فصل: تفسير الآية رقم (65)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ غَيْرَهُ مِنَ اَلْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، يَا مُحَمَّدُ‏:‏ إِنَّ اَلَّذِي يُنْجِيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ، ثُمَّ تَعُودُونَ لِلْإِشْرَاكِ بِهِ، هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، لِشِرْكِكُمْ بِهِ، وَادِّعَائِكُمْ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ غَيْرَهُ، وَكُفْرَانِكِمْ نِعَمَهُ، مَعَ إِسْبَاغِهِ عَلَيْكُمْ آلَاءَهُ وَمِنَنَهُ‏.‏

وَقَدِ اِخْتَلَفَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ‏"‏اَلْعَذَاب‏"‏ اَلَّذِي تَوَعَّدَ اَللَّهُ بِهِ هَؤُلَاءِ اَلْقَوْمِ أَنْ يَبْعَثَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَمَّا اَلْعَذَابُ اَلَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ أَنْ يَبْعَثَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَالرَّجْمُ‏.‏ وَأَمَّا اَلَّذِي تَوَعَّدَهُمْ أَنْ يَبْعَثَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَحْتِهِمْ، فَالْخَسْفُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ‏:‏ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، قَالَ‏:‏ اَلْخَسْفُ‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنِ اَلْأَشْجَعِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ اِبْنِ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ اَلْخَسْفُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ ‏"‏، فَعَذَابُ اَلسَّمَاءِ ‏"‏ ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، فَيَخْسِفُ بِكُمُ اَلْأَرْضَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ كَانَ اِبْنُ مَسْعُودٍ يَصِيحُ وَهُوَ فِي اَلْمَجْلِسِ أَوْ عَلَى اَلْمِنْبَرِ‏:‏ أَلَّا أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّهُ نَزَلَ بِكُمْ‏.‏ إِنَّ اَللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ ‏"‏، لَوْ جَاءَكُمْ عَذَابٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ ‏"‏ ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، لَوْ خَسَفَ بِكُمُ اَلْأَرْضَ أَهْلَكَكُمْ، لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏، أَلَا إِنَّهُ نَزَلَ بِكُمْ أَسْوَأُ اَلثَّلَاثِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عَنَى بِالْعَذَابِ مِنْ فَوْقِكُمْ، أَئِمَّةَ اَلسُّوءِ ‏"‏ ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، اَلْخَدَمَ وَسِفْلَةَ اَلنَّاس‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ خَلَّادًا يَقُولُ‏:‏ سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ اِبْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، فَأَمَّا اَلْعَذَابُ مِنْ فَوْقِكُمْ، فَأَئِمَّةُ اَلسُّوءِ وَأَمَّا اَلْعَذَابُ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، فَخَدَمُ اَلسُّوءِ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي مِنْ أُمَرَائِكُمْ ‏"‏ ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ سَفَلَتُكُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى اَلتَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ عَنَى بِالْعَذَابِ مِنْ فَوْقِهِمْ، اَلرَّجْمَ أَوِ اَلطُّوفَانَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقٍ رُؤُوسِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، اَلْخَسْفَ وَمَا أَشْبَهَهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اَلْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ اَلْعَرَبِ مِنْ مَعْنَى ‏"‏فَوْق‏"‏ وَ‏"‏ تَحْتَ ‏"‏ اَلْأَرْجُلِ، هُوَ ذَلِكَ، دُونَ غَيْرِهِ‏.‏ وَإِنْ كَانَ لِمَا رُوِيَ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّ اَلْكَلَامَ إِذَا تُنُوزِعَ فِي تَأْوِيلِهِ، فَحَمْلُهُ عَلَى اَلْأَغْلَبِ اَلْأَشْهَرِ مِنْ مَعْنَاهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، مَا لَمْ تَأْتِ حُجَّةٌ مَانِعَةٌ مِنْ ذَلِكَ يَجِبُ اَلتَّسْلِيمُ لَهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَوْ يَخْلِطَكُمْ ‏"‏شِيَعًا ‏"‏، فَرْقًا، وَاحِدَتُهَا‏"‏ شِيعَةٌ ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏يَلْبِسَكُم‏"‏ فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ‏:‏ ‏"‏لَبَسْتُ عَلَيْهِ اَلْأَمْرَ ‏"‏، إِذَا خَلَطْتَ، ‏"‏ فَأَنَا أَلْبِسُهُ ‏"‏‏.‏ وَإِنَّمَا قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْقَرَأَةِ فِي ذَلِكَ بِكَسْرِ ‏"‏اَلْبَاءِ ‏"‏، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّهُ مَنَّ‏:‏ ‏"‏ لَبَسَ يَلْبِسُ ‏"‏، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى اَلْخَلْط‏.‏ وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ‏:‏ أَوْ يَخْلِطَكُمْ أَهْوَاءً مُخْتَلِفَةً وَأَحْزَابًا مُفْتَرِقَةً‏.‏

وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏"‏، اَلْأَهْوَاءَ اَلْمُفْتَرِقَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يُفَرِّقُ بَيْنَكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ مَا كَانَ مِنْكُمْ مِنَ اَلْفِتَنِ وَالِاخْتِلَافِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ اَلَّذِي فِيهِ اَلنَّاسُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلِاخْتِلَافِ، وَالْأَهْوَاءِ، وَسَفْكِ دِمَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ اَلْأَهْوَاءُ وَالِاخْتِلَافُ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي بِالشِّيَعِ، اَلْأَهْوَاءَ اَلْمُخْتَلِفَةَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ بِقَتْلِ بَعْضِكُمْ بِيَدِ بَعْضٍ‏.‏

وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ يَنَالُ اَلرَّجُلَ بِسَلَامٍ فَيَقْتُلُهُ بِهِ‏:‏ ‏"‏قَدْ أَذَاقَ فَلَانٌ فُلَانًا اَلْمَوْتَ ‏"‏، وَ‏"‏ أَذَاقَهُ بَأْسَهُ ‏"‏، وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنْ‏:‏ ‏"‏ ذَوْقِ اَلطَّعَامِ ‏"‏ وَهُوَ يُطْعِمُهُ، ثُمَّ اِسْتُعْمِلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا وَصَلَ إِلَى اَلرَّجُلِ مِنْ لَذَّةٍ وَحَلَاوَةٍ، أَوْ مَرَارَةٍ وَمَكْرُوهٍ وَأَلَمٍ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى ‏"‏اَلْبَأْس‏"‏ فِي كَلَامِ اَلْعَرَبِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏، بِالسُّيُوفِ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو اَلنُّعْمَانِ عَارِمٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي هَارُونَ اَلْعَبْدِيِّ، عَنْ عَوْفٍ الْبِكَالِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هِيَ وَاَللَّهِ اَلرِّجَالُ فِي أَيْدِيهِمُ اَلْحِرَابُ، يَطْعَنُونَ فِي خَوَاصِرِكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يُسَلِّطُ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقَتْلِ وَالْعَذَابِ‏.‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ اَلرَّبِيعِ اَلرَّازِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ عَذَابُ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ أَهْلُ اَلْإِقْرَارِ بِالسَّيْفِ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏ وَعَذَابُ أَهْلِ اَلتَّكْذِيبِ، اَلصَّيْحَةُ وَالزَّلْزَلَةُ‏.‏

ثُمَّ اِخْتَلَفَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ اَلْآيَةِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِهَا اَلْمُسْلِمُونَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الدَّامَغَانِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ اَلْمُبَارَكِ، عَنِ اَلرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي اَلْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ ‏"‏ اَلْآيَةَ، قَالَ‏:‏ فَهُنَّ أَرْبَعٌ، وَكُلُّهُنَّ عَذَابٌ، فَجَاءَ مُسْتَقِرُّ اِثْنَتَيْنِ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَأُلْبِسُوا شِيَعًا، وَأُذِيقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَبَقِيَتِ اِثْنَتَانِ، فَهْمًا لَا بُدَّ وَاقِعَتَانِ يَعْنِي‏:‏ اَلْخَسْفُ وَالْمَسْخُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْفَاكُمْ مِنْهُ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ مَا كَانَ فِيكُمْ مِنَ اَلْفِتَنِ وَالِاخْتِلَافِ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، «عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا‏}‏ ‏"‏، اَلْآيَةَ‏.‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ذَاتَ يَوْمٍ اَلصُّبْحَ فَأَطَالَهَا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ‏:‏ يَا نَبِيَّ اَللَّهِ، لَقَدْ صَلَّيْتَ صَلَاةً مَا كُنْتَ تُصَلِّيهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّهَا صَلَاةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي فِيهَا ثَلَاثًا، سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَيُهْلِكُهُمْ، فَأَعْطَانِيهَا‏.‏ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي اَلسَّنَةَ، فَأَعْطَانِيهَا‏.‏ وَسَأَلَتْهُ أَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَلَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَمَنَعَنِيهَا‏.‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ‏:‏ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى اَلْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اَللَّه»‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْوَلِيدِ اَلْقُرَشِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ اَلرَّبِيعِ اَلرَّازِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ‏:‏ «لَمَّا أَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هَاتَانِ أَيْسَرُ أَوْ‏:‏ أَهْوَن»‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ‏:‏ «لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ نَعُوذُ بِكَ، نَعُوذُ بِكَ ‏"‏ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ‏"‏، قَالَ‏:‏ هُوَ أَهْوَن»‏.‏

حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ عُبَيْدِ اَللَّهِ اَلْمُزْنِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ اَلْفَزَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ خَالِدٍ اَلْخُزَاعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ‏:‏ «أَنَّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً تَامَّةَ اَلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَقَالَ‏:‏ قَدْ كَانَتْ صَلَاةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، فَسَأَلْتُ اَللَّهَ فِيهَا ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي اِثْنَتَيْنِ، وَبَقِيَ وَاحِدَةٌ‏.‏ سَأَلْتُ اَللَّهَ أَنْ لَا يُصِيبَكُمْ بِعَذَابٍ أَصَابَ بِهِ مَنْ قَبْلَكُمْ، فَأَعْطَانِيهَا‏.‏ وَسَأَلْتُ اَللَّهَ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْكُمْ عَدُوًّا يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَكُمْ، فَأَعْطَانِيهَا‏.‏ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَمَنَعَنِيهَا» قَالَ أَبُو مَالِكٍ‏:‏ فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ أَبُوكَ سَمِعَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ بِهَا اَلْقَوْمَ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي اَلْأَشْعَثِ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ يَرْفَعُهُ إِلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «إِنَّ اَللَّهَ زَوَى لِيَ اَلْأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَإِنِّي أُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ اَلْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ قَوْمِي بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا، وَلَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَلَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِمَّنْ سِوَاهُمْ فَيُهْلِكَهُمْ بِعَامَّةٍ، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، وَبَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا‏.‏ فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اَلْأَئِمَّةَ اَلْمُضِلِّينَ، فَإِذَا وُضِعَ اَلسَّيْفُ فِي أُمَّتِي، لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَة»‏.‏

حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي اَلْأَشْعَثِ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَقَالَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا اَلْأَئِمَّةَ اَلْمُضِلِّين»‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ اَلزُّهْرِيِّ قَالَ‏:‏ «رَاقَبَ خَبَّابُ بْنُ اَلْأَرَتِّ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، حَتَّى إِذَا فَرَغَ، وَكَانَ فِي اَلصُّبْحِ، قَالَ لَهُ‏:‏ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُكَ تُصَلِّي صَلَاةً مَا رَأَيْتُكَ صَلَّيْتَ مِثْلَهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَجَلْ، إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَبٍ وَرَهَبٍ، سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي اِثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً‏:‏ سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ اَلْأُمَمَ، فَأَعْطَانِي‏.‏ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْنَا عَدُوًّا، فَأَعْطَانِي‏.‏ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَنَا شِيَعًا، فَمَنَعَنِي»‏.‏

حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ اَلزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ رَاقَبَ خَبَّابُ بْنُ اَلْأَرَتِّ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ثَلَاثُ خَصَلَاتٍ‏.‏

حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اَللَّهِ يَقُولُ‏:‏ «لِمَا نَزَلَتْ عَلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ ‏"‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ‏"‏، قَالَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَعُوذُ بِوَجْهِك‏"‏ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ‏"‏، قَالَ‏:‏ هَذِهِ أَهْوَن»‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ اَلْحَسَنِ‏:‏ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «سَأَلْتُ رَبِّي أَرْبَعًا، فَأُعْطِيتُ ثَلَاثًا وَمُنِعْتُ وَاحُدَةً‏:‏ سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ جُوعًا، وَلَا يَجْمَعَهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَأُعْطِيتُهُنَّ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَمُنِعْت»‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي خِصَالًا فَأَعْطَانِي ثَلَاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً‏:‏ سَأَلْتُهُ أَنْ لَا تَكْفُرَ أُمَّتِي صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَأَعْطَانِيهَا‏.‏ وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَعْطَانِيهَا‏.‏ وَسَأَلَتْهُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ بِمَا عَذَّبَ بِهِ اَلْأُمَمَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَأَعْطَانِيهَا‏.‏ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا»‏.‏

حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ اَلْحَسَنِ قَالَ‏:‏ «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ اَلْحَسَنُ‏:‏ ثُمَّ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُشْهِدُهُ عَلَيْهِمْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ‏}‏ ‏"‏، فَقَامَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَلَا يَلْبِسَ أُمَّتَهُ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ كَمَا أَذَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ سَأَلْتَ رَبَّكَ أَرْبَعًا، فَأَعْطَاكَ اِثْنَتَيْنِ وَمَنْعكَ اِثْنَتَيْنِ‏:‏ لَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يَسْتَأْصِلُهُمْ، فَإِنَّهُمَا عَذَابَانِ لِكُلِّ أُمَّةٍ اِجْتَمَعَتْ عَلَى تَكْذِيبِ نَبِِيِّهَا وَرَدِّ كِتَابِ رَبِّهَا، وَلَكِنَّهُمْ يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَهَذَانَ عَذَابَانِ لِأَهْلِ اَلْإِقْرَارِ بِالْكِتَابِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنْ يُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِهِمْ، وَأُوحِيَ إِلَيْهِ‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مِنْ أُمَّتِكَ ‏{‏أَوْ نُرِيَنَّكَ اَلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ‏}‏ مِنَ اَلْعَذَابِ وَأَنْتَ حَيٌّ ‏{‏فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ اَلزُّخْرُفِ‏:‏ 41، 42‏]‏‏.‏ فَقَامَ نَبِيُّ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَاجَعَ رَبَّهُ، فَقَالَ‏:‏ أَيُّ مُصِيبَةٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ أَرَى أُمَّتِي يُعَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا‏!‏ وَأُوحِيَ إِلَيْهِ‏:‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ اَلْكَاذِبِينَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ اَلْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 1، 3‏]‏، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ أُمَّتَهُ لَمْ تُخَصَّ دُونَ اَلْأُمَمِ بِالْفِتَنِ، وَأَنَّهَا سَتُبْتَلَى كَمَا اُبْتُلِيَتِ اَلْأُمَمُ‏.‏ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ اَلْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 93، 94‏]‏، فَتَعَوَّذَ نَبِيُّ اَللَّهِ، فَأَعَاذَهُ اَللَّهُ، لَمْ يَرَ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا اَلْجَمَاعَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالطَّاعَةَ‏.‏ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةً حَذَّرَ فِيهَا أَصْحَابَهُ اَلْفِتْنَةَ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُخَصُّ بِهَا نَاسٌ مِنْهُمْ دُونَ نَاسٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ اَلْأَنْفَالِ‏:‏ 25‏]‏، فَخَصَّ بِهَا أَقْوَامًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ، وَعَصَمَ بِهَا أَقْوَامًا»‏.‏

حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ اَلرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، «عَنْ أَبِي اَلْعَالِيَةِ قَالَ‏:‏ لَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا يَكُونُ فِي أُمَّتِهِ مِنَ اَلْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا فَقَالَ‏:‏ اَللَّهُمَّ أَظْهِرْ عَلَيْهِمْ أَفْضَلَهُمْ بَقِيَّة»‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو اَلْأُسُودِ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي اَلزُّبَيْرِ قَالَ‏:‏ «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أُعَوِّذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هَذِهِ أَيْسَرُ ‏!‏ وَلَوِ اسْتَعَاذَهُ لَأَعَاذَه»‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْمُؤَمِّلُ اَلْبَصْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَسَارٍ اَلْمَدِينِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ‏:‏ «لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كَفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ‏!‏ فَقَالُوا‏:‏ وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اَللَّهِ‏!‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ فَقَالَ بَعْضُ اَلنَّاسِ‏:‏ لَا يَكُونُ هَذَا أَبَدًا‏!‏ فَأَنْزَلَ اَللَّهُ‏:‏ ‏{‏اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ اَلْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏»‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عَنَى بِبَعْضِهَا أَهْلَ اَلشِّرْكِ، وَبِبَعْضِهَا أَهْلَ اَلْإِسْلَامِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ اَلْمُبَارَكِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُوسَى، عَنْ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ اَلْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ ‏"‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هَذَا لِلْمُسْلِمِينَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ اَلْقَوْلِ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ تَوَعَّدَ بِهَذِهِ اَلْآيَةِ أَهْلََ اَلشِّرْكِ بِهِ مِنْ عَبَدَةِ اَلْأَوْثَانِ، وَإِيَّاهُمْ خَاطَبَ بِهَا، لِأَنَّهَا بَيْنَ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ وَخِطَابٍ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَتْلُو قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لِنَكُونَنَّ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ قُلِ اَللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏"‏، وَيَتْلُوهَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ اَلْحَقُّ‏}‏ ‏"‏‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ اَلْمُؤْمِنُونَ كَانُوا بِهِ مُكَذِّبِينَ، فَإِذَا كَانَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ بَيْنَ هَاتَيْنِ اَلْآيَتَيْنِ، كَانَ بَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ وَعِيدٌ لِمَنْ تَقَدَّمَ وَصْفُ اَللَّهِ إِيَّاهُ بِالشِّرْكِ، وَتَأَخَّرَ اَلْخَبَرُ عَنْهُ بِالتَّكْذِيبِ لَا لِمَنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ‏.‏ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ عَمَّ وَعِيدُهُ بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْخِلَافِ عَلَى اَللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اَللَّهِ مِنْ هَذِهِ وَغَيْرِهَا‏.‏

وَأَمَّا اَلْأَخْبَارُ اَلَّتِي رُوَيَتْ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ «سَأَلَتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي اِثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَة» ‏"‏، فَجَائِزٌ أَنَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ اَلْوَقْتِ وَعِيدًا لِمَنْ ذَكَرْتُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ مِنَ اَلْمُخَالِفِينَ رَبَّهُمْ، فَسَأَلَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ أَنْ يُعِيذَ أُمَّتَهُ مِمَّا اِبْتَلَى بِهِ اَلْأُمَمَ اَلَّذِينَ اِسْتَوْجَبُوا مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ هَذِهِ اَلْعُقُوبَاتِ، فَأَعَاذَهُمْ بِدُعَائِهِ إِيَّاهُ وَرَغْبَتِهِ إِيَّاهُ، مِنَ اَلْمَعَاصِي اَلَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا مِنْ هَذِهِ اَلْخِلَالِ اَلْأَرْبَعِ مِنَ اَلْعُقُوبَاتِ أَغْلَظِهَا، وَلَمْ يُعِذْهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ اِثْنَتَيْنِ مِنْهَا‏.‏

وَأَمَّا اَلَّذِينَ تأوَّلُوا أَنَّهُ عَنَى بِجَمِيعِ مَا فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ هَذِهِ اَلْأُمَّةَ، فَإِنِّي أَرَاهُمْ تَأَوَّلُوا أَنَّ فِي هَذِهِ اَلْأُمَّةِ مَنْ سَيَأْتِي مِنْ مَعَاصِي اَللَّهِ وَرُكُوبِ مَا يُسْخِطُ اَللَّهَ، نَحْوَ اَلَّذِي رَكِبَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْأُمَمِ اَلسَّالِفَةِ، مِنْ خِلَافِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَيَحِلُّ بِهِمْ مِثْلُ اَلَّذِي حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْمُثُلَاتِ وَالنِّقَمَاتِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو اَلْعَالِيَةِ وَمِنْ قَالَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏جَاءَ مِنْهُنَّ اِثْنَتَانِ بَعْدَ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً‏.‏ وَبَقِيَتِ اِثْنَتَانِ، اَلْخَسْفُ وَالْمَسْخُ ‏"‏، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ «سَيَكُونُ فِي هَذِهِ اَلْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْف» ‏"‏، وَأَنَّ قَوْمًا مِنْ أُمَتِّهِ سَيَبِيتُونَ عَلَى لَهْوٍ وَلَعِبٍ، ثُمَّ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ‏.‏ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ نَظِيرُ اَلَّذِي فِي اَلْأُمَمِ اَلَّذِينَ عَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ فِي اَلتَّكْذِيبِ وَجَحَدُوا آيَاتِهِ‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ اَلَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي اَلْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيٍّ‏.‏

حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ اَلرَّازِيِّ، عَنِ اَلرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي اَلْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَرْبَعُ خِلَالٍ، وَكُلُّهُنَّ عَذَابٌ، وَكُلُّهُنَّ وَاقِعٌ قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، فَمَضَتِ اِثْنَتَانِ بَعْدَ وَفَاةِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، أُلْبِسُوا شِيَعًا، وَأُذِيقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏.‏ وَثِنْتَانِ وَاقِعَتَانِ لَا مَحَالَةَ‏:‏ اَلْخَسْفُ وَالرَّجْمُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ اُنْظُرْ، يَا مُحَمَّدُ، بِعَيْنِ قَلْبِكَ إِلَى تَرْدِيدِنَا حُجَجَنَا عَلَى هَؤُلَاءِ اَلْمُكَذِّبِينَ بِرَبِّهِمُ اَلْجَاحِدِينَ نِعَمَهُ، وَتَصْرِيفِنَاهَا فِيهِمْ ‏"‏ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لِيَفْقَهُوا ذَلِكَ وَيَعْتَبِرُوهُ، فَيَذَّكَرُوا وَيَزْدَجِرُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِمَّا يُسْخِطُهُ اَللَّهُ مِنْهُمْ، مِنْ عِبَادَةِ اَلْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَالتَّكْذِيبِ بِكِتَابِ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 67‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ اَلْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَكَذَّبَ، يَا مُحَمَّدُ، قَوْمُكَ بِمَا تَقُولُ وَتُخْبِرُ وَتُوعِدُ مِنَ اَلْوَعِيدِ ‏"‏وَهُوَ اَلْحَقُّ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَالْوَعِيدُ اَلَّذِي أَوْعَدْنَاهُمْ عَلَى مَقَامِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ‏:‏ مِنْ بَعْثِ اَلْعَذَابِ مِنْ فَوْقِهِمْ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، أَوْ لَبْسِهِمْ شِيَعًا، وَإِذَاقَةِ بَعْضِهِمْ بَأْسَ بَعْض‏"‏ اَلْحَقُّ ‏"‏اَلَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ وَاقِعٌ إِنْ هُمْ لَمْ يَتُوبُوا وَيُنِيبُوا مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ مَعْصِيَةِ اَللَّهِ وَالشَّرَكِ بِهِ، إِلَى طَاعَةِ اَللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ ‏"‏ ‏{‏قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ قُلْ لَهُمْ، يَا مُحَمَّدُ، لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَلَا رَقِيبٍ، وَإِنَّمَا رَسُولٌ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ‏"‏لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لِكُلِّ خَبَرٍ مُسْتَقَرٌّ، يَعْنِي قَرَارًا يَسْتَقِرُّ عِنْدَهُ، وَنِهَايَةً يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَيَتَبَيَّنُ حَقُّهُ وَصِدْقُهُ، مَنْ كَذِبِهِ وَبَاطِلِه‏"‏ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، أَيُّهَا اَلْمُكَذِّبُونَ بِصِحَّةِ مَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ مِنْ وَعِيدِ اَللَّهِ إِيَّاكُمْ، أَيُّهَا اَلْمُشْرِكُونَ، حَقِيقَتُهُ عِنْدَ حُلُولِ عَذَابِهِ بِكُمْ، فَرَأَوْا ذَلِكَ وَعَايَنُوهُ، فَقَتَلَهُمْ يَوْمَئِذٍ بِأَيْدِي أَوْلِيَائِهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ‏.‏

وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا مِنَ اَلتَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ اَلْحَقُّ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ اَلْحَقُّ وَأَمَّا ‏"‏اَلْوَكِيلُ ‏"‏، فَالْحَفِيظُ، وَأَمَّا‏"‏ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ ‏"‏، فَكَانَ نَبَأَ اَلْقُرْآنِ اِسْتَقَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ بِمَا كَانَ يَعِدُهُمْ مِنَ اَلْعَذَابِ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ‏}‏ ‏"‏، لِكُلِّ نَبَأٍ حَقِيقَةٌ، إِمَّا فِي اَلدُّنْيَا وَإِمَّا فِي اَلْآخِرَةِ ‏"‏ ‏{‏وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏"‏، مَا كَانَ فِي اَلدُّنْيَا فَسَوْفَ تَرَوْنَهُ، وَمَا كَانَ فِي اَلْآخِرَةِ فَسَوْفَ يَبْدُو لَكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ حَقِيقَةٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فِعْلٌ وَحَقِيقَةٌ، مَا كَانَ مِنْهُ فِي اَلدُّنْيَا وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي اَلْآخِرَةِ‏.‏

وَكَانَ اَلْحَسَنُ يَتَأَوَّلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ اَلْفِتْنَةُ اَلَّتِي كَانَتْ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ اَلْمُبَارَكِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ اَلْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ حُبِسَتْ عُقُوبَتُهَا، حَتَّى ‏[‏إِذَا‏]‏ عُمِلَ ذَنْبُهَا أُرْسِلَتْ عُقُوبَتُهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرَى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَإِذَا رَأَيْتَ، يَا مُحَمَّدُ، اَلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا اَلَّتِي أَنْزَلْنَاهَا إِلَيْكَ، وَوَحْيِنَا اَلَّذِي أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ، وَ‏"‏ خَوْضِهِمْ فِيهَا ‏"‏، كَانَ اِسْتِهْزَاءَهُمْ بِهَا، وَسَبَّهُمْ مَنْ أَنْزَلَهَا وَتَكَلَّمَ بِهَا، وَتَكْذِيبَهُمْ بِهَا ‏"‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فَصُدَّ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ، وَقُمْ عَنْهُمْ، وَلَا تَجْلِسْ مَعَهُمْ ‏"‏ ‏{‏حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ حَتَّى يَأْخُذُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِ اَلِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اَللَّهِ مِنْ حَدِيثِهِمْ بَيْنَهُمْ ‏"‏ ‏{‏وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطَانُ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَإِنْ أَنْسَاكَ اَلشَّيْطَانُ نَهْيَنَا إِيَّاكَ عَنِ اَلْجُلُوسِ مَعَهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فِي حَالِ خَوْضِهِمْ فِي آيَاتِنَا، ثُمَّ ذَكَرْتَ ذَلِكَ، فُقُمْ عَنْهُمْ، وَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ ذِكْرِكَ ذَلِكَ مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ خَاضُوا فِي غَيْرِ اَلَّذِي لَهُمُ اَلْخَوْضُ فِيهِ بِمَا خَاضُوا بِهِ فِيهِ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى‏"‏ ظُلْمِهِمْ ‏"‏ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ نَهَاهُ اَللَّهُ أَنْ يَجْلِسَ مَعَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ يُكَذِّبُونَ بِهَا، فَإِنْ نَسِيَ فَلَا يَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرِ مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ اَلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرَى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ كَانَ اَلْمُشْرِكُونَ إِذَا جَالَسُوا اَلْمُؤْمِنِينَ وَقَعُوا فِي اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ فَسَبُّوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ، فَأَمَرَهُمُ اَللَّهُ أَنْ لَا يَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطَانُ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ نَهْيَنَا فَتَقْعُدُ مَعَهُمْ، فَإِذَا ذَكَرْتَ فَقُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا فَضِيلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ‏:‏ لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ اَلْخُصُومَاتِ، فَإِنَّهُمُ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا‏}‏ ‏"‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ اَلْأَنْعَامِ‏:‏ 159‏]‏ ‏;‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 105‏]‏ ‏;‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ اَلشُّورَى‏:‏ 13‏]‏، وَنَحْوَ هَذَا فِي اَلْقُرْآنِ، قَالَ‏:‏ أَمْرَ اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اَلِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اَللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ نُهِيَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَنْسَى، فَإِذَا ذَكَرَ فَلْيَقُمْ‏.‏ فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرَى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ‏}‏ ‏"‏ قَالَ اِبْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ كَانَ اَلْمُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَإِذَا سَمِعُوا اِسْتَهْزَءُوا، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ ‏"‏، اَلْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَكْذِبُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي اَلْمُشْرِكِينَ ‏"‏ ‏{‏وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرَى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ‏}‏ ‏"‏، إِنْ نَسِيتَ فَذَكَرْتَ فَلَا تَجْلِسْ مَعَهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَنِ اِتَّقَى اَللَّهَ فَخَافَهُ، فَأَطَاعَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ اَلْإِعْرَاضِ عَنْ هَؤُلَاءِ اَلْخَائِضِينَ فِي آيَاتِ اَللَّهِ فِي حَالِ خَوْضِهِمْ فِي آيَاتِ اَللَّهِ، شَيْءٌ مِنْ تَبِعَةٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اَللَّهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ اَلْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ رِضًا بِمَا هُمْ فِيهِ، وَكَانَ لِلَّهِ بِحُقُوقِهِ مُتَّقِيًا، وَلَا عَلَيْهِ مِنْ إِثْمِهِمْ بِذَلِكَ حَرَجٌ، وَلَكِنْ لِيُعْرِضُوا عَنْهُمْ حِينَئِذٍ ذِكْرَى لِأَمْرِ اَللَّهِ ‏"‏ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لِيَتَّقُوا‏.‏

وَمَعْنَى ‏"‏اَلذِّكْرَى ‏"‏، اَلذِّكْرُ‏.‏ وَ‏"‏ اَلذِّكْر‏"‏ وَ‏"‏ اَلذِّكْرَى ‏"‏ بِمَعْنًى‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ‏"‏ذِكْرَى‏"‏ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَرَفْعٍ‏:‏

فَأَمَّا اَلنَّصْبُ، فَعَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ تَأْوِيلِ‏:‏ وَلَكِنْ لِيُعْرِضُوا عَنْهُمْ ذِكْرَى‏.‏

وَأَمَّا اَلرَّفْعُ، فَعَلَى تَأْوِيلِ‏:‏ وَمَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ شَيْءٌ بِتَرْكِ اَلْإِعْرَاضِ، وَلَكِنَّ إِعْرَاضَهُمْ ذِكْرَى لِأَمْرِ اَللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَ بِالْقِيَامِ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ إِذَا خَاضُوا فِي آيَاتِ اَللَّهِ، لِأَنَّ قِيَامَهُ عَنْهُمْ كَانَ مِمَّا يَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ اَللَّهُ لَهُ‏:‏ إِذَا خَاضُوا فِي آيَاتِ اَللَّهِ فَقُمْ عَنْهُمْ، لِيَتَّقُوا اَلْخَوْضَ فِيهَا وَيَتْرُكُوا ذَلِكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ كَانَ اَلْمُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَإِذَا سَمِعُوا اِسْتَهْزَءُوا، فَنَزَلَََتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ ‏"‏، اَلْآيَةَ، قَالَ‏:‏ فَجَعَلَ إِذَا اِسْتَهْزَءُوا قَامَ، فَحَذَّرُوا وَقَالُوا لَا تَسْتَهْزِءُوا فَيَقُومُ‏!‏ فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏"‏، أَنْ يَخُوضُوا فَيَقُومُ، وَنَزَلَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَمَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏، إِنْ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَلَكِنْ لَا تَقْعُدُوا‏.‏ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ بِالْمَدِينَةِ‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اَللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ اَلنِّسَاءِ‏:‏ 140‏]‏، فَنَسَخَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَمَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏، اَلْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَمَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مِنْ حِسَابِ اَلْكُفَّارِ مِنْ شَيْءٍ ‏"‏وَلَكِنْ ذِكْرَى ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ إِذَا ذَكَرْتَ فَقُم‏"‏ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏"‏ مُسَاءَتَكُمْ، إِذَا رَأَوْكُمْ لَا تُجَالِسُونَهُمُ اِسْتَحْيَوْا مِنْكُمْ، فَكَفُّوا عَنْكُمْ‏.‏ ثُمَّ نَسَخَهَا اَللَّهُ بَعْدُ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يَجْلِسُوا مَعَهُمْ أَبَدًا، قَالَ‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اَللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا‏}‏، اَلْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَمَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏، إِنْ قَعَدُوا، وَلَكِنْ لَا تَقْعُدْ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهَ‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَمَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ وَمَا عَلَيْكَ أَنْ يَخُوضُوا فِي آيَاتِ اَللَّهِ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ذَرْ هَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَ اَللَّهِ وَطَاعَتَهُمْ إِيَّاهُ لَعِبًا وَلَهْوًا، فَجَعَلُوا حُظُوظَهُمْ مِنْ طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ اَللَّعِبَ بِآيَاتِهِ، وَاللَّهْوَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِهَا إِذَا سَمِعُوهَا وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، فَإِنِّي لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَإِنِّي لَهُمْ مِنْ وَرَاءِ اَلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَالْعُقُوبَةِ لَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ، وَعَلَى اِغْتِرَارِهِمْ بِزِينَةِ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا، وَنِسْيَانِهِمُ اَلْمَعَادَ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَالْمَصِيرَ إِلَيْهِ بَعْدَ اَلْمَمَاتِ، كَاَلَّذِي‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اَللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا‏}‏، قَالَ‏:‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ اَلْمُدَّثِّرِ‏:‏ 11‏]‏‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَقَدْ نَسَخَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ هَذِهِ اَلْآيَةَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ اَلتَّوْبَةِ‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وَكَذَلِكَ قَالَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ اَلْمِنْهَالِ قَالَ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا‏}‏ ‏"‏، ثُمَّ أَنْزَلَ فِي ‏"‏ سُورَةِ بَرَاءَةٌ ‏"‏، فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ قَرَأْتُ عَلَى اِبْنِ أَبِي عَرُوبَةَ فَقَالَ‏:‏ هَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا‏}‏ ‏"‏، ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏"‏ بَرَاءَةٌ ‏"‏، وَأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ اَلتَّوْبَةِ‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ‏:‏ وَذَكِّرْ، يَا مُحَمَّدُ، بِهَذَا اَلْقُرْآنِ هَؤُلَاءِ اَلْمُوَلِّينَ عَنْكَ وَعَنْهُ ‏"‏أَنَّ تُبْسَلَ نَفْسٌ ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَنْ لَا تُبْسَلَ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ اَلنِّسَاءِ‏:‏ 176‏]‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَنْ لَا تَضِلُّوا وَإِنَّمَا مَعْنَى اَلْكَلَامِ‏:‏ وَذَكِّرْهُمْ بِهِ لِيُؤْمِنُوا وَيَتَّبِعُوا مَا جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مِنَ اَلْحَقِّ، فَلَا تُبْسَلُ أَنْفُسُهُمْ بِمَا كَسَبَتْ مِنَ اَلْأَوْزَارِ وَلَكِنْ حُذِفَت‏"‏ لَا ‏"‏، لِدَلَالَةِ اَلْكَلَامِ عَلَيْهَا‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ أَنَّ تُبْسَلَ نَفْسٌ ‏"‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَنْ تُسْلَمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، عَنْ يَزِيدَ اَلنَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ تُسْلَمَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ اَلْحَسَنِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَنْ تُسْلَمَ‏.‏

حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ اَلْحَسَنِ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏"‏ أَنَّ تُبْسَلَ ‏"‏، قَالَ‏:‏ تُسْلَمَ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ تُسْلَمَ‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا‏}‏، أَسْلَمُوا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ تُحْبَسَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ تُؤْخَذَ فَتُحْبَسَ‏.‏

حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏"‏، أَنْ تُؤْخَذَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ تُفْضَحَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ تُفْضَحَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنْ تُجْزَى‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ قَالَ قَالَ اَلْكَلْبِيُّ‏:‏ ‏"‏ أَنَّ تُبْسَلَ ‏"‏، أَنْ تُجْزَى‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏اَلْإِبْسَال‏"‏ اَلتَّحْرِيمُ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏ أَبْسَلْتُ اَلْمَكَانَ ‏"‏، إِذَا حَرَّمَتَهُ فَلَمْ يَقْرَبْ، وَمِنْهُ قَوْلُ اَلشَّاعِرُ‏:‏

بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ فِي اَلنَّدَى، *** بَسْلٌ عَلَيْكِ مَلَامَتِي وَعِتَابِي

أَيْ‏:‏ حَرَامٌ ‏[‏عَلَيْكَ مَلَامَتِي وَعِتَابِي‏]‏‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏"‏أَسَدٌ بَاسِلٌ ‏"‏، وَيُرَادُ بِهِ‏:‏ لَا يُقَرِّبُهُ شَيْءٌ، فَكَأَنَّهُ قَدْ حَرَمَ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُ ذَلِكَ صِفَةً لِكُلِّ شَدِيدٍ يَتَحَامَى لِشِدَّتِهِ‏.‏ وَيُقَالُ‏:‏ ‏"‏ أُعْطَ اَلرَّاقِيَ بُسْلَتَهُ ‏"‏، يُرَادُ بِذَلِكَ‏:‏ أُجْرَتَهُ، ‏"‏وَشَرَابٌ بَسِيلٌ ‏"‏، بِمَعْنَى مَتْرُوكٌ‏.‏ وَكَذَلِك‏"‏ اَلْمُبْسَلُ بِالْجَرِيرَةِ ‏"‏، وَهُوَ اَلْمُرْتَهِنُ بِهَا، قِيلَ لَهُ‏:‏ ‏"‏ مُبْسَلٌ ‏"‏، لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِمَّا رُهِنَ فِيهِ وَأُسَلِمَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَوْفِِِِِِِِِِ بْنِ اَلْأَحْوَصِ اَلْكِلَابِيِّ‏:‏

وَإبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ *** بَعَوْنَاهُ وَلَا بِدَمٍ مُرَاقِ

وَقَالَ اَلشَّنْفَرَى‏:‏

هُنَالِكَ لَا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي *** سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْسَلَا بِالْجَرَائِرِ

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ اَلْكَلَامِ إذًا‏:‏ وَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ هَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ، كَيْلَا تُبْسَلَ نَفْسٌ بِذُنُوبِهَا وَكُفْرِهَا بِرَبِّهَا، وَتَرْتَهِنُ فَتُغْلِقُ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ إِجْرَامِهَا فِي عَذَابِ اَللَّهِ ‏"‏ ‏{‏لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اَللَّهِ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لَيْسَ لَهَا، حِينَ تُسَلِّمُ بِذُنُوبِهَا فَتَرْتَهِنُ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ آثَامِهَا، أَحَدٌ يَنْصُرُهَا فَيُنْقِذُهَا مِنَ اَللَّهِ اَلَّذِي جَازَاهَا بِذُنُوبِهَا جَزَاءَهَا ‏"‏ وَلَا شَفِيعٌ ‏"‏، يَشْفَعُ لَهَا، لِوَسِيلَةٍ لَهُ عِنْدَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِنْ تَعْدِلِ اَلنَّفْسُ اَلَّتِي أُبْسِلَتْ بِمَا كَسَبَتْ، يَعْنِي‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ كُلَّ فِدَاءٍ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏عَدَلَ يَعْدِلُ ‏"‏، إِذَا فَدَى، ‏"‏ عَدْلًا ‏"‏، وَمِنْهُ قَوْلُ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، ‏[‏سُورَةُ اَلْمَائِدَةِ‏:‏ 95‏]‏، وَهُوَ مَا عَادَلَهُ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ لَوْ جَاءَتْ بِمِلْءِ اَلْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ ‏"‏، فَمَا يَعْدِلُهَا لَوْ جَاءَتْ بِمِلْءِ اَلْأَرْضِ ذَهَبًا لِتَفْتَدِيَ بِهِ مَا قُبِلَ مِنْهَا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏وَإِنْ تَعْدِلْ ‏"‏، وَإِنْ تَفْتَدِ، يَكُونُ لَهُ اَلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا يَفْتَدِي بِهَا‏"‏ لَا يُؤْخَذْ مِنْهُ ‏"‏، عَدَلَا عَنْ نَفْسِهِ، لَا يُقْبَلْ مِنْهُ‏.‏

وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ اَلْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى‏:‏ وَإِنْ تُقْسَطْ كُلُّ قِسْطٍ لَا يُقْبَلْ مِنْهَا‏.‏ وَقَالَ‏:‏ إِنَّهَا اَلتَّوْبَةُ فِي اَلْحَيَاةِ‏.‏

وَلَيْسَ لِمَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ تَائِبٍ فِي اَلدُّنْيَا فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَهَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ إِنْ فَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كُلَّ فِدَاءٍ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ، هُمْ ‏"‏ ‏{‏اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ أَسْلَمُوا لِعَذَابِ اَللَّهِ، فَرَهَنُوا بِهِ جَزَاءً بِمَا كَسَبُوا فِي اَلدُّنْيَا مِنَ اَلْآثَامِ وَالْأَوْزَارِ، ‏"‏ ‏{‏لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ‏}‏ ‏"‏‏.‏

وَ ‏"‏اَلْحَمِيم‏"‏ هُوَ اَلْحَارُّ، فِي كَلَامِ اَلْعَرَبِ، وَإِنَّمَا هُوَ ‏"‏مَحْمُوم‏"‏ صُرِفَ إِلَى ‏"‏فَعِيلٍ ‏"‏، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَمَّامِ، ‏"‏ حَمَّامٌ ‏"‏ لِإِسْخَانِهِ اَلْجِسْمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُرَقَّشٍ‏:‏

فِي كُلِّ مُمْسًى لَهَا مِقْطَرَةٌ *** فِيهَا كِبَاءٌ مُعَدٌّ وَحَمِيمْ

يَعْنِي بِذَلِكَ مَاءً حَارًّا، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ اَلْهُذَلِيِّ فِي صِفَةِ فَرَسٍ‏:‏

تَأْبَى بِدِرَّتِهَا إِذَا مَا اسْتُضْغِبَتْ *** إِلَّا الْحَمِيمَ فَإنَّهُ يَتَبَضَّعُ

يَعْنِي بِالْحَمِيمِ‏:‏ عَرَقُ اَلْفَرَسِ‏.‏

وَإِنَّمَا جَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ شَرَابًا مِنْ حَمِيمٍ، لِأَنَّ اَلْحَارَّ مِنَ اَلْمَاءِ لَا يَرْوِي مَنْ عَطِشَ‏.‏ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ إِذَا عَطِشُوا فِي جَهَنَّمَ لَمْ يُغَاثُوا بِمَاءٍ يَرْوِيهِمْ، وَلَكِنْ بِمَا يَزِيدُونَ بِهِ عَطَشًا عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ اَلْعَطَشِ ‏"‏وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَهُمْ أَيْضًا مَعَ اَلشَّرَابِ اَلْحَمِيمِ مِنَ اَللَّهِ اَلْعَذَابُ اَلْأَلِيمُ وَالْهَوَانُ اَلْمُقِيم‏"‏ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ بِمَا كَانَ مِنْ كُفْرِهِمْ فِي اَلدُّنْيَا بِاَللَّهِ، وَإِنْكَارِهِمْ تَوْحِيدَهُ، وَعِبَادَتِهِمْ مَعَهُ آلِهَةً دُونَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا‏}‏ ‏"‏، قَالَ يُقَالُ‏:‏ أُسْلِمُوا‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فُضِحُوا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أُخِذُوا بِمَا كَسَبُوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اَللَّهُ كَاَلَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى اِئْتِنَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُجَّتِهِ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمِهِ مِنْ عَبَدَةِ اَلْأَوْثَانِ‏.‏ يَقُولُ لَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ اَلْأَوْثَانَ وَالْأَنْدَادَ، وَالْآمِرِينَ لَكَ بِاتِّبَاعِ دِينِهِمْ وَعِبَادَةِ اَلْأَصْنَامِ مَعَهُمْ‏:‏ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَجَرًا أَوْ خَشَبًا لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِنَا أَوْ ضُرِّنَا، فَنَخُصُّهُ بِالْعِبَادَةِ دُونَ اَللَّهِ، وَنَدَعُ عِبَادَةَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلضُّرُّ وَالنَّفْعُ وَالْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَتُمَيِّزُونَ بَيْنَ اَلْخَيْرِ وَالشَّرِّ‏؟‏ فَلَا شَكَّ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خِدْمَةَ مَا يُرْتَجَى نَفْعُهُ وَيُرْهَبُ ضُرُّهُ، أَحَقُّ وَأُولَى مِنْ خِدْمَةِ مَنْ لَا يُرْجَى نَفْعُهُ وَلَا يُخْشَى ضُرُّهُ‏!‏

