فصل: تَفْسِيرُ السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْأَعْرَافُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تَفْسِيرُ السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْأَعْرَافُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏المص‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏المص‏)‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنَا اللَّهُ أَفْضَلُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏المص‏)‏، أَنَا اللَّهُ أَفْضَلُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏المص‏)‏، أَنَا اللَّهُ أَفْضَلُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ هِجَاءُ حُرُوفِ اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِي هُوَ “ الْمُصَوِّرُ “‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏المص‏)‏، قَالَ‏:‏ هِيَ هِجَاءُ “ الْمُصَوِّرِ “‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، أَقْسَمَ رَبُّنَا بِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏المص‏)‏، قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏المص‏)‏، قَالَ‏:‏ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ حُرُوفُ هِجَاءٍ مُقَطَّعَةٌ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ حُرُوفٌ تَحْوِي مَعَانِيَ كَثِيرَةً، دَلَّ اللَّهُ بِهَا خَلْقَهُ عَلَى مُرَادِهِ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ حُرُوفُ اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ ذَلِكَ بِالرِّوَايَةِ فِيهِ، وَتَعْلِيلَ كُلِّ فَرِيقٍ قَالَ فِيهِ قَوْلًا‏.‏ وَمَا الصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، بِشَوَاهِدِهِ وَأَدِلَّتِهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَذَا الْقُرْآنُ، يَا مُحَمَّدُ، كِتَابٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ‏.‏

وَرَفَعَ “ الْكِتَابَ “ بِتَأْوِيلِ‏:‏ هَذَا كِتَابٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ، يَا مُحَمَّدُ، مِنَ الْإِنْذَارِ بِهِ مَنْ أَرْسَلْتُكَ لِإِنْذَارِهِ بِهِ، وَإِبْلَاغِهِ مَنْ أَمَرْتُكَ بِإِبْلَاغِهِ إِيَّاهُ، وَلَا تَشُكَّ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي، وَاصْبِرْ لِلْمُضِيِّ لِأَمْرِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ طَاعَتِهِ فِيمَا كَلَّفَكَ وَحَمَّلَكَ مِنْ عِبْءِ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ، كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ‏.‏

وَ“ الْحَرَجُ تَعْرِيفُهُ “، هُوَ الضِّيقُ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ وَأَدِلَّتِهِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏ضَيِّقًا حَرَجًا‏)‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 125‏]‏، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَقَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ‏)‏، قَالَ‏:‏ لَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ‏)‏، قَالَ‏:‏ شَكٌّ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ‏)‏، شَكٌّ مِنْهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ‏)‏، قَالَ‏:‏ أَمَّا “ الْحَرَجُ “، فَشَكٌّ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ شَكٌّ مِنَ الْقُرْآنِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنَ التَّأْوِيلِ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، هُوَ مَعْنَى مَا قُلْنَا فِي “ الْحَرَجِ “؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِيهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ بِهِ، وَقِلَّةِ الِاتِّسَاعِ لِتَوْجِيهِهِ وُجْهَتَهُ الَّتِي هِيَ وُجْهَتُهُ الصَّحِيحَةُ‏.‏ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْعِبَارَةَ عَنْهُ بِمَعْنَى “ الضِّيقِ “؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا قَدْ بَيَّنَاهُ قَبْلُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، لِتُنْذِرَ بِهِ مَنْ أَمَرْتُكَ بِإِنْذَارِهِ، ‏(‏وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ‏)‏ وَهُوَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ‏.‏ وَمَعْنَاهُ‏:‏ “ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ “، وَ“ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ “، “ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ “‏.‏

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، كَانَ مَوْضِعُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَذِكْرَى‏)‏ نَصْبًا، بِمَعْنَى‏:‏ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْكِتَابَ لِتُنْذِرَ بِهِ، وَتُذَكِّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

وَلَوْ قِيلَ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ هَذَا كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، أَنْ تُنْذِرَ بِهِ، وَتُذَكِّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ قَوْلًا غَيْرَ مَدْفُوعَةٍ صِحَّتُهُ‏.‏

وَإِذَا وُجِّهَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ، كَانَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَذِكْرَى‏)‏ مِنَ الْإِعْرَابِ وَجْهَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ النَّصْبُ بِالرَّدِّ عَلَى مَوْضِعِ “ لِتُنْذِرَ بِهِ “‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ الرَّفْعُ، عَطْفًا عَلَى “ الْكِتَابِ “، كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ “ المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ “، وَ“ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ “‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ‏:‏ اتَّبِعُوا، أَيُّهَا النَّاسُ، مَا جَاءَكُمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَاعْمَلُوا بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا شَيْئًا مِنْ دُونِهِ يَعْنِي‏:‏ شَيْئًا غَيْرَ مَا أَنْزَلَ إِلَيْكُمْ رَبُّكُمْ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تَتَّبِعُوا أَمْرَ أَوْلِيَائِكُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَكُمْ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهُمْ يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَهْدُونَكُمْ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قُلْتَ‏:‏ “ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ قُلِ اتَّبِعُوا “، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَوْجُودًا ذِكْرُ الْقَوْلِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا صَرِيحًا، فَإِنَّ فِي الْكَلَامِ دَلَالَةً عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ‏}‏، فَفِي قَوْلِهِ‏:‏ “ لِتُنْذِرَ بِهِ “، الْأَمْرُ بِالْإِنْذَارِ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ، الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ قَوْلٌ‏.‏ فَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ أَنْذِرِ الْقَوْمَ وَقُلْ لَهُمْ‏:‏ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ‏.‏

وَلَوْ قِيلَ مَعْنَاهُ‏:‏ لِتُنْذِرَ بِهِ وَتُذَكِّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَقُولَ لَهُمْ‏:‏ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ كَانَ غَيْرَ مَدْفُوعٍ‏.‏

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏اتَّبِعُوا‏)‏، خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْنَاهُ‏:‏ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، اتَّبِعْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الطَّلَاقِ‏:‏ 1‏]‏، إِذِ ابْتَدَأَ خِطَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَعَلَ الْفِعْلَ لِلْجَمِيعِ، إِذْ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ نَبِيَّهُ بِأَمْرٍ، أَمْرًا مِنْهُ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ يُفْرَدُ بِالْخِطَابِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ وَجَمَاعَةُ أَتْبَاعِهِ أَوْ عَشِيرَتُِهُ وَقَبِيلَتُهُ‏:‏ “ أَمَا تَتَّقُونَ اللَّهَ، أَمَا تَسْتَحْيُونَ مِنَ اللَّهِ‏!‏ “، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ‏.‏

وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَجْهًا غَيْرَ مَدْفُوعٍ، فَالْقَوْلُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ أَوْلَى بِمَعْنَى الْكَلَامِ، لِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ الَّذِي وَصَفْنَا عَلَيْهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ قَلِيلًا مَا تَتَّعِظُونَ وَتَعْتَبِرُونَ فَتُرَاجِعُونَ الْحَقَّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ حَذِّرْ هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ غَيْرِي، وَالْعَادِلِينَ بِي الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ، سَخَطِي لَا أُحِلُّ بِهِمْ عُقُوبَتِي فَأُهْلِكُهُمْ، كَمَا أَهْلَكْتُ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، فَكَثِيرًا مَا أَهْلَكْتُ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ قُرًى عَصَوْنِي وَكَذَّبُوا رُسُلِي وَعَبَدُوا غَيْرِي ‏(‏فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا‏)‏، يَقُولُ‏:‏ فَجَاءَتْهُمْ عُقُوبَتُنَا وَنِقْمَتُنَا لَيْلًا قَبْلَ أَنْ يُصْبِحُوا أَوْ جَاءَتْهُمْ “ قَائِلِينَ “، يَعْنِي‏:‏ نَهَارًا فِي وَقْتِ الْقَائِلَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ “ وَكَمْ “ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ مَا وَصَفْتُ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ كَثْرَةِ مَا قَدْ أَصَابَ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ مِنَ الْمَثُلَاثِ، بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ وَخِلَافِهِمْ عَلَيْهِ‏.‏ وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ إِذَا أَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ‏:‏

كَمْ عَمَّةٍ لَكَ يَا جَرِيرُ وَخَالَةٍ *** فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَيَّ عِشَارِي

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ “ أَهْلَكَ قُرًى “، فَمَا فِي خَبَرِهِ عَنْ إِهْلَاكِهِ “ الْقُرَى “ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى إِهْلَاكِهِ أَهْلَهَا‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ “ الْقُرَى “ لَا تُسَمَّى “ قُرًى “ وَلَا “ الْقَرْيَةَ “ “ قَرْيَةً “، إِلَّا وَفِيهَا مَسَاكِنُ لِأَهْلِهَا وَسُكَّانٌ مِنْهُمْ، فَفِي إِهْلَاكِهَا إِهْلَاكُ مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِهَا‏.‏

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَرَى أَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ “ الْقَرْيَةِ “، وَالْمُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِالْحَقِّ، لِمُوَافَقَتِهِ ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ الْمَتْلُوِّ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ‏}‏‏؟‏ وَهَلْ هَلَكَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا بِمَجِيءِ بَأْسِ اللَّهِ وَحُلُولِ نِقْمَتِهِ وَسَخَطِهِ بِهَا‏؟‏ فَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ “ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا “‏؟‏ وَإِنْ كَانَ مَجِيءُ بَأْسِ اللَّهِ إِيَّاهَا بَعْدَ هَلَاكِهَا، فَمَا وَجْهُ مَجِيءِ ذَلِكَ قَوْمًا قَدْ هَلَكُوا وَبَادُوا، وَلَا يَشْعُرُونَ بِمَا يَنْزِلُ بِهِمْ وَلَا بِمَسَاكِنِهِمْ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ لِذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ وَجْهَيْنِ، كِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَاضِحٌ مَنْهَجُهُ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ “ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا “، بِخِذْلَانِنَا إِيَّاهَا عَنِ اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلْنَا إِلَيْهَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَاخْتِيَارِهَا اتِّبَاعَ أَمْرِ أَوْلِيَائِهَا الْمُغْوِيَتِهَا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهَا “ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا “ إِذْ فَعَلَتْ ذَلِكَ “ بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ “، فَيَكُونُ “ إِهْلَاكُ اللَّهِ إِيَّاهَا “، خِذْلَانَهُ لَهَا عَنْ طَاعَتِهِ، وَيَكُونُ “ مَجِيءُ بَأْسِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ “، جَزَاءً لِمَعْصِيَتِهِمْ رَبِّهِمْ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ‏.‏

وَالْآخَرُ مِنْهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ “ الْإِهْلَاكُ “ هُوَ “ الْبَأْسُ “ بِعَيْنِهِ، فَيَكُونُ فِي ذِكْرِ “ الْإِهْلَاكِ “ الدَّلَالَةُ عَلَى ذِكْرِ “ مَجِيْءِ الْبَأْسِ “، وَفِي ذِكْرِ “ مَجِيْءِ الْبَأْسِ “ الدَّلَالَةُ عَلَى ذِكْرِ “ الْإِهْلَاكِ “‏.‏

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ سَوَاءً عِنْدَ الْعَرَبِ، بُدِئَ بِالْإِهْلَاكِ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْبَأْسِ، أَوْ بُدِئَ بِالْبَأْسِ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْإِهْلَاكِ‏.‏ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ “ زُرْتَنِي فَأَكْرَمْتَنِي “، إِذْ كَانَتِ “ الزِّيَارَةُ “ هِيَ “ الْكَرَامَةُ “، فَسَوَاءً عِنْدَهُمْ قَدَّمَ “ الزِّيَارَةَ “ وَأَخَّرَ “ الْكَرَامَةَ “، أَوْ قَدَّمَ “ الْكَرَامَةَ “ وَأَخَّرَ “ الزِّيَارَةَ “ فَقَالَ‏:‏ “ أَكْرَمْتَنِي فَزُرْتَنِي “‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ صَحِيحًا، وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا، فَكَانَ مَجِيءُ بَأْسِنَا إِيَّاهَا قَبْلَ إِهْلَاكِنَا‏.‏ وَهَذَا قَوْلٌ لَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ ظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ، وَلَا مَنْ خَبَّرَ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ‏.‏ وَإِذَا خَلَا الْقَوْلُ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، كَانَ بَيِّنًا فَسَادُهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرٌ مِنْهُمْ أَيْضًا‏:‏ مَعْنَى “ الْفَاءِ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى “ الْوَاوِ “‏.‏ وَقَالَ‏:‏ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا، وَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا‏.‏ وَهَذَا قَوْلٌ لَا مَعْنًى لَهُ، إِذْ كَانَ لِـ “ الْفَاءِ “ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْحُكْمِ مَا لَيْسَ لِلْوَاوِ فِي الْكَلَامِ، فَصَرْفُهَا إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ مَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ، مَا وُجِدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، أُولَى مِنْ صَرْفِهَا إِلَى غَيْرِهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ‏}‏، وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ شَأْنِ “ أَوْ “ فِي الْكَلَامِ، اِجْتِلَابُ الشَّكِّ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِي خَبَرِ اللَّهِ شَكٌّ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ خِلَافُ مَا إِلَيْهِ ذَهَبْتَ‏.‏ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَ بَعْضَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا، وَبَعْضَهَا وَهُمْ قَائِلُونَ‏.‏ وَلَوْ جُعِلَ مَكَانَ “ أَوْ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ “ الْوَاوُ “، لَكَانَ الْكَلَامُ كَالْمُحَالِ، وَلَصَارَ الْأَغْلَبُ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ أَنَّ الْقَرْيَةَ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ جَاءَهَا بَأْسُهُ بَيَاتًا وَفِي وَقْتِ الْقَائِلَةِ‏.‏ وَذَلِكَ خَبَرٌ عَنِ الْبَأْسِ أَنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، وَأَفْنَى مَنْ قَدْ فَنِيَ‏.‏ وَذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ خَلْفٌ‏.‏ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ التَّنْـزِيلُ، إِذْ لَمْ يَفْصِلِ الْقُرَى الَّتِي جَاءَهَا الْبَأْسُ بَيَاتًا، مِنَ الْقُرَى الَّتِي جَاءَهَا ذَلِكَ قَائِلَةً‏.‏ وَلَوْ فُصِلَتْ، لَمْ يُخْبِرْ عَنْهَا إِلَّا بِالْوَاوِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ “ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا “ خَبَرًا عَنِ “ الْقَرْيَةِ “ أَنَّ الْبَأْسَ أَتَاهَا، وَأَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى مَا اُبْتُدِئَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ‏.‏ وَلَوْ قِيلَ‏:‏ “ فَجَاءَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا “، لَكَانَ صَحِيحًا فَصِيحًا، رَدًّا لِلْكَلَامِ إِلَى مَعْنَاهُ، إِذْ كَانَ الْبَأْسُ إِنَّمَا قَصَدَ بِهِ سُكَّانَ الْقَرْيَةِ دُونَ بُنْيَانِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ نَالَ بُنْيَانِهَا وَمَسَاكِنِهَا مِنَ الْبَأْسِ بِالْخَرَابِ، نَحْوٌ مِنَ الَّذِي نَالَ سُكَّانُهَا‏.‏ وَقَدْ رَجَعَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَوْ هُمْ قَائِلُونَ‏)‏، إِلَى خُصُوصِ الْخَبَرِ عَنْ سُكَّانِهَا دُونَ مَسَاكِنِهَا، لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَأْسِ كَانَ السُّكَّانَ، وَإِنْ كَانَ فِي هَلَاكِهِمْ هَلَاكُ مَسَاكِنِهِمْ وَخَرَابِهَا‏.‏

