَرِّيَّةِ فَارَانَ بِكَلَامِ اللَّهِ، وَهُمْ رُءُوسُ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏]‏‏.‏ وَهَذِهِ أَسْمَاءُ الرَّهْطِ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، فِيمَا يَذْكُرُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ لِيَجُوسُوهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سِبْطِ رُوبِيلَ‏:‏ ‏"‏شَامُونَ بْنُ زَكَوَّنَ‏"‏ وَمِنْ سِبْطِ شَمْعُونَ‏:‏ ‏"‏شَافَاطُ بْنُ حُرَّى‏"‏ وَمِنْ سِبْطِ يَهُوذَا‏:‏ ‏"‏كَالِبُ بْنُ يُوفَنَّا وَمِنْ سِبْطِ أَتَيْنَ‏:‏ ‏"‏يَجَائِلُ بْنُ يُوسُفَ ‏"‏وَمِنْ سِبْطِ يُوسُفَ‏:‏ وَهُوَ سِبْطُ أَفْرَائِيمَ‏:‏ ‏"‏ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ ‏"‏وَمِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ ‏"‏فَلَطُ بْنُ رَفَوْنَ‏"‏ وَمِنْ سِبْطِ زَبَّالُونَ‏:‏ ‏"‏جُدَّى بْنُ سُودَى وَمِنْ سِبْطِ مَنَشًّا بْنُ يُوسُفَ‏:‏ ‏"‏جُدَّى بْنُ سُوسَا وَمِنْ سِبْطِ دَانٍ‏:‏ ‏"‏حَمْلَائِلُ بْنُ جَمْل‏"‏ وَمِنْ سِبْطِ أَشَرّ‏:‏ سَاتُورُ بْنُ مَلْكِيلَ ‏"‏ وَمِنْ سِبْطِ نَفْتَالَى‏:‏ ‏"‏نُحَى بْنُ وَفْسَى‏"‏ وَمِنْ سِبْطِ جَادٍ‏:‏ ‏"‏جُولَايِلُ بْنُ مِيكَى‏"‏‏.‏

فَهَذِهِ أَسْمَاءُ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ مُوسَى يَتَحَسَّسُونَ لَهُ الْأَرْضَ وَيَوْمئِذَ سَمَّى‏"‏ هُوشَعَ بْنَ نُونٍ ‏"‏‏:‏ ‏"‏يُوشَعَ بْنَ نُون‏"‏ فَأَرْسَلَهُمْ وَقَالَ لَهُمُ‏:‏ ارْتَفِعُوا قِبَلَ الشَّمْسِ، فَارْقُوا الْجَبَلَ، وَانْظُرُوا مَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا الشَّعْبُ الَّذِي يَسْكُنُونَ، أَقْوِيَاءُ هُمْ أَمْ ضُعَفَاءُ، أَقَلِيلٌ هُمْ أَمْ كَثِيرٌ‏؟‏ وَانْظُرُوا أَرْضَهُمُ الَّتِي يَسْكُنُونَ‏:‏ أَسَمِينَةٌ هِيَ ‏[‏أَمْ هَزِيلَةٌ‏]‏‏؟‏ أَذَاتُ شَجَرٍ أَمْ لَا‏؟‏ اجْتَازُوا، وَاحْمِلُوا إِلَيْنَا مِنْ ثَمَرَةِ تِلْكَ الْأَرْضِ‏.‏ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَا أَشْجَنَ بِكْرُ ثَمَرَةِ الْعِنَبِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏"‏ فَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعَثَهُمْ مُوسَى لِيَنْظُرُوا لَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏ فَانْطَلَقُوا فَنَظَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءُوا بِحَبَّةٍ مِنْ فَاكِهَتِهِمْ وِقْرَ رَجُلٍ، فَقَالُوا‏:‏ اقْدُرُوا قُوَّةَ قَوْمٍ وَبَأْسَهَمْ هَذِهِ فَاكِهَتُهُمْ‏!‏ فَعِنْدَ ذَلِكَ فُتِنُوا فَقَالُوا‏:‏ لَا نَسْتَطِيعُ الْقِتَالَ، ‏(‏فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‏)‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 24‏]‏‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏"‏ أَمَرَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ مَعَ نَبِيِّهِمْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانُوا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ لَهُمْ مُوسَى‏:‏ ادْخُلُوهَا‏!‏ فَأَبَوْا وَجَبُنُوا، وَبَعَثُوا اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِمْ، فَانْطَلَقُوا فَنَظَرُوا، فَجَاءُوا بِحَبَّةٍ مِنْ فَاكِهَتِهِمْ بِوِقْرِ الرَّجُلِ، فَقَالُوا‏:‏ اقْدُرُوا قُوَّةَ قَوْمٍ وَبَأْسَهُمْ، هَذِهِ فَاكِهَتُهُمْ‏!‏‏!‏ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا لِمُوسَى‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَقَالَ اللَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ ‏"‏إِنِّي مَعَكُمْ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ إِنِّي نَاصِرُكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ وَعَدُوِّي الَّذِينَ أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالِهِمْ، إِنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ وَوَفَّيْتُمْ بِعَهْدِي وَمِيثَاقِي الَّذِي أَخَذْتُهُ عَلَيْكُمْ‏.‏

وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، اسْتُغْنِيَ بِمَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَمَّا حُذِفَ مِنْهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ إِنِّي مَعَكُمْ فَتَرَكَ ذِكْرَ ‏"‏لَهُمْ‏"‏، اسْتِغْنَاءً بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏"‏، إِذْ كَانَ مُتَقَدِّمُ الْخَبَرِ عَنْ قَوْمٍ مُسَمَّيْنَ بِأَعْيَانِهِمْ، فَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُمْ، إِذْ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ‏.‏

