فصل: تفسير الآية رقم (109)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ، أَيُّهَا النَّاسُ‏.‏ وَاسْمَعُوا وَعْظَهُ إِيَّاكُمْ وَتَذْكِيرَهُ لَكُمْ، وَاحْذَرُوا يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ثُمَّ حَذَفَ “ وَاحْذَرُوا “، وَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ‏:‏ “ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا “، عَنْ إِظْهَارِهِ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ‏:‏

عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا *** حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا

يُرِيدُ‏:‏ “ وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا “، فَاسْتَغْنَى بِقَوْلِهِ “ عَلَفْتُهَا تِبْنًا “ مِنْ إِظْهَارِ “ سَقَيْتُهَا “، إِذْ كَانَ السَّامِعُ إِذَا سَمِعَهُ عَرَفَ مَعْنَاهُ‏.‏ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ‏}‏ “، حَذَفَ “ وَاحْذَرُوا “ لِعِلْمِ السَّامِعِ مَعْنَاهُ، اكْتِفَاءً بِقَوْلِهِ‏:‏ “ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا “، إِذْ كَانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، خَلْقَهُ عِقَابَهُ عَلَى مَعَاصِيهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “ مَاذَا أُجِبْتُمْ “، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ‏:‏ مَا الَّذِي أَجَابَتْكُمْ بِهِ أُمَمَكُمْ، حِينَ

دَعَوْتُمُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِي، وَالْإِقْرَارِ بِي، وَالْعَمَلِِ بِطَاعَتِي، وَالِانْتِهَاءِ عَنْ مَعْصِيَتِي‏؟‏ “ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا “‏.‏

فَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِمْ‏:‏ “ لَا عِلْمَ لَنَا “، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الرُّسُلِ إِنْكَارًا أَنْ يَكُونُوا كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا عَمِلَتْ أُمَمُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ ذَهِلُوا عَنِ الْجَوَابِ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ أَجَابُوا بَعْدَ أَنْ ثَابَتْ إِلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ‏.‏ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ “ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا‏}‏ “، قَالَ‏:‏ فَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا مَنْزِلًا ذَهِلَتْ فِيهِ الْعُقُولُ، فَلَمَّا سُئِلُوا قَالُوا‏:‏ “ لَا عِلْمَ لَنَا “، ثُمَّ نَزَلُوا مَنْزِلَا آخَرَ، فَشَهِدُوا عَلَى قَوْمِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ‏}‏ “، الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ‏}‏ “، فَيَفْزَعُونَ، فَيَقُولُ‏:‏ مَاذَا أُجِبْتُمْ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ لَا عِلْمَ لَنَا ‏!‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ‏}‏ “، فَيَقُولُونَ‏:‏ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا “ ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ‏}‏ “‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا، إِلَّا عِلْمٌ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا‏}‏ “، إِلَّا عِلْمٌ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ “ مَاذَا أُجِبْتُمْ “، مَاذَا عَمِلُوا بَعْدَكُمْ‏؟‏ وَمَاذَا أَحْدَثُوا‏؟‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ‏}‏ “، مَاذَا عَمِلُوا بَعْدَكُمْ‏؟‏ وَمَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَكُمْ‏؟‏ “ ‏{‏قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ‏}‏ “‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالُ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ “ مَعْنَاهُ‏:‏ لَا عِلْمَ لَنَا، إِلَّا عِلْمٌ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا “، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ “ ‏{‏لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ‏}‏ “، أَيْ‏:‏ إِنَّكَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ مَا عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ خَفِيِ الْعُلُومِ وَجَلِيِّهَا‏.‏ فَإِنَّمَا نَفَى الْقَوْمُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِمَا سُئِلُوا عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ لَا يَعْلَمُهُ هُوَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَا أَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يَكُونُوا عَلِمُوا مَا شَاهَدُوا‏.‏ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَهُوَ تَعَالَى ذِكْرُهُ يُخْبِرُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِمَا أَجَابَتْهُمْ بِهِ الْأُمَمُ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَشْهِدُونَ عَلَى تَبْلِيغِهِمُ الرِّسَالَةَ شُهَدَاءً، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 143‏]‏‏.‏

وَأَمَّا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ “ مَاذَا عَمِلَتِ الْأُمَمُ بَعْدَكُمْ‏؟‏ وَمَاذَا أَحْدَثُوا‏؟‏ “ فَتَأْوِيلٌ لَا مَعْنَى لَهُ‏.‏ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مِنَ الْعِلْمِ بِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا إِلَّا مَا أَعْلَمَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا سُئِلَتْ عَمَّا عَمِلَتِ الْأُمَمُ بَعْدَهَا وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا‏:‏ مَاذَا عَرَّفْنَاكِ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْهُمْ بَعْدَكِ‏؟‏ وَظَاهِرُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُمْ، يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِعِبَادِهِ‏:‏ احْذَرُوا يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ لَهُمْ‏:‏ مَاذَا أَجَابَتْكُمْ أُمَمُكُمْ فِي الدُّنْيَا “ ‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ “‏.‏

فَـ “ إِذْ “ مَنَّ صِلَةِ “ أُجِبْتُمْ “، كَأَنَّ مَعْنَاهَا‏:‏ مَاذَا أَجَابَتْ عِيسَى الْأُمَمُ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا عِيسَى‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ سُئِلَتِ الرُّسُلُ عَنْ إِجَابَةِ الْأُمَمِ إِيَّاهَا فِي عَهْدِ عِيسَى، وَلَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ عِيسَى مِنَ الرُّسُلِ إِلَّا أَقَلُّ ذَلِكَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ‏}‏ “، الرُّسُلَ الَّذِينَ كَانُوا أُرْسِلُوا فِي عَهْدِ عِيسَى، فَخَرَجَ الْخَبَرُ مَخْرَجَ الْجَمِيعِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ فِي عَهْدِ عِيسَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِِمْرَانِ‏:‏ 173‏]‏، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ الْكَلَامِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ “ إِذْ قَالَ اللَّهُ “، حِينَ قَالَ “ ‏{‏يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ يَا عِيسَى اذْكُرْ أَيَادِيَّ عِنْدَكَ وَعِنْدَ وَالِدَتِكَ، إِذْ قَوَّيْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَأَعَنْتُكَ بِهِ‏.‏

وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي “ أَيَّدْتُكَ “، مَا هُوَ مِنَ الْفِعْلِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ “ فَعَّلْتُكَ “، ‏[‏“ مِنَ الْأَيْدِ “‏]‏، كَمَا قَوْلُكُ‏:‏ “ قَوَّيْتُكَ “ “ فَعَّلْتُ “ مِنَ “ الْقُوَّةِ “‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ هُوَ “ فَاعَلْتُكَ “ مِنَ “ الْأَيْدِ “‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏إِذْ آيَدْتُكَ‏)‏، بِمَعْنَى “ أَفَعَلْتُكَ “، مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَيْدِ‏.‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ “ بِرُوحِ الْقُدُسِ “، يَعْنِي‏:‏ بِجِبْرِيلَ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ إِذْ أَعَنْتُكَ بِجِبْرِيلَ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى ذَلِكَ، وَمَا مَعْنَى “ الْقُدْسِ “، فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُخْبِرًا عَنْ قِيلِهِ، لِعِيسَى‏:‏ “ ‏{‏اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ “، فِي حَالِ تَكْلِيمِكَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا‏.‏