وَلَوْ قِيلَ‏:‏ “ أَوْ هِيَ قَائِلَةٌ “، كَانَ صَحِيحًا، إِذْ كَانَ السَّامِعُونَ قَدْ فَهِمُوا الْمُرَادَ مِنَ الْكَلَامِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ أَوَ لَيْسَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏أَوْ هُمْ قَائِلُونَ‏)‏، خَبَرًا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي أَتَاهُمْ فِيهِ بَأْسُ اللَّهِ مِنَ النَّهَارِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ بَلَى‏!‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ أَوَ لَيْسَ الْمَوَاقِيتُ فِي مِثْلِ هَذَا تَكُونُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِالْوَاوِ الدَّالِّ عَلَى الْوَقْتِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَحْذِفُونَ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعَ، اِسْتِثْقَالًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفِيِّ عَطْف، إِذْ كَانَ “ أَوْ “ عِنْدَهُمْ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَكَذَلِكَ “ الْوَاوُ “، فَيَقُولُونَ‏:‏ “ لَقِيتَنِي مُمْلِقًا أَوْ أَنَا مُسَافِرٌ “، بِمَعْنَى‏:‏ أَوْ وَأَنَا مُسَافِرٌ، فَيَحْذِفُونَ “ الْوَاوَ “ وَهُمْ مُرِيدُوهَا فِي الْكَلَامِ لِمَا وَصَفَتْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَلَمْ يَكُنْ دَعْوَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا، إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا وَسَطْوَتُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ، إِلَّا اِعْتِرَافَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ مُسِيئِينَ، وَبِرَبِّهِمْ آثِمِينَ، وَلِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مُخَالِفِينَ‏.‏

وَعَنَى بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏دَعْوَاهُمْ‏)‏، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دُعَاءَهُمْ‏.‏

وَلِـ “ الدَّعْوَى “، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ الدُّعَاءُ، وَالْآخَرُ‏:‏ الِادِّعَاءُ لِلْحَقِّ‏.‏

وَمِنَ “ الدَّعْوَى “ الَّتِي مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ، قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏(‏فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ‏)‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 15‏]‏، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

وَإِنْ مَـذِلَتْ رِجْـلِي دَعَـوْتُكِ أَشْـتَفِي *** بِدَعْـوَاكِ مِـنْ مَـذْلٍ بِهَـا فَيَهُـونُ

وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ “ الْبَأْسَ “ وَ“ الْبَأْسَاءَ “ الشِّدَّةُ، بِشَوَاهِدِ ذَلِكَ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ “ «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِم» “‏.‏

وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ بَعْضُهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ الزَّرَّادِ قَالَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏:‏ مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِم»- قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ‏:‏ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏‏؟‏ وَكَيْفَ أَمْكَنَتْهُمُ الدَّعْوَى بِذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَهُمْ بَأْسُ اللَّهِ بِالْهَلَاكِ‏؟‏ أَقَالُوا ذَلِكَ قَبْلَ الْهَلَاكِ‏؟‏ فَإِنْ كَانُوا قَالُوهُ قَبْلَ الْهَلَاكِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْبَأْسِ، وَاَللَّهُ يُخْبِرُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ حِينَ جَاءَهُمْ، لَا قَبْلَ ذَلِكَ‏؟‏ أَوْ قَالُوهُ بَعْدَ مَا جَاءَهُمْ، فَتِلْكَ حَالَةٌ قَدْ هَلَكُوا فِيهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُهُمْ بِقَبْلِ ذَلِكَ إِذَا عَايَنُوا بَأْسَ اللَّهِ وَحَقِيقَةَ مَا كَانَتِ الرُّسُلُ تَعِدُهُمْ مِنْ سَطْوَةِ اللَّهِ‏؟‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ لَيْسَ كُلُّ الْأُمَمِ كَانَ هَلَاكُهَا فِي لَحْظَةٍ لَيْسَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ مَهَلٌ، بَلْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ غَرِقَ بِالطُّوفَانِ‏.‏ فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ ظُهُورِ السَّبَبِ الَّذِي عَلِمُوا أَنَّهُمْ بِهِ هَالِكُونَ، وَبَيْنَ آخِرِهِ الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ هَلَاكُهُ، الْمُدَّةُ الَّتِي لَا خَفَاءَ بِهَا عَلَى ذِي عَقْلٍ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ مُتِّعَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ ظُهُورِ عَلَامَةِ الْهَلَاكِ لِأَعْيُنِهِمْ أَيَّامًا ثَلَاثَةً، كَقَوْمِ صَالِحٍ وَأَشْبَاهِهِمْ‏.‏ فَحِينَئِذٍ لَمَّا عَايَنُوا أَوَائِلَ بَأْسِ اللَّهِ الَّذِي كَانَتْ رُسُلُ اللَّهِ تَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ، وَأَيْقَنُوا حَقِيقَةَ نُـُزولِ سَطْوَةِ اللَّهِ بِهِمْ، دَعَوْا‏:‏ ‏(‏يَا وَيْلنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ‏)‏، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ مَعَ مَجِيءِ وَعِيدِ اللَّهِ وَحُلُولِ نِقْمَتِهِ بِسَاحَتِهِمْ‏.‏ فَحَذَّرَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ نَبِيَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَطْوَتِهِ وَعِقَابِهِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ، مَا حَلَّ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ إِذْ عَصَوْا رُسُلَهُ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لَنَسْأَلَنَّ الْأُمَمَ الَّذِينَ أَرْسَلْتُ إِلَيْهِمْ رُسُلِي‏:‏ مَاذَا عَمِلَتْ فِيمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ عِنْدِي مِنْ أَمْرِي وَنَهْيِي‏؟‏ هَلْ عَمِلُوا بِمَا أَمَرْتُهُمْ بِهِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَيْتُهُمْ عَنْهُ، وَأَطَاعُوا أَمْرِي، أَمْ عَصَوْنِي فَخَالَفُوا ذَلِكَ‏؟‏ ‏(‏وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَنَسْأَلَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَى الْأُمَمِ‏:‏ هَلْ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَاتِي، وَأَدَّتْ إِلَيْهِمْ مَا أَمَرَتْهُمْ بِأَدَائِهِ إِلَيْهِمْ، أَمْ قَصَّرُوا فِي ذَلِكَ فَفَرَّطُوا وَلَمْ يُبَلِّغُوهُمْ‏؟‏‏.‏

وَكَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ يَتَأَوَّلُونَهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَسْأَلُ اللَّهُ النَّاسَ عَمَّا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ، وَيَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَمَّا بَلَّغُوا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏غَائِبِينَ‏)‏، قَالَ‏:‏ يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ‏}‏، يَقُولُ فَلَنَسْأَلَنَّ الْأُمَمَ‏:‏ مَا عَمِلُوا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ‏؟‏ وَلَنَسْأَلَنَّ الرُّسُلَ‏:‏ هَلْ بَلَّغُوا مَا أُرْسِلُوا بِهِ‏؟‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ، قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏، الْأُمَمَ وَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أَرْسَلَنَا إِلَيْهِمْ عَمَّا اِئْتَمَنَّاهُمْ عَلَيْهِ‏:‏ هَلْ بَلَّغُوا‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَلَنُخْبِرَنَّ الرُّسُلَ وَمَنْ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَيْهِ بِيَقِينِ عِلْمٍ بِمَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا فِيمَا كُنْتُ أَمَرْتُهُمْ بِهِ، وَمَا كُنْتُ نَهَيْتُهُمْ عَنْهُ “ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ “، عَنْهُمْ وَعَنْ أَفْعَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ يَسْأَلُ الرُّسُلَ، وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ يُخْبِرُ أَنَّهُ يَقُصُّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ بِأَعْمَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فِي ذَلِكَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى، ذِكْرُهُ لَيْسَ بِمَسْأَلَةِ اِسْتِرْشَادٍ، وَلَا مَسْأَلَةِ تَعَرُّفٍ مِنْهُمْ مَا هُوَ بِهِ غَيْرُ عَالِمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيرٍ مَعْنَاهَا الْخَبَرُ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ‏:‏ “ أَلَمْ أُحْسِنُ إِلَيْكَ فَأَسَأْتَ‏؟‏ “، وَ“ أَلَمْ أَصِلْكَ فَقَطَعْتَ‏؟‏ “‏.‏ فَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ اللَّهِ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ‏:‏ “ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلِي بِالْبَيِّنَاتِ‏؟‏ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكُمُ النُّذُرَ فَتُنْذِرَكُمْ عَذَابِي وَعِقَابِي فِي هَذَا الْيَوْمِ مَنْ كَفَرَ بِي وَعَبَدَ غَيْرِي “‏؟‏ كَمَا أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ قَائِلٌ لَهُمْ يَوْمئِذٍ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اُعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏،

‏[‏سُورَةُ يس‏:‏ 61‏]‏، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ مَسْأَلَةٍ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ وَالْقَصَصُ، وَهُوَ بَعْدُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيرٍ‏.‏

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ قَصَصٌ وَخَبَرٌ، فَإِنَّ الْأُمَمَ الْمُشْرِكَةَ لِمَا سُئِلَتْ فِي الْقِيَامَةِ قِيلَ لَهَا‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ‏}‏‏؟‏ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَقَالُوا‏:‏ “ ‏{‏مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ‏}‏ “‏.‏ فَقِيلَ لِلرُّسُلِ‏:‏ “ هَلْ بَلَّغْتُمْ مَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ “‏؟‏ أَوْ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ “ أَلَمْ تُبَلِّغُوا إِلَى هَؤُلَاءِ مَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ‏؟‏ “، كَمَا جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِأُمَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 143‏]‏‏.‏ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ مَسْأَلَةٌ لِلرُّسُلِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِشْهَادِ لَهُمْ عَلَى مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْأُمَمِ، وَلِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْقَصَصِ وَالْخَبَرِ‏.‏

فَأَمَّا الَّذِي هُوَ عَنِ اللَّهِ مَنْفِيٌّ مِنْ مَسْأَلَتِهِ خَلْقَهُ، فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ اِسْتِرْشَادٍ وَاسْتِثْبَاتٍ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ السَّائِلُ عَنْهَا وَيَعْلَمُهُ الْمَسْؤُولُ، لِيُعُلِمَ السَّائِلَ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ، فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِهِ، لِأَنَّهُ الْعَالِمُ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا وَفِي حَالِ كَوْنِهَا وَبَعْدَ كَوْنِهَا، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَفَاهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الرَّحْمَنِ‏:‏ 39‏]‏، وَبِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْقَصَصِ‏:‏ 78‏]‏، يَعْنِي‏:‏ لَا يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُسْتَثْبِتٌ، لِيَعْلَمَ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ مَنْ سَأَلَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ الْعَالِمُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَبِكُلِّ شَيْءٍ غَيْرِهِ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنَ الْخَبَرِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ‏)‏، أَنَّهُ يُنْطِقُ لَهُمْ كُتَّابُ عَمَلِهِمْ عَلَيْهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ‏.‏

