فصل: تفسير الآية رقم (141)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَاذْكُرُوا مَعَ قِيلِكُمْ هَذَا الَّذِي قُلْتُمُوهُ لِمُوسَى بَعْدَ رُؤْيَتِكُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، وَبَعْدَ النِّعَمِ الَّتِي سَلَفَتْ مِنِّي إِلَيْكُمْ، وَالْأَيَادِي الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِعْلَكُمْ مَا فَعَلْتُمْ ‏{‏وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏، وَهُمُ لَّذِينَ كَانُوا عَلَى مِنْهَاجِهِ وَطَرِيقَتِهِ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ مَنْ قَوَّمِهُ ‏{‏يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِذْ يُحَمِّلُونَكُمْ أَقْبَحَ الْعَذَابِ وَسَيِّئِهِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا مَا كَانَ الْعَذَابُ الَّذِي كَانَ يَسُومُهُمْ سَيِّئُهُ‏.‏

‏{‏يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ‏}‏، الذُّكُورَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ يَسْتَبِقُونَ إِنَاثَهُمْ ‏{‏وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَفِي سَوْمِهِمْ إِيَّاكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، اخْتِبَارٌ مِنَ اللَّهِ لَكُمْ وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَوَاعَدْنَا مُوسَى لِمُنَاجَاتِنَا ثَلَاثِينَ لَيْلَةً‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهَا ثَلَاثُونَ لَيْلَةً مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ‏.‏ ‏{‏وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَأَتْمَمْنَا الثَّلَاثِينَ اللَّيْلَةَ بِعَشْرِ لَيَالٍ تَتِمَّةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ الْعَشْرَ الَّتِي أَتَمَّهَا بِهِ أَرْبَعِينَ، عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ ذُو الْقِعْدَةِ، وَعَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ‏.‏

قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ ذُو الْقِعْدَةِ، وَعَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ‏.‏ فَفِي ذَلِكَ اخْتَلَفُوا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً‏}‏، هُوَ ذُو الْقِعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ زَعَمَ حَضْرَمِيٌّ أَنَّ الثَّلَاثِينَ الَّتِي كَانَ وَاعَدَ مُوسَى رَبَّهُ، كَانَتْ ذَا الْقِعْدَةِ، وَالْعَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الَّتِي تَمَّمَ اللَّهُ بِهَا الْأَرْبَعِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً‏}‏، قَالَ‏:‏ ذُو الْقِعْدَةِ‏.‏ ‏{‏وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَثَلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ قَالَ، سَمِعَتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ ذُو الْقِعْدَةِ، وَالْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَسْرُوقٍ‏:‏ ‏{‏وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَشْرُ الْأَضْحَى‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ فَكَمَّلَ الْوَقْتَ الَّذِي وَاعَدَ اللَّهُ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَبَلَغَهَا‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ فَبَلَغَ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لِمَا مَضَى لِمَوْعِدِ رَبِّهِ قَالَ لِأَخِيهِ هَارُونَ‏:‏ ‏{‏اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي‏}‏، يَقُولُ‏:‏ كُنْ خَلِيفَتِي فِيهِمْ إِلَى أَنْ أَرْجِعَ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏خَلَفَهُ يَخْلُفُهُ خِلَافَةً‏"‏‏.‏

‏(‏وَأَصْلَحْ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ وَأَصْلِحْهُمْ بِحَمْلِكَ إِيَّاهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ‏}‏ ‏"‏، وَكَانَ مِنْ إِصْلَاحِهِ أَنْ لَا يَدَعُ الْعَجَلَ يُعْبَدُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَا تَسْلُكْ طَرِيقَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، بِمَعْصِيَتِهِمْ رَبِّهِمْ، وَمَعُونَتِهِمْ أَهْلَ الْمَعَاصِي عَلَى عِصْيَانِهِمْ رَبِّهِمْ، وَلَكِنِ اسْلُكْ سَبِيلَ الْمُطِيعِينَ رَبَّهُمْ‏.‏

وَكَانَتْ مُوَاعِدَةُ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ، وَنَجَّى مِنْهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِيمَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً‏}‏، الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَبْلَ الطَّوْرِ، لِمَا نَجَّى اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْبَحْرِ وَغَرَّقَ آلَ فِرْعَوْنَ، وَخَلُصَ إِلَى الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ، أَنَـزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَأَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَلْقَاهُ، فَلَمَّا أَرَادَ لِقَاءَ رَبِّهِ، اسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى قَوْمِهِ، وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ إِلَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، مِيعَادًا مِنْ قِبَلِهِ، مِنْ غَيْرِ أَمْرِ رَبِّهِ وَلَا مِيعَادِهِ‏.‏ فَتَوَجَّهُ لِيَلْقَى رَبَّهُ، فَلَمَّا تَمَّتْ ثَلَاثُونَ لَيْلَةً، قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ السَّامِرِيُّ‏:‏ لَيْسَ يَأْتِيكُمْ مُوسَى، وَمَا يُصْلِحُكُمْ إِلَّا إِلَهٌ تَعْبُدُونَهُ‏!‏ فَنَاشَدَهُمْ هَارُونُ وَقَالَ‏:‏ لَا تَفْعَلُوا، انْظُرُوا لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ وَيَوْمَكُمْ هَذَا، فَإِنْ جَاءَ وَإِلَّا فَعَلْتُمْ مَا بَدَا لَكُمْ‏!‏ فَقَالُوا‏:‏ نَعَمْ‏!‏ فَلَمَّا أَصْبَحُوا مِنْ غَدٍ وَلَمْ يَرَوْا مُوسَى، عَادَ السَّامِرِيُّ لِمَثَلِ قَوْلِهِ بِالْأَمْسِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَأَحْدَثَ اللَّهُ الْأَجَلَّ بَعْدَ الْأَجَلِ الَّذِي جَعَلَهُ بَيْنَهُمْ عَشْرًا، فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَعَادَ هَارُونُ فَنَاشَدَهُمْ إِلَّا مَا نَظَرُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنْ جَاءَ وَإِلَّا فَعَلْتُمْ مَا بَدَا لَكُمْ‏!‏ ثُمَّ عَادَ السَّامِرِيُّ الثَّالِثَةَ لِمِثْلِ قَوْلِهِ لَهُمْ، وَعَادَ هَارُونُ فَنَاشَدَهُمْ أَنْ يَنْتَظِرُوا، فَلَمَّا لَمَّ يَرَوْ‏.‏‏.‏‏.‏

قَالَ الْقَاسِمُ، قَالَ الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهُذلَيُّ قَالَ‏:‏ قَامَ السَّامِرِيُّ إِلَى هَارُونَ حِينَ انْطَلَقَ مُوسَى فَقَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّا اسْتَعَرْنَا يَوْمَ خَرَجْنَا مِنَ الْقِبْطِ حُلِيًّا كَثِيرًا مِنْ زِينَتِهِمْ، وَإِنَّ الْجُنْدَ الَّذِينَ مَعَكَ قَدْ أَسْرَعُوا فِي الْحُلِيِّ يَبِيعُونَهُ وَيُنْفِقُونَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ عَارِيَةً مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَلَيْسُوا بِأَحْيَاءٍ فَنَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ، وَلَا نَدْرِي لَعَلَّ أَخَاكَ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى إِذَا جَاءَ يَكُونُ لَهُ فِيهَا رَأْيٌ، إِمَّا يُقَرِّبُهَا قُرْبَانًا فَتَأْكُلُهَا النَّارُ، وَإِمَّا يَجْعَلُهَا لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ‏!‏ فَقَالَ لَهُ هَارُونُ‏:‏ نِعْمَ مَا رَأَيْتَ وَمَا قُلْتَ‏!‏ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى‏:‏ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ فَلْيَأْتِنَا بِهِ‏!‏ فَأَتَوْهُ بِهِ، فَقَالَ هَارُونُ‏:‏ يَا سَامِرِيُّ أَنْتَ أَحَقُّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ الْخِزَانَةُ‏!‏ فَقَبَضَهَا السَّامِرِيُّ، وَكَانَ عَدُوُّ اللَّهِ الْخَبِيثُ صَائِغًا، فَصَاغَ مِنْهُ عِجْلًا جَسَدًا، ثُمَّ قَذَفَ فِي جَوْفِهِ تُرْبَةً مِنَ الْقَبْضَةِ الَّتِي قَبَضَ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ رَآهُ فِي الْبَحْرِ، فَجَعَلَ يَخُورُ، وَلَمْ يَخِرْ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ إِنَّمَا تَخَلُّفُ مُوسَى بَعْدَ الثَّلَاثِينَ اللَّيْلَةَ يَلْتَمِسُ هَذَا‏!‏ ‏{‏هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ‏}‏، ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏‏.‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَسِيَ رَبَّهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلِمَا جَاءَ مُوسَى لِلْوَقْتِ الَّذِي وَعَدَنَا أَنْ يَلْقَانَا فِيهِ ‏"‏وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏"‏، وَنَاجَاهُ ‏"‏قَالَ‏"‏ مُوسَى لِرَبِّهِ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ‏}‏، قَالَ اللَّهُ لَهُ مُجِيبًا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ‏}‏‏.‏

