فصل: تفسير الآية رقم (49)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏‏.‏

أَمَّاتَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ‏)‏ فَإِنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ‏}‏‏.‏ فَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَاذْكُرُوا إِنْعَامَنَا عَلَيْكُمْ- إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ- بِإِنْجَائِنَاكُمْ مِنْهُمْ‏.‏

وَأَمَّا آلُ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ دِينِهِ وَقَوْمُهُ وَأَشْيَاعُهُ‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏آل‏"‏ أَهْلٌ، أُبْدِلَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً، كَمَا قَالُوا ‏"‏مَاء‏"‏ فَأَبْدَلُوا الْهَاءَ هَمْزَةً، فَإِذَا صَغَّرُوهُ قَالُوا‏:‏ مُوَيْهُ‏"‏، فَرَدُّوا الْهَاءَ فِي التَّصْغِيرِ وَأَخْرَجُوهُ عَلَى أَصْلِهِ‏.‏ وَكَذَلِكَ إِذَا صَغَّرُوا آلَ، قَالُوا‏:‏ ‏"‏ أُهِيلُ‏"‏‏.‏ وَقَدْ حُكِيَ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ فِي تَصْغِيرِ ‏"‏آلٍ ‏"‏‏:‏ ‏"‏ أُوَيَلٌ‏"‏‏.‏ وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ فُلَانٌ مِنْ آلِ النِّسَاء‏"‏ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مِنْهُنَّ خُلِقَ، وَيُقَالُ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَعْنَى أَنَّهُ يُرِيدُهُنَّ وَيَهْوَاهُنَّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَـإِنَّكَ مِنْ آلِ النِّسَـاءِ وَإِنَّمَـا *** يَكُـنَّ لِأَدْنَـى؛ لَا وِصَـالَ لِغَـائِبِ

وَأَحْسَنُ أَمَاكِنِ ‏"‏آل‏"‏ أَنْ يُنْطَقَ بِهِ مَعَ الْأَسْمَاءِ الْمَشْهُورَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ‏:‏ آلُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَبَّاسٍ، وَآلُ عَقِيلٍ‏.‏ وَغَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْمَجْهُولِ، وَفِي أَسْمَاءِ الْأَرْضِينَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ غَيْرُ حَسَنٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ رَأَيْتُ آلَ الرَّجُلِ، وَرَآنِي آلُ الْمَرْأَةِ- وَلَا- ‏:‏ رَأَيْتُ آلَ الْبَصْرَةِ، وَآلَ الْكُوفَةِ‏.‏ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ سَمَاعًا أَنَّهَا تَقُولُ‏:‏ رَأَيْتُ آلَ مَكَّةَ وَآلَ الْمَدِينَةِ‏"‏‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ بِالْفَاشِي الْمُسْتَعْمَلِ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏فِرْعَوْن‏"‏ فَإِنَّهُ يُقَالُ‏:‏ إِنَّهُ اسْمٌ كَانَتْ مُلُوكُ الْعَمَالِقَةِ بِمِصْرَ تُسَمَّى بِهِ، كَمَا كَانَتْ مُلُوكُ الرُّومِ يُسَمَّى بَعْضُهُمْ ‏"‏قَيْصَر‏"‏ وَبَعْضُهُمْ ‏"‏هِرَقْلُ‏"‏، وَكَمَا كَانَتْ مُلُوكُ فَارِسٍ تُسَمَّى‏"‏ الْأَكَاسِرَةُ ‏"‏وَاحِدُهُم‏"‏ كِسْرَى‏"‏، وَمُلُوكُ الْيَمَنِ تُسَمَّى ‏"‏التَّبَابِعَةُ‏"‏، وَاحِدُهُم‏"‏ تُبَّعٌ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏فِرْعَوْنُ مُوسَى‏"‏ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ نَجَّاهُمْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ اسْمَهُ ‏"‏ الْوَلِيدُ بْنُ مُصَعِّبِ بْنِ الرَّيَّانِ‏"‏، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ اسْمِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ أَنَّ اسْمَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُصَعِّبِ بْنِ الرَّيَّانِ‏.‏

وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏، وَالْخِطَابُ بِهِ لِمَنْ لَمْ يُدْرِكْ فِرْعَوْنَ وَلَا الْمُنَجَّيْنَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا أَبْنَاءَ مَنْ نَجَّاهُمْ مَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَأَضَافَ مَا كَانَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَى آبَائِهِمْ إِلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ كُفْرَانِ آبَائِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْإِضَافَةِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِآخَرَ‏:‏ فَعَلْنَا بِكُمْ كَذَا، وَفَعَلْنَا بِكُمْ كَذَا، وَقَتَلْنَاكُمْ وَسَبَيْنَاكُمْ‏"‏، وَالْمُخْبَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَعْنِي قَوْمَهُ وَعَشِيرَتَهُ بِذَلِكَ، أَوْ أَهْلَ بَلَدِهِ وَوَطَنِهِ- كَانَ الْمَقُولُ لَهُ ذَلِكَ أَدْرَكَ مَا فُعِلَ بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ، كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ يُهَاجِي جَرِيرَ بْنَ عَطِيَّةَ‏:‏

وَلَقَـدْ سَـمَا لَكُـمُ الْهُـذَيْلُ فَنَـالَكُمْ *** بِـإِرَابَ، حَـيْثِ يُقَسِّـمُ الْأَنْفَـالَا

فِـي فَيْلَـقٍ يَدْعُـو الْأَرَاقِـمَ، لَـمْ تَكُنْ *** فُرْسَـانُهُ عُـزْلًا وَلَا أَكْفَـالَا

وَلَمْ يَلْحَقْ جَرِيرٌ هُذَيْلًا وَلَا أَدْرَكَهُ، وَلَا أَدْرَكَ إِرَابَ وَلَا شَهِدَهُ‏.‏ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ قَوَمِ الْأَخْطَلِ عَلَى قَوْمِ جَرِيرٍ، أَضَافَ الْخِطَابَ إِلَيْهِ وَإِلَى قَوْمِهِ‏.‏ فَكَذَلِكَ خِطَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏ لَمَّا كَانَ فِعْلُهُ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْمِ مَنْ خَاطَبَهُ بِالْآيَةِ وَآبَائِهِمْ، أَضَافَ فِعَلْهُ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ بِآبَائِهِمْ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ وَقَوْمِهِمْ‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ‏{‏يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏يَسُومُونَكُمْ‏)‏ وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ، أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا عَنْ فِعْلِ فِرْعَوْنَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ‏:‏ وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ إِذْ نَجَّيْتُكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏.‏ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَأْوِيلَهُ كَانَ مَوْضِعُ ‏"‏يَسُومُونَكُم‏"‏ رَفَعًا‏.‏

وَالْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ ‏"‏يَسُومُونَكُم‏"‏ حَالًا فَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ حِينَئِذٍ‏:‏ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ سَائِمِيكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، فَيَكُونُ حَالًا مَنْ آلِ فِرْعَوْنَ‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏يَسُومُونَكُمْ‏)‏ فَإِنَّهُ‏:‏ يُورِدُونَكُمْ، وَيُذِيقُونَكُمْ، وَيُوَلُّونَكُمْ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ سَامَهُ خُطَّةَ ضَيْمٍ، إِذَا أَوَلَاهُ ذَلِكَ وَأَذَاقَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا ***

فَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏سُوءَ الْعَذَابِ‏)‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ مَا سَاءَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ‏.‏ وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَشَدَّ الْعَذَابِ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ لَقِيلَ‏:‏ أَسْوَأَ الْعَذَابِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَمَا ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا يَسُومُونَهُمُ الَّذِي كَانَ يَسُوؤُهُمْ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ هُوَ مَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ مَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ كَانَ فِرْعَوْنُ يُعَذِّبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَجْعَلُهُمْ خَدَمًا وَخَوَلًا وَصَنَّفَهُمْ فِي أَعْمَالِهِ، فَصِنْفٌ يَبْنُونَ، ‏[‏وَصِنْفٌ يَحْرُثُونَ‏]‏، وَصِنْفٌ يَزْرَعُونَ لَهُ، فَهُمْ فِي أَعْمَالِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِي صَنْعَةٍ ‏[‏لَهُ‏]‏ مِنْ عَمَلِهِ‏:‏ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ- فَسَامَهُمْ- كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ سُوءَ الْعَذَابِ‏.‏

وَقَالَ السُّدِّيُّ‏:‏ جَعَلَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الْقَذِرَةِ، وَجَعَلَ يَقْتُلُ أَبْنَاءَهُمْ، وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ‏:‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ‏{‏يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَضَافَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سَوْمِهِمْ إِيَّاهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وَذَبْحِهِمْ أَبْنَاءَهُمْ، وَاسْتِحْيَائِهِمْ نِسَاءَهُمْ إِلَيْهِمْ، دُونَ فِرْعَوْنَ- وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُمْ مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ كَانَ بِقُوَّةِ فِرْعَوْنَ، وَعَنْ أَمْرِهِ- لِمُبَاشَرَتِهِمْ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ‏.‏ فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مُبَاشِرٍ قَتْلَ نَفْسٍ أَوْ تَعْذِيبَ حَيٍّ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرِ غَيْرِهِ، فَفَاعِلُهُ الْمُتَوَلِّي ذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ إِضَافَةَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ قَاهِرًا الْفَاعِلَ الْمَأْمُورَ بِذَلِكَ- سُلْطَانًا كَانَ الْآمِرُ، أَوْ لِصًّا خَارِبًا، أَوْ مُتَغَلِّبًا فَاجِرًا‏.‏ كَمَا أَضَافَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَبْحَ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاسْتِحْيَاءِ نِسَائِهِمْ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ دُونَ فِرْعَوْنَ، وَإِنْ كَانُوا بِقُوَّةِ فِرْعَوْنَ وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، فَعَلُوا مَا فَعَلُوا، مَعَ غَلَبَتِهِ إِيَّاهُمْ وَقَهْرِهِ لَهُمْ‏.‏ فَكَذَلِكَ كُلُّ قَاتِلٍ نَفْسًا بِأَمْرِ غَيْرِهِ ظُلْمًا، فَهُوَ الْمَقْتُولُ عِنْدَنَا بِهِ قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ إِيَّاهَا بِإِكْرَاهِ غَيْرِهِ لَهُ عَلَى قَتْلِهِ‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ ذَبْحِهِمْ أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاسْتِحْيَائِهِمْ نِسَاءَهُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ كَالَّذِي‏:‏

حَدَّثَنَا بِهِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْآمُلِيُّ وَتَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَا حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الْأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَيُّوبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا وَائْتَمَرُوا، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ، فَفَعَلُوا‏.‏ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ بِآجَالِهِمْ، وَأَنَّ الصِّغَارَ يُذْبَحُونَ، قَالَ‏:‏ تُوشِكُونَ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَصِيرُوا إِلَى أَنْ تُبَاشِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْخِدْمَةِ مَا كَانُوا يَكْفُونَكُمْ، فَاقْتُلُوا عَامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ فَتَقِلُّ أَبْنَاؤُهُمْ؛ وَدَعُوا عَامًا‏.‏ فَحَمَلَتْأُمُّ مُوسَى بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَانُ، فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ الْقَابِلُ حَمَلَتْ بِمُوسَى‏.‏

وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ الرَّمَادِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ قَالَتِ الْكَهَنَةُ لِفِرْعَوْنَ‏:‏ إِنَّهُ يُولَدُ فِي هَذَا الْعَامِ مَوْلُودٌ يَذْهَبُ بِمُلْكِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجَعَلَ فِرْعَوْنُ عَلَى كُلِّ أَلْفِ امْرَأَةٍ مِائَةَ رَجُلٍ، وَعَلَى كُلِّ مِائَةٍ عَشْرَةً، وَعَلَى كُلِّ عَشْرَةٍ رَجُلًا فَقَالَ‏:‏ انْظُرُوا كُلَّ امْرَأَةٍ حَامِلٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَانْظُرُوا إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَاذْبَحُوهُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَخَلُوا عَنْهَا‏.‏ وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ فِرْعَوْنَ مَلِكَهُمْ أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ، فَقَالَتِ الْكَهَنَةُ‏:‏ إِنَّهُ سَيُولَدُ الْعَامَ بِمِصْرَ غُلَامٌ يَكُونُ هَلَاكُكَ عَلَى يَدَيْهِ‏.‏ فَبَعَثَ فِي أَهْلِ مِصْرَ نِسَاءً قَوَابِلَ فَإِذَا وَلَدَتِ امْرَأَةٌ غُلَامًا أُتِيَ بِهِ فِرْعَوْنُ فَقَتَلَهُ، وَيَسْتَحْيِي الْجَوَارِيَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏ الْآيَةُ، قَالَ‏:‏ إِنَّ فِرْعَوْنَ مَلِكَهُمْ أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ سَيَنْشَأُ فِي مِصْرَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَظْهَرُ عَلَيْكَ، وَيَكُونُ هَلَاكُكَ عَلَى يَدَيْهِ‏.‏ فَبَعَثَ فِي مِصْرَ نِسَاءً‏.‏ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ آدَمَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ‏:‏ كَانَ مِنْ شَأْنِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى بُيُوتِ مِصْرَ، فَأَحْرَقَتِ الْقِبْطَ وَتَرَكَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَخْرَبَتْ بُيُوتَ مِصْرَ‏.‏ فَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ وَالْعَافَةَ وَالْقَافَةَ وَالْحَازَةَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ رُؤْيَاهُ فَقَالُوا لَهُ‏:‏ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ الَّذِي جَاءَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْهُ- يَعْنُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ- رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ هَلَاكُ مِصْرَ‏.‏ فَأَمَرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يُولَدَ لَهُمْ غُلَامٌ إِلَّا ذَبَحُوهُ، وَلَا تُوَلَدُ لَهُمْ جَارِيَةٌ إِلَّا تُرِكَتْ‏.‏ وَقَالَ لِلْقِبْطِ‏:‏ انْظُرُوا مَمْلُوكِيكُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ خَارِجًا فَأَدْخِلُوهُمْ، وَاجْعَلُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ يَلُونَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْقَذِرَةَ‏.‏ فَجَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَعْمَالِ غِلْمَانِهِمْ، وَأَدْخَلُوا غِلْمَانَهُمْ؛ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ‏}‏- يَقُولُ‏:‏ تَجَبَّرَ فِي الْأَرْضِ- ‏{‏وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا‏}‏- ، يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، حِينَ جَعَلَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الْقَذِرَةِ- ، ‏{‏يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ‏}‏ ‏[‏الْقَصَصِ‏:‏ 4‏]‏ فَجَعَلَ لَا يُولَدُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْلُودٌ إِلَّا ذُبِحَ، فَلَا يَكْبُرُ الصَّغِيرُ‏.‏ وَقَذَفَ اللَّهُ فِي مَشْيَخَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَوْتَ، فَأَسْرَعَ فِيهِمْ‏.‏ فَدَخَلَ رُءُوسُ الْقِبْطِ عَلَى فِرْعَوْنَ، فَكَلَّمُوهُ، فَقَالُوا‏:‏ إِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ وَقَعَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ الْعَمَلُ عَلَى غِلْمَانِنَا‏!‏ بِذَبْحِ أَبْنَائِهِمْ، فَلَا تَبْلُغُ الصِّغَارُ وَتَفْنَى الْكِبَارُ‏!‏ فَلَوْ أَنَّكَ كُنْتَ تُبْقِي مِنْ أَوْلَادِهِمْ‏!‏ فَأَمَرَ أَنْ يَذْبَحُوا سَنَةً وَيَتْرُكُوا سَنَةً‏.‏ فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي لَا يَذْبَحُونَ فِيهَا وُلِدَ هَارُونُ، فَتُرِكَ؛ فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي يَذْبَحُونَ فِيهَا حَمَلَتْ بِمُوسَى‏.‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ لَمَّا تَقَارَبَ زَمَانُ مُوسَى أَتَى مُنَجِّمُو فِرْعَوْنَ وَحُزَّاتُهُ إِلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ‏:‏ تَعْلَمٌ أَنَّا نَجِدُ فِي عِلْمِنَا أَنَّ مَوْلُودًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُهُ الَّذِي يُولَدُ فِيهِ يَسْلُبُكَ مُلْكَكَ، وَيَغْلِبُكَ عَلَى سُلْطَانِكَ، وَيُخْرِجُكَ مِنْ أَرْضِكَ، وَيُبَدِّلُ دِينَكَ‏.‏ فَلَمَّا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ، أَمَرَ بِقَتْلِ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْغِلْمَانِ، وَأَمَرَ بِالنِّسَاءِ يُسْتَحْيِينَ‏.‏ فَجَمَعَ الْقَوَابِلَ مِنْ نِسَاءِ ‏[‏أَهْلِ‏]‏ مَمْلَكَتِهِ، فَقَالَ لَهُنَّ‏:‏ لَا يَسْقُطْنَ عَلَى أَيْدِيكُنَّ غُلَامٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا قَتَلْتُنَّهُ‏.‏ فَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ يَذْبَحُ مَنْ فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ الْغِلْمَانِ، وَيَأْمُرُ بِالْحُبَالَى فَيُعَذَّبْنَ حَتَّى يَطْرَحْنَ مَا فِي بُطُونِهِنَّ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، لَقَدْ ذُكِرَ ‏[‏لِي‏]‏ أَنَّهُ كَانَ لَيَأْمُرُ بِالْقَصَبِ فَيُشَقُّ حَتَّى يُجْعَلَ أَمْثَالَ الشِّفَارِ، ثُمَّ يَصُفُ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْحُبَالَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيُوقِفُهُنَّ عَلَيْهِ فَيَحُزُّ أَقْدَامَهُنَّ‏.‏ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُنَّ لَتَمْصَعُ بِوَلَدِهَا فَيَقَعُ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهَا فَتَظَلُّ تَطَؤُهُ تَتَّقِي بِهِ حَدَّ الْقَصَبِ عَنْ رِجْلِهَا، لِمَا بَلَغَ مِنْ جَهْدِهَا، حَتَّى أَسْرَفَ فِي ذَلِكَ وَكَادَ يُفْنِيهِمْ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَفْنَيْتَ النَّاسَ وَقَطَعْتَ النَّسْلَ‏!‏ وَإِنَّهُمْ خَوْلُكَ وَعُمَّالُكَ‏!‏ فَأَمَرَ أَنْ يُقْتَلَ الْغِلْمَانُ عَامًا وَيُسْتَحْيَوا عَامًا‏.‏ فَوُلِدَ هَارُونُ فِي السَّنَةِ الَّتِي يُسْتَحْيَا فِيهَا الْغِلْمَانُ، وَوُلِدَ مُوسَى فِي السَّنَةِ الَّتِي فِيهَا يُقْتَلُونَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي قَالَهُ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ‏:‏ كَانَ ذَبْحَ آلِ فِرْعَوْنَ أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاسْتِحْيَاؤُهُمْ نِسَاءَهُمْ فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ إِذًا- عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ- ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏، يَسْتَبْقُونَهُنَّ فَلَا يَقْتُلُونَهُنَّ‏.‏

وَقَدْ يَجِبُ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏، أَنَّهُ تَرْكُهُمُ الْإِنَاثَ مِنَ الْقَتْلِ عِنْدَ وِلَادَتِهِنَّ إِيَّاهُنَّ- أَنْ يَكُونَ جَائِزًا أَنْ يُسَمَّى الطِّفْلُ مِنَ الْإِنَاثِ فِي حَالِ صِبَاهَا وَبَعْدَ وِلَادِهَا‏:‏ امْرَأَة‏"‏ وَالصَّبَايَا الصِّغَارُ وَهُنَّ أَطْفَالٌ‏:‏ نِسَاءً‏"‏‏.‏ لِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏، يَسْتَبْقُونَ الْإِنَاثَ مِنَ الْوِلْدَانِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ فَلَا يَقْتُلُونَهُنَّ‏.‏

وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمُ ابْنُ جُرَيْجٍ، فَقَالَ بِمَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَسْتَرِقُّونَ نِسَاءَكُمْ‏.‏

فَحَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ، بِقَوْلِهِ هَذَا، عَمَّا قَالَهُ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏‏:‏ إِنَّهُ اسْتِحْيَاءُ الصَّبَايَا الْأَطْفَالِ، إِذْ لَمْ يَجِدْهُنَّ يَلْزَمُهُنَّ اسْمُ ‏"‏نِسَاء‏"‏ ثُمَّ دَخَلَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْكَرَ بِتَأْوِيلِهِ ‏"‏وَيَسْتَحْيُونَ‏"‏، يَسْتَرِقُّونَ، وَذَلِكَ تَأْوِيلٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَلَا أَعْجَمِيَّةٍ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِحْيَاءَ إِنَّمَا هُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحَيَاةِ نَظِير‏"‏ الِاسْتِبْقَاءِ ‏"‏مِن‏"‏ الْبَقَاءِ‏"‏، وَ‏"‏ الِاسْتِسْقَاءِ ‏"‏مِن‏"‏ السَّقْيِ‏"‏‏.‏ وَهُوَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِرْقَاقِ بِمَعْزِلٍ‏.‏