هَذَا قَوْلٌ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الْحَقِّ، غَيْرَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْخَبَرِ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٍ، فَيَقُولُ لَهُ‏:‏ “ أَتَذْكُرُ يَوْمَ فَعَلْتَ كَذَا وَفَعَلْتَ كَذَا “‏؟‏ حَتَّى يُذَكِّرُهُ مَا فَعَلَ فِي الدُّنْيَا» وَالتَّسْلِيمُ لِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَولَى مِنَ التَّسْلِيمِ لِغَيْرِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ “ الْوَزْنُ “ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “ وَزَنْتُ كَذَا وَكَذَا أَزِنُهُ وَزْنًا وَزِنَةً “، مِثْلَ‏:‏ “ وَعَدْتُهُ أَعِدُهُ وَعْدًا وَعِدَةً “‏.‏

وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِـ “ الْحَقُّ “، وَ“ الْحَقُّ “ بِهِ‏.‏

وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَالْوَزْنُ يَوْمَ نَسْأَلُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَالْمُرْسَلِينَ، الْحَقُّ وَيَعْنِي بِـ “ الْحَقُّ “، الْعَدْلَ‏.‏

وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ‏:‏ “ الْوَزْنُ “، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْقَضَاءُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ “ وَالْوَزْنُ يَوْمئِذٍ “، الْقَضَاءُ‏.‏

وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا‏:‏ مَعْنَى “ الْحَقُّ “، هَاهُنَا، الْعَدْلُ‏.‏

ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْعَدْلُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ‏}‏، وَزْنُ الْأَعْمَالِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ‏}‏، تُوزَنُ الْأَعْمَالُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ‏:‏ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْعَظِيمِ الطَّوِيلِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ، فَلَا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَالَ عُبَيْدُ بْنِ عُمَيْرٍ‏:‏ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الطَّوِيلِ الْعَظِيمِ فَلَا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ مُوسَى، عَنْ بِلَالِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ صَاحِبُ الْمَوَازِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ‏:‏ يَا جِبْرِيلُ، زِنْ بَيْنَهُمْ‏!‏ فَرَدَّ مِنْ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَيْسَ ثَمَّ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِنْ كَانَ لِلظَّالِمِ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَتُرَدُّ عَلَى الْمَظْلُومِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ حُمِلَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَيَرْجِعُ الرَّجُلُ وعَلَيْهِ مِثْلَ الْجِبَالِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ‏}‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ فَمَنْ كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ حَسَنَاتُهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ الَّتِي تُوزَنُ بِهَا حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَذَلِكَ هُوَ “ الْمِيزَانُ “ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ، لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِنَّا نَرَى مِيزَانًا وَكِفَّتَيْنِ، سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ‏:‏ يُجْعَلُ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ الطَّوِيلُ فِي الْمِيزَانِ، ثُمَّ لَا يَقُومُ بِجَنَاحِ ذُبَابٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، مِنْ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ “ الْمِيزَانُ “ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ، وَأَنَّاللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَزِنُ أَعْمَالَ خَلْقِهِ الْحَسَنَاتِ مِنْهَا وَالسَّيِّئَاتِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ‏}‏، مَوَازِينُ عَمَلِهِ الصَّالِحِ ‏(‏فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ فَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ ظَفِرُوا بِالنَّجَاحِ، وَأَدْرَكُوا الْفَوْزَ بِالطَّلَبَاتِ، وَالْخُلُودَ وَالْبَقَاءَ فِي الْجَنَّاتِ، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ “ «مَا وُضِعَ فِي الْمِيزَانِ شَيْءٌ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُق» “، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تُحَقِّقُ أَنَّ ذَلِكَ مِيزَانٌ يُوزَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ، عَلَى مَا وَصَفْتُ‏.‏

فَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ جَاهِلٌ بِتَوْجِيهِ مَعْنَى خَبَرِ اللَّهِ عَنِ الْمِيزَانِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، وِجْهَتَهُ، وَقَالَ‏:‏ أَوَ بِاَللَّهِ حَاجَةٌ إِلَى وَزْنِ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ الْعَالِمُ بِمِقْدَارِ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ خَلْقِهِ إِيَّاهُ وَبَعْدَهُ، وَفِي كُلِّ حَالٍ‏؟‏ أَوْ قَالَ‏:‏ وَكَيْفَ تُوزَنُ الْأَعْمَالُ، وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ بِأَجْسَامٍ تُوصَفُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَإِنَّمَا تُوزَنُ الْأَشْيَاءُ لِيُعْرَفَ ثِقَلُهَا مَنْ خِفْتِهَا، وَكَثْرَتُهَا مَنْ قِلَّتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُوصَفُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ‏؟‏

قِيلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ وَمَا وَجْهُ وَزْنِ اللَّهِِ الْأَعْمَالَ، وَهُوَ الْعَالِمُ بِمَقَادِيرِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا “‏:‏ وَزْنُ ذَلِكَ، نَظِيرُ إِثْبَاتِهِ إِيَّاهُ فِي أمِّ الْكِتَابِ وَاسْتِنْسَاخِهِ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إِلَيْهِ، وَمِنْ غَيْرِ خَوْفٍ مِنْ نِسْيَانِهِ، وَهُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ وَوَقْتٍ قَبْلَ كَوْنِهِ وَبَعْدَ وُجُودِهِ، بَلْ لِيَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنْـزِيلِهِ‏:‏ ‏{‏كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْجَاثِيَةِ‏:‏ 29‏]‏ الْآيَةَ‏.‏ فَكَذَلِكَ وَزْنُهُ تَعَالَى أَعْمَالَ خَلْقِهِ بِالْمِيزَانِ، حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ، إِمَّا بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَتِهِ وَالتَّضْيِيعِ، وَإِمَّا بِالتَّكْمِيلِ وَالتَّتْمِيمِ‏.‏

وَأَمَّا وَجْهُ جَوَازِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ الْإِفْرِيقِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْمِيزَانِ، فَيُوضَعُ فِي الْكِفَّةِ، فَيَخْرُجُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا فِيهَا خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ يَخْرُجُ لَهُ كِتَابٌ مِثْلُ الْأُنْمُلَةِ، فِيهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَتُوضَعُ فِي الْكِفَّةِ، فَتُرَجَّحُ بِخَطَايَاهُ وَذُنُوبِهِ‏.‏

فَكَذَلِكَ وَزَنَ اللَّهُ أَعْمَالَ خَلْقِهِ، بِأَنْ يُوضَعَ الْعَبْدُ وَكُتُبُ حَسَنَاتِهِ فِي كِفَّةٍ مِنْ كِفَّتَي الْمِيزَانِ، وَكُتُبُ سَيِّئَاتِهِ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى، وَيُحْدِثُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثِقَلًا وَخِفَّةً فِي الْكِفَّةِ الَّتِي الْمَوْزُونُ بِهَا أَوْلَى، اِحْتِجَاجًا مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ عَلَى خَلْقِهِ، كَفِعْلِهِ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ‏:‏ مِنَ اسْتِنْطَاقِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، اسْتِشْهَادًا بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ حُجَجِهِ‏.‏

وَيُسْأَلُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ يُثْقِلُ مَوَازِينَ قَوْمٍ فِي الْقِيَامَةِ، وَيُخَفِّفُ مَوَازِينَ آخَرِينَ، وَتَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ، فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ لَكَ إِنْكَارَ الْمِيزَانِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمِيزَانُ الَّذِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ، الَّذِي يُتَعَارَفُهُ النَّاسُ‏؟‏ أَحُجَّةُ عَقْلٍ تُبْعِدُ أَنْ يُنَالَ وَجْهَ صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ‏؟‏ وَلَيْسَ فِي وَزْنِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَلَقَهُ وَكَتَبَ أَعْمَالَهُمْ لِتَعْرِيفِهِمْ أَثْقَلَ الْقَسَمَيْنِ مِنْهَا بِالْمِيزَانِ، خُرُوجٌ مِنْ حِكْمَةٍ، وَلَا دُخُولٌ فِي جَوْرٍ فِي قَضِيَّةٍ، فَمَا الَّذِي أَحَالَ ذَلِكَ عِنْدَكَ مِنْ حُجَّةِ عَقْلٍ أَوْ خَبَرٍ‏؟‏ إِذْ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى حَقِيقَةِ الْقَوْلِ بِإِفْسَادِ مَا لَا يَدْفَعُهُ الْعَقْلُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ‏.‏ وَفِي عَدَمِ الْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ مِنْ هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ، وُضُوحُ فَسَادِ قَوْلِهِ، وَصِحَّةُ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِكْثَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْمِيزَانَ الَّذِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ، إِذْ كَانَ قَصْدُنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ‏:‏ الْبَيَانَ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ‏.‏ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَرَنَّا إِلَى مَا ذَكَرْنَا نَظَائِرَهُ، وَفِي الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، فَلَمْ تَثْقُلْ بِإِقْرَارِهِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ غَبَنُوا أَنْفُسَهُمْ حُظُوظَهَا مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ ‏(‏بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ بِمَا كَانُوا بِحُجَجِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ يَجْحَدُونَ، فَلَا يُقِرُّونَ بِصِحَّتِهَا، وَلَا يُوقِنُونَ بِحَقِيقَتِهَا، كَاَلَّذِي‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ حَسَنَاتُهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ “ فَأُولَئِكَ “، وَ“ مَنْ “ فِي لَفْظِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ‏.‏ وَلَوْ جَاءَ مُوَحَّدًا كَانَ صَوَابًا فَصِيحًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَقَدْ وَطَّأْنَا لَكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلْنَاهَا لَكُمْ قَرَارًا تَسْتَقِرُّونَ فِيهَا، وَمِهَادًا تَمْتَهِدُونَهَا، وَفِرَاشًا تَفْتَرِشُونَهَا ‏(‏‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ‏}‏، تَعِيشُونَ بِهَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ، مِنْ مَطَاعِمَ وَمَشَارِبَ، نِعْمَةً مِنِّي عَلَيْكُمْ، وَإِحْسَانًا مِنِّي إِلَيْكُمْ ‏(‏قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ وَأَنْتُمْ قَلِيلٌ شُكْرُكُمْ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمْتُهَا عَلَيْكُمْ لِعِبَادَتِكُمْ غَيْرِي، وَاتِّخَاذِكُمْ إِلَهًا سِوَايَ‏.‏

وَالْمَعَايِشُ‏:‏ جَمْعُ “ مَعِيشَةٍ “‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَتِهَا‏.‏

فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ‏:‏ ‏(‏مَعَايِشَ‏)‏ بِغَيْرِ هَمْزٍ‏.‏

وَقَرَأَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ‏:‏ “ مَعَائِشَ “ بِالْهَمْزِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا‏:‏ ‏(‏مَعَايِشَ‏)‏ بِغَيْرِ هَمْز، لِأَنَّهَا “ مَفَاعِلُ “ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ “ عِشْتَ تَعِيشُ “، فَالْمِيمُ فِيهَا زَائِدَةٌ، وَالْيَاءُ فِي الْحُكْمِ مُتَحَرِّكَةٌ، لِأَنَّ وَاحِدَهَا “ مَفْعَلَةٌ “، “ مَعْيَشَةٌ “، مُتَحَرِّكَةُ الْيَاءِ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْيَاءِ مِنْهَا إِلَى “ الْعَيْنِ “ فِي وَاحِدِهَا‏.‏ فَلَمَّا جُمِعَتْ، رُدَّتْ حَرَكَتُهَا إِلَيْهَا لِسُكُونِ مَا قَبِلَهَا وَتَحَرُّكِهَا‏.‏ وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ بِالْيَاءِ وَالْوَاوِ إِذَا سَكَنَ مَا قَبِلَهُمَا وَتَحَرَّكَتَا، فِي نَظَائِرِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي يَأْتِي عَلَى مِثَالِ “ مَفَاعِلَ “، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ مِنَ الْجَمْعِ عَلَى مِثَالِ “ فَعَائِلَ “ الَّتِي تَكُونُ الْيَاءُ فِيهَا زَائِدَةً لَيْسَتْ بِأَصْلٍ‏.‏ فَإِنَّ مَا جَاءَ مِنَ الْجَمْعِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ، فَالْعَرَبُ تَهْمِزُهُ، كَقَوْلِهِمْ‏:‏ “ هَذِهِ مَدَائِنُ “ وَ“ صَحَائِفُ “ وَنَظَائِرُهُمَا، لِأَنَّ “ مَدَائِنَ “ جَمْعُ “ مَدِينَةٍ “، وَ“ الْمَدِينَةُ “، “ فَعَيْلَةٌ “ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ “ مَدَّنْتُ الْمَدِينَةَ “، وَكَذَلِكَ، “ صَحَائِفُ “ جَمْعُ “ صَحِيفَةٍ “، وَ“ الصَّحِيفَةُ “، “ فَعَيْلَةٌ “ مِنْ قَوْلِك‏:‏ “ صَحَّفْتُ الصَّحِيفَةَ “، فَالْيَاءُ فِي وَاحِدِهَا زَائِدَةٌ سَاكِنَةٌ، فَإِذَا جُمِعَتْ هُمِزَتْ، لِخِلَافِهَا فِي الْجَمْعِ الْيَاءَ الَّتِي كَانَتْ فِي وَاحِدِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَاحِدِهَا سَاكِنَةٌ، وَهِيَ فِي الْجَمْعِ مُتَحَرِّكَةٌ‏.‏ وَلَوْ جَعَلْتَ “ مَدِينَةً “ “ مَفْعَلَةً “ مِنْ‏:‏ “ دَانَ يُدِينُ “، وَجَمَعْتَ عَلَى “ مَفَاعِلَ “، كَانَ الْفَصِيحُ تَرْكَ الْهَمْزِ فِيهَا‏.‏ وَتَحْرِيكُ الْيَاءِ‏.‏ وَرُبَّمَا هَمَزَتِ الْعَرَبُ جَمْعَ “ مَفْعَلَةٍ “ فِي ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ وَإِنْ كَانَ الْفَصِيحُ مِنْ كَلَامِهَا تَرَكَ الْهَمْزِ فِيهَا‏.‏ إِذَا جَاءَتْ عَلَى “ مَفَاعِلَ “ تَشْبِيهًا مِنْهُمْ جَمْعَهَا بِجَمْعِ “ فَعِيْلَةٍ “، كَمَا تُشَبِّهُ “ مَفْعَلًا “ “ بِفَعِيلٍ “ فَتَقُولُ‏:‏ “ مَسِيلُ الْمَاءِ “، مِنْ‏:‏ “ سَالَ يَسِيلُ “، ثُمَّ تَجْمَعُهَا جَمْعَ “ فَعِيلٍ “، فَتَقُولُ‏:‏ “ هِيَ أَمْسِلَةٌ “، فِي الْجَمْعِ، تَشْبِيهًا مِنْهُمْ لَهَا بِجَمْعِ “ بَعِيرٍ “ وَهُوَ “ فَعِيلٌ “، إِذْ تَجْمَعُهُ “ أَبْعِرَةً “‏.‏ وَكَذَلِكَ يُجْمَعُ “ الْمَصِيرُ “ وَهُوَ “ مَفْعِلٌ “، “ مُصْرَانٌ “ تَشْبِيهًا لَهُ بِجَمْعِ‏:‏ “ بَعِيرٍ “ وَهُوَ “ فَعِيلٌ “، إِذْ تَجْمَعُهُ “ بُعْرَانٌ “، وَعَلَى هَذَا هَمْزَ الْأَعْرَجُ “ مَعَايِشَ “‏.‏ وَذَلِكَ لَيْسَ بِالْفَصِيحِ فِي كَلَامِهَا، وَأَوْلَى مَا قُرِئَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ مِنَ الْأَلْسُنِ أَفْصَحُهَا وَأَعْرِفُهَا، دُونَ أَنْكَرِهَا وَأَشَذِّهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهمْ‏:‏ تَأْوِيلُ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ‏)‏، فِي ظَهْرِ آدَمَ، أَيُّهَا النَّاسُ ‏(‏ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏)‏، فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ‏.‏ خَلْقًا مَخْلُوقًا وَمِثَالًا مُمَثَّلًا فِي صُورَةِ آدَمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏خَلَقْنَاكُمْ‏)‏، يَعْنِي آدَمَ وَأَمَّا “ صَوَّرْنَاكُمْ “، فَذُرِّيَّتَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ أَمَّا “ خَلَقْنَاكُمْ “، فَآدَمُ‏.‏ وَأَمَّا “ صَوَّرْنَاكُمْ “، فَذُرِّيَّةُ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ آدَمَ ‏(‏ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ فِي الْأَرْحَامِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، أَخْبَرْنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ خَلَقْنَاكُمْ خَلْقَ آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ خَلَقْنَا آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَا الذُّرِّيَّةَ فِي الْأَرْحَامِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ “ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ “، فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ‏:‏ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عِظَامًا، ثُمَّ كَسَا الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ مُشَارِسٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ‏:‏ ‏{‏خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ ذُرِّيَّتُهُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرْنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ‏)‏، يَعْنِي آدَمَ ‏(‏ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ ذُرِّيَّتَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ “ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ “، فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ “ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ “، فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيْكٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ خَلَقْنَاكُمْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَصَوَّرْنَاكُمْ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقْرَأُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ خَلَقْنَاكُمْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏خَلَقْنَاكُمْ‏)‏، يَعْنِي آدَمَ ‏(‏ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏)‏، يَعْنِي فِي ظَهْرِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ‏)‏، قَالَ‏:‏ آدَمَ ‏(‏ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏)‏، قَالَ‏:‏ فِي ظَهْرِ آدَمَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، فِي ظَهْرِ آدَمَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ صَوَّرْنَاكُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ فِي ظَهْرِ آدَمَ، لِمَا تَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ “ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ “، فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ “ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ “، فِيهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدَ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ خَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ فِي الرَّحِمِ، ثُمَّ صَوَّرَهُ، فَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَأَصَابِعَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ تَأْوِيلُهُ‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ‏)‏، وَلَقَدْ خَلَقْنَا آدَمَ ‏(‏ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏)‏، بِتَصْوِيرِنَا آدَمَ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ خِطَابِ الْعَرَبِ الرَّجُلَ بِالْأَفْعَالِ تُضِيفُهَا إِلَيْهِ، وَالْمَعْنِيُّ فِي ذَلِكَ سَلَفُهُ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِمَنْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 63‏]‏‏.‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْخِطَابِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الْحَيِّ الْمَوْجُودِ، وَالْمُرَادُ بِهِ السَّلَفُ الْمَعْدُومُ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، مَعْنَاهُ‏:‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا أَبَاكُمْ آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الَّذِي يَتْلُو ذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ‏}‏، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، قَبْلَ أَنْ يُصَوِّرَ ذُرِّيَّتَهُ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، بَلْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ أُمَّهَاتَهُمْ‏.‏

وَ “ ثُمَّ “ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا تَأْتِي إِلَّا بِإِيذَانِ انْقِطَاعِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبِلَهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “ قُمْتُ ثُمَّ قَعَدْتُ “، لَا يَكُونُ “ الْقُعُودُ “ إِذْ عُطِفَ بِهِ بِـ “ ثُمَّ “ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ “ قُمْتُ “ إِلَّا بَعْدَ الْقِيَامِ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ‏.‏ وَلَوْ كَانَ الْعَطْفُ فِي ذَلِكَ بِالْوَاوِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي بَعْدَهَا قَدْ كَانَ قَبْلَ الَّذِي قَبِلَهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “ قُمْتُ وَقَعَدْتُ “، فَجَائِزٌ أَنَّ يَكُونَ “ الْقُعُودُ “ فِي هَذَا الْكَلَامِ قَدْ كَانَ قَبْلَ “ الْقِيَامِ “، لِأَنَّ الْوَاوَ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ إِذَا كَانَتْ عَطْفًا، لِتُوجِبَ لِلَّذِي بَعْدَهَا مِنَ الْمَعْنَى مَا وَجَبَ لِلَّذِي قَبْلَهَا، مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ مِنْهَا بِنَفْسِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ إِنْ كَانَا فِي وَقْتَيْنِ، أَيُّهُمَا الْمُتَقَدِّمُ وَأَيُّهُمَا الْمُتَأَخِّرُ‏.‏ فَلَمَّا وَصَفْنَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏، لَا يَصِحُّ تَأْوِيلُهُ إِلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا‏.‏

فَإِنَّ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْعَرَبَ، إِذْ كَانَتْ رُبَّمَا نَطَقَتْ بِـ “ ثُمَّ “ فِي مَوْضِعِ “ الْوَاوِ “ فِي ضَرُورَةِ شِعْرِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏

سَـأَلْتُ رَبِيعَـةَ‏:‏ مَـنْ خَيْرُهَـا *** أَبًـا ثُـمَّ أُمًّـا‏؟‏ فَقَـالَتْ‏:‏ لِمَـهْ‏؟‏

بِمَعْنَى‏:‏ أَبًا وَأُمًّا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَظِيرُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ بِخِلَافٍ مَا ظَنَّ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نـَزَلَ بِأَفْصَحِ لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَوْجِيهُ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَى الشَّاذِّ مِنْ لُغَاتِهَا، وَلَهُ فِي الْأَفْصَحِ الْأَشْهَرِ مَعْنًى مَفْهُومٌ وَوَجْهٌ مَعْرُوفٌ‏.‏

وَقَدْ وَجَّهَ بَعْضُ مَنْ ضَعُفَتْ مَعْرِفَتُهُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ، ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏.‏ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ “ ثُمَّ “ فِي الْكَلَامِ وَهِيَ مُرَادٌ بِهَا التَّقْدِيمُ عَلَى مَا قَبْلِهَا مِنَ الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُقَدِّمُونَهَا فِي الْكَلَامِ، إِذَا كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا التَّأْخِيرُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ “ قَامَ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ عَمْرٌو “، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ‏:‏ “ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ قَعَدَ عَمْرٌو “، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قُعُودُ عَمْرٍو كَانَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ عَبْدِ اللَّهِ، إِذَا كَانَ الْخَبَرُ صِدْقًا، فَقَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا‏}‏، نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ قَعَدَ عَمْرٌو “، فِي أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ كَانَ إِلَّا بَعْدَ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ، لِمَا وَصَفْنَا قُبَلُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ ‏(‏اسْجُدُوا لِآدَمَ‏)‏، فَإِنَّهُ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ فَلَمَّا صَوَّرْنَا آدَمَ وَجَعَلْنَاهُ خَلْقًا سَوِيًّا، وَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا، قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ “ اُسْجُدُوا لِآدَمَ “، ابْتِلَاءً مِنَّا وَاخْتِبَارًا لَهُمْ بِالْأَمْرِ، لِيُعْلَمَ الطَّائِعُ مِنْهُمْ مَنِ الْعَاصِي، ‏(‏فَسَجَدُوا‏)‏، يَقُولُ‏:‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ لِآدَمَ حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ مَعَ مَنْ أَمَرَ مِنْ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ غَيْرِهِ بِالسُّجُودِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى، الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ امْتَحَنَ جَلَّ جَلَالُهُ مَلَائِكَتَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَأَمْرَ إِبْلِيسَ وَقِصَصِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذَكَرَهُ عَنْ قِيلِهِ لِإِبْلِيسَ، إِذْ عَصَاهُ فَلَمْ يَسْجُدْ لِآدَمَ إِذْ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ قَالَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ‏:‏ ‏(‏مَا مَنَعَكَ‏)‏، أَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكَ ‏(‏أَلَّا تَسْجُدَ‏)‏، أَنْ تَدَعَ السُّجُودَ لِآدَمَ ‏(‏إِذْ أَمَرْتُكَ‏)‏، أَنْ تَسْجُدَ “ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ “، يَقُولُ‏:‏ قَالَ إِبْلِيسُ‏:‏ أَنَا خَيْرٌ مِنْ آدَمَ “ ‏{‏خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏}‏ “‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ أَخْبِرْنَا عَنْ إِبْلِيسَ، أَلَحِقَتْهُ الْمَلَامَةُ عَلَى السُّجُودِ، أَمْ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ‏؟‏ فَإِنْ تَكُنْ لَحِقَتْهُ الْمَلَامَةُ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ، فَكَيْفَ قِيلَ لَهُ‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ‏}‏‏؟‏ وَإِنْ كَانَ النَّكِيرُ عَلَى السُّجُودِ، فَذَلِكَ خِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ التَّنْـزِيلُ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَخِلَافُ مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ‏!‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ الْمَلَامَةَ لَمْ تَلْحَقْ إِبْلِيسَ إِلَّا عَلَى مَعْصِيَتِهِ رَبَّهُ بِتَرْكِهِ السُّجُودَ لِآدَمَ إِذْ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ‏.‏

غَيْرُ أَنَّ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدُ إِذْ أَمَرْتُكَ‏}‏، بَيَّنَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ اخْتِلَافًا، أَبْدَأُ بِذِكْرِ مَا قَالُوا، ثُمَّ أَذْكُرُ الَّذِي هُوَ أَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ وَ“ لَا “ هَاهُنَا زَائِدَةٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَبَـى جُـودُهُ لَا البُخْـلَ، وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ *** نَعَـمْ، مِـنْ فَتًـى لَا يَمْنَعُ الْجُوعَ قَاتِلُهْ

وَقَالَ‏:‏ فَسَّرَتْهُ الْعَرَبُ‏:‏ “ أَبَى جُودَهُ الْبُخْلُ “، وَجَعَلُوا “ لَا “ زَائِدَةً حَشْوًا هَاهُنَا، وَصَلُوا بِهَا الْكَلَامَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَزَعَمَ يُونُسُ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو كَانَ يَجُرُّ “ الْبُخْلَ “، وَيَجْعَلُ “ لَا “ مُضَافَةً إِلَيْهِ، أَرَادَ‏:‏ أَبَى جُودَهُ “ لَا “ الَّتِي هِيَ لِلْبُخْلِ، وَيَجْعَلُ “ لَا “ مُضَافَةً، لِأَنَّ “ لَا “ قَدْ تَكُونُ لِلْجُودِ وَالْبُخْلِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ‏:‏ “ امْنَعِ الْحَقَّ وَلَا تُعْطِ الْمِسْكِينَ “ فَقَالَ‏:‏ “ لَا “ كَانَ هَذَا جُودًا مِنْهُ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ نَحْوَ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ فِي مَعْنَاهُ وَتَأْوِيلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي دُخُولِ “ لَا “ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَلَّا تَسْجُدَ‏)‏، أَنْ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ جَحْدًا يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ‏)‏، فَإِنَّ الْعَرَبَ رُبَّمَا أَعَادُوا فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ جَحْدٌ، الْجَحْدَ، كَالِاسْتِيثَاقِ وَالتَّوْكِيدِ لَهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ‏:‏

