فصل: تفسير الآية رقم (51)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذَكَرَهُ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِذَلِكَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى بِذَلِكَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، فِي بَرَاءَةِ عُبَادَةَ مِنْ حِلْفِ الْيَهُودِ، وَفِي تَمَسُّكِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ بِحِلْفِ الْيَهُودِ، بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إِذَا تَوَلَّاهُمْ وَتَمَسَّكَ بِحِلْفِهِمْ‏:‏ أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي بَرَاءَتِهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَبَرَاءَتِهِمْ مِنْهُمَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ، سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ «جَاءَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَوَالِي مِنْ يَهُودَ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودَ، وَأَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏.‏ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ‏:‏ إِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ، لَا أَبْرَأُ مِنْ وَلَايَةِ مَوَالِيَّ‏.‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أَبِيٍّ‏:‏ يَا أَبَا الْحُبَابِ، مَا بَخِلْتَ بِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودَ عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَهُوَ إِلَيْكَ دُونَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَدْ قَبِلْتُ‏.‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏"‏‏.‏»

حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ‏:‏ «لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ بَدْرٍ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنْ يَهُودَ‏:‏ آمِنُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِيَوْمٍ مِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ ‏!‏ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ صَيْفٍ‏:‏ غَرَّكُمْ أَنْ أَصَبْتُمْ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ‏!‏‏!‏ أَمَّا لَوْ أَمْرَرْنَا الْعَزِيمَةَ أَنْ نَسْتَجْمِعَ عَلَيْكُمْ، لَمْ يَكُنْ لَكُمْ يَدٌ أَنْ تُقَاتِلُونَا‏!‏ فَقَالَ عُبَادَةُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنَ الْيَهُودِ كَانَتْ شَدِيدَةً أَنْفُسُهُمْ، كثيًرا سِلَاحُهُمْ، شَدِيدَةً شَوْكَتُهُمْ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ وَلَايَتِهِمْ، وَلَا مَوْلَى لِي إِلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏.‏ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ‏:‏ لَكِنِّي لَا أَبْرَأُ مِنْ وَلَاءِ يَهُودَ، إِنِّي رَجُلٌ لَا بُدَّ لِي مِنْهُمْ‏!‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ يَا أَبَا حُبَابٍ، أَرَأَيْتَ الَّذِي نَفِسْتَ بِهِ مِنْ وَلَاءِ يَهُودَ عَلَى عُبَادَةَ، فَهُوَ لَكَ دُونَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إذًا أَقْبَلُ‏!‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏ إِلَى أَنْ بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏"‏‏.‏»

حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي وَالِدِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ‏:‏ «لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَقَامَ دُونَهُمْ، وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، لَهُ مِنْ حِلْفِهِمْ مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَبَرَّأَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَبَرَّأُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَأَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ الْكُفَّارِ وَوِلَايَتِهِمْ‏!‏ فَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي ‏"‏المَائِدَةِ‏"‏‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏، الْآيَةَ‏.‏»

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا هَمُّوا حِينَ نَالَهُمْ بِأُحُدٍ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَا نَالَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ الْيَهُودِ عِصَمًا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَهُوَ مِنْهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ، اشْتَدَّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَتَخَوَّفُوا أَنْ يُدَالَ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ، فَقَالَ رَجُلٌ لِصَاحِبِهِ‏:‏ أَمَّا أَنَا فَأَلْحَقُ بِدَهْلَكَ الْيَهُودِيِّ، فَآخُذُ مِنْهُ أَمَانًا وَأَتَهَوَّدُ مَعَهُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تُدَالَ عَلَيْنَا الْيَهُودُ‏.‏ وَقَالَ الْآخَر‏:‏ أَمَّا أَنَا فَأَلْحَقُ بِفُلَانٍ النَّصْرَانِيِّ بِبَعْضِ أَرْضِ الشَّأْمِ، فَآخُذُ مِنْهُ أَمَانًا وَأَتَنَصَّرُ مَعَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَنْهَاهُمَا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ أَبُو لَبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فِي إِعْلَامِهِ بَنِي قُرَيْظَةَ إِذْ رَضُوا بِحُكْمِ سَعْدٍ‏:‏ أَنَّهُ الذَّبْحُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، مِنَ الْأَوْسِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْظَةَ حِينَ نَقَضَتِ الْعَهْدَ، فَلَمَّا أَطَاعُوا لَهُ بِالنُّزُولِ، أَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ‏:‏ الذَّبْحَ الذَّبْحَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَر‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نهَىَ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ يَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَنْصَارًا وَحُلَفَاءَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَغَيْرَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَهُمْ نَصِيرًا وَحَلِيفًا وَوَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي التَّحَزُّبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ‏.‏ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَحُلَفَائِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي أَبِي لَبَابَةَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ أَحَدَهُمَا هَمَّ بِاللَّحَاقِ بِدَهْلَكَ الْيَهُودِيِّ، وَالْآخَرَ بِنَصْرَانِيٍّ بِالشَّأْمِ وَلَمْ يَصِحَّ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ خَبَرٌ تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ، فَيُسَلَّمُ لِصِحَّتِهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَمَا قِيلَ‏.‏

فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُحْكَمَ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ بِالْعُمُومِ عَلَى مَا عَمَّ، وَيَجُوزُ مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا عِلْمَ عِنْدِنَا بِخِلَافِهِ‏.‏ غَيْرَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُنَافِقٍ كَانَ يُوَالِي يَهُودًا أَوْ نَصَارَى خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دَوَائِرِ الدَّهْرِ، لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏"‏، فَإِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ‏:‏ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ أَنْصَارُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَأَنَّ النَّصَارَى كَذَلِكَ، بَعْضُهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ عَلَى مَنْ خَالَفَ دِينَهُمْ وَمِلَّتَهُمْ مُعَرِّفًا بِذَلِكَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُمْ أَوْ لِبَعْضِهِمْ وَلِيًّا، فَإِنَّمَا هُوَ وَلِيُّهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَ مِلَّتَهُمْ وَدِينَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَهُمْ حَرْبٌ‏.‏ فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏:‏ فَكُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَلِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ حَرْبًا كَمَا هُمْ لَكُمْ حَرْبٌ، وَبَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ، لِأَنَّ مَنْ وَالَاهُمْ فَقَدْ أَظْهَرَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الْحَرْبَ، وَمِنْهُمُ الْبَرَاءَةَ، وَأَبَانَ قَطْعَ وِلَايَتِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏"‏، وَمَنْ يَتَوَلَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَلَّى مُتَوَلٍّ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ بِهِ وَبِدِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ رَاضٍ‏.‏ وَإِذَا رَضِيَهُ وَرَضِيَ دِينَهُ، فَقَدْ عَادَى مَا خَالَفَهُ وسَخِطَهُ، وَصَارَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، وَلِذَلِكَ حَكَمَ مَنْ حَكَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ، بِأَحْكَامِ نَصَارَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِمُوَالَاتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَرِضَاهُمْ بِمِلَّتِهِمْ، وَنُصْرَتِهِمْ لَهُمْ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَنْسَابُهُمْ لِأَنْسَابِهِمْ مُخَالِفَةً، وَأَصْلُ دِينِهِمْ لِأَصْلِ دِينِهِمْ مُفَارِقًا‏.‏