‏"‏ ‏{‏وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَنُرَدُّ إِلَى أَدْبَارِنَا، فَنَرْجِعُ اَلْقَهْقَرَي خَلْفَنَا، لَمْ نَظْفَرْ بِحَاجَتِنَا‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى‏:‏ ‏"‏اَلرَّدُّ عَلَى اَلْعَقِبِ ‏"‏، وَأَنَّ اَلْعَرَبَ تَقُولُ لِكُلٍّ طَالِبِ حَاجَةٍ لَمْ يَظْفَرْ بِهَا‏:‏ ‏"‏ رَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ ‏"‏، فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ‏.‏

وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ‏:‏ وَنُرَدُّ مِنَ اَلْإِسْلَامِ إِلَى اَلْكُفْرِ ‏"‏ بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اَللَّهُ، فَوَفَّقَنَا لَهُ، فَيَكُونُ مَثَلُنَا فِي ذَلِكَ مَثَلُ اَلرَّجُلِ اَلَّذِي اِسْتَتْبَعَهُ اَلشَّيْطَانُ، يَهْوِي فِي اَلْأَرْضِ حَيْرَانَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏اِسْتَهْوَتْهُ ‏"‏، ‏"‏ اِسْتَفْعَلَتْهُ ‏"‏، مِنْ قَوْلِ اَلْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏ هَوَى فَلَانٌ إِلَى كَذَا يَهْوِي إِلَيْهِ ‏"‏، وَمِنْ قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 37‏]‏، بِمَعْنَى‏:‏ تَنْزِعُ إِلَيْهِمْ وَتُرِيدُهُمْ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏حَيْرَانَ ‏"‏، فَإِنَّه‏"‏ فَعْلَانَ ‏"‏مِنْ قَوْلِ اَلْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏ قَدْ حَارَ فُلَانٌ فِي اَلطَّرِيقِ، فَهُوَ يَحَارُ فِيهِ حَيْرَةً وَحَيَرَانًا وَحَيْرُورَةً ‏"‏، وَذَلِكَ إِذْ ضَلَّ فَلَمْ يَهْتَدِ لِلْمَحَجَّةِ‏.‏

‏"‏ ‏{‏لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لِهَذَا اَلْحَيْرَانِ اَلَّذِي قَدِ اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ، أَصْحَابٌ عَلَى اَلْمَحَجَّةِ وَاسْتِقَامَةِ اَلسَّبِيلِ، يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْمَحَجَّةِ لِطَرِيقِ اَلْهُدَى اَلَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، يَقُولُونَ لَهُ‏:‏ اِئْتِنَا‏.‏

وَتَركَ إِجْرَاءَ ‏"‏حَيْرَانَ ‏"‏، لِأَنَّه‏"‏ فَعْلَانَ ‏"‏، وَكُلُّ اِسْمٍ كَانَ عَلَى ‏"‏فِعْلَان‏"‏ مِمَّا أَنَّثَاهُ ‏"‏فَعَلَى‏"‏ فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي فِي كَلَامِ اَلْعَرَبِ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ بَعْدَ إِيمَانِهِ، فَاتَّبَعَ اَلشَّيَاطِينَ، مَنْ أَهْلِ اَلشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَأَصْحَابِهِ اَلَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَهُ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ، اَلْمُقِيمُونَ عَلَى اَلدِّينِ اَلْحَقِّ، يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى اَلَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ، وَالصَّوَابِ اَلَّذِي هُمْ بِهِ مُتَمَسِّكُونَ، وَهُوَ لَهُ مُفَارِقٌ وَعَنْهُ زَائِلٌ، يَقُولُونَ لَهُ‏:‏ ‏"‏اِئْتِنَا فَكُنْ مَعَنَا عَلَى اِسْتِقَامَةٍ وَهُدًى‏"‏ ‏!‏ وَهُوَ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيَتَّبِعُ دَوَاعِيَ اَلشَّيْطَانِ، وَيَعْبُدُ اَلْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ‏.‏

وَبِمِثْلِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِثْلَ مَا قُلْنَا‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اَللَّهُ كَاَلَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى اِئْتِنَا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ قَالَ اَلْمُشْرِكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏:‏ اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا، وَاتْرُكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ فَقَالَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا‏}‏ ‏"‏، هَذِهِ اَلْآلِهَةَ ‏"‏ ‏{‏وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اَللَّهُ‏}‏ ‏"‏، فَيَكُونُ مَثَلُنَا كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ، يَقُولُ‏:‏ مَثَلُكُمْ إِنْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ اَلْإِيمَانِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ مَعَ قَوْمٍ عَلَى اَلطَّرِيقِ، فَضَلَّ اَلطَّرِيقَ، فَحَيَّرَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ، وَاسْتَهْوَتْهُ فِي اَلْأَرْضِ، وَأَصْحَابُهُ عَلَى اَلطَّرِيقِ، فَجَعَلُوا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ، يَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏ اِئْتِنَا، فَإِنَّا عَلَى اَلطَّرِيقِ ‏"‏، فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ‏.‏ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ يَتَّبِعُكُمْ بَعْدَ اَلْمَعْرِفَةِ بِمُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدٌ اَلَّذِي يَدْعُو إِلَى اَلطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ هُوَ اَلْإِسْلَامُ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اَللَّهُ لِلْآلِهَةِ وَمَنْ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَلِلدُّعَاةِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى اَللَّهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ ضَلَّ عَنِ اَلطَّرِيقِ تَائِهًا ضَالًّا إِذْ نَادَاهُ مُنَادٍ‏:‏ ‏"‏يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، هَلُمَّ إِلَى اَلطَّرِيقِ ‏"‏، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ‏:‏ ‏"‏ يَا فُلَانُ، هَلُمَّ إِلَى اَلطَّرِيقِ ‏"‏‏!‏ فَإِنِ اِتَّبَعَ اَلدَّاعِي اَلْأَوَّلَ اِنْطَلَقَ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي اَلْهَلَكَةِ، وَإِنْ أَجَابَ مَنْ يَدْعُوهُ إِلَى اَلْهُدَى اِهْتَدَى إِلَى اَلطَّرِيقِ‏.‏ وَهَذِهِ اَلدَّاعِيَةُ اَلَّتِي تَدْعُو فِي اَلْبَرِّيَّةِ مِنَ اَلْغِيلَانِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ مَثَلُ مَنْ يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ اَلْآلِهَةَ مَنْ دُونِ اَللَّهِ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَأْتِيَهُ اَلْمَوْتُ، فَيَسْتَقْبِلُ اَلْهَلَكَةَ وَالنَّدَامَةَ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏كَاَلَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ‏}‏ ‏"‏، وَهُم‏"‏ اَلْغِيلَانُ ‏"‏ يَدْعُونَهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ جَدِّهِ، فَيَتْبَعُهَا، فَيَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ، فَيُصْبِحُ وَقَدْ أَلْقَتْهُ فِي اَلْهَلَكَةِ، وَرُبَّمَا أَكَلَتْهُ أَوْ تُلْقِيهِ فِي مُضِلَّةٍ مِنَ اَلْأَرْضِ يَهْلَكُ فِيهَا عَطَشًا‏.‏ فَهَذَا مَثَلُ مَنْ أَجَابَ اَلْآلِهَةَ اَلَّتِي تُعْبَدُ مَنْ دُونِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَضَلَّتْهُ فِي اَلْأَرْضِ حَيْرَانَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ اَلْأَوْثَانُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ حَيْرَانَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ رَجُلٌ حَيْرَانُ يَدْعُوهُ أَصْحَابُهُ إِلَى اَلطَّرِيقِ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ يَضِلُّ بَعْدَ إِذْ هُدِيَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا رَجُلٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، ‏"‏ حَيْرَانَ ‏"‏، هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اَللَّهُ لِلْكَافِرِ، يَقُولُ‏:‏ اَلْكَافِرُ حَيْرَانُ، يَدْعُوهُ اَلْمُسْلِمُ إِلَى اَلْهُدَى فَلَا يُجِيبُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا‏}‏ ‏"‏، حَتَّى بَلَغَ ‏"‏ ‏{‏لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏"‏، عَلَّمَهَا اَللَّهُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، يُخَاصِمُونَ بِهَا أَهْلَ اَلضَّلَالَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، بِمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏كَاَلَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى‏}‏ ‏"‏، فَهُوَ اَلرَّجُلُ اَلَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِهُدَى اَللَّهِ، وَهُوَ رَجُلٌ أَطَاعَ اَلشَّيْطَانَ، وَعَمِلَ فِي اَلْأَرْضِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَحَارَ عَنِ اَلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُ، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اَلَّذِي يَأْمُرُونَهُ هُدًى‏.‏ يَقُولُ اَللَّهُ ذَلِكَ لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنَ اَلْإِنْسِ‏:‏ إِنَّ اَلْهُدَى هُدَى اَللَّهِ، وَالضَّلَالَةَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ اَلْجِنُّ‏.‏

فَكَأَنَّ اِبْنَ عَبَّاسٍ عَلَى هَذِهِ اَلرِّوَايَةِ يَرَى أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا اَلْحَيْرَانِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَهُ إِنَّمَا يَدْعُونَهُ إِلَى اَلضَّلَالِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ هُدًى، وَأَنَّ اَللَّهَ أَكْذَبَهُمْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ هُدَى اَللَّهِ هُوَ اَلْهُدَى‏}‏ ‏"‏، لَا مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ‏.‏

وَهَذَا تَأْوِيلٌ لَهُ وَجْهٌ، لَوْ لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ سَمَّى اَلَّذِي دَعَا اَلْحَيْرَانَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ ‏"‏هُدًى ‏"‏، وَكَانَ اَلْخَبَرُ بِذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِهِ اَلدُّعَاةِ لَهُ إِلَى مَا دَعَوْهُ إِلَيْهِ‏:‏ أَنَّهُمْ هُمُ اَلَّذِينَ سَمَّوْهُ، وَلَكِنَّ اَللَّهَ سَمَّاه‏"‏ هُدًى ‏"‏، وَأَخْبَرَ عَنْ أَصْحَابِ اَلْحَيْرَانِ أَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَيْهِ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُسَمِّيَ اَللَّهُ ‏"‏اَلضَّلَال‏"‏ هُدًى، لِأَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، وَغَيْرُ جَائِزٍ وَصْفُ اَللَّهِ بِالْكَذِبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفُهُ بِمَا لَيْسَ مِنْ صِفَتِهِ‏.‏ وَإِنَّمَا كَانَ يَجُوزُ تَوْجِيهُ ذَلِكَ إِلَى اَلصَّوَابِ، لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا مِنَ اَللَّهِ عَنِ اَلدَّاعِي اَلْحَيْرَانِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ‏:‏ ‏"‏تَعَالَ إِلَى اَلْهُدَى ‏"‏، فَأَمَّا وَهُوَ قَائِلٌ‏:‏ ‏"‏ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى ‏"‏، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ، وَهُمْ كَانُوا يَدْعُونَهُ إِلَى اَلضَّلَالِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏اِئْتِنَا ‏"‏، فَإِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ اِئْتِنَا، هَلُمَّ إِلَيْنَا فَحَذَف‏"‏ اَلْقَوْلَ ‏"‏، لِدَلَالَةِ اَلْكَلَامِ عَلَيْهِ‏.‏