مَـا إِنْ رَأَيْنَـا مِثْلَهُـنَّ لِمَعْشَـرٍ *** سُـودِ الـرُّؤُوسِ، فَـوَالِجٌ وَفُيُـولُ

فَأَعَادَ عَلَى الْجَحْدِ الَّذِي هُوَ “ مَا “ جَحْدًا، وَهُوَ قَوْلُهُ “ إِنْ “، فَجَمْعُهُمَا لِلتَّوْكِيدِ‏.‏

وَقَالَ آخَرٌ مِنْهُمْ‏:‏ لَيْسَتْ “ لَا “، بِحَشْوٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا صِلَةٍ، وَلَكِنَّ “ الْمَنْعَ “ هَاهُنَا بِمَعْنَى “ الْقَوْلِ “، وَإِنَّمَا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ مَنْ قَالَ لَكَ لَا تَسْجُدْ إِذْ أَمَرْتُكَ بِالسُّجُودِ وَلَكِنْ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ “ أَنْ “، إِذْ كَانَ “ الْمَنْعُ “ بِمَعْنَى “ الْقَوْلِ “، لَا فِي لَفْظِهِ، كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْكَلَامِ الَّذِي يُضَارِعُ الْقَوْلَ، وَهُوَ لَهُ فِي اللَّفْظِ مُخَالِفٌ، كَقَوْلِهِمْ‏:‏ “ نَادَيْتُ أَنْ لَا تَقُمْ “، وَ“ حَلَفَتْ أَنْ لَا تَجْلِسْ “، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ خَفَّضَ “ الْبُخْلَ “ مَنْ رَوَى‏:‏ “ أَبَى جُودَهُ لَا الْبُخْلِ “، بِمَعْنَى‏:‏ كَلِمَةِ الْبُخْلِ، لِأَنَّ “ لَا “ هِيَ كَلِمَةُ الْبُخْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ كَلِمَةُ الْبُخْلِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى “ الْمَنْعِ “، الْحَوْلُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَمَا يُرِيدُهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْمَمْنُوعُ مُضْطَرٌّ بِهِ إِلَى خِلَافِ مَا مَنَعَ مِنْهُ، كَالْمَمْنُوعِ مِنَ الْقِيَامِ وَهُوَ يُرِيدُهُ، فَهُوَ مُضْطَرٌّ مِنَ الْفِعْلِ إِلَى مَا كَانَ خِلَافًا لِلْقِيَامِ، إِذْ كَانَ الْمُخْتَارُ لِلْفِعْلِ هُوَ الَّذِي لَهُ السَّبِيلُ إِلَيْهِ وَإِلَى خِلَافِهِ، فَيُوثَرُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَفْعَلُهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا كَانَتْ صِفَةُ “ الْمَنْعِ “ ذَلِكَ، فَخُوطِبَ إِبْلِيسُ بِالْمَنْعِ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ‏}‏، كَانَ مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ‏:‏ أَيُّ شَيْءٍ اضْطَرَّكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ‏؟‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ عِنْدِي مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا قَدْ كَفَى دَلِيلُ الظَّاهِرِ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ فَأَحْوَجَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ فَتَرَكَ ذِكْرَ “ أَحْوَجَكَ “، اسْتِغْنَاءً بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ‏}‏، أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى الْكَلَامِ، مِنْ ذِكْرِهُ‏.‏ ثُمَّ عَمِلَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏مَا مَنَعَكَ‏)‏، فِي “ أَنْ “ مَا كَانَ عَامِلًا فِيهِ قَبْلَ “ أَحْوَجَكَ “ لَوْ ظَهَرَ، إِذْ كَانَ قَدْ نَابَ عَنْهُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِمَا قَدْ مَضَى مِنْ دَلَالَتِنَا قَبْلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ لَا مَعْنَى لَهُ، وَأَنْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعْنًى صَحِيحًا، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ “ لَا “ فِي الْكَلَامِ حَشْوٌ لَا مَعْنَى لَهَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَى “ الْمَنْعِ “ هَاهُنَا “ الْقَوْلُ “، فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ “ لَا “ مَعَ “ أَنْ “ فَإِنَّ “ الْمَنْعَ “ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ قَوْلًا وَفِعْلًا فَلَيْسَ الْمَعْرُوفُ فِي النَّاسِ اسْتِعْمَالُ “ الْمَنْعِ “، فِي الْأَمْرِ بِتَرْكِ الشَّيْءِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِتَرْكِ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَفَعَلَهُ، لَا يُقَالُ‏:‏ “ فَعَلَهُ “، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهِ، إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ لِلْكَلَامِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْفِعْلِ حَوْلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ مَحُولٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَاعِلًا لَهُ، لِأَنَّهُ إِنْ جَازَ ذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحُولًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لَا مَحُولًا وَمَمْنُوعًا لَا مَمْنُوعًا‏.‏

وَبَعْدُ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَأْتَمِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرِهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ كِبَرًا، فَكَيْفَ كَانَ يَأْتَمِرُ لِغَيْرِهِ فِي تَرْكِ أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ بِتَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ‏:‏ “ أَيُّ شَيْءٍ قَالَ لَكَ‏:‏ لَا تَسْجُدْ لِآدَمَ إِذْ أَمَرْتُكَ بِالسُّجُودِ لَهُ‏؟‏ وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا قُلْتُ‏:‏ “ مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ فَأَحْوَجَكَ، أَوْ‏:‏ فَأَخْرَجَكَ، أَوْ‏:‏ فَاضْطَرَّكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ لَهُ “، عَلَى مَا بَيَّنْتُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏}‏، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ جَوَابِ إِبْلِيسَ إِيَّاهُ إِذْ سَأَلَهُ‏:‏ مَا الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، فَأَحْوَجَهُ إِلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لَهُ، وَاضْطَرَّهُ إِلَى خِلَافِهِ أَمَرَهُ بِهِ، وَتَرْكِهِ طَاعَتَهُ أَنَّ الْمَانِعَ كَانَ لَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَالدَّاعِيَ لَهُ إِلَى خِلَافِهِ أَمْرَ رَبِّهِ فِي ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْهُ أَيْدًا، وَأَقْوَى مِنْهُ قُوَّةً، وَأَفْضَلُ مِنْهُ فَضْلًا لِفَضْلِ الْجِنْسِ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ، وَهُوَ النَّارُ، عَلَى الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ، وَهُوَ الطِّينُ‏.‏ فَجَهِلَ عَدُوُّ اللَّهِ وَجْهَ الْحَقِّ، وَأَخْطَأَ سَبِيلَ الصَّوَابِ‏.‏ إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مِنْ جَوْهَرِ النَّارِ الْخِفَّةَ وَالطَّيْشَ وَالاضْطِرَابَ وَالِارْتِفَاعَ عُلُوًّا، وَاَلَّذِي فِي جَوْهَرِهَا مِنْ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي حَمَلَ الْخَبِيثُ بَعْدَ الشَّقَاءِ الَّذِي سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ، عَلَى الِاسْتِكْبَارِ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِأَمْرِ رَبِّهِ، فَأَورَثَهُ الْعَطَبَ وَالْهَلَاكَ‏.‏ وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مِنْ جَوْهَرِ الطِّينِ الرَّزَانَةَ وَالْأَنَاةَ وَالْحِلْمَ وَالْحَيَاءَ وَالتَّثَبُّتَ، وَذَلِكَ الَّذِي هُوَ فِي جَوْهَرِهِ مِنْ ذَلِكَ، كَانَ الدَّاعِي لِآدَمَ بَعْدَ السَّعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْ رَبِّهِ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ، إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ خَطِيئَتِهِ، وَمَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ الْعَفْوَ عَنْهُ وَالْمَغْفِرَةَ‏.‏ وَلِذَلِكَ كَانَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ يَقُولَانِ‏:‏ “ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ “، يَعْنِيَانِ بِذَلِكَ‏:‏ الْقِيَاسَ الْخَطَأَ، وَهُوَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ خَطَأِ قَوْلِهِ، وَبُعْدِهِ مِنْ إِصَابَةِ الْحَقِّ، فِي الْفَضْلِ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ آدَمَ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ‏:‏ مِنْ خَلْقِهِ إِيَّاهُ بِيَدِهِ، وَنَفْخِهِ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَإِسْجَادِهِ لَهُ الْمَلَائِكَةَ، وَتَعْلِيمِهِ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، مَعَ سَائِرِ مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ‏.‏ فَضَرَبَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الْجَاهِلُ صَفْحًا، وَقَصْدَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِنْ طِينٍ‏!‏‏!‏ وَهُوَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا لَهُ غَيْرُ كُفْءٍ، لَوْ لَمْ يَكُنْ لِآدَمَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ تَكْرِمَةُ شَيْءٍ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ وَاَلَّذِي خُصَّ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ، وَيُمَلُّ إِحْصَاؤُهُ‏؟‏

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَلِيمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ هُشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ‏:‏ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ مَطَرَ الْوَرَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَاسَ إِبْلِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ لِمَا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً، دُونَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ‏:‏ “ اُسْجُدُوا لِآدَمَ “، فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ، لِمَا كَانَ حَدَّثَ نَفْسَهُ، مِنْ كِبْرِهِ وَاغْتِرَارِهِ، فَقَالَ‏:‏ “ لَا أَسْجُدُ لَهُ، وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَكْبَرُ سِنًّا، وَأَقْوَى خَلْقًا، خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏!‏ “ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ النَّارَ أَقْوَى مِنَ الطِّينِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ ثُمَّ جَعَلَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ مَاءٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَدُوُّ اللَّهِ لَيْسَ لِمَا سَأَلَهُ عَنْهُ بِجَوَابٍ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ لَهُ‏:‏ مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ‏؟‏ فَلَمْ يُجِبْ بِأَنَّ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ السُّجُودِ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِنْ طِينٍ، وَلَكِنَّهُ ابْتَدَأَ خَبَرًا عَنْ نَفْسِهِ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَوْضِعِ الْجَوَابِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ قَالَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ عِنْدَ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏فَاهْبِطْ مِنْهَا‏)‏‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى “ الْهُبُوطِ “ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

‏{‏فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا‏}‏، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ “ اهْبِطْ مِنْهَا “، يَعْنِي‏:‏ مِنَ الْجَنَّةِ “ فَمَا يَكُونُ لَكَ “، يَقُولُ‏:‏ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَسْتَكْبِرَ فِي الْجَنَّةِ عَنْ طَاعَتِي وَأَمْرِي‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ هَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَبَّرَ فِي الْجَنَّةِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِلَيْهِ ذَهَبْتَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ فَاهْبِطْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْكُنُ الْجَنَّةَ مُتَكَبِّرٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَأَمَّا غَيْرُهَا، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْكُنُهَا الْمُسْتَكْبِرُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَكِينُ لِطَاعَتِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَاخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ، إِنَّكَ مِنَ الَّذِينَ قَدْ نَالَهُمْ مِنَ اللَّهِ الصَّغَارُ وَالذُّلُّ وَالْمَهَانَةُ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ “ صَغِرَ يَصْغَرُ صَغَرًا وَصَغَارًا وَصُغْرَانًا “، وَقَدْ قِيلَ‏:‏ “ صَغُرَ يَصْغُرُ صَغَارًا وَصَغَارَةً “‏.‏

وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ السُّدِّيُّ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ‏}‏، وَ“ الصَّغَارُ “، هُوَ الذُّلُّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذِهِ أَيْضًا جَهْلَةٌ أُخْرَى مِنْ جَهَلَاتِهِ الْخَبِيثَةِ‏.‏ سَأَلَ رَبَّهُ مَا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّظِرَةَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ هُوَ يَوْمُ يَبْعَثُ فِيهِ الْخَلْقَ‏.‏ وَلَوْ أُعْطِيَ مَا سَأَلَ مِنَ النَّظِرَةِ، كَانَ قَدْ أُعْطِي الْخُلُودَ وَبَقَاءً لَا فَنَاءَ مَعَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا مَوْتَ بَعْدَ الْبَعْثِ‏.‏ فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُ‏:‏ ‏{‏فإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحِجْرِ‏:‏ 38، سُورَةُ ص‏:‏ 80‏]‏، وَذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي قَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيهِ الْهَلَاكَ وَالْمَوْتَ وَالْفَنَاءَ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ يَبْقَى فَلَا يَفْنَى، غَيْرَ رَبِّنَا الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 185، سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 57‏]‏‏.‏