وَفِي ذَلِكَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُ، مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَدِينُ بِدِينٍ فَلَهُ حُكْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الدِّينِ، كَانَتْ دَيْنُونَتُهُ بِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ‏.‏ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ دِينِنَا انْتَقَلَ إِلَى مِلَّةٍ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مَا دَانَ بِهِ فَانْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ يُقْتَلُ لِرِدَّتِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَمُفَارَقَتِهِ دِينَ الْحَقِّ، إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْقَتْلِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَفَسَادِ مَا خَالَفَهُ مِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ‏:‏ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ لِمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِسْرَائِيلِيًّا أَوْ مُنْتَقِلًا إِلَى دِينِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ قَبِلَ نُزُولِ الْفَرْقَانِ‏.‏ فَأَمَّا مَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ بَعْدَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، مِمَّنْ خَالَفَ نَسَبُهُ نَسَبَهُمْ وَجِنْسُهُ جِنْسَهُمْ، فَإِنَّهُ حُكْمُهُ لِحُكْمِهِمْ مُخَالِفٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ بِمَا قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ‏:‏ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَقَرَأَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏"‏، أَنَّهَا فِي الذَّبَائِحِ‏.‏ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كُلُوا مِنْ ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ، وَتَزَوَّجُوا مِنْ نِسَائِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏"‏، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إِلَّا بِالْوَلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ‏:‏ كَانَ الْحَسَنُ لَا يَرَى بِذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ وَلَا نِكَاحِ نِسَائِهِمْ بَأْسًا، وَكَانَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا سُوِيدٌ، قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ سُئِلَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ رَجُلٍ يَبِيعُ دَارَهُ مِنْ نَصَارَى يَتَّخِذُونَهَا بِيعَةً، قَالَ‏:‏ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يُوَفِّقُ مَنْ وَضَعَ الْوَلَايَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَوَالَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَعَ عَدَاوَتِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ لَهُمْ ظَهِيًرا وَنَصِيرًا، لِأَنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ فَهُوَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ حَرْبٌ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّامَعْنَى ‏"‏الظُّلْمِ‏"‏ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى بِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ، سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ ‏"‏، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ‏"‏يُسَارِعُونَ فِيهِمْ‏"‏، فِي وِلَايَتِهِمْ‏"‏ ‏{‏يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ‏}‏ ‏"‏، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي وَالِدِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ‏"‏ ‏{‏يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ‏}‏ ‏"‏، لِقَوْلِهِ‏:‏ إِنِّي أَخْشَى دَائِرَةً تُصِيبُنِي‏!‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُنَاصِحُونَ الْيَهُودَ وَيَغُشُّونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏نَخْشَى أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ لِلْيَهُودِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏"‏‏!‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ الْمُنَافِقُونَ، فِي مُصَانَعَةِ يَهُودَ، وَمُنَاجَاتِهِمْ، وَاسْتِرْضَاعِهِمْ أَوْلَادَهُمْ إِيَّاهُمْ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ‏}‏ ‏"‏، قَالَ يَقُولُ‏:‏ نَخْشَى أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ لِلْيَهُودِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏نَادِمِينَ‏"‏، أُنَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُوَادُّونَ الْيَهُودَ وَيُنَاصِحُونَهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ شَكَّ ‏"‏ ‏{‏يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ‏}‏ ‏"‏، وَ ‏"‏الدَّائِرَةُ‏"‏، ظُهُورُ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ خَبَرٌ عَنْ نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَيَغُشُّونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَقُولُونَ‏:‏ نَخْشَى أَنْ تَدُورَ دَوَائِرُ إِمَّا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَإِمَّا لِأَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَنْزِلَ بِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ نَازِلَةٌ، فَيَكُونُ بِنَا إِلَيْهِمْ حَاجَةٌ‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَانَ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إذًا‏:‏ فَتَرَى يَا مُحَمَّدُ، الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ شَكٌّ، وَمَرَضُ إِيمَانٍ بِنُبُوَّتِكَ وَتَصْدِيقِ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ ‏"‏يُسَارِعُونَ فِيهِمْ‏"‏، يَعْنِي فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَيَعْنِي بِمُسَارَعَتِهِمْ فِيهِمْ‏:‏ مُسَارَعَتُهُمْ فِي مُوَالَاتِهِمْ وَمُصَانَعَتِهِمْ ‏"‏ ‏{‏يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ‏:‏ إِنَّمَا نُسَارِعُ فِي مُوَالَاةِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، خَوْفًا مِنْ دَائِرَةٍ تَدُورُ عَلَيْنَا مِنْ عَدُوِّنَا‏.‏

وَيَعْنِي بِـ ‏"‏الدَّائِرَةِ‏"‏، الدَّوْلَةَ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ‏:‏

تَـرُدُّ عَنْـكَ الْقَـدَرَ الْمَقْـدُورَا *** وَدَائِـرَاتِ الدَّهْـرِ أَنْ تَـدُورَا

يَعْنِي‏:‏ أَنْ تُدَوَّلَ لِلدَّهْرِ دَوْلَةٌ، فَنَحْتَاجُ إِلَى نُصْرَتِهِمْ إِيَّانَا، فَنَحْنُ نُوَالِيهِمْ لِذَلِكَ‏.‏ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‏}‏ ‏"‏، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ ‏"‏الفَتْحِ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِهِ هَهُنَا، الْقَضَاءُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ بِالْقَضَاءِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عُنِيَ بِهِ فَتْحُ مَكَّةَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فَتْحُ مَكَّةَ‏.‏

و‏"‏الْفَتْحُ‏"‏ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْقَضَاءُ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 89‏]‏‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ‏"‏ فَتَحَ مَكَّةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَظِيمِ قَضَاءِ اللَّهِ، وَفَصْلِ حُكْمِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَمُقَرَّرًا عِنْدَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، أَنَّ اللَّهَ مُعْلِي كَلِمَتِهِ وَمُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏أَوْ أَمِرٍ مِنْ عِنْدِهِ‏"‏، فَإِنَّ السُّدِّيَّ كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ، مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‏"‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏الأَمْرُ‏"‏، الْجِزْيَةُ‏.‏

وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ‏"‏الْأَمْرُ‏"‏ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ هُوَ الْجِزْيَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا‏.‏ غَيْرَ أَنَّهُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، فَهُوَ مِمَّا فِيهِ إِدَالَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَمِمَّا يَسُوءُ الْمُنَافِقِينَ وَلَا يَسُرُّهُمْ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ إِذَا جَاءَ، أَصْبَحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى‏.‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يُدِيلُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَيُصْبِحَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ مُخَالَّةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَوَدَّتِهِمْ، وَبِغْضَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُحَادَّتِهِمْ، ‏"‏نَادِمِينَ‏"‏، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ‏}‏ ‏"‏، مِنْ مُوَادَّتِهِمُ الْيَهُودَ، وَمِنْ غِشِّهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا‏"‏‏.‏ فَقَرَأَتْهَا قَرَأَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ‏:‏ ‏(‏فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ‏)‏ بِغَيْرِ‏"‏وَاوٍ‏"‏‏.‏

وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ‏:‏ فَيُصْبِحَ الْمُنَافِقُونَ إِذَا أَتَى اللَّهُ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، عَلَى مَا أَسَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ، يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ تَعَجُّبًا مِنْهُمْ وَمِنْ نِفَاقِهِمْ وَكَذِبِهِمْ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ فِي أَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ بِاللَّهِ‏:‏ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا لَنَا بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمَعَنَا، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي أَيْمَانِهِمْ لَنَا‏؟‏ وَهَذَا الْمَعْنَى قَصَدَ مُجَاهِدٌ فِي تَأْوِيلِهِ، ذَلِكَ الَّذِي‏:‏-

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‏}‏ ‏"‏، حِينَئِذٍ، ‏"‏يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ إِيمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ‏"‏‏.‏

وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ‏"‏وَاوٍ‏"‏‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ‏:‏ ‏(‏وَيَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا‏)‏ بِالْوَاوِ، وَنَصْبِ ‏"‏يَقُولَ‏"‏ عَطْفًا بِهِ عَلَى‏"‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ‏"‏‏.‏ وَذَكَرَ قَارِئٌ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا أُرِيدُ بِذَلِكَ‏:‏ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وَعَسَى أَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا وَمُحَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏"‏وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا‏"‏، وَكَانَ يَقُولُ‏:‏ ذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏أَكَلْتُ خُبْزًا وَلَبَنًا‏"‏، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