وَقَدْ تَأَوَّلَ آخَرُونَ‏:‏ قَوْلَهُ ‏{‏يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ‏}‏، بِمَعْنَى يَذْبَحُونَ رِجَالَكُمْ آبَاءَ أَبْنَائِكُمْ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْمَذْبُوحُونَ الْأَطْفَالَ، وَقَدْ قَرَنَ بِهِمُ النِّسَاءَ‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّ الْمُسْتَحْيَيْنَ هُمُ النِّسَاءُ، الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يُذَبَّحُونَ هُمُ الرِّجَالُ دُونَ الصِّبْيَانِ، لِأَنَّ الْمُذَبَّحِينِ لَوْ كَانُوا هُمُ الْأَطْفَالَ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحْيَوْنَ هُمُ الصَّبَايَا‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَفِي إِخْبَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُمُ النِّسَاءُ، مَا بَيَّنَ أَنَّ الْمُذَبَّحِينِ هُمُ الرِّجَالُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ أَغْفَلَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ- مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنْ تَأْوِيلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ- مَوْضِعَ الصَّوَابِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ وَحْيِهِ إِلَىأُمِّ مُوسَىأَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تُرْضِعَ مُوسَى، فَإِذَا خَافَتْ عَلَيْهِ أَنْ تُلْقِيَهُ فِي التَّابُوتِ، ثُمَّ تُلْقِيهِ فِي الْيَمِّ‏.‏ فَمَعْلُومٌ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ لَوْ كَانُوا إِنَّمَا يَقْتُلُونَ الرِّجَالَ وَيَتْرُكُونَ النِّسَاءَ، لَمْ يَكُنْبِأُمِّ مُوسَىحَاجَةٌ إِلَى إِلْقَاءِ مُوسَى فِي الْيَمِّ، أَوْ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا لَمْ تَجْعَلْهُ أُمُّهُ فِي التَّابُوتِ‏.‏

وَلَكِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ قَبْلُ‏:‏ مِنْ ذَبْحِ آلِ فِرْعَوْنَ الصِّبْيَانَ وَتَرْكِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ الصَّبَايَا‏.‏ وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏، إِذْ كَانَ الصَّبَايَا دَاخِلَاتٌ مَعَ أُمَّهَاتِهِنَّ- وَأُمَّهَاتُهُنَّ لَا شَكَّ نِسَاءٌ فِي الِاسْتِحْيَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْتُلُونَ صِغَارَ النِّسَاءِ وَلَا كِبَارَهُنَّ، فَقِيلَ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ الْوَالِدَاتِ وَالْمَوْلُودَاتِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ قَدْ أَقْبَلَ الرِّجَال‏"‏ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏‏.‏ وَأَمَّا مِنَ الذُّكُورِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يُذْبَحُ إِلَّا الْمَوْلُودُونَ، قِيلَ‏:‏ يَذْبَحُونَ أَبْنَاءَكُمْ‏"‏، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ يَذْبَحُونَ رِجَالَكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

أَمَّاقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَفِي الَّذِي فَعَلْنَا بِكُمْ مِنْ إِنْجِائِنَاكُمْ- مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ عَذَابِ آلِ فِرْعَوْنَ إِيَّاكُمْ، عَلَى مَا وَصَفْتُ- بَلَاءٌ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ‏"‏ بَلَاءٌ ‏"‏‏:‏ نِعْمَةٌ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ نِعْمَةٌ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏، أَمَّا الْبَلَاءُ فَالنِّعْمَةُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمَةٌ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَ حَدِيثِ سُفْيَانَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏الْبَلَاء‏"‏ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ- الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ‏.‏ لِأَنَّ الِامْتِحَانَ وَالِاخْتِبَارَ قَدْ يَكُونُ بِالْخَيْرِ كَمَا يَكُونُ بِالشَّرِّ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 168‏]‏، يَقُولُ‏:‏ اخْتَبَرْنَاهُمْ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 35‏]‏‏.‏ ثُمَّ تُسَمِّي الْعَرَبُ الْخَيْرَ ‏"‏بَلَاء‏"‏ وَالشَّرَّ ‏"‏بَلَاءً‏"‏‏.‏ غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الشَّرِّ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏"‏ بَلَوْتُهُ أَبْلُوهُ بَلَاءً‏"‏، وَفِي الْخَيْرِ‏:‏ ‏(‏أَبْلَيْتُهُ أَبْلِيهِ إِبْلَاءً وَبَلَاءً‏)‏، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى‏:‏

جَـزَى اللَّـهُ بِالْإِحْسَـانِ مَـا فَعَلَا بِكُمْ *** وَأَبْلَاهُمَـا خَـيْرَ الْبَـلَاءِ الَّـذِي يَبْلُـو

فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ‏:‏ فَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا خَيْرَ النِّعَمِ الَّتِي يَخْتَبِرُ بِهَا عِبَادَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ‏}‏‏.‏

أَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ‏)‏، فَإِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى‏:‏ ‏(‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ وَاذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَاذْكُرُوا إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَرَقْنَا بِكُمْ‏)‏‏:‏ فَصَلْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ‏.‏ لِأَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا؛ فَفَرَقَ الْبَحْرَ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا، فَسَلَكَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْهُمْ طَرِيقًا مِنْهَا، فَذَلِكَ فَرْقُ اللَّهِ بِهِمْ عَزَّ وَجَلَّ الْبَحْرَ، وَفَصْلُهُ بِهِمْ، بِتَفْرِيقِهِمْ فِي طُرُقِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ لَمَّا أَتَى مُوسَى الْبَحْرَ كَنَّاهُ ‏"‏ أَبَا خَالِدٍ‏"‏، وَضَرْبَهُ فَانْفَلَقَ، فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، فَدَخَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏.‏ وَكَانَ فِي الْبَحْرِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا فِي كُلِّ طَرِيقٍ سِبْطٌ‏.‏

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ‏}‏، فَرَقْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ‏.‏ يُرِيدُ بِذَلِكَ‏:‏ فَصَلْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، وَحَجَزْنَاهُ حَيْثُ مَرَرْتُمْ بِهِ‏.‏ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا فِي ظَاهِرِ التِّلَاوَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَقَ الْبَحْرَ بِالْقَوْمِ، وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ فَرَقَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ الْبَحْرِ، فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ مَا قَالَهُ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَفَرْقُهُ الْبَحْرَ بِالْقَوْمِ، إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيقُهُ الْبَحْرَ بِهِمْ، عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنِ افْتِرَاقِ سَبِيلِهِ بِهِمْ، عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌوَكَيْفَ غَرَّقَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ آلَ فِرْعَوْنَ وَنَجَّى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏؟‏

قِيلَ لَهُ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ‏:‏ لَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ خَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِ مُوسَى عَلَى سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ دُهْمِ الْخَيْلِ، سِوَى مَا فِي جُنْدِهِ مِنْ شُهُبِ الْخَيْلِ‏.‏

وَخَرَجَ مُوسَى، حَتَّى إِذَا قَابَلَهُ الْبَحْرُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَنْهُ مُنْصَرَفٌ، طَلَعَ فِرْعَوْنُ فِي جُنْدِهِ مِنْ خَلْفِهِمْ، ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ‏}‏ مُوسَى ‏{‏كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الشُّعَرَاءِ‏:‏ ‏]‏ أَيْ لِلنَّجَاةِ، وَقَدْ وَعَدَنِي ذَلِكَ وَلَا خُلْفَ لِوَعْدِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ- فِيمَا ذُكِرَ لِي‏:‏ إِذَا ضَرَبَكَ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقْ لَهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَبَاتَ الْبَحْرُ يَضْرِبُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَرَقًا مِنَ اللَّهِ وَانْتِظَارِهِ أَمْرَهُ‏.‏ فَأَوْحَى اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ إِلَى مُوسَى‏:‏ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ بِهَا، وَفِيهَا سُلْطَانُ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاهُ، فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، أَيْ كَالْجَبَلِ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ لِمُوسَى‏:‏ ‏{‏فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 77‏]‏‏.‏ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ لَهُ الْبَحْرُ عَلَى طَرِيقٍ قَائِمَةٍ يَبْسٍ سَلَكَ فِيهِ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَتْبَعَهُ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِي قَالَ‏:‏ حُدِّثْتُ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، أَقْبَلَ فِرْعَوْنُ وَهُوَ عَلَى حِصَانٍ لَهُ مِنَ الْخَيْلِ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَفِيرِ الْبَحْرِ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى حَالِهِ، فَهَابَ الْحِصَانُ أَنْ يَنْفُذَ‏.‏ فَعَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى وَدِيقٍ، فَقَرَّبَهَا مِنْهُ فَشَمَّهَا الْفَحْلُ، فَلَمَّا شَمَّهَا قَدَّمَهَا، فَتَقَدَّمَ مَعَهَا الْحِصَانُ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ‏.‏ فَلَمَّا رَأَى جُنْدُ فِرْعَوْنَ فِرْعَوْنَ قَدْ دَخَلَ، دَخَلُوا مَعَهُ وَجِبْرِيلُ أَمَامَهُ، وَهُمْ يَتَّبِعُونَ فِرْعَوْنَ، وَمِيكَائِيلُ عَلَى فَرَسٍ مِنْ خَلْفِ الْقَوْمِ يَسُوقُهُمْ، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏الْحَقُوا بِصَاحِبِكُمْ‏)‏‏.‏ حَتَّى إِذَا فَصَلَ جِبْرِيلُ مِنَ الْبَحْرِ لَيْسَ أَمَامَهُ أَحَدٌ، وَوَقَفَ مِيكَائِيلُ عَلَى نَاحِيَتِهِ الْأُخْرَى، وَلَيْسَ خَلْفَهُ أَحَدٌ، طَبَقَ عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ، وَنَادَى فِرْعَوْنُ- حِينَ رَأَى مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقُدْرَتِهِ مَا رَأَى وَعَرَفَ ذُلَّهُ، وَخَذَلَتْهُ نَفْسُهُ- ‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 90‏]‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَمَّا خَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، بَلَغَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ فَقَالَ‏:‏ لَا تَتْبَعُوهُمْ حَتَّى يَصِيحَ الدِّيكُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَوَاللَّهِ مَا صَاحَ لَيْلَتَئِذٍ دِيكٌ حَتَّى أَصْبَحُوا‏:‏ فَدَعَا بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ لَا أَفْرَغُ مِنْ كَبِدِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيَّ سِتُّمِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ‏.‏ فَلَمْ يَفْرَغْ مِنْ كَبِدِهَا حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ سِتُّمِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ‏.‏ ثُمَّ سَارَ، فَلَمَّا أَتَى مُوسَى الْبَحْرَ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ‏:‏ أَيْنَ أَمْرُكَ رَبُّكَ يَا مُوسَى‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَمَامَكَ‏.‏ يُشِيرُ إِلَى الْبَحْرِ‏.‏ فَأَقْحَمَ يُوشَعُ فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ حَتَّى بَلَغَ الْغَمْرَ، فَذَهَبَ بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ أَيْنَ أَمْرُكَ رَبُّكَ يَا مُوسَى‏؟‏ فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتَ وَلَا كُذِّبْتَ‏:‏ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ‏.‏ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى مُوسَى‏:‏ ‏{‏أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 63‏]‏- يَقُولُ‏:‏ مِثْلَ جَبَلٍ- قَالَ‏:‏ ثُمَّ سَارَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ وَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ فِي طَرِيقِهِمْ، حَتَّى إِذَا تَتَامُّوا فِيهِ أَطْبَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏.‏ فَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏‏.‏ قَالَ مَعْمَرٌ، قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ كَانَ مَعَ مُوسَى سِتُّمِائَةُ أَلْفٍ، وَأَتْبَعَهُ فِرْعَوْنُ عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ وَمِائَةِ أَلْفِ حِصَانٍ‏.‏

وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ الرَّمَادِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ أَوْحَى اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَسَرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا فَاتَّبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ فِي أَلْفِ أَلْفِ حِصَانٍ سِوَى الْإِنَاثِ، وَكَانَ مُوسَى فِي سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ‏.‏ فَلَمَّا عَايَنَهُمْ فِرْعَوْنُ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ ‏]‏ فَسَرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى هَجَمُوا عَلَى الْبَحْرِ، فَالْتَفَتُوا فَإِذَا هُمْ بِرَهَجِ دَوَابِّ فِرْعَوْنَ، فَقَالُوا‏:‏ يَا مُوسَى، أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا‏!‏ هَذَا الْبَحْرُ أَمَامَنَا، وَهَذَا فِرْعَوْنُ قَدْ رَهِقَنَا بِمَنْ مَعَهُ‏!‏ قَالَ‏:‏ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَوْحَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، وَأَوْحَى إِلَى الْبَحْرِ أَنِ اسْمَعْ لِمُوسَى وَأَطِعْ إِذَا ضَرَبَكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَبَاتَ الْبَحْرُ لَهُ أَفْكَلٌ- يَعْنِي‏:‏ لَهُ رِعْدَةٌ- لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ جَوَانِبِهِ يَضْرِبُهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَقَالَ يُوشَعُ لِمُوسَى‏:‏ بِمَاذَا أُمِرْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أُمِرْتُ أَنْ أَضْرِبَ الْبَحْرَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَاضْرِبْهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَضَرَبَ مُوسَى الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، فَانْفَلَقَ فَكَانَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا، كُلُّ طَرِيقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ؛ فَكَانَ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ طَرِيقٌ يَأْخُذُونَ فِيهِ‏.‏ فَلَمَّا أَخَذُوا فِي الطَّرِيقِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ مَا لَنَا لَا نَرَى أَصْحَابَنَا‏؟‏ قَالُوا لِمُوسَى‏:‏ أَيْنَ أَصْحَابُنَا لَا نَرَاهُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ سِيرُوا فَإِنَّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ مِثْلِ طَرِيقِكُمْ‏.‏ قَالُوا‏:‏ لَا نَرْضَى حَتَّى نَرَاهُمْ‏.‏

قَالَ سُفْيَانُ، قَالَ عَمَّارٌ الدُّهْنِيُّ‏:‏ قَالَ مُوسَى‏:‏ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى أَخْلَاقِهِمُ السَّيِّئَةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ‏:‏ أَنْ قُلْ بِعَصَاكَ هَكَذَا‏.‏ وَأَوْمَأَ إِبْرَاهِيمُ بِيَدِهِ يُدِيرُهَا عَلَى الْبَحْرِ‏.‏ قَالَ مُوسَى بِعَصَاهُ عَلَى الْحِيطَانِ هَكَذَا، فَصَارَ فِيهَا كُوَى يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ‏.‏

قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ فَسَارُوا حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ‏.‏ فَلَمَّا جَازَ آخِرُ قَوْمِ مُوسَى هَجَمَ فِرْعَوْنُ عَلَى الْبَحْرِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمَ ذَنُوبٍ حِصَانٍ‏.‏ فَلَمَّا هَجَمَ عَلَى الْبَحْرِ، هَابَ الْحِصَانُ أَنْ يَقْتَحِمَ فِي الْبَحْرِ، فَتَمَثَّلَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى وَدِيقٍ، فَلَمَّا رَآهَا الْحِصَانُ تَقَحَّمَ خَلْفَهَا‏.‏ وَقِيلَ لِمُوسَى‏:‏ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا- قَالَ‏:‏ طُرُقًا عَلَى حَالِهِ- قَالَ‏:‏ وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا دَخَلَ آخِرُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَجَازَ آخِرُ قَوْمِ مُوسَى، أَطْبَقَ الْبَحْرُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَأُغْرِقُوا‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ‏:‏ أَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ‏.‏ فَخَرَجَ مُوسَى وَهَارُونُ فِي قَوْمِهِمَا، وَأُلْقِيَ عَلَى الْقِبْطِ الْمَوْتُ، فَمَاتَ كُلُّ بَكْرٍ رَجُلٍ، فَأَصْبَحُوا يَدْفِنُونَهُمْ، فَشُغِلُوا عَنْ طَلَبِهِمْ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ‏.‏ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 60‏]‏ فَكَانَ مُوسَى عَلَى سَاقَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ هَارُونُ أَمَامَهُمْ يُقَدِّمُهُمْ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ لِمُوسَى‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيْنَ أُمِرْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْبَحْرُ‏.‏ فَأَرَادَ أَنْ يَقْتَحِمَ، فَمَنَعَهُ مُوسَى، وَخَرَجَ مُوسَى فِي سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، لَا يَعُدُّونَ ابْنَ الْعِشْرِينَ لِصِغَرِهِ، وَلَا ابْنَ السِّتِّينَ لِكِبَرِهِ، وَإِنَّمَا عَدُّوا مَا بَيْنَ ذَلِكَ، سِوَى الذُّرِّيَّةِ‏.‏ وَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ هَامَانُ فِي أَلْفِ أَلْفٍ وَسَبْعُمِائَةِ أَلْفِ حِصَانٍ، لَيْسَ فِيهَا مَاذِيَانَةٌ- يَعْنِي الْأُنْثَى- وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ ‏]‏ يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏ فَتَقَدَّمَ هَارُونُ فَضَرَبَ الْبَحْرَ، فَأَبَى الْبَحْرُ أَنْ يَنْفَتِحَ، وَقَالَ‏:‏ مَنْ هَذَا الْجَبَّارُ الَّذِي يَضْرِبُنِي‏؟‏ حَتَّى أَتَاهُ مُوسَى فَكَنَّاهُ ‏"‏أَبَا خَالِد‏"‏ وَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ، فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ- يَقُولُ‏:‏ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ- ، فَدَخَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏.‏ وَكَانَ فِي الْبَحْرِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا، فِي كُلِّ طَرِيقٍ سِبْطٌ- وَكَانَتِ الطُّرُقُ انْفَلَقَتْ بِجُدْرَانٍ- فَقَالَ كُلُّ سِبْطٍ‏:‏ قَدْ قُتِلَ أَصْحَابُنَا‏!‏ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مُوسَى، دَعَا اللَّهَ، فَجَعَلَهَا لَهُمْ قَنَاطِرَ كَهَيْئَةِ الطِّيقَانِ فَنَظَرَ آخِرُهُمْ إِلَى أَوَّلِهِمْ، حَتَّى خَرَجُوا جَمِيعًا‏.‏ ثُمَّ دَنَا فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا نَظَرَ فِرْعَوْنُ إِلَى الْبَحْرِ مُنْفَلِقًا قَالَ‏:‏ أَلَا تَرَوْنَ الْبَحْرَ فَرَقَ مِنِّي‏؟‏ قَدِ انْفَتَحَ لِي حَتَّى أُدْرِكَ أَعْدَائِي فَأَقْتُلَهُمْ‏!‏ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 64‏]‏ يَقُولُ‏:‏ قَرَّبْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ، يَعْنِي آلَ فِرْعَوْنَ‏.‏ فَلَمَّا قَامَ فِرْعَوْنُ عَلَى أَفْوَاهِ الطُّرُقِ أَبَتْ خَيْلُهُ أَنْ تَقْتَحِمَ، فَنَـزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى مَاذِيَانَةٍ، فَشَامَّتِ الْحُصُنُ رِيحَ الْمَاذِيَانَةِ، فَاقْتَحَمَ فِي أَثَرِهَا، حَتَّى إِذَا هَمَّ أَوَّلُهُمْ أَنْ يَخْرُجَ وَدَخَلَ آخِرُهُمْ، أُمِرَ الْبَحْرُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ، فَالْتَطَمَ عَلَيْهِمْ‏.‏‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ الْأَرْضَ إِلَى الْبَحْرِ، قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ‏:‏ قُولُوا لَهُمْ يَدْخُلُونَ الْبَحْرَ إِنَّ كَانُوا صَادِقِينَ‏!‏ فَلَمَّا رَآهُمْ أَصْحَابُ مُوسَى قَالُوا‏:‏ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏!‏ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ‏.‏ فَقَالَ مُوسَى لِلْبَحْرِ‏:‏ أَلَسِْتَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى‏.‏ قَالَ‏!‏ وَتَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ بِهِمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى‏.‏ قَالَ‏:‏ أَتَعْلَمُ أَنَّ هَذَا عَدْوُ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى‏.‏ قَالَ‏:‏ فَافْرُقْ لِي طَرِيقًا وَلِمَنْ مَعِي‏.‏ قَالَ‏:‏ يَا مُوسَى، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، لَيْسَ لِي أَمْرٌ إِلَّا أَنْ يَأْمُرَنِي اللَّهُ تَعَالَى‏.‏ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْبَحْرِ‏:‏ إِذَا ضَرَبَكَ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَرِقْ‏.‏ وَأَوْحَى إِلَى مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى‏}‏ ‏[‏سُورَةُ طَهَ‏:‏ 77‏]‏ وَقَرَأَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا‏}‏ ‏[‏الدُّخَانِ‏:‏ 24‏]‏- سَهْلًا لَيْسَ فِيهِ نُقَرٌ- فَانْفَرَقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، فَسَلَكَ كُلُّ سِبْطٍ فِي طَرِيقٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ‏:‏ إِنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْبَحْرَ‏.‏ قَالَ‏:‏ ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَجِبْرِيلُ فِي آخِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُولُ لَهُمْ‏:‏ لِيَلْحَقْ آخِرُكُمْ أَوَّلَكُمْ‏.‏ وَفِي أَوَّلِ آلِ فِرْعَوْنَ يَقُولُ لَهُمْ‏:‏ رُوَيْدًا يَلْحَقُ آخِرُكُمْ أَوَّلَكُمْ‏.‏ فَجَعَلَ كُلُّ سِبْطٍ فِي الْبَحْرِ يَقُولُونَ لِلسِّبْطِ الَّذِينَ دَخَلُوا قَبْلَهُمْ‏:‏ قَدْ هَلَكُوا‏!‏ فَلَمَّا دَخَلَ ذَلِكَ قُلُوبَهُمْ أَوْحَى اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ إِلَى الْبَحْرِ فَجُعِلَ لَهُمْ قَنَاطِرَ، يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَى هَؤُلَاءِ، حَتَّى إِذَا خَرَجَ آخِرُ هَؤُلَاءِ وَدَخْلَ آخَرُ هَؤُلَاءِ أَمْرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَأَطْبَقَ عَلَى هَؤُلَاءِ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏)‏، أَيْ تَنْظُرُونَ إِلَى فَرْقِ اللَّهِ لَكُمُ الْبَحْرَ، وَإِهْلَاكِهِ آلَ فِرْعَوْنَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي نَجَّاكُمْ فِيهِ، وَإِلَى عَظِيمِ سُلْطَانِهِ- فِي الَّذِي أَرَاكُمْ مِنْ طَاعَةِ الْبَحْرِ إِيَّاهُ، مِنْ مَصِيرِهِ رُكَامًا فِلَقًا كَهَيْئَةِ الْأَطْوَادِ الشَّامِخَةِ، غَيْرَ زَائِلٍ عَنْ حَدِّهِ، انْقِيَادًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَإِذْعَانًا لِطَاعَتِهِ، وَهُوَ سَائِلٌ ذَائِبٌ قَبْلَ ذَلِكَ‏.‏