وَ “ الْإِنْظَارُ “ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، التَّأْخِيرُ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ “ أَنْظَرْتُهُ بِحَقِّي عَلَيْهِ أُنْظِرُهُ بِهِ إِنْظَارًا‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ لَهُ إِذْ سَأَلَهُ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏:‏ ‏(‏إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ‏)‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَدْ أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مُجِيبًا لَهُ إِلَى مَا سَأَلَ لَوْ كَانَ قَالَ لَهُ‏:‏ “ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي سَأَلْتُ أَوْ‏:‏ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ أَوْ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ “، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِجَابَتِهِ إِلَى مَا سَأَلَ مِنَ النَّظْرَةِ‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ‏)‏، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لَوْلَا الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي قَدْ بَيَّنَ فِيهَا مُدَّةَ إِنْظَارِهِ إِيَّاهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْحِجْرِ‏:‏ 37، سُورَةُ ص‏:‏ 80، ‏]‏، كَمُ الْمُدَّةُ الَّتِي أُنْظِرُهُ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ إِذَا أَنْظَرَهُ يَوْمًا وَاحِدًا أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، فَقَدْ دَخَلَ فِي عِدَادِ الْمُنْظَرِينَ، وَتَمَّ فِيهِ وَعْدُ اللَّهِ الصَّادِقَ، وَلَكِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ قَدْرَ مُدَّةِ ذَلِكَ بِاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أُنْظِرَ إِلَيْهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ السُّدِّيُّ يَقُولُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحِجْرِ‏:‏ 38، سُورَةُ ص‏:‏ 80‏]‏، فَلَمْ يُنْظِرْهُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَلَكِنْ أَنْظَرَهُ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وَهُوَ يَوْمُ يُنْفَخُ فِي الصُّوَرِ النَّفْخَةَ الْأُولَى، فَصُعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، فَمَاتَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ قَالَ إِبْلِيسُ لِرَبِّهِ‏:‏ “ أَنْظِرْنِي “، أَيْ أَخِّرْنِي وَأَجِّلْنِي، وَأَنْسِئْ فِي أَجَلِي، وَلَا تُمِتْنِي “ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ “، يَقُولُ‏:‏ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ الْخَلْقُ‏.‏ فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ‏)‏، إِلَى يَوْمِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَيُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِل‏:‏ فَهَلْ أَحَدٌ مُنْظَرٌ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ سِوَى إِبْلِيسَ، فَيُقَالُ لَهُ‏:‏ “ إِنَّكَ مِنْهُمْ “‏؟‏

قِيلَ‏:‏ نَعَمْ، مَنْ لَمْ يَقْبِضْ اللَّهُ رُوْحَهُ مِنْ خَلْقِهِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، مِمَّنْ تَقُومُ عَلَيْهِ السَّاعَةُ، فَهُمْ مِنَ الْمَنْظَرَيْنِ بِآجَالِهِمْ إِلَيْهِ‏.‏ وَلِذَلِكَ قِيلَ لِإِبْلِيسَ‏:‏ ‏(‏إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ إِنَّكَ مِمَّنْ لَا يُمِيتُهُ اللَّهُ إِلَّا ذَلِكَ الْيَوْمَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ قَالَ إِبْلِيسُ لِرَبِّهِ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَبِمَا أَضْلَلْتَنِي، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَضْلَلْتَنِي‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏، قَالَ‏:‏ فَبِمَا أَضْلَلْتَنِي‏.‏

وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏، بِمَا أَهْلَكْتَنِي، مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ “ غَوِيَ الْفَصِيلُ يَغوَى غَوًى “، وَذَلِكَ إِذَا فَقَدَ اللَّبَنَ فَمَاتَ، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

مُعَطَّفَـةُ الأَثْنَـاءِ لَيْسَ فَصِيلُهَـا *** بِرَازِئِهَـا دَرًّا وَلَا مَيِّـتٍ غَـوَى

وَأَصْلُ الْإِغْوَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏:‏ تَزْيِينُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ الشَّيْءَ حَتَّى يُحَسِّنَهُ عِنْدَهُ، غَارًّا لَهُ‏.‏

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ قَبَائِلِ طَيِّئٍ، أَنَّهَا تَقُولُ‏:‏ “ أَصْبَحَ فُلَانٌ غَاوِيًا “، أَيْ‏:‏ أَصْبَحَ مَرِيضًا‏.‏

وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ، كَأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ‏:‏ فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ، لَأَقْعَدْنَ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ “ بِاَللَّهِ لِأَفْعَلَنَّ كَذَا “‏.‏

وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ، كَأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ‏:‏ فَلِأَنَّكَ أَغْوَيْتَنِي أَوْ‏:‏ فَبِأَنَّكَ أَغْوَيْتَنِي ‏{‏لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَفِي هَذَا بَيَانٌ وَاضِحٌ عَلَىفَسَادِ مَا يَقُولُ الْقَدَرِيَّةُ، مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَفَرَ أَوْ آمَنَ فَبِتَفْوِيضِ اللَّهِ أَسْبَابَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ يَصِلُ الْمُؤْمِنُ إِلَى الْإِيمَانِ، هُوَ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ يَصِلُ الْكَافِرُ إِلَى الْكُفْرِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا‏:‏ لَكَانَ الْخَبِيثُ قَدْ قَالَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏، “ فَبِمَا أَصْلَحْتَنِي “، إِذْ كَانَ سَبَبُ “ الْإِغْوَاءِ “ هُوَ سَبَبُ “ الْإِصْلَاحِ “، وَكَانَ فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الْإِغْوَاءِ إِخْبَارٌ عَنِ الْإِصْلَاحِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ سَبَبَاهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ، وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ غَوَى وَهَلَكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏.‏ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏‏.‏

وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، فِيمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَوْدُودٍ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ‏:‏ قَاتَلَ اللَّهُ الْقَدَرِيَّةَ، لَإِبْلِيسُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْهُمْ‏!‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ لَأَجْلِسْنَ لِبَنِي آدَمَ “ ‏{‏صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ “، يَعْنِي‏:‏ طَرِيقَكَ الْقَوِيمَ، وَذَلِكَ دِينُ اللَّهِ الْحَقُّ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَشَرَائِعُهُ‏.‏ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ لَأَصُدَّنَ بَنِي آدَمَ عَنْ عِبَادَتِكَ وَطَاعَتِِكَ، وَلِأُغْوِيَنَّهُمْ كَمَا أَغْوَيْتَنِي، وَلِأُضِلَّنَّهُمْ كَمَا أَضْلَلْتَنِي‏.‏

وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي الْفَاكِهِ‏:‏-

أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بأطْرِقَةٍ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ‏:‏ أَتَسْلَمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ‏؟‏ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ‏.‏ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ‏:‏ أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَالْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ‏؟‏ فَعَصَاهُ وَهَاجَرَ‏.‏ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، وَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَقَالَ‏:‏ أَتَقَاتَلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقَسَّمُ الْمَالُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَعَصَاهُ فَجَاهَد»‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَبَوَيْهِ أَبُو يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِكِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏، قَالَ‏:‏ طَرِيقُ مَكَّةَ‏.‏

وَاَلَّذِي قَالَهُ عَوْنٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَيْسَ هُوَ الصِّرَاطُ كُلُّهُ‏.‏ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَدُوَّ اللَّهِ أَنَّهُ يَقْعُدُ لَهُمْ صِرَاطَ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ‏.‏ فَاَلَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَشْبَهُ بِظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ، وَأَوْلَى بِالتَّأْوِيلِ، لِأَنَّ الْخَبِيثَ لَا يَأْلُو عِبَادَ اللَّهِ الصَّدَّ عَنْ كُلِّ مَا كَانَ لَهُمْ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى “ الْمُسْتَقِيمَ “، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْحَقُّ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ، سَمِعَتْ مُجَاهِدًا يَقُولُ‏:‏ ‏{‏لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏، قَالَ‏:‏ سَبِيلُ الْحَقِّ، فَلْأُضِلَّنَّهُمْ إِلَّا قَلِيلًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ “ تَوَجَّهَ مَكَّةَ “، أَيْ إِلَى مَكَّةَ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

كَـأَنِّي إِذْ أَسْـعَى لأظْفَـرَ طَـائِرًا *** مَـعَ النَّجْـمِ مِـنْ جَـوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ

بِمَعْنَى‏:‏ لِأَظْفَرَ بِطَائِرٍ، فَأَلْقَى “ الْبَاءَ “، وَكَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 150‏]‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَعْجَلْتُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّكُمْ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ، الْمَعْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ لَأَقْعَدْنَ لَهُمْ عَلَى طَرِيقِهِمْ، وَفِي طَرِيقِهِمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَإِلْقَاءُ الصِّفَةِ مِنْ هَذَا جَائِزٌ، كَمَا تَقُولُ‏:‏ “ قَعَدْتُ لَكَ وَجْهَ الطَّرِيقِ “ وَ“ عَلَى وَجْهِ الطَّرِيقِ “، لِأَنَّ الطَّرِيقَ صِفَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَاحْتَمَلَ مَا يَحْتَمِلُهُ “ الْيَوْمُ “ وَ“ اللَّيْلَةُ “ وَ“ الْعَامُ “، إِذَا قِيلَ‏:‏ “ آتِيكَ غَدًا “، وَ“ آتِيكَ فِي غَدٍ “‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ “ الْقُعُودَ “ مُقْتَضٍ مَكَانًا يَقْعُدُ فِيهِ، فَكَمَا يُقَالُ‏:‏ “ قَعَدْتُ فِي مَكَانِكَ “، يُقَالُ‏:‏ “ قَعَدْتُ عَلَى صِرَاطِكَ “، وَ“ فِي صِرَاطِكَ “، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

لَـدْنٌ بِهَـزِّ الْكَـفِّ يَعْسِـلُ مَتْنُـهُ *** فِيـهِ، كَمَـا عَسَـلَ الطَّـرِيقَ الثَّعْلَـبُ

فُلًّا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ الْبُلْدَانِ، لَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ‏:‏ “ جَلَسْتُ مَكَّةَ “، وَ“ قُمْتُ بَغْدَادَ “‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏، مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ ‏(‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا ‏(‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ ‏(‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ الْبَاطِلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أُشَكِّكُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ ‏(‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏)‏، أُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ ‏(‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏)‏، أُشَبِّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ ‏(‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏)‏، أشَهِّيَ لَهُمُ الْمَعَاصِي‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ خِلَافُ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَذَلِكَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏، يَعْنِي مِنَ الدُّنْيَا ‏(‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏)‏، مِنَ الْآخِرَةِ ‏(‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ ‏(‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ سَيِّئَاتِهِمْ‏.‏

وَتُحَقِّقُ هَذِهِ الرِّوَايَةَِ، الْأُخْرَى الَّتِي‏:‏

حَدَّثَنِي بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَمَّا “ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ “، فَمِنْ قِبَلَهُمْ، وَأَمَّا “ مِنْ خَلْفِهِمْ “، فَأَمْرِ آخِرَتِهِمْ، وَأَمَّا “ عَنْ أَيْمَانِهِمْ “، فَمِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ، وَأَمَّا “ عَنْ شَمَائِلِهِمْ “، فَمِنْ قِبَلِ سَيِّئَاتِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ الْآيَةَ، أَتَاهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ “ وَمَنْ خَلْفِهِمْ “، مَنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَزَيَّنَهَا لَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا “ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ “، مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ بطَّأَهُمْ عَنْهَا “ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ “، زَيَّنَ لَهُمُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي، وَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا، وَأَمَرَهُمْ بِهَا‏.‏ أَتَاكَ يَا بْنُ آدَمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، غَيْرُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِكَ مِنْ فَوْقِكَ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَحْمَةِ اللَّهِ‏!‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ دُنْيَاهُمْ ‏(‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ آخِرَتِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ دُنْيَاهُمْ ‏(‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ آخِرَتِهِمْ ‏(‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏)‏ مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ ‏(‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ سَيِّئَاتِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏)‏، مِنْ دُنْيَاهُمْ ‏(‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏)‏، مِنْ آخِرَتِهِمْ ‏(‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏)‏، مِنْ حَسَنَاتِهِمْ ‏(‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ سَيِّئَاتِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا يُزَيِّنُهَا لَهُمْ ‏(‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏)‏ مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ يُبَطِّئُهُمْ عَنْهَا ‏(‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ ‏(‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏)‏، مِنْ قِبَلِ الْبَاطِلِ يُرَغِّبُهُمْ فِيهِ وَيُزَيِّنُهُ لَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏، أَمَّا ‏(‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏)‏، فَالدُّنْيَا، أَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا وَأُرَغِّبُهُمْ فِيهَا ‏(‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏)‏، فَمِنَ الْآخِرَةِ أُشَكِّكُهُمْ فِيهَا وَأُبَاعِدُهَا عَلَيْهِمْ ‏(‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏)‏، يَعْنِي الْحَقَّ فَأُشَكِّكُهُمْ فِيهِ ‏(‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏)‏، يَعْنِي الْبَاطِلَ أُخَفِّفُهُ عَلَيْهِمْ وَأُرَغِّبُهُمْ فِيهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏)‏، مِنْ دُنْيَاهُمْ، أُرَغِّبُهُمْ فِيهَا ‏(‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏)‏، آخِرَتِهِمْ، أُكَفِّرُهُمْ بِهَا وَأُزَهِّدُهُمْ فِيهَا ‏(‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏)‏، حَسَنَاتُهُمْ أُزَهِّدُهُمْ فِيهَا ‏(‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏)‏، مَسَاوِئُ أَعْمَالِهِمْ، أُحَسِّنُهَا إِلَيْهِمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ مِنْ حَيْثُ يُبْصِرُونَ وَمِنْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ حَيْثُ يُبْصِرُونَ ‏(‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏)‏ ‏(‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏)‏، حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَابْنُ حُمَيْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ، تَذَاكَرْنَا عِنْدَ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏، فَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ هُوَ كَمَا قَالَ، يَأْتِيهِمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمَنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ زَادَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ “ يَأْتِيهِمْ مِنْ ثَمَّ “‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ، قَالَ مُجَاهِدٌ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ ثُمَّ لِآتِيَنَهُمْ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَأَصُدُّهُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَأُحَسِّنُ لَهُمُ الْبَاطِلَ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ عَقِيبُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَقْعُدُ لِبَنِي آدَمَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْلُكُوهُ، وَهُوَ مَا وَصَفْنَا مِنْ دِينِ اللَّهِ دِينِ الْحَقِّ، فَيَأْتِيهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وُجُوهِهِ، مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، فَيَصُدُّهُمْ عَنْهُ، وَذَلِكَ “ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ “ وَمِنَ الْوَجْهِ الَّذِي نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، فَيُزَيِّنُهُ لَهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ “ مِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ “‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ وَلَمْ يَقِلْ‏:‏ “ مِنْ فَوْقِهِمْ “، لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَنْـزِلُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمِصْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُكْمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ “ مِنْ فَوْقِهِمْ “، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْـزِلُ مِنْ فَوْقِهِمْ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ‏}‏‏.‏ فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ وَلَا تَجِدُ، رَبِّ، أَكْثَرَ بَنِي آدَمَ شَاكِرِينَ لَكَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، كَتَكْرِمَتِكَ أَبَاهُمْ آدَمَ بِمَا أَكْرَمْتَهُ بِهِ، مِنْ إِسْجَادِكَ لَهُ مَلَائِكَتَكَ، وَتَفْضِيلِكَ إِيَّاهُ عَلَيَّ وَ“ شُكْرُهُمْ إِيَّاهُ “، طَاعَتُهُمْ لَهُ بِالْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ، وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ‏.‏

