فصل: تَفْسِيرُ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تَفْسِيرُ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا‏}‏ تَنْزِيهًا لِلَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ وَتَبْرِئَةً لَهُ مِمَّا يَقُولُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ شَرِيكًا‏:‏ وَأَنَّ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، وَعُلُوًّا لَهُ وَتَعْظِيمًا عَمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ، وَنَسَبُوهُ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ وَخَطَّأَ أَقْوَالَهُمْ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ سُبْحَانَ‏:‏ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمُصَدِّرِ، فَنُصِبَ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏ وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ‏:‏ نُصِبَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْصُوفٍ، وَلِلْعَرَبِ فِي التَّسْبِيحِ أَمَاكِنٌ تَسْتَعْمِلُهُ فِيهَا، فَمِنْهَا الصَّلَاةُ، كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ ‏{‏فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ‏}‏‏:‏ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُصَلِّينَ‏.‏ وَمِنْهَا الِاسْتِثْنَاءُ، كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ‏}‏‏:‏ لَوْلَا تُسْتَثْنَوْنَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَيَسْتَشْهِدُ لِصِحَّةِ تَأْوِيلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ‏{‏إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ‏}‏ ‏{‏قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ‏}‏ فَذَكَّرَهُمْ تَرَكَهُمُ الِاسْتِثْنَاءَ‏.‏ وَمِنْهَا النُّورُ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ فِي الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «“ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَحْرَقَتْ سَبَحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَتْ مِنْ شَيْءٍ “» أَنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ “ سَبَحَاتُ وَجْهِهِ “‏:‏ نُورَ وَجْهِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏}‏، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُوهِبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّسْبِيحِ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ “ إِنْزَاهُ اللَّهِ عَنِ السُّوء»‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ‏:‏ قَالَ‏:‏ إِنْكَافٌ لِلَّهِ‏.‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَبْلُ‏.‏ وَالْإِسْرَاءُ وَالسَّرَى‏:‏ سَيْرُ اللَّيْلِ‏.‏ فَمَنْ قَالَ‏:‏ أَسْرَى، قَالَ‏:‏ يُسْرِي إِسْرَاءً؛ وَمَنْ قَالَ‏:‏ سَرَى، قَالَ‏:‏ يَسْرِي سَرًى، كَمَا قَالَهُ الشَّاعِرُ‏:‏

ولَيْلَةٌ ذَاتَ دُجًى سَرَيْتُ *** ولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سِوَاهَا لَيْتُ

وَيُرْوَى‏:‏ ذَاتُ نَدًى سَرَّيْتُ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ‏(‏لَيْلًا‏)‏ مِنَ اللَّيْلِ‏.‏ وَكَذَلِكَ كَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ يَقْرَؤُهَا‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كريبٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ وَرَجُلٌ يُحَدِّثُ عِنْدَهُ بِحَدِيثٍ حِينَ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ‏:‏ لَا تَجِيءُ بِمِثْلِ عَاصِمٍ وَلَا زِرٍّ، قَالَ‏:‏ قَرَأَ حُذَيْفَةُ‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللَّيْلِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى‏}‏ وَكَذَا قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏{‏مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ فَإِنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ وَفِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ يَعْنِي مِنَ الْحَرَمِ، وَقَالَ‏:‏ الْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا‏.‏ وَقَالَ‏:‏ وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَانَ نَائِمًا فِي بَيْتِأُمِّ هَانِئٍ ابْنَةِ أَبِي طَالِبٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحِ بْنِ بَاذِامَ عَنْأُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، فِي مَسْرَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ‏:‏ مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ فِي بَيْتِي نَائِمٌ عِنْدِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ نَامَ وَنِمْنَا، فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ، أَهَبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ وَصْلَيْنَا مَعَهُ قَالَ‏:‏ «“ يَاأُمَّ هَانِئٍلَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ كَمَا رَأَيْتِ بِهَذَا الْوَادِي، ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ مَعَكُمُ الْآنَ كَمَا تَرَيْنَ “»‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ كَانَ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ‏:‏ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «بَيْنًا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ، فَأَتَيْتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرَحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا، قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ مَا يَعْنِي بِهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ؛ قَالَ‏:‏ فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ، ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، ثُمَّ أتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ “، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى‏:‏ “ بِدَابَّةٍ بَيْضَاءَ يُقَالُ لَهُ الْبُرَاقُ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَقَعُ خَطْوُهُ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ بِالنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ إِمَامًا، ثُمَّ عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا»‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَرْثِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكٍ، يَعْنِي ابْنَ صَعْصَعَةَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، قَالَ‏:‏ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ ثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «“ بَيْنًا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَعُدْتُ لِمَضْجَعِي، فَجَاءَنِي الثَّانِيَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَعُدْتُ لِمَضْجَعِي، فَجَاءَنِي الثَّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ، فَأَخَذَ بِعَضُدِي فَقُمْتُ مَعَهُ، فَخَرَجَ بِي إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بَيْنَ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ، لَهُ فِي فَخِذَيْهِ جَنَاحَانِ يَحْفِزُ بِهِمَا رِجْلَيْهِ، يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مَعِي، لَا يَفُوتُنِي وَلَا أفُوتُهُ “»‏.‏

حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ قَالَ‏:‏ «سَمِعْتُ أَنَسًا يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَةِ الْمَسْرَى بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ‏:‏ أَيَهُمُّ هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ‏:‏ خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى جَاءُوا لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبَهُ، وَالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَامُ عَيْنَاهُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ‏.‏ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ، وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ‏.‏ فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمٍ، فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَشَقَّ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مَنْ ذَهَبٍ فِيهِ نُورٌ مَحْشُوٌّ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَحَشَا بِهِ جَوْفَهُ وَصَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهَ ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ رَكِبَ الْبُرَاقَ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى فِيهِ بِالنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ إِمَامًا، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا جَبْرَائِيلُ، قِيلَ‏:‏ مَنْ مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، قِيلَ‏:‏ أَوَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالُوا‏:‏ فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ، لَا يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللَّهَ بِأَهْلِ الْأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ، فَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ‏:‏ هَذَا أَبُوكَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ مَرْحَبًا بِكَ وَأَهْلًا يَا بُنَيَّ، فَنِعَمَ الِابْنُ أَنْتِ، ثُمَّ مَضَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَقِيلَ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ جَبْرَائِيلُ، قِيلَ‏:‏ وَمَنْ مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، قِيلَ‏:‏ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَقِيلَ‏:‏ مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا فَفُتِحَ لَهُمَا؛ فَلَمَّا صَعِدَ فِيهَا فَإِذَا هُوَ بِنَهْرَيْنِ يَجْرِيَانِ، فَقَالَ‏:‏ مَا هَذَانِ النَّهْرَانِ يَا جَبْرَائِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا؛ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَقِيلَ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ جَبْرَائِيلُ، قِيلَ‏:‏ وَمَنْ مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، قِيلَ‏:‏ أَوَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قِيلَ‏:‏ مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا فَفُتِحَ لَهُ فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ عَلَيْهِ قِبَابٌ وَقُصُورٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَذَهَبَ يَشُمُّ تُرَابَهُ، فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، فَقَالَ‏:‏ يَا جَبْرَائِيلُ مَا هَذَا النَّهْرُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لَكَ رَبَّكَ فِي الْآخِرَةِ؛ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى الرَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ؛ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى الْخَامِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ؛ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّادِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ؛ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ أَنَسٌ، فَوَعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُون» فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الْخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ ِتَفْضِيلِ كَلَامِهِ اللَّهَ فَقَالَ مُوسَى‏:‏ رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ، ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا بَابَ الْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا شَاءَ، وَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ، فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ مَاذَا عَهدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ “ عَهدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ قَالَ‏:‏ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ وَعَنْهُمْ، فَالْتَفَتُّ إِلَى جَبْرَائِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ نَعَمْ، فَعَادَ بِهِ جَبْرَائِيلُ حَتَّى أَتَى الْجَبَّارَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ مَكَانُهُ، فَقَالَ‏:‏ “ رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا، فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ؛ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاحْتَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَرْدُدْهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ عِنْدَ الْخَمْسِ، فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ، فَضَعُفُوا وَتَرَكُوهُ، فَأَمَتُّكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ، كُلُّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ إِلَى جَبْرَائِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْرَهَ ذَلِكَ جَبْرَائِيلُ، فَرَفْعَهُ عِنْدَ الْخَمْسِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتَيْ ضِعَافٌ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ، فَخَفِّفْ عَنَّا، قَالَ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ‏:‏ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّي لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا كَتَبْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَلَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهِيَ خُمْسٌ عَلَيْكَ؛ فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ‏:‏ كَيْفَ فَعَلْتَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ خَفَّفَ عَنِّي، أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، قَالَ‏:‏ قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَتَرَكُوهُ فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا، قَالَ‏:‏ “ يَا مُوسَى قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ، قَالَ‏:‏ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الَّذِي يُتَعَارَفُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ إِذَا ذَكَرُوهُ، وَقَوْلُهُ ‏{‏إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى‏}‏ يَعْنِي‏:‏ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ لَهُ‏:‏ الْأَقْصَى، لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُزَارُ، وَيُبْتَغَى فِي زِيَارَتِهِ الْفَضْلُ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏.‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ تَنْزِيهًا لِلَّهِ، وَتَبْرِئَةً لَهُ مِمَّا نَحَلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالْأَنْدَادِ وَالصَّاحِبَةِ، وَمَا يَجِلُّ عَنْهُ جَلَّ جَلَالُهُ، الَّذِي سَارَ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ بَيْتِهِ الْحَرَامِ إِلَى بَيْتِهِ الْأَقْصَى‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيصِفَةِ إِسْرَاءِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَسْرَى اللَّهُ بِجَسَدِهِ، فَسَارَ بِهِ لَيْلًا عَلَى الْبُرَاقِ مِنْ بَيْتِهِ الْحَرَامِ إِلَى بَيْتِهِ الْأَقْصَى حَتَّى أَتَاهُ، فَأَرَاهُ مَا شَاءَ أَنْ يُرِيَهُ مِنْ عَجَائِبِ أَمْرِهِ وَعِبَرِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، فَجُمِعَتْ لَهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، فَصَلَّى بِهِمْ هُنَالِكَ، وَعُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى صَعِدَ بِهِ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ هُنَالِكَ مَا شَاءَ أَنْ يُوحِيَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَصَلَّى بِهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَصْحِيحِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْرِيَ بِهِ عَلَى الْبُرَاقِ، وَهِيَ دَابَّةُ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي كَانَ يَزُورُ عَلَيْهَا الْبَيْتَ الْحَرَامَ، يَقَعُ حَافِرُهَا مَوْضِعَ طَرَفِهَا، قَالَ‏:‏ فَمَرَّتْ بِعِيرٍ مِنْ عِيرَاتِ قُرَيْشٍ بِوَادٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ، فَنَفَرَتِ الْعِيرُ، وَفِيهَا بَعِيرٌ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ‏:‏ سَوْدَاءُ، وَزَرْقَاءُ، حَتَّى أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيلِيَاءَ فَأُتِيَ بِقَدَحَيْنِ‏:‏ قَدَحِ خَمْرٍ، وَقَدَحِ لَبَنٍ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَحَ اللَّبَنِ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ‏:‏ هُدِيَتْ إِلَى الْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذَتْ قَدَحَ الْخَمْرِ غَوَتْ أُمَّتُكَ‏.‏ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ هُنَاكَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، فَنَعَتَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ‏:‏ “ فَأَمَّا مُوسَى فَضَرْبٌ رَجْلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَأَمَّا عِيسَى فَرَجْلٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، فَأَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ؛ وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ؛ فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَ قُرَيْشًا أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ‏.‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ فَارْتَدَّ نَاسٌ كَثِيرٌ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ‏:‏ فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ رَجَعَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ أَوَ قَالَ ذَلِكَ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ فَأَشْهَدُ إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا‏:‏ أَفَتَشْهَدُ أَنَّهُ جَاءَ الشَّامَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنِّي أُصَدِّقُهُ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاء»‏.‏ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ‏:‏ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ‏:‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فَمَثَّلَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفَقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْه»‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزَّهْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَتَبَةَ بْنِ أَبِي وَقَاصٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ‏:‏ «لَمَّا جَاءَ جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْبَرَّاقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَأَنَّهَا ضُرِبَتْ بِذَنَبِهَا، فَقَالَ لَهَا جَبْرَائِيلُ‏:‏ مَهْ يَا بَرَّاقُ، فَوَاللَّهِ إِنْ رَكِبَكَ مِثْلُهُ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ نَاءٍ عَنِ الطَّرِيقِ‏:‏ أَيْ عَلَى جَنْبِ الطَّرِيق»‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ‏:‏ نَائِيَةٌ، وَلَكِنْ أُسْقِطَ مِنْهَا التَّأْنِيثُ‏.‏