وَإِنَّمَا هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَنَّهُ أَيَّدَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ صَغِيرًا فِي الْمَهْدِ، وَكَهْلًا كَبِيرًا فَرَدَّ “ الْكَهْلَ “ عَلَى قَوْلِهِ “ فِي الْمَهْدِ “، لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ صَغِيرًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ يُونُسَ‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ “وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ“، يَقُولُ‏:‏ وَاذْكُرْ أَيْضًا نِعْمَتِي عَلَيْكَ “ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ “، وَهُوَ الْخَطُّ “ وَالْحِكْمَةُ “، وَهِيَ الْفَهْمُ بِمَعَانِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ، وَهُوَ الْإِنْجِيلُ “وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ“، يَقُولُ‏:‏ كَصُورَةِ الطَّيْرِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ “ بِإِذْنِي “، يَعْنِي بِقَوْلِهِ “ تَخْلُقُ “ تَعْمَلُ وَتُصْلِحُ- “ ‏{‏مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ بِعَوْنِي عَلَى ذَلِكَ، وَعِلْمٍ مِنِّي بِهِ “ فَتَنْفُخُ فِيهَا “، يَقُولُ‏:‏ فَتَنْفُخُ فِي الْهَيْئَةِ، فَتَكُونُ الْهَيْئَةُ وَالصُّورَةُ طَيْرًا بِإِذْنِي “ ‏{‏وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ وَتَشْفِي “ الْأَكْمَهَ “، وَهُوَ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ شَيْئًا، الْمَطْمُوسُ الْبَصَرُ “ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي “‏.‏

وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا مُفَسَّرًا بِشَوَاهِدِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَقَوْلُهُ “ ‏{‏وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ وَاذْكُرْ أَيْضًا نِعْمَتِي عَلَيْكَ بِكَفِّي عَنْكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ كَفَفْتُهُمْ عَنْكَ، وَقَدْ هَمُّوا بِقَتْلِكَ “ ‏{‏إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَعْلَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ، وَحَقِيقَةِ مَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَيْهِمْ‏.‏ “ ‏{‏فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ‏}‏ “، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَقَالَ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّتَكَ وَكَذَّبُوكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ “ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏ “‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَتْهُ قَرَأَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ‏:‏ ‏"‏إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِين‏"‏ يَعْنِي‏:‏ يُبِينُ عَمَّا أَتَى بِهِ لِمَنْ رَآهُ وَنَظَرَ إِلَيْهِ، أَنَّهُ سِحْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا سَاحِرٌ مُبِينٌ‏}‏، بِمَعْنَى‏:‏ “ مَا هَذَا “، يَعْنِي بِهِ عِيسَى، “ إِلَّا سَاحِرٌ مُبِينٌ “، يَقُولُ‏:‏ يُبِينُ بِأَفْعَالِهِ وَمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ عَنْ نَفْسِهِ، أَنَّهُ سَاحِرٌ لَا نَبِيٌّ صَادِقٌ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، مُتَّفِقَتَانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَتَيْنِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِفِعْلِ “ السِّحْرِ “، فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ “ سَاحِرٌ “‏.‏ وَمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ “ سَاحِرٌ “، فَإِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِفِعْلِ “ السِّحْرِ “‏.‏ فَالْفِعْلُ دَالٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَالصِّفَةُ تَدُلُّ عَلَى مَوْصُوفِهَا، وَالْمَوْصُوفُ يَدُلُّ عَلَى صِفَتِهِ، وَالْفَاعِلُ يَدُلُّ عَلَى فِعْلِهِ‏.‏ فَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِي قِرَاءَتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَاذْكُرْ أَيْضًا، يَا عِيسَى، إِذْ أَلْقَيْتُ “ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ “، وَهُمْ وُزَرَاءُ عِيسَى عَلَى دِينِهِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ، وَلِمَ قِيلَ لَهُمْ “ الْحَوَارِيُّونَ “، فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَقَدْ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ “ وَإِذْ أَوْحَيْتُ “، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةَ الْمَعَانِي‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ، بِمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ “ ‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ قَذَفْتُ فِي قُلُوبِهِمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَلْهَمْتُهُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا‏:‏ وَإِذْ أَلْقَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ صَدِّقُوا بِي وَبِرَسُولِي عِيسَى، فَقَالُوا‏:‏ “ آمَنَّا “، أَيْ‏:‏ صَدَّقْنَا بِمَا أَمَرْتَنَا أَنْ نُؤْمِنَ يَا رَبَّنَا “ وَاشْهَدْ “ عَلَيْنَا “ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ “، يَقُولُ‏:‏ وَاشْهَدْ عَلَيْنَا بِأَنَّنَا خَاضِعُونَ لَكَ بِالذِّلَّةِ، سَامِعُونَ مُطِيعُونَ لِأَمْرِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَاذْكُرْ، يَا عِيسَى، أَيْضًا نِعْمَتِي عَلَيْكَ، إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي، إِذْ قَالُوا لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ – فَ “ إِذْ “، الثَّانِيَةُ مِنْ صِلَةِ “ أَوْحَيْتُ “‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ “ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ “

فَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ‏:‏ ‏(‏هَلْ تَسْتَطِيعُ‏)‏ بِالتَّاءِ ‏(‏رَبَّكَ‏)‏ بِالنُّصْبِ، بِمَعْنَى‏:‏ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ‏؟‏ أَوْ‏:‏ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْعُوَ رَبَّكَ‏؟‏ أَوْ‏:‏ هَلْ تَسْتَطِيعُ وَتَرَى أَنْ تَدْعُوَهُ‏؟‏ وَقَالُوا‏:‏ لَمْ يَكُنِ الْحَوَارِيُّونَ شَاكِّينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَادِرٌ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالُوا لِعِيسَى‏:‏ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْتَ ذَلِكَ‏؟‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ‏:‏ قَالَتْ عَائِشَة‏:‏ كَانَ الْحَوَارِيُّونَ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَائِدَةً، وَلَكِنْ قَالُوا‏:‏ يَا عِيسَى هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ‏؟‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ التَّغْلِبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ حَسَّانِ بْنِ مُخَارِقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ‏:‏ ‏(‏هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ‏)‏، وَقَالَ‏:‏ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ‏؟‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ‏:‏ ‏(‏هَلْ يَسْتَطِيعُ‏)‏ بِالْيَاءِ ‏(‏رَبُّكَ‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا رَبُّكَ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ‏:‏ “ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْهَضَ مَعَنَا فِي كَذَا “‏؟‏ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ‏:‏ أَتَنْهَضُ مَعَنَا فِيهِ‏؟‏ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ قَارِئِهِ كَذَلِكَ‏:‏ هَلْ يَسْتَجِيبُ لَكَ رَبُّكَ وَيُطِيعُكَ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا‏؟‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏هَلْ يَسْتَطِيعُ‏)‏ بِالْيَاءِ ‏(‏رَبُّكَ‏)‏ بِرَفْعِ “ الرَّبِّ “، بِمَعْنَى‏:‏ هَلْ يَسْتَجِيبُ لَكَ إِنْ سَأَلَتْهُ ذَلِكَ وَيُطِيعُكَ فِيهِ‏؟‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، لِمَا بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ “ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ “، مِنْ صِلَةِ‏:‏ “ إِذْ أَوْحَيْتُ “، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي، إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ‏؟‏ فَبَيِّنٌ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ كَرِهَ مِنْهُمْ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَعْظَمَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَمُرَاجَعَةِ الْإِيمَانِ مِنْ قِيلِهِمْ ذَلِكَ، وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ‏.‏ وَقَدْ قَالَ عِيسَى لَهُمْ، عِنْدَ قِيْلِهِمْ ذَلِكَ لَهُ، اسْتِعْظَامًا مِنْهُ لِمَا قَالُوا‏:‏ “ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ “‏.‏ فَفِي اسْتِتَابَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَدُعَائِهِ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قِيْلِهِمْ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتِعْظَامِ نَبِيِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَتَهُمْ، الدَّلَالَةُ الْكَافِيَةُ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى صِحَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ “ الرَّبِّ “، إِذْ كَانَ لَا مَعْنَى فِي قَوْلِهِمْ لِعِيسَى، لَوْ كَانُوا قَالُوا لَهُ‏:‏ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ‏؟‏ أَنْ يُسْتَكْبَرَ هَذَا الِاسْتِكْبَارَ‏.‏

فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ لَهُ إِنَّمَا اسْتُعْظِمَ مِنْهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ مَسْأَلَةَ آيَةٍ، ‏[‏فَقَدْ ظَنَّ خَطَأً‏]‏‏.‏ فَإِنَّ الْآيَةَ، إِنَّمَا يَسْأَلُهَا الْأَنْبِيَاءَ مَنْ كَانَ بِهَا مُكَذِّبًا لِيَتَقَرَّرَ عِنْدَهُ حَقِيقَةُ ثُبُوتِهَا وَصِحَّةُ أَمْرِهَا، كَمَا كَانَتْ مَسْأَلَةُ قُرَيْشٍ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحَوِّلَ لَهُمْ الصَّفَا ذَهَبًا، وَيُفَجِّرَ فِجَاجَ مَكَّةَ أَنْهَارًا، مَنْ سَأَلَهُ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ وَكَمَا كَانَتْ مَسْأَلَةُ صَالِحٍ النَّاقَةَ مِنْ مُكَذِّبِي قَوْمِهِ وَمَسْأَلَةُ شُعَيْبٍ أَنْ يُسْقِطَ كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ، مِنْ كُفَّارِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ‏.‏

فَإِنْ كَانَ الَّذِينَ سَأَلُوا عِيسَى أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ، عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُمْ، فَقَدْ أَحَلَّهُمُ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِ “ التَّاءِ “ وَنَصْبِ “ الرَّبِّ “ مَحَلًّا أَعْظَمَ مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَحِيدُونَ بِهِمْ عَنْهُ أَوْ يَكُونُوا سَأَلُوا ذَلِكَ عِيسَى وَهُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُ لِلَّهِ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ وَرَسُولٌ مُرْسَلٌ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى مَا سَأَلُوا مِنْ ذَلِكَ قَادِرٌ‏.‏

فَإِنْ كَانُوا سَأَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَسْأَلَتُهُمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا يَسْأَلُ أَحَدُهُمْ نَبِيَّهُ، إِذَا كَانَ فَقِيرًا، أَنْ يَسْأَلَ لَهُ رَبَّهُ أَنْ يُغْنِيَهُ وَإِنْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ، أَنْ يَسْأَلَ لَهُ رَبَّهُ أَنْ يَقْضِيَهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْآيَةِ فِي شَيْءٍ، بَلْ ذَلِكَ سُؤَالُ ذِي حَاجَةٍ عَرَضَتْ لَهُ إِلَى رَبِّهِ، فَسَأَلَ نَبِيَّهُ مَسْأَلَةَ رَبِّهِ أَنْ يَقْضِيَهَا لَهُ‏.‏

وَخَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الْقَوْمِ، يُنْبِئُ بِخِلَافِ ذَلِكَ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِعِيسَى، إِذْ قَالَ لَهُمْ‏:‏ “ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ “ “ ‏{‏نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا‏}‏ “‏.‏ فَقَدْ أَنْبَأَ هَذَا مِنْ قِيلِهِمْ، أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى قَدْ صَدَقَهُمْ، وَلَا اطْمَأَنَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِ‏.‏ فَلَا بَيَانَ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، فِي أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ خَالَطَ قُلُوبَهُمْ مَرَضٌ وَشَكٌّ فِى دِينِهِمْ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِمْ، وَأَنَّهُمْ سَأَلُوا مَا سَأَلُوا مِنْ ذَلِكَ اخْتِبَارًا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ هَلْ لَكَمَ أَنْ تَصُومُوا لِلَّهِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَسْأَلُوهُ فَيُعْطِيكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‏؟‏ فَإِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ‏!‏ فَفَعَلُوا، ثُمَّ قَالُوا‏:‏ يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ، قُلْتَ لَنَا‏:‏ “ إِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ “، وَأَمَرْتَنَا أَنْ نَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَفَعَلْنَا، وَلَمْ نَكُنْ نَعْمَلُ لِأَحَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إِلَّا أَطْعَمَنَا حِينَ نَفْرُغُ طَعَامًا، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ‏؟‏ قَالَ عِيسَى‏:‏ “ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ “ “ ‏{‏قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ “، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ “‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطِيرَ بِمَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا سَبْعَةُ أَحْوَاتٍ وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ، حَتَّى وَضَعَتْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ مِنْهَا أَوَّلُهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ “ ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ “، قَالُوا‏:‏ هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ، إِنْ سَأَلْتَهُ‏؟‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ فِيهَا جَمِيعُ الطَّعَامِ إِلَّا اللَّحْمَ، فَأَكَلُوا مِنْهَا‏.‏

وَأَمَّا “ الْمَائِدَةُ “ فَإِنَّهَا “ الْفَاعِلَةُ “ مِنْ‏:‏ “ مَادَ فُلَانٌ الْقَوْمَ يَمِيدُهُمْ مَيْدًا “، إِذَا أَطْعَمَهُمْ وَمَارَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ‏:‏