وَكَانَ سَبَبُ مَسْأَلَةِ مُوسَى رَبَّهُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَا كَلَّمَهُ رَبُّهُ، أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ قَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي‏}‏ ‏"‏، فَحُفَّ حَوْلَ الْجَبَلِ ‏[‏بِمَلَائِكَةٍ‏]‏، وَحُفَّ حَوْلَ الْمَلَائِكَةِ بِنَارٍ، وَحُفَّ حَوْلَ النَّارِ بِمَلَائِكَةٍ، وَحُفَّ حَوْلَ الْمَلَائِكَةِ بِنَارٍ، ثُمَّ تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏، ‏[‏مَرْيَمَ‏:‏ 52‏]‏، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مَنْ لَقِيَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَّبَهُ الرَّبُّ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ الشَّوْقِ إِلَيْهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ قَالَ‏:‏ لِمَا تَخَلَّفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ، حَتَّى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ، اشْتَاقَ إِلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏رَبِ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي‏}‏، وَلَيْسَ لِبَشَرٍ أَنْ يُطِيقَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا، مَنْ نَظَرَ إِلَيَّ مَاتَ‏!‏ قَالَ‏:‏ إِلَهِي سَمِعْتُ مَنْطِقَكَ، وَاشْتَقْتُ إِلَى النَّظَرِ إِلَيْكَ، وَلِأَنْ أَنْظُرَ إِلَيْكَ ثُمَّ أَمُوتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعِيشَ وَلَا أَرَاكَ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَانْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَعْطِنِي‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ اسْتَخْلَفَ مُوسَى هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَالَ‏:‏ إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى رَبِّي، فَاخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏.‏ فَخَرَجَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ مُتَعَجِّلًا لِلُقِيِّهِ شَوْقًا إِلَيْهِ، وَأَقَامَ هَارُونُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَعَهُ السَّامِرِيُّ يَسِيرُ بِهِمْ عَلَى أَثَرِ مُوسَى لِيُلْحِقَهُمْ بِهِ‏.‏ فَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، طَمِعَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى‏:‏ إِنَّكَ لَنْ تَرَانِي، ‏{‏وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي‏}‏، الْآيَةَ‏.‏ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ فَهَذَا مَا وَصَلَ إِلَيْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَنْ خَبَرِ مُوسَى لِمَا طَلَبَ النَّظَرَ إِلَى رَبِّهِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ وَأَهْلُ التَّوْرَاةِ‏:‏ أَنْ قَدْ كَانَ لِذَلِكَ تَفْسِيرٌ وَقِصَّةٌ وَأُمُورٌ كَثِيرَةٌ، وَمُرَاجِعَةٌ لَمْ تَأْتِنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ بِأَحَادِيثَ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِنَّهُمْ يَجِدُّونَ فِي تَفْسِيرِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِ مُوسَى حِينَ طَلَبَ ذَلِكَ إِلَى رَبِّهِ، أَنَّهُ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ إِيَّاهُ حِينَ طَمِعَ فِي رُؤْيَتِهِ، وَطَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ رَبُّهُ مِنْهُ مَا رَدَّ‏:‏ أَنَّ مُوسَى كَانَ تَطَهَّرَ وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ، وَصَامَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ‏.‏ فَلَمَّا أَتَى طَوْرَ سَيْنَاءَ، وَدَنَا اللَّهُ لَهُ فِي الْغَمَامِ فَكَلَّمَهُ، سَبَّحَهُ وَحَمَّدَهُ وَكَبَّرَهُ وَقَدَّسَهُ، مَعَ تَضَرُّعٍ وَبُكَاءٍ حَزِينٍ، ثُمَّ أَخَذَ فِي مِدْحَتِهِ، فَقَالَ‏:‏ رَبِّ مَا أَعْظَمَكَ وَأَعْظَمَ شَأْنَكَ كُلَّهُ‏!‏ مِنْ عَظَمَتِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَأَنْتَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، كَأَنَّ عَرْشَكَ تَحْتَ عَظَمَتِكَ نَارًا تُوقَدُ لَكَ، وَجَعَلْتَ سُرَادِقًا ‏[‏مِنْ نُورٍ‏]‏ مِنْ دُونِهِ سُرَادِقَ مِنْ نُورٍ، فَمَا أَعْظَمَكَ رَبِّ وَأَعْظَمَ مُلْكَكَ‏!‏ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَلَائِكَتِكَ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ‏.‏ فَمَا أَعْظَمَكَ رَبِّ وَأَعْظَمَ مُلْكِكَ فِي سُلْطَانِكَ‏!‏ فَإِذَا أَرَدْتَ شَيْئًا تَقْضِيهِ فِي جُنُودِكَ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ أَوِ الَّذِينَ فِي الْأَرْضِ، وَجُنُودِكَ الَّذِينَ فِي الْبَحْرِ، بَعَثَتَ الرِّيحَ مِنْ عِنْدِكَ لَا يَرَاهَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِكَ، إِلَّا أَنْتَ إِنْ شِئْتَ، فَدَخَلَتَ فِي جَوْفِ مَنْ شِئْتَ مِنْ أَنْبِيَائِكَ، فَبَلَغُوا لِمَا أَرَدْتَ مِنْ عِبَادِكَ‏.‏ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ مَلَائِكَتِكَ يَسْتَطِيعُ شَيْئًا مِنْ عَظْمَتِكَ وَلَا مِنْ عَرْشِكَ وَلَا يَسْمَعُ صَوْتُكَ، فَقَدْ أَنْعَمَتَ عَلَيَّ وَأَعْظَمَتَ عَلَيَّ فِي الْفَضْلِ، وَأَحْسَنَتَ إِلَيَّ كُلَّ الْإِحْسَانِ‏!‏ عَظَّمَتْنِي فِي أُمَمِ الْأَرْضِ، وَعَظَّمَتْنِي عِنْدَ مَلَائِكَتِكَ، وَأَسْمَعْتَنِي صَوْتَكَ، وَبَذَلَتَ لِي كَلَامَكَ، وَآتَيْتِنِي حِكْمَتَكَ، فَإِنْ أَعُدُّ نِعْمَاكَ لَا أُحْصِيهَا، وَإِنْ أَرُدُّ شُكْرَكَ لَا أَسْتَطِيعُهُ‏.‏ دَعْوَتُكَ، رَبِّ، عَلَى فِرْعَوْنَ بِالْآيَاتِ الْعِظَامِ، وَالْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ، فَضَرَبْتُ بِعَصَايَ الَّتِي فِي يَدِيَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ لِي وَلِمَنْ مَعِي‏!‏ وَدَعْوَتُكَ حِينَ أَجَزْتُ الْبَحْرَ، فَأَغْرَقْتَ عَدُوَّكَ وَعَدُوِّي‏.‏ وَسَأَلْتُكَ الْمَاءَ لِي وَلِأُمَّتِي، فَضَرَبَتْ بِعَصَايَ الَّتِي فِي يَدِيَ الْحَجَرَ، فَمِنْهُ أَرْوَيْتَنِي وَأُمَّتِي‏.‏ وَسَأَلْتُكَ لِأُمَّتِي طَعَامًا لَمْ يَأْكُلْهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُمْ، فَأَمَرْتَنِي أَنْ أَدْعُوَكَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَمِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ، فَنَادَيْتُكَ مِنْ شَرْقِيِّ أُمَّتِي فَأَعْطَيْتَهُمُ الْمَنَّ مِنْ مَشْرِقٍ لِنَفْسِي، وَآتَيْتَهُمُ لسَّلْوَى مِنْ غَرْبِيِّهُمْ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ، وَاشْتَكَيْتُ الْحَرَّ فَنَادَيْتُكَ، فَظَلَّلْتَ عَلَيْهِمْ بِالْغَمَامِ‏.‏ فَمَا أُطِيقُ نِعْمَاكَ عَلَيَّ أَنْ أَعُدَّهَا وَلَا أُحْصِيَهَا، وَإِنْ أَرَدْتُ شُكْرَهَا لَا أَسْتَطِيعُهُ‏.‏ فَجِئْتُكَ الْيَوْمَ رَاغِبًا طَالِبًا سَائِلًا مُتَضَرِّعًا، لِتُعْطِيَنِي مَا مَنَعَتَ غَيْرِي‏.‏ أَطْلُبُ إِلَيْكَ، وَأَسْأَلُكَ يَا ذَا الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ، أَنْ تُرِيَنِي أَنْظُرُ إِلَيْكَ، فَإِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَرَى وَجْهَكَ الَّذِي لَمَّ يَرَهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِكَ‏!‏ قَالَ لَهُ رَبُّ الْعِزَّةِ‏:‏ أَلَّا تَرَى يَا ابْنَ عِمْرَانَ مَا تَقُولُ‏؟‏ تَكَلَّمْتَ بِكَلَامٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ‏!‏ لَا يَرَانِي أَحَدٌ فَيَحْيَا، ‏[‏لَيْسَ فِي السَّمَاوَاتِ مَعْمَرِي، فَإِنَّهُنَّ قَدْ ضَعُفْنَ أَنْ يَحْمِلْنَ عَظَمَتِي، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَعْمَرِي، فَإِنَّهَا قَدْ ضَعُفَتْ أَنْ تَسَعَ بِجُنْدِي‏]‏‏.‏ فَلَسْتُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فَأَتَجَلَّى لَعَيْنٍ تَنْظُرُ إِلَيَّ‏.‏ قَالَ مُوسَى‏:‏ يَا رَبِّ، أَنْ أَرَاكَ وَأَمُوتَ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ لَا أَرَاكَ وَأَحْيَا‏.‏ قَالَ لَهُ رَبُّ الْعِزَّةِ‏:‏ يَا ابْنَ عِمْرَانَ تَكَلَّمْتَ بِكَلَامٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ، لَا يَرَانِي أَحَدٌ فَيَحْيَا‏!‏ قَالَ‏:‏ رَبِّ تَمِّمْ عَلَيَّ نِعْمَاكَ، وَتَمِّمْ عَلَيَّ فَضْلَكَ، وَتَمِّمَ عَلَيَّ إِحْسَانَكَ، بِهَذَا الَّذِي سَأَلْتُكَ، لَيْسَ لِي أَنْ أَرَاكَ فَأُقْبَضُ، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَرَاكَ فَيَطْمَئِنُ قَلْبِي‏.‏ قَالَ لَهُ‏:‏ يَا ابْنَ عِمْرَانَ، لَنْ يَرَانِي أَحَدٌ فَيَحْيَا‏!‏ قَالَ‏:‏ مُوسَى رَبِّ تَمِّمْ عَلَيَّ نِعِمَاكَ وَتَمِّمْ عَلَيَّ فَضْلَكَ، وَتَمَّمْ عَلَيَّ إِحْسَانَكَ بِهَذَا الَّذِي سَأَلْتُكَ، فَأَمُوتُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْحَيَاةِ‏!‏ فَقَالَ الرَّحْمَنُ الْمُتَرَحِّمُ عَلَى خَلْقِهِ‏:‏ قَدْ طَلَبْتَ يَا مُوسَى، ‏[‏وحيـ‏]‏ لَأَعُطِيَنَّكَ سُؤْلَكَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيَّ، فَاذْهَبْ فَاتَّخَذَ لَوْحَيْنِ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الْحَجَرِ الْأَكْبَرِ فِي رَأْسِ الْجَبَلِ، فَإِنَّ مَا وَرَاءَهُ وَمَا دَوَّنَهُ مَضِيقٌ لَا يَسَعُ إِلَّا مَجْلِسَكَ يَا ابْنَ عِمْرَانَ‏.‏ ثُمَّ انْظُرْ فَإِنِّي أَهْبِطُ إِلَيْكَ وَجُنُودِي مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، فَفَعَلَ مُوسَى كَمًّا أَمَّرَهُ رَبُّهُ، نَحَتَ لَوْحَيْنِ ثُمَّ صَعَدَ بِهِمَا إِلَى الْجَبَلِ فَجَلَسَ عَلَى الْحَجَرِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَيْهِ، أَمْرَ اللَّهُ جُنُودَهُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَقَالَ‏:‏ ضَعِي أَكْتَافُكِ حَوْلَ الْجَبَلِ‏.‏ فَسَمِعَتُ مَا قَالَ الرَّبُّ، فَفَعَلَتْ أَمْرَهُ‏.‏ ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ الصَّوَاعِقَ وَالظُّلْمَةَ وَالضَّبَابَ عَلَى مَا كَانَ يَلِي الْجَبَلَ الَّذِي يَلِي مُوسَى أَرْبَعَةَ فَرَاسِخَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، ثُمَّ أَمْرَ اللَّهُ مَلَائِكَةَ الدُّنْيَا أَنْ يَمُرُّوا بِمُوسَى، فَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ، فَمَرُّوا بِهِ طَيَرَانَ النُّغَرِ، تَنْبُعُ أَفْوَاهُهُمْ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ كَصَوْتِ الرَّعْدِ الشَّدِيدِ، فَقَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ رَبِّ، إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا غَنِيًّا، مَا تَرَى عَيْنَايَ شَيْئًا، قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُمَا مِنْ شُعَاعِ النُّورِ الْمُتَصِفِّفِ عَلَى مَلَائِكَةِ رَبِّي‏!‏ ثُمَّ أَمْرَ اللَّهُ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ‏:‏ أَنِ اهْبِطُوا عَلَى مُوسَى فَاعْتَرِضُوا عَلَيْهِ‏!‏ فَهَبَطُوا أَمْثَالَ الْأَسَدِ لَهُمْ لَجَبٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، فَفَزِعَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ ابْنُ عِمْرَانَ مِمَّا رَأَى وَمِمَّا سَمِعَ، فَاقْشَعَرَّتْ كُلُّ شَعْرَةٍ فِي رَأْسِهِ وَجِلْدِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ نَدِمْتُ عَلَى مَسْأَلَتِي إِيَّاكَ، فَهَلْ يُنْجِينِي مِنْ مَكَانِي الَّذِي أَنَا فِيهِ شَيْءٌ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ كَبِيرُ الْمَلَائِكَةِ وَرَأَسُهُمْ يَا مُوسَى، اصْبِرْ لِمَا سَأَلْتَ، فَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مَا رَأَيْتَ‏!‏ ثُمَّ أَمْرَ اللَّهُ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ‏:‏ أَنِ اهْبِطُوا عَلَى مُوسَى، فَاعْتَرِضُوا عَلَيْهِ‏!‏ فَأَقْبَلُوا أَمْثَالَ النُّسُورِ لَهُمْ قَصْفٌ وَرَجْفٌ وَلَجَبٌ شَدِيدٌ، وَأَفْوَاهُهُمْ تَنْبُعُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، كَلَجَبِ الْجَيْشِ الْعَظِيمِ، كَلَهَبِ النَّارِ‏.‏ فَفَزِعَ مُوسَى، وَأَسِيَتْ نَفْسُهُ وَأَسَاءَ ظَنَّهُ، وَأَيِسَ مِنَ الْحَيَاةِ، فَقَالَ لَهُ كَبِيرُ الْمَلَائِكَةِ وَرَأَسُهُمْ‏:‏ مَكَانُكَ يَا ابْنَ عِمْرَانَ، حَتَّى تَرَى مَا لَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ‏!‏ ثُمَّ أَمْرَ اللَّهُ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ‏:‏ أَنِ اهْبِطُوا فَاعْتَرِضُوا عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ ‏!‏ فَأَقْبَلُوا وَهَبَطُوا عَلَيْهِ لَا يُشْبِهُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الَّذِينَ مَرُّوا بِهِ قَبْلَهُمْ، أَلْوَانُهُمْ كَلَهَبِ النَّارِ، وَسَائِرُ خَلْقِهِمْ كَالثَّلْجِ الْأَبْيَضِ، أَصْوَاتُهُمْ عَالِيَةٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، لَا يُقَارِبُهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَصْوَاتِ الَّذِينَ مَرُّوا بِهِ قَبْلَهُمْ‏.‏ فَاصْطَكَّتْ رُكْبَتَاهُ، وَأَرْعَدَ قَلْبُهُ، وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ، فَقَالَ كَبِيرُ الْمَلَائِكَةِ وَرَأَسُهُمْ‏:‏ يَا ابْنَ عِمْرَانَ اصْبِرْ لِمَا سَأَلَتَ، فَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مَا رَأَيْتَ‏!‏ ثُمَّ أَمْرَ اللَّهُ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ‏:‏ أَنِ اهْبِطُوا فَاعْتَرِضُوا عَلَى مُوسَى ‏!‏ فَهَبَطُوا عَلَيْهِ سَبْعَةَ أَلْوَانٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ مُوسَى أَنْ يُتْبِعَهُمْ طَرَفُهُ، وَلَمْ يَرَ مِثْلَهُمْ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِثْلَ أَصْوَاتِهِمْ، وَامْتَلَأَ جَوْفُهُ خَوْفًا، وَاشْتَدَّ حُزْنُهُ وَكَثُرَ بُكَاؤُهُ، فَقَالَ لَهُ كَبِيرُ الْمَلَائِكَةِ وَرَأَسُهُمْ‏:‏ يَا ابْنَ عِمْرَانَ، مَكَانَكَ حَتَّى تَرَى مَا لَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ‏!‏ ثُمَّ أَمْرَ اللَّهُ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ السَّادِسَةِ‏:‏ أَنِ اهْبِطُوا عَلَى عَبْدِي الَّذِي طَلَبَ أَنْ يَرَانِي مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَاعْتَرِضُوا عَلَيْهِ‏!‏ فَهَبَطُوا عَلَيْهِ فِي يَدِ كُلِّ مَلِكٍ مِثْلُ النَّخْلَةِ الطَّوِيلَةِ نَارًا أَشَدُّ ضَوْءًا مِنَ الشَّمْسِ، وَلِبَاسُهُمْ كَلَهَبِ النَّارِ، إِذَا سَبَحُوا وَقَدَّسُوا جَاوَبَهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاوَاتِ كُلِّهِمْ، يَقُولُونَ بِشِدَّةِ أَصْوَاتِهِمْ‏:‏ ‏"‏سَبُوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْعِزَّةِ أَبَدًا لَا يَمُوتُ‏"‏ فِي رَأْسِ كُلِّ مَلِكٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ مُوسَى رَفْعَ صَوْتَهُ يُسَبِّحُ مَعَهُمْ حِينَ سَبَحُوا، وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ‏:‏ ‏"‏رَبِّ اذْكُرْنِي، وَلَا تِنِسَ عَبْدَكَ، لَا أَدْرِي أَأَنْفَلِتُ مِمَّا أَنَا فِيهِ أَمْ لَا إِنْ خَرَجَتُ أُحْرِقِتُ، وَإِنْ مَكَثَتُ مُتُّ‏"‏‏!‏ فَقَالَ لَهُ كَبِيرُ الْمَلَائِكَةِ وَرَئِيسُهُمْ قَدْ أَوْشَكَتَ يَا ابْنَ عِمْرَانَ أَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُكَ، وَيَنْخَلِعَ قَلْبُكَ، وَيَشْتَدُّ بُكَاؤُكَ، فَاصْبِرْ لِلَّذِي جَلَسَتْ لِتَنْظُرَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ عِمْرَانَ ‏!‏ وَكَانَ جَبَلُ مُوسَى جَبَلًا عَظِيمًا، فَأَمْرَ اللَّهُ أَنْ يُحْمَلَ عَرْشُهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ مَرُّوا بِي عَلَى عَبْدِي لِيَرَانِي، فَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مَا رَأَى‏!‏ فَانْفَرَجَ الْجَبَلُ مِنْ عَظَمَةِ الرَّبِّ، وَغَشَّي ضَوْءُ عَرْشِ الرَّحْمَنِ جَبَلَ مُوسَى، وَرَفَعَتْ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ أَصْوَاتَهَا جَمِيعًا، فَارْتَجَّ الْجَبَلُ فَانْدَكَّ، وَكُلُّ شَجَرَةٍ كَانَتْ فِيهِ، وَخَرَّ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ صَعْقًا عَلَى وَجْهِهِ، لَيْسَ مَعَهُ رَوْحُهُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْحَيَاةَ بِرَحْمَتِهِ، فَتَغْشَاهُ بِرَحْمَتِهِ وَقَلْبَ الْحَجَرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَجَعْلَهُ كَالْمَعِدَةِ كَهَيْئَةِ الْقُبَّةِ، لِئَلَّا يَحْتَرِقَ مُوسَى، فَأَقَامَهُ الرُّوحُ، مِثْلَ الْأُمِّ أَقَامَتْ جَنِينَهَا حِينَ يُصْرَعُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَقَامَ مُوسَى يُسَبِّحُ اللَّهَ وَيَقُولُ‏:‏ آمَنَتُ أَنَّكَ رَبِّي، وَصَدَّقْتُ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فَيَحْيَا، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى مَلَائِكَتِكَ انْخَلَعَ قَلْبُهُ، فَمَا أَعْظَمَكَ رَبِّ، وَأَعْظَمَ مَلَائِكَتَكَ، أَنْتَ رَبُّ الْأَرْبَابِ وَإِلَهُ الْآلِهَةِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ، تَأْمُرُ الْجُنُودَ الَّذِينَ عِنْدَكَ فَيُطِيعُونَكَ وَتَأْمُرُ السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا فَتُطِيعُكَ، لَا تَسْتَنْكِفُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَعْدِلُكُ شَيْءٌ وَلَا يَقُومُ لَكَ شَيْءٌ، رَبِّ تُبْتُ إِلَيْكَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، مَا أَعْظَمَكَ وَأَجَلَّكَ رَبَ الْعَالَمِينَ‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَلَمَّا اطَّلَعَ الرَّبُّ لِلْجَبَلِ، جَعَلَ اللَّهُ الْجَبَلَ دَكًّا، أَيْ‏:‏ مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ ‏{‏وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏، أَيْ‏:‏ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْعَنْقَزِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏، قَالَ‏:‏ مَا تَجَلَّى مِنْهُ إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ ‏(‏جَعَلَهُ دَكًّا، قَالَ‏:‏ تُرَابًا ‏{‏وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏، قَالَ‏:‏ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ قَالَ‏:‏ زَعَمَ السُّدِّيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ تَجَلَّى مِنْهُ مِثْلَ الْخِنْصَرِ، فَجَعَلَ الْجَبَلَ دَكَّا، وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، فَلَمْ يَزَلْ صَعِقًا مَا شَاءَ اللَّهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏، قَالَ‏:‏ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏، قَالَ انْقَعَرَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ‏{‏وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏، أَيْ‏:‏ مَيِّتً‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏، أَيْ‏:‏ مَيِّتًا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏دَكًّا‏)‏، قَالَ‏:‏ دَكَّ بَعْضُهُ بَعْضًا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا سُوِيدٌ قَالَ، أَخْبَرْنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏، قَالَ‏:‏ سَاخَ الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى وَقْعَ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ يَذْهَبُ مَعَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏، انْقَعَرَ فَدَخَلَ تَحْتَ الْأَرْضِ، فَلَا يَظْهَرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُهَيْلٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ عِيسَى قَالَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏"‏«لِمَا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أَشَارَ بِإِصْبُعِهِ فَجَعَلَهُ دَكًّا»‏"‏ وَأَرَانَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ بِإِصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ‏:‏ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏، قَالَ هَكَذَا بِإِصْبَعِهِ، وَوَضْعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِبْهَامَ عَلَى الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ فَسَاخَ الْجَبَلُ‏"‏‏.‏»