فَقَالَ‏:‏ «مَا هَذِهِ يَا جَبْرَائِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ، فَإِذَا شَيْءٌ يَدْعُوهُ مُتَنَحِّيًا عَنِ الطَّرِيقِ يَقُولُ‏:‏ هَلُمَّ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ جَبْرَائِيلُ‏:‏ سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنَّ يَسِيرَ؛ قَالَ‏:‏ ثُمَّ لَقِيَهُ خَلْقٌ مِنَ الْخَلَائِقِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَوَّلُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا آخِرُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حَاشِرُ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ‏:‏ ارْدُدِ السَّلَامَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ‏:‏ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ لَقِيَهُ الثَّانِي، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَقَالَةِ الْأَوَّلِينَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَعُرِضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ وَالْخَمْرُ، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ‏:‏ أَصَبْتَ يَا مُحَمَّدُ الْفِطْرَةَ، وَلَوْ شَرِبْتَ الْمَاءَ لَغَرِقتَ وَغَرِقَتْ أُمَّتُكَ، وَلَوْ شَرِبْتَ الْخَمْرَ لَغَوَيْتَ وَغَوَتْ أُمَّتُكَ، ثُمَّ بَعَثَ لَهُ آدَمَ فَمِنْ دُونِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ‏.‏ ثُمَّ قَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ‏:‏ أَمَّا الْعَجُوزُ الَّتِي رَأَيْتَ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِ تِلْكَ الْعَجُوزِ، وَأَمَّا الَّذِي أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، فَذَاكَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسٌ، أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ؛ وَأَمَّا الَّذِينَ سَلَّمُوا عَلَيْكَ، فَذَاكَ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى»‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِّيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحَيْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ “ شَكَّ أَبُو جَعْفَرٍ “ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ قَالَ‏:‏ جَاءَ جَبْرَائِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ مِيكَائِيلُ، فَقَالَ جَبْرَائِيلُ لِمِيكَائِيلَ‏:‏ ائْتِنِي بِطَسْتٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمٍ كَيْمَا أُطَهِّرَ قَلْبَهُ، وَأَشْرَحَ لَهُ صَدْرَهُ، قَالَ‏:‏ فَشَقَّ عَنْ بَطْنِهِ، فَغَسَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَاخْتَلَفَ إِلَيْهِ مِيكَائِيلُ بِثَلَاثِ طَسَاتٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرَحَ صَدْرَهُ، وَنَزَعَ مَا كَانَ فِيهِ مَنْ غِلٍّ، وَمَلَأَهُ حِلْمًا وَعِلْمًا وَإِيمَانًا وَيَقِينًا وَإِسْلَامًا، وَخَتَمَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ أَتَاهُ بِفَرَسٍ فَحُمِلَ عَلَيْهِ، كُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهُ مُنْتَهَى طَرَفِهِ وَأَقْصَى بَصَرِهِ، قَالَ‏:‏ فَسَارَ وَسَارَ مَعَهُ جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَتَى عَلَى قَوْمٍ يَزْرَعُونَ فِي يَوْمٍ وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمٍ، كُلَّمَا حَصَدُوا عَادَ كَمَا كَانَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَا جبْرَائيلُ مَا هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، تُضَاعِفُ لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَمَا أَنْفَقُوا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يَخْلُفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ؛ ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ تُرْضَخُ رُءُوسُهُمْ بِالصَّخْرِ، كُلَّمَا رُضِخَتْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، لَا يَفْتُرُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَقَالَ‏:‏ مَا هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَتَثَاقَلُ رُءُوسُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ؛ ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ عَلَى أَقْبَالِهِمْ رِقَاعٌ، وَعَلَى أَدْبَارِهِمْ رِقَاعٌ، يُسَرَّحُونَ كَمَا تُسَرَّحُ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ، وَيَأْكُلُونَ الضَّرِيعَ وَالزَّقُّومَ وَرَضْفَ جَهَنَّمَ وَحِجَارَتَهَا، قَالَ‏:‏ مَا هَؤُلَاءِ يَا جَبْرائِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ شَيْئًا، وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لَحْمٌ نَضِيجٌ فِي قُدُورٍ، وَلَحْمٌ آخَرُ نِيءٌ قَذِرٌ خَبِيثٌ، فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنَ النِّيءِ، وَيَدَعُونَ النَّضِيجَ الطَّيِّبَ، فَقَالَ‏:‏ مَا هَؤُلَاءِ يَا جَبْرائِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أُمَّتِكَ، تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ، فَيَأْتِي امْرَأَةً خَبِيثَةً فَيَبِيتُ عِنْدَهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَالْمَرْأَةَ تَقُومُ مِنْ عِنْدِ زَوْجِهَا حَلَالًا طَيِّبًا، فَتَأْتِي رَجُلًا خَبِيثًا، فَتَبِيتُ مَعَهُ حَتَّى تُصْبِحَ؛ قَالَ‏:‏ ثُمَّ أَتَى عَلَى خَشَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ لَا يَمُرُّ بِهَا ثَوْبٌ إِلَّا شَقَّتْهُ، وَلَا شَيْءٌ إِلَّا خَرَقَتْهُ، قَالَ‏:‏ مَا هَذَا يَا جَبْرائِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا مَثَلُ أَقْوَامٍ مِنْ أُمَّتِكَ يَقْعُدُونَ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَقْطَعُونَهُ‏.‏ ثُمَّ قَرَأَ ‏{‏وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏ ثُمَّ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ جَمَعَ حَزْمَةَ حَطَبٍ عَظِيمَةً لَا يَسْتَطِيعُ حَمْلَهَا، وَهُوَ يَزِيدُ عَلَيْهَا، فَقَالَ‏:‏ مَا هَذَا يَا جَبْرائِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أُمَّتِكَ تَكُونُ عِنْدَهُ أَمَانَاتُ النَّاسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا، وَهُوَ يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَهَا، فَلَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؛ ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ لَا يَفْتُرُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، قَالَ‏:‏ مَا هَؤُلَاءِ يَا جَبْرائِيلُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، ثُمَّ أَتَى عَلَى جُحْرٍ صَغِيرٍ يَخْرُجُ مِنْهُ ثَوْرٌ عَظِيمٌ، فَجَعَلَ الثَّوْرُ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ فَلَا يَسْتَطِيعُ، فَقَالَ‏:‏ مَا هَذَا يَا جَبْرائِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا الرَّجُلُ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْعَظِيمَةِ، ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَيْهَا، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّهَا، ثُمَّ أَتَى عَلَى وَادٍ، فَوَجَدَ رِيحًا طَيِّبَةً بَارِدَةً، وَفِيهِ رِيحُ الْمِسْكِ، وَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ‏:‏ يَا جَبْرَائِيلُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ الْبَارِدَةُ وَهَذِهِ الرَّائِحَةُ الَّتِي كَرِيحِ الْمِسْكِ، وَمَا هَذَا الصَّوْتُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا صَوْتُ الْجَنَّةِ تَقُولُ‏:‏ يَا رَبِّ آتِنِي مَا وَعَدْتَنِي، فَقَدْ كَثُرَتْ غُرَفِي وَإِسْتَبْرَقِي وَحَرِيرِي وَسُنْدُسِي وَعَبْقَرِيِّ، وَلُؤْلُؤِي وَمَرْجَانِي، وَفِضَّتِي وَذَهَبِي، وَأَكْوَابِي وَصِحَافِي وَأَبَارِيقِي، وَفَوَاكِهِي وَنَخْلِي وَرَمَّانِي، وَلَبَنِي وَخَمْرِي، فَآتِنِي مَا وَعَدْتِنِي، فَقَالَ‏:‏ لَكِ كُلُّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، وَمُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَمَنْ آمَنَ بِي وَبِرُسُلِي، وَعَمِلَ صَالَحَا وَلَمْ يُشْرِكْ بِي، وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْ دُونِي أَنْدَادًا، وَمَنْ خَشِيَنِي فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَمَنْ أَقْرَضَنِي جِزْيَتُهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيَّ كَفَيْتُهُ، إِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا لَا أُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَقَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، قَالَتْ‏:‏ قَدْ رَضِيَتْ؛ ثُمَّ أَتَى عَلَى وَادٍ فَسَمِعَ صَوْتًا مُنْكَرًا، وَوَجَدَ رِيحًا مُنْتِنَةً، فَقَالَ‏:‏ وَمَا هَذِهِ الرِّيحُ يَا جَبْرَائِيلُ وَمَا هَذَا الصَّوْتُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا صَوْتُ جَهَنَّمَ، تَقُولُ‏:‏ يَا رَبِّ آتِنِي مَا وَعَدْتِنِي، فَقَدْ كَثُرَتْ سَلَاسِلِي وَأَغْلَالِي، وَسَعِيرِي وَجَحِيمِي، وَضَرِيعِي وَغَسَّاقِي، وَعَذَابِي وَعِقَابِي، وَقَدْ بَعُدَ قَعْرَي وَاشْتَدَّ حَرِّي، فَآتِنِي مَا وَعَدْتِنِي، قَالَ‏:‏ لَكِ كُلُّ مُشْرِكٍ وَمُشْرِكَةٌ، وَكَافِرٌ وَكَافِرَةٌ، وَكُلُّ خَبِيثٍ وَخَبِيثَةٌ، وَكُلُّ جَبَّارٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، قَالَتْ‏:‏ قَدْ رَضِيَتْ؛ قَالَ‏:‏ ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَ فَرَبَطَ فَرَسَهُ إِلَى صَخْرَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ فَصَلَّى مَعَ الْمَلَائِكَةِ؛ فَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ يَا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، فَقَالُوا‏:‏ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالُوا‏:‏ حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ؛ قَالَ‏:‏ ثُمَّ لَقِيَ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَثْنَوْا عَلَى رَبِّهِمْ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اتَّخَذَنِي خَلِيلًا وَأَعْطَانِي مُلْكًا عَظِيمًا، وَجَعَلَنِي أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ يُؤْتَمُّ بِي، وَأَنْقَذَنِي مِنَ النَّارِ، وَجَعَلَهَا عَلَيَّ بَرْدًا وَسَلَامًا؛ ثُمَّ إِنَّ مُوسَى أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ فَقَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَلَّمَنِي تَكْلِيمًا، وَجَعْلَ هَلَاكَ آلِ فِرْعَوْنَ وَنَجَاةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدَيْ، وَجَعَلَ مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ؛ ثُمَّ إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لِي مُلْكًا عَظِيمًا وَعَلَّمَنِي الزَّبُورَ، وَأَلَانَ لِي الْحَدِيدَ، وَسَخَّرَ لِي الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَأَعْطَانِي الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ؛ ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَخَّرَ لِي الرِّيَاحَ، وَسَخَّرَ لِي الشَّيَاطِينَ، يَعْمَلُونَ لِي مَا شِئْتُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجَفَانِ كَالْجَوَابِ، وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ، وَعَلَّمَنِي مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَآتَانِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَضَّلَا وَسَخَّرَ لِي جُنُودَ الشَّيَاطِينِ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَآتَانِي مُلْكًا عَظِيمًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، وَجَعْلَ مُلْكِي مُلْكًا طَيِّبًا لَيْسَ عَلَيَّ فِيهِ حِسَابٌ؛ ثُمَّ إِنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي كَلِمَتَهُ وَجَعَلَ مَثَلِي مِثْلَ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ‏:‏ كُنْ فَيَكُونُ، وَعَلِمَنِي الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَجَعَلَنِي أَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ هَيْئَةَ الطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ، فَيَكُونُ طَيَّرَا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَجَعَلَنِي أُبْرِئُ الْأَكَمَةَ وَالْأَبْرَصَ، وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَرَفَعَنِي وَطَهَّرَنِي، وَأَعَاذَنِي وَأُمِّي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْنَا سَبِيلٌ؛ قَالَ‏:‏ ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ‏:‏ «كُلْكُمْ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، وَأَنَا مُثْنٍ عَلَى رَبِّي، فَقَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا ونَذَيرًا، وَأَنْزَلَ عَلِيَّ الْفُرْقَانَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ أُمَّتِي خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَجَعَلَ أُمَّتِي وَسَطًا، وَجَعَلَ أُمَّتِي هُمُ الْأَوَّلُوُنَ وَهُمُ الْآخِرُونَ، وَشَرَحَ لِي صَدْرِي، وَوَضَعَ عَنِّي وِزْرِي وَرَفَعَ لِي ذِكْرِي، وَجَعَلَنِي فَاتِحًا خَاتِمًا، » قَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ بِهَذَا فَضَلَكُمْ مُحَمَّدٌ‏.‏- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهُوَ الرَّازِّيُّ‏:‏ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ، وَفَاتِحَ بِالشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- ثُمَّ أُتِيَ إِلَيْهِ بِآنِيَةٍ ثَلَاثَةٍ مُغَطَّاةٍ أَفْوَاهُهَا، فَأُتِ بِإِنَاءٍ مِنْهَا فِيهِ مَاءٌ، فَقِيلَ‏:‏ اشْرَبْ، فَشَرِبَ مِنْهُ يَسِيرًا، ثُمَّ دُفِعَ إِلَيْهِ إِنَاءٌ آخَرُ فِيهِ لِبُنٌ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ اشْرَبْ، فَشَرِبَ مِنْهُ حَتَّى رُوِيَ، ثُمَّ دُفِعَ إِلَيْهِ إِنَاءٌ آخَرُ فِيهِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ اشْرَبْ، فَقَالَ‏:‏ لَا أُرِيدُهُ قَدْ رُوَيْتُ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَمَا إِنَّهَا سَتُحَرَّمُ عَلَى أُمَّتِكَ، وَلَوْ شَرِبَتْ مِنْهَا لَمْ يَتْبَعْكَ مِنْ أُمَّتِكَ إِلَّا الْقَلِيلَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَقِيلَ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ جَبْرَائِيلُ، قِيلَ‏:‏ وَمَنْ مَعَكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، قَالُوا‏:‏ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالُوا‏:‏ حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَدَخْلَ فَإِذَا هُوَ بَرْجَلٍ تَامِّ الْخَلْقِ لَمْ يَنْقُصْ مَنْ خَلَقَهُ شَيْءٌ، كَمَا يَنْقُصُ مِنْ خَلَقِ النَّاسِ، عَلَى يَمِينِهِ بَابٌ، يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحٌ خَبِيثَةٌ، إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَاسْتَبْشَرَ، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي عَنْ شِمَالِهِ بَكَى وَحَزِنَ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا جَبْرَائيِلُ مَنْ هَذَا الشَّيْخُ التَّامُ الْخَلْقِ الَّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، وَمَا هَذَانَ الْبَابَانِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، وَهَذَا الْبَابُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ بَابُ الْجَنَّةِ، إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ يَدْخُلُهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ضَحِكَ وَاسْتَبْشَرَ، وَالْبَابُ الَّذِي عَنْ شِمَالِهِ بَابُ جَهَنَّمَ، إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ يَدْخُلُهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بَكَى وَحَزِنَ؛ ثُمَّ صَعِدَ بِهِ جَبْرَائِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ جَبْرَائِيلُ، قِيلَ‏:‏ وَمَنْ مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا‏:‏ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالُوا‏:‏ حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ‏:‏ فَإِذَا هُوَ بِشَابَّيْنِ، فَقَالَ‏:‏ يَا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَانَ الشَّابَّانِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا ابْنَا الْخَالَةِ؛ قَالَ‏:‏ فَصَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالُوا‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ جَبْرَائِيلُ، قَالُوا‏:‏ وَمَنْ مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، قَالُوا‏:‏ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالُوا‏:‏ حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمً الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ‏:‏ فَدَخْلَ فَإِذَا هُوَ بَرْجَلٌ قَدْ فَضَلَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي الْحُسْنِ، كَمَا فُضِّلَ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، قَالَ‏:‏ مَنْ هَذَا يَا جِبْرَئِيلُ الَّذِي فَضَلَ عَلَى النَّاسِ فِي الْحُسْنِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا أَخُوكَ يُوسُفُ؛ ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ جَبْرَائِيلُ، قَالُوا‏:‏ وَمَنْ مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، قَالُوا‏:‏ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالُوا‏:‏ حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ؛ قَالَ‏:‏ فَدَخْلَ، فَإِذَا هُوَ بَرْجَلٍ، قَالَ‏:‏ مَنْ هَذَا يَا جَبْرَائِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا إِدْرِيسُ رَفْعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا؛ ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ، فَقَالُوا‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ جَبْرَائِيلُ، قَالُوا‏:‏ وَمَنْ مَعَك‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، قَالُوا‏:‏ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالُوا‏:‏ حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ؛ ثُمَّ دَخَلَ فَإِذَا هُوَ بَرْجَلٍ جَالِسٍ وَحَوْلَهُ قَوْمٌ يَقُصُّ عَلَيْهِمْ، قَالَ‏:‏ مَنْ هَذَا يَا جَبْرَائِيلُ وَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَوْلَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا هَارُونُ الْمُحَبَّبُ فِي قَوْمِهِ، وَهَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ؛ ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَئيلُ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ جَبْرَئِيلُ، قَالُوا‏:‏ وَمَنْ مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، قَالُوا‏:‏ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالُوا‏:‏ حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَإِذَا هُوَ بَرْجَلٌ جَالِسٌ، فَجَاوَزَهُ، فَبَكَى الرَّجُلُ، فَقَالَ‏:‏ يَا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُوسَى، قَالَ‏:‏ فَمَا بَالُهُ يَبْكِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَزْعُمُ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنِّي أَكْرَمُ بَنَي آدَمَ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ قَدْ خَلَفَنِي فِي دُنْيَا، وَأَنَا فِي أُخْرَى، فَلَوْ أَنَّهُ بِنَفْسِهِ لَمْ أُبَالِ، وَلَكِنْ مَعَ كُلِّ نَبِيٍّ أُمَّتَهِ؛ ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ، فَقِيلَ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ جَبْرَائِيلُ، قَالُوا‏:‏ وَمَنْ مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، قَالُوا‏:‏ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالُوا‏:‏ حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ‏:‏ فَدَخْلَ فَإِذَا هُوَ بَرْجَلٍ أَشْمَطَ جَالِسٍ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ عَلَى كُرْسِي، وَعِنْدَهُ قَوْمٌ جُلُوسٌ بِيضُ الْوُجُوهِ، أَمْثَالُ الْقَرَاطِيسِ، وَقَوْمٌ فِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، فَقَامَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، فَدَخَلُوا نَهْرًا فَاغْتَسَلُوا فِيهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ خَلَصَ مِنْ أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، ثُمَّ دَخَلُوا نَهْرًا آخَرَ، فَاغْتَسَلُوا فِيهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ خَلَصَ مِنْ أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، ثُمَّ دَخَلُوا نَهْرًا آخَرَ فَاغْتَسَلُوا فِيهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ خَلَصَ مِنْ أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، فَصَارَتْ مِثْلَ أَلْوَانِ أَصْحَابِهِمْ، فَجَاءُوا فَجَلَسُوا إِلَى أَصْحَابِهِمْ، فَقَالَ‏:‏ يَا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا الْأَشْمَطُ، ثُمَّ مَنْ هَؤُلَاءِ الْبِيضُ وُجُوهُهُمْ، وَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، وَمَا هَذِهِ الْأَنْهَارُ الَّتِي دَخَلُوا، فَجَاءُوا وَقَدْ صَفَتْ أَلْوَانُهُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلُ مَنْ شَمِطَ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْبَيْضُ الْوُجُوهُ‏:‏ فَقَوْمٌ لَمْ يُلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، فَقَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، فَتَابُوا، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْأَنْهَارُ‏:‏ فَأَوَّلُهَا رَحْمَةُ اللَّهِ، وَثَانِيهَا‏:‏ نِعْمَةُ اللَّهِ، وَالثَّالِثُ‏:‏ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابَا طَهُورًا؛ قَالَ‏:‏ ثُمَّ انْتَهَى إِلَى السِّدْرَةِ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ هَذِهِ السِّدْرَةُ يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ خَلَا مَنْ أَمَتِّكَ عَلَى سَنَتِكَ، فَإِذَا هِيَ شَجَرَةٌ يَخْرُجُ مَنْ أَصْلِهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهَارٌ مَنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى، وَهِيَ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا سَبْعِينَ عَامًا لَا يَقْطَعُهَا، وَالْوَرَقَةَ مِنْهَا مُغَطِّيَةٌ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا، قَالَ‏:‏ فَغَشِيَهَا نُورُ الْخَلَّاقِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ أَمْثَالُ الْغِرْبَانِ حِينَ يَقَعْنَ عَلَى الشَّجَرَةِ، قَالَ‏:‏ فَكَلَّمَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ سَلْ، فَقَالَ‏:‏ اتَّخَذَتْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَأَعْطَيْتَهُ مُلْكًا عَظِيمًا، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَأَعْطَيْتَ دَاوُدَ مُلْكًا عَظِيمًا، وَأَلَنْتَ لَهُ الْحَدِيدَ، وَسَخَّرْتَ لَهُ الْجِبَالَ، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ مُلْكًا عَظِيمًا، وَسَخَّرْتَ لَهُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ، وَسَخَّرْتَ لَهُ الرِّيَاحَ، وَأَعْطَيْتَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَعَلَّمْتَ عِيسَى التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَجَعَلَتْهُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَعَذْتَهُ وَأُمَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمَا سَبِيلٌ‏.‏ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ‏:‏ قَدِ اتَّخَذَتُكَ حَبِيبًا وَخَلِيلًا وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ‏:‏ حَبِيبُ اللَّهِ؛ وَأَرْسَلَتُكَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَشَرَحْتُ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ، وَرَفَعْتُ لَكَ ذِكْرَكَ، فَلَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي، وَجَعَلْتُ أَمَّتَكَ أَمَةً وَسَطًا، وَجَعَلْتُ أَمَّتَكَ هُمُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ، وَجَعَلْتُ أُمَّتكَ لَا تَجُوزُ لَهُمْ خُطْبَةٌ، حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّكَ عَبْدِي وَرَسُولِي؛ وَجَعَلْتُ مَنْ أَمَّتِكَ أَقْوَامًا قُلُوبُهُمْ أَنَاجِيلُهُمْ، وَجَعَلْتُكَ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ خَلْقًا، وَآخِرَهُمْ بَعْثًا، وَأَوَّلَهُمْ يُقْضَى لَهُ، وَأَعْطَيْتُكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي، لَمْ يُعْطَهَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ، وَأَعْطَيْتُكَ الْكَوْثَرَ، وَأَعْطَيْتُكَ ثَمَانِيَةَ أَسْهُمٍ الْإِسْلَامَ وَالْهِجْرَةَ، وَالْجِهَادَ، وَالصَّدَقَةَ، وَالصَّلَاةَ، وَصَوْمَ رَمَضَانَ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَجَعَلْتُكَ فَاتِحًا وَخَاتَمًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «فَضَّلَنِي ربَيِّ بِسِتٍّ‏:‏ أَعْطَانِي فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ، وَجَوَامِعَ الْحَدِيثِ، وَأَرْسَلَنِي إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِ عَدُوِّي الرُّعْبَ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وأُحِلِّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلْ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ كُلُّهَا طَهُورًا وَمَسْجِدًا، قَالَ‏:‏ وَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً؛ » فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مُوسَى، قَالَ‏:‏ بِمَ أُمِرَتْ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ‏:‏ بِخَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ‏:‏ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ، فَقَدْ لَقِيتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ‏:‏ فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَبِّهِ فَسَأَلَهُ التَّخْفِيفَ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ‏:‏ بِكُمْ أُمِرْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بِأَرْبَعِينَ، قَالَ‏:‏ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ، وَقَدْ لَقِيتُ مَنْ بَنَى إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ‏:‏ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَسَأَلَهُ التَّخْفِيفَ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ‏:‏ بِكُمْ أُمِرْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أُمِرْتُ بِثَلَاثِينَ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى‏:‏ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ، وَقَدْ لَقِيتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ‏:‏ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَسَأَلَهُ التَّخْفِيفَ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى فَقَالَ‏:‏ بِكُمْ أَمَرَتْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بِعِشْرِينَ، قَالَ‏:‏ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ، وَقَدْ لَقِيَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ‏:‏ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَسَأَلَهُ التَّخْفِيفَ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ‏:‏ بِكُمْ أَمَرْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بِعَشْرٍ، قَالَ‏:‏ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ، وَقَدْ لَقِيتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ‏:‏ فَرَجَعَ عَلَى حَيَاءٍ إِلَى رَبِّهِ فَسَأَلَهُ التَّخْفِيفَ، فَوَضَعَ عَنْهُ خَمْسًا، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ‏:‏ بِكُمْ أُمِرْتَ‏؟‏ قَالَهُ‏:‏ بِخَمْسٍ، قَالَ‏:‏ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الْأُمِّ، وَقَدْ لَقِيتُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِدَّةً، قَالَ‏:‏ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ فَمَا أَنَا رَاجِعٌ إِلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَمَّا إِنَّكَ كَمَا صَبَرَتْ نَفْسَكَ عَلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَإِنَّهُنَّ يُجْزِينَ عَنْكَ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَإِنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، قَالَ‏:‏ فَرَضِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ الرِّضَا “ فَكَانَ مُوسَى أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ حِينَ مَرَّ بِهِ، وَخَيَّرَهُمْ لَهُ حِينَ رَجَعَ إِلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِي، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَوْ غَيْرِهِ “ شَكَّ أَبُو جَعْفَرٍ “، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ قَالَ‏:‏ جَاءَ جَبْرَئِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ جَاءَ جَبْرَائِيلُ وَمَعَهُ مِيكَائِيلُ، وَقَالَ فِيهِ‏:‏ وَإِذَا بِقَوْمٍ يَسرَحُونَ كَمَا تَسْرَحُ الْأَنْعَامُ يَأْكُلُونَ الضَّرِيعَ وَالزَّقُّومَ، وَقَالَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، قَالَ عَلِيٌّ مَا هَؤُلَاءِ، مِنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَئِيلُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعِ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ تُقَصُّ أَلْسِنَتُهُمْ، وَقَالَ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ قَالَ عَلِيٌّ فِيهِ‏:‏ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ‏.‏ قَالَ فِي ذَكَرَ الْخَمْرَ، فَقَالَ‏:‏ لَا أُرِيدُهُ قَدْ رَوَيْتُ، قَالَ‏:‏ جَبْرَائِيلُ‏:‏ قَدْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهَا سَتُحَرَّمُ عَلَى أُمَّتِكَ، وَقَالَ فِي سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى أَيْضًا‏:‏ هَذِهِ السِّدْرَةُ الْمُنْتَهَى، إِلَيْهَا يَنْتَهِي كُلُّ أَحَدٍ خَلَا عَلَى سَبِيلِكَ مِنْ أُمَّتِكَ؛ وَقَالَ أَيْضًا فِي الْوَرَقَةِ مِنْهَا تُظِلُّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ، تَغْشَاهَا الْمَلَائِكَةُ مِثْلُ الْغِرْبَانِ حِينَ يَقِعْنَ عَلَى الشَّجَرَةِ، مِنْ حُبِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُ حَدِيثِ عَلِيٍّ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى، فِي قَوْلِهِ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى‏}‏ قَالَ‏:‏ ثَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ‏:‏ «“ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ هِيَ أَشْبَهُ الدَّوَابِّ بِالْبَغْلِ، لَهُ أُذُنَانِ مُضْطَرِبَتَانِ وَهُوَ الْبُرَاقُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ تَرْكَبُهُ الْأنَبْيِاءُ قَبْلِي، فَرَكِبْتُهُ، فَانْطَلَقَ بِي يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ، فَسَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي‏:‏ يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أَعْرُجْ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ شِمَالِي‏:‏ يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أَعْرُجْ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُ امْرَأَةً فِي الطَّرِيقِ، فَرَأَيْتُ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا رَافِعَةً يَدَهَا، تَقُولُ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أَعْرُجْ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أَوْ قَالَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، فَنَزَلْتُ عَنِ الدَّابَّةِ فَأَوْثَقْتُهَا بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تُوثِقُ بِهَا، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، فَقَالَ لِي جَبْرَئِيلُ‏:‏ مَاذَا رَأَيْتَ فِي وَجْهِكَ، فَقُلْتُ‏:‏ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي أَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أَعْرُجْ عَلَيْهِ، قَالَ‏:‏ ذَاكَ دَاعِيَ الْيَهُودِ، أَمَا لَوْ أَنَّكَ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَهَوَّدَتْ أُمَّتُكَ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَسَارِي أَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أَعْرُجْ عَلَيْهِ، قَالَ‏:‏ ذَاكَ دَاعِي النَّصَارَى، أَمَا إِنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتُكَ، قُلْتُ‏:‏ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا رَافِعَةً يَدَهَا تَقُولُ عَلَى رِسْلِكَ، أَسْأَلُكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أَعْرُجْ عَلَيْهَا، قَالَ‏:‏ تِلْكَ الدُّنْيَا تَزَيَّنَتْ لَكَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهَا لَاخْتَارَتْ أُمَّتُكَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيهِ لَبَنٌ، وَالْآخِرُ فِيهِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي‏:‏ اشْرَبْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، قَالَ‏:‏ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَوْ قَالَ‏:‏ أَخَذْتَ الْفِطْرَةَ “»‏.‏

قَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ وَأَخْبَرَنِي الزَّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ‏:‏ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ‏.‏

قَالَ أَبُو هَارُونَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ‏:‏ «“ ثُمَّ جِيءَ بِالْمِعْرَاجِ الَّذِي تَعْرُجُ فِيهِ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فَإِذَا هُوَ أَحْسَنُ مَا رَأَيْتُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَيِّتِ كَيْفَ يُحِدُّ بَصَرَهُ إِلَيْهِ فَعُرِجَ بِنَا فِيهِ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى بَابِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ، فَقِيلَ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ جَبْرَائِيلُ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ وَمَنْ مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، قِيلَ‏:‏ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، فَفَتَحُوا وَسَلَّمُوا عَلَيَّ، وَإِذَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ يَحْرُسُ السَّمَاءَ يُقَالُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَعَ كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمْ مِئَةُ أَلْفٍ، ثُمَّ قَرَأَ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏}‏ وَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَهُ اللَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِذَا هُوَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرِّيَّتِهِ، فَإِذَا كَانَتْ رُوحَ مُؤْمِنٍ، قَالَ‏:‏ رُوحٌ طَيِّبَةٌ، وَرِيحٌ طَيِّبَةٌ، اجْعَلُوا كِتَابَهُ فِي عِلِّيِينَ؛ وَإِذَا كَانَ رُوحَ كَافِرٍ قَالَ‏:‏ رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَرِيحٌ خَبِيثَةٌ، اجْعَلُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّيلٍ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ وَقَالَ‏:‏ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرَ الْإِبِلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشافِرِهِمْ، ثُمَّ يُجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنْ نَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ، قُلْتُ‏:‏ يَا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ يُحْذَى مِنْ جُلُودِهِمْ وَيُرَدُّ فِي أَفْوَاهِهِمْ، ثُمَّ يُقَالُ‏:‏ كُلُوا كَمَا أَكَلْتُمْ، فَإِذَا أَكْرَهُ مَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ، قُلْتُ‏:‏ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَئِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْهَمَّازُونَ اللَّمَّازُونَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ، بِالسَّبِّ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ عَلَى مَائِدَةٍ عَلَيْهَا لَحْمٌ مَشْوِيٌّ كَأَحْسَنِ مَا رَأَيْتُ مِنَ اللَّحْمِ، وَإِذَا حَوْلَهُمْ جِيَفٌ، فَجَعَلُوا يَمِيلُونَ عَلَى الْجِيَفِ يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَيَدَعُونَ ذَلِكَ اللَّحْمَ، قُلْتُ‏:‏ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَئِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الزُّنَاةُ عَمَدُوا إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَتَرَكُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ لَهُمْ بُطُونٌ كَأَنَّهَا الُبُيُوتُ وَهِيَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، فَإِذَا مَرَّ بِهِمْ آلُ فِرْعَوْنَ ثَارُوا، فَيَمِيلُ بِأَحَدِهِمْ بَطْنُهُ فَيَقَعُ، فَيَتَوَطُّئُوهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ بِأَرْجُلِهِمْ، وَهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا؛ قُلْتُ‏:‏ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَئِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا، رَبًّا فِي بُطُونِهِمْ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ؛ ثُمَّ نَظَرْتُ، فَإِذَا أَنَا بِنِسَاءٍ مُعَلَّقَاتٍ بِثُدُيِّهِنَّ، وَنِسَاءٌ مُنَكَّساتٌ بِأَرْجُلِهِنَّ، قُلْتُ‏:‏ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَئِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هُنَّ اللَّاتِي يَزْنِينَ وَيَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ قَالَ‏:‏ ثُمَّ صَعَدْنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ وَحَوْلَهُ تَبَعٌ مِنْ أُمَّتِهِ، وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي، ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى، يُشْبِهُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، ثِيَابُهُمَا وَشَعْرُهُمَا، فَسَلَّمَا عَلَيَّ، وَرَحَّبَا بِي، ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا‏}‏؛ ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ الْمُحَبَّبِ فِي قَوْمِهِ، حَوْلَهُ تَبَعٌ كَثِيرٌ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ طَوِيلُ اللِّحْيَةِ تَكَادُ لِحْيَتُهُ تَمَسُّ سُرَّتَهُ، فَسُلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ؛ ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَوَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ كَثِيرُ الشَّعْرِ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ خَرَجَ شَعْرُهُ مِنْهُمَا؛ قَالَ مُوسَى‏:‏ تَزْعَمُ النَّاسُ أَنِّي أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ، فَهَذَا أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِّي، وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ لَمْ أَكُنْ أُبَالِي، وَلَكِنْ كُلُّ نَبِيٍّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ؛ ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ جَالِسٌ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَقَالَ‏:‏ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، فَقِيلَ‏:‏ هَذَا مَكَانُكَ وَمَكَانُ أُمَّتِكَ، ثُمَّ تَلَا ‏{‏إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ثُمَّ دَخَلْتُ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِشَجَرَةٍ إِنْ كَانَتِ الْوَرَقَةُ مِنْهَا لَمُغَطِّيَةٌ هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَإِذَا فِي أَصْلِهَا عَيْنٌ تَجْرِي قَدْ تَشَعَّبَتْ شُعْبَتَيْنِ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا هَذَا يَا جَبْرَئِيلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَمَّا هَذَا‏:‏ فَهُوَ نَهْرُ الرَّحْمَةِ، وَأَمَّا هَذَا‏:‏ فَهُوَ الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ، فَاغْتَسَلْتُ فِي نَهْرِ الرَّحْمَةِ فَغُفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ، ثُمَّ أُخِذْتُ عَلَى الْكَوْثَرِ حَتَّى دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا، مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَإِذَا فِيهَا رُمَّانٌ كَأَنَّهُ جُلُودُ الْإِبِلِ الْمُقَتَّبَةُ، وَإِذَا فِيهَا طَيْرٌ كَأَنَّهَا الْبُخْتُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ إِنَّ تِلْكَ الطَّيْرَ لَنَاعِمَةٌ، قَالَ‏:‏ أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا يَا أَبَا بَكْرٍ، وَإِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ تَأْكُلَ مِنْهَا، وَرَأَيْتُ فِيهَا جَارِيَةً، فَسَأَلْتُهَا‏:‏ لِمَنْ أَنْتِ‏؟‏ فَقَالَتْ‏:‏ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَبَشَّرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا؛ قَالَ‏:‏ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرِهِ، وَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ‏:‏ بِمَ أَمَرَكَ رَبُّكَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ فَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ‏:‏ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَأَسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَنْ يَقُومُوا بِهَذَا، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَسَأَلْتُهُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي إِذَا مَرَرْتُ بِمُوسَى حَتَّى فَرَضَ عَلَيَّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَقَالَ مُوسَى‏:‏ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقُلْتُ‏:‏ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ؛ أَوْ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ مَا أَنَا بِرَاجِعٍ، فَقِيلَ لِي‏:‏ إِنَّ لَكَ بِهَذِهِ الْخَمْسِ صَلَوَاتٍ خَمْسِينَ صَلَاةً، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ وَاحِدَةً “»‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ ثَنِي رُوحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي هَارُونَ عُمَارَةَ بْنِ جَوِينَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ وَثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي هَارُونَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ « “ لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ، وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَمُدُّ إِلَيْهِ مَيِّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إِذَا حَضَرَ، فَأصْعَدَنِي صَاحِبِي فِيهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابٍ مِنَ الْأَبْوَابِ يُقَالُ لَهُ بَابُ الْحَفَظَةِ، عَلَيْهِ مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، تَحْتَ يَدَيْهِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ، تَحْتَ يَدَيْ كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ‏:‏ ‏{‏مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏}‏ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْو حَدِيثِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي هَارُونَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ دَخَلَ بِيَ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا جَارِيَةً، فَسَأَلْتُهَا لِمَنْ أَنْتِ‏؟‏ وَقَدْ أَعْجَبَتْنِي حِينَ رَأَيْتُهَا، فَقَالَتْ‏:‏ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَبَشَّرَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، » ثُمَّ انْتَهَى حَدِيثُ ابْنِ حُمَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ إِلَى هَهُنَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ لِأَصْحَابِهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فَقَالَ‏:‏ أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَلَمْ أَرَ رَجُلَا أَشْبَهُ بِصَاحِبِكُمْ مِنْهُ‏.‏ وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمٌ طِوَالٌ جَعْدٌ أَقْنَى، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شُنُوءَةَ‏.‏ وَأَمَّا عِيسَى فَرَجُلٌ أَحْمَرُ بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ سَبِطُ الشَّعْرِ كَثِيرُ خِيلَانِ الْوَجْهِ، كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ مَاءً، وَمَا بِهِ مَاءٌ، أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ “»‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَلَمْ يَقِلْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِالْبَرَّاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُسْرَجًا مُلْجَمًا لِيَرْكَبَهُ، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ‏:‏ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا، فَوَاللَّهِ مَا رَكِبَكَ أَحَدٌ قَطُّ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، قَالَ‏:‏ فَارْفَضَّ عَرَقًا»‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي «قَوْلِهِ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏ أُسْرِيَ بِنَبِيِ اللَّهِ عِشَاءً مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَأَرَاهُ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ وَأَمْرِهِ بِمَا شَاءَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ بِمَكَّةَ‏.‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ حُمِلْتُ عَلَى دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَحَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ بِذَلِكَ أَهْلَ مَكَّةَ، فَكَذَّبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَأَنْكَرُوهُ وَقَالُوا‏:‏ يَا مُحَمَّدُ تُخْبِرُنَا أَنَّكَ أَتَيْتَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَقْبَلَتْ مِنْ لَيْلَتِكَ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ، فَمُا كُنْتَ تَجِيئُنَا بِهِ، وَتَأْتِي بِهِ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ مَعَ هَذَا، فَصَدَّقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَسُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مِنْ أَجْلِ ذَلِك»‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ‏:‏ «لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ، دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ، تَضَعُ حَافِرُهَا عِنْدَ مُنْتَهَى ظُفْرِهَا؛ فَلَمَّا أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ أُتِيَ بِإِنَاءَيْنِ‏:‏ إِنَاءٌ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، فَشَرِبَ اللَّبَنَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَقَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ‏:‏ هُدِيتَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُك»‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ مَنْ قَالَ‏:‏ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِنَفْسِهِ وَجِسْمِهِ أُسْرِيَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَصِلْ فِيهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَنِ الْبُرَاقِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَاصِمُ ابْنُ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى‏}‏ قَالَ‏:‏ لَمْ يَصَلِ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ صَلَّى فِيهِ لِكُتُبٍ عَلَيْكُمُ الصَّلَاةُ فِيهِ، كَمَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ، وَرَجُلٌ يُحَدِّثُ عِنْدَهُ بِحَدِيثٍ حِينَ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ لَا تَجِئْ بِمِثْلِ عَاصِمٍ وَلَا زِرٍّ؛ قَالَ‏:‏ قَالَ حُذَيْفَةُ لِزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ؛ قَالَ‏:‏ وَكَانَ زِرٌّ رَجُلًا شَرِيفًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، قَالَ‏:‏ قَرَأَ حُذَيْفَةُ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ وَكَذَا قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ وَهَذَا كَمَا يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ دَخَلَ فَرَبَطَ دَابَّتَهُ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ وَاللَّهُ قَدْ دَخَلَهُ، قَالَ‏:‏ مَنْ أَنْتَ فَإِنِّي أَعْرِفُ وَجْهَكَ وَلَا أَدْرِي مَا اسْمُكَ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، قَالَ‏:‏ مَا عَمَلُكَ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ مِنْ قِبَلِ الْقُرْآنِ، قَالَ‏:‏ مَنْ أَخَذَ بِالْقُرْآنِ أَفْلَحَ، قَالَ‏:‏ فَقُلْتُ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ‏:‏ يَا أَصْلَعُ، هَلْ تَرَى دَخْلَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ لَا وَاللَّهِ، قَالَ حُذَيْفَةُ‏:‏ أَجَلْ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا دَخَلَهُ، وَلَوْ دَخَلَهُ لَوَجَبَتْ عَلَيْكُمْ صَلَاةٌ فِيهِ، لَا وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَنِ الْبُرَاقِ حَتَّى رَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ أَجْمَعَ؛ وَقَالَ‏:‏ تَدْرِي مَا الْبَرَّاقُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ دَابَّةٌ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ، خَطُّوهُ مَدُّ الْبَصَرِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ، وَلَمْ يُسِرَ بِجَسَدِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ ثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَتَبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مِسْرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ كَانَتْ رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ صَادِقَةً‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ عَائِشَة كانَتْ تَقُولُ‏:‏ مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِرُوحِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهَا الْحَسَنُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ‏}‏ وَلِقَوْلِ اللَّهِ فِي الْخَبَرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لِابْنِهِ ‏{‏يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى‏}‏ ثُمَّ مَضَى عَلَى ذَلِكَ، فَعَرَفَتْ أَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِي بِالْأَنْبِيَاءِ مِنَ اللَّهِ أَيْقَاظًا وَنِيَامًا، وَكَانَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «“ تَنَامُ عَيْنِي وَقَلْبِي يَقْظَانُ “» فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَي ذَلِكَ كَانَ قَدْ جَاءَهُ وَعَايَنَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا عَايَنَ عَلَى أَيِّ حَالَاتِهِ كَانَ نَائِمًا أَوْ يَقْظَانَ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ وَصِدْقٌ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَكَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ اللَّهَ حَمَّلَهُ عَلَى الْبُرَاقِ حِينَ أَتَاهُ بِهِ، وَصَلَّى هُنَالِكَ بِمَنْ صَلَّى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، فَأَرَاهُ مَا أَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ؛ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِمَنْ قَالَ‏:‏ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ، الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ

لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَلَا كَانَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ صِدْقِهِ فِيهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَرَى الرَّائِي مِنْهُمْ فِي الْمَنَامِ مَا عَلَى مَسِيرَةِ سَنَةٍ، فَكَيْفَ مَا هُوَ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ أَوْ أَقَلّ‏؟‏ وَبَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُ أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، وَلَيْسَ جَائِزًا لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى مَا قَالَ اللَّهُ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏ فَإِنَّ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا، كَمَا قَالَ قَائِلُهُمْ‏:‏