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مُوَحِّدِينَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ إِحْلَالِهِ بِالْخَبِيثِ عَدُوِ اللَّهِ مَا أَحَلَّ بِهِ مِنْ نِقْمَتِهِ وَلَعْنَتِهِ، وَطَرْدِهِ إِيَّاهُ عَنْ جَنَّتِهِ، إِذْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، وَرَاجَعَهُ مِنَ الْجَوَابِ بِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُرَاجَعَتُهُ بِهِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ قَالَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏اخْرُجْ مِنْهَا‏)‏، أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ ‏{‏مَذْءُومًا مَدْحُورًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مَعِيبًا‏.‏

وَ “ الذَّأْمُ “، الْعَيْبُ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ “ ذَأَمَهُ يَذْأَمُهُ ذَأْمًا فَهُوَ مَذْءُومٌ “، وَيَتْرُكُونَ الْهَمْزَ فَيَقُولُونَ‏:‏ ذِمْتُهُ أَذَيَمُهُ ذَيْمًا وَذَامًا “، وَ“ الذَّأْمُ “ وَ“ الذَّيْمُ “، أَبْلَغُ فِي الْعَيْبِ مِنَ “ الذَّمِّ “، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْبَيْتَ‏:‏

صَحِـبْتُكَ إِذْ عَيْنِـي عَلَيْهَـا غِشَـاوَةٌ *** فَلَمَّـا انْجَـلَتْ قَطَّعْـتُ نَفْسِـي أَذِيمُهَا

وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَلَى إِنْشَادِهِ “ أَلُومُهَا “‏.‏

وَأَمَّا الْمَدْحُورُ‏:‏ فَهُوَ الْمُقْصَى، يُقَالُ‏:‏ “ دَحْرَهُ يَدْحَرُهُ دَحْرًا وَدُحُورًا “، إِذَا أَقْصَاهُ وَأَخْرَجَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ‏:‏ “ ادْحَرْ عَنْكَ الشَّيْطَانَ “‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ اخْرُجْ مِنْهَا لَعِينًا مَنْفِيًّا‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ “ مَذْءُومًا “ مَمْقُوتًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبَى قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ صَغِيرًا مَنْفِيًّا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا‏}‏، أَمَّا “ مَذْءُومًا “، فَمَنْفِيًّا، وَأَمَّا “ مَدْحُورًا “، فَمَطْرُودًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏مَذْءُومًا‏)‏، قَالَ‏:‏ مَنْفِيًّا ‏(‏مَدْحُورًا‏)‏، قَالَ‏:‏ مَطْرُودًا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا‏}‏، قَالَ‏:‏ مَنْفِيًّا‏.‏ وَ“ الْمَدْحُورُ “، قَالَ‏:‏ الْمُصَغَّرُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يُونُسَ وَإِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا‏}‏، قَالَ‏:‏ مَنْفِيًّا‏.‏

حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو الْقُرْقُسَانِيُّ عُثْمَانُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ‏:‏ مَا ‏{‏اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا‏}‏، قَالَ‏:‏ مَقِيتًا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا‏}‏، فَقَالَ‏:‏ مَا نَعْرِفُ “ الْمَذْءُومَ “ وَ“ الْمَذْمُومَ “ إِلَّا وَاحِدًا، وَلَكِنْ تَكُونُ حُرُوفٌ مُنْتَقِصَةٌ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ لِعَامِرٍ‏:‏ يَا “ عَامِ “، وَلِحَارِثٍ‏:‏ “ يَا حَارِ“، وَإِنَّمَا أُنْـزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏.‏ أَقْسَمَ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ مِنْ بَنِي آدَمَ عَدُوَ اللَّهِ إِبْلِيسَ وَأَطَاعَهُ وَصَدَّقََ ظَنَّهُ عَلَيْهِ، أَنْ يَمْلَأَ مِنْ جَمِيعِهِمْ- يَعْنِي‏:‏ مِنْ كَفَرَةِ بَنِي آدَمَ تُبَّاعِ إِبْلِيسَ، وَمِنْ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ- جَهَنَّمَ‏.‏ فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً كَذَّبَ ظَنَّ عَدُوِ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ، وَخَيَّبَ فِيهَا أَمَلَهُ وَأُمْنِيَتَهُ، وَلَمْ يُمَكِّنْ مَنْ طَمِعَ طَمَعٍ فِيهَا عَدُوَّهُ، وَاسْتَغَشَّهُ وَلَمْ يَسْتَنْصِحْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا نَبَّهَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عِبَادَهُ عَلَى قِدَمِ عَدَاوَةِ عَدُوِّهِ وَعَدُوِّهِمْ إِبْلِيسَ لَهُمْ، وَسَالِفِ مَا سَلَفَ مِنْ حَسَدِهِ لِأَبِيهِمْ، وَبَغْيِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَعَرَّفَهُمْ مَوَاقِعَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ قَدِيمًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَوَالِدِهِمْ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ، فَيَنْـزَجِرُوا عَنْ طَاعَةِ عَدْوِهِ وَعَدْوِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَيُنِيبُوا إِلَيْهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَقَالَ اللَّهُ لِآدَمَ‏:‏ ‏{‏وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا‏}‏‏.‏ فَأَسْكَنَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ آدَمَ وَزَوْجَتَهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ أَهْبَطَ مِنْهَا إِبْلِيسَ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا، وَأَبَاحَ لَهُمَا أَنْ يَأْكُلَا مِنْ ثِمَارِهَا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ شَاءَا مِنْهَا، وَنَهَاهُمَا أَنْ يَقْرَبَا ثَمَرَ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، وَمَا نَرَى مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ صَوَابًا، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ‏.‏

‏(‏فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ فَتَكُونَا مِمَّنْ خَالَفَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَفَعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَوَسْوَسَ لَهُمَا‏}‏، فَوَسْوَسَ إِلَيْهِمَا، وَتِلْكَ “ الْوَسْوَسَةُ “ كَانَتْ قَوْلَهُ لَهُمَا‏:‏ ‏{‏مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ‏}‏، وَإِقْسَامَهُ لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ “ وَسُوسَ لَهُمَا “، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْتُ، كَمَا قِيلَ‏:‏ “ غَرِضْتُ إِلَيْهِ “، بِمَعْنَى‏:‏ اشْتَقْتُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَعْنِي‏:‏ غَرِضْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَيْهِ‏.‏ فَكَذَلِكَ مَعْنَى ذَلِكَ‏.‏

فَوَسْوَسَ مِنْ نَفْسِهِ إِلَيْهِمَا الشَّيْطَانُ بِالْكَذِبِ مِنَ الْقِيلِ، لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ‏:‏

وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الفَلَقْ ***

وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ فَجَذَبَ إِبْلِيسَ إِلَى آدَمَ حَوَّاءَ، وَأَلْقَى إِلَيْهِمَا‏:‏ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ أَكْلِ ثَمَرِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، إِلَّا أَنَّ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وَارَاهُ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ عَوْرَاتِهِمَا فَغَطَّاهُ بِسِتْرِهِ الَّذِي سَتَرَهُ عَلَيْهِمَا‏.‏

وَكَانَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ يَقُولُ فِي السِّتْرِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ سَتَرَهُمَا بِهِ، مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ حُوْثَرَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِنْقَرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ مُنَبِّهٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ عَلَيْهِمَا نُورٌ، لَا تُرَى سَوْآتُهُمَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لِآدَمَ وَزَوْجَتِهِحَوَّاءَ‏:‏ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَنْ تَأْكُلَا ثَمَرَهَا، إِلَّا لِئَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ‏.‏

وَأُسْقِطَتْ “ لَا “ مِنَ الْكَلَامِ، لِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهَا، كَمَا أُسْقِطَتْ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 176‏]‏‏.‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ لَا تَضِلُّوا‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا كَرَاهَةَ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ “ إِيَّاكَ أَنْ تَفْعَلَ “ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَفْعَلَ‏.‏

“ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ “، فِي الْجَنَّةِ، الْمَاكِثِيْنَ فِيهَا أَبَدًا، فَلَا تَمُوتَا‏.‏

وَالْقِرَاءَةُ عَلَى فَتْحِ “ اللَّامِ “، بِمَعْنَى‏:‏ مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى الْأَعْمَى، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ‏:‏ “ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلِكَيْنِ “، بِكَسْرِ “ اللَّامِ “‏.‏

وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا‏:‏ “ مَلِكَيْنِ “، بِكَسْرِ “ اللَّامِ “‏.‏

وَكَأَنَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَحْيَى وَجَّهَا تَأْوِيلَ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ لَهُمَا‏:‏ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنَّ تَكُونَا مَلِكَيْنِ مِنَ الْمُلُوكِ وَأَنَّهُمَا تَأَوَّلَا فِي ذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى‏}‏، ‏[‏سُورَةُ طَهَ‏:‏ 120‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِهَا، الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قَرَأَةُ الْأَمْصَارِ وَهِيَ، فَتْحُ “ اللَّامِ “ مِنْ‏:‏ “ مَلَكَيْنِ “، بِمَعْنَى‏:‏ مَلَكَيْنِ، مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِنَا فِي أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُسْتَفِيضًا فِي قَرَأَةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، فَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَقَاسَمَهُمَا‏)‏، وَحَلِفَ لَهُمَا، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏تَقَاسَمُوا بِاَللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ النَّمْلِ‏:‏ 49‏]‏، بِمَعْنَى تَحَالَفُوا بِاَللَّهِ، وَكَمَا قَالَ خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ ‏[‏ابْنُ‏]‏ عَمِّ أَبِي ذُؤَيْبٍ‏:‏

وَقَاسَـمَهَا بِاللهِ جَـهْدًا لأَنْتُـمُ *** أَلَـذُّ مِـنَ السَّـلْوَى إِذَا مَـا نَشُـورُهَا

بِمَعْنَى‏:‏ وَحَالَفَهُمَا بِاَللَّهِ، وَكَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ‏:‏

رَضِيعَـيْ لِبَـانٍ، ثَـدْيَ أُمٍّ تَقَاسَـمَا *** بِأَسْـحَمَ دَاجٍ عَـوْضُ لَا نَتَفَـرَّقُ

بِمَعْنَى تَحَالَفَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ‏}‏ أَيْ‏:‏ لَمِمَنْ يَنْصَحُ لَكُمَا فِي مَشُورَتِهِ لَكُمَا، وَأَمْرِهِ إِيَّاكُمَا بِأَكْلِ ثَمَرِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتُمَا عَنْ أَكْلِ ثَمَرِهَا، وَفِي خَبَرِي إِيَّاكُمَا بِمَا أُخْبِرُكُمَا بِهِ، مِنْ أَنَّكُمَا إِنْ أَكَلْتُمَاهُ كُنْتُمَا مَلَكَيْنِ أَوْ كُنْتُمَا مِنَ الْخَالِدِينَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ‏}‏، فَحَلَفَ لَهُمَا بِاَللَّهِ حَتَّى خَدَعَهُمَا، وَقَدْ يُخْدَعُ الْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّي خُلِقْتُ قَبْلَكُمَا، وَأَنَا أَعْلَمُ مِنْكُمَا، فَاتَّبِعَانِي أُرْشِدْكُمَا‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ‏:‏ “ مَنْ خَادَعْنَا بِاَللَّهِ خُدِعْنَا “‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ‏}‏، فَخَدَعَهُمَا بِغُرُورٍ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ “ مَا زَالَ فُلَانٌ يُدَلِّي فُلَانًا بِغُرُورٍ “، بِمَعْنَى‏:‏ مَا زَالَ يَخْدَعُهُ بِغُرُورٍ، وَيُكَلِّمُهُ بِزُخْرُفٍ مِنَ الْقَوْلِ بَاطِلٍ‏.‏

