فصل: تفسير الآية رقم (56)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا‏}‏ “، لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَلَا تَعْصُوهُ فِيهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْفَسَادُ فِيهَا‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، وَبَيَّنَّا مَعْنَاهُ بِشَوَاهِدِهِ‏.‏

“ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا “ يَقُولُ‏:‏ بَعْدَ إِصْلَاحِ اللَّهِ إِيَّاهَا لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، بِابْتِعَاثِهِ فِيهِمُ الرُّسُلَ دُعَاةً إِلَى الْحَقِّ، وَإِيضَاحِهِ حُجَجَهُ لَهُمْ “ ‏{‏وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ وَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ وَالْعَمَلَ، وَلَا تُشْرِكُوا فِي عَمَلِكُمْ لَهُ شَيْئًا غَيْرَهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلْيَكُنْ مَا يَكُونُ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَطَمَعًا فِي ثَوَابِهِ‏.‏ وَإِنَّ مَنْ كَانَ دُعَاؤُهُ إِيَّاهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ بِالْآخِرَةِ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَخَفْ عِقَابَ اللَّهِ وَلَمْ يَرْجُ ثَوَابَهُ، لَمْ يُبَالِ مَا رَكِبَ مَنْ أَمْرٍ يَسْخَطُهُ اللَّهُ وَلَا يَرْضَاهُ “ ‏{‏إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ “، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ ثَوَابَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ الْمُحْسِنِينَ عَلَى إِحْسَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا، قَرِيبٌ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ رَحْمَتُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَصِيرُوا إِلَى ذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنْ كَرَامَتِهِ إِلَّا أَنْ تُفَارِقَ أَرْوَاحُهُمْ أَجْسَادَهُمْ‏.‏

وَلِذَلِكَ مِنْ الْمَعْنَى ذُكِّرَ قَوْلُهُ‏:‏ “ قَرِيبٌ “، وَهُوَ مِنْ خَبَرِ “ الرَّحْمَةِ “، وَ“ الرَّحْمَةُ “ مُؤَنَّثَةٌ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْقُرْبُ فِي الْوَقْتِ لَا فِي النَّسَبِ، وَالْأَوْقَاتُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إِذَا وَقَعَتْ أَخْبَارًا لِلْأَسْمَاءِ، أَجْرَتْهَا الْعَرَبُ مَجْرَى الْحَالِ، فَوَحَّدَتْهَا مَعَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ، وَذَكَّرَتْهَا مَعَ الْمُؤَنَّثِ، فَقَالُوا‏:‏ “ كَرَامَةُ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنْ فُلَانٍ “، وَ“ هِيَ قَرِيبٌ مِنْ فُلَانٍ “، كَمَا يَقُولُونَ‏:‏ “ هِنْدُ قَرِيبٌ مِنَّا “، وَ“ الْهِنْدَانِ مِنَّا قَرِيبٌ “، وَ“ الْهِنْدَاتُ مِنَّا قَرِيبٌ “، لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ هِيَ فِي مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنَّا‏.‏ فَإِذَا حَذَفُوا الْمَكَانَ وَجَعَلُوا “ الْقَرِيبَ “ خَلَفًا مِنْهُ، ذَكَّرُوهُ وَوَحَّدُوهُ فِي الْجَمْعِ، كَمَا كَانَ الْمَكَانُ مُذَكَّرًا وَمُوَحَّدًا فِي الْجَمْعِ‏.‏ وَأَمَّا إِذَا أَنَّثُوهُ، أَخْرَجُوهُ مُثَنًّى مَعَ الِاثْنَيْنِ، وَمَجْمُوعًا مَعَ الْجَمِيعِ، فَقَالُوا‏:‏ “ هِيَ قَرِيبَةٌ مِنَّا “، وَ“ هُمَا مِنَّا قَرِيبَتَانِ “، كَمَا قَالَ عُرْوَةُ ‏[‏بْنُ الْوَرْدِ‏]‏‏:‏

عَشِـيَّةَ لَا عَفْـرَاءُ مِنْـكَ قَرِيبَـةٌ *** فَتَدْنُـو، وَلَا عَفْـرَاءُ مِنْـكَ بَعِيـدُ

فَأَنَّثَ “ قَرِيبَةً “، وَذَكَّرَ “ بَعِيدًا “، عَلَى مَا وَصَفَتْ‏.‏ وَلَوْ كَانَ “ الْقَرِيبُ “، مِنَ “ الْقَرَابَةِ “ فِي النَّسَبِ، لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُؤَنَّثِ إِلَّا مُؤَنَّثًا، وَمَعَ الْجَمِيعِ إِلَّا مَجْمُوعًا‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ‏:‏ ذَكَّرَ “ قَرِيبٌ “ وَهُوَ صِفَةٌ لِـ “ الرَّحْمَةِ “، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ‏:‏ “ رِيحٌ خَرِيقٌ “، وَ“ مِلْحَفَةٌ جَدِيدٌ “، وَ“ شَاةٌ سَدِيسٌ “‏.‏ قَالَ‏:‏ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ‏:‏ تَفْسِيرُ “ الرَّحْمَةِ “ هَاهُنَا، الْمَطَرُ وَنَحْوُهُ، فَلِذَلِكَ ذُكِّرَ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 87‏]‏، فَذَكَّرَ، لِأَنَّهُ أَرَادَ النَّاسَ‏.‏ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ كَبَعْضِ مَا يَذَكِّرُونَ مِنَ الْمُؤَنَّثِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا ***

وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَرَأَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِنْ جَازَ أَنْ يُذَكِّرَ “ قَرِيبًا “، تَوْجِيهًا مِنْهُ لِلرَّحْمَةِ إِلَى مَعْنَى الْمَطَرِ، أَنْ يَقُولَ‏:‏ “ هِنْدُ قَامَ “، تَوْجِيهًا مِنْهُ لِـ “ هِنْدَ “ وَهِيَ امْرَأَةٌ، إِلَى مَعْنَى‏:‏ “ إِنْسَانٍ “، وَرَأَى أَنَّ مَا شَبَّهَ بِهِ قَوْلَهُ‏:‏ “ ‏{‏إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ “، بِقَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا‏}‏ “، غَيْرُ مُشْبِهِهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ “ الطَّائِفَةَ “ فِيمَا زَعَمَ مَصْدَرٌ، بِمَعْنَى “ الطَّيْفِ “، كَمَا “ الصَّيْحَةُ “ وَ“ الصِّيَاحُ “، بِمَعْنًى، وَلِذَلِكَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ هُودٍ‏:‏ 67‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ، هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نَشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏.‏

وَ “ النَّشْرُ “ بِفَتْحِ “ النُّونِ “ وَسُكُونِ “ الشِّينِ “، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، مِنَ الرِّيَاحِ، الطَّيِّبَةِ اللَّيِّنَةِ الْهُبُوبِ، الَّتِي تُنْشِئُ السَّحَابَ‏.‏ وَكَذَلِكَ كَلُّ رِيحٍ طَيِّبَةٍ عِنْدَهُمْ فَهِيَ “ نَشْرٌ “، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ‏:‏

كَـأَنَّ المُـدَامَ وَصَـوْبَ الغَمَـامِ *** وَرِيـحَ الخُـزَامَى وَنَشْـرَ القُطُـرْ

وَبِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ، خَلَا عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ‏:‏ “ بُشْرًا “ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ فِيهِ‏.‏

فَرَوَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ‏:‏ ‏(‏بُشْرًا‏)‏، بِالْبَاءِ وَضَمِّهَا، وَسُكُونِ الشِّينِ‏.‏

وَبَعْضُهُمْ، بِالْبَاءِ وَضَمِّهَا وَضَمِّ الشِّينَ‏.‏

وَكَانَ يَتَأَوَّلُ فِي قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الرُّومِ‏:‏ 46‏]‏، تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ، وَأَنَّهُ جَمْعُ “ بَشِيرٍ “ يُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ، جُمِعَ “ بُشُرًا “، كَمَا يُجْمَعُ “ النَّذِيرُ “ “ نُذُرًا “‏.‏

وَأَمَّا قَرَأَةُ الْمَدِينَةِ وَعَامَّةُ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ قَرَؤُوا ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نُشُرَا‏}‏، بِضَمِّ “ النُّونِ “، وَ“ الشِّينِ “ بِمَعْنَى جَمْعِ “ نَشُورٍ “ جُمِعَ “ نُشُرًا “، كَمَا يُجْمَعُ “ الصَّبُورُ “ “ صُبُرًا “، وَ“ الشَّكُورُ “ “ شُكُرًا “‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَقُولُ‏:‏ مَعْنَاهَا إِذَا قُرِئَتْ كَذَلِكَ‏:‏ أَنَّهَا الرِّيحُ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَتَجِيءُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ‏:‏ إِذَا قُرِئَتْ بِضَمِّ النُّونِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُسَكَّنَ شِينُهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ بِمَعْنَى “ النَّشْرِ “ بِالْفَتْحِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ الْعَرَبُ تُضَمُّ النُّونُ مِنَ “ النُّشْرِ “ أَحْيَانًا، وَتُفْتَحُ أَحْيَانًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَاخْتِلَافُ الْقَرَأَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِهَا فِي لُغَتِهَا فِيهِ‏.‏ وَكَانَ يَقُولُ‏:‏ هُوَ نَظِيرُ “ الْخَسْفِ “، “ والخُسْفِ “، بِفَتْحِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏نَشْرًا‏)‏ وَ‏(‏نُشُرًا‏)‏، بِفَتْحِ “ النُّونِ “ وَسُكُونِ “ الشِّينِ “، وَبِضَمِّ “ النُّونِ “ وَ“ الشِّينِ “ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

فَلَا أُحِبُّ الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَوَجْهٌ مَفْهُومٌ فِي الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ “، فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ قُدَّامَ رَحْمَتِهِ وَأَمَامَهَا‏.‏

وَالْعَرَبُ كَذَلِكَ تَقُولُ لِكُلِّ شَيْءٍ حَدَثٍ قُدَّامَ شَيْءٍ وَأَمَامَهُ‏:‏ “ جَاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ “، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ جَرَى فِي أَخْبَارِهِمْ عَنْ بَنِي آدَمَ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمْ، حَتَّى قَالُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ ابْنِ آدَمَ وَمَا لَا يَدَ لَهُ‏.‏

وَ “ الرَّحْمَةُ “ الَّتِي ذَكَرَهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْمَطَرُ‏.‏

فَمَعْنَى الْكَلَامِ إذًا‏:‏ وَاَللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ لَيِّنًا هُبُوبُهَا، طَيِّبًا نَسِيمُهَا، أَمَامَ غَيْثِهِ الَّذِي يَسُوقُهُ بِهَا إِلَى خَلْقِهِ، فَيُنْشِئُ بِهَا سَحَابًا ثِقَالًا حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْهَا وَ“ الْإِقْلَالُ “ بِهَا، حَمَلَهَا، كَمَا يُقَالُ‏:‏ “ اسْتَقَلَّ الْبَعِيرُ بِحَمْلِهِ “، وَ“ أَقَلَّهُ “، إِذَا حَمَلَهُ فَقَامَ بِهِ، سَاقَهُ اللَّهُ لِإِحْيَاءِ بَلَدٍ مَيِّتٍ، قَدْ تَعَفَّتْ مَزَارِعُهُ، وَدَرَسَتْ مَشَارِبُهُ، وَأَجْدَبَ أَهْلُهُ، فَأَنْـزَلَ بِهِ الْمَطَرَ، وَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ “ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نَشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ “ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ “، قَالَ‏:‏ إِنِ اللَّهَ يُرْسِلُ الرِّيحَ فَتَأْتِي بِالسَّحَابِ مِنْ بَيْنِ الْخَافِقَيْنِ، طَرَفَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ يَلْتَقِيَانِ، فَيُخْرِجُهُ مِنْ ثَمَّ، ثُمَّ يَنْشُرُهُ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ، ثُمَّ يَفْتَحُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ، فَيَسِيلُ الْمَاءُ عَلَى السَّحَابِ، ثُمَّ يُمْطِرُ السَّحَابَ بَعْدَ ذَلِكَ‏.‏ وَأَمَّا “ رَحْمَتُهُ “، فَهُوَ الْمَطَرُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ “، فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ كَمَا نُحْيِي هَذَا الْبَلَدَ الْمَيِّتَ بِمَا نُنْـزِلُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي نُنْـزِلُهُ مِنَ السَّحَابِ، فَنُخْرِجُ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَجَدُوبَتِهِ وقُحُوطِ أَهْلِهِ، كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بَعْدَ فِنَائِهِمْ وَدُرُوسِ آثَارِهِمْ “ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ “، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، الْمُنْكِرِينَ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ‏:‏ ضَرَبْتُ لَكُمْ، أَيُّهَا الْقَوْمُ، هَذَا الْمَثَلَ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ‏:‏ مِنْ إِحْيَاءِ الْبَلَدِ الْمَيِّتِ بِقَطْرِ الْمَطَرِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ السَّحَابُ الَّذِي تَنْشُرُهُ الرِّيَاحُ الَّتِي وَصَفْتُ صِفَتَهَا، لِتَعْتَبِرُوا فَتَذَكَّرُوا وَتَعَلَّمُوا أَنَّ مَنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قُدْرَتِهِ، فَيَسِيرٌ فِي قُدْرَتِهِ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى بَعْدَ فَنَائِهَا، وَإِعَادَتِهَا خَلْقًا سَوِيًّا بَعْدَ دُرُوسِهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ “، وَكَذَلِكَ تَخْرُجُونَ، وَكَذَلِكَ النُّشُورُ، كَمَا نُخْرِجُ الزَّرْعَ بِالْمَاءِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ إِنَّ النَّاسَ إِذَا مَاتُوا فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى، أُمْطِرُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَاءٍ تَحْتَ الْعَرْشِ يُدْعَى “ مَاءَ الْحَيَوَانِ “ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ مِنَ الْمَاءِ‏.‏ حَتَّى إِذَا اسْتُكْمِلَتْ أَجْسَادُهُمْ، نُفِخَ فِيهِمُ الرُّوحَ، ثُمَّ تُلْقَى عَلَيْهِمْ نَوْمَةً، فَيَنَامُونَ فِي قُبُورِهِمْ‏.‏ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ الثَّانِيَةِ عَاشُوا، وَهُمْ يَجِدُونَ طَعْمَ النَّوْمِ فِي رُؤُوسِهِمْ وَأَعْيُنِهِمْ، كَمَا يَجِدُ النَّائِمُ حِينَ يَسْتَيْقِظُ مِنْ نَوْمِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُونَ‏:‏ ‏{‏يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا‏}‏، فَنَادَاهُمُ الْمُنَادِي‏:‏ ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ يس‏:‏ 52‏]‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ “ ‏{‏كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى‏}‏ “، قَالَ‏:‏ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخْرِجَ الْمَوْتَى، أَمْطَرَ السَّمَاءَ حَتَّى تَتَشَقَّقَ عَنْهُمُ الْأَرْضُ، ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَرْوَاحَ، فَتَعُودُ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا، فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى بِالْمَطَرِ كَإِحْيَائِهِ الْأَرْضَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَاَلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبَةُ تُرْبَتُهُ، الْعَذْبَةُ مَشَارِبُهُ، يَخْرُجُ نَبَاتُهُ إِذَا أَنْـزَلَ اللَّهُ الْغَيْثَ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ الْحَيَّا، بِإِذْنِهِ، طَيِّبًا ثَمَرُهُ فِي حِينِهِ وَوَقْتِهِ‏.‏ وَاَلَّذِي خَبُثَ فَرَدُءَتْ تُرْبَتُهُ، وَمَلُحَتْ مَشَارِبُهُ، لَا يَخْرُجُ نَبَاتَهُ إِلَّا نَكِدًا

يَقُولُ‏:‏ إِلَّا عَسِرًا فِي شِدَّةٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

لَا تُنْجِـزُ الوعْـدَ، إِنْ وَعَـدْتَ، وَإِنْ *** أَعْطَيْـتَ أَعْطَيْـتَ تَافِهًـا نَكِـدَا