حَسِبْتُ بُغَامَ رَاحِلَتِي عِنَاقًا *** وَمَا هِيَ وَيْبَ غَيْرِكِ بالْعِنَاقِ

يَعْنِي‏:‏ حَسِبْتُ بِغَامَ رَاحِلَتِي صَوَّتَ عِنَاقٍ، فَحَذَفَ الصَّوْتَ وَاكْتَفَى مِنْهُ بِالْعِنَاقِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ مَفْهُومًا مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُمْ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ‏.‏ فَأَمَّا فِيمَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ إِلَّا بِظُهُورِهِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَّا بِبَيَانِهِ، فَإِنَّهَا لَا تَحْذِفُ ذَلِكَ؛ وَلَا دَلَالَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ ‏{‏أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏}‏ أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، بَلِ الْأَدِلَةُ الْوَاضِحَةُ، وَالْأَخْبَارُ الْمُتَتَابِعَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِهِ عَلَى دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ؛ وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ لَمْ تَكُنِ الرُّوحُ مَحْمُولَةً عَلَى الْبُرَاقِ، إِذْ كَانَتِ الدَّوَابُّ لَا تَحْمِلُ إِلَّا الْأَجْسَامَ‏.‏ إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا‏:‏ أَسْرَى رُوحَهُ‏:‏ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ عَلَى الْبُرَاقِ، فَيُكَذِّبُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ جَبْرَائِيلَ حَمْلَهُ عَلَى الْبُرَاقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَنَامًا عَلَى قَوْلِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ تَكُنِ الرُّوحُ عِنْدَهُ مِمَّا تَرْكَبُ الدَّوَابَّ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْبُرَاقِ جِسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ لَا جِسْمُهُ، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، وَصَارَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ كَبَعْضِ أَحْلَامِ النَّائِمِينَ، وَذَلِكَ دَفَعٌ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَمَا تَتَابَعَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ الَّذِي جَعَلَنَا حَوْلَهُ الْبَرَكَةَ لِسُكَّانِهِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ وَغُرُوسِهِمْ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ كَيْ نُرِيَ عَبْدنَا مُحَمَّدًا مِنْ آيَاتِنَا، يَقُولُ‏:‏ مَنْ عِبَرِنَا وَأَدِلَّتِنَا وَحُجَجِنَا، وَذَلِكَ هُوَ مَا قَدْ ذَكَرْتُ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْتُهَا آنِفًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيهِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعْدَ مَصِيرِهِ إِلَيْهِ مِنْ عَجَائِبِ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا‏}‏ مَا أَرَاهُ اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ فِي طَرِيقِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي مَسْرَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ غَيْرِهِمْ، الْبَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ مِنْهُ، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِهِ عِلْمًا، وَمُحْصِيهِ عَدَدًا، وَهُوَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، لِيَجْزِيَ جَمِيعَهُمْ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ‏:‏ كُسِرَتْ “ إِنَّ “ مِنْ قَوْلِهِ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ، وَقُلْ‏:‏ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وَآتَى مُوسَى الْكِتَابَ، وَرَدُّ الْكَلَامِ إِلَى ‏(‏وَآتَيْنَا‏)‏ وَقَدِ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ أَسْرَى لِمَا قَدْ ذَكَّرْنَا قَبْلُ فِيمَا مَضَى مِنْ فِعْلِ الْعَرَبِ فِي نَظَائِرَ ذَلِكَ مِنِ ابْتِدَاءِ الْخَبَرِ بِالْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، ثُمَّ الرُّجُوعِ إِلَى الْخِطَابِ وَأَشْبَاهِهِ‏.‏ وَعَنَى بِالْكِتَابِ الَّذِي أُوتِيَ مُوسَى‏:‏ التَّوْرَاةَ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَجَعْلُنَا الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ بَيَانًا لِلْحَقِّ، وَدَلِيلًا لَهُمْ عَلَى مَحَجَّةِ الصَّوَابِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةَ ‏{‏أَلَّا تَتَّخِذُوا‏}‏ بِالتَّاءِ بِمَعْنَى‏:‏ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ بِأَنْ لَا تَتَّخِذُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏{‏مِنْ دُونِي وَكِيلًا‏}‏‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ ‏{‏أَلَّا يَتَّخِذُوا‏}‏ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِمَعْنَى‏:‏ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، أَلَّا يَتَّخِذَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ دُونِي وَكَيَّلَا وَهُمَا قِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، مُتَّفِقَتَانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبُ الصَّوَابَ، غَيْرُ أَنِّي أُوثِرُ الْقِرَاءَةَ بِالتَّاءِ، لِأَنَّهَا أَشْهَرُ فِي الْقِرَاءَةِ وَأَشَدُّ اسْتِفَاضَةٍ فِيهِمْ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِالْيَاءِ‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هَدَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا حَفِيظًا لَكُمْ سِوَايَ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْوَكِيلِ فِيمَا مَضَى‏.‏ وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ‏:‏ مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ الشَّرِيكُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا‏}‏ قَالَ‏:‏ شَرِيكًا‏.‏

وَكَأَنَّ مُجَاهِدًا جَعْلَ إِقَامَةَ مَنْ أَقَامَ شَيْئًا سِوَى اللَّهِ مَقَامَهُ شَرِيكًا مِنْهُ لَهُ، وَوَكِيلًا لِلَّذِي أَقَامَهُ مَقَامَ اللَّهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلِهِ ‏{‏وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ هُدًى، يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هَدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ذُرِّيَّةَ مِنْ حَمْلِنَا مَعَ نُوحٍ‏.‏ وَعَنَى بِالذَّرِّيَّةِ‏:‏ جَمِيعَ مَنِ احْتَجَّ عَلَيْهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذَا الْقُرْآنِ مِنْ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ، عَرِبِهِمْ وَعَجِمِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَّلَهُ اللَّهُ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ ذَرِّيَّةُ مَنْ أَنْجَى اللَّهُ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ مَا نَجَا فِيهَا يَوْمئِذٍ غَيْرَ نُوحٍ وَثَلَاثَةَ بَنِينَ لَهُ، وَامْرَأَتَهُ وَثَلَاثَ نِسْوَةٍ، وَهُمْ‏:‏ سَامُ، وَحَامُ، وَيَافِثُ؛ فَأَمَّا سَامُ‏:‏ فَأَبُو الْعَرَبِ؛ وَأَمَّا حَامُ‏:‏ فَأَبُو الْحَبَشِ؛ وَأَمَّا يَافِثُ‏:‏ فَأَبُو الرُّومِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ بَنُوهُ ثَلَاثَةٌ وَنِسَاؤُهُمْ، وَنُوحٌ وَامْرَأَتُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَا ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ بَنُوهُ وَنِسَاؤُهُمْ وَنُوحٌ، وَلَمْ تَكُنِ امْرَأَتُهُ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ “ إِنَّهُ “ إِنَّ نُوحًا، وَالْهَاءُ مِنْ ذِكْرِ نُوحٍ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَجْلِهِ شَكُورًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ سَمَّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ إِذَا طَعِمَهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي، قَالَا ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ‏:‏ كَانَ نُوحٌ إِذَا لَبِسَ ثُوِّبَا أَوْ أَكَلَ طَعَامَا حَمِدَ اللَّهَ، فَسُمِّيَ عَبْدًا شَكُورًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْعُودٍ بِمَثْلِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ‏:‏ مَا لَبِسَ نُوحٌ جَدِيدًا قَطُّ، وَلَا أَكَلَ طَعَامًا قَطُّ إِلَّا حَمدَ اللَّهَ فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ ‏{‏عَبْدًا شَكُورًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ ثَنِي سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا أَنَّهُ كَانَ إِذَا لَبِسَ ثُوِّبَا حَمدَ اللَّهَ، وَإِذَا أُكِلَ طَعَامَا حَمَدَ اللَّهَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يُجَدِّدْ ثَوْبًا قَطُّ إِلَّا حَمِدَ اللَّهَ، وَلَمْ يُبْلِ ثَوْبًا قَطُّ إِلَّا حَمِدَ اللَّهَ، وَإِذَا شَرِبَ شَرْبَةً حَمِدَ اللَّهَ، قَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَقَانِيهَا عَلَى شَهْوَةٍ وَلَذَّةٍ وَصِحَّةٍ، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَإِذَا شَرِبَ شَرْبَةً قَالَ هَذَا، وَلَكِنْ بَلَغَنِي ذَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو فَضَالَّةَ، عَنِ النَّضِرِ بْنِ شفِيِّ، عَنْ عُمْرَانَ بْنِ سَلِيمٍ، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَكَلَ الطَّعَامَ قَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي، وَلَوْ شَاءَ أَجَاعَنِي وَإِذَا شَرِبَ قَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَقَانِي، وَلَوْ شَاءَ أَظْمَأَنِي، وَإِذَا لَبِسَ ثَوْبًا قَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي، وَلَوْ شَاءَ أَعَرَانِي، وَإِذَا لَبِسَ نَعْلًا قَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَذَّانِي، وَلَوْ شَاءَ أَحْفَانِي، وَإِذَا قَضَى حَاجَّةً قَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ عَنِّي أَذَاهُ، وَلَوْ شَاءَ حَبْسَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَهُ، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ نُوحًا عَبْدًا شَكُورًا، أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ الْبُرَازُ مِنْهُ قَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَوَّغَنِيكَ طَيِّبًا، وَأَخْرَجَ عَنَى أَذَاكَ، وَأَبْقَى مَنْفَعَتَكَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ اللَّهُ لِنُوحٍ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَجِدَّ ثَوْبًا قَطُّ إِلَّا حَمِدَ اللَّهِ، وَكَانَ يَأْمُرُ إِذَا اسْتَجَدَّ الرَّجُلُ ثَوْبًا أَنْ يَقُولَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أَتَجَمَّلُ بِهِ، وَأُوَارِى بِهِ عَوْرَتِي‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ إِذَا لَبِسَ ثَوْبًا قَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِذَا أَخْلَقَهُ قَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا‏}‏‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ مَعْنَى الْقَضَاءِ‏:‏ الْفَرَاغُ مِنَ الشَّيْءِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَفْرُوغٍ مِنْهُ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ وَفَرَغَ رَبُّكَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ عَلَى مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ، وَإِخْبَارِهِ لَهُمْ

‏{‏لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَتَعْصُنَّ اللَّهَ يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَتُخَالِفُنَّ أَمْرَهُ فِي بِلَادِهِ مَرَّتَيْنِ ‏{‏وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَتَسْتَكْبِرُنَّ عَلَى اللَّهِ بِاجْتِرَائِكُمْ عَلَيْهِ اسْتِكْبَارًا شَدِيدًا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَعْلَمْنَاهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَعْلَمْنَاهُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَقَضَيْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَسَابِقِ عِلْمِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ قَضَاءٌ مَضَى عَلَيْهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ قَضَاءً قَضَاهُ عَلَى الْقَوْمِ كَمَا تَسْمَعُونَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَخْبَرَنَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَعُودُ مَعَانِيهَا إِلَى مَا قُلْتُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ‏(‏وَقَضَيْنَا‏)‏ وَإِنْ كَانَ الَّذِي اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِيهِ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ لِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏(‏لَتُفْسِدُنَّ‏)‏ بِالتَّاءِ دُونَ الْيَاءِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَقَضَيْنَا عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ، لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ أَوْلَى مِنْهَا بِالتَّاءِ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ لَمَّا كَانَ أَعْلَمْنَاهُمْ وَأَخْبَرْنَاهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ‏:‏ كَانَتِ التَّاءُ أَشْبَهَ وَأُولَى لِلْمُخَاطَبَةِ‏.‏

وَكَانَ فَسَادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَرْضِ الْمَرَّةَ الْأَوْلَى مَا حَدَّثَنِي بِهِ هَارُونُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ ‏{‏لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ‏}‏ فَكَانَ أَوَّلُ الْفَسَادَيْنِ‏:‏ قَتَلُ زَكَرِيَّا، فَبَعْثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ النَّبَطِ، وَكَانَ يُدْعَى صَحَابِينُ فَبَعْثَ الْجُنُودَ، وَكَانَ أَسَاوِرَتُهُ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، فَهَمُّ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، فَتَحَصَّنَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَخَرَجَ فِيهِمْ بُخْتَنصَّرُ يَتِيمًا مِسْكِينًا، إِنَّمَا خَرَجَ يَسْتَطْعِمُ، وَتَلَطَّفَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَأَتَى مَجَالِسَهُمْ، فَسَمِعَهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ لَوْ يَعْلَمُ عَدُوُّنَا مَا قُذِفَ فِي قُلُوبِنَا مِنَ الرُّعْبِ بِذُنُوبِنَا مَا أَرَادُوا قِتَالَنَا، فَخَرَجَ بُخْتَنصَّرُ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِيَامُ عَلَى الْجَيْشِ، فَرَجَعُوا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا‏}‏ ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَجَهَّزُوا، فَغَزَوَا النَّبَطَ، فَأَصَابُوا مِنْهُمْ وَاسْتَنْقَذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ عَدَدًا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ كَانَ إِفْسَادُهُمُ الَّذِي يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ‏:‏ قَتْلُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَابُورَ ذَا الْأَكْتَافِ مَلِكًا مَنْ مُلُوكِ فَارِسَ، مِنْ قَتْلِ زَكَرِيَّا، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُخْتَنصَّرَ مِنْ قَتْلِ يَحْيَى‏.‏

حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ رُوَّادِ بْنِ الْجِرَاحِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ رَبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ يَقُولُ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «“ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا اعْتَدَوْا وَعَلَوْا، وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ فَارِسَ بُخْتَنصَّرَ، وَكَانَ اللَّهُ مَلَّكَهُ سَبْعَ مِئَةِ سَنَةٍ، فَسَارِ إِلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهَا وَفَتَحَهَا، وَقَتَلَ عَلَى دَمِ زَكَرِيَّا سَبْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ سَبَى أَهْلَهَا وَبَنِي الْأَنْبِيَاءِ، وَسَلَبَ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعِينَ أَلْفًا وَمِئَةَ أَلْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلَيٍّ حَتَّى أَوْرَدَهُ بَابِلَ، قَالَ حُذَيْفَةُ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَجَلْ بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَدُرٍّ وَيَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ، وَكَانَ بَلَاطُهُ، بَلَاطَةً مِنْ ذَهَبٍ وَبَلَاطَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَعُمُدُهُ ذَهَبًا، أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ، وَسَخَّرَ لَهُ الشَّيَاطِينَ يَأْتُونَهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَسَارَ بُخْتَنصَّرُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى نَزَلَ بِهَا بَابِلَ، فَأَقَامَ بَنُوا إِسْرَائِيلَ فِي يَدَيْهِ مِئَةَ سَنَةٍ تُعَذِّبُهُمُ الْمَجُوسُ وَأَبْنَاءُ الْمَجُوسِ، فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَبْنَاءُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ رَحِمَهُمْ، فَأَوْحَى إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ كُورَسُ، وَكَانَ مُؤْمِنًا، أَنْ سِرْ إِلَى بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى تَسْتَنْقذَهُمْ، فَسَارَ كُورَسُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَحُلِيِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَأَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُطِيعِينَ لِلَّهِ مِئَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَادُوا فِي الْمَعَاصِي، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمِ ابْطَيَا نْحُوسَ فَغَزَا بِأَبْنَاءِ مَنْ غَزَا مَعَ بُخْتَنصَّرَ، فَغَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَتَاهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَسَبَى أَهْلَهَا، وَأَحْرَقَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ لَهُمْ‏:‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْ عُدْتُمْ فِي الْمَعَاصِي عُدْنَا عَلَيْكُمْ بِالسِّبَاءِ، فَعَادُوا فِي الْمَعَاصِي، فَسَيَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السِّبَاءَ الثَّالِثَ مَلِكَ رُومِيَّةَ، يُقَالُ لَهُ قَاقِسُ بْنُ إسْبَايُوسَ، فَغَزَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَسَبَاهُمْ وَسَبَى حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَحْرَقَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِالنِّيرَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ هَذَا مِنْ صَنْعَةِ حُلِيِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَرُدُّهُ الْمَهْدِيُّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ أَلْفُ سَفِينَةٍ وَسَبْعُ مِئَةِ سَفِينَةٍ، يُرْسَى بِهَا عَلَى يَافَا حَتَّى تُنْقَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبِهَا يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ “»‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ كَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى فِي خَبَرِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي أَحْدَاثِهِمْ مَا هُمْ فَاعِلُونَ بَعْدَهُ، فَقَالَ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ فَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَفِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالذُّنُوبُ، وَكَانَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مُتَجَاوِزًا عَنْهُمْ، مُتَعَطِّفًا عَلَيْهِمْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزِلَ بِهِمْ فِي ذُنُوبِهِمْ مَا كَانَ قَدِمَ إِلَيْهِمْ فِي الْخَبَرِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى مِمَّا أُنْزِلَ بِهِمْ فِي ذُنُوبِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ بِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْوَقَائِعِ، أَنَّ مَلِكًا مِنْهُمْ كَانَ يُدْعَى صديقة، وَكَانَ اللَّهُ إِذَا مَلَّكَ الْمَلِكَ عَلَيْهِمْ، بَعَثَ نَبِيًّا يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ، وَيَكُونُ فِيمَا بَيَّنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَيُحَدِّثُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِهِمْ، لَا يُنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ، إِنَّمَا يُؤْمَرُونَ بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي فِيهَا، وَيُنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى مَا تَرَكُوا مِنَ الطَّاعَةِ؛ فَلَمَّا مَلَكَ ذَلِكَ الْمَلِكُ، بَعَثَ اللَّهُ مَعَهُ شعياءُ بْنُ أَمصيَا وَذَلِكَ قَبْلَ مَبْعَثِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَشَعْيَاءُ الَّذِي بَشَّرَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ، فَمَلِكَ ذَلِكَ الْمَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَيْتَ الْمُقَدَّسِ زَمَانًا؛ فَلَمَّا انْقَضَى مِلْكَهُ عَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، وَشَعْيَاءُ مَعَهُ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سنحاريبَ مَلِكَ بَابِلَ، وَمَعَهُ سِتُّ مِئَةِ أَلْفِ رَايَةٍ، فَأَقْبَلَ سَائِرًا حَتَّى نَزَلَ نَحْو بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْمَلِكُ مَرِيضٌ، فِي سَاقِهِ قُرْحَةٌ، فَجَاءَ النَّبِيُّ شَعْيَاءُ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ يَا مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ سنحاريبَ مَلِكَ بَابِلَ، قَدْ نَزَلَ بِكَ هُوَ وَجُنُودُهُ سِتُّ مِئَةِ أَلْفِ رَايَةٍ، وَقَدْ هَابَهُمُ النَّاسُ وَفُرِّقُوا مِنْهُمْ، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَلْ أَتَاكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ فِيمَا حَدَثَ، فَتُخْبِرُنَا بِهِ كَيْفَ يَفْعَلُ اللَّهُ بِنَا وَبسنحاريبَ وَجُنُودِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ لَمْ يَأْتِنِي وَحْيٌ أَحْدَثَ إِلَيَّ فِي شَأْنِكَ، فَبَيَّنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شعيَاءَ النَّبِيَّ‏:‏ أَنِ ائْتِ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمُرْهُ أَنْ يُوصِيَ وَصِيتَّهُ، وَيَسْتَخْلِفَ عَلَى مُلْكِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ‏.‏ فَأَتَى النَّبِيُّ شُيَعَاءُ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ صديقةَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ إِنَّ رَبَّكَ قَدْ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُوصِيَ وَصِيَّتَكَ، وَتَسْتَخْلِفَ مَنْ شِئْتَ عَلَى مُلْكِكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ؛ فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ شعياءُ لِصديقةَ، أَقْبَلَ عَلَى الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى وَسَبَّحَ وَدَعَا وَبَكَى، فَقَالَ وَهُوَ يَبْكِي وَيَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ بِقَلْبٍ مُخَلِصٍ وَتَوَكُّلٍ وَصَبْرٍ وَصِدْقٍ وَظَنٍّ صَادِقٍ، اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَرْبَابِ، وَإِلَهَ الْآلِهَةِ، قُدُّوسَ الْمُتَقَدِّسِينَ، يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ، الْمُتَرَحِّمُ الرَّءُوفُ الَّذِي لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، اذْكُرْنِي بِعَمَلِي وَفِعْلِي وَحُسْنِ قَضَائِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ كُلُّهُ كَانَ مِنْكَ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي؛ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي لَكَ، وَإِنَّ الرَّحْمَنَ اسْتَجَابَ لَهُ وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى شعياءَ أَنْ يُخْبِرَ صديقةَ الْمَلِكَ أَنَّ رَبَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ وَرَحِمَهُ، وَقَدْ رَأَى بُكَاءَهُ، وَقَدْ أَخَّرَ أَجْلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَنْجَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ سنحاريبَ مَلِكِ بَابِلَ وَجُنُودِهِ، فَأَتَى شعياءُ النَّبِيُّ إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ذَهَبَ عَنْهُ الْوَجَعُ،