وَرَأَيْـتِ زَوْجَـكِ فِـي الْـوَغَى *** مُتَقَلِّـدًا سَـيْفًا وَرُمْحَـا

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ‏:‏ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يُدِيلُهُمْ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، فَيُصْبِحَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَعَسَى أَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَئِذٍ‏:‏ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ كَذِبًا جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ‏؟‏

وَهِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالْوَاوِ‏:‏ ‏(‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا‏)‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ قَرَأَةُ الْكُوفِيِّينَ ‏(‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا‏)‏ بِالْوَاوِ، وَرَفْعِ ‏"‏يَقُولُ‏"‏، بِالِاسْتِقْبَالِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْجَوَازِمِ و النَّوَاصِبِ‏.‏

وَتَأْوِيلُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏:‏ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ يَنْدَمُونَ، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا، فَيَبْتَدِئُ ‏"‏يَقُولُ‏"‏ فَيَرْفَعُهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقِرَاءَتُنَا الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا‏"‏وَيَقُولُ‏"‏ بِإِثْبَاتِ ‏"‏الْوَاوِ‏"‏ فِي ‏"‏وَيَقُولُ‏"‏، لِأَنَّهَا كَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِنَا مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ بِالْوَاوِ، وَبِرَفْعِ ‏"‏يَقُولُ‏"‏ عَلَى الِابْتِدَاءِ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا عَلَى مَا وَصَفْنَا‏:‏ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ، وَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَلَفُوا لَنَا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ كَذِبًا إِنَّهُمْ لَمَعَنَا‏؟‏

يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُخْبِرًا عَنْ حَالِهِمْ عِنْدَهُ بِنِفَاقِهِمْ وَخُبْثِ أَعْمَالِهِمْ ‏"‏حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ ذَهَبَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا بَاطِلًا لَا ثَوَابَ لَهَا وَلَا أَجْرَ، لِأَنَّهُمْ عَمِلُوهَا عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْهُمْ بِأَنَّهَا عَلَيْهِمْ لِلَّهِ فَرْضٌ وَاجِبٌ، وَلَا عَلَى صِحَّةِ إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهَا لِيَدْفَعُوا الْمُؤْمِنِينَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَّارِيهِمْ، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَجَرَهَا، إِذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ‏"‏فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فَأَصْبَحَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، عِنْدَ مَجِيءِ أَمْرِ اللَّهِ بِإِدَالَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ، قَدْ وُكِسُوا فِي شِرَائِهِمُ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، وَخَابَتْ صَفْقَتُهُمْ وَهَلَكُوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏"‏، أَيْ‏:‏ صَدَقُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏"‏مَنْ يَرْتَدُّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مَنْ يَرْجِعْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، فَيُبَدِّلُهُ وَيُغَيِّرُهُ بِدُخُولِهِ فِي الْكُفْرِ، إِمَّا فِي الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الْكُفْرِ، فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، وَسَيَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، يَقُولُ‏:‏ فَسَوْفَ يَجِيءُ اللَّهُ بَدَلًا مِنْهُمُ، الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يُغَيِّرُوا وَلَمْ يَرْتَدُّوا، بِقَوْمٍ خَيْرٍ مِنَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وبَدَّلُوا دِينَهُمْ، يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُحِبُّونَ اللَّهَ‏.‏

وَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ سَيَرْتَدُّ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَكَذَلِكَ وَعْدُهُ مَنْ وَعَدَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِمَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُبَدِّلُ وَلَا يُغَيِّرُ دِينَهُ، وَلَا يَرْتَدُّ‏.‏ فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ارْتَدَّ أَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدَرِ، فَأَبْدَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَوَفَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِوَعْدِهِ، وَأَنْفَذَ فِيمَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ وَعِيدَهُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ‏:‏ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا، وَعُمَرُ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا حَمْزَةَ، آيَةٌ أَسْهَرَتْنِي الْبَارِحَةَ‏!‏ قَالَ مُحَمَّدٌ‏:‏ وَمَا هِيَ، أَيُّهَا الْأَمِيرُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏}‏ ‏"‏ حَتَّى بَلَغَ ‏"‏وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ‏"‏‏.‏ فَقَالَ مُحَمَّدٌ‏:‏ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّمَا عَنَى اللَّهُ بِالَّذِينِ آمَنُوا، الْوُلَاةَ مِنْ قُرَيْشٍ، مَنْ يَرْتَدَّ عَنِ الْحَقِّ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي أَعْيَانِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَتَى اللَّهُ بِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْدَلَ الْمُؤْمِنِينَ مَكَانَ مَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ أَبُو بَكْرِ الصَّدِيقُ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ مِنَ الْبَابِ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دَلْهَمٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هَذَا وَاللَّهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دَلْهَمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبَدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنْ سَهْلٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ‏:‏ قَرَأَ الْحَسَنُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هِيَ وَاللَّهُ لِأَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الْكِنْدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هُوَ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ‏.‏ لَمَّا ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ عَنِ الْإِسْلَامِ، جَاهَدَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏"‏، أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَدْ عَلِمَ أَنْ سَيَرْتَدَّ مُرْتَدُّونَ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ارْتَدَّ عَامَّةُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَّا ثَلَاثَةُ مَسَاجِدَ‏:‏ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَأَهْلُ الْبَحْرَيْنِ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالُوا‏:‏ نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي، وَاللَّهِ لَا تُغْصَبُ أَمْوَالُنَا‏!‏ فَكُلِّمَ أَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّهُمْ لَوْ قَدْ فُقِّهُوا لِهَذَا أَعْطَوْهَا أَوْ‏:‏ أَدَّوْهَا فَقَالَ‏:‏ لَا وَاللَّهِ، لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْءٍ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَلَوْ مَنَعُوا عِقَالًا مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَقَاتَلْنَاهُمْ عَلَيْهِ‏!‏ فَبَعَثَ اللَّهُ عِصَابَةً مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَاتَلَ عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى سَبَى وَقَتَلَ وَحَرَقَ بِالنِّيرَانِ أُنَاسًا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالْمَاعُونِ وَهِيَ الزَّكَاةُ صَغَرَةً أَقْمِيَاءَ‏.‏ فَأَتَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ، فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ خُطَّةٍ مُخْزِيَةٍ أَوْ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ‏.‏ فَاخْتَارُوا الْخُطَّةَ الْمُخْزِيَةَ، وَكَانَتْ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقِرُّوا‏:‏ أَنَّ قَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ، وَأَنَّ قَتْلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مَا أَصَابُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالٍ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ فَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ ارْتَدُّوا حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ عَلِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَقَعَ مَعْنَى السُّوءِ عَلَى الْحَشْوِ الَّذِي فِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ فِي عِلْمِهِ أَنْ يَرْتَدُّوا، قَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ‏}‏ ‏"‏، الْمُرْتَدَّةَ فِي دُورِهِمْ ‏"‏بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏"‏، بِأَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْهُمْ‏:‏ هُمْ رَهْطُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ‏:‏ «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي مُوسَى بِشَيْءٍ كَانَ مَعَهُ، فَقَالَ‏:‏ هُمْ قَوْمُ هَذَا»‏!‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عِيَاضًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى‏:‏ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَعْنِي قَوْمَ أَبِي مُوسَى»‏.‏

حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ أَبُو السَّائِبِ‏:‏ قَالَ أَصْحَابُنَا‏:‏ هُوَ‏:‏ ‏"‏عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ‏"‏، وَأَنَا لَا أَحْفَظُ‏"‏ سِمَاكًا ‏"‏ عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ هُمْ قَوْمُ هَذَا، يَعْنِي أَبَا مُوسَى‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ، «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مُوسَى‏:‏ هُمْ قَوْمُ هَذَا، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏» ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عِيَاضًا الْأَشْعَرِيَّ يَقُولُ‏:‏ «لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ هُمْ قَوْمُكَ يَا أَبَا مُوسَى‏!‏ أَوْ قَالَ‏:‏ هُمْ قَوْمُ هَذَا يَعْنِي أَبَا مُوسَى»‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عِيَاضٍ أَوِ‏:‏ ابْنِ عِيَاضٍ ‏"‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ‏:‏ «لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏}‏ ‏"‏ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ أَنَا وَقَوْمِي هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏لَا بَلْ هَذَا وَقَوْمُهُ‏!‏ يَعْنِي أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ‏.‏»

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ‏:‏ بَلْ هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ جَمِيعًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ هُمْ قَوْمُ سَبَأٍ‏.‏

حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ شَهْرَ بْنَ حَوْشَبٍ قَالَ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ‏:‏ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ‏:‏ فَقَالَ مُحَمَّدٌ‏:‏ ‏"‏يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ‏"‏، وَهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ ‏!‏ قَالَ عُمَرُ‏:‏ يَا لَيْتَنِي مِنْهُمْ‏!‏ قَالَ‏:‏ آمِينَ ‏!‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُمْ أَنْصَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، يَزْعُمُ أَنَّهُمُ الْأَنْصَارُ‏.‏

وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏"‏، أَبَا بَكْرٍ وَأَصْحَابَهُ فِي قِتَالِهِمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، وَسَيَأْتِي اللَّهُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، يَنْتَقِمُ بِهِمْ مِنْهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ‏.‏ وَبِذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ وَالرِّوَايَةُ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ يَقُولُ‏:‏ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ الْمُرْتَدَّةَ فِي دَوْرِهِمْ ‏"‏بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏"‏، بِأَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ‏.‏

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ أَهْلَ الْيَمَنِ، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمَّ يَرْتَدُّوا، بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أَعْوَانًا لَهُمْ وَأَنْصَارًا‏.‏ وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ بَعْضِ مَنْ كَانَ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ،

عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدُّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏}‏ ‏"‏ الْآيَةُ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْكُمْ، أَنَّهُ سَيَسْتَبْدِلُ خيًرا مِنْهُمْ‏.‏

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ عَنَى بِذَلِكَ الْأَنْصَارَ، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرَ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ أَنَّهُ عُنِيَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، مَا رُوِيَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّهُمْ أَهَّلُ الْيَمَنِ، قَوْمُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ‏.‏ وَلَوْلَا الْخَبَرُ الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ، مَا كَانَ الْقَوْلُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ إِلَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ‏"‏‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ قَوْمًا كَانُوا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ كُفَّارًا، غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِمَّنْ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ مَعَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَلَكِنَّا تَرَكَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ لِلْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْدِنَ الْبَيَانِ عَنْ تَأْوِيلِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ وَآيِ كِتَابِهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهَ أَنَّهُ سَيَأْتِي بِهِمْ عِنْدَ ارْتِدَادِ مَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ، مِمَّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَهَلْ كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ أَيَّامَ قِتَالِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ الرِّدَّةِ أَعْوَانَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَتَسْتَجِيزُ أَنْ تُوَجِّهَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ إِلَى مَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ‏؟‏ أَمْ لَمْ يَكُونُوا أَعْوَانًا لَهُ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ اسْتَجَزْتَ أَنْ تُوَجِّهَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا خُلْفَ لِوَعْدِ اللَّهِ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَعِدِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُبَدِّلَهُمْ بِالْمُرْتَدِّينَ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ خَيْرًا مِنَ الْمُرْتَدِينَ لِقِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهِمْ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ بَدَلًا مِنْهُمْ، فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ قَرِيبًا غَيْرَ بَعِيدٍ، فَجَاءَ بِهِمْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فَكَانَ مَوْقِعُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ أَحْسَنَ مَوْقِعٍ، وَكَانُوا أَعْوَانَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَنْفَعَ لَهُمْ مِمَّنْ كَانَ ارْتَدَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ طَغَامِ الْأَعْرَابِ وَجُفَاةِ أَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ كَانُوا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَلًّا لَا نَفْعًا‏؟‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

فَقَرَأَتْهُ قَرَأَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏}‏، بِإِظْهَارِ التَّضْعِيفِ بِدَالَيْنِ، مَجْزُومَةَ ‏"‏الدَّالِ‏"‏ الْآخِرَةِ‏.‏ وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي مَصَاحِفِهِمْ‏.‏

وَأَمَّا قَرَأَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِنَّهُمْ قَرَأُوا ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏}‏ بِالْإِدْغَامِ، بِدَالٍ وَاحِدَةٍ، وَتَحْرِيكُهَا إِلَى الْفَتْحِ، بِنَاءً عَلَى التَّثْنِيَةِ، لِأَنَّ الْمَجْزُومَ الَّذِي يَظْهَرُ تَضْعِيفُهُ فِي الْوَاحِدِ، إِذَا ثُنِّيَ أُدْغِمَ‏.‏ وَيُقَالُ لِلْوَاحِدِ‏:‏ ‏"‏ارْدُدْ يَا فُلَانُ إِلَى فُلَانٍ حَقَّهُ ‏"‏، فَإِذَا ثُنِّيَ قِيلَ‏:‏ ‏"‏رُدَّا إِلَيْهِ حَقَّهُ ‏"‏، وَلَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏ارْدُدَا‏"‏، وَكَذَلِكَ فِي الْجَمْعِ‏:‏ ‏"‏رُدُّوا‏"‏، وَلَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏ارْدُدُوا‏"‏، فَتَبْنِي الْعَرَبُ أَحْيَانًا الْوَاحِدَ عَلَى الِاثْنَيْنِ، وَتَظْهَرُ أَحْيَانًا فِي الْوَاحِدِ التَّضْعِيفَ لِسُكُونِ لَامِ الْفِعْلِ‏.‏ وَكِلْتَا اللُّغَتَيْنِ فَصِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْعَرَبِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقِرَاءَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى مَا هُوَ بِهِ فِي مَصَاحِفِنَا وَمَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، بِدَالٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، بِتَرْكِ إِظْهَارِ التَّضْعِيفِ، وَبِفَتْحِ ‏"‏الدَّالِ‏"‏، لِلْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفْتُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏"‏، أَرِقَّاءَ عَلَيْهِمْ، رُحَمَاءَ بِهِمْ‏.‏

مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏ذَلَّ فَلَانٌ لِفُلَانٍ‏"‏‏.‏ إِذَا خَضَعَ لَهُ وَاسْتَكَانَ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏"‏، أَشِدَّاءَ عَلَيْهِمْ، غُلَظَاءَ بِهِمْ‏.‏

مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏قَدْ عَزَّنِي فُلَانٌ‏"‏، إِذَا أَظْهَرَ الْعِزَّةَ مِنْ نَفْسِهِ لَهُ، وَأَبْدَى لَهُ الْجَفْوَةَ وَالْغِلْظَةَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏"‏، أَهْلُ رِقَّةٍ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ‏"‏أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏"‏، أَهْلُ غِلْظَةٍ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ فِي دِينِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي بِالْأَذِلَّةِ‏:‏ الرُّحَمَاءَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ‏"‏ ‏{‏أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَشِدَّاءُ عَلَيْهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏"‏، ضُعَفَاءُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏"‏، هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِهِمْ إِنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ مُرْتَدٌّ بَدَلًا مِنْهُمْ، يُجَاهِدُونَ فِي قِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ، وَالْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ لَهُمْ بِهِ، وَيُجَاهِدُونَ عَدُوَّهُمْ‏.‏ فَذَلِكَ مُجَاهَدَتُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‏"‏ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَا يَخَافُونَ فِي ذَاتِ اللَّهِ أَحَدًا، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ قِتَالِ عَدُّوِّهِمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي هَذَا النَّعْتَ الَّذِي نَعَتَهُمْ بِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَضْلُ اللَّهِ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ يُؤْتِي فَضْلَهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ مِنَّةً عَلَيْهِ وَتَطَوُّلًا ‏"‏وَاللَّهُ وَاسِعٌ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَاللَّهُ جَوَّادٌ بِفَضْلِهِ عَلَى مَنْ جَادَ بِهِ عَلَيْهِ، لَا يَخَافُ نَفَادَ خَزَائِنِهِ فَتَتْلَفَ فِي عَطَائِهِ ‏"‏عَلِيمٌ‏"‏، بِمَوْضِعِ جُودِهِ وَعَطَائِهِ، فَلَا يَبْذُلُهُ إِلَّا لِمَنِ اسْتَحَقَّهُ، وَلَا يَبْذُلُ لِمَنِ اسْتَحَقَّهُ إِلَّا عَلَى قَدْرِ الْمَصْلَحَةِ، لِعِلْمِهِ بِمَوْضِعِ صَلَاحِهِ لَهُ مِنْ مَوْضِعِ ضُرِّهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏"‏، لَيْسَ لَكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، نَاصِرٌ إِلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ مَا ذَكَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏.‏ فَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَنْ تَبْرَأُوا مِنْ وَلَايَتِهِمْ، وَنَهَاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ، فَلَيْسُوا لَكُمْ أَوْلِيَاءَ لَا نُصَرَاءَ، بَلْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا‏.‏

وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فِي تَبَرُّئِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَحِلْفِهِمْ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي وَالِدِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ‏:‏ لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَتَبَرَّأَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَقَالَ‏:‏ أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ الْكُفَّارِ وَوَلَايَتِهِمْ‏!‏ فَفِيهِ نَزَلَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ‏}‏ ‏"‏ لِقَوْلِ عُبَادَةَ‏:‏ ‏"‏أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏"‏، وَتَبَرُّئِهِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَوَلَايَتِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ جَاءَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ أَنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ تَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِهِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِهِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِمَنْ يَتَوَلَّاهُمْ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ‏}‏ ‏"‏، هَؤُلَاءِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَرَّ بِهِ سَائِلٌ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ‏}‏ ‏"‏، قُلْتُ‏:‏ مَنِ الَّذِينَ آمَنُوا‏؟‏ قَالَ‏:‏ الَّذِينَ آمَنُوا‏!‏ قُلْنَا‏:‏ بَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ‏!‏ قَالَ‏:‏ عَلِيٌّ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ ‏"‏، وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ هَنَّادٍ، عَنْ عَبْدَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْرَائِيلَ الرَّمْلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ ‏"‏، الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، تَصَدَّقَ وَهُوَ رَاكِعٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ جَمِيعًا الَّذِينَ تَبَرَّأُوا مِنْ حِلْفِ الْيَهُودِ وَخَلَعُوهُمْ رِضًى بِوَلَايَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِحِلْفِهِمْ وَخَافُوا دَوَائِرَ السُّوءِ تَدُورُ عَلَيْهِمْ، فَسَارَعُوا إِلَى مُوَالَاتِهِمْ أَنَّ مَنْ وَثَقَ بِاللَّهِ وَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُمُ الْغَلَبَةُ وَالدَّوَائِرُ وَالدَّوْلَةُ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ وَحَادَّهُمْ، لِأَنَّهُمْ حِزْبُ اللَّهِ، وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ، دُونَ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَهُمْ يَعْنِي الرَّبُّ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَنِ الْغَالِبُ، فَقَالَ‏:‏ لَا تَخَافُوا الدَّوْلَةَ وَلَا الدَّائِرَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏"‏، وَ ‏"‏الحِزْبُ‏"‏ هُمُ الْأَنْصَارُ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ‏"‏، فَإِنَّ أَنْصَارَ اللَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ‏:‏

وَكَيْفَ أَضْوَى وَبِلَالٌ حِزْبِي‏!‏

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَضْوَى‏"‏، أُسْتَضْعَفُ وَأُضَامُ مِنَ الشَّيْءِ ‏"‏الضَّاوِي‏"‏‏.‏ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَبِلَالٌ حِزْبِي‏"‏، يَعْنِي‏:‏ نَاصِرِي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏"‏، أَيْ‏:‏ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏"‏ ‏{‏لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ، وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الْكُتُبُ مِنْ قَبْلِ بَعْثِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ قَبْلِ نُزُولِ كِتَابِنَا‏"‏أَوْلِيَاءَ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تَتَّخِذُوهُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنْصَارًا أَوْ إِخْوَانًا أَوْ حُلَفَاءَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَإِنْ أَظْهَرُوا لَكُمْ مَوَدَّةً وَصَدَاقَةً‏.‏

وَكَانَ اتِّخَاذُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا بِالدِّينِ عَلَى مَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَبُّنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ، أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يُظْهِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ مُقِيمٌ، ثُمَّ يُرَاجِعُ الْكُفْرَ بَعْدَ يَسِيرٍ مِنَ الْمُدَّةِ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ قَوْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ يُبْدِي بِلِسَانِهِ الْإِيمَانَ قَوْلًا وَهُوَ لِلْكُفْرِ مُسْتَبْطِنٌ تَلَعُّبًا بِالدِّينِ وَاسْتِهْزَاءً بِهِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 14، ‏]‏‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ وَسُوِيدُ بْنُ الْحَارِثِ قَدْ أَظْهَرَا الْإِسْلَامَ ثُمَّ نَافَقَا، وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَادُّونَهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ مِنْ قَبِلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏"‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

فَقَدْ أَبَانَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا، مِنْ أَنَّ اتِّخَاذَ مَنِ اتَّخَذَ دِينَ اللَّهِ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِنَّمَا كَانَ بِالنِّفَاقِ مِنْهُمْ وَإِظْهَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ، وَاسْتِبْطَانِهِمُ الْكُفْرَ، وَقِيلِهِمْ لِشَيَاطِينِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ إِذَا خَلَوْا بِهِمْ‏:‏ ‏"‏إِنَّا مَعَكُمْ‏"‏، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ مُوَادَّتِهِمْ وَمُخَالَّتِهِمْ، وَالتَّمَسُّكَ بِحِلْفِهِمْ، وَالِاعْتِدَادَ بِهِمْ أَوْلِيَاءَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَأْلُونَهُمْ خَبَالًا وَفِي دِينِهِمْ طَعْنًا، وَعَلَيْهِ إِزْرَاءً‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏الكُفَّارُ‏"‏ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ‏"‏، فَإِنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ‏.‏ نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْكُفْرِ أَوْلِيَاءَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ‏:‏ ‏{‏مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا‏}‏‏.‏

فَفِي هَذَا بَيَانُ صِحَّةِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلْنَاهُ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةٍ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ‏:‏ ‏(‏وَالْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ‏)‏ بِخَفْضِ ‏"‏الكَفَّارِ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَمِنَ الْكُفَّارِ، أَوْلِيَاءَ‏.‏

وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ فِيمَا بَلَغَنَا‏:‏ ‏{‏مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ‏}‏‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ‏:‏ ‏(‏وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ‏)‏ بِالنَّصْبِ، بِمَعْنَى‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا وَالْكُفَّارَ عَطْفًا بِـ ‏"‏الكُفَّارِ‏"‏ عَلَى ‏"‏الذِينَ اتَّخَذُوا‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَّفِقَتَا الْمَعْنَى، صَحِيحَتَا الْمَخْرَجِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقَرَأَةِ، فَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَقَدْ أَصَابَ‏.‏ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ وَلِيٍّ مِنَ الْكُفَّارِ، نَهْيٌ عَنِ اتِّخَاذِ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ‏.‏ وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ، نَهْيٌ عَنِ اتِّخَاذِ بَعْضِهِمْ وَلَيًّا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْكِلٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِذَا حَرَّمَ اتِّخَاذَ وَلِيٍّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُمُ اتِّخَاذَ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ وَلَا إِذَا حَرَّمَ اتِّخَاذَ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ، أَنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ إِبَاحَةَ اتِّخَاذِ بَعْضِهِمْ وَلَيًّا، فَيَجِبُ مِنْ أَجْلِ إِشْكَالِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ‏.‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَسَوَاءٌ قَرَأَ الْقَارِئُ بِالْخَفْضِ أَوْ بِالنَّصْبِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَخَافُوا اللَّهَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ وَمِنَ الْكُفَّارِ، أَنْ تَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَنُصَرَاءَ، وَارْهَبُوا عُقُوبَتَهُ فِي فِعْلِ ذَلِكَ إِنْ فَعُلْتُمُوهُ بَعْدَ تَقَدُّمِهِ إِلَيْكُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَتُصَدِّقُونَهُ عَلَى وَعِيدِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِذَا أَذَّنَ مُؤَذِّنُكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِالصَّلَاةِ، سَخِرَ مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَيْهَا هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَعِبُوا مِنْ ذَلِكَ ‏"‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ‏"‏، يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ذَلِكَ‏"‏، فِعْلَهُمُ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ، وَهُوَ هُزُؤُهُمْ وَلَعِبُهُمْ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ، إِنَّمَا يَفْعَلُونَهُ بِجَهْلِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مَا لَهُمْ فِي إِجَابَتِهِمْ إِنْ أَجَابُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَمَا عَلَيْهِمْ فِي اسْتِهْزَائِهِمْ وَلَعِبِهِمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، وَلَوْ عَقِلُوا مَا لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ، مَا فَعَلُوهُ‏.‏

وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ السُّدِّيِّ فِي تَأْوِيلِهِ مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا‏}‏ ‏"‏، كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى بِالْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي يُنَادِي‏:‏ ‏"‏أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏حُرِقَ الْكَاذِبُ‏"‏‏!‏ فَدَخَلَتْ خَادِمُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي بِنَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ وَأَهْلُهُ نِيَامٌ، فَسَقَطَتْ شَرَارَةٌ فَأَحْرَقَتِ الْبَيْتَ، فَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى‏:‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، هَلْ تَكْرَهُونَ مِنَّا أَوْ تَجِدُونَ عَلَيْنَا فِي شَيْءٍ إِذْ تَسْتَهْزِئُونَ بِدِينِنَا، وَإِذْ أَنْتُمْ إِذَا نَادَيْنَا إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذْتُمْ نِدَاءَنَا ذَلِكَ هُزُوًا وَلَعِبًا ‏"‏إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ إِلَّا أَنْ صَدَقْنَا وَأَقْرَرْنَا بِاللَّهِ فَوَحَّدْنَاهُ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْكِتَابِ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ مِنَ الْكُتُبِ مِنْ قَبْلِ كِتَابِنَا‏"‏وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَإِلَّا أَنَّ أَكْثَرَكُمْ مُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ، خَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ، تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ‏.‏

وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ ‏"‏نَقَمْتُ عَلَيْكَ كَذَا أَنْقِمُ‏"‏ وَبِهِ قَرَأَهُ الْقَرَأَةُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ و‏"‏نَقِمْتُ أَنْقِمُ‏"‏، لُغَتَانِ، وَلَا نَعْلَمُ قَارِئًا قَرَأَ بِهِمَا بِمَعْنَى وَجَدْتُ وَكَرِهْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الرُّقُيَاتُ‏:‏

مَـا نَقَمُـوا مِـنْ بَنِـي أُمَيَّـةَ إِلَّا *** أَنَّهُـمْ يَحْـلُمُونَ إِنْ غَضِبُـوا

وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ فِيهِمْ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ، وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَعَازِرٌ، وَزَيْدٌ، وَخَالِدٌ، وَأَزَارُ بْنُ أَبِي أَزَارَ، وَأَشْيَعُ، فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أُومِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏.‏ فَلَمَّا ذَكَرَ عِيسَى جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَالُوا‏:‏ لَا نُؤْمِنُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ‏!‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏"‏‏.‏»

عَطْفًا بِهَا عَلَى‏"‏أَنْ‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏إِلَّا أَنْ آمِنًا بِاللَّهِ‏"‏، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا إِيمَانَنَا بِاللَّهِ وَفِسْقَكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏قُلْ‏"‏، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ مَنْ قَبِلَكُمْ وَالْكُفَّارِ ‏"‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ‏"‏، يَا مَعْشَر أَهْلِ الْكِتَابِ، بِشَرٍّ مِنْ ثَوَابِ مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا مِنْ إِيمَانِنَا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِنَا مِنْ كُتُبِهِ‏؟‏

‏[‏وَ‏"‏مَثُوبَةً‏"‏، تَقْدِيرُهَا مُفَعْوِلَةً‏"‏‏]‏، غَيْرَ أَنَّ عَيْنَ الْفِعْلِ لَمَّا سَقَطَتْ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى ‏"‏الفَاءِ‏"‏، وَهِيَ ‏"‏الثَّاءُ‏"‏ مِنْ‏"‏مَثُوبَةً‏"‏، فَخَرَجَتْ مَخْرَجَ ‏"‏مَقُولَةٍ‏"‏، وَ‏"‏مَحُورَةٍ‏"‏، وَ‏"‏مَضُوفَةٍ ‏"‏،

كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَكـنْتُ إِذَا جَـارِي دَعَـا لِمَضُوفَةٍ *** أُشَـمِّر حَـتَّى يَنْصُـفَ السَّاقَ مِئْزَرِي

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏المَثُوبَةُ‏"‏، الثَّوَابُ، ‏"‏مَثُوبَةُ الْخَيْرِ‏"‏، وَ‏"‏مَثُوبَةُ الشَّرِّ‏"‏، وَقَرَأَ‏:‏ ‏(‏خَيْرٌ ثَوَابًا‏)‏ ‏[‏سُورَةُ الْكَهْفِ‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وَأَمَّا‏"‏مَنْ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ‏"‏، فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ‏"‏‏.‏ فَكَأَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏:‏ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ، بِمَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ‏.‏

وَلَوْ قِيلَ‏:‏ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لَكَانَ صَوَابًا، عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، بِمَعْنَى‏:‏ ذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أَوْ‏:‏ وَهُوَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ‏.‏

وَلَوْ قِيلَ‏:‏ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا، بِمَعْنَى‏:‏ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ فَيَجْعَلُ‏"‏ أُنَبِّئُكُمْ ‏"‏ عَامَلَا فِي‏"‏مَنْ‏"‏، وَاقِعًا عَلَيْهِ‏.‏

وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ مَنْ أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ مِنْ رَحِمَتْهُ ‏"‏ ‏{‏وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْمُسُوخَ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، غَضَبًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ وَسُخْطًا، فَعَجَّلَ لَهُمُ الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ فِي الدُّنْيَا‏.‏

وَأَمَّا سَبَبُ مَسْخِ اللَّهِ مَنْ مَسَخَ مِنْهُمْ قِرَدَةً، فَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّتَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ هَذَا‏.‏