وَذُكِرَ عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى بَيِّنًا‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اَللَّهِ‏:‏ ‏(‏يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى بَيِّنًا‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ‏:‏ فِي قِرَاءَةِ اِبْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى بَيِّنًا‏)‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏اَلْهُدَى‏"‏ اَلطَّرِيقُ، أَنَّهُ بَيِّنٌ‏.‏

وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ ‏"‏اَلْبَيِّن‏"‏ مِنْ صِفَةِ ‏"‏اَلْهُدَى ‏"‏، وَيَكُونُ نَصْب‏"‏ اَلْبَيِّنِ ‏"‏عَلَى اَلْقَطْعِ مِن‏"‏ اَلْهُدَى ‏"‏، كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى اَلْبَيِّنِ، ثُمَّ نَصَبَ ‏"‏اَلْبَيِّن‏"‏ لَمَّا حُذِفَتِ ‏"‏ اَلْأَلِفُ وَاللَّامُ ‏"‏، وَصَارَ نَكِرَةً مِنْ صِفَةِ اَلْمَعْرِفَةِ‏.‏

وَهَذِهِ اَلْقِرَاءَةُ اَلَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ تُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏اَلْهُدَى‏"‏ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ، هُوَ اَلْهُدَى عَلَى اَلْحَقِيقَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ هُدَى اَللَّهِ هُوَ اَلْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ اَلْأَوْثَانَ، اَلْقَائِلِينَ لِأَصْحَابِكَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ‏}‏ فَإِنَّا عَلَى هُدًى ‏"‏‏:‏ لَيْسَ اَلْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ ‏"‏ ‏{‏إِنَّ هُدَى اَللَّهِ هُوَ اَلْهُدَى‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ إِنَّ طَرِيقَ اَللَّهِ اَلَّذِي بَيَّنَهُ لَنَا وَأَوْضَحَهُ، وَسَبِيلَنَا اَلَّذِي أَمَرَنَا بِلُزُومِهِ، وَدِينَهُ اَلَّذِي شَرَعَهُ لَنَا فَبَيَّنَهُ، هُوَ اَلْهُدَى وَالِاسْتِقَامَةُ اَلَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا، لَا عِبَادَةُ اَلْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ اَلَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، فَلَا نَتْرُكُ اَلْحَقَّ وَنَتَّبِعُ اَلْبَاطِلَ ‏"‏ ‏{‏وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَأَمَرَنَا رَبُّنَا وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ تَعَالَى وَجْهُهُ، لِنُسْلِمَ لَهُ، لِنَخْضَعَ لَهُ بِالذِّلَّةِ وَالطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَنُخْلِصَ ذَلِكَ لَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ اَلْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ‏"‏اَلْإِسْلَام‏"‏ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏"‏وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ وَأُمِرْنَا كَيْ نُسْلِمَ، وَأَنْ نُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ لِأَنَّ اَلْعَرَبَ تَضَع‏"‏ كَيْ ‏"‏وَ‏"‏ اَللَّام‏"‏ اَلَّتِي بِمَعْنَى ‏"‏كَيْ ‏"‏، مَكَان‏"‏ أَنْ ‏"‏وَ‏"‏ أَن‏"‏ مَكَانهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَأُمِرْنَا أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلَاةَ‏.‏

وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلَاةَ‏}‏ ‏"‏، فَعَطَفَ بِـ ‏"‏أَن‏"‏ عَلَى ‏"‏اَللَّام‏"‏ مِنْ ‏"‏لِنُسْلِمَ ‏"‏، لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ لِنُسْلِمَ ‏"‏مَعْنَاهُ‏:‏ أَنْ نُسْلِمَ، فَرَدَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ وَأَنْ أَقِيمُوا ‏"‏عَلَى مَعْنَى‏:‏ ‏"‏ لِنُسْلِمَ ‏"‏، إِذْ كَانَتِ ‏"‏اَللَّام‏"‏ اَلَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لِنُسْلِمَ ‏"‏، لَامًا لَا تَصْحَبُ إِلَّا اَلْمُسْتَقْبَلَ مِنَ اَلْأَفْعَالِ، وَكَانَت‏"‏ أَنْ ‏"‏مِنَ اَلْحُرُوفِ اَلَّتِي تَدُلُّ عَلَى اَلِاسْتِقْبَالِ دَلَالَة‏"‏ اَللَّامِ ‏"‏اَلَّتِي فِي‏"‏ لِنُسْلِمَ ‏"‏، فَعَطَفَ بِهَا عَلَيْهَا، لِاتِّفَاقِ مَعْنَيْهِمَا فِيمَا ذَكَرْتُ‏.‏

فَـ ‏"‏أَن‏"‏ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالرَّدِّ عَلَى اَللَّامِ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي اَلْبَصْرَةِ يَقُولُ‏:‏ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ، ‏"‏ ‏{‏أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلَاةَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ أُمِرْنَا كَيْ نُسْلِمَ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ يُونُسَ‏:‏ 104‏]‏، أَيْ‏:‏ إِنَّمَا أَُمِرْتْ بِذَلِكَ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ‏}‏ ‏"‏، أَيْ‏:‏ أُمِرْنَا أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلَاةَ أَوْ يَكُونُ أَوْصَلَ اَلْفِعْلَ بِاللَّامِ، وَالْمَعْنَى‏:‏ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ، كَمَا أَوْصَلَ اَلْفِعْلَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ اَلْأَعْرَافِ‏:‏ 154‏]‏‏.‏

فَتَأْوِيلُ اَلْكَلَامِ‏:‏ وَأُمِرْنَا بِإِقَامَةِ اَلصَّلَاةِ، وَذَلِكَ أَدَاؤُهَا بِحُدُودِهَا اَلَّتِي فُرِضَتْ عَلَيْنَا ‏"‏ وَاتَّقَوْهُ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَاتَّقَوْا رَبَّ اَلْعَالَمِينَ اَلَّذِي أَمَرَنَا أَنْ نُسْلِمَ لَهُ، فَخَافُوهُ وَاحْذَرُوا سَخَطَهُ، بِأَدَاءِ اَلصَّلَاةِ اَلْمَفْرُوضَةِ عَلَيْكُمْ، وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَإِخْلَاصِ اَلْعِبَادَةِ لَهُ ‏"‏ ‏{‏وَهُوَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَرَبُّكُمْ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ، هُوَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَتُجْمَعُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسِ مَا كَسَبَتْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّوَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ وَلَهُ اَلْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ اَلْأَنْدَادَ، اَلدَّاعِيكَ إِلَى عِبَادَةِ اَلْأَوْثَانِ‏:‏ ‏"‏ أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ، اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، لَا مَنْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ ‏"‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ بِالْحَقِّ ‏"‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ، وَهُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَقًّا وَصَوَابًا، لَا بَاطِلًا وَخَطَأً، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ ص‏:‏ 27‏]‏‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَأُدْخِلَتْ فِيهِ ‏"‏اَلْبَاء‏"‏ وَ‏"‏ اَلْأَلِفُ وَاللَّامُ ‏"‏، كَمَا تَفْعَلُ اَلْعَرَبُ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ فَتَقُولُ‏:‏ ‏"‏فُلَانٌ يَقُولُ بِالْحَقِّ ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَلَا شَيْءَ فِي‏"‏ قَوْلِهِ بِالْحَقِّ ‏"‏غَيْرَ إِصَابَتِهِ اَلصَّوَابَ فِيهِ لَا أَن‏"‏ اَلْحَقَّ ‏"‏مَعْنًى غَيْر‏"‏ اَلْقَوْلِ ‏"‏، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِلْقَوْلِ، إِذَا كَانَ بِهَا اَلْقَوْلُ، كَانَ اَلْقَائِلُ مَوْصُوفًا بِالْقَوْلِ بِالْحَقِّ، وَبِقَوْلِ اَلْحَقِّ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَكَذَلِكَ خَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، حِكْمَةٌ مِنْ حُكْمِ اَللَّهِ، فَاَللَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْحِكْمَةِ فِي خَلْقِهِمَا وَخَلْقِ مَا سِوَاهُمَا مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ لَا أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ سِوَى خَلْقِهِمَا خَلَقَهُمَا بِهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِكَلَامِهِ وَقَوْلِهِ لَهُمَا‏:‏ ‏{‏اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ فُصِّلَتْ‏:‏ 11‏]‏‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَالْحَقُّ، فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ مَعْنِيٌّ بِهِ‏:‏ كَلَامُهُ‏.‏ وَاسْتَشْهَدُوا لِقِيلِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ ‏"‏، ‏"‏ اَلْحَقُّ ‏"‏ هُوَ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَاَللَّهُ خَلَقَ اَلْأَشْيَاءَ بِكَلَامِهِ وَقِيلِهِ، فَمَا خَلَقَ بِهِ اَلْأَشْيَاءَ فَغَيْرُ اَلْأَشْيَاءِ اَلْمَخْلُوقَةِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اَللَّهِ اَلَّذِي خَلَقَ بِهِ اَلْخَلْقَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏، فَإِنَّ أَهْلَ اَلْعَرَبِيَّةِ اِخْتَلَفُوا فِي اَلْعَامِلِ فِي‏"‏ يَوْمَ يَقُولُ ‏"‏، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي اَلْبَصْرَةِ‏:‏ ‏"‏اَلْيَوْم‏"‏ مُضَافٌ إِلَى ‏"‏ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَهُوَ نَصْبٌ، وَلَيْسَ لَهُ خَبَرٌ ظَاهِرٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ عَلَى مَا فَسَّرْتُ لَكَ كَأَنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ نَصْبَهُ عَلَى‏:‏ وَاذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏"‏يَقُولُ كُنْ فَيَكُون‏"‏ لِلصُّوَرِ خَاصَّةً فَمَعْنَى اَلْكَلَامِ عَلَى تَأْوِيلِهِمْ‏:‏ يَوْمَ يَقُولُ لِلصُّوَرِ كُنْ فَيَكُونُ، قَوْلُهُ اَلْحَقُّ يَوْمَ يُنْفَخُ فِيهِ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيَكُونُ ‏"‏اَلْقَوْل‏"‏ حِينَئِذٍ مَرْفُوعًا بِـ ‏"‏اَلْحَق‏"‏ وَ‏"‏ اَلْحَقُّ ‏"‏بِـ‏"‏ اَلْقَوْلِ ‏"‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏، وَ‏"‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ‏}‏ ‏"‏، صِلَة‏"‏ اَلْحَقِّ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏، مَعْنِيٌّ بِهِ كُلُّ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعِيدُهُ فِي اَلْآخِرَةِ بَعْدَ إِفْنَائِهِ، وَمُنْشِئُهُ بَعْدَ إِعْدَامِهِ فَالْكَلَامُ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ، مُتَنَاهٍ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏قَوْلُهُ اَلْحَقُّ ‏"‏، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ وَتَأْوِيلُهُ‏:‏ وَهُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ لِلْأَشْيَاءِ كُنْ فَيَكُونُ خَلْقُهُمَا بِالْحَقِّ بَعْدَ فَنَائِهِمَا‏.‏ ثُمَّ اِبْتَدَأَ اَلْخَبَرَ عَنْ قَوْلِهِ وَوَعْدِهِ خَلْقَهُ أَنَّهُ مُعِيدُهُمَا بَعْدَ فَنَائِهِمَا عَنْ أَنَّهُ حَقٌّ فَقَالَ‏:‏ قَوْلُهُ هَذَا، اَلْحَقُّ اَلَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ‏.‏ وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُ اَلْمُلْكَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فيَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ ‏"‏، يَكُونُ عَلَى هَذَا اَلتَّأْوِيلِ مِنْ صِلَة‏"‏ اَلْمُلْكِ ‏"‏‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ عَلَى هَذَا اَلتَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّور‏"‏ مِنْ صِلَةِ ‏"‏ اَلْحَقِّ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى اَلْكَلَامِ‏:‏ وَيَوْمَ يَقُولُ لِمَا فَنِيَ‏:‏ ‏"‏كُنْ ‏"‏، فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ، فَجَعَل‏"‏ اَلْقَوْلَ ‏"‏مَرْفُوعًا بُقُولِه‏"‏ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏، وَجُعِلَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏، لِلْقَوْلِ مَحَلًّا وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ ‏"‏، مِنْ صِلَةِ ‏"‏اَلْحَق‏"‏ كَأَنَّهُ وَجْهُ تَأْوِيلِ ذَلِكَ إِلَى‏:‏ وَيَوْمئِذٍ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ‏.‏ وَإِنْ جُعِلَ عَلَى هَذَا اَلتَّأْوِيلِ ‏"‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّور‏"‏ بَيَانًا عَنِ اَلْيَوْمِ اَلْأَوَّلِ، كَانَ وَجْهًا صَحِيحًا‏.‏ وَلَوْ جُعِلَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏قَوْلُهُ اَلْحَقُّ ‏"‏، مَرْفُوعًا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ ‏"‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ ‏"‏، مَحَلًّا وَقَوْلُهُ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏‏"‏ مِنْ صِلَتِهِ، كَانَ جَائِزًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ اَلْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ اَلْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ دُونَ كُلِّ مَا سِوَاهُ، مُعَرِّفًا مِنْ أَشْرَكَ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ جَهْلَهُ فِي عِبَادَةِ اَلْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَخَطَأِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ عِبَادَةِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى اِجْتِلَابِ نَفْعٍ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا دَفْعَ ضُرٍّ عَنْهَا وَمُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ اَلْبَعْثَ بَعْدَ اَلْمَمَاتِ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، بِقُدْرَتِهِ عَلَى اِبْتِدَاعِ ذَلِكَ اِبْتِدَاءً، وَأَنَّ اَلَّذِي اِبْتَدَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ عَلَيْهِ إِفْنَاؤُهُ ثُمَّ إِعَادَتِهِ بَعْدَ إِفْنَائِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏وَهُوَ اَلَّذِي خَلَقَ ‏"‏، أَيُّهَا اَلْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمْ مَنْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ‏"‏ ‏{‏اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏"‏، حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ، لِيَعْرِفُوا بِهَا صَانِعَهَا، وَلِيَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَيُخْلِصُوا لَهُ اَلْعِبَادَة‏"‏ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَيَوْمَ يَقُولُ حِينَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ كَذَلِكَ‏:‏ ‏"‏كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏، كَمَا شَاءَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، فَتَكُونُ اَلْأَرْضُ غَيْرُ اَلْأَرْضِ وَيَكُونُ ‏[‏اَلْكَلَامُ‏]‏ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏ مُتَنَاهِيًا‏.‏