نُهْدِي رُؤُوسَ الْمُتْرَفِينَ الْأَنْدَادْ *** إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُمْتَادْ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ “ الْمُمْتَادْ “، الْمُسْتَعْطَى‏.‏ فَ “ الْمَائِدَةُ “ الْمُطْعِمَةُ، سُمِّيَتِ “ الْخِوَانُ “ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا تُطْعِمُ الْآكِلَ مِمَّا عَلَيْهَا‏.‏ وَ“ الْمَائِدُ “، الْمُدَارُ بِهِ فِي الْبَحْرِ، يُقَالُ‏:‏ “ مَادَ يَمِيدُ مَيْدًا “‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ “، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ قَالَ عِيسَى لِلْحَوَارِيِّينَ الْقَائِلِينَ لَهُ‏:‏ “ ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ “ رَاقِبُوا اللَّهَ، أَيُّهَا الْقَوْمُ، وَخَافُوهُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَةً عَلَى قَوْلِكُمْ هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَفِي شَكِّكُمْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِنْزَالِ مَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ، كُفْرٌ بِهِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ أَنْ يُنْزِلَ بِكُمْ نَقْمَتَهُ “ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ “، يَقُولُ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ عَلَى مَا أَتَوَعَّدُكُمْ بِهِ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ‏:‏ “ ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ “‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ مُجِيبِي عِيسَى عَلَى قَوْلِهِ لَهُمْ‏:‏ “ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ “، فِي قَوْلِكُمْ لِي “ ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ “‏:‏ إِنَّا إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ، وَسَأَلْنَاكَ أَنْ تَسْأَلَ لَنَا رَبَّنَا لِنَأْكُلَ مِنَ الْمَائِدَةِ، فَنَعْلَمُ يَقِينًا قُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ “ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا “، يَقُولُ‏:‏ وَتَسْكَنُ قُلُوبُنَا، وَتَسْتَقِرُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ مَا شَاءَ وَأَرَادَ، “ وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا “، وَنَعْلَمُ أَنَّكَ لَمْ تَكْذِبْنَا فِي خَبَرِكَ أَنَّكَ لِلَّهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ وَنَبِيٌّ مَبْعُوثٌ “ وَنَكُونَ عَلَيْهَا “، يَقُولُ‏:‏ وَنَكُونُ عَلَى الْمَائِدَةِ “ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ “، يَقُولُ‏:‏ مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حُجَّةً لِنَفْسِهِ عَلَيْنَا فِي تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَا شَاءَ، وَلَكَ عَلَى صِدْقِكَ فِي نُبُوَّتِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ نَبِيِّهِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ أَجَابَ الْقَوْمَ إِلَى مَا سَأَلُوهُ مِنْ مَسْأَلَةِ رَبِّهِ مَائِدَةً تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ “تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا“‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ نَتَّخِذُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ بَعْدَنَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ نَتَّخِذُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ بَعْدَنَا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ “ ‏{‏تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا‏}‏ “، قَالَ‏:‏ أَرَادُوا أَنْ تَكُونَ لِعَقِبِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا‏}‏ “، قَالَ‏:‏ الَّذِينَ هُمْ أَحْيَاءٌ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ “ وَآخِرِنَا “، مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ “ ‏{‏تَكُونُ لَنَا عِيدًا‏}‏ “، قَالُوا‏:‏ نُصَلِّي فِيهِ‏.‏ قَالَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ نَأْكُلُ مِنْهَا جَمِيعًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ أَكَلَ مِنْهَا يَعْنِي‏:‏ مِنَ الْمَائِدَةِ حِينَ وُضِعَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، آخِرُ النَّاسِ، كَمَا أَكَلَ مِنْهَا أَوَّلُهُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ “ عِيدًا “، عَائِدَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَيْنَا، وَحُجَّةً وَبُرْهَانًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ “ مَعْنَاهُ‏:‏ تَكُونُ لَنَا عِيدًا، نَعْبُدُ رَبَّنَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي تَنْزِلُ فِيهِ، وَنُصَلِّي لَهُ فِيهِ، كَمَا يَعْبُدُ النَّاسُ فِي أَعْيَادِهِمْ “، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ الْمُسْتَعْمَلِ بَيْنَهُمْ فِي “ الْعِيدِ “، مَا ذَكَرْنَا، دُونَ الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ مَنْ قَالَ‏:‏ “ مَعْنَاهُ‏:‏ عَائِدَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْنَا “‏.‏ وَتَوْجِيهُ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِ مَنْ خُوطِبَ بِهِ، أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْمَجْهُولِ مِنْهُ، مَا وَجَدَ إِلَيْهِ السَّبِيلَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “ لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا “، فَإِنَّ الْأَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِهِ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ “ تَأْوِيلُهُ‏:‏ لِلْأَحْيَاءِ مِنَّا الْيَوْمَ، وَمَنْ يَجِيءُ بَعْدَنَا مِنَّا “، لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ تَكُونُ لَنَا عِيدًا “، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ مَعْنَاهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “ وَآيَةً مِنْكَ “، فَإِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ وَعَلَامَةً وَحُجَّةً مِنْكَ يَا رَبِّ، عَلَى عِبَادِكَ فِي وَحْدَانِيَّتِكَ، وَفِي صِدْقِي عَلَى أَنِّي رَسُولٌ إِلَيْهِمْ بِمَا أَرْسَلْتَنِي بِهِ “ ‏{‏وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏}‏ “، وَأَعْطِنَا مِنْ عَطَائِكَ، فَإِنَّكَ يَا رَبِّ خَيْرُ مَنْ يُعْطِي، وَأَجْوَدُ مَنْ تَفَضَّلُ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَطَاءَهُ مَنٌّ وَلَا نَكَدٌ‏.‏

وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي “الْمَائِدَةِكَيْفِيَّةُ نُزُولِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ “، هَلْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمْ، أَمْ لَا‏؟‏ وَمَا كَانَتْ‏؟‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ نَزَلَتْ، وَكَانَتْ حُوتًا وَطَعَامًا، فَأَكَلَ الْقَوْمُ مِنْهَا، وَلَكِنَّهَا رُفِعَتْ بَعْدَمَا نَزَلَتْ بِأَحْدَاثٍ مِنْهُمْ أَحْدَثُوهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ الْمَائِدَةُ، خُبْزًا وَسَمَكًا‏.‏