‏{‏فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَلَمَّا ذَاقَ آدَمُ وَحَوَّاءُثَمَرَ الشَّجَرَةِ، يَقُولُ‏:‏ طَعْمَاهُ ‏{‏بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ انْكَشَفَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْرَاهُمَا مِنَ الْكُسْوَةِ الَّتِي كَانَ كَسَاهُمَا قَبْلَ الذَّنَبِ وَالْخَطِيئَةِ، فَسَلَبَهُمَا ذَلِكَ بِالْخَطِيئَةِ الَّتِي أَخْطَآ وَالْمَعْصِيَةِ الَّتِي رَكِبَا ‏{‏وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَقْبَلَا وَجَعَلَا يَشُدَّانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، لِيُوَارِيَا سَوْآتِهِمَا، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ‏}‏، قَالَ‏:‏ جَعَلَا يَأْخُذَانِ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، فَيَجْعَلَانِ عَلَى سَوْآتِهِمَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «كَانَ آدَمَ كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ، كَثِيرُ شَعْرِ الرَّأْسِ، فَلَمَّا وَقَعَ بِالْخَطِيئَةِ بَدَتْ لَهُ عَوْرَتَهُ، وَكَانَ لَا يَرَاهَا، فَانْطَلَقَ فَارًّا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فَحَبْسَتْهُ بِشِعْرِهِ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ أَرْسِلِينِي‏!‏ فَقَالَتْ‏:‏ لَسْتُ بِمُرْسِلَتِكَ‏!‏ فَنَادَاهُ رَبُّهُ‏:‏ يَا آدَمُ، أَمِنِّي تَفِرُّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُك»‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرْنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمَارَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، كَانَتِ الشَّجَرَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ، السُّنْبُلَةَ‏.‏ فَلَمَّا أَكَلَا مِنْهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَكَانَ الَّذِي وَارَى عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا أَظْفَارُهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَرَقِ التِّينِ، يُلْصِقَانِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ‏.‏ فَانْطَلَقَ آدَمُ مُوَلِّيًا فِي الْجَنَّةِ، فَأَخَذَتْ بِرَأْسِهِ شَجَرَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَنَادَاهُ‏:‏ أَيْ آدَمُ أَمْنِّي تَفِرُّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُكَ يَا رَبِّ‏!‏ قَالَ‏:‏ أَمَا كَانَ لَكَ فِيمَا مَنَحْتُكُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَبَحْتُكَ مِنْهَا مَنْدُوحَةٌ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِكَ مَا حَسِبْتُ أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِكَ كَاذِبًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَبِعِزَّتِي لَأُهْبِطَنَّكَ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا تَنَالُ الْعَيْشَ إِلَّا كَدًّا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَا يَأْكُلَانِ فِيهَا رَغَدًا، فَأُهْبِطَا فِي غَيْرِ رَغَدٍ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَعُلِّمَ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ، وَأُمِرَ بِالْحَرْثِ، فَحَرَثَ وَزَرَعَ ثُمَّ سَقَى، حَتَّى إِذَا بَلَغَ حَصَدَ، ثُمَّ دَاسَهُ، ثُمَّ ذَرَّاهُ، ثُمَّ طَحَنَهُ، ثُمَّ عَجَنَهُ، ثُمَّ خَبَزَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ، فَلَمْ يَبْلَعْهُ حَتَّى بُلِّعَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلَعَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏يَخْصِفَانِ‏)‏، قَالَ‏:‏ يُرَقِّعَانِ، كَهَيْئَةِ الثَّوْبِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنَ الْوَرَقِ كَهَيْئَةِ الثَّوْبِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا‏}‏، وَكَانَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَرَيَانِهَا ‏{‏وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ‏:‏ أَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَجُلًا طُوَالًا كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ، كَثِيرُ شَعْرِ الرَّأْسِ‏.‏ فَلَمَّا وَقَعَ بِمَا وَقَعَ بِهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ، بَدَتْ لَهُ عَوْرَتَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ لَا يَرَاهَا‏.‏ فَانْطَلَقَ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ، فَعَلِقَتْ بِرَأْسِهِ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ أَرْسِلِينِي‏!‏ قَالَتْ‏:‏ إِنِّي غَيْرُ مُرْسِلَتِكَ‏!‏ فَنَادَاهُ رَبُّهُ‏:‏ يَا آدَمُ، أَمِنِّي تَفِرُّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَبِّ إِنِّي اسْتَحْيَيْتُكَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ‏}‏، قَالَ‏:‏ وَرَقُ التِّينِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ‏}‏، قَالَ‏:‏ وَرَقُ التِّينِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ حُسَامِ بْنِ مِصَكٍّ، عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي بَكْرٍ، عَنْ غَيْرِ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ كَانَ لِبَاسُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ ظُفُرًا كُلُّهُ، فَلَمَّا وَقَعَ بِالذَّنْبِ، كُشِطَ عَنْهُ وَبَدَتْ سَوْأَتُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ قَالَ غَيْرُ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ‏}‏، قَالَ‏:‏ وَرَقُ التِّينِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَا لَا يَرَيَانِ سَوْآتِهِمَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 27‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ كَانَ لِبَاسُ آدَمَ وَحَوَّاءَعَلَيْهِمَا السَّلَامُ نُورًا عَلَى فُرُوجِهِمَا، لَا يَرَى هَذَا عَوْرَةَ هَذِهِ، وَلَا هَذِهِ عَوْرَةَ هَذَا‏.‏ فَلَمَّا أَصَابَا الْخَطِيئَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَنَادَى آدَمَ وَحَوَّاءَرَبُّهُمَا‏:‏ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ أَكْلِ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَكَلْتُمَا ثَمَرَهَا، وَأُعْلِمُكُمَا أَنَّ إِبْلِيسَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ يَقُولُ‏:‏ قَدْ أَبَانَ عَدَاوَتَهُ لَكُمَا، بِتَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ حَسَدًا وَبَغْيًا، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏، لِمَ أَكَلْتَهَا وَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَا رَبِّ، أَطْعَمَتْنِيحَوَّاءُ ‏!‏ قَالَلِحَوَّاءَ‏:‏ لِمَ أَطْعَمْتِهِ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ أَمَرَتْنِي الْحَيَّةُ‏!‏ قَالَ لِلْحَيَّةِ‏:‏ لِمَ أَمَرْتِهَا‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ أَمَرَنِي إِبْلِيسُ‏!‏ قَالَ‏:‏ مَلْعُونٌ مَدْحُورٌ‏!‏ أَمَّا أَنْتِ يَاحَوَّاءُفَكَمَا دَمَّيتِ الشَّجَرَةَ تَدْمَيْنَ كُلَّ شَهْرٍ‏.‏ وَأَمَّا أَنْتِ يَا حَيَّةُ، فَأَقْطَعُ قَوَائِمَكِ فَتَمْشِينَ عَلَى وَجْهِكِ، وَسَيَشْدَخُ رَأْسَكِ مَنْ لَقِيَكِ، اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانِ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ لِمَا أَكَلَ آدَمَ مِنَ الشَّجَرَةِ قِيلَ لَهُ‏:‏ لِمَ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتُكَ عَنْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ حَوَّاءُأَمَرَتْنِي‏!‏ قَالَ‏:‏ فَإِنِّي قَدْ أَعْقَبْتُهَا أَنْ لَا تَحْمِلَ إِلَّا كَرْهًا، وَلَا تَضَعَ إِلَّا كُرْهًا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَرَنَّتْحَوَّاءُعِنْدَ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهَا‏:‏ الرَّنَّةُ عَلَيْكِ وَعَلَى وَلَدِكِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَفِيمَا أَجَابَاهُ بِهِ، وَاعْتِرَافِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالذَّنْبِ، وَمَسْأَلَتِهِمَا إِيَّاهُ الْمَغْفِرَةَ مِنْهُ وَالرَّحْمَةَ، خِلَافَ جَوَابِ اللَّعِينِ إِبْلِيسَ إِيَّاهُ‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا‏}‏، قَالَ‏:‏ آدَمُ وَحَوَّاءُلِرَبِّهِمَا‏:‏ يَا رَبَّنَا، فَعَلْنَا بِأَنْفُسِنَا مِنَ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهَا بِمَعْصِيَتِكَ وَخِلَافِ أَمْرِكَ، وَبِطَاعَتِنَا عَدُوَّنَا وَعَدُوَّكَ، فِيمَا لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نُطِيعَهُ فِيهِ، مَنْ أَكَلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتَنَا عَنْ أَكْلِهَا ‏(‏وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا‏)‏، يَقُولُ‏:‏ وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَسْتُرْ عَلَيْنَا ذَنْبَنَا فَتُغَطِّيهِ عَلَيْنَا، وَتَتْرُكُ فَضِيحَتَنَا بِهِ بِعُقُوبَتِكَ إِيَّانَا عَلَيْهِ “ وَتَرَحُّمُنَا “، بِتَعَطُّفِكَ عَلَيْنَا، وَتَرْكِكَ أَخَذَنَا بِهِ ‏(‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْهَالِكِينَ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى “ الْخَاسِرِ “ فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ وَالرِّوَايَةِ فِيهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ يَا رَبِّ، أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَاسْتَغْفَرْتُكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إذًا أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ‏.‏ وَأَمَّا إِبْلِيسُ فَلَمْ يَسْأَلْهُ التَّوْبَةَ، وَسَأَلَ النَّظِرَةَ، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا سَأَلَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، أَخْبَرْنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا‏}‏، الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ فِعْلِهِ بِإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَآدَمَ وَوَلَدِهِ، وَالْحَيَّةِ‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَوَإِبْلِيسَ وَالْحَيَّةِ‏:‏ اهْبِطُوا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏، قَالَ‏:‏ فَلَعَنَ الْحَيَّةَ، وَقَطَعَ قَوَائِمَهَا، وَتَرْكَهَا تَمْشِي عَلَى بَطْنِهَا، وَجَعَلَ رِزْقَهَا مِنَ التُّرَابِ، واهْبِطُوا إِلَى الْأَرْضِ‏:‏ آدَمُ، وَحَوَّاءُ، وَإِبْلِيسُ، وَالْحَيَّةُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏، قَالَ‏:‏ آدَمُ، وَحَوَّاءُ، وَالْحَيَّةُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَكُمْ، يَا آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَإِبْلِيسُ وَالْحَيَّةُ فِي الْأَرْضِ قَرَارٌ تَسْتَقِرُونَهَ، وَفِرَاشٌ تَمْتَهِدُونَهُ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعُ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، مَا‏:‏-

حُدِّثْتُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْقُبُورُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ آدَمَ وَحَوَّاءَوَإِبْلِيسَ وَالْحَيَّةَ، إِذْ أُهْبِطُوا إِلَى الْأَرْضِ‏:‏ أَنَّهُمْ عَدُوٌّ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَأَنْ لَهُمْ فِيهَا مُسْتَقَرًّا يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، وَلَمْ يُخَصِّصْهَا بِأَنَّ لَهُمْ فِيهَا مُسْتَقَرًّا فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ دُونَ حَالِ مَوْتِهِمْ، بَلْ عَمَّ الْخَبَرُ عَنْهَا بِأَنْ لَهُمْ فِيهَا مُسْتَقِرًّا، فَذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ، كَمَا عَمَّ خَبَرُ اللَّهِ، وَلَهُمْ فِيهَا مُسْتَقَرٌّ فِي حَيَاتِهِمْ عَلَى ظَهْرِهَا، وَبَعْدَ وَفَاتِهِمْ فِي بَطْنِهَا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏)‏، فَإِنَّهُ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ “ وَلَكُمْ فِيهَا مَتَاعٌ “، تَسْتَمْتِعُونَ بِهِ إِلَى انْقِطَاعِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ هُوَ الْحِينُ الَّذِي ذَكَرَهُ، كَمَا‏:‏-

حُدِّثْتُ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مُوسَى قَالَ، أَخْبَرْنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏)‏، قَالَ‏:‏ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِلَى انْقِطَاعِ الدُّنْيَا‏.‏

وَ “ الْحِينُ “ نَفْسُهُ‏:‏ الْوَقْتُ، غَيْرُ أَنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

وَمَـا مِرَاحُـكَ بَعْـدَ الْحِـلْمِ وَالـدِّينِ *** وَقَـدْ عَـلاكَ مَشِـيبٌ حِـينَ لَا حِـينِ

أَيّ وَقْتٍ لَا وَقْتَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَ اللَّهُ لِلَّذِينِ أَهْبَطَهُمْ مِنْ سَمَاوَاتِهِ إِلَى أَرْضِهِ‏:‏ ‏(‏فِيهَا تَحْيَوْنَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ فِي الْأَرْضِ تَحْيَوْنَ، يَقُولُ‏:‏ تَكُونُونَ فِيهَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ ‏(‏وَفِيهَا تَمُوتُونَ‏)‏، يَقُولُ فِي الْأَرْضِ تَكُونُ وَفَاتُكُمْ، ‏(‏وَمِنْهَا تَخْرُجُونَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ وَمِنَ الْأَرْضِ يُخْرِجُكُمْ رَبُّكُمْ وَيَحْشُرُكُمْ إِلَيْهِ لِبَعْثِ الْقِيَامَةِ أَحْيَاءً‏.‏