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ‏:‏ «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏، قَالَ‏:‏ وَضَعَ الْإِبْهَامُ قَرِيبًا مِنْ طَرَفِ خِنْصَرِهِ، قَالَ‏:‏ فَسَاخَ الْجَبَلُ فَقَالَ حَمِيدٌ لِثَابِتٍ‏:‏ تَقُولُ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَرَفَعَ ثَابِتٌ يَدَهُ فَضَرَبَ صَدَرَ حُمَيْدٍ، وَقَالَ‏:‏ يَقُولُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُهُ أَنَسٌ، وَأَنَا أَكْتُمُه»‏!‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَبَلَ حِينَ كُشِفَ الْغِطَاءُ وَرَأَى النُّورَ، صَارَ مِثْلَ دَكٍّ مِنَ الدَّكَّاتِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَرْثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ‏}‏، فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْكَ وَأَشَدُّ خَلْقًا ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ‏}‏، فَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ لَا يَتَمَالَكُ، وَأَقْبَلَ الْجَبَلُ يَنْدَكُّ عَلَى أَوَّلِهِ‏.‏ فَلَمَّا رَأَى مُوسَى مَا يَصْنَعُ الْجَبَلُ، خَرَّ صَعِقً‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏دَكًّا‏)‏‏.‏ فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ‏:‏ ‏(‏دَكًّا‏)‏، مَقْصُورًا بِالتَّنْوِينِ بِمَعْنَى‏:‏ ‏"‏دَكَّ اللَّهُ الْجَبَلَ دَكًّا‏"‏ أَيْ‏:‏ فَتَّتَهُ، وَاعْتِبَارًا بِقَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْفَجْرِ‏:‏ 21‏]‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْحَاقَّةِ‏:‏ 14‏]‏ وَاسْتَشْهَدَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ حَمِيدٍ‏:‏