يَعْنِي بِـ “ التَّافِهِ “، الْقَلِيلَ، وَبِـ “ النَّكَدِ “ الْعُسْرَ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ “ نَكِدَ يَنْكَدُ نَكَدًا، وَنَكْدًا فَهُوَ نَكَدٌ وَنَكِدٌ “، وَالنُّكْدُ، الْمَصْدَرُ‏.‏ وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ‏:‏ “ نَكْدًا وَجَحَدًا “، “ وَنُكْدًا وَجُحْدًا “‏.‏ وَ“ الْجَحْدُ “، الشِّدَّةُ وَالضِّيقُ‏.‏ وَيُقَالُ‏:‏ “ إِذَا شُفِهَ وَسُئِلَ‏:‏ قَدْ نَكَدُوهُ يَنْكَدُونَهُ نَكْدًا “، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَأَعْـطِ مَـا أَعْطَيْتَـهُ طَيِّبًـا *** لَا خَـيْرَ فِـي المَنْكُـودِ والنَّـاكِدِ

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا نَكَدًا‏}‏، بِفَتْحِ الْكَافِ‏.‏

وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِسُكُونِ الْكَافِ‏:‏ ‏(‏نَكْدًا‏)‏‏.‏

وَخَالَفَهُمَا بَعْدُ سَائِرُ الْقَرَأَةِ فِي الْأَمْصَارِ، فَقَرَءُوهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا نَكِدًا‏}‏، بِكَسْرِ الْكَافِ‏.‏

كَأَنَّ مَنْ قَرَأَهُ‏:‏ “ نَكَدًا “ بِنَصْبِ الْكَافِ أَرَادَ الْمَصْدَرَ‏.‏

وَكَأَنَّ مَنْ قَرَأَهُ بِسُكُونِ الْكَافِ أَرَادَ كَسْرَهَا، فَسَكَّنَهَا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ‏:‏ “ هَذِهِ فِخْذٌ وَكِبْدٌ “، وَكَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ ذَلِكَ أَنْ يَكْسِرَ “ النُّونَ “ مِنْ “ نَكَدٍ “ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَصَابَ الْقِيَاسَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ‏:‏ ‏(‏نَكِدًا‏)‏، بِفَتْحِ “ النُّونِ “ وَكَسْرِ “ الْكَافِ “، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ كَذَلِكَ‏:‏ نُبَيِّنُ آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، وَنُدْلِي بِحُجَّةٍ بَعْدَ حُجَّةٍ، وَنَضْرِبُ مَثَلًا بَعْدَ مَثَلٍ، لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ، وَتَبْصِيرِهِ إِيَّاهُمْ سَبِيلَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، بِاتِّبَاعِهِمْ مَا أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ، وَتَجَنُّبِهِمْ مَا أَمَرَهُمْ بِتَجَنُّبِهِ مِنْ سُبُلِ الضَّلَالَةِ‏.‏ وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ الَّذِي يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، مَثَلٌ لِلْمُؤْمِنِ وَاَلَّذِي خَبُثَ فَلَا يَخْرُجُ نَبَاتُهُ إِلَّا نَكِدًا، مَثَلٌ لِلْكَافِرِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا‏}‏ “، فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ هُوَ طَيِّبٌ، وَعَمَلُهُ طَيِّبٌ، كَمَا الْبَلَدُ الطَّيِّبُ ثَمَرُهُ طَيِّبٌ‏.‏ ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلَ الْكَافِرِ كَالْبَلْدَةِ السَّبِخَةِ الْمَالِحَةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا النَّـزُّ فَالْكَافِرُ هُوَ الْخَبِيثُ، وَعَمَلُهُ خَبِيثٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ “ ‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ‏}‏ “، وَ“ الَّذِي خَبُثَ “ قَالَ‏:‏ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْضِ السِّبَاخِ وَغَيْرِهَا، مِثْلُ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، فِيهِمْ طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ “ ‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَاَلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا‏}‏ “، قَالَ‏:‏ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ فِي الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ “ ‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَاَلَّذِي خَبُثَ‏}‏ “، هِيَ السَّبِخَةُ لَا يَخْرُجُ نَبَاتُهَا إِلَّا نَكِدًا وَ“ النَّكِدُ “، الشَّيْءُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ‏.‏ فَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ لَمَّا نَـزَلَ الْقُرْآنُ، فَالْقَلْبُ الْمُؤْمِنُ لَمَّا دَخَلَهُ الْقُرْآنُ آمَنَ بِهِ وَثَبُتَ الْإِيمَانُ فِيهِ، وَالْقَلْبُ الْكَافِرُ لَمَّا دَخَلَهُ الْقُرْآنُ لَمْ يَتَعَلَّقْ مِنْهُ بِشَيْءٍ يَنْفَعُهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ إِلَّا مَا لَا يَنْفَعُ، كَمَا لَمْ يُخْرِجْ هَذَا الْبَلَدُ إِلَّا مَا لَا يَنْفَعُ مِنَ النَّبَاتِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ “ ‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَاَلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا‏}‏ “، قَالَ‏:‏ الطَّيِّبُ يَنْفَعُهُ الْمَطَرُ فَيَنْبُتُ، “ ‏{‏وَاَلَّذِي خَبُثَ‏}‏ “ السِّبَاخُ، لَا يَنْفَعُهُ الْمَطَرُ، لَا يَخْرُجُ نَبَاتُهُ إِلَّا نَكِدًا‏.‏ قَالَ‏:‏ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ كُلِّهِمْ، إِنَّمَا خُلِقُوا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَكِتَابِهِ، فَطَابَ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَكِتَابِهِ، فَخَبُثَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ أَقْسَمَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ أَنَّهُ أَرْسَلَ نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، مُنْذِرَهُمْ بَأْسَهُ، وَمُخَوِّفَهُمْ سَخَطَهُ، عَلَى عِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ، فَقَالَ لِمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ‏:‏ يَا قَوْمِ، اعْبُدُوا اللَّهَ الَّذِي لَهُ الْعِبَادَةُ، وَذِلُّوا لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَاخْضَعُوا لَهُ بِالِاسْتِكَانَةِ، وَدَعَوْا عِبَادَةَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ مَعْبُودٌ يَسْتَوْجِبُ عَلَيْكُمُ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ “ ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ “، يَعْنِي‏:‏ عَذَابَ يَوْمٍ يَعْظُمُ فِيهِ بَلَاؤُكُمْ بِمَجِيئِهِ إِيَّاكُمْ بِسَخَطِ رَبِّكُمْ‏.‏

وَقَدْ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ “ غَيْرُهُ “‏.‏

فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِهِ‏}‏، بِخَفْضِ “ غَيْرِ “ عَلَى النَّعْتِ لِـ “ إِلَهٍ “‏.‏

وَقَرَأَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏، بِرَفْعِ “ غَيْرِ “، رَدًّا لَهَا عَلَى مَوْضِعِ “ مِنْ “، لِأَنَّ مَوْضِعَهَا رَفْعٌ، لَوْ نُـزِعَتْ مِنَ الْكَلَامِ لَكَانَ الْكَلَامُ رَفْعًا، وَقِيلَ‏:‏ “مَا لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ “‏.‏ فَالْعَرَبُ ‏[‏لَمَّا وَصَفَتْ مِنْ أَنَّ الْمَعْلُومَ بِالْكَلَامِ‏]‏ أَدْخَلَتْ “ مِنْ “ فِيهِ أَوْ أَخْرَجَتْ، وَأَنَّهَا تُدْخِلُهَا أَحْيَانًا فِي مِثْلِ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، وَتُخْرِجُهَا مِنْهُ أَحْيَانًا، تَرُدُّ مَا نَعَتَتْ بِهِ الِاسْمَ الَّذِي عَمِلَتْ فِيهِ عَلَى لَفْظِهِ، فَإِذَا خَفَضَتْ، فَعَلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهَا نَعَتٌ لِـ “ الْإِلَهِ “‏.‏ وَأَمَّا إِذَا رَفَعَتْ، فَعَلَى كَلَامَيْنِ‏:‏ “ مَا لَكَمَ غَيْرُهُ مِنْ إِلَهٍ “، وَهَذَا قَوْلٌ يَسْتَضْعِفُهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، عَنْ جَوَابِ مُشْرِكِي قَوْمِ نُوحٍ لِنُوحٍ، وَهُمْ “ الْمَلَأُ “ وَ“ الْمَلَأُ “، الْجَمَاعَةُ مِنَ الرِّجَالِ، لَا امْرَأَةً فِيهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ‏:‏ “ إِنَّا لَنَرَاكَ “، يَا نُوحُ “ ‏{‏فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ “، يَعْنُونَ فِي أَمْرٍ زَائِلٍ عَنِ الْحَقِّ، مُبَيَّنٌ زَوَالُهُ عَنْ قَصْدِ الْحَقِّ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ مُجِيبًا لَهُمْ‏:‏ يَا قَوْمِ، لَمْ آمُرْكُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ إِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالطَّاعَةِ دُونَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، زَوَالًا مِنِّي عَنْ مَحَجَّةِ الْحَقِّ، وَضَلَالًا لِسَبِيلِ الصَّوَابِ، وَمَا بِي مَا تَظُنُّونَ مِنَ الضَّلَالِ، وَلَكِنِّي رَسُولٌ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ‏:‏ مِنْ إِفْرَادِهِ بِالطَّاعَةِ، وَالْإِقْرَارِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَكَذَّبُوهُ‏:‏ “ ‏{‏وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِ الْعَالَمِينَ‏}‏ “، أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، فَأَنَا أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي، وَأَنْصَحُ لَكُمْ فِي تَحْذِيرَيْ إِيَّاكُمْ عِقَابَ اللَّهِ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ، وَتَكْذِيبِكُمْ إِيَّايَ، وَرَدِّكُمْ نَصِيحَتِي “ ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ “، مِنْ أَنَّ عِقَابَهُ لَا يَرُدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا أَيْضًا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ عَنْ قِيلِ نُوحٍ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ، إِذْ رَدُّوا عَلَيْهِ النَّصِيحَةَ فِي اللَّهِ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بَعَثَهُ نَبِيًّا، وَقَالُوا لَهُ‏:‏ ‏{‏مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ هُودٍ‏:‏ 27‏]‏‏:‏ “ ‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ تَذْكِيرٌ مِنَ اللَّهِ وَعِظَةٌ، يَذْكُرُكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ رَبُّكُمْ “ ‏{‏عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ‏}‏ “، قِيلَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ‏}‏ “، مَعَ رَجُلٍ مِنْكُمْ “ لِيُنْذِرَكُمْ “، يَقُولُ‏:‏ لِيُنْذِرَكُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَيُخَوِّفَكُمْ عِقَابَهُ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ “ وَلِتَتَّقُوا “، يَقُولُ‏:‏ وَكَيْ تَتَّقُوا عِقَابَ اللَّهِ وَبَأْسَهُ، بِتَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ “ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ وَلِيَرْحَمَكُمْ رَبُّكُمْ إِنِ اتَّقَيْتُمُ اللَّهَ، وَخِفْتُمُوهُ وَحَذِرْتُمْ بَأْسَهُ‏.‏

وَفُتِحَتِ “ الْوَاوُ “ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ “ أَوَ عَجِبْتُمْ “، لِأَنَّهَا وَاوُ عَطْفٍ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَكَذَّبَ نُوحًا قَوْمُهُ إِذْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ، يَأْمُرُهُمْ بِخَلْعِ الْأَنْدَادِ، وَالْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَخَالَفُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ فِي الْفُلْكِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَكَانُوا بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْفُسًا عَشْرَةً، فِيمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ نُوحٌ، وَبَنُوهُ الثَّلَاثَةُ سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، وَأَزْوَاجُهُمْ، وَسِتَّةُ أَنَاسِيٍّ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ‏.‏

وَكَانَ حَمَلَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ هُودٍ‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وَ “ الْفُلْكُ “، هُوَ السَّفِينَةُ‏.‏

“ ‏{‏وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ وَأَغْرَقَ اللَّهُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِحُجَجِهِ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا رُسُلَهُ، وَلَمْ يَقْبَلُوا نَصِيحَتَهُ إِيَّاهُمْ فِي اللَّهِ بِالطُّوفَانِ‏.‏

“ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ عَمِينَ عَنِ الْحَقِّ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ “ عَمَّيْنِ “، قَالَ‏:‏ عَنِ الْحَقِّ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏قَوْمًا عَمِينَ‏}‏ “، قَالَ‏:‏ الْعَمَى، الْعَامِي عَنِ الْحَقِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَقَدْ أَرْسَلَنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وَلِذَلِكَ نُصِبَ “ هُودًا “، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِهِ عَلَى “ نُوحٍ “ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَالَ هُودٌ‏:‏ يَا قَوْمِ، اعْبُدُوا اللَّهَ فَأَفْرِدُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَلَا تَجْعَلُوا مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ “ أَفَلَا تَتَّقُونَ “، رَبَّكُمْ فَتَحْذَرُونَهُ، وَتَخَافُونَ عِقَابَهُ بِعِبَادَتِكُمْ غَيْرَهُ، وَهُوَ خَالِقُكُمْ وَرَازِقُكُمْ دُونَ كُلِّ مَا سِوَاهُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 67‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مُخْبِرًا عَمَّا أَجَابَ هُودًا بِهِ قَوْمُهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَللَّهِ‏:‏ “ ‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ “، يَعْنِي‏:‏ الَّذِينَ جَحَدُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ وَأَنْكَرُوا رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ “ ‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ‏}‏ “، يَا هُودُ “ ‏{‏فِي سَفَاهَةٍ‏}‏ “، يَعْنُونَ‏:‏ فِي ضَلَالَةٍ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ بِتَرْكِكَ دِينَنَا وَعِبَادَةِ آلِهَتِنَا “ ‏{‏وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ‏}‏ “، فِي قِيْلِكَ‏:‏ “ ‏{‏إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِ الْعَالَمِينَ‏}‏ “ قَالَ‏:‏ “ ‏{‏يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ أَيْ ضَلَالَةٌ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ “ ‏{‏وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِ الْعَالَمِينَ‏}‏ “، أَرْسَلَنِي، فَأَنَا أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي، وَأُؤَدِّيهَا إِلَيْكُمْ كَمَا أَمَرَنِي أَنْ أُؤَدِّيَهَا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي‏}‏ “، أُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَيْكُمْ، أَيُّهَا الْقَوْمُ “ ‏{‏وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ وَأَنَا لَكُمْ فِي أَمْرِي إِيَّاكُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَدُعَائِكُمْ إِلَى تَصْدِيقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، نَاصِحٌ، فَاقْبَلُوا نَصِيحَتِي، فَإِنِّي أَمِينٌ عَلَى وَحْيِ اللَّهِ، وَعَلَى مَا ائْتَمَنَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، لَا أَكْذِبُ فِيهِ وَلَا أَزِيدُ وَلَا أُبَدِّلُ، بَلْ أُبَلِّغُ مَا أُمِرْتُ كَمَا أُمِرْتُ “ ‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ أَنْـزَلَ اللَّهُ وَحَيَّهُ بِتَذْكِيرِكُمْ وَعِظَتِكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الضَّلَالَةِ، عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ بَأَسَ اللَّهِ وَيُخَوِّفَكُمْ عِقَابَهُ “ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَاذْكُرُوا مَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْعَذَابِ إِذْ عَصَوْا رَسُولَهُمْ، وَكَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا جَعَلَكُمْ رَبُّكُمْ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ مِنْهُمْ، لَمَّا أَهْلَكَهُمْ أَبْدَلَكُمْ مِنْهُمْ فِيهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ نَظِيرَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، فَيُهْلِكَكُمْ وَيُبَدِّلَ مِنْكُمْ غَيْرُكُمْ، سُنَّتَهُ فِي قَوْمِ نُوحٍ قَبْلَكُمْ، عَلَى مَعْصِيَتِكُمْ إِيَّاهُ وَكُفْرِكُمْ بِهِ “ ‏{‏وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً‏}‏ “، زَادَ فِي أَجْسَامِكُمْ طُولًا وَعِظَمًا عَلَى أَجْسَامِ قَوْمِ نُوحٍ، وَفِي قُوَاكُمْ عَلَى قُوَاهُمْ، نِعْمَةً مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ، فَاذْكُرُوا نِعَمَهُ وَفَضْلَهُ الَّذِي فَضَّلَكُمْ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي أَجْسَامِكُمْ وَقُوَاكُمْ، وَاشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَتَرْكِ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَهَجْرِ الْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ “ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ كَيْ تُفْلِحُوا فَتُدْرِكُوا الْخُلُودَ وَالْبَقَاءَ فِي النِّعَمِ فِي الْآخِرَةِ، وَتَنْجَحُوا فِي طَلَبَاتِكُمْ عِنْدَهُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ “، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ “ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ “، يَقُولُ‏:‏ ذَهَبَ بِقَوْمِ نُوحٍ، وَاسْتَخْلَفَكُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ “ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ “، أَيْ‏:‏ سَاكِنِي الْأَرْضِ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا أَيْضًا قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ “ بَسْطَةً “‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ “ ‏{‏وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً‏}‏ “، قَالَ‏:‏ مَا لِقُوَّةِ قَوْمِ عَادٍ‏.‏