يُوقِفُهُمْ بِذَلِكَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَى مَوْضِعِ حُجَجِهِ عَلَيْهِمْ، وَيُذَكِّرُهُمْ آلَاءَهُ عِنْدَ أَوَائِلِهِمْ، وَيُحَذِّرُهُمْ- فِي تَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِفِرْعَوْنِ وَآلِهِ، فِي تَكْذِيبِهِمْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏)‏، كَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏ضُرِبْتَ وَأَهْلُكَ يَنْظُرُونَ، فَمَا أَتَوْكَ وَلَا أَعَانُوك‏)‏ بِمَعْنَى‏:‏ وَهُمْ قَرِيبٌ بِمَرْأَى وَمَسْمَعٍ، وَكَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ‏}‏ ‏[‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 45‏]‏، وَلَيْسَ هُنَاكَ رُؤْيَةٌ، إِنَّمَا هُوَ عِلْمٌ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، أَنَّهُ وَجْهُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏)‏، أَيْ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى غَرَقِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ‏:‏ قَدْ كَانُوا فِي شُغْلٍ مِنْ أَنْ يَنْظُرُوا- مِمَّا اكْتَنَفَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ- إِلَى فِرْعَوْنَ وَغَرَقِهِ‏.‏ وَلَيْسَ التَّأْوِيلُ الَّذِي تَأَوَّلَهُ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ، إِنَّمَا التَّأْوِيلُ‏:‏ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى فَرْقِ اللَّهِ الْبَحْرَ لَكُمْ- عَلَى مَا قَدْ وَصَفْنَا آنِفًا- وَالْتِطَامِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ بِآلِ فِرْعَوْنَ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَيَّرَ لَكُمْ فِي الْبَحْرِ طَرِيقًا يَبَسًا‏.‏ وَذَلِكَ كَانَ، لَا شَكَّ نَظَرَ عِيَانٍ لَا نَظَرَ عِلْمٍ، كَمَا ظَنَّهُ قَائِلُ الْقَوْلِ الَّذِي حَكَيْنَا قَوْلَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ وَاعَدْنَا‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَتِ الْقِرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏وَاعَدْنَا‏)‏ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاعَدَ مُوسَى مُوَافَاةَ الطَّوْرِ لِمُنَاجَاتِهِ، فَكَانَتِ الْمُوَاعَدَةُ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى، وَمِنْ مُوسَى لِرَبِّهِ‏.‏ وَكَانَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ قِرَاءَةَ ‏(‏وَاعَدْنَا‏)‏ عَلَى ‏"‏وَعَدْنَا‏"‏ أَنْ قَالُوا‏:‏ كُلُّ اتِّعَادٍ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلِالْتِقَاءِ وَالِاجْتِمَاعِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوَاعِدٌ صَاحِبَهُ ذَلِكَ‏.‏ فَلِذَلِكَ- زَعَمُوا- وَجَبَ أَنْ يُقْضَى لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ‏(‏وَاعَدْنَا‏)‏ بِالِاخْتِيَارِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ‏"‏ وَعَدْنَا‏"‏‏.‏

وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏وَعَدْنَا‏)‏ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ الْوَاعِدُ وَالْمُنْفَرِدُ بِالْوَعْدِ دُونَهُ‏.‏ وَكَانَ مِنْ حُجَّتِهِمْ فِي اخْتِيَارِهِمْ ذَلِكَ أَنْ قَالُوا‏:‏ إِنَّمَا تَكُونُ الْمُوَاعَدَةُ بَيْنَ الْبَشَرِ، فَأَمَّا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَإِنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِي كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَبِذَلِكَ جَاءَ التَّنْـزِيلُ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 22‏]‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 7‏]‏‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى‏)‏‏.‏

وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ‏:‏ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ جَاءَتْ بِهِمَا الْأُمَّةُ وَقَرَأَتْ بِهِمَا الْقَرَأَةُ، وَلَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ بِإِحْدَاهُمَا إِبْطَالُ مَعْنَى الْأُخْرَى، وَإِنْ كَانَ فِي إِحْدَاهُمَا زِيَادَةُ مَعْنَى عَلَى الْأُخْرَى مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ وَالتِّلَاوَةِ‏.‏ فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ بِهِمَا فَهُمَا مُتَّفِقَتَانِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ شَخْصٍ أَنَّهُ وَعَدَ غَيْرَهُ اللِّقَاءَ بِمَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَوْعُودَ ذَلِكَ وَاعِدٌ صَاحِبَهُ مِنْ لِقَائِهِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، مِثْلَ الَّذِي وَعَدَهُ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُهُ، إِذَا كَانَ وَعْدُهُ مَا وَعَدَهُ إِيَّاهُ مِنْ ذَلِكَ عَنِ اتِّفَاقٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ‏.‏ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمْ يَعِدْهُ رَبُّهُ الطَّوْرَ إِلَّا عَنْ رِضَا مُوسَى بِذَلِكَ، إِذْ كَانَ مُوسَى غَيْرَ مَشْكُوكٍ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ بِكُلِّ مَا أَمَرَّ اللَّهُ بِهِ رَاضِيًا، وَإِلَى مَحَبَّتِهِ فِيهِ مُسَارِعًا‏.‏ وَمَعْقُولٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَعِدْ مُوسَى ذَلِكَ، إِلَّا وَمُوسَى إِلَيْهِ مُسْتَجِيبٌ‏.‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ قَدْ كَانَ وَعَدَ مُوسَى الطَّوْرَ، وَوَعَدَهُ مُوسَى اللِّقَاءَ‏.‏ فَكَانَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِمُوسَى وَاعِدًا مُوَاعِدًا لَهُ الْمُنَاجَاةَ عَلَى الطَّوْرِ، وَكَانَ مُوسَى وَاعِدًا لِرَبِّهِ مُوَاعِدًا لَهُ اللِّقَاءَ‏.‏ فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْ ‏"‏وَعَد‏"‏ وَ‏"‏ وَاعَدَ ‏"‏ قَرَأَ الْقَارِئُ، فَهُوَ لِلْحَقِّ فِي ذَلِكَ- مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَاللُّغَةِ- مُصِيبٌ، لِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْعِلَلِ قَبْلُ‏.‏

وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ إِنَّمَا تَكُونُ الْمُوَاعَدَةُ بَيْنَ الْبَشَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مُنْفَرِدٌ فِي كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ انْفِرَادَ اللَّهِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ- لَا يُحِيلُ الْكَلَامُ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ وُجُوهِهِ، وَلَا يُغَيِّرُهُ عَنْ مَعَانِيهِ‏.‏ وَالْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَفْهُومِ مَا وَصَفْنَا‏:‏ مِنْ أَنَّ كُلَّ اتِّعَادٍ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَهُوَ وَعْدٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَمُوَاعَدَةٌ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاعَدَ صَاحِبَهُ مُوَاعِدٌ، وَأَنَّ الْوَعْدَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الِانْفِرَادُ مِنَ الْوَاعِدِ دُونَ الْمَوْعُودِ، إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ بِمَعْنَى ‏"‏الْوَعْد‏"‏ الَّذِي هُوَ خِلَافُ ‏"‏ الْوَعِيدِ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مُوسَى‏}‏‏.‏

وَمُوسَى- فِيمَا بَلَغَنَا- بِالْقِبْطِيَّةِ كَلِمَتَانِ، يُعْنَى بِهِمَا‏:‏ مَاءٌ وَشَجَرٌ‏.‏ ‏"‏فَمُو‏"‏، هُوَ الْمَاءُ، وَ‏"‏ شَا‏"‏ هُوَ الشَّجَرُ‏.‏ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ- فِيمَا بَلَغَنَا- لِأَنَّ أُمَّهُ لَمَّا جَعَلَتْهُ فِي التَّابُوتِ- حِينَ خَافَتْ عَلَيْهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ، كَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا، وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ الْيَمَّ الَّذِي أَلْقَتْهُ فِيهِ هُوَ النِّيلُ- دَفَعَتْهُ أَمْوَاجُ الْيَمِّ حَتَّى أَدْخَلَتْهُ بَيْنَ أَشْجَارٍ عِنْدَ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَ جِوَارِيآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يَغْتَسِلْنَ، فَوَجَدْنَ التَّابُوتَ فَأَخَذْنَهُ، فَسُمِّيَ بِاسْمِ الْمَكَانِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ، كَانَ ذَلِكَ بِمَكَانٍ فِيهِ مَاءٌ وَشَجَرٌ، فَقِيلَ‏:‏ مُوسَى، مَاءٌ وَشَجَرٌ‏.‏ كَذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ‏.‏

وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ، فِيمَا زَعَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْهُ‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏‏.‏

وَمَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بِتَمَامِهَا‏.‏ فَالْأَرْبَعُونَ لَيْلَةً كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمِيعَادِ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى انْقِضَاءَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، أَيْ رَأْسَ الْأَرْبَعِينَ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 82‏]‏ وَبِقَوْلِهِمُ‏:‏ ‏(‏الْيَوْمَ أَرْبَعُونَ مُنْذُ خَرَجَ فُلَانٌ‏)‏، ‏"‏ وَالْيَوْمَ يَوْمَانِ‏"‏‏.‏ أَيِ الْيَوْمَ تَمَامُ يَوْمَيْنِ، وَتَمَامُ أَرْبَعِينَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَخِلَافُ ظَاهِرِ التِّلَاوَةِ‏.‏ فَأَمَّا ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَاعَدَ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إِحَالَةُ ظَاهِرِ خَبَرِهِ إِلَى بَاطِنٍ، بِغَيْرِ بُرْهَانٍ دَالٍّ عَلَى صِحَّتِهِ‏.‏