ثُمَّ ابْتَدَأَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْقَسَمَ فَقَالَ‏:‏ قَسَمًا لَئِنْ أَقَمْتُمْ، مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الصَّلَاةَ ‏"‏وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ‏"‏، أَيْ‏:‏ أَعْطَيْتُمُوهَا مَنْ أَمَرْتُكُمْ بِإِعْطَائِهَا ‏"‏وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي‏"‏ يَقُولُ‏:‏ وَصَدَّقْتُمْ بِمَا أَتَاكُمْ بِهِ رُسُلِي مِنْ شَرَائِعِ دِينِي‏.‏

وَكَانَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ‏:‏ هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِلنُّقَبَاءِ الِاثْنَى عَشَرَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ‏:‏ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنُّقَبَاءِ الِاثْنَى عَشَرَ‏:‏ سِيرُوا إِلَيْهِمْ يَعْنِي‏:‏ إِلَى الْجَبَّارِينَ فَحَدِّثُونِي حَدِيثَهُمْ، وَمَا أَمْرُهُمْ، وَلَا تَخَافُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَكُمْ مَا أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَلَيْسَ الَّذِي قَالَهُ الرَّبِيعُ فِي ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ، غَيْرَ أَنَّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ أَنَّهُ نَاصِرُ مَنْ أَطَاعَهُ، وَوَلِيُّ مَنِ اتَّبَعَ أَمْرَهُ وَتَجَنَّبَ مَعْصِيَتَهُ وَتَحَامَى ذُنُوبَهُ‏.‏ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ مِنْ طَاعَتِهِ إِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ، وَسَائِرُ مَا نَدَبَ الْقَوْمَ إِلَيْهِ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ بِذَلِكَ وَإِدْخَالَ الْجَنَّاتِ بِهِ‏.‏ لَمْ يُخَصِّصْ بِهِ النُّقَبَاءَ دُونَ سَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرَهُمْ‏.‏ فَكَانَ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ نَدْبًا لِلْقَوْمِ جَمِيعًا، وَحَضًّا لَهُمْ عَلَى مَا حَضَّهُمْ عَلَيْهِ، أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ نَدْبًا لِبَعْضٍ وَحَضًّا لِخَاصٍّ دُونَ عَامٍّ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَعَزَّرْتُمُوهُمْ‏"‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ تَأْوِيلُ ذَلِكَ‏:‏ وَنَصَرْتُمُوهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏وَعَزَّرْتُمُوهُمْ‏"‏ قَالَ‏:‏ نَصَرْتُمُوهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏وَعَزَّرْتُمُوهُمْ‏"‏ قَالَ‏:‏ نَصَرْتُمُوهُمْ بِالسَّيْفِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ الطَّاعَةُ وَالنُّصْرَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَعَزَّرْتُمُوهُمْ‏"‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏التَّعْزِيزُ‏"‏ وَ ‏"‏التَّوْقِيرُ‏"‏، الطَّاعَةُ وَالنُّصْرَةُ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي تَأْوِيلِهِ‏.‏

فَذُكِرَ عَنْ يُونُسَ ‏[‏الْحَرْمَرِيِّ‏]‏ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ تَأْوِيلُ ذَلِكَ‏:‏ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ‏.‏

حُدِّثْتُ بِذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْهُ‏.‏

وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ نَصَرْتُمُوهُمْ وَأَعَنْتُمُوهُمْ وَوَقَّرْتُمُوهُمْ وَعَظَّمْتُمُوهُمْ وَأَيَّدْتُمُوهُمْ، وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ‏:‏

وَكَمْ مِنْ مَاجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ *** وَمِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ فِي النَّدِيِّ

وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏الْعَزْرُ‏"‏ الرَّدُّ ‏"‏عَزَرْتُهُ‏"‏، رَدَدْتُهُ‏:‏ إِذَا رَأَيْتُهُ يَظْلِمُ فَقُلْتُ‏:‏ ‏"‏اتَّقِ اللَّهَ‏"‏ أَوْ نَهَيْتُهُ، فَذَلِكَ ‏"‏الْعَزْرُ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ نَصَرْتُمُوهُمْ‏"‏‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ فِي‏"‏سُورَةِ الْفَتْحِ‏"‏‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْفَتْحِ‏:‏ 8، 9‏]‏ فَـ ‏"‏التَّوْقِيرُ‏"‏ هُوَ التَّعْظِيمُ‏.‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَمَّنْ حَكَيْنَا عَنْهُ‏.‏ وَإِذَا فَسَدَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ التَّعْظِيمُ وَكَانَ النَّصْرُ قَدْ يَكُونُ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، فَأَمَّا بِالْيَدِ فَالذَّبُّ بِهَا عَنْهُ بِالسَّيْفِ وغيِرهِ، وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَحُسْنُ الثَّنَاءِ، وَالذَّبُّ عَنِ الْعِرْضِ صَحَّ أَنَّهُ النَّصْرُ، إِذْ كَانَ النَّصْرُ يَحْوِي مَعْنَى كُلِّ قَائِلٍ قَالَ فِيهِ قَوْلًا مِمَّا حَكَيْنَا عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏"‏ فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ وَأَنْفَقْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي جِهَادِ عَدُوِّهُ وَعَدُوِّكُمْ ‏"‏قَرْضًا حَسَنًا‏"‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَنْفَقْتُمْ مَا أَنْفَقْتُمْ فِي سَبِيلِهِ، فَأَصَبْتُمُ الْحَقَّ فِي إِنْفَاقِكُمْ مَا أَنْفَقْتُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ تَتَعَدَّوْا فِيهِ حُدُودَ اللَّهِ وَمَا نَدَبَكُمْ إِلَيْهِ وَحَثَّكُمْ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قَالَ‏:‏ ‏"‏وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏"‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏إِقْرَاضًا حَسَنًا‏"‏، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَصْدَرَ ‏"‏أَقْرَضْتَ‏"‏ ‏"‏الْإِقْرَاضُ‏"‏‏؟‏