وَأَمَّا “ الْآلَاءُ “، فَإِنَّهَا جَمْعٌ، وَاحِدُهَا‏:‏ “ إلًى “ بِكَسْرِ “ الْأَلِفِ “ فِي تَقْدِيرِ “ مِعًى “، وَيُقَالُ‏:‏ “ أَلَى “ فِي تَقْدِيرِ “ قَفَا “ بِفَتْحِ “ الْأَلِفِ “‏.‏ وَقَدْ حُكِيَ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ‏:‏ “ إِلْيٌ “ مِثْلَ “ حِسْيٍ “‏.‏ وَ“ الْآلَاءُ “، النِّعَمُ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ “ ‏{‏فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ‏}‏ “، أَيْ‏:‏ نِعَمَ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ أَمَّا “ ‏{‏آلَاءَ اللَّهِ‏}‏ “، فَنِعَمُ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ ‏{‏فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ‏}‏ “، قَالَ‏:‏ آلَاؤُهُ، نِعَمُهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَ“ عَادٌ “، هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهَ صِفَتَهُمْ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ هُودًا يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، هُمْ، فِيمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ وَلَدُ عَادِ بْنِ إِرَمَ بْنِ عَوْصِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ‏.‏

وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمُ الشِّحْرَ، مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ وَمَا وَالَى بِلَادَ حَضْرَمَوْتَ إِلَى عُمَانَ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ أَنْ عَادًا قَوْمٌ كَانُوا بِالْيَمَنِ، بِالْأَحْقَافِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ لِرَجُلٍ مِنْ حَضْرَمَوْتَ‏:‏ هَلْ رَأَيْتَ كَثِيبًا أَحْمَرَ تُخَالِطُهُ مَدَرَةٌ حَمْرَاءُ، ذَا أَرَاكٍ وَسِدْرٍ كَثِيرٍ بِنَاحِيَةِ كَذَا وَكَذَا مَنْ أَرْضَ حَضْرَمَوْتَ، هَلْ رَأَيْتَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ‏!‏ وَاَللَّهِ إِنَّكَ لَتَنْعَتُهُ نَعْتَ رَجُلٍ قَدْ رَآهُ‏!‏ قَالَ‏:‏ لَا وَلَكِنِّي قَدْ حُدِّثَتْ عَنْهُ‏.‏ فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ‏:‏ وَمَا شَأْنُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فِيهِ قَبْرُ هُودٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ كَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ وَجَمَاعَتِهِمْ، حِينَ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ هُودًا، الْأَحْقَافَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَ“ الْأَحْقَافُ “، الرَّمْلُ، فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، فَالْيَمَنِ كُلِّهِ‏.‏ وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ فَشُّوا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، وَقَهَرُوا أَهْلَهَا بِفَضْلِ قُوَّتِهِمُ الَّتِي آتَاهُمُ اللَّهُ‏.‏ وَكَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏:‏ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ “ صُداءُ “، وَصَنَمٌ يُقَالُ لَهُ “ صَمُودُ “، وَصَنَمٌ يُقَالُ لَهُ “ الْهَبَاءُ “‏.‏ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هُودًا، وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا، وَأَفْضَلِهِمْ مَوْضِعًا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ وَلَا يَجْعَلُوا مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَأَنْ يَكُفُّوا عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ‏.‏ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ فِيمَا يُذْكَرُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، بِغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏ فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَكَذَّبُوهُ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ “ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً‏!‏ “‏.‏ وَاتَّبَعَهُ مِنْهُمْ نَاسٌ، وَهُمْ يَسِيرٌ مُكْتَتِمُونَ بِإِيمَانِهِمْ‏.‏ وَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ رَجُلٌ مِنْ عَادٍ يُقَالُ لَهُ‏:‏ “ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُفَيْرٍ “، وَكَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ‏.‏ فَلَمَّا عَتَوْا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ، وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَتَجَبَّرُوا وَبَنَوْا بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً عَبَثًا بِغَيْرِ نَفْعٍ، كَلَّمَهُمْ هُودٌ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الشُّعَرَاءِ‏:‏ 128- 131‏]‏، ‏{‏قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ‏}‏، أَيْ‏:‏ مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ إِلَّا جُنُونٌ أَصَابَكَ بِهِ بَعْضُ آلِهَتِنَا هَذِهِ الَّتِي تَعِيبُ ‏{‏قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي‏}‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ هُودٍ‏:‏ 56‏]‏‏.‏ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ ثَلَاثَ سِنِينَ، فِيمَا يَزْعُمُونَ، حَتَّى جَهَدَهُمْ ذَلِكَ‏.‏ وَكَانَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِذَا نَـزَلَ بِهِمْ بَلَاءٌ أَوْ جَهْدٌ، فَطَلَبُوا إِلَى اللَّهِ الْفَرَجَ مِنْهُ، كَانَتْ طَلِبَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ بَيْتِهِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ، مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ، فَيَجْتَمِعُ بِمَكَّةَ نَاسٌ كَثِيرٌ شَتًّّى مُخْتَلِفَةٌ أَدْيَانُهُمْ، وَكُلُّهُمْ مُعَظِّمٌ لِمَكَّةَ، يَعْرِفُ حُرْمَتَهَا وَمَكَانَهَا مِنَ اللَّهِ‏.‏

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ وَكَانَ الْبَيْتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَعْرُوفًا مَكَانُهُ، وَالْحَرَمُ قَائِمٌ فِيمَا يَذْكُرُونَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ وَإِنَّمَا سَمَّوْا “ الْعَمَالِيقَ “، لِأَنَّ أَبَاهُمْ‏:‏ “عَمْلِيقُ بْنُ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ “ وَكَانَ سَيِّدُ الْعَمَالِيقِ إِذْ ذَاكَ بِمَكَّةَ، فِيمَا يَزْعُمُونَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُوهُ حَيًّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ قَدْ كَبُرَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَرْأَسُ قَوْمَهُ‏.‏ وَكَانَ السُّؤْدُدُ وَالشَّرَفُ مِنَ الْعَمَالِيقِ، فِيمَا يَزْعُمُونَ، فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ‏.‏ وَكَانَتْأُمُّ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، كَلَهْدَةَ ابْنَةُ الْخَيْبَرَيْ، رَجُلٍ مِنْ عَادٍ، فِلْمًا قَحَطَ الْمَطَرُ عَنْ عَادٍ وجُهِدوا، قَالُوا‏:‏ جَهِّزُوا مِنْكُمْ وَفْدًا إِلَى مَكَّةَ فَلْيَسْتَسْقُوا لَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ هَلَكْتُمْ‏!‏ فَبَعَثُوا قَيْلَ بْنَ عَنْـزٍ وَلُقَيْمَ بْنَ هَزَّالِ بْنِ هُزَيْلٍ، وَعُتَيْلَ بْنَ صُدَّ بْنِ عَادٍ الْأَكْبَرِ‏.‏ وَمَرْثَدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُفَيْرٍ، وَكَانَ مُسْلِمًا يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وجُلْهُمَةُ بْنُ الْخَيْبَرِيِّ، خَالُ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ أَخُو أُمِّهِ‏.‏ ثُمَّ بَعَثُوا لُقْمَانَ بْنَ عَادِ بْنِ فَلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ صُدَّ بْنِ عَادٍ الْأَكْبَرِ‏.‏ فَانْطَلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَعَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ، حَتَّى بَلَغَ عِدَّةُ وَفْدِهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا‏.‏ فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ نَـزَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، وَهُوَ بِظَاهِرِ مَكَّةَ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ، فَأَنْـزَلَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ وَكَانُوا أَخْوَالَهُ وَصِهْرَهُ‏.‏

فَلَمَّا نـَزَلَ وَفْدُ عَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، أَقَامُوا عِنْدَهُ شَهْرًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَتُغَنِّيهُمُ الْجَرَادَتَانِ قَيْنَتَانِ لمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ‏.‏ وَكَانَ مَسِيرُهُمْ شَهْرًا، وَمُقَامُهُمْ شَهْرًا‏.‏ فَلَمَّا رَأَى مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ طُولَ مُقَامِهِمْ، وَقَدْ بَعَثَهُمْ قَوْمُهُمْ يَتَعَوَّذُونَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي أَصَابَهُمْ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ هَلَكَ أَخْوَالِي وَأَصْهَارِي‏!‏ وَهَؤُلَاءِ مُقِيمُونَ عِنْدِي، وَهُمْ ضَيْفِي نَازِلُونَ عَلَيَّ‏!‏ وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِمْ‏؟‏ أَسْتَحِي أَنْ آمُرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى مَا بُعِثُوا لَهُ، فَيَظُنُّوا أَنَّهُ ضِيقُ مِنِّي بِمُقَامِهِمْ عِنْدِي، وَقَدْ هَلَكَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ جَهْدًا وَعَطَشًا‏!‏‏!‏ أَوْ كَمَا قَالَ‏.‏ فَشَكَا ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ إِلَى قَيْنَتَيْهِ الْجَرَادَتَيْنِ، فَقَالَتَا‏:‏ قُلْ شِعْرًا نُغَنِّيهِمْ بِهِ، لَا يَدْرُونَ مَنْ قَالَهُ، لَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يُحَرِّكَهُمْ‏!‏ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ، حِينَ أَشَارَتَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ‏:‏

أَلَّا يَـا قَيْـلَ، وَيْحَـكَ‏!‏ قُـمْ فَهَيْنِـمْ *** لَعَـلَّ اللَّـهَ يُصْبِحُنَـا غَمَامَـا

فَيَسْـقِي أَرْضَ عَـادٍ، إِنَّ عَـادًا *** قَـدَ امْسَـوا لَا يُبِينُـونَ الكَلامَـا

مِـنَ الْعَطَشِ الشَّـدِيدِ، فَلَيْسَ نَرْجُـو *** بِـهِ الشَّـيْخَ الكَبِـيرَ وَلَا الغُلامَـا

وَقـدْ كَـانَتْ نِسَـاؤُهُمُ بِخَـيْرٍ *** فَقَـدْ أَمْسَـتْ نِسَـاؤُهُمُ عَيَـامَى

وَإِنَّ الْوَحْـشَ تَـأْتِيهِمْ جِهَـارًا *** وَلَا تَخْشَـى لِعَـادِيٍّ سِـهَامَـا

وَأنْتُـمْ هَـاهُنَـا فِيمَـا اشْـتَهَيْتُمْ *** نَهَـارَكُمُ وَلَيْلَكُـمُ التَّمَامَـا

فَقُبِّـحَ وَفْـدُكُمْ مِـنْ وَفْـدِ قَـوْمٍ *** وَلَا لُقُّـوا التَّحِيَّـةَ وَالسَّـلَامَا

فَلَمَّا قَالَ مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ الشِّعْرَ، غَنَّتْهُمْ بِهِ الْجَرَادَتَانِ‏.‏ فَلَمَّا سَمِعَ الْقَوْمُ مَا غَنَّتَا بِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ يَا قَوْمُ، إِنَّمَا بَعَثَكُمْ قَوْمُكُمْ يَتَعَوَّذُونَ بِكُمْ مِنْ هَذَا الْبَلَاءِ الَّذِي نَـزَلَ بِهِمْ، وَقَدْ أَبْطَأْتُمْ عَلَيْهِمْ‏!‏ فَادْخُلُوا هَذَا الْحَرَمَ وَاسْتَسْقَوْا لِقَوْمِكُمْ‏!‏ فَقَالَ لَهُمْ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُفَيْرٍ‏:‏ إِنَّكُمْ وَاَللَّهِ لَا تُسْقَونَ بِدُعَائِكُمْ، وَلَكِنْ إِنْ أَطَعْتُمْ نَبِيَّكُمْ، وَأَنَبْتُمْ إِلَيْهِ، سُقِيتُمْ‏!‏ فَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ جُلْهُمَةُ بْنُ الخَيْبَرِيِّ، خَالُ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، حِينَ سَمِعَ قَوْلَهُ، وَعَرَفَ أَنَّهُ قَدْ اتَّبَعَ دِينَ هُودٍ وَآمَنَ بِهِ‏:‏

أَبَـا سَـعْدٍ فَـإِنَّكَ مِـنْ قَبِيـلٍ *** ذَوِي كَـرَمٍ وَأُمُّـكَ مِـنْ ثَمُـودِ

فَإنَّـا لَـنْ نُطِيعَـكَ مَـا بَقِينَـا *** وَلَسْـنَا فَـاعِلِينَ لِمَـا تُرِيـدُ

أَتَأْمُرْنَـا لِنَـتْرُكَ دِيـنَ رِفْـدٍ *** وَرَمْـلَ وَآلَ صُـدَّ والعُبُـودِ

وَنَـتْرُكَ دِيـنَ آبـاءٍ كِـرَامٍ *** ذَوِي رَأْيٍ وَنَتْبَـعَ دِيـنَ هُـودِ

ثُمَّ قَالُوا لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِيهِ بَكْرٍ‏:‏ احْبِسَا عَنَّا مَرْثَدَ بْنَ سَعْدٍ، فَلَا يَقْدُمَنَّ مَعَنَا مَكَّةَ، فَإِنَّهُ قَدْ اتَّبَعَ دِينَ هُودٍ، وَتَركَ دِينَنَا‏!‏ ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ يَسْتَسْقُونَ بِهَا لِعَادٍ‏.‏ فَلَمَّا وَلَّوْا إِلَى مَكَّةَ خَرَجَ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ مَنْـزِلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ حَتَّى أَدْرَكَهُمْ بِهَا، قَبْلَ أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ بِشَيْءٍ مِمَّا خَرَجُوا لَهُ‏.‏ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ، قَامَ يَدْعُو اللَّهَ بِمَكَّةَ، وَبِهَا وَفْدُ عَادٍ قَدْ اجْتَمَعُوا يَدْعُونَ، يَقُولُ‏:‏ “ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي سُؤْلِي وَحْدِي وَلَا تُدْخِلْنِي فِي شَيْءٍ مِمَّا يَدْعُوكَ بِهِ وَفْدُ عَادٍ “‏!‏ وَكَانَ قَيْلُ بْنُ عَنْـزٍ رَأْسَ وَفْدِ عَادٍ‏.‏ وَقَالَ وَفْدُ عَادٍ‏:‏ “ اللَّهُمَّ أَعْطِ قَيْلًا مَا سَأَلَكَ، وَاجْعَلْ سُؤْلَنَا مَعَ سُؤْلِهِ “‏!‏ وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ وَفْدِ عَادٍ حِينَ دَعَا، لُقْمَانُ بْنُ عَادٍ، وَكَانَ سَيِّدَ عَادٍ‏.‏ حَتَّى إِذَا فَرَغُوا مِنْ دَعْوَتِهِمْ قَامَ فَقَالَ‏:‏ “ اللَّهُمَّ إِنِّي جِئْتُكَ وَحْدِي فِي حَاجَتِي، فَأَعْطِنِي سُؤْلِي “‏!‏ وَقَالَ قَيْلَ بْنُ عَنْـزٍ حِينَ دَعَا‏:‏ “ يَا إِلَهَنَا، إِنْ كَانَ هُودٌ صَادِقًا فَاسْقِنَا، فَإِنَّا قَدْ هَلَكْنَا “‏!‏ فَأَنْشَأَ اللَّهُ لَهُمْ سَحَائِبَ ثَلَاثًا‏:‏ بَيْضَاءَ، وَحَمْرَاءَ، وَسَوْدَاءَ‏.‏ ثُمَّ نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّحَابِ‏:‏ “ يَا قَيْلُ، اخْتَرْ لِنَفْسِكَ وَلِقَوْمِكَ مِنْ هَذِهِ السَّحَائِبِ “‏.‏ فَقَالَ‏:‏ “ اخْتَرْتُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ، فَإِنَّهَا أَكْثَرُ السَّحَابِ مَاءً “‏!‏ فَنَادَاهُ مُنَادٍ‏:‏ “ اخْتَرْتَ رَمَادًا، رِمْدِدًا، لَا تُبْقِي مِنْ آلٍ عَادٍ أَحَدًا، لَا وَالِدًا تَتْرُكُ وَلَا وَلَدًا، إِلَّا جَعَلْتَهُ هَمِدًا، إِلَّا بَنِي اللُّوذِيَّةِ الْمُهَدَّى “ وَ“ بَنُو اللُّوذِيَّةِ “، بَنُو لُقََيْمِ بْنِ هَزَّالِ بْنِ هُزَيْلَةَ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانُوا سُكَّانًا بِمَكَّةَ مَعَ أَخْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا مَعَ عَادٍ بِأَرْضِهِمْ، فَهُمْ عَادٌ الْآخِرَةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ نَسْلِهِمُ الَّذِينَ بَقُوا مِنْ عَادٍ‏.‏