وَأَمَّا أَهْلُ التَّأْوِيلِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي ذَلِكَ مَا أَنَا ذَاكِرُهُ، وَهُوَ مَا‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏، قَالَ‏:‏ يَعْنِي ذَا الْقِعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ‏.‏ وَذَلِكَ حِينَ خَلَّفَ مُوسَى أَصْحَابَهُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ هَارُونَ، فَمَكَثَ عَلَى الطَّوْرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَأُنْـزِلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ فِي الْأَلْوَاحِ- وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ بُرَدٍ- فَقَرَّبَهُ الرَّبُّ إِلَيْهِ نَجِيًّا، وَكَلَّمَهُ، وَسَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ‏.‏ وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا فِي الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى هَبَطَ مِنَ الطَّوْرِ‏.‏

وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ وَعَدَ اللَّهُ مُوسَى- حِينَ أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَنَجَّاهُ وَقَوْمَهُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَتَمَّهَا بِعَشْرٍ، فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، يَلْقَاهُ رَبُّهُ فِيهَا مَا شَاءَ‏.‏ وَاسْتَخْلَفَ مُوسَى هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ‏:‏ إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى رَبِّي فَاخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏.‏ فَخَرَجَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ مُتَعَجِّلًا لِلُقِيِّهِ شَوْقًا إِلَيْهِ، وَأَقَامَ هَارُونُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَعَهُ السَّامِرِيُّ يَسِيرُ بِهِمْ عَلَى أَثَرِ مُوسَى لِيُلْحِقَهُمْ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ انْطَلَقَ مُوسَى وَاسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَاعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، وَأَتَمَّهَا اللَّهُ بِعَشْرٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏، ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ فِي أَيَّامِ مُوَاعَدَةِ مُوسَى الْعِجْلَ إِلَهًا، مِنْ بَعْدِ أَنْ فَارَقَكُمْ مُوسَى مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَوْعِدِ‏.‏ وَ‏"‏ الْهَاءُ ‏"‏فِي قَوْلِه‏"‏ مِنْ بَعْدِهِ ‏"‏ عَائِدَةٌ عَلَى ذِكْرِ مُوسَى‏.‏

فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْمُخَالِفِينَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الْمُكَذِّبِينَ بِهِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ- عَنْ فِعْلِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، وَخِلَافِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ، مَعَ تَتَابُعِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَشُيُوعِ آلَائِهِ لَدَيْهِمْ، مُعَرِّفَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ- مِنْ خِلَافِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبِهِمْ بِهِ، وَجُحُودِهِمْ لِرِسَالَتِهِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ- عَلَى مِثْلِ مِنْهَاجِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، وَمُحَذِّرَهُمْ مِنْ نُـزُولِ سَطْوَتِهِ بِهِمْ بِمُقَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ مَا نَـزَلَ بِأَوَائِلِهِمُ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ‏:‏ مِنَ الْمَسْخِ وَاللَّعْنِ وَأَنْوَاعِ النَّقَمَاتِ‏.‏

وَكَانَ سَبَبُ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ، مَا‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ الرَّمَادِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ لَمَّا هَجَمَ فِرْعَوْنُ عَلَى الْبَحْرِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمٍ ذَنَوبٍ حِصَانٍ، فَلَمَّا هَجَمَ عَلَى الْبَحْرِ، هَابَ الْحِصَانُ أَنْ يَقْتَحِمَ فِي الْبَحْرِ، فَتَمَثَّلَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى وَدِيقٍ، فَلَمَّا رَآهَا الْحِصَانُ تَقَحَّمَ خَلْفَهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَعَرَفَ السَّامِرِيُّ جِبْرِيلَ، لِأَنَّ أُمَّهُ حِينَ خَافَتْ أَنْ يُذْبَحَ خَلَّفَتْهُ فِي غَارٍ وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِيهِ فَيَغْذُوهُ بِأَصَابِعِهِ، فَيَجِدُ فِي بَعْضِ أَصَابِعِهِ لَبَنًا، وَفِي الْأُخْرَى عَسَلًا وَفِي الْأُخْرَى سَمْنًا، فَلَمْ يَزَلْ يَغْذُوهُ حَتَّى نَشَأَ‏.‏ فَلَمَّا عَايَنَهُ فِي الْبَحْرِ عَرَفَهُ، فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَخَذَ مِنْ تَحْتِ الْحَافِرِ قَبْضَةً‏.‏ قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَؤُهَا‏:‏ ‏(‏فَقَبَضَتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُول‏)‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 96‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ قَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ وَأُلْقِيَ فِي رَوْعِ السَّامِرِيِّ إِنَّكَ لَا تُلْقِيهَا عَلَى شَيْءٍ فَتَقُولُ‏:‏ ‏(‏كُنْ كَذَا وَكَذَا‏)‏ إِلَّا كَانَ‏.‏ فَلَمْ تَزَلِ الْقَبْضَةُ مَعَهُ فِي يَدِهِ حَتَّى جَاوَزَ الْبَحْرَ‏.‏ فَلَمَّا جَاوَزَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، وَأَغْرَقَ اللَّهُ آلَ فِرْعَوْنَ، قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ‏:‏ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ‏.‏ وَمَضَى مُوسَى لِمَوْعِدِ رَبِّهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حُلِيٌّ مِنْ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ قَدْ تَعَوَّرُوهُ، فَكَأَنَّهُمْ تَأْثَّمُوا مِنْهُ، فَأَخْرَجُوهُ لِتَنْـزِلَ النَّارُ فَتَأْكُلَهُ‏.‏ فَلَمَّا جَمَعُوهُ، قَالَ السَّامِرِيُّ بِالْقَبْضَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِهِ هَكَذَا، فَقَذَفَهَا فِيهِ- وَأَوْمَأَ ابْنُ إِسْحَاقَ بِيَدِهِ هَكَذَا- وَقَالَ‏:‏ كُنْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ‏.‏ فَصَارَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، وَكَانَ تَدْخُلُ الرِّيحُ فِي دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ، فَقَالَ‏:‏ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى‏.‏ فَعَكَفُوا عَلَى الْعِجْلِ يَعْبُدُونَهُ، فَقَالَ هَارُونُ‏:‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي‏!‏ قَالُوا‏:‏ لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ- يَعْنِي مِنْ أَرْضِ مِصْرَ- أَمَرَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَخْرُجُوا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَعِيرُوا الْحُلِيَّ مِنَ الْقِبْطِ‏.‏ فَلَمَّا نَجَّى اللَّهُ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ

الْبَحْرِ، وَغَرِقَ آلُ فِرْعَوْنَ، أَتَى جِبْرِيلُ إِلَى مُوسَى يَذْهَبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ‏.‏ فَأَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ، فَرَآهُ السَّامِرِيُّ فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ فَرَسُ الْحَيَاةِ‏!‏ فَقَالَ حِينَ رَآهُ‏:‏ إِنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا‏.‏ فَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةِ الْحَافِرِ- حَافِرِ الْفَرَسِ- فَانْطَلَقَ مُوسَى، وَاسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَاعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، وَأَتَمَّهَا اللَّهُ بِعَشْرٍ‏.‏ فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ‏:‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، وَإِنَّ حُلِيَّ الْقِبْطِ إِنَّمَا هُوَ غَنِيمَةٌ، فَاجْمَعُوهَا جَمِيعًا، وَاحْفُرُوا لَهَا حُفْرَةً فَادْفِنُوهَا، فَإِنْ جَاءَ مُوسَى فَأَحَلَّهَا أَخَذْتُمُوهَا، وَإِلَّا كَانَ شَيْئًا لَمْ تَأْكُلُوهُ‏.‏ فَجَمَعُوا ذَلِكَ الْحُلِيَّ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ، وَجَاءَ السَّامِرِيُّ بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ فَقَذَفَهَا، فَأَخْرَجَ اللَّهُ مِنَ الْحُلِيِّ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ‏.‏ وَعَدَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَوْعِدَ مُوسَى، فَعَدُّوا اللَّيْلَةَ يَوْمًا وَالْيَوْمَ يَوْمًا، فَلَمَّا كَانَ تَمَامُ الْعِشْرِينَ، خَرَجَ لَهُمُ الْعِجْلُ‏.‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ‏:‏ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ- يَقُولُ‏:‏ تَرَكَ مُوسَى إِلَهَهُ هَاهُنَا وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ‏.‏ فَعَكَفُوا عَلَيْهِ يَعْبُدُونَهُ، وَكَانَ يَخُورُ وَيَمْشِي‏.‏ فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ‏:‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ- يَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، يَقُولُ‏:‏ بِالْعِجْلِ- وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ‏.‏ فَأَقَامَ هَارُونُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ، وَانْطَلَقَ مُوسَى إِلَى إِلَهِهِ يُكَلِّمُهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ لَهُ‏:‏ مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى‏؟‏ قَالَ‏:‏ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ‏.‏ قَالَ مُوسَى؛ يَا رَبِّ هَذَا السَّامِرِيُّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا الْعِجْلَ، أَرَأَيْتَ الرُّوحَ مَنْ نَفَخَهَا فِيهِ‏؟‏ قَالَ الرَّبُّ‏:‏ أَنَا‏.‏ قَالَ‏:‏ رَبِّ أَنْتَ إِذًا أَضْلَلْتَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ كَانَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- أَنَّ مُوسَى قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ‏:‏ اسْتَعِيرُوا مِنْهُمْ- يَعْنِي مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ- الْأَمْتِعَةَ وَالْحُلِيَّ وَالثِّيَابَ، فَإِنِّي مُنَفِّلُكُمْ أَمْوَالَهُمْ مَعَ هَلَاكِهِمْ‏.‏ فَلَمَّا أَذَّنَ فِرْعَوْنُ فِي النَّاسِ، كَانَ مِمَّا يُحَرِّضُ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ قَالَ‏:‏ حِينَ سَارُوا لَمْ يَرْضُوا أَنْ خَرَجُوا بِأَنْفُسِهِمْ، حَتَّى ذَهَبُوا بِأَمْوَالِكُمْ مَعَهُمْ ‏!‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ السَّامِرِيُّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَاجَرْمَا، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، وَكَانَ حُبُّ عِبَادَةِ الْبَقَرِ فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏ فَلَمَّا فَضَّلَ هَارُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفَصْلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ، قَالَ لَهُمْ هَارُونُ‏:‏ أَنْتُمْ قَدْ حُمِّلْتُمْ أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ- آلِ فِرْعَوْنَ- وَأَمْتِعَةً وَحُلِيًّا، فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا، فَإِنَّهَا نَجِسٌ‏.‏ وَأَوْقَدْ لَهُمْ نَارًا فَقَالَ‏:‏ اقْذِفُوا مَا كَانَ مَعَكُمْ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا‏.‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ‏.‏