قِيلَ‏:‏ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ كَانَ صَوَابًا، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏قَرْضًا حَسَنًا‏"‏ أَخْرَجَ مَصْدَرًا مِنْ مَعْنَاهُ لَا مِنْ لَفْظِهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَقْرَضَ‏"‏ مَعْنَى‏"‏قَرَضَ‏"‏، كَمَا فِي مَعْنَى‏"‏أَعْطَى‏"‏ ‏"‏أَخَذَ‏"‏‏.‏ فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَقَرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ نُوحٍ‏:‏ 17‏]‏ إِذْ كَانَ فِي ‏"‏أَنْبَتَكُمْ‏"‏ مَعْنَى‏:‏ ‏"‏فَنَبَتُّمْ‏"‏، وَكَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ‏:‏

وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أَيَّ إِذْلَالِ ***

إِذْ كَانَ فِي‏"‏رُضْتُ‏"‏ مَعْنَى‏"‏أَذْلَلْتُ‏"‏، فَخَرَجَ ‏"‏الإِذْلَالُ‏"‏ مَصْدَرًا مِنْ مَعْنَاهُ لَا مِنْ لَفْظِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلِأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ، أَيُّهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ أَعْطَوْنِي مِيثَاقَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِطَاعَتِي وَاتِّبَاعِ أَمْرِي، وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَفَعَلْتُمْ سَائِرَ مَا وَعَدْتُكُمْ عَلَيْهِ جَنَّتِي ‏"‏لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لِأُغَطِّيَنَّ بِعَفْوِي عَنْكُمْ- وَصَفْحِي عَنْ عُقُوبَتِكُمْ، عَلَى سَالِفِ أَجْرَامِكُمُ الَّتِي أَجْرَمْتُمُوهَا فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ- عَلَى ذُنُوبِكُمُ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْكُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُوبِقَاتِ ذُنُوبِكُمْ

‏"‏وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ‏"‏ مَعَ تَغْطِيَتِي عَلَى ذَلِكَ مِنْكُمْ بِفَضْلِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏"‏جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏"‏‏.‏

فَـ ‏"‏الجَنَّاتُ‏"‏ الْبَسَاتِينُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْتُ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَأُكَفِّرَنَّ‏"‏ لَأُغَطِّيَنَّ، لِأَنَّ ‏"‏الْكُفْرَ‏"‏ مَعْنَاهُ الْجُحُودُ، وَالتَّغْطِيَةُ، وَالسَّتْرُ، كَمَا قَالَ لَبِيَدٌ‏:‏

فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا

يَعْنِي‏:‏ ‏"‏غَطَّاهَا‏"‏، فَـ ‏"‏التَّكْفِيرُ‏"‏ ‏"‏التَّفْعِيلُ‏"‏ مِنَ ‏"‏الْكَفْرِ‏"‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى ‏"‏اللَّامِ‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَأُكَفِّرَنَّ‏"‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ ‏"‏اللَّامُ‏"‏ الْأُولَى عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ يَعْنِي ‏"‏اللَّامَ‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ‏"‏ قَالَ‏:‏ وَالثَّانِيَةُ مَعْنَى قَسَمٍ آخَرَ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ‏:‏ بَلِ ‏"‏اللَّامُ‏"‏ الْأُولَى وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْيَمِينِ، فَاكْتُفِيَ بِهَا عَنِ الْيَمِينِ يَعْنِي بِـ ‏"‏اللَّامِ الْأُولَى‏"‏‏:‏ ‏"‏لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَ ‏"‏اللَّامُ‏"‏ الثَّانِيَةُ يَعْنِي قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏"‏ جَوَابٌ لَهَا، يَعْنِي ‏"‏اللَّامَ‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ‏"‏ وَاعْتَلَّ لِقِيلِهِ ذَلِكَ بِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ‏"‏ غَيْرُ تَامٍّ وَلَا مُسْتَغْنٍ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏"‏‏.‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏"‏ قَسَمًا مُبْتَدَأً، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْيَمِينِ إِذْ كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَغْنِيَةٍ عَنْهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِ هَذِهِ الْبَسَاتِينِ الَّتِي أُدْخِلُكُمُوهَا الْأَنْهَارُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ فَمَنْ جَحَدَ مِنْكُمْ، يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُهُ بِهِ فَتَرَكَهُ، أَوْ رَكِبَ مَا نَهَيْتُهُ عَنْهُ فَعَمِلَهُ بَعْدَ أَخْذِي الْمِيثَاقَ عَلَيْهِ بِالْوَفَاءِ لِي بِطَاعَتِي وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِي ‏"‏فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ فَقَدْ أَخْطَأَ قَصْدَ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، وَزَلَّ عَنْ مَنْهَجِ السَّبِيلِ الْقَاصِدِ‏.‏