وَأَمَّاسَبَبُ مَسْخِ اللَّهِ مَنْ مَسَخَ مِنْهُمْ خَنَازِيرَ، فَإِنَّهُ كَانَ فِيمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ‏:‏ حُدِّثْتُ أَنَّ الْمَسْخَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْخَنَازِيرِ، كَانَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ فِيهَا مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانُوا قَدِ اسْتَجْمَعُوا عَلَى الْهَلَكَةِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةِ كَانَتْ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنَ الْإِسْلَامِ مُتَمَسِّكَةً بِهِ، فَجَعَلَتْ تَدْعُو إِلَى اللَّهِ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهَا نَاسٌ فَتَابَعُوهَا عَلَى أَمْرِهَا قَالَتْ لَهُمْ‏:‏ إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ أَنْ تُجَاهِدُوا عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَأَنْ تُنَادُوا قَوْمَكُمْ بِذَلِكَ، فَاخْرُجُوا فَإِنِّي خَارِجَةٌ‏.‏ فَخَرَجَتْ، وَخَرَجَ إِلَيْهَا ذَلِكَ الْمَلِكُ فِي النَّاسِ، فَقَتَلَ أَصْحَابهَا جَمِيعًا، وَانْفَلَتَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَدَعَتْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى تَجَمَّعَ النَّاسُ إِلَيْهَا، حَتَّى إِذَا رَضِيَتْ مِنْهُمْ، أَمَرَتْهُمْ بِالْخُرُوجِ، فَخَرَجُوا وَخَرَجَتْ مَعَهُمْ، وَأُصِيبُوا جَمِيعًا وَانْفَلَتَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ‏.‏ ثُمَّ دَعَتْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهَا رِجَالٌ وَاسْتَجَابُوا لَهَا، أَمَرَتْهُمْ بِالْخُرُوجِ، فَخَرَجُوا وَخَرَجَتْ، فَأُصِيبُوا جَمِيعًا، وَانْفَلَتَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَرَجَعَتْ وَقَدْ أَيِسَتْ، وَهِيَ تَقُولُ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، لَوْ كَانَ لِهَذَا الدِّينِ وَلِيٌّ وَنَاصِرٌ، لَقَدْ أَظْهَرَهُ بَعْدُ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَبَاتَتْ مَحْزُونَةً، وَأَصْبَحَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ يَسْعَوْنَ فِي نَوَاحِيهَا خَنَازِيرَ، قَدْ مَسَخَهُمُ اللَّهُ فِي لَيْلَتِهِمْ تِلْكَ، فَقَالَتْ حِينَ أَصْبَحَتْ وَرَأَتْ مَا رَأَتْ‏:‏ الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ دِينَهُ وَأَمْرَ دِينِهِ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَمَا كَانَ مَسْخُ الْخَنَازِيرِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا عَلَى يَدَيْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ مُسِخَتْ مِنْ يَهُودَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَلِلْمَسْخِ سَبَبٌ فِيمَا ذُكِرَ غَيْرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَتْهُ قَرَأَةُ الْحِجَازِ وَالشَّأْمِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏(‏وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، بِمَعْنَى‏:‏ ‏"‏عَابِدٍ‏"‏، فَجَعَلَ‏"‏عَبَدَ‏"‏، فِعْلًا مَاضِيًا مِنْ صِلَةِ الْمُضْمَرِ، وَنَصْبَ ‏"‏الطَّاغُوتَ‏"‏، بِوُقُوعِ‏"‏عَبَدَ‏"‏ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏(‏وَعَبُدَ الطَّاغُوتِ‏)‏ بِفَتْحِ ‏"‏العَيْنِ‏"‏ مِنْ‏"‏عَبُدَ‏"‏ وَضَمِّ بَائِهَا، وَخَفْضِ ‏"‏الطَّاغُوتِ‏"‏ بِإِضَافَةِ‏"‏عَبُدَ‏"‏ إِلَيْهِ‏.‏ وَعَنَوْا بِذَلِكَ‏:‏ وَخَدَمَ الطَّاغُوتَ‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنِي حَمْزَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ أَنَّهُ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏وَعُبَدَ الطَّاغُوتِ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ خَدَمَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ‏:‏ وَكَانَ حَمْزَةُ كَذَلِكَ يَقْرَأهَا‏.‏

حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ وَابْنُ حُمَيْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأهَا كَذَلِكَ‏.‏

وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ‏:‏ إِنْ تَكُنْ فِيهِ لُغَةٌ مِثْلَ ‏"‏حَذِرَ‏"‏ وَ‏"‏حَذُرَ‏"‏، وَ‏"‏عَجِلَ‏"‏، وَ‏"‏عَجُلَ‏"‏، فَهُوَ وَجْهٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَإِلَّا فَإِنْ أَرَادَ قَوْلَ الشَّاعِرِ‏:‏

أَبْنَيْ لُبَيْنَـى إِنَّ أُمَّكُـمُ *** أَمَـةٌ وَإِنَّ أَبَـاكُمُ عَبُـدُ

فَإِنَّ هَذَا مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَهَذَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ لِضَرُورَةِ الْقَوَافِي، وَأَمَّا فِي الْقِرَاءَةِ فَلَا‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ‏:‏ ‏(‏وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ‏)‏ ذُكِرَ ذَلِكَ عَنِ الْأَعْمَشِ‏.‏

وَكَأَنَّ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، أَرَادَ جَمْعَ الْجَمْعِ مِنَ ‏"‏الْعَبْدِ‏"‏، كَأَنَّهُ جَمَعَ ‏"‏الْعَبْدِ‏"‏ ‏"‏عَبِيدًا‏"‏، ثُمَّ جَمَعَ ‏"‏الْعَبِيدَ‏"‏ ‏"‏عُبُدًا‏"‏، مَثَّلَ‏:‏ ‏"‏ثِمَارٍ وُثُمُرَ‏"‏‏.‏

وَذُكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأهُ‏:‏ ‏(‏وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ‏:‏ كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ يَقْرَأُهَا‏:‏ ‏(‏وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ‏)‏، كَمَا يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ضُرِبَ عَبْدُ اللَّهِ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ لَا مَعْنَى لَهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، إِنَّمَا ابْتَدَأَ الْخَبَرَ بِذَمِّ أَقْوَامٍ، فَكَانَ فِيمَا ذَمَّهُمْ بِهِ عِبَادَتُهُمُ الطَّاغُوتَ‏.‏ وَأَمَّا الْخَبَرُ عَنْ أَنَّ الطَّاغُوتَ قَدْ عُبِدَ، فَلَيْسَ مِنْ نَوْعِ الْخَبَرِ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ الْآيَةَ، وَلَا مِنْ جِنْسِ مَا خَتَمَهَا بِهِ، فَيَكُونُ لَهُ وَجْهٌ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ فِي الصِّحَّةِ‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ كَانَ يَقْرَأهُ‏:‏ ‏(‏وَعَابِدَ الطَّاغُوتِ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا شَيْخٌ بَصْرِيٌّ‏:‏ أَنْ بُرَيْدَةَ كَانَ يَقْرَأهُ كَذَلِكَ‏.‏

وَلَوْ قُرِئَ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ‏)‏، بِالْكَسْرِ، كَانَ لَهُ مُخْرِجٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ أَسْتَجِزِ الْيَوْمَ الْقِرَاءَةَ بِهَا، إِذْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْحُجَّةِ مِنَ الْقَرَأَةِ بِخِلَافِهَا‏.‏ وَوَجْهُ جَوَازِهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ، أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا‏"‏وَعَبَدَةَ الطَّاغُوتِ‏"‏، ثُمَّ حُذِفَتِ ‏"‏الهَاءُ‏"‏ لِلْإِضَافَةِ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ‏:‏