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ‏:‏ “ الْمَائِدَةُ “، سَمَكَةٌ فِيهَا طَعْمُ كُلِّ طَعَامٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ‏:‏ “ الْمَائِدَةُ “، سَمَكٌ فِيهِ مِنْ طَعْمِ كُلِّ طَعَامٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ الْمَائِدَةُ خُبْزًا وَسَمَكًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ عَلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَالْحَوَارِيِّينَ، خِوَانٌ عَلَيْهِ خُبْزٌ وَسَمَكٌ، يَأْكُلُونَ مِنْهُ أَيْنَمَا نَزَلُوا إِذَا شَاؤُوا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا‏}‏ “، قَالَ‏:‏ نَزَلَ عَلَيْهِمْ قُرْصَةٍ مِنْ شَعِيرٍ وَأَحْوَاتٍ قَالَ الْحَسَنُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ فَحَدَّثْتُ بِهِ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ مَعْقِلٍ فَقَالَ‏:‏ سَمِعْتُ وَهْبًا، وَقِيلَ لَهُ‏:‏ وَمَا كَانَ ذَلِكَ يُغْنِي عَنْهُمْ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا شَيْءَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَثَا بَيْنَ أَضْعَافِهِنَّ الْبَرَكَةَ، فَكَانَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ، وَيَجِيءُ آخَرُونَ فَيَأْكُلُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ، حَتَّى أَكَلُوا جَمِيعُهُمْ وَأَفْضَلُوا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ هُوَ الطَّعَامُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ نَزَلُوا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ “ ‏{‏مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ “، قَالَ‏:‏ مَائِدَةٌ عَلَيْهَا طَعَامٌ، أُتُوا بِهَا‏;‏ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ إِنْ كَفَرُوا‏.‏ أَلْوَانٌ مِنْ طَعَامٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ أَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهَا سَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَبْعَةُ أَحْوَاتٍ، يَأْكُلُونَ مِنْهَا مَا شَاؤُوا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَسَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْهَا وَقَالَ‏:‏ “ لَعَلَّهَا لَا تَنْزِلُ غَدًا‏!‏ “، فَرُفِعَتْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عِجْلٍ قَالَ‏:‏ صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ‏:‏ هَلْ تَدْرِي كَيْفَ كَانَ شَأْنُ مَائِدَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏؟‏ قَالَ فَقُلْتُ‏:‏ لَا‏!‏ قَالَ‏:‏ إِنَّهُمْ سَأَلُوا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ مَائِدَةً يَكُونُ عَلَيْهَا طَعَامٌ يَأْكُلُونَ مِنْهُ لَا يَنْفَدُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ فَإِنَّهَا مُقِيمَةٌ لَكُمْ مَا لَمْ تُخَبِّئُوا، أَوْ تَخُونُوا، أَوْ تَرْفَعُوا، فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُكُمْ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَمَا تَمَّ يَوْمُهُمْ حَتَّى خَبَّئُوا وَرَفَعُوا وَخَانُوا، فَعُذِّبُوا عَذَابًا لَمْ يُعَذَّبْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ‏.‏ وَإِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ، كُنْتُمْ تَتْبَعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ وَالشَّاءِ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِيكُمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، تَعْرِفُونَ حَسَبَهُ وَنَسَبَهُ، وَأَخْبَرَكُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ أَنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَى الْعَرَبِ، وَنَهَاكُمْ أَنْ تَكْنِزُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ‏.‏ وَايْمُ اللَّهِ‏.‏ لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تَكْنِزُوهُمَا، وَيُعَذِّبُكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ الْبَصْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا وَلَا يَرْفَعُوا لِغَدٍ، فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا، فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِير»‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَائِدَةِ قَالَ‏:‏ كَانَتْ طَعَامًا يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ حَيْثُمَا نَزَلُوا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ كَانَتِ الْمَائِدَةُ تَنْزِلُ وَعَلَيْهَا ثَمَرٌ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ الْمَائِدَةُ وَعَلَيْهَا ثَمَرٌ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، فَأُمِرُوا أَنْ لَا يُخَبِّئُوا وَلَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا، قَالَ‏:‏ فَخَانَ الْقَوْمُ وَخَبَّئُوا وَادَّخَرُوا، فَحَوَّلَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا كَانَتْ مَائِدَةً يَنْزِلُ عَلَيْهَا الثَّمَرُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأُمِرُوا أَنْ لَا يُخَبِّئُوا وَلَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ، بَلَاءٌ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَكَانُوا إِذَا فَعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، أَنْبَأَهُمْ بِهِ عِيسَى، فَخَانَ الْقَوْمُ فِيهِ فَخَبَّأُوا وَادَّخَرُوا لِغَدٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ كَانَ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ طَعَامٍ إِلَّا اللَّحْمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ‏:‏ كَانَتْ إِذَا وُضِعَتِ الْمَائِدَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، اخْتَلَفَتْ عَلَيْهَا الْأَيْدِي بِكُلِّ طَعَامٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مُيَسَّرَةَ وَزَاذَانَ قَالَا كَانَتِ الْأَيْدِي تَخْتَلِفُ عَلَيْهَا بِكُلِّ طَعَامٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ وَمَيْسَرَةَ، فِي‏:‏ “ ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ “، قَالَا رَأَوْا الْأَيْدِيَ تَخْتَلِفُ عَلَيْهَا بِكُلِّ شَيْءٍ إِلَّا اللَّحْمَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَائِدَةً‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّمَا هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِخَلْقِهِ، نَهَاهُمْ بِهِ عَنْ مَسْأَلَةِ نَبِيِّ اللَّهِ الْآيَاتِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ “، قَالَ‏:‏ مَثَلٌ ضُرِبَ، لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ‏:‏ “ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ “، اسْتَعْفَوْا مِنْهَا فَلَمَّ تَنْزِلْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ‏:‏ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ‏:‏ “ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ‏}‏ “، إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، قَالُوا‏:‏ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا فَلَمْ تَنْزِلْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَائِدَةِ‏:‏ لَمْ تَنْزِلْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامِ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ مَائِدَةٌ عَلَيْهَا طَعَامٌ، أَبَوْهَا حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ إِنْ كَفَرُوا، فَأَبَوْا أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْزَلَ الْمَائِدَةَ عَلَى الَّذِينَ سَأَلُوا عِيسَى مَسْأَلَتَهُ ذَلِكَ رَبَّهُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ، لِلْخَبَرِ الَّذِي رُوِينَا بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ بَعْدِهِمْ، غَيْرِ مَنِ انْفَرَدَ بِمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ‏.‏

وَبَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَلَا يَقَعُ فِي خَبَرِهِ الْخُلْفَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا فِي كِتَابِهِ عَنْ إِجَابَةِ نَبِيِّهِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلَهُ مَا سَأَلَهُ مِنْ ذَلِكَ‏:‏ “ ‏{‏إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ‏}‏ “، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ “ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ “، ثُمَّ لَا يُنَزِّلُهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ خَبَرٌ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُ خِلَافَ مَا يُخْبِرُ‏.‏ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ “ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ “، ثُمَّ لَا يُنَزِّلُهَا عَلَيْهِمْ، جَازَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ “ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ “، ثُمَّ يَكْفُرُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يُعَذِّبُهُ، فَلَا يَكُونُ لِوَعْدِهِ وَلَا لِوَعِيدِهِ حَقِيقَةٌ وَلَا صِحَّةٌ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُوصَفَ رَبُّنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا الصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِيمَا كَانَ عَلَى الْمَائِدَةِ، فَأَنْ يُقَالَ‏:‏ كَانَ عَلَيْهَا مَأْكُولٌ‏.‏ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ سَمَكًا وَخُبْزًا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ ثَمَرًا مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، وَغَيْرُ نَافِعٍ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَا ضَارٌّ الْجَهْلُ بِهِ، إِذَا أَقَرَّ تَالِي الْآيَةِ بِظَاهِرِ مَا احْتَمَلَهُ التَّنْزِيلُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا جَوَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْقَوْمَ فِيمَا سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ عِيسَى مَسْأَلَةَ رَبِّهِمْ، مَنْ إِنْزَالِهِ مَائِدَةً عَلَيْهِمْ‏.‏ فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا الْحَوَارِيُّونَ، فَمُطْعِمُكُمُوهَا “ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ فَمَنْ يَجْحَدْ بَعْدُ إِنْزَالَهَا عَلَيْكُمْ، وَإِطْعَامَكُمُوهَا- مِنْكُمْ رِسَالَتِي إِلَيْهِ، وَيُنْكِرْ نُبُوَّةَ نَبِيِّي عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُخَالِفْ طَاعَتِي فِيمَا أَمَرْتُهُ وَنَهَيْتُهُ “ ‏{‏فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ “، مِنْ عَالَمِي زَمَانَهُ‏.‏ فَفَعَلَ الْقَوْمُ، فَجَحَدُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ مَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمْ، فِيمَا ذُكِرَ لَنَا، فَعُذِّبُوا، فِيمَا بَلَغَنَا، بِأَنْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، كَاَلَّذِي‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ‏}‏ “ الْآيَةَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ حُوِّلُوا خَنَازِيرَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ الْقَوَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا ثَلَاثَةٌ‏:‏ الْمُنَافِقُونَ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، وَآلِ فِرْعَوْن»‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَوْفٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا الْمُغِيرَةَ الْقَوَّاسَ يَقُولُ‏:‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو‏:‏ «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏:‏ مِنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، وَالْمُنَافِقُونَ، وَآلُ فِرْعَوْن»‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ‏}‏ “، بَعْدَ مَا جَاءَتْهُ الْمَائِدَةُ “ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ “، يَقُولُ‏:‏ أُعَذِّبُهُ بِعَذَابٍ لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ غَيْرَ أَهْلِ الْمَائِدَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ “ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ‏}‏ “، “وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ “‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِعِيسَى حِينَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ “ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ “، قَالَ‏:‏ لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِلَيْهِ، قَالَتْ النَّصَارَى مَا قَالَتْ، وَزَعَمُوا أَنَّ عِيسَى أَمْرَهُمْ بِذَلِكَ، فَسَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ فَقَالَ‏:‏ “ ‏{‏سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ‏}‏ “ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏وَأَنْتَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ “‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ أَنَّهُ يَقُولُ لِعِيسَى ذَلِكَ فِي الْقِيَامَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ “ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ وَالنَّاسُ يَسْمَعُونَ، فَرَاجَعَهُ بِمَا قَدْ رَأَيْتُ، وَأَقَرَّ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَلِمَ مَنْ كَانَ يَقُولُ فِي عِيسَى مَا يَقُولُ‏:‏ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ بَاطِلًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ اللَّهُ‏:‏ يَا عِيسَى، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏؟‏ فَأُرْعِدَتْ مَفَاصِلُهُ، وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ، فَقَالَ‏:‏ سُبْحَانَكَ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ “، مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ‏:‏ “ ‏{‏هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ‏}‏ “‏؟‏

فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ “ وَإِذْ “ بِمَعْنَى‏:‏ وَ“ إِذَا “، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ سَبَأٍ‏:‏ 51‏]‏، بِمَعْنَى‏:‏ يَفْزَعُونَ، وَكَمَا قَالَ أَبُو النَّجْمِ‏:‏

ثُمَّ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا إِذْ جَزَى *** جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي الْعَلَالِيِّ الْعُلَا

وَالْمَعْنَى‏:‏ إِذَا جَزَى، وَكَمَا قَالَ الْأَسْوَدُ‏:‏

فَالْآنَ، إِذْ هَازَلْتُهُنَّ، فَإِنَّمَا *** يَقُلْنَ‏:‏ أَلَا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا‏!‏‏!‏

بِمَعْنَى‏:‏ إِذَا هَازَلْتُهُنَّ‏.‏

وَكَأَنَّ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ هَذَا، وَجَّهَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ إِلَى‏:‏ “ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ “ فِي الدُّنْيَا وَأُعَذِّبُهُ أَيْضًا فِي الْآخِرَةِ‏:‏ “ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ “‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ السُّدِّيِّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ ذَلِكَ لِعِيسَى حِينَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى، لِعِلَّتَيْنِ‏:‏

إِحْدَاهُمَا‏:‏ أَنَّ “ إِذْ “ إِنَّمَا تُصَاحِبُ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْمَلِ بَيْنَهَا الْمَاضِيَ مِنَ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَدْخُلُهَا أَحْيَانًا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَمَّا يَحْدُثُ، إِذَا عَرَفَ السَّامِعُونَ مَعْنَاهَا‏.‏ وَذَلِكَ غَيْرُ فَاشٍ، وَلَا فَصِيحٍ فِي كَلَامِهِمْ، وَتَوْجِيهُ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْأَشْهُرِ الْأَعْرَفِ مَا وُجِدَ إِلَيْهِ السَّبِيلُ، أُولَى مِنْ تَوْجِيهِهَا إِلَى الْأَجْهَلِ الْأَنْكَرِ‏.‏