‏"‏وَالضَّلَالُ‏"‏، الرُّكُوبُ عَلَى غَيْرِ هُدًى، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏سَوَاءَ‏"‏ يَعْنِي بِهِ‏:‏ وَسَطَ، وَ ‏"‏السَّبِيلِ‏"‏، الطَّرِيقُ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَا تَأْوِيلَ ذَلِكَ كُلِّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، لَا تَعْجَبَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ هَمُّوا أَنْ يَبْسُطُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْكَ وَإِلَى أَصْحَابِكَ، وَنَكَثُوا الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، غَدْرًا مِنْهُمْ بِكَ وَبِأَصْحَابِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَاتِهِمْ وَعَادَاتِ سَلَفِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أنِّي أَخَذْتُ مِيثَاقَ سَلَفِهِمْ عَلَى عَهْدِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَاعَتِي، وَبَعَثْتُ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَدْ تُخُيِّرُوا مِنْ جَمِيعِهِمْ لِيَتَحَسَّسُوا أَخْبَارَ الْجَبَابِرَةِ، وَوَعَدْتُهُمُ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ أُوَرِّثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، بَعْدَ مَا أَرَيْتُهُمْ مِنَ الْعِبَرِ وَالْآيَاتِ- بِإِهْلَاكِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي الْبَحْرِ، وَفَلْقِ الْبَحْرِ لَهُمْ، وَسَائِرَ الْعِبَرِ- مَا أَرَيْتُهُمْ، فَنَقَضُوا مِيثَاقَهُمُ الَّذِي وَاثَقُونِي وَنَكَثُوا عَهْدِي، فَلَعَنْتُهُمْ بِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ‏.‏ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ خِيَارِهِمْ مَعَ أَيَادِيَّ عِنْدَهُمْ، فَلَا تَسْتَنْكِرُوا مِثْلَهُ مِنْ فِعْلِ أَرَاذِلِهِمْ‏.‏

وَفَى الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اكْتُفِيَ بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ ‏"‏فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏"‏- فَنَقَضُوا الْمِيثَاقَ، فَلَعَنْتُهُمْ ‏"‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ‏"‏ فَاكْتُفِيَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ‏"‏ مِنْ ذِكْرِ ‏"‏فَنَقَضُوا‏"‏‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ‏"‏، فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ‏"‏ قَالَ‏:‏ هُوَ مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ فَنَقَضُوهُ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى ‏"‏اللَّعْنِ‏"‏ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَ ‏"‏الهَاءُ وَالْمِيمُ‏"‏ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ‏"‏ عَائِدَتَانِ عَلَى ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ‏:‏ ‏(‏قَاسِيَةً‏)‏ بِالْأَلِفِ

عَلَى تَقْدِيرِ‏"‏فَاعِلَةٍ‏"‏ مِنْ‏"‏قَسْوَةِ الْقَلْبِ‏"‏، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏قَسَا قَلْبُهُ، فَهُوَ يَقْسُو وَهُوَ قَاسٍ‏"‏، وَذَلِكَ إِذَا غَلُظَ وَاشْتَدَّ وَصَارَ يَابِسًا صُلْبًا كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ‏:‏

وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتِي

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ‏:‏ فَلَعَنَّا الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدِي وَلَمْ يَفُوا بِمِيثَاقِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمُ الَّذِي وَاثَقُونِي‏"‏وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً‏"‏، غَلِيظَةً يَابِسَةً عَنِ الْإِيمَانِ بِي، وَالتَّوْفِيقِ لِطَاعَتِي، مَنْزُوعَةً مِنْهَا الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏(‏وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً‏)‏‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي تَأْوِيلِهِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَمَعْنَى ‏"‏القَسْوَةِ‏"‏، لِأَنَّ ‏"‏فَعِيلَةً‏"‏ فِي الذَّمِّ أَبْلَغُ مِنْ ‏"‏فَاعِلَةً‏"‏، فَاخْتَرْنَا قِرَاءَتَهَا ‏"‏قَسِيَّةً‏"‏ عَلَى ‏"‏قَاسِيَةً‏"‏ لِذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ‏"‏قَسِيَّةً‏"‏ غَيْرُ مَعْنَى ‏"‏الْقَسْوَةِ‏"‏، وَإِنَّمَا ‏"‏الْقَسِيَّةُ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ الْقُلُوبُ الَّتِي لَمْ يَخْلُصْ إِيمَانُهَا بِاللَّهِ، وَلَكِنْ يُخَالِطُ إِيمَانَهَا كُفْرٌ، كَالدَّرَاهِمِ ‏"‏الْقَسِيَّةِ‏"‏، وَهِيَ الَّتِي يُخَالِطُ فِضَّتَهَا غِشٌّ مِنْ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ الطَّائِيُّ‏:‏

لَهَا صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلَامِ كَمَا *** صَاحَ الْقَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيارِيفِ

يَصِفُ بِذَلِكَ وَقْعَ مَسَاحِي الَّذِينَ حَفَرُوا قَبْرَ عُثْمَانَ عَلَى الصُّخُورِ، وَهِيَ ‏"‏السِّلَامُ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً‏}‏ عَلَى‏"‏فَعِيلَةً‏"‏، لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي ذَمِّ الْقَوْمِ مِنْ ‏"‏قَاسِيَةً‏"‏‏.‏ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ‏:‏ ‏"‏فَعِيلَةً‏"‏ مِنَ ‏"‏الْقَسْوَةِ‏"‏، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏"‏نَفْسٌ زَكِيَّةٌ‏"‏ وَ‏"‏زَاكِيَةٌ‏"‏، وَ‏"‏امْرَأَةٌ شَاهِدَةٌ‏"‏ وَ‏"‏شَهِيدَةٌ‏"‏، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصَفَ الْقَوْمَ بِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِهِ، وَلَمْ يَصِفْهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ، فَتَكُونُ قُلُوبُهُمْ مَوْصُوفَةً بِأَنَّ إِيمَانَهَا يُخَالِطُهُ كُفْرٌ، كَالدَّرَاهِمِ الْقَسِيَّةِ الَّتِي يُخَالِطُ فِضَّتَهَا غِشٌّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ وَجَعَلْنَا قُلُوبَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَضُوا عُهُودَنَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَسِيَّةً، مَنْزُوعًا مِنْهَا الْخَيْرُ، مَرْفُوعًا مِنْهَا التَّوْفِيقُ، فَلَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، فَهُمْ لِنَزْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ التَّوْفِيقَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَالْإِيمَانَ، يُحَرِّفُونَ كَلَامَ رَبِّهِمُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، فَيُبَدِّلُونَهُ، وَيَكْتُبُونَ بِأَيْدِيهِمْ غَيْرَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى نَبِيِّهِمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ لِجُهَّالِ النَّاسِ‏:‏ ‏"‏هَذَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّوْرَاةُ الَّتِي أَوْحَاهَا إِلَيْهِ‏"‏‏.‏ وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْقُرُونِ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ مُوسَى مِنْ الْيَهُودِ، مِمَّنْ أَدْرَكَ بَعْضُهُمْ عَصْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ أَدْخَلَهُمْ فِي عِدَادِ الَّذِينَ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنْهُمْ مِمَّنْ أَدْرَكَ مُوسَى مِنْهُمْ، إِذْ كَانُوا مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَعَلَى مِنْهَاجِهِمْ فِي الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ، وَنَقْضِ الْمَوَاثِيقِ الَّتِي أَخَذَهَا عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ حُدُودُ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَيَقُولُونَ‏:‏ إِنْ أَمَرَكُمْ مُحَمَّدٌ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَاقْبَلُوهُ، وَإِنْ خَالَفَكُمْ فَاحْذَرُوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَنَسُوا حَظًّا‏"‏ وَتَرَكُوا نَصِيبًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ التَّوْبَةِ‏:‏ 67‏]‏ أَيْ‏:‏ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَتَرَكَهُمُ اللَّهُ‏.‏

وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ تَرَكُوا نَصِيبًا‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ‏"‏ قَالَ‏:‏ تَرَكُوا عُرَى دِينِهِمْ، وَوَظَائِفَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّتِي لَا تُقْبَلُ الْأَعْمَالُ إِلَّا بِهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَلَا تَزَالُ يَا مُحَمَّدُ تَطَّلِعُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَنْبَأْتُكَ نَبَأَهُمْ، مِنْ نَقْضِهِمْ مِيثَاقِي، وَنَكْثِهِمْ عَهْدِي، مَعَ أَيَادِيَّ عِنْدَهُمْ، وَنِعْمَتِي عَلَيْهِمْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ ‏"‏إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ‏"‏، إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ‏[‏لَمْ يَخُونُوا‏]‏‏.‏

وَ ‏"‏الخَائِنَةُ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ الْخِيَانَةُ، وُضِعَ-وَهُوَ اسْمٌ- مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏"‏خَاطِئَةً‏"‏، لِلْخَطِيئَةِ وَ‏"‏قَائِلَةً‏"‏ لِلْقَيْلُولَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ‏"‏، اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ‏"‏الْهَاءِ وَالْمِيمِ‏"‏ اللَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ‏"‏‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ‏"‏ قَالَ‏:‏ عَلَى خِيَانَةٍ وَكَذِبٍ وَفُجُورٍ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ‏}‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ هُمْ يَهُودُ، مِثْلَ الَّذِي هَمُّوا بِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ دَخْلَ حَائِطَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ‏"‏ مِنْ يَهُودَ مِثْلَ الَّذِي هَمُّوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ دَخَلَ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنٍ مِنْهُمْ، قَالَ‏:‏ وَالْعَرَبُ تَزِيدُ ‏"‏الْهَاءَ‏"‏ فِي آخِرِ الْمُذَكَّرِ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏هُوَ رَاوِيَةٌ لِلشِّعْرِ‏"‏، وَ‏"‏رَجُلٌ عَلَّامَةَ‏"‏، وَأَنْشَدَ‏:‏

حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالْوَفَاءِ ولَمْ تَكُنْ *** لِلْغَدْرِ خَائِنَةً مُغِلَّ الْإِصْبَعِ

فَقَالَ‏:‏ ‏"‏خَائِنَةً‏"‏، وَهُوَ يُخَاطِبُ رَجُلًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، الْقَوْلُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏ لِأَنَّ اللَّهَ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ، الْقَوْمَ مِنْ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ هَمُّوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، إِذْ أَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيَّيْنِ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ عَلَى مَا قَدْ هَمُّوا بِهِ‏.‏ ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ أَخْبَارَ أَوَائِلِهِمْ، وَإِعْلَامِهِ مَنْهَجَ أَسْلَافِهِمْ، وَأَنَّ آخِرَهُمْ عَلَى مِنْهَاجِ أَوَّلِهِمْ فِي الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، لِئَلَّا يَكْبُرَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى خِيَانَةٍ وَغَدْرٍ وَنَقْضِ عَهْدٍ وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَطَّلِعُ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ خَائِنٍ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْخَبَرَ ابْتُدِئَ بِهِ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ فَقِيلَ‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ‏"‏، ثُمَّ قِيلَ‏:‏ ‏"‏وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ‏"‏، فَإِذْ كَانَ الِابْتِدَاءُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، فَالْخَتْمُ بِالْجَمَاعَةِ أَوْلَى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَفْوِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ هَمُّوا أَنْ يَبْسُطُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لَهُ‏:‏ اعْفُ، يَا مُحَمَّدُ، عَنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ هَمُّوا بِمَا هَمُّوا بِهِ مِنْ بَسْطِ أَيْدِيهِمْ إِلَيْكَ وَإِلَى أَصْحَابِكَ بِالْقَتْلِ، وَاصْفَحْ لَهُمْ عَنْ جُرْمِهِمْ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَمَكْرُوهِهِمْ، فَإِنِّي أُحِبُّ مَنْ أَحْسَنَ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ‏.‏

وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ‏:‏ هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ‏.‏ وَيَقُولُ‏:‏ نَسَخَتْهَا آيَةُ ‏"‏بَرَاءَةَ‏"‏‏:‏ ‏(‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏)‏ الْآيَةُ ‏[‏سُورَةُ التَّوْبَةِ‏:‏ 29‏]‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ‏"‏، قَالَ‏:‏ نَسَخَتْهَا‏:‏ ‏(‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمُنْهَالِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏"‏، وَلَمْ يُؤْمَرْ يَوْمئِذٍ بِقِتَالِهِمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَصْفَحَ‏.‏ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي‏"‏بَرَاءَةَ‏"‏ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ التَّوْبَةِ‏:‏ 29‏]‏، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَأَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُقِرُّوا بِالْجِزْيَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي عُرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، نَحْوَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ إِمْكَانُهُ، غَيْرَ أَنَّ النَّاسِخَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ، هُوَ مَا كَانَ نَافِيًا كُلَّ مَعَانِي خِلَافِهِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، فَأَمَّا مَا كَانَ غَيْرَ نَافٍ جَمِيعَهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ نَاسِخٌ إِلَّا بِخَبَرٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ أَوْ مِنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏ دَلَالَةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِنَفْيِ مَعَانِي الصَّفْحِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْيَهُودِ‏.‏

وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ جَائِزًا مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِالصَّغَارِ وَأَدَائِهِمُ الْجِزْيَةَ بَعْدَ الْقِتَالِ، الْأَمْرُ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ فِي غَدْرَةٍ هَمُّوا بِهَا، أَوْ نَكْثَةٍ عَزَمُوا عَلَيْهَا، مَا لَمْ يَنْصِبُوا حَرْبًا دُونَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَيَمْتَنِعُوا مِنَ الْأَحْكَامِ اللَّازِمَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا أَنْ يُحْكَمَ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏ الْآيَةُ، بِأَنَّهُ نَاسِخٌ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ وَأَخَذْنَا مِنَ النَّصَارَى الْمِيثَاقَ عَلَى طَاعَتِي وَأَدَاءِ فَرَائِضِي، وَاتِّبَاعِ رُسُلِي وَالتَّصْدِيقِ بِهِمْ، فَسَلَكُوا فِي مِيثَاقِي الَّذِي أَخَذْتُهُ عَلَيْهِمْ مِنْهَاجَ الْأُمَّةِ الضَّالَّةِ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَدَّلُوا كَذَلِكَ دِينَهُمْ، وَنَقَضُوهُ نَقْضَهُمْ، وَتَرَكُوا حَظَّهُمْ مِنْ مِيثَاقِي الَّذِي أَخَذْتُهُ عَلَيْهِمْ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِي، وَضَيَّعُوا أَمْرِي، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ‏"‏، نَسُوا كِتَابَ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَعَهْدَ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَمْرَ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ قَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ مَا قَالَتِ الْيَهُودُ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

لْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ ‏{‏فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ‏"‏ حَرَّشْنَا بَيْنَهُمْ وَأَلْقَيْنَا، كَمَا تُغْرِي الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ‏.‏

يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ لَمَّا تَرَكَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى، الَّذِينَ أَخَذْتُ مِيثَاقَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِي، حَظَّهُمْ مِمَّا عَهِدْتُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِي وَنَهْيِي، أَغْرَيْتُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيصِفَةِ ‏"‏إِغْرَاءِ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَالْبَغْضَاءَ‏"‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَ إِغْرَاؤُهُ بَيْنَهُمْ بِالْأَهْوَاءِ الَّتِي حَدَثَتْ بَيْنَهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخْعِيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ‏"‏، قَالَ‏:‏ هَذِهِ الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ وَالتَّبَاغُضُ، فَهُوَ الْإِغْرَاءُ‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّخْعِيَّ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَغْرَى بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بِخُصُومَاتٍ بِالْجِدَالِ فِي الدِّينِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخْعِيِّ وَالتَّيْمِيِّ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ‏"‏، قَالَ‏:‏ مَا أَرَى ‏"‏الْإِغْرَاءَ‏"‏ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْأَهْوَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ‏:‏ الْخُصُومَاتُ فِي الدِّينِ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْعَدَاوَةُ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَالْبَغْضَاءُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏"‏ الْآيَةُ، إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا تَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَضَيَّعُوا فَرَائِضَهُ، وَعَطَّلُوا حُدُودَهُ، أَلْقَى بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِأَعْمَالِهِمْ أَعْمَالَ السُّوءِ، وَلَوْ أَخَذَ الْقَوْمُ كِتَابَ اللَّهِ وَأَمْرَهُ، مَا افْتَرَقُوا وَلَا تَبَاغَضُوا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالْحَقِّ، تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏أَغْرَى بَيْنَهُمْ بِالْأَهْوَاءِ الَّتِي حَدَثَتْ بَيْنَهُمْ‏"‏، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ، لِأَنَّعَدَاوَةَ النَّصَارَى بَيْنَهُمْ، إِنَّمَا هِيَ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ، وَذَلِكَ أَهْوَاءٌ، لَا وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِـ ‏"‏الهَاءِ وَالْمِيمِ‏"‏ اللَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ‏"‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى بِذَلِكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى‏.‏ فَمَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ‏:‏ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِنِسْيَانِهِمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ وَقَالَ فِي النَّصَارَى أَيْضًا‏:‏ ‏"‏فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ‏"‏، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ، أَغْرَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى‏.‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ كَمَا تُغْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَهَائِمِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ‏"‏، قَالَ‏:‏ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَغْرَى اللَّهُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ النَّصَارَى وَحْدَهَا‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَ النَّصَارَى، عُقُوبَةً لَهَا بِنِسْيَانِهَا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرَتْ بِهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَعَلَيْهَا عَادَتْ ‏"‏الْهَاءُ وَالْمِيمُ‏"‏ فِي‏"‏بَيْنَهُمْ‏"‏، دُونَ الْيَهُودِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ تَقَدَّمَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ أَنْ لَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وَعَلِّمُوا الْحِكْمَةَ وَلَا تَأْخُذُوا عَلَيْهَا أَجْرًا، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فَأَخَذُوا الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ، وَجَاوَزُوا الْحُدُودَ، فَقَالَ فِي الْيَهُودِ حَيْثُ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 64‏]‏، وَقَالَ فِي النَّصَارَى‏:‏ ‏"‏فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِلَيْنِ بِالْآيَةِ عِنْدِي مَا قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالْإِغْرَاءِ بَيْنَهُمْ، النَّصَارَى، فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَاصَّةً وَأَنَّ ‏"‏الْهَاءَ وَالْمِيمَ‏"‏ عَائِدَتَانِ عَلَى النَّصَارَى دُونَ الْيَهُودِ، لِأَنَّ ذِكْرَ ‏"‏الْإِغْرَاءِ‏"‏ فِي خَبَرِ اللَّهِ عَنِ النَّصَارَى، بَعْدَ تَقَضِّي خَبَرِهِ عَنِ الْيَهُودِ، وَبَعْدَ ابْتِدَائِهِ خَبَرَهُ عَنِ النَّصَارَى، فَلَأَنْ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْنِيًّا بِهِ النَّصَارَى خَاصَّةً، أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ الْحِزْبَانِ جَمِيعًا، لِمَا ذَكَرْنَا‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَمَا الْعَدَاوَةُ الَّتِي بَيْنَ النَّصَارَى، فَتَكُونُ مَخْصُوصَةً بِمَعْنَى ذَلِكَ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ ذَلِكَ عَدَاوَةُ النَّسْطُورِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ، الْمَلَكِيَّةَ وَالْمَلَكِيَّةِ النَّسْطُورِيَّةَ وَالْيَعْقُوبِيَّةَ‏.‏ وَلَيْسَ الَّذِي قَالَهُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏مَعْنِيٌّ بِذَلِكَ‏:‏ إِغْرَاءَ اللَّهِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ‏"‏ بِبَعِيدٍ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ عِنْدِي، وَأَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ اعْفُ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَمُّوا بِبَسْطِ أَيْدِيهِمْ إِلَيْكَ وَإِلَى أَصْحَابِكَ وَاصْفَحْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ وَرَاءِ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَسَيُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ عِنْدَ وُرُودِهِمْ عَلَيْهِ فِي مَعَادِهِمْ، بِمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَصْنَعُونَ، مِنْ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُ، وَنَكْثِهِمْ عَهْدَهُ، وَتَبْدِيلِهِمْ كِتَابَهُ، وَتَحْرِيفِهِمْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، فَيُعَاقِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَسْبَ اسْتِحْقَاقِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِجَمَاعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ‏"‏ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ‏"‏قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا‏"‏، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا‏}‏ ‏"‏، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ يُبَيِّنُ لَكُمْ مُحَمَّدٌ رَسُولُنَا، كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَهُ النَّاسَ وَلَا تُبَيِّنُونَهُ لَهُمْ مِمَّا فِي كِتَابِكُمْ‏.