قَامَ وُلَاهَا فَسَقَوْهُ صَرْخَدَا

يُرِيدُ‏:‏ قَامَ وُلَاتُهَا، فَحَذَفَ ‏"‏التَّاءَ‏"‏ مِنْ‏"‏وُلَاتِهَا‏"‏ لِلْإِضَافَةِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقَرَأَةِ، فَبِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ بَدَأْتُ بِذِكْرِهِمَا، وَهُوَ‏:‏ ‏(‏وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏)‏، بِنَصْبِ ‏"‏الطَّاغُوتَ‏"‏ وَإِعْمَالِ ‏"‏عَبَدَ‏"‏ فِيهِ، وَتَوْجِيهِ‏"‏عَبَدَ‏"‏ إِلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ ‏"‏العِبَادَةِ‏"‏‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ ‏(‏وَعَبُدَ الطَّاغُوتِ‏)‏، عَلَى مِثَالِ‏"‏فَعُلَ‏"‏، وَخَفْضُ ‏"‏الطَّاغُوتِ‏"‏ بِإِضَافَةِ‏"‏عَبُدَ‏"‏ إِلَيْهِ‏.‏

فَإِذْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقَرَأَةِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْجُهِ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ مَخْرَجًا فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْهُمَا، فَأَوْلَاهُمَا بِالصَّوَابِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ ‏(‏وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ وَجُعِلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏}‏، بِمَعْنَى‏:‏ وَالَّذِينَ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ‏:‏ وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وَأَنَّ النَّصْبَ بِـ ‏"‏الطَّاغُوتِ‏"‏ أَوْلَى، عَلَى مَا وَصَفْتُ فِي الْقِرَاءَةِ، لِإِعْمَالِ ‏"‏عَبَدَ‏"‏ فِيهِ، إِذْ كَانَ الْوَجْهُ الْآخَرُ غَيْرَ مُسْتَفِيضٍ فِي الْعَرَبِ وَلَا مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِهَا‏.‏

عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَسْتَنْكِرُونَ إِعْمَالَ شَيْءٍ فِي‏"‏مَنْ‏"‏ وَ ‏"‏الذِي‏"‏ الْمُضْمَرَيْنِ مَعَ‏"‏مَنْ‏"‏ وَ‏"‏فِي‏"‏ إِذَا كَفَتْ‏"‏مَنْ‏"‏ أَوْ‏"‏فِي‏"‏ مِنْهُمَا وَيَسْتَقْبِحُونَهُ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يُحِيلُ ذَلِكَ وَلَا يُجِيزُهُ‏.‏ وَكَانَ الَّذِي يُحِيلُ ذَلِكَ يَقْرَأهُ‏:‏ ‏(‏وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏)‏، فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ خَطَأٌ وَلَحْنٌ غَيْرُ جَائِزٍ‏.‏

وَكَانَ آخَرُونَ مِنْهُمْ يَسْتَجِيزُونَهُ عَلَى قُبْحٍ‏.‏ فَالْوَاجِبُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ بِذَلِكَ قَبِيحَةً‏.‏ وَهُمْ مَعَ اسْتِقْبَاحِهِمْ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، قَدِ اخْتَارُوا الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَإِعْمَالَ وَ‏"‏جَعَلَ‏"‏ فِي‏"‏مَنْ‏"‏، وَهِيَ مَحْذُوفَةٌ مَعَ‏"‏مَنْ‏"‏‏.‏

وَلَوْ كُنَّا نَسْتَجِيزُ مُخَالَفَةَ الْجَمَاعَةِ فِي شَيْءٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ مُجْمِعَةً عَلَيْهِ، لَاخْتَرْنَا الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مُسْتَفِيضًا فِيهِمْ لَا يَتَنَاكَرُونَهُ، فَلَا نَسْتَجِيزُ الْخُرُوجَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏ فَلِذَلِكَ لَمْ نَسْتَجِزِ الْقِرَاءَةَ بِخِلَافِ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْدُوهُمَا‏.‏

وَإِذْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَا، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ‏:‏ قُلْ هَلْ أُنْبِئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ، مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ‏"‏الطَّاغُوتِ‏"‏ فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَغَيْرِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هَهُنَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أُولَئِكَ‏"‏، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏"‏، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ‏"‏شَرٌّ مَكَانًا‏"‏، فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ نَقَمْتُمْ عَلَيْهِمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْكِتَابِ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ‏"‏وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏"‏، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ، أَيُّهَا الْيَهُودُ، أَشَدُّ أَخْذًا عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، وَأَجْوَرُ عَنْ سَبِيلِ الرُّشْدِ وَالْقَصْدِ مِنْهُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا مِنْ لَحْنِ الْكَلَامِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا قَصَدَ بِهَذَا الْخَبَرِ إِخْبَارَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي الْآيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ، بِقَبِيحِ فِعَالَهُمْ وَذَمِيمِ أَخْلَاقِهِمْ، وَاسْتِيجَابِهِمْ سُخْطَهُ بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، حَتَّى مَسَخَ بَعْضَهُمْ قِرَدَةً وَبَعْضَهُمْ خَنَازِيرَ، خِطَابًا مِنْهُ لَهُمْ بِذَلِكَ، تَعْرِيضًا بِالْجَمِيلِ مِنَ الْخِطَابِ، وَلَحَنَ لَهُمْ بِمَا عَرَفُوا مَعْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ بِأَحْسَنِ اللَّحْنِ، وَعَلَّمَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَدَبِ أَحْسَنَهُ فَقَالَ لَهُ‏:‏ قُلْ لَهُمْ، يَا مُحَمَّدُ، أَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِكُتُبِهِ الَّذِينَ تَسْتَهْزِئُونَ مِنْهُمْ شَرٌّ، أَمْ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ‏؟‏ وَهُوَ يَعْنِي الْمَقُولَ ذَلِكَ لَهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِذَا جَاءَكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا لَكُمْ‏:‏ ‏"‏آمَنَّا‏"‏‏:‏ أَيْ صَدَّقْنَا بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى دِينِهِ، وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، قَدْ دَخَلُوا عَلَيْكُمْ بِكُفْرِهِمُ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَيُضْمِرُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، وَهُمْ يُبْدُونَ كَذِبًا التَّصْدِيقَ لَكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ‏"‏وَقَدْ خَرَجُوا بِهِ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَقَدْ خَرَجُوا بِالْكُفْرِ مِنْ عِنْدِكُمْ كَمَا دَخَلُوا بِهِ عَلَيْكُمْ، لَمْ يَرْجِعُوا بِمَجِيئِهِمْ إِلَيْكُمْ عَنْ كُفْرِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِاللَّهِ‏"‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا- عِنْدَ قَوْلِهِمْ لَكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ‏:‏ ‏"‏آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ وَصَدَّقْنَا بِمَا جَاءَ بِهِ‏"‏- يَكْتُمُونَ مِنْهُمْ، بِمَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ، بِأَنْفُسِهِمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمِنًا‏"‏ الْآيَةَ، أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ، كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُونَهُ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ رَاضُونَ بِالَّذِي جَاءَ بِهِ، وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِضَلَالَتِهِمْ وَالْكُفْرِ‏.‏ وَكَانُوا يَدْخُلُونَ بِذَلِكَ وَيَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَهُودَ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ دَخَلُوا كُفَّارًا، وَخَرَجُوا كُفَّارًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ‏}‏ ‏"‏، وَإِنَّهُمْ دَخَلُوا وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِّ، وَتُسِرُّ قُلُوبُهُمُ الْكُفْرَ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ‏}‏ ‏"‏ ‏{‏وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 72‏]‏‏.‏ فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى كُفَّارِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشَيَاطِينِهِمْ، رَجَعُوا بِكُفْرِهِمْ‏.‏ وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ مَنْ يَهُودَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ‏}‏ ‏"‏، أَيْ‏:‏ إِنَّهُ مِنْ عِنْدِهِمْ‏.‏