وَسَاقَ اللَّهُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ، فِيمَا يُذْكُرُونَ، الَّتِي اخْتَارَهَا قَيْلُ بْنُ عَنْـزٍ بِمَا فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ إِلَى عَادٍ، حَتَّى خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ يُقَالُ لَهُ‏:‏ “ الْمُغِيثُ “‏.‏ فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا بِهَا، وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا‏}‏، يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَحْقَافِ‏:‏ 25‏]‏، أَيْ‏:‏ كُلَّ شَيْءٍ أَمَرَّتْ بِهِ‏.‏ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَبْصَرَ مَا فِيهَا وَعَرَفَ أَنَّهَا رِيحٌ، فِيمَا يَذْكُرُونَ، امْرَأَةً مِنْ عَادٍ يُقَالُ لَهَا “مَهْدَدُ“‏.‏، فَلَمَّا تَيَقَّنَتْ مَا فِيهَا صَاحَتْ، ثُمَّ صَعِقَتْ‏.‏ فَلَمَّا أَنْ أَفَاقَتْ قَالُوا‏:‏ مَاذَا رَأَيْتِ يَامَهْدَدُ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ رَأَيْتُ رِيحًا فِيهَا كَشُهُبِ النَّارِ، أَمَامَهَا رِجَالٌ يَقُودُونَهَا‏!‏ فَسَخَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ وَ“ الْحُسُومُ “، الدَّائِمَةُ فَلَمْ تَدَعْ مِنْ عَادٍ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ‏.‏ فَاعْتَزَلَ هُودٌ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَظِيرَةٍ، مَا يُصِيبُهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا مَا تَلِينُ عَلَيْهِ الْجُلُودُ، وَتَلْتَذُّ الْأَنْفُسُ، وَإِنَّهَا لِتَمُرُّ عَلَى عَادٍ بِالطَّعْنِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَتَدْمَغُهُمْ بِالْحِجَارَةِ‏.‏ وَخَرَجَ وَفْدُ عَادٍ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى مَرُّوا بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ وَأَبِيهِ، فَنَـزَلُوا عَلَيْهِ‏.‏ فَبَيْنَمَا هُمْ عِنْدَهُ، إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ مُسْيَ ثَالِثَةٍ مِنْ مُصَابِ عَادٍ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَقَالُوا لَهُ‏:‏ أَيْنَ فَارَقَتْ هُودًا وَأَصْحَابَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَارَقْتُهُمْ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ‏.‏ فَكَأَنَّهُمْ شَكُّوا فِيمَا حَدَّثَهُمْ بِهِ، فَقَالَتْهُزَيْلَةُ بِنْتُ بَكْرٍ‏:‏ صَدَقَ وَرَبِ الْكَعْبَةِ‏!‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، «عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانٍ الْبَكْرِيِّ قَالَ‏:‏ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ بالرَّبَذَةِ، فَقَالَتْ‏:‏ هَلْ أَنْتَ حَامِلِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏؟‏ قُلْت‏:‏ نَعَمْ‏!‏ فَحَمَلْتُهَا حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَإِذَا بِلَالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ، وَإِذَا رَايَاتٌ سُودٌ‏.‏ قَالَ قُلْتُ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَدِمَ مِنْ غَزْوَتِهِ‏.‏ فَلَمَّا نـَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَلَى مِنْبَرِهِ، أَتَيْتُهُ فَاسْتَأْذَنْتُ، فَأَذِنَ لِي، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بِالْبَابِ امْرَأَةً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَقَدْ سَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْك‏.‏ قَالَ‏:‏ يَا بِلَالُ، ائْذَنْ لَهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَدَخَلَتْ، فَلَمَّا جَلَسَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ تَمِيمٍ شَيْءٌ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ وَكَانَتِ الدَّبَرَةُ عَلَيْهِمْ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ الدَّهْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَاجِزًا فَعَلْتَ‏!‏ قَالَ‏:‏ تَقُولُ الْمَرْأَةُ‏:‏ فَأَيْنَ تَضْطَرُّ مُضَرَكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ قُلْتُ‏:‏ مَثَلِي مَثَلُ مِعْزًى حَمَلَتْ حَتْفًا‏!‏ قَالَ قُلْتُ‏:‏ وَحَمَلْتُكِ تَكُونِينَ عَلَيَّ خَصْمًا‏!‏ أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ ‏!‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَمَا وَافِدُ عَادٍ‏؟‏ قَالَ قُلْتُ‏:‏ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ‏!‏ إِنَّ عَادًا قَحَطَتْ فَبَعَثَتْ مَنْ يَسْتَسْقِي لَهَا، فَبَعَثُوا رِجَالًا فَمَرُّوا عَلَى بَكْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَسَقَاهُمُ الْخَمْرَ وَتَغَنَّتْهُمْ الْجَرَادَتَانِ شَهْرًا، ثُمَّ بَعَثَ مِنْ عِنْدِهِ رَجُلًا حَتَّى أَتَى جِبَالَ مَهْرَةَ، فَدَعَوْا، فَجَاءَتْ سَحَابَاتٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكُلَّمَا جَاءَتْ سَحَابَةٌ قَالَ‏:‏ اذْهَبِي إِلَى كَذَا، حَتَّى جَاءَتْ سَحَابَةٌ، فَنُودِيَ مِنْهَا “ خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا لَا تَدَعُ مِنْ عَادٍ أَحَدًا “‏.‏ قَالَ‏:‏ فَسَمِعَهُ وَكَتَمَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْعَذَاب» قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ‏:‏ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثَ عَادٍ، قَالَ‏:‏ فَأَقْبَلَ الَّذِينَ أَتَاهُمْ، فَأَتَى جِبَالَ مَهْرَةَ، فَصَعِدَ فَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَجِئْكَ لِأَسِيرٍ فَأُفَادِيَهُ، وَلَا لِمَرِيضٍ فَأَشْفِيهِ، فَأَسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ مُسْقِيَهُ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَرُفِعَتْ لَهُ سَحَّابَاتٌ، قَالَ‏:‏ فَنُودِيَ مِنْهَا‏:‏ اخْتَرْ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَجَعَلَ يَقُولُ‏:‏ اذْهَبِي إِلَى بَنِي فُلَانٍ، اذْهَبِي إِلَى بَنِي فُلَانٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَمَرَّتْ آخِرَهَا سَحَابَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَ‏:‏ اذْهَبِي إِلَى عَادٍ ‏!‏ فَنُودِيَ مِنْهَا‏:‏ “ خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا، لَا تَدَعُ مِنْ عَادٍ أَحَدًا “‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَتَمَهُمْ، وَالْقَوْمُ عِنْدَ بَكْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، يَشْرَبُونَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَرِهَ بَكْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُمْ فِي طَعَامِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَخَذَ فِي الْغِنَاءِ وَذَكَّرَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ النَّحْوِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، «عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْبَكْرِيِّ قَالَ‏:‏ خَرَجْتُ لِأَشْكُوَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا عَجُوزٌ مُنْقَطِعٌ بِهَا، مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَتْ‏:‏ يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةً، فَهَلْ أَنْتِ مُبْلِغِي إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَحَمَلْتُهَا، فَقَدِمْتْ الْمَدِينَةَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِذَا رَايَاتٌ، قُلْتُ‏:‏ مَا شَأْنُ النَّاسِ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَجْهًا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجَلَسْتُ حَتَّى فَرَغَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَدَخَلَ مَنْـزِلَهُ- أَوْ قَالَ‏:‏ رَحْلُهُ- فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ فَقَعَدْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ تَمِيمٍ شَيْءٌ‏؟‏ قُلْت‏:‏ نَعَمْ‏!‏ وَكَانَتْ لَنَا الدَّبَرَةُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْهُمْ مُنْقَطَعٌ بِهَا، فَسَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ، وَهَا هِيَ بِالْبَابِ‏.‏ فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَتْ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ تَمِيمٍ الدَّهْنَا حَاجِزًا، فَحَمِيَتِ الْعَجُوزُ وَاسْتَوْفَزَتْ، وَقَالَتْ‏:‏ فَأَيْنَ تَضْطَرُّ مُضَرَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ، قُلْتُ‏:‏ أَنَا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ‏:‏ “ مِعْزًى حَمَلَتْ حَتْفًا “‏!‏ حَمَلْتُ هَذِهِ وَلَا أَشْعُرُ أَنَّهَا كَانَتْ لِي خَصْمًا‏!‏ أَعُوذُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ ‏!‏ قَالَ‏:‏ وَمَا وَافِدُ عَادٍ‏؟‏ “ قُلْتُ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ‏!‏ قَالَ‏:‏ وَهُوَ يَسْتَطْعِمُنِي الْحَدِيثَ‏.‏ قُلْتُ‏:‏ إِنْ عَادًا قُحِطُوا فَبَعَثُوا “ قَيْلًا “ وَافِدًا، فَنَـزَلَ عَلَى بَكْرٍ، فَسَقَاهُ الْخَمْرَ شَهْرًا وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا “ الْجَرَادَتَانِ “، فَخَرَجَ إِلَى جِبَالِ مَهْرَةَ، فَنَادَى‏:‏ “ إِنِّي لَمْ أَجِئْ لِمَرِيضٍ فَأُدَاوِيَهُ، وَلَا لِأَسِيرٍ فَأُفَادِيَهُ، اللَّهُمَّ فَاسْقِ عَادًا مَا كَانَتْ تُسْقِيهِ “‏!‏ فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ، فَنُودِيَ مِنْهَا‏:‏ “ خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا، لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا “‏.‏ قَالَ‏:‏ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ‏:‏ “ لَا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ “‏!‏ فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا قَدْرَ مَا يَجْرِي فِي خَاتَمِي قَالَ أَبُو وَائِلٍ‏:‏ فَكَذَلِكَ بَلَغَنِي»‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ “ ‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ “، أَنَّ عَادًا أَتَاهُمْ هُودٌ، فَوَعْظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِمَا قَصَّ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، فَكَذَّبُوهُ وَكَفَرُوا، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَحْقَافِ‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وَإِنَّ عَادًا أَصَابَهُمْ حِينَ كَفَرُوا قُحُوطُ الْمَطَرِ، حَتَّى جُهِدوا لِذَلِكَ جَهْدًا شَدِيدًا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ هُودًا دَعَا عَلَيْهِمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، وَهِيَ الرِّيحُ الَّتِي لَا تُلْقِحُ الشَّجَرَ‏.‏ فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهَا قَالُوا‏:‏ ‏{‏هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَحْقَافِ‏:‏ 24‏]‏‏.‏ فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُمْ، نَظَرُوا إِلَى الْإِبِلِ وَالرِّجَالِ تَطِيرُ بِهِمُ الرِّيحُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ‏.‏ فَلَمَّا رَأَوْهَا تَبَادَرُوا إِلَى الْبُيُوتِ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْبُيُوتَ، دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ فَأَهْلَكَتْهُمْ فِيهَا، ثُمَّ أَخْرَجَتْهُمْ مِنَ الْبُيُوتِ، فَأَصَابَتْهُمْ “ فِي يَوْمِ نَحْسٍ “ وَالنَّحْسُ، هُوَ الشُّؤْمُ وَ“ مُسْتَمِرٍّ “، اسْتَمَرَّ عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ “ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا “ حَسَمَتْ كُلَّ شَيْءٍ مَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَتْهُمْ مِنَ الْبُيُوتِ قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏تَنْزِعُ النَّاسَ‏}‏ مِنَ الْبُيُوتِ، ‏{‏كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْقَمَرِ‏:‏ 20‏]‏ انْقَعَرَ مِنْ أُصُولِهِ “ خَاوِيَةٍ “، خَوَتْ فَسَقَطَتْ‏.‏ فَلَمَّا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا سُودًا، فَنَقَلَتْهُمْ إِلَى الْبَحْرِ فَأَلْقَتْهُمْ فِيهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَحْقَافِ‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وَلَمْ تَخْرُجْ رِيحٌ قَطُّ إِلَّا بِمِكْيَالٍ، إِلَّا يَوْمَئِذٍ، فَإِنَّهَا عَتَتْ عَلَى الْخَزَنَةِ فَغَلَبَتْهُمْ، فَلَمْ يَعْلَمُوا كَمْ كَانَ مِكْيَالُهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْحَاقَّةِ‏:‏ 6‏]‏ وَ“ الصَّرْصَرُ “، ذَاتُ الصَّوْتِ الشَّدِيدِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَتْ عَادٌ لَهُ‏:‏ أَجِئْتَنَا تَتَوَعَّدُنَا بِالْعِقَابِ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، كَيْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَنَدِينَ لَهُ بِالطَّاعَةِ خَالِصًا، وَنَهْجُرَ عِبَادَةَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَهَا، وَنَتَبَرَّأَ مِنْهَا‏؟‏ فَلَسْنَا فَاعِلِي ذَلِكَ، وَلَا نَحْنُ مُتَّبِعُوكَ عَلَى مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا مِنَ الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ عَلَى تَرْكِنَا إِخْلَاصَ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ، وَعِبَادَتَنَا مَا نَعْبُدُ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ، إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ عَلَى مَا تَقُولُ وَتَعِدُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ‏:‏ قَدْ حَلَّ بِكُمْ عَذَابٌ وَغَضَبٌ مِنَ اللَّهِ‏.‏

وَكَانَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ- فِيمَا ذُكِرَ لَنَا عَنْهُ- يَزْعُمُ أَنَّ “ الرِّجْزَ “ وَ“ الرِّجْسَ “ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهَا مَقْلُوبَةٌ، السِّينُ زَايًا، كَمَا قُلِبَتْ “ سِتٌّ “ وَهِيَ مِنْ “ سُدَاسَ “ بِسِينٍ، وَكَمَا قَالُوا “ قَرَبُوسٌ “ وَ“ قَرَبُوتٌ “ وَكَمَا قَالَ الرَّاجِزُ‏:‏

أَلَّا لَحَـى اللـهُ بَنِـي السِّـعْلَاتِ *** عَمْـرَو بْـنَ يَرْبُـوعٍ لِئَـامَ النَّـاتِ

لَيْسُـوا بِأَعْفَـافٍ وَلَا أَكْيَـاتِ

يُرِيدُ “ النَّاسَ “، وَ“ أَكْيَاسَ “، فَقُلِبَتِ السِّينُ تَاءً، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ‏:‏