‏ وَكَانَ مِمَّا يُخْفُونَهُ مِنْ كِتَابِهِمْ فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ‏:‏ رَجْمُ الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَبْيِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، مِنْ إِخْفَائِهِمْ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ مَنْ كَفَرَ بِالرَّجْمِ، فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏.‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ ‏"‏، فَكَانَ الرَّجْمُ مِمَّا أَخْفَوْا‏.‏‏.‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبُّوَيْهِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ‏.‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ‏}‏ ‏"‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏"‏، قَالَ‏:‏ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَتَاهُ الْيَهُودُ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الرَّجْمِ، وَاجْتَمَعُوا فِي بَيْتٍ، قَالَ‏:‏ أَيُّكُمْ أَعْلَمُ‏؟‏ فَأَشَارُوا إِلَى ابْنِ صُورِيًّا، فَقَالَ‏:‏ أَنْتَ أَعْلَمُهُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ سَلْ عَمَّا شِئْتَ، قَالَ، ‏"‏أَنْتَ أَعْلَمُهُمْ‏؟‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ إِنَّهُمْ لَيَزْعُمُونَ ذَلِكَ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَنَاشَدَهُ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالَّذِي رَفَعَ الطُّورَ، وَنَاشَدَهُ بِالْمَوَاثِيقِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ، حَتَّى أَخَذَهُ أَفْكَلُ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ نِسَاءَنَا نِسَاءٌ حِسَانٌ، فَكَثُرَ فِينَا الْقَتْلُ، فَاخْتَصَرْنَا أُخْصُورَةً، فَجَلَدْنَا مِئَةً، وَحَلَقْنَا الرُّءُوسَ، وَخَالَفْنَا بَيْنَ الرُّءُوسِ إِلَى الدَّوَابِّ‏.‏ أَحْسَبُهُ قَالَ‏:‏ الْإِبِلَ قَالَ‏:‏ فَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالرَّجْمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ‏:‏ ‏"‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّينُ لَكُمْ‏"‏، الْآيَةُ وَهَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 76‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ‏"‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَيَعْفُو‏"‏، وَيَتْرُكُ أَخْذَكُمْ بِكَثِيرٍ مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ كِتَابِكُمُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، فَلَا تَعْمَلُونَ بِهِ حَتَّى يَأْمُرَهُ اللَّهُ بِأَخْذِكُمْ بِهِ‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏:‏ ‏"‏قَدْ جَاءَكُمْ‏"‏، يَا أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏"‏مِنَ اللَّهِ نُورٌ‏"‏، يَعْنِي بِالنُّورِ، مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَنَارَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ، وَأَظْهَرَ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَمَحَقَ بِهِ الشِّرْكَ، فَهُوَ نُورٌ لِمَنِ اسْتَنَارَ بِهِ يُبَيِّنُ الْحَقَّ‏.‏ وَمِنْ إِنَارَتِهِ الْحَقَّ، تَبْيِينُهُ لِلْيَهُودِ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَكِتَابٌ مُبِينٌ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى النُّورُ الَّذِي أَنَارَ لَكُمْ بِهِ مَعَالِمَ الْحَقِّ، ‏"‏وَكِتَابٌ مُبِينٌ‏"‏، يَعْنِي كِتَابًا فِيهِ بَيَانُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بَيْنَهُمْ‏:‏ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَشَرَائِعِ دِينِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ جَمِيعَ مَا بِهِمُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، وَيُوَضِّحُهُ لَهُمْ، حَتَّى يَعْرِفُوا حَقَّهُ مِنْ بَاطِلِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ يَهْدِي بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ الَّذِي جَاءَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏يَهْدِي بِهِ اللَّهُ ‏"‏، يُرْشِدُ بِهِ اللَّهُ وَيُسَدِّدُ بِهِ، وَ ‏"‏الهَاءُ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏بِهِ‏"‏ عَائِدَةٌ عَلَى ‏"‏الكِتَابِ‏"‏ ‏"‏مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مَنِ اتَّبَعَ رِضَى اللَّهِ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِيمَعْنَى ‏"‏الرِّضَى‏"‏ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الرِّضَى مِنْهُ بِالشَّيْءِ‏"‏، الْقَبُولُ لَهُ وَالْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَهُوَ قَابِلٌ الْإِيمَانَ، وَمُزَكٍّ لَهُ، وَمُثْنٍ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِالْإِيمَانِ، وَوَاصِفٌ الْإِيمَانَ بِأَنَّهُ نُورٌ وَهُدًى وَفَصْلٌ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ‏"‏الرِّضَى‏"‏ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، مَعْنًى مَفْهُومٌ، هُوَ خِلَافُ السُّخْطِ، وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ عَلَى مَا يُعْقَلُ مِنْ مَعَانِي‏:‏ ‏"‏الرِّضَى‏"‏ الَّذِي هُوَ خِلَافُ السُّخْطِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْمَدْحِ، لِأَنَّ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ قَوْلٌ، وَإِنَّمَا يُثْنَى وَيُمْدَحُ مَا قَدْ رُضِيَ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَالرِّضَا مَعْنًى، وَ ‏"‏الثَّنَاءُ‏"‏ وَ ‏"‏المَدْحٌ‏"‏ مَعْنًى لَيْسَ بِهِ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏سُبُلَ السَّلَامِ‏"‏، طُرُقَ السَّلَامِ وَ ‏"‏السَّلَامُ‏"‏، هُوَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ‏"‏، سَبِيلَ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَابْتَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ عَمَلًا إِلَّا بِهِ، لَا الْيَهُودِيَّةُ، وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ، وَلَا الْمَجُوسِيَّةُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ يَهْدِي اللَّهُ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ، مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ إِلَى سُبُلِ السَّلَامِ وَشَرَائِعِ دِينِهِ ‏"‏وَيُخْرِجُهُمْ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَيُخْرِجُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ وَ ‏"‏الهَاءُ وَالْمِيمُ‏"‏ فِي‏:‏ ‏"‏وَيُخْرِجُهُمْ‏"‏ إِلَى مَنْ ذُكِرَ ‏"‏مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، إِلَى نُورِ الْإِسْلَامِ وَضِيَائِهِ ‏"‏بِإِذْنِهِ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ بِإِذْنِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ‏.‏ وَ‏"‏إِذْنُهُ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ تَحْبِيبُهُ إِيَّاهُ الْإِيمَانَ بِرَفْعِ طَابَعِ الْكُفْرِ عَنْ قَلْبِهِ، وَخَاتَمِ الشِّرْكِ عَنْهُ، وَتَوْفِيقِهِ لِإِبْصَارِ سُبُلِ السَّلَامِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي عَزَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَيَهْدِيهِمْ‏"‏، وَيُرْشِدُهُمْ وَيُسَدِّدُهُمْ ‏"‏إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ إِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الْقَوِيمُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ‏.‏