وَالْأُخْرَى‏:‏ أَنْ عِيسَى لَمْ يَشُكْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِمُشْرِكٍ مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَى عِيسَى أَنْ يَقُولَ فِي الْآخِرَةِ مُجِيبًا لِرَبِّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنْ تُعَذِّبْ مَنِ اتَّخَذَنِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِكَ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَمَا كَانَوَجْهُ سُؤَالِ اللَّهِ عِيسَى‏:‏ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ “، وَهُوَ الْعَالِمُ بِأَنَّ عِيسَى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ تَحْذِيرُ عِيسَى عَنْ قِيلِ ذَلِكَ وَنَهْيُهُ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِآخَرَ‏:‏ “ أَفَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا “‏؟‏ مِمَّا يَعْلَمُ الْمَقُولُ لَهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ يَسْتَعْظِمُ فِعْلَ مَا قَالَ لَهُ‏:‏ “ أَفَعَلْتَهُ “، عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ، وَالتَّهْدِيدِ لَهُ فِيهِ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ إِعْلَامُهُ أَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ فَارَقَهُمْ قَدْ خَالَفُوا عَهْدَهُ، وَبَدَّلُوا دِينَهُمْ بَعْدَهُ‏.‏ فَيَكُونُ بِذَلِكَ جَامِعًا إِعْلَامَهُ حَالَهُمْ بَعْدَهُ، وَتَحْذِيرًا لَهُ قِيلِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ‏:‏ ‏{‏أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ‏}‏ “، أَيْ‏:‏ مَعْبُودِينَ تَعْبُدُونَهُمَا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏.‏ قَالَ عِيسَى‏:‏ تَنْزِيهًا لَكَ يَا رَبِّ وَتَعْظِيمًا أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ أَوْ أَتَكَلَّمَ بِهِ ‏"‏ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ “، يَقُولُ‏:‏ لَيْسَ لِي أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ، لِأَنِّي عَبْدٌ مَخْلُوقٌ، وَأُمِّي أَمَةٌ لَكَ، وَكَيْفَ يَكُونُ لِلْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ادِّعَاءُ رُبُوبِيَّةٍ‏؟‏ “ ‏{‏إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ إِنَّكَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ عَالِمٌ أَنِّي لَمْ أَقَلْ ذَلِكَ وَلَمْ آمُرْهُمْ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّهُ يَبْرَأُ إِلَيْهِ مِمَّا قَالَتْ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ الْكَفَرَةُ مِنْ النَّصَارَى، أَنْ يَكُونَ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ أَوْ أَمَرَهُمْ بِهِ، فَقَالَ‏:‏ “ ‏{‏سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ‏}‏ “‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ “ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ إِنَّكَ، يَا رَبِّ، لَا يَخْفَى عَلَيْكَ مَا أَضْمَرَتْهُ نَفْسِي مِمَّا لَمَّ أَنْطِقْ بِهِ وَلَمْ أَظْهِرْهُ بِجَوَارِحِي، فَكَيْفَ بِمَا قَدْ نَطَقْتُ بِهِ وَأَظْهَرْتُهُ بِجَوَارِحِي‏؟‏ يَقُولُ‏:‏ لَوْ كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لِلنَّاسِ‏:‏ “ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ “، كُنْتُ قَدْ عَلِمْتَهُ، لِأَنَّكَ تَعْلَمُ ضَمَائِرَ النُّفُوسِ مِمَّا لَمْ تَنْطِقُ بِهِ، فَكَيْفَ بِمَا قَدْ نَطَقَتْ بِهِ‏؟‏ “ ‏{‏وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ وَلَا أَعْلَمُ أَنَا مَا أَخْفَيْتُهُ عَنِّي فَلَمْ تُطْلِعْنِي عَلَيْهِ، لِأَنِّي إِنَّمَا أَعْلَمُ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا أَعْلَمْتَنِيهِ “ ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا سِوَاكَ، وَلَا يَعْلَمُهَا غَيْرُكُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ قَوْلِ عِيسَى، يَقُولُ‏:‏ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا الَّذِي أَمَرْتَنِي بِهِ مِنَ الْقَوْلِ أَنْ أَقُولَهُ لَهُمْ، وَهُوَ أَنْ قُلْتُ لَهُمْ‏:‏ “ ‏{‏اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ‏}‏ “ “ ‏{‏وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ وَكُنْتُ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ “ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي “، يَقُولُ‏:‏ فَلَمَّا قَبَضْتَنِي إِلَيْكَ “ ‏{‏كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ كُنْتَ أَنْتَ الْحَفِيظَ عَلَيْهِمْ دُونِي، لِأَنِّي إِنَّمَا شَهِدْتُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مَا عَمِلُوهُ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ‏.‏

وَفِي هَذَا تِبْيَانٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا عَرَّفَهُ أَفْعَالَ الْقَوْمِ وَمَقَالَتَهُمْ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ إِلَيْهِ وَتَوَفَّاهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ “‏.‏

“ ‏{‏وَأَنْتَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ “ يَقُولُ‏:‏ وَأَنْتَ تَشْهَدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ، وَأَمَّا أَنَا، فَإِنَّمَا شَهِدْتُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ مَا عَايَنْتُ وَأَنَا مُقِيمٌ بَيْنَ أَظْهُرِ الْقَوْمِ، فَإِنَّمَا أَنَا أَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي عَايَنْتُ وَرَأَيْتُ وَشَهِدْتُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ “، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ “ ‏{‏كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ “، أَمَّا “ الرَّقِيبُ “، فَهُوَ الْحَفِيظُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ “ ‏{‏كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ “، قَالَ‏:‏ الْحَفِيظُ‏.‏

وَكَانَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلُ الْعِلْمِ تَقُولُ‏:‏ كَانَ جَوَابُ عِيسَى الَّذِي أَجَابَ بِهِ رَبَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، تَوْقِيفًا مِنْهُ لَهُ فِيهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسَ، عَنْ أَبِيهِ‏:‏ “ ‏{‏أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ‏}‏ “، قَالَ‏:‏ اللَّهُ وَقَّفَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ قَالَ، قُرِئَ عَلَى سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسَ، عَنْ أَبِيهِ طَاوُسَ قَالَ‏:‏ احْتَجَّ عِيسَى، وَاللَّهُ وَقَّفَهُ‏:‏ “ ‏{‏أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ “ ‏{‏يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ “‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَأُرْعِدَتْ مَفَاصِلُهُ، وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَهَا، فَقَالَ‏:‏ “ ‏{‏سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ‏}‏ “‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنْ تُعَذِّبْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، بِإِمَاتَتِكَ إِيَّاهُمْ عَلَيْهَا “ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكُ “، مُسْتَسْلِمُونَ لَكَ، لَا يَمْتَنِعُونَ مِمَّا أَرَدْتَ بِهِمْ، وَلَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ضُرًّا وَلَا أَمْرًا تَنَالَهُمْ بِهِ “ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ “، بِهِدَايَتِكَ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، فَتَسْتُرُ عَلَيْهِمْ “ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ “، فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَدْفَعُهُ عَنْهُ “ الْحَكِيمُ “، فِي هِدَايَتِهِ مَنْ هَدَى مِنْ خَلْقِهِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَتَوْفِيقِهِ مَنْ وَفَّقَ مِنْهُمْ لِسَبِيلِ النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ، كَاَلَّذِي‏:‏-

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ “، فَتُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَتَهْدِيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ “ ‏{‏فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ “‏.‏ وَهَذَا قَوْلُ عِيسَى فِي الدُّنْيَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ “، قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ مَا كَانُوا طَعَّانِينَ وَلَا لَعَّانِينَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ “هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ“‏.‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ‏:‏ ‏{‏هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ‏}‏، بِنَصْبِ “ يَوْمٍ “‏.‏

وَقَرَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَعَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ‏:‏ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ، بِرَفْعِ “ يَوْمٍ “‏.‏ فَمِنْ رَفَعَهُ رَفَعَهُ بِ “ هَذَا “، وَجَعَلَ “ يَوْمَ “ اسْمًا، وَإِنْ كَانَتْ إِضَافَتُهُ غَيْرَ مَحْضَةٍ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالْمَنْعُوتِ‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَرَبَ يَعْمَلُونَ فِي إِعْرَابِ الْأَوْقَاتِ مِثْلَ “ الْيَوْمِ “ وَ“ اللَّيْلَةِ “، عَمَلَهُمْ فِيمَا بَعْدَهَا‏.‏ إِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا رَفْعًا رَفَعُوهَا، كَقَوْلِهِمْ‏:‏ “ هَذَا يَوْمُ يَرْكَبُ الْأَمِيرَ “، وَ“ لَيْلَةُ يَصْدُرُ الْحَاجُّ “، وَ“ يَوْمُ أَخُوكَ مُنْطَلِقٌ “‏.‏ وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا نَصْبًا نَصَبُوهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ “ هَذَا يَوْمَ خَرَجَ الْجَيْشُ، وَسَارَ النَّاسُ “، وَ“ لَيْلَةَ قُتِلَ زَيْدٌ “، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا فِي الْحَالَيْنِ “ إِذْ “ وَ“ إِذَا “‏.‏