كَـمْ قَـدْ رَأَيْنَـا مِـنْ عَدِيـدٍ مُـبْزِي *** حَـتَّى وَقَمْنَـا كَيْـدَهُ بِـالرِّجْزِ

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ “ الرِّجْسُ “، السَّخَطُ‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبَى طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ سَخَطٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ‏}‏ فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ أَتُخَاصِمُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَصْنَامًا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ‏{‏أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهَا مِنْ حَجَّةٍ تَحْتَجُّونَ بِهَا، وَلَا مَعْذِرَةٍ تَعْتَذِرُونَ بِهَا، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ ضَرَّ وَنَفَعَ، وَأَثَابَ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَاقَبَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَرَزَقَ وَمَنَعَ‏.‏ فَأَمَّا الْجَمَادُ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، فَإِنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا ضَرَّ، إِلَّا أَنْ تُتَّخَذَ مِنْهُ آلَةٌ، وَلَا حُجَّةَ لِعَابِدٍ عَبَدَهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْذَنْ بِذَلِكَ، فَيَعْتَذِرُ مَنْ عَبَدَهُ بِأَنَّهُ يَعْبُدُهُ اتِّبَاعًا مِنْهُ أَمْرَ اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ إِيَّاهُ‏.‏ وَلَا هُوَ إِذْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي عِبَادَتِهِ مِمَّا يُرْجَى نَفْعُهُ، أَوْ يُخَافُ ضَرُّهُ، فِي عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، فَيَعْبُدُ رَجَاءَ نَفَعَهُ، أَوْ دَفَعَ ضَرَّهُ- ‏{‏فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَانْتَظَرُوا حُكْمَ اللَّهِ فِينَا وَفِيكُمْ ‏{‏إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ‏}‏ حُكْمَهُ وَفَصْلَ قَضَائِهِ فِينَا وَفِيكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَأَنْجَيْنَا نُوحًا وَاَلَّذِينَ مَعَهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِمَا دَعَا إِلَيْهِ، مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهَجْرِ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ ‏{‏بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَهْلَكْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا مِنْ قَوْمِ هُودٍ بِحُجَجِنَا جَمِيعًا عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ نُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ قَالَ‏:‏ اسْتَأْصَلْنَاهُمْ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ ‏[‏اَلْأَنْعَامِ‏:‏ 45‏]‏، بِشَوَاهِدِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

‏{‏وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَمْ يَكُونُوا مُصَدِّقِينَ بِاَللَّهِ وَلَا بِرَسُولِهِ هُودٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا‏}‏‏.‏

وَ “ ثَمُودُ “، هُوَ ثَمُودُ بْنُ غَاثِرِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ، وَهُوَ أَخُو جُدَيْسِ بْنِ غَاثِرٍ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمَا الْحِجْرَ، بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّأْمِ، إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَا حَوْلَهُ‏.‏

وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَإِلَى بَنِي ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا‏.‏

وَإِنَّمَا مَنْعَ “ ثَمُودَ “، لِأَنَّ “ ثَمُودَ “ قَبِيلَةٌ، كَمَا “ بَكْرٌ “ قَبِيلَةٌ، وَكَذَلِكَ “ تَمِيمٌ “‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ قَالَ صَالِحٌ لِثَمُودَ‏:‏ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَمَا لَكُمْ إِلَهٌ يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ غَيْرُهُ، وَقَدْ جَاءَتْكُمْ حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُ، وَحَقِيقَةِ مَا إِلَيْهِ أَدْعُو، مِنْإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَتَصْدِيقِي عَلَى أَنِّي لَهُ رَسُولٌ‏.‏ وَبَيِّنَتِي عَلَى مَا أَقُولُ، وَحَقِيقَةِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّي، وَحُجَّتِي عَلَيْهِ هَذِهِ النَّاقَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْهَضْبَةِ، دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِي وَصِدْقِ مَقَالَتِي، فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهَ‏.‏

وَإِنَّمَا اسْتَشْهَدَ صَالِحٌ، فِيمَا بَلَغَنِي، عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عِنْدَ قَوْمِهِ ثَمُودَ بِالنَّاقَةِ، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ إِيَّاهَا آيَةً وَدَلَالَةً عَلَى حَقِيقَةِ قَوْلِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَذِكْرُ سَبَبِ قَتْلِ قَوْمِ صَالِحٍ النَّاقَةَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ، قَالَتْ ثَمُودُ لِصَالِحٍ‏:‏ ائْتِنَا بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ‏:‏ اخْرُجُوا إِلَى هَضْبَةٍ مِنَ الْأَرْضِ‏!‏ فَخَرَجُوا، فَإِذَا هِيَ تَتَمَخَّضُ كَمَا تَتَمَخَّضُ الْحَامِلُ، ثُمَّ إِنَّهَا انْفَرَجَتْ فَخَرَجَتْ مِنْ وَسَطِهَا النَّاقَةُ، فَقَالَ صَالِحٌ‏:‏ ‏{‏هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏(‏‏{‏لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الشُّعَرَاءِ‏:‏ 155‏]‏‏.‏ فَلَمَّا مَلُّوهَا عَقَرُوهَا، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ هُودٍ‏:‏ 65‏]‏ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ‏:‏ وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ آخَرُ‏:‏ أَنَّ صَالِحًا قَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنَّ آيَةَ الْعَذَابِ أَنْ تُصْبِحُوا غَدًا حُمْرًا، وَالْيَوْمَ الثَّانِي صُفْرًا، وَالْيَوْمَ الثَّالِثَ سُودًا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَصَبَّحَهُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ تَحَنَّطُوا وَاسْتَعَدُّوا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا‏}‏، قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ صَالِحًا إِلَى ثَمُودَ، فَدَعَاهُمْ فَكَذَّبُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ مَا ذَكَرَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، فَجَاءَهُمْ بِالنَّاقَةِ، لَهَا شِرْبٌ وَلَهُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ‏}‏‏.‏ فَأَقَرُّوا بِهَا جَمِيعًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏، ‏[‏سُورَةُ فُصِّلَتْ‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وَكَانُوا قَدْ أَقَرُّوا بِهِ عَلَى وَجْهِ النِّفَاقِ وَالتَّقِيَّةِ، وَكَانَتِ النَّاقَةُ لَهَا شِرْبٌ، فَيَوْمُ تَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ تَمُرُّ بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَيَرْحَمَانِهَا، فَفِيهِمَا أَثَرُهَا حَتَّى السَّاعَةِ، ثُمَّ تَأْتِي فَتَقِفُ لَهُمْ حَتَّى يَحْلِبُوا اللَّبَنَ، فَيَرْوِيهِمْ، إِنَّمَا تَصُبُّ صَبًّا، وَيَوْمُ يَشْرَبُونَ الْمَاءَ لَا تَأْتِيهِمْ‏.‏ وَكَانَ مَعَهَا فَصِيلٌ لَهَا، فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ‏:‏ إِنَّهُ يُولَدُ فِي شَهْرِكُمْ هَذَا غُلَامٌ يَكُونُ هَلَاكُكُمْ عَلَى يَدَيْهِ‏!‏ فَوُلِدَ لِتِسْعَةٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ، فَذَبَحُوا أَبْنَاءَهُمْ، ثُمَّ وُلِدَ لِلْعَاشِرِ فَأَبَى أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ، وَكَانَ لَمْ يُولَدْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ‏.‏ فَكَانَ ابْنُ الْعَاشِرِ أَزْرَقَ أَحْمَرَ، فَنَبَتَ نَبَاتًا سَرِيعًا، فَإِذَا مَرَّ بِالتِّسْعَةِ فَرَأَوْهُ قَالُوا‏:‏ لَوْ كَانَ أَبْنَاؤُنَا أَحْيَاءً كَانُوا مِثْلَ هَذَا‏!‏ فَغَضِبَ التِّسْعَةُ عَلَى صَالِحٍ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ أَبْنَائِهِمْ ‏{‏تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏، ‏[‏اَلنَّمْلِ‏:‏ 49‏]‏‏.‏ قَالُوا‏:‏ نَخْرُجُ، فَيَرَى النَّاسُ أَنَّا قَدْ خَرَجْنَا إِلَى سَفَرٍ، فَنَأْتِي الْغَارَ فَنَكُونُ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ وَخَرَجَ صَالِحٌ إِلَى الْمَسْجِدِ، أَتَيْنَاهُ فَقَتَلْنَاهُ، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى الْغَارِ فَكُنَّا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعْنَا فَقُلْنَا‏:‏ ‏{‏مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏، يُصَدِّقُونَنَا، يَعْلَمُونَ أَنَّا قَدْ خَرَجْنَا إِلَى سَفَرٍ‏!‏ فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا دَخَلُوا الْغَارَ أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اللَّيْلِ، فَسَقَطَ عَلَيْهِمُ الْغَارُ فَقَتَلَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ‏}‏ حَتَّى بَلَغَ هَاهُنَا‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النَّمْلِ‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وَكَبُرَ الْغُلَامُ ابْنُ الْعَاشِرِ، وَنَبَتَ نَبَاتًا عَجَبًا مِنَ السُّرْعَةِ، فَجَلَسَ مَعَ قَوْمٍ يُصِيبُونَ مِنَ الشَّرَابِ، فَأَرَادُوا مَاءً يَمْزُجُونَ بِهِ شَرَابَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ شِرْبِ النَّاقَةِ، فَوَجَدُوا الْمَاءَ قَدْ شَرِبَتْهُ النَّاقَةُ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا فِي شَأْنِ النَّاقَةِ‏:‏ مَا نَصْنَعُ نَحْنُ بِاللَّبَنِ‏؟‏ لَوْ كُنَّا نَأْخُذُ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُهُ هَذِهِ النَّاقَةُ، فَنُسْقِيهِ أَنْعَامَنَا وَحُرُوثَنَا، كَانَ خَيْرًا لَنَا‏!‏ فَقَالَ الْغُلَامُ ابْنُ الْعَاشِرِ‏:‏ هَلْ لَكَمَ فِي أَنْ أَعْقِرَهَا لَكُمْ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ‏!‏ فَأَظْهَرُوا دِينَهُمْ، فَأَتَاهَا الْغُلَامُ، فَلِمَا بَصُرَتْ بِهِ شَدَّتْ عَلَيْهِ، فَهَرَبَ مِنْهَا، فَلِمَا رَأَى ذَلِكَ، دَخَلَ خَلْفَ صَخْرَةٍ عَلَى طَرِيقِهَا فَاسْتَتَرَ بِهَا، فَقَالَ‏:‏ أَحِيشُوهَا عَلَيَّ‏!‏ فَأَحَاشُوهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَازَتْ بِهِ نَادَوْهُ‏:‏ عَلَيْكَ‏!‏ فَتَنَاوَلَهَا فَعَقَرَهَا، فَسَقَطَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْقَمَرِ‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وَأَظْهَرُوا حِينَئِذٍ أَمَرَهُمْ، وَعَقَرُوا النَّاقَةَ، وعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَقَالُوا‏:‏ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏.‏ وَفَزِعَ نَاسٌ مِنْهُمْ إِلَى صَالِحٍ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ النَّاقَةَ قَدْ عُقِرَتْ، فَقَالَ‏:‏ عَلَيَّ بِالْفَصِيلِ‏!‏ فَطَلَبُوا الْفَصِيلَ فَوَجَدُوهُ عَلَى رَابِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَطَلَبُوهُ، فَارْتَفَعَتْ بِهِ حَتَّى حَلَّقَتْ بِهِ فِي السَّمَاءِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ‏.‏ ثُمَّ رَغَا الْفَصِيلُ إِلَى اللَّهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى صَالِحٍ‏:‏ أَنْ مُرْهُمْ فَلْيَتَمَتَّعُوا فِي دَارِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ‏!‏ فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ‏:‏ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنْ تُصْبِحَ وُجُوهُكُمْ أَوَّلَ يَوْمٍ مُصْفَرَّةً، وَالثَّانِي مُحْمَرَّةً، وَالْيَوْمَ الثَّالِثَ مُسْوَدَّةً، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ فِيهِ الْعَذَابُ‏.‏ فَلَمَّا رَأَوْا الْعَلَامَاتِ تَكَفَّنُوا وَتَحَنَّطُوا وَلَطَّخُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْمُرِّ، وَلَبِسُوا الْأَنْطَاعَ، وَحَفَرُوا الْأَسْرَابَ فَدَخَلُوا فِيهَا يَنْتَظِرُونَ الصَّيْحَةَ، حَتَّى جَاءَهُمُ الْعَذَابُ فَهَلَكُوا‏.‏ فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، لِمَا أَهْلَكَ اللَّهُ عَادًا وَتَقَضَّى أَمْرَهَا، عَمِرَتْ ثَمُودُ بُعْدَهَا واسْتُخْلِفُوا فِي الْأَرْضِ، فَنَـزَلُوا فِيهَا وَانْتَشَرُوا، ثُمَّ عَتَوْا عَلَى اللَّهِ‏.‏ فَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُهُمْ وَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، بَعَثَ إِلَيْهِمْ صَالِحًا وَكَانُوا قَوْمًا عَرَبًا، وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ مَوْضِعًا رَسُولًا وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمُ الْحِجْرَ إِلَى قُرْحَ، وَهُوَ وَادِي الْقُرَى، وَبَيْنَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا فِيمَا بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّأْمِ ‏!‏ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ غُلَامًا شابًا، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، حَتَّى شَمِطَ وَكَبُرَ، لَا يَتْبَعُهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِمْ صَالِحٌ بِالدُّعَاءِ، وَأَكْثَرَ لَهُمُ التَّحْذِيرَ، وَخَوَّفَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْعَذَابَ وَالنِّقْمَةَ، سَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً تَكُونُ مِصْدَاقًا لِمَا يَقُولُ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ أَيُّ آيَةٍ تُرِيدُونَ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ تَخْرُجُ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا هَذَا وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ بِأَصْنَامِهِمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فِي يَوْمٍ مَعْلُومٍ مِنَ السَّنَةِ فَتَدْعُو إِلَهَكَ وَنَدْعُو آلِهَتَنَا، فَإِنْ اسْتُجِيبَ لَكَ اتَّبَعْنَاكَ‏!‏ وَإِنِ اسْتُجِيبَ لَنَا اتَّبَعْتَنَا‏!‏ فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ فَخَرَجُوا بِأَوْثَانِهِمْ إِلَى عِيدِهِمْ ذَلِكَ، وَخَرَجَ صَالِحٌ مَعَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَدَعَوْا أَوْثَانَهْمْ وَسَأَلُوهَا أَنْ لَا يُسْتَجَابُ لِصَالِحٍ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَدْعُو بِهِ‏.‏ ثُمَّ قَالَ لَهُ جُنْدَعُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَوَّاسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الدُّمَيْلِ، وَكَانَ يَوْمئِذٍ سَيِّدُ ثَمُودَ وَعَظِيمَهُمْ‏:‏ يَا صَالِحُ، أَخْرِجْ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ لِصَخْرَةٍ مُنْفَرِدَةٍ فِي نَاحِيَةِ الْحِجْرِ يُقَالُ لَهَا الْكَاثِبَةُ نَاقَةً مُخْتَرِجَةً جَوْفَاءَ وَبْرَاءَ وَ“ الْمُخْتَرِجَةُ “، مَا شَاكَلَتِ الْبُخْتَ مِنَ الْإِبِلِ‏.‏ وَقَالَتْ ثَمُودُ لِصَالِحٍ مِثْلَ مَا قَالَ جُنْدَعُ بْنُ عَمْرٍو فَإِنْ فَعَلْتَ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدَنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ‏!‏ وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ صَالِحٌ مَوَاثِيقَهُمْ‏:‏ لَئِنْ فَعَلْتُ وَفَعَلَ اللَّهُ لَتُصَدِّقُنِّي وَلِتُؤْمِنُنَّ بِي‏!‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ‏!‏ فَأَعْطَوْهُ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَهُمْ‏.‏ فَدَعَا صَالِحٌ رَبَّهُ بِأَنْ يُخْرِجَهَا لَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْهَضْبَةِ، كَمَا وَصَفُوا‏.‏

فَحَدَّثْنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ، أَنَّهُ حَدَّثَ‏:‏ أَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى الْهَضْبَةِ، حِينَ دَعَا اللَّهَ صَالِحٌ بِمَا دَعَا بِهِ، تَتَمَخَّضُ بِالنَّاقَةِ تَمَخُّضَ النَّتُوجِ بِوَلَدِهَا، فَتَحَرَّكَتِ الْهَضْبَةُ، ثُمَّ انْتَفَضَتْ بِالنَّاقَةِ، فَانْصَدَعَتْ عَنْ نَاقَةٍ، كَمَا وَصَفُوا، جَوْفَاءَ وَبْرَاءَ نَتُوجٍ، مَا بَيْنَ جَنْبَيْهَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عِظَمًا، فَآمَنَ بِهِ جُنْدَعُ بْنُ عَمْرٍو وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى أَمَرِهِ مِنْ رَهْطِهِ، وَأَرَادَ أَشْرَافُ ثَمُودَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيُصَدِّقُوا، فَنَهَاهُمْ ذُؤَابُ بْنُ عَمْرِو بْنِ لَبِيدٍ، وَالْحُبَابُ صَاحِبُ أَوْثَانِهِمْ، وَرَبَابُ بْنُ صَمْعَرِ بْنُ جَلْهَسٍ، وَكَانُوا مِنْ أَشْرَافِ ثَمُودَ، فَرَدُّوا أَشْرَافَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ وَالدُّخُولِ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ صَالِحٌ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالنَّجَاةِ، وَكَانَ لِجُنْدَعٍ ابْنُ عَمٍّ يُقَالُ لَهُ‏:‏ “ شِهَابُ بْنُ خَلِيفَةَ بْنِ مِخْلَاةَ بْنِ لَبِيدِ بْنِ جَوَّاسٍ “، فَأَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ، فَنَهَاهُ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَطَاعَهُمْ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ ثَمُودَ وَأَفَاضِلِهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ ثَمُودَ يُقَالُ لَهُ‏:‏ “مَهُوسُ بْنُ عَنَمَةَ بْنِ الدُّمَيْلِ “، وَكَانَ مُسْلِمًا‏:‏

وَكَـانَتْ عُصْبَـةٌ مِـنْ آلِ عَمْـرٍو *** إِلَـى دِيـنِ النَّبِـيِّ دَعَـوْا شِـهَابَا

عَزِيـزَ ثَمُـودَ كُـلِّهِمُ جَمِيعًـا *** فَهَـمَّ بِـأَنْ يُجِـيبَ وَلَـوْ أَجَابَـا

لأَصْبَـحَ صَـالِحٌ فِينَـا عَزِيـزًا *** وَمَـا عَدَلُـوا بِصَـاحِبِهِمْ ذُؤَابَـا

وَلكِـنَّ الغُـوَاةَ مِـنْ َآلِ حُجْـرٍ *** تَوَلَّـوْا بَعْـدَ رُشْـدِهِمُ ذُبَابَـا

فَمَكَثَتِ النَّاقَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ لَهُمْ مَعَهَا سَقْبُهَا فِي أَرْضِ ثَمُودَ تَرْعَى الشَّجَرَ وَتَشْرَبُ الْمَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏، وَقَالَ اللَّهُ لِصَالِحٍ‏:‏ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ، أَيْ‏:‏ إِنِ الْمَاءَ نِصْفَانِ، لَهُمْ يَوْمٌ، وَلَهَا يَوْمٌ وَهِيَ مُحْتَضِرَةٌ، فَيَوْمُهَا لَا تَدَعُ شُرْبَهَا‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الشُّعَرَاءِ‏:‏ 155‏]‏‏.‏ فَكَانَتْ، فِيمَا بَلَغَنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، إِذَا وَرَدَتْ، وَكَانَتْ تَرِدُ غِبًّا، وَضَعَتْ رَأْسَهَا فِي بِئْرٍ فِي الْحَجَرِ يُقَالُ لَهَا “ بِئْرُ النَّاقَةِ “، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا مِنْهَا كَانَتْ تَشْرَبُ إِذَا وَرَدَتْ، تَضَعُ رَأْسَهَا فِيهَا، فَمَا تَرْفَعُهُ حَتَّى تَشْرَبَ كُلَّ قَطْرَةِ مَاءٍ فِي الْوَادِي، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَهَا فَتَفَشَّجُ يَعْنِي تُفَحَّجُ لَهُمْ فَيَحْتَلِبُونَ مَا شَاءُوا مِنْ لَبَنٍ، فَيَشْرَبُونَ وَيَدَّخِرُونَ، حَتَّى يَمْلَأُوا كُلَّ آنِيَتِهِمْ، ثُمَّ تَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ الْفَجِّ الَّذِي مِنْهُ وَرَدَتْ، لَا تَقْدِرُ عَلَى أَنَّ تَصْدُرَ مِنْ حَيْثُ تَرِدُ لِضِيقِهِ عَنْهَا، فَلَا تَرْجِعُ مِنْهُ‏.‏ حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ، كَانَ يَوْمُهُمْ، فَيَشْرَبُونَ مَا شَاءُوا مِنَ الْمَاءِ، وَيَدَّخِرُونَ مَا شَاءُوا لِيَوْمِ النَّاقَةِ، فَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي سِعَةٍ‏.‏ وَكَانَتِ النَّاقَةُ، فِيمَا يَذْكُرُونَ، تَصِيفُ إِذَا كَانَ الْحُرُّ ظَهْرَ الْوَادِي، فَتَهْرُبُ مِنْهَا الْمَوَاشِي، أَغْنَامُهُمْ وَأَبْقَارُهُمْ وَإِبِلُهُمْ، فَتَهْبِطُ إِلَى بَطْنِ الْوَادِي فِي حَرِّهِ وَجَدْبِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوَاشِيَ تَنْفِرُ مِنْهَا إِذَا رَأَتْهَا وَتَشْتُو فِي بَطْنِ الْوَادِي إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ، فَتَهْرُبُ مَوَاشِيهِمْ إِلَى ظَهْرِ الْوَادِي فِي الْبَرْدِ وَالْجَدْبِ، فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِمَوَاشِيهِمْ لِلْبَلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ‏.‏ وَكَانَتْ مَرَابِعُهَا، فِيمَا يَزْعُمُونَ، الْحُبَابُ وحِسْمَى، كُلَّ ذَلِكَ تَرْعَى مَعَ وَادِي الْحِجْرِ، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَأَجْمَعُوا فِي عَقْرِ النَّاقَةِ رَأْيَهُمْ‏.‏

وَكَانَتِ امْرَأَةً مِنْ ثَمُودَ يُقَالُ لَهَا‏:‏ “عُنَيْزَةُ بِنْتُ غَنَمَ بْنِ مِجْلَزٍ“، تُكَنَّى بِأُمِّ غَنَمَ، وَهِيَ مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ الْمَهْلِ، أَخِي رُمَيْلِ بْنِ الْمَهْلِ، وَكَانَتِ امْرَأَةَ ذُؤَابِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَتْ عَجُوزًا مُسِنَّةً، وَكَانَتْ ذَاتَ بَنَاتٍ حِسَانٍ، وَكَانَتْ ذَاتَ مَالٍ مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ‏.‏ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى يُقَالُ لَهَا‏:‏ “صُدُوفُ بَنَتُ الْمُحَيَّا بْنِ دَهْرِ بْنِ الْمُحَيَّا“، سَيِّدِ بَنِي عُبَيْدٍ وَصَاحِبِ أَوْثَانِهِمْ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ الْوَادِي يُقَالُ لَهُ‏:‏ “ وَادِي الْمُحَيَّا “، وَهُوَ الْمُحَيَّا الْأَكْبَرُ، جَدُّ الْمُحَيَّا الْأَصْغَرِ أَبِي صُدُوفَ وَكَانَتْ “صُدُوفَ“ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، وَكَانَتْ غَنِيَّةً، ذَاتَ مَالٍ مِنْ إِبِلٍ وَغَنَمٍ وَبَقَرٍ، وَكَانَتَا مِنْ أَشَدِ امْرَأَتَيْنِ فِي ثَمُودَ عَدَاوَةً لِصَالِحٍ، وَأَعْظَمِهِ بِهِ كُفْرًا، وَكَانَتَا تَحْتَالَانِ أَنْ تُعْقَرَ النَّاقَةُ مَعَ كُفْرِهِمَا بِهِ، لِمَا أَضَرَّتْ بِهِ مِنْ مَوَاشِيهِمَا‏.‏ وَكَانَتْصُدُوفُعِنْدَ ابْنِ خَالٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ‏:‏ “صَنْتَمُ بْنُ هِرَاوَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْغِطْرِيفِ “، مِنْ بَنِي هُلَيْلٍ، فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَتْصُدُوفُقَدْ فَوَّضَتْ إِلَيْهِ مَالَهَا، فَأَنْفَقَهُ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ صَالِحٍ حَتَّى رَقَّ الْمَالُ‏.‏ فَاطَّلَعَتْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِسْلَامِهِصُدُوفُ، فَعَاتَبَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَظْهَرَ لَهَا دِينَهُ، وَدَعَاهَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَبَتْ عَلَيْهِ، وَبَيَّتَتْ لَهُ، فَأَخَذَتْ بَنِيهِ وَبَنَاتَهُ مِنْهُ فَغَيَّبَتْهُمْ فِي بَنِي عُبَيْدٍ بَطْنِهَا الَّذِي هِيَ مِنْهُ‏.‏ وَكَانَ صَنْتَمٌ زَوْجُهَا مِنْ بَنِي هُلَيْلٍ، وَكَانَ ابْنَ خَالِهَا، فَقَالَ لَهَا‏:‏ رُدِّي عَلَيَّ وَلَدِي‏!‏ فَقَالَتْ‏:‏ حَتَّى أُنَافِرَكَ إِلَى بَنِي صَنَعَانِ بْنِ عُبَيْدٍ، أَوْ إِلَى بَنِي جُنْدَعِ بْنِ عُبَيْدٍ ‏!‏ فَقَالَ لَهَا صَنْتَمُ‏:‏ بَلْ أُنَافِرُكِ إِلَى بَنِي مِرْدَاسِ بْنِ عُبَيْدٍ ‏!‏ وَذَلِكَ أَنْ بَنِي مِرْدَاسِ بْنِ عُبَيْدٍ كَانُوا قَدْ سَارَعُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَأَبْطَأَ عَنْهُ الْآخَرُونَ‏.‏ فَقَالَتْ‏:‏ لَا أُنَافِرُكَ إِلَّا إِلَى مَنْ دَعَوْتُكَ إِلَيْهِ‏!‏ فَقَالَ بَنُو مِرْدَاسِ‏:‏ وَاَللَّهِ لِتَعْطِنَّهُ وَلَدَهُ طَائِعَةً أَوْ كَارِهَةً‏!‏ فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَعْطَتْهُ إِيَّاهُمْ‏.‏

ثُمَّ إِنَّصُدُوفَ وعُنَيْزَةَمَحَلَتَا فِي عُقْرِ النَّاقَةِ، لِلشَّقَاءِ الَّذِي نـَزَلَ‏.‏ فَدَعَتْصُدُوفُرَجُلًا مِنْ ثَمُودَ يُقَالُ لَهُ “ الْحُبَابُ “ لِعَقْرِ النَّاقَةِ‏.‏ وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا بِذَلِكَ إِنْ هُوَ فَعَلَ، فَأَبَى عَلَيْهَا‏.‏ فَدَعَتِ ابْنَ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ لَهُ‏:‏ “ مِصْدَعُ بْنُ مُهَرِّجِ بْنِ الْمُحَيَّا “، وَجَعَلَتْ لَهُ نَفْسَهَا، عَلَى أَنْ يَعْقِرَ النَّاقَةَ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، وَكَانَتْ غَنِيَّةً كَثِيرَةَ الْمَالِ، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ‏.‏ وَدَعَتْعُنَيْزَةُ بِنْتُ غَنَمَ، “ قَدَّارَ بْنَ سَالِفِ بْنِ جُنْدَعٍ “، رَجُلًا مِنْ أَهْلِ قُرْحَ‏.‏ وَكَانَ قَدَّارُ رَجُلًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ قَصِيرًا، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ لِزَنْيَةٍ، مِنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ‏:‏ “صهياد “، وَلَمْ يَكُنْ لِأَبِيهِ “ سَالِفٍ “ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ “ سَالِفٍ “، وَكَانَ يُدْعَى لَهُ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ‏.‏ فَقَالَتْ‏:‏ أُعْطِيكَ أَيَّ بَنَاتِي شِئْتَ عَلَى أَنْ تَعْقِرَ النَّاقَةَ‏!‏ وَكَانَتْعُنَيْزَةُشَرِيفَةٌ مِنْ نِسَاءِ ثَمُودَ، وَكَانَ زَوْجُهَا ذُؤَابَ بْنَ عَمْرٍو، مِنْ أَشْرَافِ رِجَالِ ثَمُودَ‏.‏ وَكَانَ قَدَّارٌ عَزِيزًا مَنِيعًا فِي قَوْمِهِ‏.‏ فَانْطَلَقَ قَدَّارُ بْنُ سَالِفٍ، وَمِصْدَعُ بْنُ مُهَرِّج، فَاسْتَنْفَرَا غُوَاةً مِنْ ثَمُودَ، فَاتَّبَعَهُمَا سَبْعَةُ نَفَرٍ، فَكَانُوا تِسْعَةَ نَفَرٍ، أَحَدُ النَّفَرِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ‏:‏ “هُوَيْلُ بْنُ مِيلَغٍِ “ خَالُ قَدَّارِ بْنِ سَالِفٍ، أَخُو أُمِّهِ لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا، وَكَانَ عَزِيزًا مِنْ أَهْلِ حِجْرٍ وَ“ دُعَيْرُ بْنُ غَنَمَ بْنِ دَاعِرٍ “، وَهُوَ مِنْ بَنِي خلاوة بْنِ الْمَهْلِ وَ“دَأْبُ بْنُ مُهَرِّجِ “، أَخُو مِصْدَعِ بْنِ مُهَرِّجِ، وَخَمْسَةٌ لَمْ تُحْفَظْ لَنَا أَسْمَاؤُهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَرَصَدُوا النَّاقَةَ حِينَ صَدَرَتْ عَنِ الْمَاءِ، وَقَدْ كَمَنَ لَهَا قَدَّارٌ فِي أَصْلِ صَخْرَةٍ عَلَى طَرِيقِهَا، وَكَمَنَ لَهَا مِصْدَعٌ فِي أَصْلِ أُخْرَى‏.‏ فَمَرَّتْ عَلَى مِصْدَعٍ فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ، فَانْتَظَمَ بِهِ عَضَلَةَ سَاقِهَا‏.‏ وَخَرَجَتْ أَمُّ غَنَمَعُنَيْزَةُ، وَأَمَرَتِ ابْنَتَهَا، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، فَأَسْفَرَتْ لِقَدَّارٍ وَأَرَتْهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ ذَمَّرَتْهُ، فَشَدَّ عَلَى النَّاقَةِ بِالسَّيْفِ، فَخَشَفَ عُرْقُوبُهَا، فَخَرَّتْ وَرَغَتْ رَغَاةً وَاحِدَةً تُحَذِّرُ سَقْبَهَا، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ سَقْبُهَا حَتَّى أَتَى جَبَلًا مُنِيفًا، ثُمَّ أَتَى صَخْرَةً فِي رَأْسِ الْجَبَلِ فَزِعًا وَلَاذَ بِهَا وَاسْمُ الْجَبَلِ فِيمَا يَزْعُمُونَ “ صِنْوٌ “، فَأَتَاهُمْ صَالِحٌ، فِلْمًا رَأَى النَّاقَةَ قَدْ عُقِرَتْ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ انْتَهَكْتُمْ حُرْمَةَ اللَّهِ، فَأَبْشِرُوا بِعَذَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَنِقْمَتِهِ‏!‏ فَاتَّبَعَ السَّقْبَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مِنَ التِّسْعَةِ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ، وَفِيهِمْ “ مِصْدَعُ بْنُ مُهَرِّجِ “، فَرَمَاهُ مِصْدَعٌ بِسَهْمٍ، فَانْتَظَمَ قَلْبَهُ، ثُمَّ جَرَّ بِرِجْلِهِ فَأَنْـزَلَهْ، ثُمَّ أَلْقَوْا لَحْمَهُ مَعَ لَحْمِ أُمِّهِ‏.‏

فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ‏:‏ “ أَبْشِرُوا بِعَذَابِ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ “، قَالُوا لَهُ وَهُمْ يَهْزَءُونَ بِهِ‏:‏ وَمَتَى ذَلِكَ يَا صَالِحُ‏؟‏ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ‏؟‏ وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْأَيَّامَ فِيهِمْ‏:‏ الْأَحَدَ “ أَوَّلَ “ وَالِاثْنَيْنِ “ أَهْوَنَ “، وَالثُّلَاثَاءَ “ دُبَارًا “، وَالْأَرْبِعَاءَ “ جُبَارًا “، وَالْخَمِيسَ “ مُؤْنِسًا “، وَالْجُمْعَةَ “ الْعَرُوبَةَ “، وَالسَّبْتَ “ شِيَارًا “، وَكَانُوا عَقَرُوا النَّاقَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ حِينَ قَالُوا ذَلِكَ‏:‏ تُصْبِحُونَ غَدَاةَ يَوْمِ مُؤْنِسٍ، يَعْنِي يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَوُجُوهُكُمْ مُصْفَرَّةٌ، ثُمَّ تُصْبِحُونَ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، يَعْنِي يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَوُجُوهُكُمْ مُحْمَرَّةٌ، ثُمَّ تُصْبِحُونَ يَوْمَ شِيَارٍ، يَعْنِي يَوْمَ السَّبْتِ، وَوُجُوهُكُمْ مُسْوَدَّةٌ، ثُمَّ يُصَبِّحُكُمُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْأَوَّلِ، يَعْنِي يَوْمَ الْأَحَدِ‏.‏ فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ ذَلِكَ، قَالَ التِّسْعَةُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ‏:‏ هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ صَالِحًا، إِنْ كَانَ صَادِقًا عَجَّلْنَاهُ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا يَكُونُ قَدْ أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ‏!‏ فَأَتَوْهُ لَيْلًا لِيُبَيِّتُوهُ فِي أَهْلِهِ، فَدَمَغَتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ بِالْحِجَارَةِ‏.‏ فَلَمَّا أَبَطَأُوا عَلَى أَصْحَابِهِمْ، أَتَوْا مَنْـزِلَ صَالِحٍ، فَوَجَدُوهُمْ مُشَدَّخَيْنِ قَدْ رُضِخُوا بِالْحِجَارَةِ، فَقَالُوا لِصَالِحٍ‏:‏ أَنْتَ قَتَلَتْهُمْ‏!‏ ثُمَّ هَمُّوا بِهِ، فَقَامَتْ عَشِيرَتُهُ دُونَهُ وَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَقَالُوا لَهُمْ‏:‏ وَاَللَّهِ لَا تَقْتُلُونَهُ أَبَدًا، فَقَدْ وَعَدَكُمْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا لَمْ تَزِيدُوا رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَّا غَضَبًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَنْتُمْ مِنْ وَرَاءِ مَا تُرِيدُونَ‏!‏ فَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ، وَالنَّفَرُ الَّذِينَ رَضَخَتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ بِالْحِجَارَةِ، التِّسْعَةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةَ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ النَّمْلِ‏:‏-‏]‏‏.‏

فَأَصْبَحُوا مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي انْصَرَفُوا فِيهَا عَنْ صَالِحٍ، وُجُوهُهُمْ مُصْفَرَّةٌ، فَأَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ، وَعَرَفُوا أَنَّ صَالِحًا قَدْ صَدَقَهُمْ، فَطَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ‏.‏ وَخَرَجَ صَالِحٌ هَارِبًا مِنْهُمْ، حَتَّى لَجَأَ إِلَى بَطْنٍ مِنْ ثَمُودَ يُقَالُ لَهُمْ‏:‏ “ بَنُو غَنَمَ “، فَنَـزَلَ عَلَى سَيِّدِهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ‏:‏ “ نُفَيْلٌ “، يُكَنَّى بِأَبِي هُدْبٍ، وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَغَيَّبَهُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ‏.‏ فَغَدَوَا عَلَى أَصْحَابِ صَالِحٍ فَعَذَّبُوهُمْ لِيَدُلُّوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ صَالِحٍ يُقَالُ لَهُ‏:‏ “مَيْدَعُ بْنُ هَرِمٍ “‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيُعَذِّبُونَنَا لِنَدُلَّهُمْ عَلَيْكَ، أَفَنَدُلُّهُمْ عَلَيْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ “مَيْدَعُ بْنُ هَرِمٍ “، فَلَمَّا عَلِمُوا بِمَكَانِ صَالِحٍ، أَتَوْا أَبَا هُدْبٍ فَكَلَّمُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ عِنْدِي صَالِحٌ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَيْهِ سَبِيلٌ‏!‏ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ، وَشَغَلَهُمْ عَنْهُ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ عَذَابِهِ‏.‏ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُخْبِرُ بَعْضًا بِمَا يَرَوْنَ فِي وُجُوهِهِمْ حِينَ أَصْبَحُوا مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ، وَذَلِكَ أَنَّ وُجُوهَهُمْ أَصْبَحَتْ مُصْفَرَّةً، ثُمَّ أَصْبَحُوا يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَوُجُوهُهُمْ مُحْمَرَّةٌ، ثُمَّ أَصْبَحُوا يَوْمَ السَّبْتِ وَوُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْأَحَدِ خَرَجَ صَالِحٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ إِلَى الشَّأْمِ، فَنَـزَلَ رَمْلَةَ فِلَسْطِينَ، وَتَخَلَّفَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ‏:‏ “مَيْدَعُ بْنُ هَرِمٍ “، فَنَـزَلَ قُرْحَ وَهِيَ وَادِي الْقُرَى، وَبَيْنَ الْقُرْحِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا فَنَـزَلَ عَلَى سَيِّدِهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ‏:‏ “ عَمْرُو بْنُ غَنَمَ “، وَقَدْ كَانَ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ النَّاقَةِ وَلَمْ يَشْتَرِكْ فِي قَتْلِهَا، فَقَالَ لَهُ مَيْدَعُ بْنُ هَرِمٍ‏:‏ يَا عَمْرُو بْنُ غَنَمَ، اخْرُجْ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ، فَإِنَّ صَالِحًا قَالَ‏:‏ “ مَنْ أَقَامَ فِيهِ هَلَكَ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُ نَجَا “، فَقَالَ عَمْرٌو‏:‏ مَا شَرِكْتُ فِي عَقْرِهَا، وَمَا رَضِيتُ مَا صُنِعَ بِهَا‏!‏ فَلَمَّا كَانَتْ صَبِيحَةُ الْأَحَدِ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ إِلَّا هَلَكَ، إِلَّا جَارِيَةً مُقْعَدَةً يُقَالُ لَهَا‏:‏ “الزُّرَيْعَةُ“، وَهِيَ الْكَلْبَةُ ابْنَةُ السِّلْقِ، كَانَتْ كَافِرَةً شَدِيدَةَ الْعَدَاوَةِ لِصَالِحٍ، فَأَطْلَقَ اللَّهُ لَهَا رِجْلَيْهَا بَعْدَمَا عَايَنَتِ الْعَذَابَ أَجْمَعَ، فَخَرَجَتْ كَأَسْرَعِ مَا يُرَى شَيْءٌ قَطُّ، حَتَّى أَتَتْ أَهْلَ قُرْحَ فَأَخْبَرَتْهُمْ بِمَا عَايَنَتْ مِنَ الْعَذَابِ وَمَا أَصَابَ ثَمُودَ مِنْهُ، ثُمَّ اسْتَسْقَتْ مِنَ الْمَاءِ فَسُقِيَتْ، فَلَمَّا شَرِبَتْ مَاتَتْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، قَالَ مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ‏:‏ لِمَا عَقَرَتْ ثَمُودُ النَّاقَةَ، ذَهَبَ فَصِيلُهَا حَتَّى صَعِدَ تَلًّا فَقَالَ‏:‏ يَا رَبِّ، أَيْنَ أُمِّي‏؟‏ ثُمَّ رَغَا رَغْوَةً، فَنَـزَلَتِ الصَّيْحَةُ، فَأَخْمَدَتْهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ أُصْعِدَ تَلًّا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ أَنْ صَالِحًا قَالَ لَهُمْ حِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ‏:‏ تَمَتَّعُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ‏!‏ وَقَالَ لَهُمْ‏:‏ آيَةُ هَلَاكِكُمْ أَنْ تُصْبِحَ وُجُوهُكُمْ مُصْفَرَّةً، ثُمَّ تُصْبِحُ الْيَوْمَ الثَّانِيَ مُحْمَرَّةً، ثُمَّ تُصْبِحُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ مُسْوَدَّةً، فَأَصْبَحَتْ كَذَلِكَ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ وَأَيْقِنُوا بِالْهَلَاكِ، تَكَفَّنُوا وَتَحَنَّطُوا، ثُمَّ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ فَأَهْمَدَتْهُمْ قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ قَالَ عَاقِرُ النَّاقَةِ لَهُمْ‏:‏ لَا أَقْتُلُهَا حَتَّى تَرْضَوْا أَجْمَعِينَ‏!‏ فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي حِجْرِهَا فَيَقُولُونَ‏:‏ أَتَرْضَيْنَ‏؟‏ فَتَقُولُ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ وَالصَّبِيِّ، حَتَّى رَضُوا أَجْمَعِينَ، فَعَقَرَهَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، «لِمَا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ‏:‏ لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتَ، فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ، فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَعَقَرُوهَا، وَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمًا، وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا‏.‏ فَعَقَرُوهَا، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ‏:‏ أَهَمَدَ اللَّهُ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ، إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، قِيلَ‏:‏ مَنْ هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَبُو رِغَالٍ، فِلْمًا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَه»‏.‏

قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ وَأَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ‏:‏ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرِ أَبِي رِغَالٍ، فَقَالَ‏:‏ أَتُدْرُونَ مَا هَذَا‏؟‏، قَالُوا‏:‏ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ‏!‏ قَالَ‏:‏ هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ‏؟‏ قَالُوا فَمَنْ أَبُو رِغَالٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَجُلٌ مِنْ ثَمُودَ، كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ عَذَابَ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ، فَدُفِنَ هَاهُنَا، وَدُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ‏!‏ فَنَـزَلَ الْقَوْمُ فَابْتَدَرُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، فَبَحَثُوا عَلَيْهِ، فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْن»‏.‏

قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ‏:‏ قَالَ‏:‏ مَعْمَرٌ‏:‏ قَالَ الزُّهْرِيُّ‏:‏ أَبُو رِغَالٍ‏:‏ أَبُو ثَقِيفٍ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ، «مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ قَالُوا‏:‏ مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَبُو رِغَالٍ‏.‏»

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، كَانَ يُقَالُ إِنَّ أَحْمَرَ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، كَانَ وَلَدَ زَنْيَةٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ قَالَ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ، قَالَ أَبُو مُوسَى‏:‏ أَتَيْتُ أَرْضَ ثَمُودَ، فَذَرَعْتُ مَصْدَرَ النَّاقَةِ، فَوَجَدْتُهُ سِتِّينَ ذِرَاعًا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَأَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ بِنَحْوِ هَذَا يَعْنِي بِنَحْوِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ‏:‏ «وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرِ أَبِي رِغَالٍ، قَالُوا‏:‏ وَمَنْ أَبُو رِغَالٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَبُو ثَقِيفٍ، كَانَ فِي الْحَرَمِ لِمَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمَهُ، مَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ، فَدُفِنَ هَاهُنَا، وَدُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ يَبْحَثُونَ عَنْهُ، حَتَّى اسْتَخْرَجُوا ذَلِكَ الْغُصْن»‏.‏

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ كَانَ لِلنَّاقَةِ يَوْمٌ وَلَهُمْ يَوْمٌ، فَأَضَرَّ بِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ‏:‏ «لِمَا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ‏:‏ لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ الَّذِي أَصَابَهُمْ‏!‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ هَذَا وَادِي النَّفَرِ ‏!‏ ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الْوَادِي»‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ‏}‏، فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ وَلَا تَمَسُّوا نَاقَةَ اللَّهِ بِعُقْرٍ وَلَا نَحْرٍ ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ مُوجِعٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ، وَاعِظًا لَهُمْ‏:‏ وَاذْكُرُوا، أَيُّهَا الْقَوْمُ، نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ‏{‏إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ تَخْلُفُونَ عَادًا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ هَلَاكِهَا‏.‏

وَ “ خُلَفَاءُ “ جَمْعُ “ خَلِيفَةٍ “‏.‏ وَإِنَّمَا جُمِعَ “ خَلِيفَةٌ “ “ خُلَفَاءَ “، وَ“ فُعَلَاءُ “ إِنَّمَا هِيَ جَمْعُ “ فَعِيلٍ “، كَمَا “ الشُّرَكَاءُ “ جَمْعُ “ شَرِيكٍ “، وَ“ الْعُلَمَاءُ “ جَمْعُ “ عَلِيمٍ “، وَ“ الْحُلَمَاءُ “ جَمْعُ “ حَلِيمٍ “، لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِالْخَلِيفَةِ إِلَى الرَّجُلِ، فَكَأَنَّ وَاحِدَهُمْ “ خَلِيفٌ “، ثُمَّ جُمِعَ “ خُلَفَاءُ “، فَأَمَّا لَوْ جَمَعَتِ “ الْخَلِيفَةَ “ عَلَى أَنَّهَا نَظِيرَةُ “ كَرِيمَةٍ “ وَ“ حَلِيلَةٍ “ وَ“ رَغِيبَةٍ “، قِيلَ “ خَلَائِفُ “، كَمَا يُقَالُ‏:‏ “ كَرَائِمُ “ وَ“ حَلَائِلُ “ وَ“ رَغَائِبُ “، إِذْ كَانَتْ مِنْ صِفَاتِ الْإِنَاثِ‏.‏ وَإِنَّمَا جُمِعَتِ “ الْخَلِيفَةُ “ عَلَى الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ جَاءَ بِهِمَا الْقُرْآنُ، لِأَنَّهَا جُمِعَتْ مَرَّةً عَلَى لَفْظِهَا، وَمَرَّةً عَلَى مَعْنَاهَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْله‏:‏ ‏{‏وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏، فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ وَأَنْـزَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا مَسَاكِنَ وَأَزْوَاجًا، ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا‏}‏، ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْقُبُونَ الصَّخْرَ مَسَاكِنَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا‏}‏، كَانُوا يَنْقُبُونَ فِي الْجِبَالِ الْبُيُوتَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ ‏{‏وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ وَاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ‏}‏، قَالَ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ عَنِ اتِّبَاعِ صَالِحٍ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِهِ ‏{‏لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا‏}‏، يَعْنِي‏:‏ لِأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ مِنْ تُبَّاعِ صَالِحٍ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْهُمْ، دُونَ ذَوِي شَرَفِهِمْ وَأَهْلِ السُّؤْدُدِ مِنْهُمْ ‏{‏أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ‏}‏، أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا وَإِلَيْكُمْ، قَالَ الَّذِينَ آمَنُوا بِصَالِحٍ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْهُمْ‏:‏ إِنَّا بِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ صَالِحًا مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى مُؤْمِنُونَ، يَقُولُ‏:‏ مُصَدِّقُونَ مُقِرُّونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، وَعَنْ أَمْرِ اللَّهِ دَعَانَا صَالِحٌ إِلَيْهِ ‏{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا‏}‏، عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَالِحٍ ‏(‏إِنَّا‏)‏، أَيُّهَا الْقَوْمُ ‏{‏بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ صَدَّقْتُمْ بِهِ مِنْ نُبُوَّةِ صَالِحٍ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ‏(‏كَافِرُونَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ جَاحِدُونَ مُنْكِرُونَ، لَا نُصَدِّقُ بِهِ وَلَا نُقِرُّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَعَقَرَتْ ثَمُودُ النَّاقَةَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ آيَةً ‏{‏وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ تَكْبُرُوا وَتُجْبِرُوا عَنِ اتِّبَاعِ اللَّهِ، وَاسْتَعْلَوْا عَنِ الْحَقِّ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏وَعَتَوْا‏)‏، عَلَوْا عَنِ الْحَقِّ، لَا يُبْصِرُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏{‏وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ‏}‏، عَلَوْا فِي الْبَاطِلِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَتَوْا فِي الْبَاطِلِ وَتَرَكُوا الْحَقَّ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلَوْا فِي الْبَاطِلِ‏.‏

وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ “ جَبَّارٌ عَاتٍ “، إِذَا كَانَ عَالِيًا فِي تَجَبُّرِهِ‏.‏

‏{‏وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ قَالُوا‏:‏ جِئْنَا، يَا صَالِحُ، بِمَا تَعِدُنَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ، اسْتِعْجَالًا مِنْهُمْ لِلْعَذَابِ ‏{‏إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنْ كُنْتَ لِلَّهِ رَسُولًا إِلَيْنَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رُسُلَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، فَعَجَّلَ ذَلِكَ لَهُمْ كَمَا اسْتَعْجَلُوهُ، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَأَخَذَتِ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ مِنْ ثَمُودَ ‏(‏الرَّجْفَةُ‏)‏، وَهِيَ الصَّيْحَةُ‏.‏

وَ “ الرَّجْفَةُ “، “ الْفَعْلَةُ “، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “ رَجَفَ بِفُلَانٍ كَذَا يَرْجُفُ رَجْفًا “، وَذَلِكَ إِذَا حَرَّكَهُ وَزَعْزَعَهُ، كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ‏:‏

إِمَّـا تَـرَيْنِي حَنَـانِي الشَّـيْبُ مِنْ كِبَرٍ *** كَالنَّسْـرِ أَرْجُـفُ، وَالإنْسَـانُ مَهْدُودُ

وَإِنَّمَا عَنَى بِـ “ الرَّجْفَةِ “، هَاهُنَا الصَّيْحَةَ الَّتِي زَعْزَعَتْهُمْ وَحَرَّكَتْهُمْ لِلْهَلَاكِ، لِأَنَّ ثَمُودَ هَلَكَتْ بِالصَّيْحَةِ، فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ “ الرَّجْفَةُ “، قَالَ‏:‏ الصَّيْحَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ‏}‏، وَهِيَ الصَّيْحَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ‏}‏، قَالَ‏:‏ الصَّيْحَةُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَأَصْبَحَ الَّذِينَ أَهْلَكَ اللَّهُ مِنْ ثَمُودَ ‏{‏فِي دَارِهِمْ‏}‏، يَعْنِي فِي أَرْضِهِمُ الَّتِي هَلَكُوا فِيهَا وَبَلْدَتِهِمْ‏.‏

وَلِذَلِكَ وَحَّدَ “ الدَّارَ “ وَلَمْ يَجْمَعْهَا فَيَقُولُ “ فِي دُورِهِمْ “ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهَا الدُّورُ، وَلَكِنْ وَجَّهَ بِالْوَاحِدَةِ إِلَى الْجَمِيعِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ‏}‏ ‏[‏اَلْعَصْرِ‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏جَاثِمِينَ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ سُقُوطًا صَرْعَى لَا يَتَحَرَّكُونَ، لِأَنَّهُمْ لَا أَرْوَاحَ فِيهِمْ، قَدْ هَلَكُوا‏.‏ وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْبَارِكِ عَلَى الرُّكْبَةِ‏:‏ “ جَاثِمٌ “، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ‏:‏

عَـرَفْتُ المُنْتَـأَى، وَعَـرَفْتُ مِنْهَـا *** مَطَايَـا القِـدْرِ كَـالحِدَإِ الجُـثُومِ

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ مَيِّتِينَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَأَدْبَرَ صَالِحٌ عَنْهُمْ حِينَ اسْتَعْجَلُوهُ الْعَذَابَ وَعَقَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ، خَارِجًا عَنْ أَرْضِهِمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَوْحَى إِلَيْهِ‏:‏ إِنِّي مُهْلِكُهُمْ بَعْدَ ثَالِثَةٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ تَهْلَكْ أُمَّةٌ وَنَبِيُّهَا بَيْنَ أَظْهُرِهَا‏.‏

فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ خُرُوجِ صَالِحٍ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ الَّذِينَ عَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ حِينَ أَرَادَ اللَّهُ إِحْلَالَ عُقُوبَتِهِ بِهِمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ‏}‏ صَالِحٌ وَقَالَ لِقَوْمِهِ ثَمُودَ ‏{‏لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي‏}‏، وَأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَمَرَنِي بِأَدَائِهِ إِلَيْكُمْ رَبِّي مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ‏{‏وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏، فِي أَدَائِي رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، فِي تَحْذِيرِكُمْ بَأْسَهُ بِإِقَامَتِكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ وَعِبَادَتِكُمُ الْأَوْثَانَ ‏{‏وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ‏}‏، لَكُمْ فِي اللَّهِ، النَّاهِينَ لَكُمْ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِكُمْ، الصَّادِّينَ لَكُمْ عَنْ شَهَوَاتِ أَنْفُسِكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا لُوطًا‏.‏

وَلَوْ قِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَاذْكُرْ لُوطًا، يَا مُحَمَّدُ، ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِِِ‏}‏ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ صِلَةُ “ الرِّسَالَةِ “ كَمَا كَانَ فِي ذِكْرِ عَادٍ وَثَمُودَ كَانَ مَذْهَبًا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ حِينَ قَالَ لِقَوْمِهِ مِنْ سَدُومَ، وَإِلَيْهِمْ كَانَ أُرْسِلَ لُوطٌ ‏{‏أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ‏}‏، وَكَانَتْ فَاحِشَتُهُمْ الَّتِي كَانُوا يَأْتُونَهَا، الَّتِي عَاقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا، إِتْيَانَ الذُّكُورِ ‏{‏مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مَا سَبَقَكُمْ بِفِعْلِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ كَاَلَّذِي‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ مَا رُئِيَ ذَكَرٌ عَلَى ذَكَرٍ حَتَّى كَانَ قَوْمُ لُوطٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يُخْبِرُ بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ لُوطٍ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ، تَوْبِيخًا مِنْهُ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ‏:‏ إِنَّكُمْ، أَيُّهَا الْقَوْمُ، لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ فِي أَدْبَارِهِمْ، شَهْوَةً مِنْكُمْ لِذَلِكَ، مِنْ دُونِ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ لَكُمْ وَأَحَلَّهُ مِنَ النِّسَاءِ ‏{‏بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنَّكُمْ لَقَوْمٌ تَأْتُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَتَعْصُونَهُ بِفِعْلِكُمْ هَذَا‏.‏

وَذَلِكَ هُوَ “ الْإِسْرَافُ “، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَ “ الشَّهْوَةُ “، “ الْفَعْلَةُ “، وَهِيَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “ شَهَيتُ هَذَا الشَّيْءَ أَشْهَاهُ شَهْوَةً “ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

وأَشْـعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ‏:‏ ارْتَحِلْ‏!‏ *** إِذَا مَـا النُّجُـومُ أَعْـرَضَتْ وَاسْبَطَرَّتِ

فَقَـامَ يَجُـرُّ الـبُرْدَ، لَـوْ أَنَّ نَفْسَـهُ *** يُقَـالُ لَـهُ‏:‏ خُذْهَـا بِكَـفَّيْكَ‏!‏ خَـرَّتِ

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَا كَانَ جَوَابُ قَوْمِ لُوطٍ لِلُوطٍ، إِذْ وَبَّخَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمُ الْقَبِيحِ، وَرُكُوبِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَمَلِ الْخَبِيثِ، إِلَّا أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ أَخْرَجُوا لُوطًا وَأَهْلَهُ وَلِذَلِكَ قِيلَ‏:‏ “ أَخْرِجُوهُمْ “، فَجَمْعَ، وَقَدْ جَرَى قَبْلُ ذِكْرُ “ لُوطٍ “ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ‏.‏

وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا جَمَعَ بِمَعْنَى‏:‏ أَخْرِجُوا لُوطًا وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ مِنْ قَرْيَتِكُمْ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ “ لُوطٍ “ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَنْ ذِكْرِ أَتْبَاعِهِ، ثُمَّ جَمَعَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏، ‏[‏اَلطَّلَاقِ‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنَّ لُوطًا وَمَنْ تَبِعَهُ أُنَاسٌ يَتَنَـزَّهُونَ عَمَّا نَفْعَلُهُ نَحْنُ مِنْ إِتْيَانِ الرِّجَالِ فِي الْأَدْبَارِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ سَعِيدٍ النَّخَعِيُّ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَأَدْبَارِ النِّسَاءِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏، مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَأَدْبَارِ النِّسَاءِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَتَطَهَّرُونَ مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَمِنْ أَدْبَارِ النِّسَاءِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَتَحَرَّجُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ عَابُوهُمْ بِغَيْرِ عَيْبٍ، وَذَمُّوهُمْ بِغَيْرِ ذَمٍّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَلَمَّا أَبَى قَوْمِ لُوطٍ مَعَ تَوْبِيخِ لُوطٍ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا يَأْتُونَ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَإِبْلَاغِهِ إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ إِلَّا التَّمَادِيَ فِي غَيِّهِمْ، أَنْجَيْنَا لُوطًا وَأَهْلَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، إِلَّا امْرَأَتَهُ، فَإِنَّهَا كَانَتْ لِلُوطٍ خَائِنَةً، وَبِاَللَّهِ كَافِرَةً‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مِنَ الْبَاقِينَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏{‏مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏، وَلَمْ يَقُلْ “ الْغَابِرَاتِ “، لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّهَا مِمَّنْ بَقِيَ مَعَ الرِّجَالِ، فَلَمَّا ضُمَّ ذِكْرَهَا إِلَى ذِكْرِ الرِّجَالِ قِيلَ‏:‏ “ مِنَ الْغَابِرِينَ “‏.‏

وَالْفِعْلُ مِنْهُ‏:‏ “ غَبَرَ يَغْبُرُ غُبُورًا، وَغَبْرًا “، وَذَلِكَ إِذَا بَقِيَ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى‏:‏

عَـضَّ بِمَـا أَبْقَـى المَوَاسِـي لَـهُ *** مِـنْ أَمَـةٍ فِـي الـزَّمَنِ الغَـابِرِ

وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ‏:‏

وَأَبِـي الَّـذِي فَتَـحَ البِـلادَ بِسَـيْفِهِ *** فَأَذَلَّهَـا لِبَنِـي أَبَـانَ الغَـابِرِ

يَعْنِي‏:‏ الْبَاقِي‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَكَانَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ مِمَّنْ نَجَا مِنَ الْهَلَاكِ الَّذِي هَلَكَ بِهِ قَوْمُ لُوطٍ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ لَا بَلْ كَانَتْ فِيمَنْ هَلَكَ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏، وَقَدْ قُلْتُ إِنَّ مَعْنَى “ الْغَابِرِ “ الْبَاقِي‏؟‏ فَقَدْ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ قَدْ بَقِيَتْ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ غَيْرُ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ، إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْبَاقِينَ قَبْلَ الْهَلَاكِ، وَالْمُعَمَّرِينَ الَّذِينَ قَدْ أَتَى عَلَيْهِمْ دَهْرٌ كَبِيرٌ وَمَرَّ بِهِمْ زَمَنٌ كَثِيرٌ، حَتَّى هَرِمَتْ فِيمَنْ هَرِمَ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَتْ مِمَّنْ غَبَرَ الدَّهْرَ الطَّوِيلَ قَبْلَ هَلَاكِ الْقَوْمِ، فَهَلَكَتْ مَعَ مَنْ هَلَكَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ حِينَ جَاءَهُمُ الْعَذَابُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ مِنَ الْبَاقِينَ فِي عَذَابِ اللَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الشُّعَرَاءِ‏:‏ 171، سُورَةُ الصَّافَّاتِ‏:‏ 135‏]‏، فِي عَذَابِ اللَّهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَى قَوْمِ لُوطٍ الَّذِينَ كَذَّبُوا لُوطًا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، مَطَرًا مِنْ حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ أَهْلَكْنَاهُمْ بِهِ ‏{‏فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ فَانْظُرْ، يَا مُحَمَّدُ، إِلَى عَاقِبَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَّبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ، فَاجْتَرَمُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ، وَرُكِبُوا الْفَوَاحِشَ، وَاسْتَحَلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ، كَيْفَ كَانَتْ‏؟‏ وَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ صَارَتْ‏؟‏ هَلْ كَانَتْ إِلَّا الْبَوَارَ وَالْهَلَاكَ‏؟‏ فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْ نَظِيرَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ، عَاقِبَةُ مَنْ كَذَّبَكَ وَاسْتَكْبَرَ عَنِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقِكَ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا، مَنْ قَوْمِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَأَرْسَلْنَا إِلَى وَلَدِ مَدْيَنَ وَ“ مَدْيَنُ “، هُمْ وَلَدُهُ مِدْيَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، فِيمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَاسَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏.‏

فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ‏:‏ فِـ “ مَدْيَنَ “، قَبِيلَةٌ كَتَمِيمٍ‏.‏

وَزَعَمَ أَيْضًا ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ أَنْ شُعَيْبًا الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ، مِنْ وَلَدِ مَدْيَنَ هَذَا، وَأَنَّهُ “ شُعَيْبُ بْنُ ميكيل بْنِ يَشْجُرَ “، قَالَ‏:‏ وَاسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، “يثرون “‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى وَلَدِ مَدْيَنَ، أَخَاهُمْ شُعَيْبَ بْنَ ميكيل، يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ، وَتَرْكِ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ، فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ‏:‏ يَا قَوْمِ، اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، مَا لَكَمَ مِنْ إِلَهٍ يَسْتَوْجِبُ عَلَيْكُمُ الْعِبَادَةَ غَيْرِ الْإِلَهِ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَبِيَدِهِ نَفْعُكُمْ وَضُرُّكُمْ ‏{‏قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ قَدْ جَاءَتْكُمْ عَلَامَةٌ وَحُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ بِحَقِيقَةِ مَا أَقُولُ، وَصِدْقِ مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ ‏{‏فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَتَمُّوا لِلنَّاسِ حُقُوقَهُمْ بِالْكَيْلِ الَّذِي تَكِيلُونَ بِهِ، وَبِالْوَزْنِ الَّذِي تَزِنُونَ بِهِ ‏{‏وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ‏}‏، يَقُولُ وَلَا تَظْلِمُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمْ، وَلَا تَنْقُصُوهُمْ إِيَّاهَا‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ‏:‏ “ تَحْسَبُهَا حَمْقَاءَ وَهِيَ بَاخِسَةٌ “، بِمَعْنَى‏:‏ ظَالِمَةٌ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ يُوسُفَ‏:‏ 20‏]‏، يَعْنِي بِهِ‏:‏ رَدِيْءٍ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تَظْلِمُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ‏}‏‏:‏ قَالَ‏:‏ لَا تَظْلِمُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَا تَعْمَلُوا فِي أَرْضِ اللَّهِ بِمَعَاصِيهِ، وَمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ نَبِيَّهُ، مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَالْإِشْرَاكِ بِهِ، وَبَخْسِ النَّاسِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ‏{‏بَعْدَ إِصْلَاحِهَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ بَعْدَ أَنْ قَدْ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَرْضَ بِابْتِعَاثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيكُمْ، يَنْهَاكُمْ عَمًّا لَا يَحِلُّ لَكُمْ، وَمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ لَكُمْ ‏{‏ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ وَأَمَرْتُكُمْ بِهِ، مِنْإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيفَاءِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ مِنَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَتَرْكِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، خَيْرٌ لَكُمْ فِي عَاجِلِ دُنْيَاكُمْ وَآجِلِ آخِرَتِكُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ فِيمَا أَقُولُ لَكُمْ، وَأُؤَدِّي إِلَيْكُمْ عَنِ اللَّهِ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ‏.‏