فَجَعَلُوا يَأْتُونَ بِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْأَمْتِعَةِ وَذَلِكَ الْحُلِيِّ، فَيَقْذِفُونَ بِهِ فِيهَا‏.‏ حَتَّى إِذَا تَكَسَّرَ الْحُلِيُّ فِيهَا، وَرَأَى السَّامِرِيُّ، أَثَرَ فَرَسِ جِبْرِيلَ، فَأَخَذَ تُرَابًا مِنْ أَثَرِ حَافِرِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى النَّارِ فَقَالَ لِهَارُونَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أُلْقِي مَا فِي يَدِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ وَلَا يَظُنُّ هَارُونُ إِلَّا أَنَّهُ كَبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ الْحُلِيِّ وَالْأَمْتِعَةِ، فَقَذَفَهُ فِيهَا وَقَالَ‏:‏ ‏(‏كُنْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ‏)‏، فَكَانَ، لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى‏.‏ فَعَكَفُوا عَلَيْهِ، وَأَحَبُّوهُ حُبًّا لَمْ يُحِبُّوا مِثْلَهُ شَيْئًا قَطُّ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏(‏فَنَسْي‏)‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 88‏]‏ أَيْ تَرْكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ- يَعْنِي السَّامِرِيَّ- ‏{‏أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 89‏]‏ وَكَانَ اسْمُ السَّامِرِيِّ مُوسَى بْنُ ظُفَرَ، وَقَعَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، فَدَخَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏ فَلَمَّا رَأَى هَارُونُ مَا وَقَعُوا فِيهِ قَالَ‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ ‏]‏ فَأَقَامَ هَارُونُ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يُفْتَتَنْ، وَأَقَامَ مَنْ يَعْبُدُ الْعِجْلَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَتَخَوَّفَ هَارُونُ، إِنَّ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَنْ يَقُولَ لَهُ مُوسَى‏:‏ فَرَّقَتْ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي‏.‏ وَكَانَ لَهُ هَائِبًا مُطِيعًا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ لَمَّا أَنْجَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ‏:‏ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏.‏ قَالَ‏:‏ لَمَّا خَرَجَ مُوسَى وَأَمْرَ هَارُونَ بِمَا أَمَرَهُ وَخَرَجَ مُوسَى مُتَعَجِّلًا مَسْرُورًا إِلَى اللَّهِ، قَدْ عَرَفَ مُوسَى أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا أُنْجِحَ فِي حَاجَةِ سَيِّدِهِ، كَانَ يُسُرُهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِلَيْهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ حِينَ خَرَجُوا اسْتَعَارُوا حُلِيًّا وَثِيَابًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الثِّيَابَ وَالْحُلِيَّ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، فَاجْمَعُوا نَارًا، فَأَلْقُوهُ فِيهَا فَأَحْرِقُوهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجَمَعُوا نَارًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ السَّامِرِيُّ قَدْ نَظَرَ إِلَى أَثَرِ دَابَّةِ جِبْرِيلَ، وَكَانَ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى- وَكَانَ السَّامِرِيُّ فِي قَوْمِ مُوسَى- قَالَ‏:‏ فَنَظَرَ إِلَى أَثَرِهِ فَقَبَضَ مِنْهُ قَبْضَةً، فَيَبِسَتْ عَلَيْهَا يَدُهُ‏.‏ فَلَمَّا أَلْقَى قَوْمُ مُوسَى الْحُلِيَّ فِي النَّارِ، وَأَلْقَى السَّامِرِيُّ مَعَهُمُ الْقَبْضَةَ، صَوَّرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ذَلِكَ لَهُمْ عِجْلًا ذَهَبًا، فَدَخَلَتْهُ الرِّيحُ، فَكَانَ لَهُ خُوَارٌ، فَقَالُوا‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ السَّامِرِيُّ الْخَبِيثُ‏:‏ ‏{‏هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ‏}‏، الْآيَةُ، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ ‏]‏ قَالَ‏:‏ حَتَّى إِذَا أَتَى مُوسَى الْمَوْعِدَ، قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي‏}‏ فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 86‏]‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْعِجْلُ‏:‏ حَسِيلُ الْبَقَرَةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ حُلِيٌّ اسْتَعَارُوهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ‏:‏ أَخْرِجُوهُ فَتَطَهَّرُوا مِنْهُ وَأَحْرِقُوهُ‏.‏ وَكَانَ السَّامِرِيُّ قَدْ أَخَذَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ فَطَرَحَهُ فِيهِ، فَانْسَبَكَ، فَكَانَ لَهُ كَالْجَوْفِ تَهْوِي فِيهِ الرِّيَاحُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَ الْعِجْلُ، لِأَنَّهُمْ عَجَّلُوا فَاتَّخَذُوهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مُوسَى‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنِي عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِ حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنِ الْحَسَنِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي ‏"‏ وَأَنْتُمْ وَاضِعُو الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، لِأَنَّالْعِبَادَةَ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَبَدْتُمْ أَنْتُمُ الْعِجْلَ ظُلْمًا مِنْكُمْ، وَوَضْعًا لِلْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا‏.‏ وَقَدْ دَلَّلْنَا- فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِمَّا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا- أَنَّأَصْلَ كُلِّ ظُلْمٍ، وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ تَرَكْنَا مُعَاجَلَتَكُمْ بِالْعُقُوبَةِ، ‏"‏ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏"‏، أَيْ مِنْ بَعْدِ اتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏، يَعْنِي مِنْ بَعْدِ مَا اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ‏.‏

وَأَمَّاتَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ‏:‏ لِتَشْكُرُوا‏.‏ وَمَعْنَى ‏"‏لَعَل‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى ‏"‏كَيْ‏"‏‏.‏ وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ أَحَدَ مَعَانِي‏"‏ لَعَلَّ ‏"‏ ‏"‏ كَيْ‏"‏، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا‏:‏ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ اتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا، لِتَشْكُرُونِي عَلَى عَفْوِي عَنْكُمْ، إِذْ كَانَ الْعَفْوُ يُوجِبُ الشُّكْرَ عَلَى أَهْلِ اللُّبِّ وَالْعَقْلِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ‏}‏‏:‏ وَاذْكُرُوا أَيْضًا إِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ‏.‏ وَيَعْنِي بِ ‏"‏الْكِتَابِ ‏"‏‏:‏ التَّوْرَاةَ، وَب‏"‏ الْفُرْقَانِ ‏"‏‏:‏ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ‏}‏، قَالَ‏:‏ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْكِتَابُ‏:‏ هُوَ الْفُرْقَانُ، فَرْقَانٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْكِتَابُ هُوَ الْفُرْقَانُ، فَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏الْفُرْقَانُ‏)‏‏:‏ جِمَاعُ اسْمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ بِمَا‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُهُ- يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ- عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ‏}‏ فَقَالَ‏:‏ أَمَّا ‏"‏الْفُرْقَان‏"‏ الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 41‏]‏، فَذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ، يَوْمَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْقَضَاءُ الَّذِي فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَكَذَلِكَ أَعْطَى اللَّهُ مُوسَى الْفُرْقَانَ، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَسَلَّمَهُ وَأَنْجَاهُ، فَرَّقَ بَيْنَهُمْ بِالنَّصْرِ‏.‏ فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَكَذَلِكَ جَعَلَهُ بَيْنَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ‏:‏ مِنْ أَنَّ الْفُرْقَانَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ آتَاهُ مُوسَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ نَعْتٌ لِلتَّوْرَاةِ وَصِفَةٌ لَهَا‏.‏ فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ حِينَئِذٍ‏:‏ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبْنَاهَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ وَفَرَّقْنَا بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ‏.‏

فَيَكُونُ ‏"‏الْكِتَاب‏"‏ نَعْتًا لِلتَّوْرَاةِ أُقِيمَ مَقَامَهَا، اسْتِغْنَاءً بِهِ عَنْ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بِ ‏"‏ الْفُرْقَانِ‏"‏، إِذْ كَانَ مِنْ نَعْتِهَا‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ‏"‏الْكِتَاب‏"‏ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى بِالْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا غَيْرَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ ‏"‏الْكِتَابِ‏"‏، وَأَنَّ مَعْنَى‏"‏ الْفُرْقَانِ ‏"‏ الْفَصْلَ- وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا- ، فَإِلْحَاقُهُ إِذْ كَانَ كَذَلِكَ، بِصِفَةِ مَا وَلِيَهُ أَوْلَى مِنَ الْحَاقِهِ بِصِفَةِ مَا بَعُدَ مِنْهُ‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏، فَنَظِيرُ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏، وَمَعْنَاهُ لِتَهْتَدُوا‏.‏

وَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَاذْكُرُوا أَيْضًا إِذْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِتَهْتَدُوا بِهَا، وَتَتَّبِعُوا الْحَقَّ الَّذِي فِيهَا، لِأَنِّي جَعَلْتُهَا كَذَلِكَ هُدًى لِمَنِ اهْتَدَى بِهَا وَاتَّبَعَ مَا فِيهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ‏:‏ اذْكُرُوا أَيْضًا إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ‏.‏ وَظُلْمُهُمْ إِيَّاهَا كَانَ فِعْلَهُمْ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ بِهَا، مِمَّا أَوْجَبَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ وَكَذَلِكَ كَلُّ فَاعِلٍ فِعْلًا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ بِإِيجَابِهِ الْعُقُوبَةَ لَهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ وَكَانَ الْفِعْلُ الَّذِي فَعَلُوهُ فَظَلَمُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏:‏ مِنِ ارْتِدَادِهِمْ بِاتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ رِبًا بَعْدَ فِرَاقِ مُوسَى إِيَّاهُمْ‏.‏

ثُمَّ أَمَرَهُمْ مُوسَى بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ ذَنْبِهِمْ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ مِنْ رِدَّتِهِمْ، بِالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّسْلِيمِ لِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ‏.‏ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي رَكِبُوهُ قَتْلُهُمْ أَنْفُسَهُمْ‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى ‏"‏ التَّوْبَةِ ‏"‏‏:‏ الْأَوْبَةُ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ إِلَى مَا يَرْضَاهُ مِنْ طَاعَتِهِ‏.‏

فَاسْتَجَابَ الْقَوْمُ لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ التَّوْبَةِ مِمَّا رَكِبُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ، عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَمَدُوا إِلَى الْخَنَاجِرِ، فَجَعَلَ يَطْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏.‏

حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدًا قَالَا قَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالْخَنَاجِرِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَحِنُّ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ، حَتَّى أَلْوَى مُوسَى بِثَوْبِهِ، فَطَرَحُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ، فَتُكِشِّفَ عَنْ سَبْعِينَ أَلْفِ قَتِيلٍ‏.‏ وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى‏:‏ أَنْ حَسْبِي فَقَدِ اكْتَفَيْتُ‏!‏ فَذَلِكَ حِينَ أَلْوَى بِثَوْبِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ‏:‏ ‏{‏تُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ أَمَرَ مُوسَى قَوْمَهُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، قَالَ‏:‏ فَاحْتَبَى الَّذِينَ عَكَفُوا عَلَى الْعِجْلِ فَجَلَسُوا، وَقَامَ الَّذِينَ لَمْ يَعْكُفُوا عَلَى الْعِجْلِ، وَأَخَذُوا الْخَنَاجِرَ بِأَيْدِيهِمْ، وَأَصَابَتْهُمْ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَانْجَلَتِ الظُّلْمَةُ عَنْهُمْ وَقَدْ أَجْلَوْا عَنْ سَبْعِينَ أَلْفِ قَتِيلٍ، كُلُّ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةً، وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةً‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ قَالَ‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ ‏]‏‏.‏ فَأَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ‏{‏قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 94‏]‏‏.‏ فَتَرَكَ هَارُونَ وَمَالَ إِلَى السَّامِرِيِّ، فَ ‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ ‏]‏ ثُمَّ أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ حَرَّقَهُ بِالْمِبْرَدِ، ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ، فَلَمْ يَبْقَ بَحْرٌ يَجْرِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ‏.‏ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُوسَى‏:‏ اشْرَبُوا مِنْهُ‏.‏ فَشَرِبُوا، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّهُ خَرَجَ عَلَى شَارِبَيْهِ الذَّهَبُ‏.‏ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 93‏]‏‏.‏ فَلَمَّا سَقَطَ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ جَاءَ مُوسَى، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا‏:‏ ‏(‏لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏)‏‏.‏ فَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَّا بِالْحَالِ الَّتِي كَرِهُوا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَصَفُّوا صَفَّيْنِ، ثُمَّ اجْتَلَدُوا بِالسُّيُوفِ‏.‏ فَاجْتَلَدَ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَالَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ بِالسُّيُوفِ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا، حَتَّى كَثُرَ الْقَتْلُ، حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلَكُوا حَتَّى قُتِلَ بَيْنَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَحَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ رَبَّنَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏!‏ رَبَّنَا الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ‏!‏‏!‏ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضَعُوا السِّلَاحَ، وَتَابَ عَلَيْهِمْ‏.‏ فَكَانَ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا، وَمَنْ بَقِيَ كَانَ مُكَفَّرًا عَنْهُ‏.‏ فَذَلِكَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ مُوسَى أَمَرَ قَوْمَهُ- عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ- أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْخَنَاجِرِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ أَبَاهُ وَيَقْتُلُ وَلَدَهُ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ‏)‏، قَالَ‏:‏ كَانَ أَمَرَ مُوسَى قَوْمَهُ- عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ- أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَقْتُلُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَلَا أَخَاهُ‏.‏ فَبَلَغَ ذَلِكَ فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ سَبْعِينَ أَلْفًا‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ الْآيَةُ، قَالَ‏:‏ فَصَارُوا صَفَّيْنِ، فَجَعَلَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَبَلَغَ الْقَتْلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ قَدْ تِيبَ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ، حَدَّثَنِي عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ، لَمَّا أُمِرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهَا، بَرَزُوا وَمَعَهُمْ مُوسَى، فَاضْطَرَبُوا بِالسُّيُوفِ، وَتَطَاعَنُوا بِالْخَنَاجِرِ، وَمُوسَى رَافِعٌ يَدَيْهِ‏.‏ حَتَّى إِذَا فَتَرَ، أَتَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَالُوا‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لَنَا‏.‏ وَأَخَذُوا بِعَضُدَيْهِ يُسْنِدُونَ يَدَيْهِ‏.‏ فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ قَبَضَ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ‏.‏ وَحَزِنَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ لِلَّذِي كَانَ مِنَ الْقَتْلِ فِيهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى مُوسَى‏:‏ مَا يُحْزِنُكَ‏؟‏، أَمَّا مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ، فَحَيٌّ عِنْدِي يُرْزَقُ؛ وَأَمَّا مَنْ بَقِيَ، فَقَدْ قَبِلْتُ تَوْبَتَهُ‏!‏ فَبَشَّرَ بِذَلِكَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَامُوا صَفَّيْنِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا‏.‏ قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ كَانَتْ شَهَادَةً لِلْمَقْتُولِ وَتَوْبَةً لِلْحَيِّ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ لِي عَطَاءٌ‏:‏ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ‏:‏ قَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مَا يَتَرَابَّأُ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَلَا أَبَاهُ وَلَا ابْنَهُ وَلَا أَحَدًا حَتَّى نَـزَلَتِ التَّوْبَةُ‏.‏

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ بَلَغَ قَتْلَاهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمُ الْقَتْلَ، وَتَابَ عَلَيْهِمْ‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ قَامُوا صَفَّيْنِ فَاقْتَتَلُوا بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْقَتْلَ لِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ شَهَادَةً، وَكَانَتْ تَوْبَةً لِمَنْ بَقِيَ‏.‏ وَكَانَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْعِجْلَ بَاطِلٌ، فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا مَخَافَةَ الْقِتَالِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، وَأَحْرَقَ الْعِجْلَ وَذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ، وَخَرَجَ إِلَى رَبِّهِ بِمَنِ اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، ثُمَّ بُعِثُوا- سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَقَالَ‏:‏ لَا إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى‏:‏ نَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ‏!‏ فَأَمَرَ مُوسَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَبْدَ الْعِجْلَ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ عَبَدَهُ‏.‏ فَجَلَسُوا بِالْأَفْنِيَةِ، وَأَصْلَتَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمُ السُّيُوفَ، فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهُمْ‏.‏ وَبَكَى مُوسَى، وَبَهِشَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ عَنْهُمْ، فَتَابَ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَأَمَرَ مُوسَى أَنْ تُرْفَعَ عَنْهُمُ السُّيُوفُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، وَكَانَ سَبْعُونَ رَجُلًا قَدِ اعْتَزَلُوا مَعَ هَارُونَ الْعِجْلَ لَمْ يَعْبُدُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى‏:‏ انْطَلِقُوا إِلَى مَوْعِدِ رَبِّكُمْ‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ يَا مُوسَى، أَمَا مِنْ تَوْبَةٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى‏!‏ ‏{‏اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ الْآيَةُ‏.‏ فَاخْتَرَطُوا السُّيُوفَ وَالْجِرَزَةَ وَالْخَنَاجِرَ وَالسَّكَاكِينَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَبُعِثَ عَلَيْهِمْ ضَبَابَةٌ، قَالَ‏:‏ فَجَعَلُوا يَتَلَامَسُونَ بِالْأَيْدِي، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ فَيَقْتُلَهُ وَلَا يَدْرِي، وَيَتَنَادَوْنَ فِيهَا‏:‏ رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا صَبَرَ نَفْسَهُ حَتَّى يَبْلُغَ اللَّهُ رِضَاهُ‏.‏ وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏الدُّخَانِ‏:‏ 33‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَقَتْلَاهُمْ شُهَدَاءُ، وَتِيبَ عَلَى أَحْيَائِهِمْ، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏‏.‏

فَالَّذِي ذَكَرْنَا- عَمَّنْ رَوَيْنَا عَنْهُ الْأَخْبَارَ الَّتِي رَوَيْنَاهَا- كَانَ تَوْبَةَ الْقَوْمِ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي أَتَوْهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ مَعَ نَدَمِهِمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّامَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ‏:‏ ارْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ خَالِقِكُمْ، وَإِلَى مَا يُرْضِيهِ عَنْكُمْ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ‏}‏، أَيْ‏:‏ إِلَى خَالِقِكُمْ‏.‏

وَهُوَ مِنْ ‏"‏بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَبْرَؤُهُ فَهُوَ بَارِئٌ‏"‏‏.‏ وَ‏"‏ الْبَرِّيَّةُ ‏"‏‏:‏ الْخَلْقُ‏.‏ وَهِي‏"‏ فَعِيلَةٌ ‏"‏بِمَعْنَى‏"‏ مَفْعُولَةٍ‏"‏، غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُهْمَزُ‏.‏ كَمَا لَا يُهْمَزُ ‏"‏مَلِك‏"‏ وَهُوَ مِنْ ‏"‏ لَأَكَ‏"‏، لَكِنَّهُ جَرَى بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ كَذَلِكَ قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ‏:‏

إِلَّا سُـلَيْمَانَ إِذْ قَـالَ الْمَلِيـكُ لَـهُ *** قُـمْ فِـي الْبَرِّيَّةِ فَاحْدُدْهَـا عَنِ الْفَنَدِ

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ ‏"‏الْبَرِّيَّة‏"‏ إِنَّمَا لَمْ تُهْمَزْ لِأَنَّهَا ‏"‏فَعِيلَة‏"‏ مِنْ ‏"‏ الْبَرَى‏"‏، وَالْبَرَى‏:‏ التُّرَابُ‏.‏ فَكَأَنَّ تَأْوِيلَهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ كَذَلِكَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّمَا أُخِذَتِ ‏"‏الْبَرِّيَّة‏"‏ مِنْ قَوْلِكَ ‏"‏ بَرَيْتُ الْعُودَ‏"‏‏.‏ فَلِذَلِكَ لَمْ يُهْمَزْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَرْكُ الْهَمْزِ مِنْ ‏"‏بَارِئِكُم‏"‏ جَائِزٌ، وَالْإِبْدَالُ مِنْهَا جَائِزٌ‏.‏ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي ‏"‏بَارِيكُم‏"‏ فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ ‏"‏الْبَرِّيَّة‏"‏ مِنْ‏:‏ ‏(‏بَرَى اللَّهُ الْخَلْق‏)‏ بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ تَوْبَتُكُمْ بِقَتْلِكُمْ أَنْفُسَكُمْ وَطَاعَتِكُمْ رَبَّكُمْ، خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ، لِأَنَّكُمْ تَنْجُونَ بِذَلِكَ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى ذَنْبِكُمْ، وَتَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الثَّوَابَ مِنْهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏)‏، أَيْ‏:‏ بِمَا فَعَلْتُمْ مِمَّا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ قَتْلِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا‏.‏ وَهَذَا مِنَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي اسْتَغْنَى بِالظَّاهِرِ مِنْهُ عَنِ الْمَتْرُوكِ‏.‏ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ، فَتُبْتُمْ، فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏.‏ فَتَرَكَ ذِكْرَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَتُبْتُمْ‏)‏، إِذْ كَانَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏)‏ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى اقْتِضَاءِ الْكَلَام‏"‏ فَتُبْتُمْ‏"‏‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏)‏ رَجَعَ لَكُمْ رَبُّكُمْ إِلَى مَا أَحْبَبْتُمْ‏:‏ مِنَ الْعَفْوِ عَنْ ذُنُوبِكُمْ وَعَظِيمِ مَا رَكِبْتُمْ، وَالصَّفْحِ عَنْ جُرْمِكُمْ، ‏{‏إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ الرَّاجِعُ لِمَنْ أَنَابَ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ إِلَى مَا يُحِبُّ مِنَ الْعَفْوِ عَنْهُ‏.‏ وَيَعْنِي بِ ‏"‏ الرَّحِيمِ‏"‏، الْعَائِدِ إِلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ الْمُنْجِيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ‏.‏