وَكَأَنَّ مَنْ قَرَأَ هَذَا هَكَذَا رَفْعًا، وَجَّهَ الْكَلَامَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ قِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ كَانَ السُّدِّيُّ يَقُولُ فِي ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ اللَّهُ‏:‏ “ ‏{‏هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ‏}‏ “، هَذَا فَصْلٌ مِنْ كَلَامِ عِيسَى، وَهَذَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ‏.‏

يَعْنِي السُّدِّيُّ بِقَوْلِهِ‏:‏ “ هَذَا فَصْلٌ مِنْ كَلَامِ عِيسَى “‏:‏ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ “ ‏{‏سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ‏}‏ “ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ “، مِنْ خَبَرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ عِيسَى أَنَّهُ قَالَهُ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَأَمَّا النَّصْبُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ إِضَافَةِ “ يَوْمٍ “ مَا لَمْ تَكُنْ إِلَى اسْمٍ، تَجْعَلُهُ نَصْبًا، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ غَيْرُ مَحْضَةٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْإِضَافَةُ مَحْضَةً، إِذَا أُضِيفَ إِلَى اسْمٍ صَحِيحٍ‏.‏ وَنَظِيرُ “ الْيَوْمِ “ فِي ذَلِكَ‏:‏ “ الْحِينُ “ وَ“ الزَّمَانُ “، وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنَ الْأَزْمِنَةِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ‏:‏

عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا *** وَقُلْتُ أَلَمَّا تَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ‏؟‏

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْكَلَامِ‏:‏ هَذَا الْأَمْرُ وَهَذَا الشَّأْنُ، يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ فَيَكُونُ “ الْيَوْمَ “ حِينَئِذٍ مَنْصُوبًا عَلَى الْوَقْتِ وَالصِّفَةِ، بِمَعْنَى‏:‏ هَذَا الْأَمْرُ فِي يَوْمِ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ‏:‏ ‏{‏هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ‏}‏، بِنَصْبِ “ الْيَوْمِ “، عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْوَقْتِ وَالصِّفَةِ‏.‏ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَتَعَالَى ذِكْرُهُ أَجَابَ عِيسَى حِينَ قَالَ‏:‏ “ ‏{‏سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ‏}‏ “، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ “، فَقَالَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ هَذَا الْقَوْلُ النَّافِعُ أَوْ هَذَا الصِّدْقُ النَّافِعُ يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ‏.‏ فَ “ الْيَوْمُ “ وَقْتُ الْقَوْلِ وَالصِّدْقِ النَّافِعِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَمَا مَوْضِعُ “ هَذَا “‏؟‏

قِيلَ‏:‏ رَفْعٌ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَأَيْنَ رَافِعُهُ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ مُضْمَرٌ‏.‏ وَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ هَذَا، هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَمَا تَرَى السَّحَابَ كَيْفَ يَجْرِي‏؟‏ *** هَذَا، وَلَا خَيْلُكَ يَا ابْنِ بِشْرِ

يُرِيدُ‏:‏ هَذَا هَذَا، وَلَا خَيْلُكَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا لِمَا بَيَّنَّا‏:‏ قَالَ اللَّهُ لِعِيسَى‏:‏ هَذَا الْقَوْلُ النَّافِعُ فِي يَوْمِ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ فِي الدُّنْيَا صِدْقُهُمْ ذَلِكَ، فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ “ ‏{‏لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ لِلصَّادِقِينَ فِي الدُّنْيَا، جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي الْآخِرَةِ، ثَوَابًا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا كَانَ مِنْ صِدْقِهِمُ الَّذِي صَدَقُوا اللَّهَ فِيمَا وَعَدُوهُ، فَوَفَوْا بِهِ لِلَّهِ، فَوَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ ثَوَابِهِ “ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا “، يَقُولُ‏:‏ بَاقِينَ فِي الْجَنَّاتِ الَّتِي أَعْطَاهُمُوهَا “ أَبَدًا “، دَائِمًا، لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُمْ وَلَا يَزُولُ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى “ الْخُلُودِ “، الدَّوَامُ وَالْبَقَاءُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي الْوَفَاءِ لَهُ بِمَا وَعَدُوهُ، مِنَ الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ “ ‏{‏وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ وَرَضُوا هُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي وَفَائِهِ لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ، مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ “ ‏{‏ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ هَذَا الَّذِي أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّاتِ الَّتِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، خَالِدِينَ فِيهَا، مَرْضِيًّا عَنْهُمْ وَرَاضِينَ عَنْ رَبِّهِمْ، هُوَ الظَّفَرُ الْعَظِيمُ بِالطَّلِبَةِ، وَإِدْرَاكُ الْحَاجَةِ الَّتِي كَانُوا يَطْلُبُونَهَا فِي الدُّنْيَا، وَلَهَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِيهَا، فَنَالُوا مَا طَلَبُوا، وَأَدْرَكُوا مَا أَمَّلُوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَيُّهَا النَّصَارَى، “ ‏{‏لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ لَهُ سُلْطَانُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ “ وَمَا فِيهِنَّ “، دُونَ عِيسَى الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِلَهُكُمْ، وَدُونَ أُمِّهِ، وَدُونَ جَمِيعِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ وَمَا فِيهِنَّ، وَعِيسَى وَأُمُّهُ مِنْ بَعْضِ ذَلِكَ بِالْحُلُولِ وَالِانْتِقَالِ، يَدُلَّانِ بِكَوْنِهِمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُمَا فِيهِ بِالْحُلُولِ فِيهِ وَالِانْتِقَالِ، أَنَّهُمَا عَبْدَانِ مَمْلُوكَانِ لِمَنْ لَهُ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ‏.‏ يُنَبِّهُهُمْ وَجَمِيعَ خَلْقِهِ عَلَى مَوْضِعِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، لَيَدَّبَرُوهُ وَيَعْتَبِرُوهُ فَيَعْقِلُوا عَنْهُ “ ‏{‏وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ “، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَاللَّهُ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ، قَادِرٌ عَلَى إِفْنَائِهِنَّ وَعَلَى إِهْلَاكِهِنَّ، وَإِهْلَاكِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا كَمَا ابْتَدَأَ خَلْقَهُمْ، لَا يُعْجِزُهُ ذَلِكَ وَلَا شَيْءَ أَرَادَهُ، لِأَنَّ قُدْرَتَهُ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَا تُشْبِهُهَا قُدْرَةٌ، وَسُلْطَانَهُ السُّلْطَانُ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ سُلْطَانٌ وَلَا مَمْلَكَةٌ‏.‏

‏(‏آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ‏)‏