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَعْنَاهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي اَلْكَلَامِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ اَلظَّاهِرُ، وَيَكُونُ مَعْنَى اَلْكَلَامِ‏:‏ وَيَوْمَ يَقُولُ كَذَلِكَ‏:‏ ‏"‏كُنْ فَيَكُون‏"‏ تُبَدَّلُ ‏[‏اَلسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏]‏ غَيْرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏.‏ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَهُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏"‏، ثُمَّ اِبْتَدَأَ اَلْخَبَرَ عَنِ اَلْقَوْلِ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏قَوْلُهُ اَلْحَقُّ ‏"‏، بِمَعْنَى وَعْدُهُ هَذَا اَلَّذِي وَعَدَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مِنْ تَبْدِيلِهِ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، اَلْحَقُّ اَلَّذِي لَا شَكَّ فِيه‏"‏ وَلَهُ اَلْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ ‏"‏، فَيَكُونُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ‏}‏ ‏"‏، مِنْ صِلَةِ ‏"‏اَلْمُلْك‏"‏ وَيَكُونُ مَعْنَى اَلْكَلَامِ‏:‏ وَلِلَّهِ اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّ اَلنَّفْخَةَ اَلثَّانِيَةَ فِي اَلصُّوَرِ حَالَ تَبْدِيلِ اَللَّهِ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ غَيْرَهُمَا‏.‏

وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ‏"‏اَلْقَوْل‏"‏ أَعْنِي‏:‏ ‏"‏قَوْلُهُ اَلْحَقُّ ‏"‏، مَرْفُوعًا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏"‏، وَيَكُونُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏مَحَلًّا لِلْقَوْلِ مُرَافِعًا، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ اَلْكَلَامِ‏:‏ وَهُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يُبَدِّلُهَا غَيْرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَيَقُولُ لِذَلِكَ‏:‏ ‏"‏ كُنْ فَيَكُونُ ‏"‏، ‏"‏ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَلَهُ اَلْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّهُ خُصٌّ بِالْخَبَرِ عَنْ مُلْكِهِ يَوْمَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ اَلْمُلْكُ لَهُ خَالِصًا فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ عَنَى تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ يَوْمَئِذٍ وَلَا مُدَّعِيَ لَهُ، وَأَنَّهُ اَلْمُنْفَرِدُ بِهِ دُونَ كُلِّ مَنْ كَانَ يُنَازِعُهُ فِيهِ فِي اَلدُّنْيَا مِنَ اَلْجَبَابِرَةِ، فَأَذْعَنَ جَمِيعُهُمْ يَوْمَئِذٍ لَهُ بِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ دَعْوَاهُمْ فِي اَلدُّنْيَا فِي بَاطِلٍ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ‏"‏اَلصُّور‏"‏ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ نَفْخَتَانِ‏:‏ إِحْدَاهُمَا لِفَنَاءِ مَنْ كَانَ حَيًّا عَلَى اَلْأَرْضِ، وَالثَّانِيَةُ لِنَشْرِ كُلِّ مَيْتٍ‏.‏ وَاعْتَلَوْا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اَللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ اَلزُّمَرِ‏:‏ 68‏]‏، وَبِالْخَبَرِ اَلَّذِي رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِذْ سُئِلَ عَنِ اَلصُّورِ‏:‏ هُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيه»‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏"‏اَلصُّور‏"‏ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ جَمْعُ ‏"‏صُورَةٍ ‏"‏، يُنْفَخُ فِيهَا رُوحُهَا فَتَحْيَا، كَقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏ سُورٌ ‏"‏لِسُورِ اَلْمَدِينَةِ، وَهُوَ جَمْع‏"‏ سُورَةٍ ‏"‏، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ‏:‏

سُورُ اَلْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ اَلْخُشَّعَ

وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ ‏"‏نُفِخَ فِي اَلصُّور‏"‏ وَ‏"‏ نُفِخَ اَلصُّورُ ‏"‏، وَمِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏نُفِخَ اَلصُّور

قَوْلُ اَلشَّاعِرِ‏:‏

لَوْلَا ابْنُ جَعْدَةَ لَمْ تُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُمْ *** وَلَا خُرَاسَانَ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّورُ

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ اَلْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ اَلْأَخْبَارُ «عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏إِنَّ إِسْرَافِيلَ قَدِ اِلْتَقَمَ اَلصُّورَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ ‏"‏، وَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ اَلصُّورُ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ ‏"‏‏.‏»

وَذُكِرَ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ أَنَّ عَالِمَ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، هُوَ اَلَّذِي يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ‏.‏

حَدَّثَنِي بِهِ اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عبدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ أَنَّ عَالِمَ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ اَلَّذِي يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ‏.‏

فَكَأَنَّ اِبْنَ عَبَّاسٍ تَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ ‏"‏، اِسْمُ اَلْفَاعِلِ اَلَّذِي لَمْ يُسَمَّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ‏}‏ ‏"‏، وَأَنَّ مَعْنَى اَلْكَلَامِ‏:‏ يَوْمَ يَنْفُخُ اَللَّهُ فِي اَلصُّورِ، عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏.‏ كَمَا تَقُولُ اَلْعَرَبُ‏:‏ ‏"‏أُكِلَ طَعَامُكَ، عَبْدُ اَللَّهِ ‏"‏، فَتُظْهِرُ اِسْمَ اَلْآكِلِ بَعْدَ أَنْ قَدْ جَرَى اَلْخَبَرُ بِمَا لَمْ يُسَمَّ آكِلُهُ‏.‏ وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَجْهًا غَيْرَ مَدْفُوعٍ، فَإِنَّ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ ‏"‏، مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِـ‏"‏ اَلَّذِي ‏"‏، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَهُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏"‏‏.‏

وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏اَلصُّور‏"‏ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ، اَلنَّفْخَةُ اَلْأُولَى‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي بِالصُّورِ‏:‏ اَلنَّفْخَةُ اَلْأُولَى، أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اَللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى‏}‏ يَعْنِي اَلثَّانِيَةَ ‏{‏فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ اَلزُّمَرِ‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ ‏"‏، عَالِمُ مَا تُعَايِنُونَ‏:‏ أَيُّهَا اَلنَّاسُ، فَتُشَاهِدُونَهُ، وَمَا يَغِيبُ عَنْ حَوَاسِّكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ فَلَا تُحِسُّونَهُ وَلَا تُبْصِرُونَهُ ‏"‏وَهُوَ اَلْحَكِيمُ ‏"‏، فِي تَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ خَلْقَهُ مِنْ حَالِ اَلْوُجُودِ إِلَى اَلْعَدَمِ، ثُمَّ مِنْ حَالِ اَلْعَدَمِ وَالْفِنَاءِ إِلَى اَلْوُجُودِ، ثُمَّ فِي مُجَازَاتِهِمْ بِمَا يُجَازِيهِمْ بِهِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَاب‏"‏ اَلْخَبِيرُ ‏"‏، بِكُلِّ مَا يَعْمَلُونَهُ وَيَكْسِبُونَهُ مِنْ حَسَنٍ وَسَيِّئٍ، حَافِظٌ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ‏.‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَاحْذَرُوا، أَيُّهَا اَلْعَادِلُونَ بِرَبِّكُمْ، عِقَابَهُ، فَإِنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ مَا تَأْتُونَ وَتَذْرُوَنَ، وَهُوَ لَكُمْ مِنْ وَرَاءِ اَلْجَزَاءِ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَاذْكُرْ، يَا مُحَمَّدُ لِحُجَّاجِكَ اَلَّذِي تُحَاجُّ بِهِ قَوْمَكَ، وَخُصُومَتَكَ إِيَّاهُمْ فِي آلِهَتِهِمْ، وَمَا تُرَاجِعُهُمْ فِيهَا، مِمَّا نُلْقِيهِ إِلَيْكَ وَنُعَلِّمَكَهُ مِنَ اَلْبُرْهَانِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى بَاطِلِ مَا عَلَيْهِ قَوْمُكَ مُقِيمُونَ، وَصِحَّةِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مُقِيمٌ مِنَ اَلدِّينِ، وَحَقِيقَةِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِهِ مُحْتَجٌّ حِجَاجَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي قَوْمَهُ، وَمُرَاجَعَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي بَاطِلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مُقِيمِينَ مِنْ عِبَادَةِ اَلْأَوْثَانِ، وَانْقِطَاعِهِ إِلَى اَللَّهِ وَالرِّضَا بِهِ وَلِيًّا وَنَاصِرًا دُونَ اَلْأَصْنَامِ، فَاِتَّخِذْهُ إِمَامًا وَاقْتَدِ بِهِ، وَاجْعَلْ سِيرَتَهُ فِي قَوْمِكَ لِنَفْسِكَ مِثَالًا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ مُفَارِقًا لِدِينِهِ، وَعَائِبًا عِبَادَتَهُ اَلْأَصْنَامَ دُونَ بَارِئِهِ وَخَالِقِهِ‏:‏ يَا آزَرُ‏.‏

ثُمَّ اِخْتَلَفَ أَهْلُ اَلْعِلْمِ فِي اَلْمَعْنِيِّ بِـ‏"‏ آزَرَ ‏"‏، وَمَا هُوَ، اِسْمٌ هُوَ أَمْ صِفَةٌ‏؟‏ وَإِنْ كَانَ اِسْمًا، فَمَنِ اَلْمُسَمَّى بِهِ‏؟‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ اِسْمُ أَبِيهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ اِسْمُ أَبِيهِ ‏"‏ آزَرُ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ اَلْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ آزَرُ ‏"‏، أَبُو إِبْرَاهِيمَ‏.‏ وَكَانَ، فِيمَا ذُكِرَ لَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، رَجُلًا مِنْ أَهْلٍ كُوثَى، مِنْ قَرْيَةٍ بِالسَّوَادِ، سَوَادِ اَلْكُوفَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي اِبْنُ اَلْبَرْقِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ اَلْعَزِيزِ يَذْكُرُ قَالَ‏:‏ هُوَ ‏"‏آزَرُ ‏"‏، وَهُو‏"‏ تَارَحُ ‏"‏، مِثْلَ ‏"‏إِسْرَائِيل‏"‏ وَ‏"‏ يَعْقُوبَ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنَّهُ لَيْسَ أَبَا إِبْرَاهِيمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ لَيْسَ ‏"‏ آزَرُ ‏"‏، أَبَا إِبْرَاهِيمَ‏.‏

حَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اَلْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنَا اَلثَّوْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي رَجُلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏ آزَرُ ‏"‏ لَمْ يَكُنْ بِأَبِيهِ، إِنَّمَا هُوَ صَنَمٌ‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ ‏"‏آزَر‏"‏ اِسْمُ صَنَمٍ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ ‏"‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ‏"‏، قَالَ‏:‏ اِسْمُ أَبِيهِ، وَيُقَالُ‏:‏ لَا بَلِ اِسْمُه‏"‏ تَارَحُ ‏"‏، وَاسْمُ اَلصَّنَمِ ‏"‏ آزَرُ ‏"‏‏.‏ يَقُولُ‏:‏ أَتَتَّخِذُ آزَرَ أَصْنَامًا آلِهَةً‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ سَبٌّ وَعَيْبٌ بِكَلَامِهِمْ، وَمَعْنَاهُ‏:‏ مُعْوَجٌّ‏.‏ كَأَنَّهُ تَأَوَّلَ أَنَّهُ عَابَهُ بِزَيْغِهِ وَاعْوِجَاجِهِ عَنِ اَلْحَقِّ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ اَلْأَمْصَارِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ‏}‏ بِفَتْحِ ‏"‏آزَر‏"‏ عَلَى إتْبَاعِهِ ‏"‏اَلْأَب‏"‏ فِي اَلْخَفْضِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ اِسْمًا أَعْجَمِيًّا فَتَحُوهُ، إِذْ لَمْ يَجُرُّوهُ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ‏.‏

وَذُكِرَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ اَلْمَدِينِيِّ وَالْحَسَنِ اَلْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَآنِ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏آزَرُ‏}‏ بِالرَّفْعِ عَلَى اَلنِّدَاءِ، بِمَعْنَى‏:‏ يَا آزَرُ‏.‏

فَأُمًّا اَلَّذِي ذُكِرَ عَنِ اَلسَّدَّيَّ مِنْ حِكَايَتِهِ أَنَّ ‏"‏آزَر‏"‏ اِسْمُ صَنَمٍ، وَإِنَّمَا نَصَبَهُ بِمَعْنَى‏:‏ أَتَتَّخِذُ آزَرَ أَصْنَامًا آلِهَةً فَقَوْلٌ مِنَ اَلصَّوَابِ مِنْ جِهَةِ اَلْعَرَبِيَّةِ بَعِيدٌ‏.‏ وَذَلِكَ أَنْ اَلْعَرَبَ لَا تَنْصِبُ اِسْمًا بِفِعْلٍ بَعْدَ حَرْفِ اَلِاسْتِفْهَامِ، لَا تَقُولُ‏:‏ ‏"‏أَخَاكَ أَكَلَّمْت‏"‏‏؟‏ وَهِيَ تُرِيدُ‏:‏ أَكَلَّمْتَ أَخَاكَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ اَلْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ ‏"‏اَلرَّاء‏"‏ مِنْ ‏{‏آزَرَ‏}‏، عَلَى إِتْبَاعِهِ إِعْرَابَ ‏"‏ اَلْأَبِ ‏"‏، وَأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ فَفَتْحٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا، لِأَنَّهُ اِسْمٌ عَجَمِيٌّ‏.‏ وَإِنَّمَا اِخْتَرْتُ قِرَاءَةَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِإِجْمَاعِ اَلْحُجَّةِ مَنَ الْقَرَأَةِ عَلَيْهِ‏.‏

وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ اَلصَّوَابُ مِنَ اَلْقِرَاءَةِ، وَكَانَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْفِعْلِ اَلَّذِي بَعْدَ حَرْفِ اَلِاسْتِفْهَامِ، صَحَّ لَكَ فَتْحُهُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ‏:‏

إِمَّا أَنْ يَكُونَ اِسْمًا لِأَبِي إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ رَدًّا عَلَى ‏"‏ اَلْأَبِ ‏"‏، وَلَكِنَّهُ فَتَحَ لِمَا ذَكَرْتُ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اِسْمًا أَعْجَمِيًّا تُرِكَ إِجْرَاؤُهُ فَفُتِحَ، كَمَا تَفْعَلُ اَلْعَرَبُ فِي أَسْمَاءِ اَلْعَجَمِ‏.‏

أَوْ يَكُونُ نَعْتًا لَهُ، فَيَكُونُ أَيْضًا خَفْضًا بِمَعْنَى تَكْرِيرِ اَللَّامِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مَخْرَجَ ‏"‏أَحْمَر‏"‏ وَ‏"‏ أَسْوَدَ ‏"‏ تُرِكَ إِجْرَاؤُهُ، وَفُعِلَ بِهِ كَمَا يُفْعَلُ بِأَشْكَالِهِ‏.‏ فَيَكُونُ تَأْوِيلُ اَلْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ اَلزَّائِغِ‏:‏ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً‏.‏

وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِجْهَةٌ فِي اَلصَّوَابِ إِلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ اَلْوَجْهَيْنِ، فَأَوْلَى اَلْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ مِنْهُمَا عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ هُوَ اِسْمُ أَبِيهِ ‏"‏، لِأَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَبُوهُ، وَهُوَ اَلْقَوْلُ اَلْمَحْفُوظُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ اَلْعِلْمِ، دُونَ اَلْقَوْلِ اَلْآخَرِ اَلَّذِي زَعَمَ قَائِلُهُ أَنَّهُ نَعْتٌ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَإِنَّ أَهْلَ اَلْأَنْسَابِ إِنَّمَا يَنْسُبُونَ إِبْرَاهِيمَ إِلَى ‏"‏تَارَحَ ‏"‏، فَكَيْفَ يَكُون‏"‏ آزَرُ ‏"‏اِسْمًا لَهُ، وَالْمَعْرُوفُ بِهِ مِنَ اَلِاسْم‏"‏ تَارَحُ ‏"‏‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ غَيْرُ مُحَالٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ اِسْمَانِ، كَمَا لِكَثِيرٍ مِنَ اَلنَّاسِ فِي دَهْرِنَا هَذَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ‏.‏ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَقَبًا يُلَقَّبُ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ قِيلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ آزَرَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً‏}‏ ‏"‏، تَعْبُدُهَا وَتَتَّخِذُهَا رَبًّا دُونَ اَللَّهِ اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ وَرَزَقَكَ‏؟‏

وَ ‏"‏اَلْأَصْنَامُ ‏"‏‏:‏ جَمْع‏"‏ صَنَمٍ ‏"‏، وَ‏"‏ اَلصَّنَمُ ‏"‏اَلتِّمْثَالُ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، وَهُو‏"‏ اَلْوَثَنُ ‏"‏‏.‏ وَقَدْ يُقَالُ لِلصُّورَةِ اَلْمُصَوَّرَةِ عَلَى صُورَةِ اَلْإِنْسَانِ فِي اَلْحَائِطِ وَغَيْرِهِ‏:‏ ‏"‏صَنَم‏"‏ وَ‏"‏ وَثَنٌ ‏"‏‏.‏

‏"‏ ‏{‏إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ ‏"‏إِنِّي أَرَاكَ ‏"‏، يَا آزَرُ، ‏"‏ وَقَوْمَك‏"‏ اَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَعَكَ اَلْأَصْنَامَ وَيَتَّخِذُونَهَا آلِهَةً ‏"‏ فِي ضَلَالٍ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فِي زَوَالٍ عَنْ مَحَجَّةِ اَلْحَقِّ، وَعُدُولٍ عَنْ سَبِيلِ اَلصَّوَابِ ‏"‏ ‏{‏مُبِينٍ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ يَتَبَيَّنُ لِمَنْ أَبْصَرَهُ أَنَّهُ جَوْرٌ عَنْ قَصْدِ اَلسَّبِيلِ، وَزَوَالٌ عَنْ مَحَجَّةِ اَلطَّرِيقِ اَلْقَوِيمِ‏.‏ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ضَلَّ هُوَ وَهُمْ عَنْ تَوْحِيدِ اَللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، اَلَّذِي اِسْتَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إِخْلَاصَ اَلْعِبَادَةِ لَهُ بِآلَائِهِ عِنْدَهُمْ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ اَلْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ‏.‏