يَـدُكُّ أَرْكَـانَ الجِبَـالِ هَزَمُـهْ *** تَخْـطُرِ بِـالبِيضِ الرِّقَـاقِ بُهَمُـهْ

وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏"‏جَعَلَهُ دَكَّاءَ‏"‏، بِالْمَدِّ وَتَرْكِ الْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ، مِثْلَ

‏"‏حَمْرَاءَ‏"‏ و‏"‏سَوْدَاءَ‏"‏‏.‏ وَكَانَ مِمَّنْ يَقْرَؤُهُ كَذَلِكَ، عِكْرِمَةُ، وَيَقُولُ فِيهِ مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ‏:‏ ‏"‏دَكَّاءَ مِنَ الدَّكَّاوَاتِ‏"‏‏.‏ وَقَالَ‏:‏ لِمَا نَظَّرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى الْجَبَلِ صَارَ صَحْرَاءَ تُرَابًا‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَاهُ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ الْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ ‏"‏نَاقَةٌ دَكَّاءُ‏"‏، لَيْسَ لَهَا سَنَامٌ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏"‏الْجَبَلُ‏"‏ مُذَكَّرٌ، فَلَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَعَلَهُ‏:‏ ‏"‏مُثُلَ دَكَّاءَ‏"‏، حَذَفَ ‏"‏مِثْلَ‏"‏، وَأَجْرَاهُ مَجْرَى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ يُوسُفَ‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ جُعِلَ الْجَبَلُ أَرْضًا دَكَّاءَ، ثُمَّ حُذِفَتْ ‏"‏الْأَرْضُ‏"‏، وَأُقِيمَتِ ‏"‏الدَّكَّاءُ‏"‏ مَقَامَهَا، إِذْ أَدَّتْ عَنْهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏جَعَلَهُ دَكَّاءَ‏}‏، بِالْمَدِّ وَتَرْكِ الْجَرِّ، لِدَلَالَةِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِحَّتِهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏فَسَاخَ الْجَبَلُ‏"‏، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏فَتَفَتَّتَ‏"‏ وَلَا ‏"‏تَحَوَّلُ تُرَابًا‏"‏‏.‏ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إِذَا سَاخَ فَذَهَبَ، ظَهَرَ وَجْهُ الْأَرْضِ، فَصَارَ بِمَنـْزِلَةِ النَّاقَةِ الَّتِي قَدْ ذَهَبَ سَنَامُهَا، وَصَارَتْ دَكَّاءَ بِلَا سَنَامٍ‏.‏ وَأَمَّا إِذَا دَكَّ بَعْضُهُ، فَإِنَّمَا يَكْسِرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيَتَفَتَّتُ وَلَا يَسُوخُ‏.‏ وَأَمَّا ‏"‏الدَّكَّاءُ‏"‏ فَإِنَّهَا خَلَفٌ مِنَ ‏"‏الْأَرْضِ‏"‏، فَلِذَلِكَ أُنِّثَتْ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْتُ‏.‏

فَمَعْنَى الْكَلَامِ إذًا‏:‏ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ سَاخَ، فَجُعِلَ مَكَانُهُ أَرْضًا دَكَّاءَ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ‏"‏الصَّعْقِ‏"‏ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَلَمَّا ثَابَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهْمُهُ مَنْ غَشْيَتِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِفَاقَةُ مِنَ الصَّعْقَةِ الَّتِي خَرَّ لَهَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏ قَالَ سُبْحَانَكَ‏"‏، تَنـْزِيهًا لَكَ، يَا رَبِّ، وَتَبْرِئَةً أَنْ يَرَاكَ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَعِيشُ ‏"‏تُبْتُ إِلَيْكَ‏"‏، مِنْ مَسْأَلَتِي إِيَّاكَ مَا سَأَلْتُكَ مِنَ الرُّؤْيَةِ ‏"‏ ‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، بِكَ مِنْ قَوْمِي، أَنْ لَا يَرَاكَ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ إِلَّا هَلَكَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ كَانَ قَبْلَهُ مُؤْمِنُونَ، وَلَكِنْ يَقُولُ‏:‏ أَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِأَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ‏:‏ لِمَا رَأَى مُوسَى ذَلِكَ وَأَفَاقَ، عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ سَأَلَ أَمْرًا لَا يَنْبَغِي لَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ‏:‏ عَنَى‏:‏ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ أَنَّهُ لَنْ يَرَاكَ أَحَدٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، قَالَ سُفْيَانُ، قَالَ أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏ ‏"‏، فَمَرَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَقَدْ صَعِقَ، فَقَالَتْ‏:‏ يَا ابْنَ النِّسَاءِ الْحُيَّضِ، لَقَدْ سَأَلَتَ رَبَّكَ أَمْرًا عَظِيمًا‏!‏ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ‏:‏ سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ تَبُتُّ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏!‏ قَالَ‏:‏ أَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِكَ يَعْنِي‏:‏ فِي الدُّنْيَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْمِنُ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ مِنْ مَسْأَلَتِي الرُّؤْيَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ ‏"‏، أَنْ أَسْأَلَكَ الرُّؤْيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ ‏"‏، أَنْ أَسْأَلَكَ الرُّؤْيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرْنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ أَسْأَلَكَ الرُّؤْيَةَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرٍو بْنِ مُحَمَّدِ الْعَنْقَزِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، أَنَا أَوَّلُ قَوْمِي إِيمَانًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَالْمُثَنَّى قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ أَوَّلُ قَوْمِي إِيمَانًا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَنَا أَوَّلُ قَوْمِي إِيمَانًا‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ قَالَ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَوَّلُ قَوْمِي آمَنَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏، عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُؤْمِنُونَ وَأَنْبِيَاءَ، مِنْهُمْ وَلَدُ إِسْرَائِيلَ لِصُلْبِهِ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ وَأَنْبِيَاءَ‏.‏ فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي قُلْنَاهُ قَبْلُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِيٍّ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ اخْتَرْتُكَ عَلَى النَّاسِ ‏"‏بِرِسَالَاتِي‏"‏ إِلَى خَلْقِي، أَرْسَلَتُكَ بِهَا إِلَيْهِمْ ‏"‏وَبِكَلَامِي‏"‏، كَلَّمْتُكَ وَنَاجَيْتُكَ دُونَ غَيْرِكَ مِنْ خَلْقِي‏.‏ ‏"‏ ‏{‏فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ‏}‏ ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ فَخُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ مِنْ أَمْرِي وَنَهْيِي وَتَمَسَّكْ بِهِ، وَاعْمَلْ بِهِ ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ ‏"‏ ‏{‏وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏"‏، لِلَّهِ عَلَى مَا آتَاكَ مِنْ رِسَالَتِهِ، وَخَصَّكَ بِهِ مِنَ النَّجْوَى، بِطَاعَتِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى رِضَاهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِ شَيْءٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَكَتَبْنَا لِمُوسَى فِي أَلْوَاحِهِ‏.‏

وَأُدْخِلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي ‏"‏الْأَلْوَاحِ‏"‏ بَدَلًا مِنَ الْإِضَافَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ ***

وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى‏}‏، ‏[‏سُورَةُ النَّازِعَاتِ‏:‏ 41‏]‏، يَعْنِي‏:‏ هِيَ مَأْوَاهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ وَعِزِّ سُلْطَانِهِ ‏"‏مَوْعِظَةً‏"‏، لِقَوْمِهِ وَمِنْ أَمْرٍ بِالْعَمَلِ بِمَا كُتِبَ فِي الْأَلْوَاحِ ‏"‏ ‏{‏وَتَفْصِيلًا لِكُلِ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَتَبْيِينًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ فِي أَصْلِ كِتَابِي‏:‏ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَتَفْصِيلًا لِكُلِ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوْا عَنْهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏، مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ قَالَ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَتَفْصِيلًا لِكُلِ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوْا عَنْهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ عَطِيَّةُ‏:‏ أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَلَتَ لَمَّا كَرَبَهُ الْمَوْتُ، قَالَ‏:‏ هَذَا مِنْ أَجْلِ آدَمَ ‏!‏ قَدْ كَانَ اللَّهُ جَعَلَنَا فِي دَارِ مَثْوًى لَا نَمُوتُ، فَخَطَأَ آدَمُ أَنَـزَلَنَا هَاهُنَا‏!‏ فَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى‏:‏ أَبْعَثُ إِلَيْكَ آدَمَ فَتُخَاصِمُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمَ‏!‏ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ آدَمَ، سَأَلَهُ مُوسَى، فَقَالَ أَبُونَا آدَمُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ‏:‏ يَا مُوسَى، سَأَلَتَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَنِي لَكَ‏!‏ قَالَ مُوسَى‏:‏ لَوْلَا أَنْتَ لَمْ نَكُنْ هَاهُنَا‏!‏ قَالَ لَهُ آدَمُ‏:‏ أَلَيْسَ قَدْ أَتَاكَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا أَفْلَسَتْ تَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَصَابَ فِي الْأَرْضِ مِنْ مُصِيبَةٍ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْرَأَهَا‏؟‏ قَالَ مُوسَى‏:‏ بَلَى‏!‏ فَخَصَمَهُ آدَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مَعْقِلٍ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ كَتَبَ لَهُ‏:‏ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ خَلْقِي‏.‏ لَا تَحْلِفْ بِاسْمِي كَاذِبًا، فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِاسْمِي كَاذِبًا فَلَا أُزَكِّيهُ، وَوَقِّرْ وَالِدَيْكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَقُلْنَا لِمُوسَى إِذْ كَتَبَنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ‏:‏ خُذِ الْأَلْوَاحَ بِقُوَّةٍ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْخَبَرَ عَنِ ‏"‏الْأَلْوَاحِ‏"‏، وَالْمُرَادُ مَا فِيهَا‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ‏"‏الْقُوَّةِ‏"‏، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهَا بِجِدٍّ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ، قَالَ أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ بِجِدٍّ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ، فَخُذْهَا بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، أَخْبَرْنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ بِالطَّاعَةِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ، وَاخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ، فِي ‏"‏سُورَةِ الْبَقَرَةِ‏"‏ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 63‏]‏ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قُلْنَا لِمُوسَى‏:‏ ‏"‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ‏"‏، بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏"‏ ‏{‏يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ يَعْمَلُوا بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُونَ فِيهَا، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا‏}‏ ‏"‏، بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُونَ فِيهَا‏.‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَشَدِّ مِمَّا أَمَرَ بِهِ قَوْمَهُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا‏}‏ ‏"‏، أَكَانَ مِنْ خِصَالِهِمْ تَرْكُ بَعْضِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَسَنِ‏؟‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ لَا وَلَكِنْ كَانَ فِيهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ، فَأَمَرَهُمُ للَّهُ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا أَمَرَهُمْ بِعَمَلِهِ، وَيَتْرُكُوا مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، فَالْعَمَلُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، أَحْسَنُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمُوسَى، إِذْ كَتَبَ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏:‏ خُذْهَا بِجِدٍّ فِي الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا وَاجْتِهَادٍ، وَأُمُرْ قَوْمِكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِ مَا فِيهَا، وَانْهَهُمْ عَنْ تَضْيِيعِهَا وَتَضْيِيعِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا وَالشِّرْكِ بِي، فَإِنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِي مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنِّي سَأُرِيهِ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ مَصِيرِهِ إِلَيَّ، ‏"‏دَارَ الْفَاسِقِينَ‏"‏، وَهِيَ نَارُ اللَّهِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِأَعْدَائِهِ‏.‏

وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏"‏، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ‏:‏ ‏"‏سَأُرِيكَ غَدًا إِلَامَ يَصِيرُ إِلَيْهِ حَالُ مَنْ خَالَفَ أَمْرِي‏!‏‏"‏، عَلَى وَجْهِ التَّهَدُّدِ وَالْوَعِيدِ لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ مَصِيرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مَثَلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ، حَدَّثَنَا مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ جَهَنَّمُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ سَأُدْخِلُكُمْ أَرْضَ الشَّامِ، فَأُرِيكُمْ مَنَازِلَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُهَا مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَالْعَمَالِقَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏"‏، مَنَازِلَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ مَنَازِلَهُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ سَأُرِيكُمْ دَارَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَهِيَ مِصْرُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي قَبِلَ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏"‏، أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ‏.‏ فَأَوْلَى الْأُمُورِ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْتِمَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَنْ ضَيَّعَهُ وَفَرَّطَ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَحَادَ عَنْ سَبِيلِهِ، دُونَ الْخَبَرِ عَمَّا قَدِ انْقَطَعَ الْخَبَرُ عَنْهُ، أَوْ عَمَّا لَمَّ يَجْرِ لَهُ ذَكَرٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ سأنـزعُ عَنْهُمْ فَهْمَ الْكِتَابِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏ ‏"‏، قَالَ يَقُولُ‏:‏ أَنْـزِعُ عَنْهُمْ فَهْمَ الْقُرْآنِ، وَأَصْرِفُهُمْ عَنْ آيَاتِي‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَعِيدًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ مِمَّنْ بَعَثَ إِلَيْهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ قَوْمِ مُوسَى، لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ، مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ سَأَصْرِفُهُمْ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِالْحُجَجِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ‏}‏ ‏"‏، عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْآيَاتِ فِيهَا، سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِيهَا وَيَعْتَبِرُوا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَصْرِفُ عَنْ آيَاتِهِ، وَهِيَ أَدِلَّتُهُ وَأَعْلَامُهُ عَلَى حَقِيقَةِ مَا أَمَرَّ بِهِ عِبَادَهُ وَفَرْضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ فِي تَوْحِيدِهِ وَعَدْلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِهِ‏.‏ وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَمِنْ آيَاتِهِ، وَالْقُرْآنُ أَيْضًا مِنْ آيَاتِهِ، وَقَدْ عَمَّ بِالْخَبَرِ أَنَّهُ يَصْرِفُ عَنْ آيَاتِهِ الْمُتَكَبِّرِينَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَهُمُ لَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَهُمْ عَنْ فَهْمِ جَمِيعِ آيَاتِهِ وَالِاعْتِبَارِ وَالِادِّكَارِ بِهَا مَصْرُوفُونَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ وُفِّقُوا لَفَهِمَ بَعْضِ ذَلِكَ فَهُدُّوا لِلِاعْتِبَارِ بِهِ، اتَّعَظُوا وَأَنَابُوا إِلَى الْحَقِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ كَائِنٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا كُلُّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا‏}‏، فَلَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِنْ يَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ‏"‏وَتَكْبُرُهُمْ فِيهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ‏"‏، تَجَبُّرُهُمْ فِيهَا، وَاسْتِكْبَارُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْإِذْعَانِ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُمْ لِلَّهِ عَبِيدٌ يَغْذُوهُمْ بِنِعْمَتِهِ، وَيُرِيحُ عَلَيْهِمْ رِزْقَهُ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، ‏"‏كُلَّ آيَةٍ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ كُلُّ حُجَّةٍ لِلَّهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَكُلُّ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ خَالِصَةً دُونَ غَيْرِهِ‏.‏ ‏"‏لَا يُؤْمِنُوا بِهَا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لَا يُصَدِّقُوا بِتِلْكَ الْآيَةِ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى مَا هِيَ فِيهِ حُجَّةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏هِيَ سِحْرٌ وَكَذِبٌ‏"‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَإِنْ يَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ طَرِيقَ الْهُدَى وَالسَّدَادِ الَّذِي إِنْ سَلَكُوهُ نَجَوَا مِنَ الْهَلَكَةِ وَالْعَطَبِ، وَصَارُوا إِلَى نَعِيمِ الْأَبَدِ، لَا يَسْلُكُوهُ وَلَا يَتَّخِذُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ طَرِيقًا، جَهْلًا مِنْهُمْ وَحَيْرَةً ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَإِنْ يَرَوْا طَرِيقَ الْهَلَاكِ الَّذِي إِنْ سَلَكُوهُ ضَلُّوا وَهَلَكُوا‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ‏"‏الْغَيِّ‏"‏ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏ ‏"‏ ‏{‏يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ يَسْلُكُوهُ وَيَجْعَلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ طَرِيقًا، لَصَرْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، وَطَبْعِهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لَا يَفْلَحُونَ وَلَا يَنْجَحُونَ ‏"‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ صَرَفْنَاهُمْ عَنْ آيَاتِنَا أَنْ يَعْقِلُوهَا وَيَفْهَمُوهَا فَيَعْتَبِرُوا بِهَا وَيُذَكَّرُوا فَيُنِيبُوا، عُقُوبَةً مِنَّا لَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِنَا ‏"‏ ‏{‏وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَكَانُوا عَنْ آيَاتِنَا وَأَدِلَّتِنَا الشَّاهِدَةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ وَنَهَيْنَاهُمْ عَنْهُ ‏"‏غَافِلِينَ‏"‏، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا، لَاهِينَ عَنْهَا، لَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا، فَحَقَّ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ قَوْلُ رَبِّنَا فعَطِبوا‏.‏

وَاخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏الرُّشْدِ‏"‏‏.‏

فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ‏:‏ ‏(‏الرُّشْدِ‏)‏، بِضَمِّ ‏"‏الرَّاءِ‏"‏ وَتَسْكِينِ ‏"‏الشِّينِ‏"‏‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَبَعْضُ الْمَكِّيِّينَ‏:‏ ‏(‏الرَّشَدِ‏)‏، بِفَتْحِ ‏"‏الرَّاءِ‏"‏ و‏"‏الشِّينِ‏"‏‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا ضُمَّتْ رَاؤُهُ وَسَكَنَتْ شَيْنُهُ، وَفِيهِ إِذَا فَتَحَتَا جَمِيعًا‏.‏

فَذُكِرَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ مَعْنَاهُ إِذَا ضُمَّتْ رَاؤُهُ وَسَكَنَتْ شَيْنُهُ‏:‏ الصَّلَاحُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا‏}‏، ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 6‏]‏، بِمَعْنَى‏:‏ صَلَاحًا‏.‏ وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهُ هُوَ وَمَعْنَاهُ إِذَا فُتِحَتْ رَاؤُهُ وَشَّيْنُهُ‏:‏ الرُّشْدُ فِي الدِّينِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْكَهْفِ‏:‏ 66‏]‏، بِمَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ وَالصَّوَابِ فِي الدِّينِ‏.‏

وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَقُولُ‏:‏ هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلَ‏:‏ ‏"‏السُّقُمِ‏"‏ وَ ‏"‏السَّقَمِ‏"‏، وَ ‏"‏الحُزْنِ‏"‏ وَ ‏"‏الحَزَنِ‏"‏ وَكَذَلِكَ ‏"‏الرُّشْدُ‏"‏ وَ ‏"‏الرَّشَدِ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَةٌ الْقِرَاءَةِ بِهِمَا فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، مُتَّفِقَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ بِهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَهَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَكُلُّ مُكَذِّبٍ حُجَجَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَآيَاتِهِ، وَجَاحِدٍ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَبْعُوثٌ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَمُنْكِرٍ لِقَاءَ اللَّهِ فِي آخِرَتِهِ ذَهَبَتْ أَعْمَالُهُمْ فَبَطَلَتْ، وَحَصَلَتْ لَهُمْ أَوْزَارُهَا فَثَبَتَتْ، لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا لِغَيْرِ اللَّهِ، وَأَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي غَيْرِ مَا يَرْضَى اللَّهُ، فَصَارَتْ أَعْمَالُهُمْ عَلَيْهِمْ وَبَالًا‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ هَلْ يُثَابُونَ إِلَّا ثَوَابَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏؟‏ فَصَارَ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمُ لْخُلُودَ فِي نَارٍ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا، إِذْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، دُونَ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، نُعَوِّذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ‏"‏الْحُبُوطِ‏"‏ وَ ‏"‏الجَزَاءِ‏"‏ وَ ‏"‏الآخِرَةِ‏"‏، فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَاتَّخَذَ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَوْمُ مُوسَى، مِنْ بَعْدِ مَا فَارَقَهُمْ مُوسَى مَاضِيًا إِلَى رَبِّهِ لِمُنَاجَاتِهِ، وَوَفَاءً لِلْوَعْدِ الَّذِي كَانَ رَبُّهُ وَعْدَهُ ‏"‏ ‏{‏مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا‏}‏ ‏"‏، وَهُوَ وَلَدُ الْبَقَرَةِ، فَعَبَدُوهُ‏.‏ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَا ذَلِكَ الْعِجْلُ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ‏"‏ وَ ‏"‏الخُوَارُ‏"‏‏:‏ صَوَّتُ الْبَقَرِ يُخْبِرُ جَلَّ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ ضَلُّوا بِمَا لَا يَضِلُّ بِمِثْلِهِ أَهْلُ الْعَقْلِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبَّ جَلَّ جَلَالُهُ الَّذِي لَهُ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمُدَبِّرُ ذَلِكَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا وَلَا يُرْشِدُ إِلَى خَيْرٍ‏.‏ وَقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ قِصَصَهُمْ لِذَلِكَ‏:‏ ‏"‏هَذَا إِلَهُنَا وَإِلَهُ مُوسَى‏"‏، فَعَكَفُوا عَلَيْهِ يَعْبُدُونَهُ، جَهْلًا مِنْهُمْ، وَذَهَابًا عَنِ اللَّهِ وَضَلَالًا‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا سَبَبَ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَكَيْفَ كَانَ اتِّخَاذُ مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمُ الْعِجْلَ، فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَفِي ‏"‏الْحُلِيِّ‏"‏ لُغَتَانِ‏:‏ ضَمُّ ‏"‏الْحَاءِ‏"‏ وَهُوَ الْأَصْلُ وَكَسْرُهَا، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا شَاكَلَهُ مِنْ مِثْلِ ‏"‏صُلِيِّ‏"‏ وَ‏"‏جُثِيِّ‏"‏ وَ‏"‏عُتِيِّ‏"‏، وَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ، لِاسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِهِمَا فِي الْقَرَأَةِ، وَلِاتِّفَاقِ مَعْنَيَيْهِمَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ أَلَمْ يَرَ الَّذِينَ عَكَفُوا عَلَى الْعَجَلِ الَّذِي اتَّخَذُوهُ مِنْ حُلِيِّهِمْ يَعْبُدُونَهُ، أَنَّ الْعَجَلَ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا‏؟‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى طَرِيقٍ‏؟‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ رَبِّهِمُ لَّذِي لَهُ الْعِبَادَةُ حَقًا، بَلْ صِفَتُهُ أَنَّهُ يُكَلِّمُ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، وَيُرْشِدُ خَلْقَهُ إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ سَبِيلِ الْمَهَالِكِ وَالرَّدَى‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏اتَّخَذُوهُ‏"‏، أَيْ‏:‏ اتَّخَذُوا الْعَجَلَ إِلَهًا، وَكَانُوا بِاتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُ رَبًّا مَعْبُودًا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، لِعِبَادَتِهِمْ غَيْرَ مَنْ لَهُ الْعِبَادَةُ، وَإِضَافَتِهِمُ لْأُلُوهَةَ إِلَى غَيْرِ الَّذِي لَهُ الْأُلُوهَةُ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ‏"‏الظُّلْمِ‏"‏ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏"‏،‏:‏ وَلَمَّا نَدِمَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُ، عِنْدَ رُجُوعِ مُوسَى إِلَيْهِمْ، وَاسْتَسْلَمُوا لِمُوسَى وَحُكْمِهِ فِيهِمْ‏.‏

وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ نَادِمٍ عَلَى أَمْرٍ فَاتَ مِنْهُ أَوْ سَلَفَ، وَعَاجِزٍ عَنْ شَيْءٍ‏:‏ ‏"‏قَدْ سُقِطَ فِي يَدَيْهِ‏"‏ و‏"‏أَسْقَطَ‏"‏، لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الِاسْتِئْسَارِ، وَذَلِكَ أَنْ يَضْرِبَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَوْ يَصْرَعَهُ، فَيَرْمِيَ بِهِ مِنْ يَدَيْهِ إِلَى الْأَرْضِ لِيَأْسِرَهُ، فَيُكَتِّفُهُ‏.‏ فَالْمَرْمِيُّ بِهِ مَسْقُوطٌ فِي يَدَيِ السَّاقِطِ بِهِ‏.‏ فَقِيلَ لِكُلِّ عَاجِزٍ عَنْ شَيْءٍ، وَضَارِعٍ لِعَجْزِهِ، مُتَنَدِّمٍ عَلَى مَا قَالَهُ‏:‏ ‏"‏سَقَطَ فِي يَدَيْهِ‏"‏ و‏"‏أَسْقَطَ‏"‏‏.‏

وَعَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا‏}‏ ‏"‏، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ جَارُوا عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَذَهَبُوا عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَكَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، قَالُوا تَائِبِينَ إِلَى اللَّهِ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ بِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قَرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَهُ بَعْضُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ‏:‏ ‏{‏لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا‏}‏ بِالرَّفْعِ، عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏(‏لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا‏)‏، بِالنَّصْبِ، بِتَأْوِيلِ‏:‏ لَئِنْ لَمَّ تَرْحَمْنَا يَا رَبَّنَا عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ مِنْهُمْ لِرَبِّهِمْ‏.‏ وَاعْتَلَّ قَارِئُو ذَلِكَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ‏:‏ ‏(‏قَالُوا رَبَّنَا لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا وَتَغْفِرْ لَنَا‏)‏، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْخِطَابِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ، الْقِرَاءَةُ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ بِالْيَاءِ فِي ‏(‏يَرْحَمْنَا‏)‏، وَبِالرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏رَبُّنَا‏)‏، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذَلِكَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى الْخِطَابِ‏.‏

وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي حَكَيْتُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قِرَاءَتِهَا‏:‏ ‏(‏قَالُوا رَبَّنَا لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا‏)‏، لَا نَعْرِفُ صِحَّتَهَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ إِلَيْهِ‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا‏}‏‏:‏ لَئِنْ لَمَّ يَتَعَطَّفْ عَلَيْنَا رَبُّنَا بِالتَّوْبَةِ بِرَحْمَتِهِ، وَيَتَغَمَّدْ بِهَا ذُنُوبَنَا، لِنَكُونَنَّ مِنَ الْهَالِكِينَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلِمَا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، رَجَعَ غَضْبَانَ أَسِفًا، لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ فَتَنَ قَوْمَهُ، وَأَنِ السَّامِرِيَّ قَدْ أَضَلَّهُمْ، فَكَانَ رُجُوعُهُ غَضْبَانَ أَسَفًا لِذَلِكَ‏.‏

و‏"‏الْأَسَفُ‏"‏ شِدَّةُ الْغَضَبِ، وَالتَّغَيُّظُ بِهِ عَلَى مَنْ أَغْضَبَهُ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بِكَارٍ الْكَلَاعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي شُرَيْحُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ، سَمِعْتُ نَصْرَ بْنَ عَلْقَمَةَ يَقُولُ‏:‏ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ‏:‏ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏غَضْبَانَ أَسِفًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏الْأَسَفُ‏"‏، مَنـْزِلَةٌ وَرَاءَ الْغَضَبِ، أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ‏:‏ ذَهَبَ إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ، وَذَهَبَ أَسِفً‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏أَسَفًا‏"‏، قَالَ‏:‏ حَزِينًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ ‏"‏أَسِفًا‏"‏، ‏"‏حَزِينًا‏"‏، وَقَالَ فِي ‏"‏الزُّخْرُفِ‏"‏‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا آسَفُونَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الزُّخْرُفِ‏:‏ 55‏]‏، يَقُولُ‏:‏ أَغْضَبُونَا و‏"‏الْأَسَفُ‏"‏، عَلَى وَجْهَيْنِ‏:‏ الْغَضَبُ، وَالْحُزْنُ‏.‏

حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ، سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ غَضْبَانَ حَزِينًا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ بِئْسَ الْفِعْلُ فَعَلْتُمْ بَعْدَ فِرَاقِي إِيَّاكُمْ وَأَوْلَيْتُمُونِي فِيمَنْ خَلَّفَتُ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي فِيكُمْ، وَدِينِي الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏خَلَفَهُ بِخَيْرٍ‏"‏، و‏"‏خَلَفَهُ بَشَرٍ‏"‏، إِذَا أَوْلَاهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ قَوْمِهِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ بَعْدِ شُخُوصِهِ عَنْهُمْ، خَيْرًا أَوْ شَرًّا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ أَسَبَقْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ فِي نُفُوسِكُمْ، وَذَهَبْتُمْ عَنْهُ‏؟‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏عَجَلَ فَلَانُ هَذَا الْأَمْرَ‏"‏، إِذَا سَبَقَهُ و‏"‏عَجَّلَ فُلَانٌ فُلَانًا‏"‏، إِذَا سَبَقَهُ ‏"‏وَلَا تَعْجَلْنِي يَا فُلَانُ‏"‏، لَا تَذْهَبُ عَنِّي وَتَدَعُنِي وَ‏"‏أَعَجَلْتُهُ‏"‏‏:‏ اسْتَحْثَثْتُهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَأَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَبَبِ إِلْقَائِهِ إِيَّاهَا‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَلْقَاهَا غَضَبًا عَلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ قَالَ، أَخْبَرْنَا يَزِيدُ قَالَ، أَخْبَرْنَا الْأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لِمَا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا، فَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنَ الْغَضَبِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ، قَالَ أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ لِمَا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، سَمِعَ أَصْوَاتَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّي لِأَسْمَعُ أَصْوَاتَ قَوْمٍ لَاهِينَ‏:‏ فَلَمَّا عَايَنَهُمْ وَقَدْ عَكَفُوا عَلَى الْعَجَلِ، أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فَكَسَرَهَا، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ أَخَذَ مُوسَى الْأَلْوَاحَ، ثُمَّ رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا‏}‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏[‏سُورَةُ طه‏:‏ 87‏]‏، فَأَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ‏{‏قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي‏}‏ ‏[‏سُورَةُ طه‏:‏ 94‏]‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ لِمَا انْتَهَى مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ فَرَأَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، أَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ وَلِحْيَتِهِ، وَيَقُولُ‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي‏}‏ ‏[‏سُورَةُ طه‏:‏ 92، ‏]‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنَّمَا أَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ لِفَضَائِلَ أَصَابَهَا فِيهَا لِغَيْرِ قَوْمِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَخَذَ الْأَلْوَاحَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ رَبِّ، إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرَجِتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي‏!‏ قَالَ‏:‏ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْآخَرُونَ أَيْ آخَرُونَ فِي الْخَلْقِ السَّابِقُونَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي‏!‏ قَالَ‏:‏ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً، أَنَاجِيلَهُمْ فِي صُدُورِهِمْ يَقْرَأُونَهَا، وَكَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ نَظَرًا، حَتَّى إِذَا رَفَعُوهَا لَمْ يَحْفَظُوا شَيْئًا، وَلَمْ يَعْرِفُوهُ‏.‏ قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ وَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ مِنَ الْحِفْظِ شَيْئًا لَمْ يُعْطِهُ أَحَدًا مِنَ الْأُمَمِ قَالَ‏:‏ رَبِ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي‏!‏ قَالَ‏:‏ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً يُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَبِالْكِتَابِ الْآخَرِ، وَيُقَاتِلُونَ فُضُولَ الضَّلَالَةِ، حَتَّى يُقَاتِلُوا الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي‏!‏ قَالَ‏:‏ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً صَدَقَاتِهِمْ يَأْكُلُونَهَا فِي بُطُونِهِمْ، ثُمَّ يُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا وَكَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ إِذَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَقُبِلَتْ مِنْهُ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَِا نَارًا فَأَكْلَتْهَا، وَإِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ تُرِكَتْ تَأْكُلُهَا الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَإِنَّ اللَّهَ أَخَذَ صَدَقَاتِكُمْ مِنْ غَنِيِّكُمْ لِفَقِيرِكُمْ قَالَ‏:‏ رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي‏!‏ قَالَ‏:‏ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِحَسَنَةٍ ثُمَّ لَمَّ يَعْمَلُهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنَّ عَمَلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ، رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي‏!‏ قَالَ‏:‏ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا كَتَبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي‏!‏ قَالَ‏:‏ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْمُسْتَجِيبُونَ وَالْمُسْتَجَابُ لَهُمْ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي‏!‏ قَالَ‏:‏ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْمُشَفَّعُونَ وَالْمَشْفُوعُ لَهُمْ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي‏!‏ قَالَ‏:‏ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبَذَ الْأَلْوَاحَ وَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَأُعْطِيَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثِنْتَيْنِ لَمْ يُعْطَهُمَا نَبِيٌّ، قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 143‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَرَضِيَ نَبِيُّ اللَّهِ‏.‏ ثُمَّ أُعْطِي الثَّانِيَةَ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 159‏]‏، قَالَ‏:‏ فَرَضِيَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ الرِّضَى‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ لِمَا أَخَذَ مُوسَى الْأَلْوَاحَ قَالَ‏:‏ يَا رَبِّ، إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي‏!‏ قَالَ‏:‏ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ يَا رَبِّ، إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْآخَرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي‏!‏ قَالَ‏:‏ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْو حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ فَأَلْقَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَلْوَاحَ، وَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ سَبَبُ إِلْقَاءِ مُوسَى الْأَلْوَاحَ كَانَ مِنْ أَجْلِ غَضَبِهِ عَلَى قَوْمِهِ لِعِبَادَتِهِمُ لْعِجْلَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ لِمَا كَتَبَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَلْوَاحِ التَّوْرَاةَ، أَدْنَاهُ مِنْهُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي عِمَارَةَ، عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ‏:‏ كَتَبَ اللَّهُ الْأَلْوَاحَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ يَسْمَعُ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ فِي الْأَلْوَاحِ‏.‏

قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ‏:‏ أَدَنَّاهُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنِ التَّوْرَاةَ كَانَتْ سَبْعَةَ أَسْبَاعٍ، فَلَمَّا أَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ، فَرَفَعَ مِنْهَا سِتَّةَ أَسِبَاعِهَا، وَكَانَ فِيمَا رَفَعَ ‏"‏تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ‏"‏، الَّذِي قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِ شَيْءٍ‏}‏ ‏"‏ وَبَقِيَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ فِي السُّبْعِ الْبَاقِي، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 154‏]‏‏.‏

وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ فِيمَا ذَكَرَ سَبْعِينَ وِقْرَ بَعِيرٍ، يُقْرَأُ مِنْهَا الْجُزْءُ فِي سَنَةٍ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الْمَكْفُوفُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ‏:‏ أُنْـزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَهِيَ سَبْعُونَ وَقْرَ بَعِيرٍ، يُقْرَأُ مِنْهَا الْجُزْءُ فِي سَنَةٍ، لَمْ يَقْرَأْهَا إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ‏:‏ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، وَعِيسَى، وَعُزَيْرٌ، وَيُوشَعُ بْنُ نُونٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَاخْتَلَفُوا فِي ‏"‏الْأَلْوَاحِ‏"‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَتْ مِنْ زُمُرُّدٍ أَخْضَرَ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَتْ مِنْ يَاقُوتٍ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَتْ مِنْ بَرَدٍ‏.‏

ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ أَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ فَتَكَسَّرَتْ، فَرُفِعَتْ إِلَّا سُدُسَهَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ الْأَلْوَاحَ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَزُمُرُّدٍ مِنَ الْجَنَّةِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبُّويْهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ قَالُوا، أَخْبَرْنَا آدَمُ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ‏:‏ كَانَتِ أَلْوَاحُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَرَدٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ أَبِي الْجُنَيْدِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةَ قَالَ‏:‏ سَأَلَتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ الْأَلْوَاحِ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَتْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ كَانَتْ مِنْ يَاقُوتَةٍ، كِتَابَةِ الذَّهَبِ، كَتَبَهَا الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ، فَسَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَرِيفَ الْقَلَمِ وَهُوَ يَكْتُبُهَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ‏:‏ كَانَتِ الْأَلْوَاحُ زُمُرُّدًا، فَلَمَّا أَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ بَقِيَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ، وَذَهَبَ التَّفْصِيلُ‏.‏

قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ زُمُرُّدٍ أَخْضَرَ‏.‏

وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَنَّ الْأَلْوَاحَ كَانَتْ لَوْحَيْنِ‏.‏ فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ قِيلَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ‏}‏ ‏"‏، وَهُمَا لَوْحَانِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 11‏]‏، وَهُمَا أَخَوَانِ‏.‏ أَمَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ، لِمَوْجِدَتِهِ عَلَى أَخِيهِ هَارُونَ فِي تَرْكِهِ أَتْبَاعَهُ، وَإِقَامَتِهِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرَكَهُمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي‏}‏‏؟‏ ‏[‏سُورَةُ طه‏:‏ 92، ‏]‏، حِينَ أَخْبَرَهُ هَارُونُ بِعُذْرِهِ فَقَبِلَ عُذْرَهُ، وَذَلِكَ قِيلِهِ لِمُوسَى‏:‏ ‏{‏لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي‏}‏، ‏[‏سُورَةُ طه‏:‏ 94‏]‏، وَقَالَ يَا ابْنَ أُمَّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ‏}‏ ‏"‏، الْآيَةَ‏:‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ يَا ابْنَ أُمَّ ‏"‏‏.‏

فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ‏:‏ ‏(‏يَا ابْنَ أُمَّ‏)‏ بِفَتْح ‏"‏الْمِيم‏"‏ مِنَ ‏"‏الْأُمِّ‏"‏‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏(‏يَا ابْنَ أُمِّ‏)‏ بِكَسْرِ ‏"‏الْمِيمِ‏"‏ مِنَ الْأُمِّ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي فَتْحِ ذَلِكَ وَكَسْرِهِ، مَعَ إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَنَّهُمَا لُغَتَانِ مُسْتَعْمَلَتَانِ فِي الْعَرَبِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ قِيلَ ذَلِكَ بِالْفَتْحِ، عَلَى أَنَّهُمَا اسْمَانِ جُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏"‏يَا ابْنَ عَمَّ‏"‏، وَقَالَ‏:‏ هَذَا شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ‏:‏ ‏"‏ يَا ابْنَ أُمِّ ‏"‏، فَهُوَ عَلَى لُغَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏هَذَا غُلَامِ قَدْ جَاءَ‏؟‏ ‏"‏، جَعْلَهُ اسْمًا وَاحِدًا آخِرُهُ مَكْسُورٌ، مِثْلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏خَازِ بَازِ‏"‏‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ‏:‏ قِيلَ‏:‏ ‏"‏يَا ابْنَ أَم‏"‏ وَ‏"‏يَا ابْنَ عَمَّ‏"‏، فَنُصِبَّ كَمَا يُنْصَبُ الْمُعْرَبُ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، فَيُقَالُ‏:‏ ‏"‏يَا حَسْرَتَا‏"‏، ‏"‏يَا وَيَلَتَا‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ ‏"‏يَا أُمَّاهُ‏"‏، و‏"‏يَا عَمَّاهُ‏"‏، وَلَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي ‏"‏أَخٍ‏"‏، وَلَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَكَانَ صَوَابًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالَّذِينَ خَفَّضُوا ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ حَتَّى حَذَفُوا الْيَاءَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَحْذِفُ ‏"‏الْيَاءَ‏"‏ إِلَّا مِنَ الِاسْمِ الْمُنَادَى يُضِيفُهُ الْمُنَادِي إِلَى نَفْسِهِ، إِلَّا قَوْلَهُمْ‏:‏ ‏"‏يَا ابْنَ أُمِّ‏"‏ و‏"‏يَا ابْنَ عَمِّ‏"‏، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُمَا فِي كَلَامِهِمْ، فَإِذَا جَاءَ مَا لَا يُسْتَعْمَلُ أَثْبَتُوا ‏"‏الْيَاءَ‏"‏ فَقَالُوا‏:‏ ‏"‏يَا ابْنَ أَبِي‏"‏ و‏"‏يَا ابْنَ أُخْتِي، وَأَخِي‏"‏، و‏"‏يَا ابْنَ خَالَتِي‏"‏، و‏"‏يَا ابْنَ خَالِي‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِذَا فُتِحَتِ ‏"‏الْمِيمُ‏"‏ مِنِ ‏"‏ابْنِ أُمَّ‏"‏، فَمُرَادٌ بِهِ النُّدْبَةُ‏:‏ يَا ابْنَ أُمَّاهَ، وَكَذَلِكَ مِنِ ‏"‏ابْنِ عَمَّ‏"‏‏.‏ فَإِذَا كُسِرَتْ فَمُرَادٌ بِهِ الْإِضَافَةُ، ثُمَّ حُذِفَتِ ‏"‏الْيَاءُ‏"‏ الَّتِي هِيَ كِنَايَةُ اسْمِ الْمُخْبِرِ عَنْ نَفْسِهِ‏.‏ وَكَأَنَّ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ تَشْبِيهَ كَسْرِ ذَلِكَ إِذَا كَسَرَ كَكَسْرِ الزَّايِ مِنْ ‏"‏خَازِ بَازِ‏"‏، لِأَنَّ ‏"‏خَازِ بَازِ‏"‏ لَا يُعْرَفُ الثَّانِي إِلَّا بِالْأَوَّلِ، وَلَا الْأَوَّلُ إِلَّا بِالثَّانِي، فَصَارَ كَالْأَصْوَاتِ‏.‏

وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ الْجُرْمِيِّ تَأْنِيثُ ‏"‏أَمَّ‏"‏ وَتَأْنِيثُ ‏"‏عَمَّ‏"‏، وَقَالَ‏:‏ لَا يُجْعَلُ اسْمًا وَاحِدًا إِلَّا مَعَ ‏"‏ابْنَّ‏"‏ الْمُذَكَّرِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَأَمَّا اللُّغَةُ الْجَيِّدَةُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، فَلُغَةُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏يَا ابْنَ أُمِّي‏"‏ بِإِثْبَاتِ ‏"‏الْيَاءِ‏"‏، كَمَا قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ‏:‏

يَـا ابْـنَ أُمِّـي، وَيَـا شُـقَيِّقَ نَفْسِـي *** أَنْـتَ خَـلَّفْتَنِي لِدَهْـرٍ شَـدِيدٍ

وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ‏:‏

يَا ابْنَ أُمِّـي‏!‏ وَلَـوْ شَـهِدْتُكَ إِذْ تَدْ *** عُـو تَمِيمًـا وَأَنْـتَ غَـيْرُ مُجَـابِ

وَإِنَّمَا أَثْبَتُ هَؤُلَاءِ الْيَاءَ فِي ‏"‏الْأُمِّ‏"‏، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنَادَاةٍ، وَإِنَّمَا الْمُنَادَى هُوَ ‏"‏الِابْنُ‏"‏ دُونَهَا‏.‏ وَإِنَّمَا تُسْقِطُ الْعَرَبُ ‏"‏الْيَاءَ‏"‏ مِنَ الْمُنَادَى إِذَا أَضَافَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا، لَا إِذَا أَضَافَتْهُ إِلَى غَيْرِ نَفْسِهَا، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ هَارُونَ إِنَّمَا قَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏"‏يَا ابْنَ أُمَّ‏"‏، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏يَا ابْنَ أَبِي‏"‏، وَهَمَّا لِأَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ، اسْتِعْطَافًا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِرَحِمِ الْأُمِّ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي بِالْقَوْمِ، الَّذِينَ عَكَفُوا عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَقَالُوا‏:‏ ‏"‏هَذَا إِلَهُنَا وَإِلَهُ مُوسَى‏"‏، وَخَالَفُوا هَارُونَ‏.‏ وَكَانَ اسْتِضْعَافُهُمْ إِيَّاهُ‏:‏ تَرْكِهِمْ طَاعَتَهُ وَاتِّبَاعَ أَمْرِهُ ‏"‏ ‏{‏وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ قَارَبُوا وَلَمْ يَفْعَلُوا‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَلَا تُشْمِتْ‏"‏‏.‏

فَقَرَأَ قَرَأَةُ الْأَمْصَارِ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ‏}‏، بِضَمِّ ‏"‏التَّاءِ‏"‏ مَنْ ‏"‏تَشْمَتْ‏"‏ وَكَسْرِ ‏"‏الْمِيمِ‏"‏ مِنْهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏أَشْمَتَ فَلَانٌ فُلَانًا بِفُلَانٍ‏"‏، إِذَا سَرَّهُ فِيهِ بِمَا يَكْرَهُهُ الْمُشَمَّتُ بِهِ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏فَلَا تَشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءُ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ الْكَرِيمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، قَالَ حَمِيدُ بْنُ قَيْسٍ‏:‏ قَرَأَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏(‏فَلَا تَشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ قَرَأَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ‏}‏‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ الْفَرَّاءِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏لَا تَشْمِتْ‏)‏‏.‏

وَقَالَ الْفِرَاءُ‏:‏ قَالَ الْكِسَائِيُّ‏:‏ مَا أَدْرِي، فَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا‏:‏ فَلَا تَشْمِتُ بِيَ الْأَعْدَاءُ، فَإِنْ تَكُنْ صَحِيحَةً فَلَهَا نَظَائِرٌ‏.‏ الْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ ‏"‏فَرِغْتُ وَفَرَغَتْ‏"‏، فَمَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏فَرَغْتُ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏أَنَا أَفَرُغَ‏"‏، وَمَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏فَرِغْتُ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏أَنَا أَفْرَغُ‏"‏، وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏"‏رَكِنَتُ‏"‏ ‏"‏وَرَكَنَتُ‏"‏، و‏"‏شَمِلَهُمْ أَمْرٌ‏"‏ ‏"‏وَشَمَلَهُمْ‏"‏، فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏وَالْأَعْدَاءُ‏"‏ رُفِعَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَهُمْ، لِمَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏تَشْمَتُ‏"‏ أَوْ ‏"‏تُشْمِتُ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ إِلَّا بِهَا، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏فَلَا تُشْمِتْ‏}‏‏:‏ بِضَمِّ ‏"‏التَّاءِ‏"‏ الْأُولَى، وَكَسْرِ ‏"‏الْمِيمِ‏"‏ مِنْ‏:‏ ‏"‏أَشْمَتَ بِهِ عَدُّوَهُ أُشَمِّتُهُ بِهِ‏"‏، وَنَصْبِ ‏"‏الْأَعْدَاءِ‏"‏، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهَا، وَشُذُوذِ مَا خَالَفَهَا مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَاهِدًا عَلَى مَا خَالَفَهَا‏.‏ هَذَا مَعَ إِنْكَارِ مَعْرِفَةِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ‏:‏ ‏"‏شَمَتَ فَلَانٌ فُلَانًا بِفُلَانٍ‏"‏، و‏"‏شَمَتَ فَلَانٌ بِفُلَانٍ يَشْمِتُ بِهِ‏"‏، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِهِمْ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ شَمَاتَةِ الرَّجُلِ بِعَدُوِّهِ‏:‏ ‏"‏شَمِتَ بِهِ‏"‏ بِكَسْرِ ‏"‏الْمِيمِ‏"‏‏:‏ ‏"‏يَشْمَتُ بِهِ‏"‏، بِفَتْحِهَا فِي الِاسْتِقْبَالِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّهُ قَوْلُ هَارُونَ لِأَخِيهِ مُوسَى‏.‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تَجْعَلْنِي فِي مَوْجِدَتِكَ عَلَيَّ وَعُقُوبَتِكَ لِي وَلَمْ أُخَالِفْ أَمْرَكَ، مَحَلَّ مَنْ عَصَاكَ فَخَالَفَ أَمْرَكَ، وَعَبَدَ الْعِجْلَ بِعَدِّكَ، فَظَلَمَ نَفْسَهُ، وَعَبَدَ غَيْرَ مَنْ لَهُ الْعِبَادَةُ، وَلَمْ أَشَايَعْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏"‏،‏)‏ قَالَ‏:‏ أَصْحَابُ الْعِجْلِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِمَثَلِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَ مُوسَى، لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ عُذْرَ أَخِيهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْوَاجِبِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فِي ارْتِكَابِ مَا فَعَلَهُ الْجَهَلَةُ مِنْ عَبَدَةِ الْعِجْلِ‏:‏ ‏"‏رَبِّ اغْفِرْ لِي‏"‏، مُسْتَغْفِرًا مِنْ فِعْلِهِ بِأَخِيهِ، وَلِأَخِيهِ مِنْ سَالِفٍ سَلَفَ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ‏:‏ تَغَمَّدْ ذُنُوبَنَا بِسَتْرٍ مِنْكَ تَسْتُرُهَا بِهِ ‏"‏ ‏{‏وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَةِ عِبَادَكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ بِعِبَادِكَ مِنْ كُلِّ مَنْ رَحِمَ شَيْئًا‏.‏