وَانْقَطَعَ عَنْهُ الشَّرُّ وَالْحُزْنُ وَخَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ‏:‏ يَا إِلَهِي وَإِلَهَ آبَائِي، لَكَ سَجَدْتُ وَسَبَّحْتُ وَكَرَّمْتُ وَعَظَّمْتُ، أَنْتَ الَّذِي تُعْطِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزَعُهُ مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، وَأَنْتَ تَرْحَمُ وَتَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّينَ، أَنْتِ الَّذِي أَجَبْتَ دَعْوَتِي وَرَحِمْتَ تَضَرُّعِي؛ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شعياءَ أَنْ قُلْ لِلْمَلِكِ صديقةَ فَيَأْمُرُ عَبْدًا مِنْ عُبَيْدِهِ بِالتِّينَةِ، فَيَأْتِيهِ بِمَاءِ التِّينِ فَيَجْعَلُهُ عَلَى قُرْحَتِهِ فَيُشْفَى، وَيُصْبِحُ وَقَدْ بَرَّأَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَشُفِيَ، وَقَالَ الْمَلِكُ لِشعيَاءَ النَّبِيِّ‏:‏ سَلْ رَبَّكَ أَنَّ يَجْعَلَ لَنَا عِلْمًا بِمَا هُوَ صَانِعٌ بِعَدُوِّنَا هَذَا، قَالَ‏:‏ فَقَالَ اللَّهُ لِشعيَاءَ النَّبِيِّ‏:‏ قُلْ لَهُ‏:‏ إِنِّي قَدْ كَفَيْتُكَ عَدُوَّكَ، وَأَنْجَيْتُكَ مِنْهُ، وَإِنَّهُمْ سَيُصْبِحُونَ مَوْتَى كُلُّهُمْ إِلَّا سَنَحَاريبَ وَخَمْسَةً مِنْ كِتَابِهِ؛ فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَاءَهُمْ صَارِخٌ يُنْبِئُهُمْ، فَصَرَخَ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ‏:‏ يَا مَلَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَاكَ عَدُوَّكَ فَاخْرُجْ، فَإِنَّ سنحاريبَ وَمِنْ مَعَهُ قَدْ هَلَكُوا؛ فَلَمَّا خَرَجَ الْمَلِكُ الْتَمَسَ سنحاريبَ، فَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمَوْتَى، فَبَعَثَ الْمَلِكُ فِي طَلَبِهِ، فَأُدْرِكُهُ الطَّلَبُ فِي مَغَارَةٍ وَخَمْسَةً مِنْ كُتَّابِهِ، أَحَدُهُمْ بُخْتَنصَّرُ، فَجَعَلُوهُمْ فِي الْجَوَامِعِ، ثُمَّ أَتَوْا بِهِمْ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فَلَمَّا رَآهُمْ خَرَّ سَاجِدًا مِنْ حِينِ طَلَعَتِ الشَّمْسُ حَتَّى كَانَتِ الْعَصْرَ، ثُمَّ قَالَ لسنحاريبَ‏:‏ كَيْفَ تَرَى فِعْلَ رَبِّنَا بِكُمْ‏؟‏ أَلَمْ يَقْتِلْكُمْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ‏؟‏ فَقَالَ سنحاريبُ لَهُ‏:‏ قَدْ أَتَانِي خَبَرَ رَبّكُمْ، وَنَصَرَهُ إِيَّاكُمْ، وَرَحْمَتَهُ الَّتِي رَحِمَكُمْ بِهَا قَبْلَ أَنْ أَخْرَجَ مِنْ بِلَادِي، فَلَمْ أُطِعْ مُرْشِدًا، وَلَمْ يُلْقَنِي فِي الشِّقْوَةِ إِلَّا قِلَّةُ عَقْلِي، وَلَوْ سَمِعْتُ أَوْ عَقِلْتُ مَا غَزَوْتُكُمْ، وَلَكِنَّ الشِّقْوَةَ غَلَبَتْ عَلَيَّ وَعَلَى مَنْ مَعِي، فَقَالَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ الْعِزَّةِ الَّذِي كَفَانَاكُمْ بِمَا شَاءَ، إِنَّ رَبَّنَا لَمْ يُبْقِكَ وَمِنْ مَعَكَ لِكَرَامَةٍ بِكَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا أَبْقَاكَ وَمِنْ مَعَكَ لِمَا هُوَ شَرُّ لَكِ، لِتَزْدَادُوا شِقْوَةً فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابًا فِي الْآخِرَةِ، وَلِتُخْبِرُوا مِنْ وَرَاءَكُمْ بِمَا لَقِيتُمْ مِنْ فِعْلِ رَبِّنَا، وَلِتُنْذِرُوا مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَبْقَاكُمْ، فَلَدَمُكَ وَدَمُ مَنْ مَعَكَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ قُرَادٍ لَوْ قَتَلْتُهُ، ثُمَّ إِنْ مَلَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمْرَ أَمِيرَ حَرَسِهِ، فَقَذَفَ فِي رِقَابِهِمُ الْجَوَامِعَ، وَطَافَ بِهِمْ سَبْعِينَ يَوْمًا حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِيلِيَا، وَكَانَ يَرْزُقُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ خُبْزَتَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ سنحاريبُ لِمَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ الْقَتْلُ خَيْرٌ مِمَّا يُفْعَلُ بِنَا، فَافْعَلْ مَا أَمَرَّتْ، فَنَقَلَ بِهَمِّ الْمَلِكُ إِلَى سِجْنِ الْقَتْلِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى شعيَاءَ النَّبِيِّ أَنْ قُلْ لِمَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرْسِلُ سنحاريبَ وَمِنْ مَعَهُ لِيُنْذِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَلِيُكْرِمَهُمْ وَيَحْمِلَهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوا بِلَادَهُمْ؛ فَبَلَّغَ النَّبِيُّ شعياءُ الْمَلِكَ ذَلِكَ، فَفَعَلَ، فَخَرَجَ سنحاريبُ وَمِنْ مَعَهُ حَتَّى قَدَّمُوا بَابِل؛ فِلْمًا قَدَّمُوا جَمْعَ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُمْ كَيْفَ فَعَلَ اللَّهُ بِجُنُودِهِ، فَقَالَ لَهُ كُهَّانُهُ وَسَحَرَتُهُ‏:‏ يَا مَلَكَ بَابِلَ قَدْ كُنَّا نَقُصُّ عَلَيْكَ خَبَرَ رَبِّهِمْ وَخَبَرَ نَبِيِّهِمْ، وَوَحْي اللَّهِ إِلَى نَبِيِّهِمْ، فَلَمْ تُطِعْنَا، وَهِيَ أُمَّةٌ لَا يَسْتَطِيعُهَا أَحَدٌ مَعَ رَبِّهِمْ، فَكَانَ أَمْرُ سنحاريبَ مِمَّا خُوِّفُوا، ثُمَّ كَفَاهُمُ اللَّهُ تَذْكِرَةً وَعِبْرَةً، ثُمَّ لَبِثَ سنحاريبُ بُعْدَ ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَاتَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ لِمَا مَاتَ سنحاريبُ اسْتَخْلَفَ بُخْتَنَصَّرَ ابْنَ ابْنِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ جَدُّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ، وَيَقْضِي بِقَضَائِهِ، فَلَبِثَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً‏.‏ ثُمَّ قَبَضَ اللَّهُ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ صديقةَ؛ فَمَرَجَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَنَافَسُوا الْمُلْكَ، حَتَّى قَتْلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، وَنَبِيُّهُمْ شعياءُ مَعَهُمْ لَا يُذْعِنُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ؛ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ فِيمَا بَلَغْنَا لشعياءَ‏:‏ قُمْ فِي قَوْمِكَ أُوحِ عَلَى لِسَانِكَ؛ فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ أَطْلَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ بِالْوَحْي فَقَالَ‏:‏ يَا سَمَاءُ اسْتَمِعِي، وَيَا أَرْضُ أَنْصِتِي، فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَقُصَّ شَأْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ رَبَّاهُمْ بِنِعْمَتِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ لِنَفْسِهِ، وَخَصَّهُمْ بِكَرَامَتِهِ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى عِبَادِهِ، وَفَضَّلَهُمْ بِالْكَرَامَةِ، وَهُمْ كَالْغَنَمِ الضَّائِعَةِ الَّتِي لَا رَاعِيَ لَهَا، فَآوَى شَارِدَتَهَا، وَجَمْعَ ضَالَّتَهَا، وَجَبَرَ كَسَيْرِهَا، وَدَاوَى مَرِيضَهَا، وَأَسَمَنَ مَهْزُولَهَا، وَحَفِظَ سَمِينَهَا؛ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بَطِرَتْ، فَتَنَاطَحَتْ كِبَاشُهَا فَقَتَلَ بَعْضُهَا بَعْضًا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا عَظْمٌ صَحِيحٌ يُجْبَرُ إِلَيْهِ آخَرُ كَسِيرٌ، فَوَيْلٌ لِهَذِهِ الْأَمُّةِ الْخَاطِئَةِ، وَوَيْلٌ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْخَاطِئِينَ الَّذِينَ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ جَاءَهُمُ الْحِينُ‏.‏ إِنَّ الْبَعِيرَ رُبَّمَا يَذْكَرُ وَطَنَهُ فَيَنْتَابُهُ، وَإِنَّ الْحِمَارَ رُبَّمَا يَذْكَرُ الآرَيَّ الَّذِي شَبِعَ عَلَيْهِ فَيُرَاجِعُهُ، وَإِنَّ الثَّوْرَ رُبَّمَا يَذْكَرُ الْمَرَجَ الَّذِي سَمِنَ فِيهِ فَيَنْتَابُهُ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَا يَدْرُونَ مِنْ حَيْثُ جَاءَهُمُ الْحِينُ، وَهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ وَالْعُقُولِ، لَيْسُوا بِبَقَرٍ وَلَا حَمِيرٍ، وَإِنِّي ضَارِبٌ لَهُمْ مَثَلًا فَلْيَسْمَعُوهُ‏:‏ قُلْ لَهُمْ‏:‏ كَيْفَ تَرَوْنَ فِي أَرْضٍ كَانَتْ خَوَاءَ زَمَانًا، خَرِبَةً مَوَاتًا لَا عُمْرَانَ فِيهَا، وَكَانَ لَهَا رَبٌّ حَكِيمٌ قَوِيٌّ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا بِالْعِمَارَةِ، وَكُرِهَ أَنْ تُخَرَّبَ أَرْضَهُ وَهُوَ قَوِيٌّ، أَوْ يُقَالُ ضَيَّعَ وَهُوَ حَكِيمٌ، فَأَحَاطَ عَلَيْهَا جِدَارًا، وَشَيَّدَ فِيهَا قَصَّرَا، وَأَنْبَطَ فِيهَا نَهْرًا، وَصَفَّ فِيهَا غِرَاسًا مِنَ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَأَلْوَانَ الثِّمَارِ كُلَّهَا، وَوَلَّى ذَلِكَ وَاسْتَحْفَظَهُ فِيمَا ذَا رَأْيٍ وَهِمَّةٍ، حَفِيظًا قَوِيًّا أَمِينًا، وَتَأَنَّى طَلْعُهَا وَانْتَظَرَهَا؛ فَلَمَّا أَطْلَعَتْ جَاءَ طَلْعُهَا خَرُّوبًا، قَالُوا‏:‏ بِئْسَتِ الْأَرْضُ هَذِهِ، نَرَى أَنْ يُهْدَمَ جُدْرَانُهَا وَقَصْرُهَا، وَيُدْفَنَ نَهْرُهَا، وَيُقْبَضَ قِيَمُهَا، وَيُحْرَقَ غِرَاسُهَا حَتَّى تَصِيرَ كَمَا كَانَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، خَرِبَةً مَوَاتًا لَا عُمْرَانَ فِيهَا، قَالَ اللَّهُ لَهُمْ‏:‏ فَإِنَّ الْجِدَارَ ذِمَّتِي، وَإِنَّ الْقَصْرَ شَرِيعَتِي، وَإِنَّ النَّهْرَ كِتَابِي، وَإِنَّ الْقَيِّمَ نَبِيِّي، وَإِنَّ الْغِرَاسَ هُمْ، وَإِنَّ الْخَرُّوبَ الَّذِي أَطْلَعَ الْغِرَاسَ أَعْمَالُهُمُ الْخَبِيثَةُ، وَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ عَلَيْهِمْ قَضَاءَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّهُ مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لَهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيَّ بِذَبْحِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلَيْسَ يَنَالُنِي اللَّحْمَ وَلَا آكُلُهُ، وَيَدَّعُونَ أَنْ يَتَقَرَّبُوا بِالتَّقْوَى وَالْكَفِّ عَنْ ذَبْحِ الْأَنْفُسِ الَّتِي حَرَمْتُهَا، فَأَيْدِيهُمْ مَخْضُوبَةٌ مِنْهَا، وَثِيَابُهُمْ مُتَزَمِّلَةٌ بِدِمَائِهَا، يُشَيِّدُونَ لِي الْبُيُوتَ مَسَاجِدَ، وَيُطَهِّرُونَ أَجْوَافَهَا، وَيُنَجِّسُونَ قُلُوبَهُمْ وَأَجْسَامَهُمْ وَيُدَنِّسُونَهَا، وَيُزَوِّقُونَ لِي الْبُيُوتَ وَالْمَسَاجِدَ وَيُزَيِّنُونَهَا، وَيُخَرِّبُونَ عُقُولَهُمْ وَأَحْلَامَهُمْ وَيُفْسِدُونَهَا، فَأَيُّ حَاجَةٍ لِي إِلَى تَشْيِيدِ الْبُيُوتِ وَلَسْتُ أَسْكُنُهَا، وَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى تَزْوِيقِ الْمَسَاجِدِ وَلَسْتُ أَدْخُلُهَا، إِنَّمَا أَمَرْتُ بِرَفْعِهَا لِأُذْكَرَ فِيهَا وَأُسَبَّحَ فِيهَا، وَلِتَكُونَ مُعَلِّمًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا، يَقُولُونَ‏:‏ لَوْ كَانَ اللَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ أَلِفَتْنَا لِجَمْعَهَا، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُفَقِّهَ قُلُوبَنَا لَأَفْقَهَهَا، فَاعْمَدْ إِلَى عُودَيْنِ يَابِسَيْنِ، ثُمَّ ائْتِ بِهِمَا نَادِيهِمَا فِي أَجْمَعَ مَا يَكُونُونَ، فَقُلْ لِلْعُودَيْنِ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمَا أَنْ تَكُونَا عُودًا وَاحِدًا، فَلَمَّا قَالَ لَهُمَا ذَلِكَ، اخْتَلَطَا فَصَارَا وَاحِدًا، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ قُلْ لَهُمْ‏:‏ إِنِّي قَدَرْتُ عَلَى أُلْفَةِ الْعِيدَانِ الْيَابِسَةِ وَعَلَى أَنْ أُوَلِّفَ بَيْنَهَا، فَكَيْفَ لَا أَقْدِرُ عَلَى أَنَّ أَجْمَعَ أُلْفَتَهُمْ إِنْ شِئْتُ، أَمْ كَيْفَ لَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أُفَقِّهَ قُلُوبَهُمْ، وَأَنَا الَّذِي صَوَّرْتُهَا؛ يَقُولُونَ‏:‏ صُمْنَا فَلَمْ يُرْفَعْ صِيَامُنَا، وَصَلَّيْنَا فَلَمْ تُنَوَّرْ صَلَاتُنَا، وَتَصَدَّقْنَا فَلَمْ تُزَكَّ صَدَقَاتُنَا، وَدَعَوْنَا بِمِثْلِ حَنِينِ الْحَمَامِ، وَبَكَيْنَا بِمِثْلِ عُوَاءِ الذِّئْبِ، فِي كُلِّ ذَلِكَ لَا نُسْمَعُ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَنَا؛ قَالَ اللَّهُ‏:‏ فَسَلْهُمْ مَا الَّذِي يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْتَجِيبَ لَهُمْ، أَلَسْتُ أَسْمَعَ السَّامِعِينَ، وَأَبْصَرَ النَّاظِرِينَ، وَأَقْرَبَ الْمُجِيبِينَ، وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ‏؟‏ أَلْآنَ ذَاتُ يَدَيْ قَلَّتْ، كَيْفَ وَيَدَايَ مَبْسُوطَتَانِ بِالْخَيْرِ، أُنْفِقُ كَيْفَ أَشَاءُ، وَمَفَاتِيحُ الْخَزَائِنِ عِنْدِي لَا يَفْتَحُهَا وَلَا يُغْلِقُهَا غَيْرِي، أَلَّا وَإِنَّ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّمَا يَتَرَاحَمُ الْمُتَرَاحِمُونَ بِفَضْلِهَا؛ أَوْ لِأَنَّ الْبُخْلَ يَعْتَرِينِي، أَوَلَسْتُ أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَالْفَتَّاحَ بِالْخَيِّرَاتِ، أَجْوَدَ مَنْ أَعْطَى، وَأَكْرَمَ مَنْ سُئِلَ؛ لَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي نَوَّرَتْ فِي قُلُوبِهِمْ فَنَبَذُوهَا، وَاشْتَرَوْا بِهَا الدُّنْيَا، إِذَنْ لَأَبْصَرُوا مِنْ حَيْثُ أَتَوْا، وَإِذَنْ لَأَيْقَنُوا أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ أَعْدَى الْعُدَاةِ لَهُمْ، فَكَيْفَ أَرْفَعُ صِيَامَهُمْ وَهُمْ يَلْبَسُونَهُ بِقَوْلِ الزُّورِ، وَيَتَقَوُّونَ عَلَيْهِ بِطُعْمَةِ الْحَرَامِ، وَكَيْفَ أُنَوِّرُ صَلَاتَهُمْ، وَقُلُوبُهُمْ صَاغِيَةٌ إِلَى مَنْ يُحَارِبُنِي وَيُحَادُّنِي، وَيَنْتَهِكُ مَحَارِمِي، أَمْ كَيْفَ تَزْكُو عِنْدِي صَدَقَاتُهُمْ وَهُمْ يَتَصَدَّقُونَ بِأَمْوَالِ غَيْرِهِمْ، أَوْ جَر عَلَيْهَا أَهْلَهَا الْمَغْصُوبِينَ، أَمْ كَيْفَ أَسْتَجِيبُ لَهُمْ دُعَاءَهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالْفِعْلُ مِنْ ذَلِكَ بَعِيدٌ، وَإِنَّمَا أَسْتَجِيبُ لِلدَّاعِي اللَّيِّنِ، وَإِنَّمَا أَسْمَعُ مِنْ قَوْلِ الْمُسْتَضْعَفِ الْمِسْكِينِ، وَإِنَّ مِنْ عَلَامَةِ رِضَايَ رِضَا الْمَسَاكِينِ، فَلَوْ رَحِمُوا الْمَسَاكِينَ، وَقَرَّبُوا الضُّعَفَاءَ، وَأَنْصَفُوا الْمَظْلُومَ، وَنَصَرُوا الْمَغْصُوبَ، وَعَدَلُوا لِلْغَائِبِ، وَأَدَّوْا إِلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ، وَكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، ثُمَّ لَوْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُكَلِّمَ الْبَشَرَ إِذَنْ لَكَلَّمْتُهُمْ، وَإِذَنْ لَكُنْتُ نُورَ أَبْصَارِهِمْ، وَسَمْعَ آذَانِهِمْ، وَمَعْقُولَ قُلُوبِهِمْ، وَإِذَنْ لَدَعَّمْتُ أَرْكَانَهُمْ، فَكُنْتُ قُوَّةَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، وَإِذَنْ لَثَبَّتُّ أَلْسِنَتَهُمْ وَعُقُولَهُمْ، يَقُولُونَ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامِي، وَبَلَّغَتْهُمْ رِسَالَاتِي بِأَنَّهَا أَقَاوِيلُ مَنْقُولَةٌ، وَأَحَادِيثُ مُتَوَارَثَةٌ، وَتَآلِيفُ مِمَّا تُؤَلِّفُ السَّحَرَةُ وَالْكَهَنَةُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَوْ شَاءُوا أَنْ يَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فَعَلُوا، وَأَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى الْغَيْبِ بِمَا تُوحِي إِلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ طَلَعُوا، وَكُلُّهُمْ يَسْتَخْفِي بِالَّذِي يَقُولُ وَيُسِرُّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَعْلَمُ مَا يَبْدُونَ وَمَا يَكْتُمُونَ، وَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَضَاءً أَثْبَتُّهُ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلَتُ دُونَهُ أَجَلًا مُؤَجَّلًا لَا بُدَّ أَنَّهُ وَاقِعٌ، فَإِنْ صَدَقُوا بِمَا يَنْتَحِلُونَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَلْيُخْبِرُوكَ مَتَى أُنَفِّذُهُ، أَوْ فِي أَيِّ زَمَانٍ يَكُونُ، وَإِنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمَا يَشَاءُونَ، فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِ الْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا أَمْضَيْتُ، فَإِنِّي مُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا مَا يَشَاءُونَ فَلْيُؤَلِّفُوا مِثْلَ الْحِكْمَةِ الَّتِي أُدَبِّرُ بِهَا أَمْرَ ذَلِكَ الْقَضَاءِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ، فَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ أَجْعَلَ النُّبُوَّةَ فِي الْأُجَرَاءِ، وَأَنْ أُحَوِّلَ الْمَلِكَ فِي الرِّعَاءِ، وَالْعِزِّ فِي الْأَذِلَّاءِ، وَالْقُوَّةِ فِي الضُّعَفَاءِ، وَالْغِنَى فِي الْفُقَرَاءِ، وَالثَّرْوَةِ فِي الْأَقِلَّاءِ، وَالْمَدَائِنِ فِي الْفَلَوَاتِ، وَالْآجَامِ فِي الْمَفَاوِزِ، وَالْبَرَدَى فِي الْغِيطَانِ، وَالْعِلْمِ فِي الْجَهَلَةِ، وَالْحُكْمِ فِي الْأُمِّيِّينَ، فَسَلْهُمْ مَتَى هَذَا، وَمَنِ الْقَائِمُ بِهَذَا، وَعَلَى يَدِ مَنْ أَسَنُّهُ، وَمَنْ أَعْوَانُ هَذِهِ الْأَمْرِ وَأَنْصَارِهِ إِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، فَإِنِّي بَاعِثٌ لِذَلِكَ نَبِيًّا أُمِّيًّا، لَيْسَ أَعْمَى مِنْ عُمْيَانَ، وَلَا ضَالًّا مِنْ ضَالِّينَ، وَلَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا مُتَزَيِّنٍ بِالْفُحْشِ، وَلَا قَوَّالٍ لِلْخَنَا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ جَمِيلٍ، أَهِبُ لَهُ كُلَّ خَلْقٍ كَرِيمٍ، أَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، وَالْبَرَّ شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْعُرْفَ خُلُقَهُ؛ وَالْعَدْلَ وَالْمَعْرُوفَ سِيرَتَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْهُدَى إِمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ، أُهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ، وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الْخَمَالَةِ، وَأُشْهِرُ بِهِ بَعْدَ النَّكِرَةِ، وَأُكْثِرُ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ، وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَأُؤَلِّفُ بِهِ قُلُوبًا مُخْتَلِفَةً، وَأَهْوَاءَ مُشَتَّتَةً، وَأُمَمًا مُتَفَرِّقَةً، وَأَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، تَوْحِيدًا لِي، وَإِيمَانًا وَإِخْلَاصًا بِي، يُصَلُّونَ لِي قِيَامًا وَقُعُودًا، وَرُكُوعًا وَسُجُودًا، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِي صُفُوفًا وَزُحُوفًا، وَيُخْرَجُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِي، أُلْهِمُهُمُ التَّكْبِيرَ وَالتَّوْحِيدَ، وَالتَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ وَالْمِدْحَةَ، وَالتَّمْجِيدَ لِي فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَضَاجِعِهِمْ وَمُتَقَلَّبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ، يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ، وَيُقَدِّسُونَ عَلَى رُءُوسِ الْأَسْوَاقِ، وَيُطَهِّرُونَ لِي الْوُجُوهَ وَالْأَطْرَافَ، وَيَعْقِدُونَ الثِّيَابَ فِي الْأَنْصَافِ، قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ، وَأَنَاجِيلُهُمْ صُدُورُهُمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ، ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيَهُ مَنْ أَشَاءُ، وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏.‏ فَلَمَّا فَرَغَ نَبِيُّهُمْ شعيَاءُ إِلَيْهِمْ مِنْ مَقَالَتِهِ، عَدُوا عَلَيْهِ فِيمَا بَلَغَنِي لِيَقْتُلُوهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ، فَانْفَلَقَتْ فَدَخَلَ فِيهَا، وَأَدْرَكَهُ الشَّيْطَانُ فَأُخِذَ بِهُدْبَةٍ مِنْ ثَوْبِهِ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهَا، فَوَضَعُوا الْمِنْشَارَ فِي وَسَطِهَا فَنَشَرُوهَا حَتَّى قَطَعُوهَا، وَقَطَعُوهُ فِي وَسَطِهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ السُّدِّيِّ، وَقَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ، كَانَ إِفْسَادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَرْضِ الْمَرَّةَ الْأُولَى قَتْلَهُمْ زَكَرِيَّا نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ، إِلَى أَنَّ بَعْثَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَنْ أَحَلَّ عَلَى يَدِهِ بِهِمْ نِقْمَتَهُ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَعُتُوِّهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ الَّذِي رَوَيْنَا عَنْهُ، فَكَانَ إِفْسَادُهُمُ الْمَرَّةَ الْأُولَى مَا وُصِفَ مِنْ قَتْلِهِمْ شعياءَ بْنَ أَمْصِيَا نَبِيَّ اللَّهِ‏.‏ وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَكَرِيَّ مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ يُقْتَلْ، وَأَنَّ الْمَقْتُولَ إِنَّمَا هُوَ شعيَاءُ، وَأَنَّ بُخْتَنَصَّرَ هُوَ الَّذِي سُلِّطَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بَعْدَ قَتْلِهِمْ شعيَاءَ‏.‏ حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا إِفْسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ الْمَرَّةَ الْآخِرَةِ، فَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ قَتْلُهُمْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا‏.‏ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الَّذِي سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُنْتَقِمًا بِهِ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَنَا ذَاكِرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏{‏وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ فَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ‏:‏ يَعْنِي بِهِ‏:‏ اسْتِكْبَارُهُمْ عَلَى اللَّهِ بِالْجَرَاءَةِ عَلَيْهِ، وَخِلَافُهُمْ أَمْرهَ‏.‏

وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ وَلَتَعْلُنَّ النَّاسَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا‏}‏ يَعْنِي‏:‏ فَإِذَا جَاءَ وَعَدُّ أَوْلَى الْمَرَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُفْسِدُونَ بِهِمَا فِي الْأَرْضِ‏.‏ كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا‏}‏ قَالَ‏:‏ إِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَى تِينِكَ الْمَرَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏{‏لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا‏}‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ‏{‏بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ‏}‏ وَجَّهْنَا إِلَيْكُمْ، وَأَرْسَلْنَا عَلَيْكُمْ ‏{‏عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ ذَوِي بَطْشٍ فِي الْحُرُوبِ شَدِيدٍ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ‏:‏ فَتَرَدَّدُوا بَيْنَ الدَّوْرِ وَالْمَسَاكِنِ، وَذَهَبُوا وَجَاءُوا، يُقَالُ فِيهِ‏:‏ جَاسَ الْقَوْمُ بَيْنَ الدِّيَارِ وَحَاسُوا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَجُسْتُ أَنَا أَجُوسُ جَوْسًا وَجَوْسَانًا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ‏}‏ قَالَ‏:‏ مَشَوْا‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ‏:‏ مَعْنَى جَاسُوا‏:‏ قَتَلُوا، وَيَسْتَشْهِدُ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ حَسَّانٍ‏:‏

وَمِنَّا الَّذِي لَاقَى بسَيْفِ مُحَمَّدٍ *** فَجَاسَ بِهِ الْأَعْدَاءَ عُرْضَ الْعَسَاكِرِ

وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، فَقَتَلُوهُمْ ذَاهِبِينَ وَجَائِينَ، فَيَصِحُّ التَّأْوِيلَانِ جَمِيعًا، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ‏{‏وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا‏}‏ وَكَانَ جَوْسُ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَبْعَثُ عَلَيْهِمْ خِلَالَ دِيَارِهِمْ وَعَدًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ مَفْعُولًا ذَلِكَ، لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيالَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ ‏{‏أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ بَعَثُوا عَلَيْهِمْ، وَمَنِ الَّذِينَ بُعِثَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ صُنْعِهِمْ بِهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى جَالُوتُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهَ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا‏}‏ قَالَ‏:‏ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَالُوتَ، فَجَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ وَالذُّلَّ، فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ طَالُوتَ، فَقَاتَلُوا جَالُوتَ، فَنَصَرَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقُتِلَ جَالُوتُ بِيَدِي دَاوُدَ، وَرَجَّعَ اللَّهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مُلْكَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا‏}‏ قَضَاءٌ قَضَى اللَّهُ عَلَى الْقَوْمِ كَمَا تَسْمَعُونَ، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ فِي الْأُولَى جَالُوتُ الْجُزُرِيُّ، فَسَبَى وَقَتَلَ، وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ كَمَا قَالَ اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَوْمُ عَلَى دَخَنٍ فِيهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ أَمَّا الْمَرَّةُ الْأُولَى فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَالُوتَ، حَتَّى بَعَثَ طَالُوتَ وَمَعَهُ دَاوُدُ، فَقَتْلَهُ دَاوُدُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ بَعَثَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى سنحاريبَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ قَائِلِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى وَنَذْكُرُ مَا حَضَرَنَا ذَكَرُهُ مِمَّنْ لَمْ نَذْكُرُهُ قَبْلُ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي الْمُعَلَّى، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ‏{‏بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ بَعَثَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى سنحاريبُ مِنْ أَهْلِ أَثُورَ وَنِينَوَى، فَسَأَلَتْ سَعِيدًا عَنْهَا، فَزَعَمَ أَنَّهَا الْمَوْصِلَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَى يَعْلَى بْنُ مُسْلِمِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ‏:‏ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقْرَأُ حَتَّى إِذَا بَلَغَ ‏{‏بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ بَكَى وَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَطَبَقَ الْمُصْحَفَ، فَقَالَ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الزَّمَانِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَيْ رَبِّ أَرِنِي هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي جَعَلْتَ هَلَاكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدَيْهِ، فَأُرِي فِي الْمَنَامِ مِسْكِينًا بِبَابِلَ، يُقَالُ لَهُ بُخْتَنَصَّرُ، فَانْطَلَقَ بِمَالٍ وَأَعْبُدٍ لَهُ، وَكَانَ رَجُلًا مُوسِرًا، فَقِيلَ لَهُ أَيْنَ تُرِيدُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أُرِيدُ التِّجَارَةَ حَتَّى نَزَلَ دَارًا بِبَابِلَ، فَاسْتَكْرَاهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَحَمْلَ يَدْعُو الْمَسَاكِينَ وَيُلطفُ بِهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ، فَقَالَ‏:‏ هَلْ بَقِيَ مِسْكِينٌ غَيْرُكُمْ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ، مِسْكِينٌ بِفَجِّ آلِ فُلَانٍ مَرِيضٍ يُقَالُ لَهُ بُخْتَنَصَّرُ، فَقَالَ لِغِلْمَتِهِ‏:‏ انْطَلَقُوا، حَتَّى أَتَاهُ، فَقَالَ‏:‏ مَا اسْمُكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بُخْتَنَصَّرُ، فَقَالَ لِغُلْمَتِهِ‏:‏ احْتَمَلُوهُ، فَنَقَلَهُ إِلَيْهِ وَمَرَّضَهُ حَتَّى بَرَّأَ، فَكَسَاهُ وَأَعْطَاهُ نَفَقَةً، ثُمَّ آذِنَ الْإِسْرَائِيلِيُّ بِالرَّحِيلِ، فَبَكَى بُخْتَنَصَّرُ، فَقَالَ الْإِسْرَائِيلِيُّ‏:‏ مَا يُبْكِيكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَبْكِي أَنَّكَ فَعَلْتَ بِي مَا فَعَلتَ، وَلَا أَجِدُ شَيْئًا أَجْزِيكَ، قَالَ‏:‏ بَلَى شَيْئًا يَسِيرًا، إِنْ مَلَكْتَ أَطَعْتَنِي، فَجَعْلَ الْآخَرُ يَتْبَعُهُ وَيَقُولُ‏:‏ تَسْتَهْزِئُ بِي، وَلَا يَمْنَعُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا سَأَلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِ، فَبَكَى الْإِسْرَائِيلِيُّ وَقَالَ‏:‏ وَلَقَدْ عَلِمْتُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُعْطِيَنِي مَا سَأَلْتُكَ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يُنَفِّذَ مَا قَدْ قَضَاهُ وَكَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَضَرَبَ الدَّهْرُ مِنْ ضَرْبِهِ؛ فَقَالَ يَوْمًا صيحونُ، وَهُوَ مَلِكُ فَارِسَ بِبَابِلَ‏:‏ لَوْ أَنَا بَعْثُنَا طَلِيعَةً إِلَى الشَّامِ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ وَمَا ضَرُّكَ لَوْ فَعَلْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَمَنْ تَرَوْنَ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ فُلَانٌ، فَبَعَثَ رَجُلًا وَأَعْطَاهُ مِئَةَ أَلْفٍ، وَخَرَجَ بُخْتَنَصَّرُ فِي مَطْبَخِهِ، لَمْ يَخْرُجْ إِلَّا لِيَأْكُلَ فِي مَطْبَخِهِ؛ فَلَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَرَأَى صَاحِبَ الطَّلِيعَةِ أَكْثَرَ أَرْضِ اللَّهِ فَرَسًا وَرَجُلًا جَلِدًا، فَكَسَرَ ذَلِكَ فِي ذَرْعِهِ، فَلَمْ يَسْأَلْ قَالَ‏:‏ فَجَعَلَ بُخْتَنَصَّرُ يَجْلِسُ مَجَالِسَ أَهْلِ الشَّامِ فَيَقُولُ‏:‏ مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَغْزُوَا بَابِلَ، فَلَوْ غَزَوْتُمُوهَا مَا دُونَ بَيْتِ مَالِهَا شَيْءٌ، قَالُوا‏:‏ لَا نُحْسِنُ الْقِتَالَ، قَالَ‏:‏ فَلَوْ أَنَّكُمْ غَزَوْتُمْ، قَالُوا‏:‏ إِنَّا لَا نُحْسِنُ الْقِتَالَ وَلَا نُقَاتِلُ حَتَّى أَنْفَذَ مَجَالِسَ أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَأَخْبَرَ الطَّلِيعَةَ مَلِكَهُمْ بِمَا رَأَى، وَجَعَلَ بُخْتَنَصَّرُ يَقُولُ لِفَوَارِسِ الْمَلِكِ‏:‏ لَوْ دَعَانِي الْمَلِكُ لَأَخْبَرَتْهُ غَيْرَ مَا أَخْبَرَهُ فُلَانٌ؛ فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَدَعَاهُ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَقَالَ‏:‏ إِنَّ فُلَانًا لَما رَأَى أَكْثَرَ أَرْضِ اللَّهِ فَرَسًا وَرَجُلًا جَلَدَا، كَبُرَ ذَلِكَ فِي رَوْعِهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنِّي لَمْ أَدْعُ مَجْلِسًا بِالشَّامِ إِلَّا جَالَسَتْ أَهْلَهُ، فَقَلَتْ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا، وَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، الَّذِي ذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ، قَالَ الطَّلِيعَةُ لِبُخْتَنَصَّرَ‏:‏ إِنَّكَ فَضَحْتِنِي لَكَ مِئَةُ أَلْفٍ وَتَنْزِعُ عَمَّا قُلْتَ، قَالَ‏:‏ لَوْ أَعْطَيْتِنِي بَيْتَ مَالِ بَابِلَ مَا نَزَعْتُ، ضَرْبَ الدَّهْرُ مِنْ ضَرْبِهِ؛ فَقَالَ الْمَلِكُ‏:‏ لَوْ بَعَثْنَا جَرِيدَةَ خَيلَ إِلَى الشَّامِ، فَإِنْ وَجَدُوا مُسَاغًا سَاغُوا، وَإِلَّا انْثَنَوْا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، قَالُوا‏:‏ مَا ضُرُّكَ لَوْ فَعَلَتْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَمَنْ تَرَوْنَ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ فُلَانٌ، قَالَ‏:‏ بَلِ الرَّجُلُ الَّذِي أَخْبَرَنِي مَا أَخْبَرَنِي، فَدَعَا بُخْتَنَصَّرَ وَأَرْسَلَهُ، وَانْتَخَبَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنْ فُرْسَانِهِمْ، فَانْطَلَقُوا فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، فَسَبَوْا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يُخَرِّبُوا وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَمَاتَ صيحونُ الْمَلِكُ قَالُوا‏:‏ اسْتَخْلَفُوا رَجُلًا قَالُوا‏:‏ عَلَى رِسْلِكُمْ حَتَّى تَأْتِيَ أَصْحَابكُمْ فَإِنَّهُمْ فُرْسَانُكُمْ، لَنْ يَنْقَضُّوا عَلَيْكُمْ شَيْئًا، أَمْهَلُوا؛ فَأَمْهَلُوا حَتَّى جَاءَ بُخْتَنَصَّرُ بِالسَّبْي وَمَا مَعَهُ، فَقَسَّمَهُ فِي النَّاسِ، فَقَالُوا‏:‏ مَا رَأَيْنَا أَحَدًا أَحَقَّ بِالْمُلْكِ مِنْ هَذَا، فَمَلَّكُوهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ‏:‏ ظَهَرَ بُخْتَنَصَّرُ عَلَى الشَّامِ، فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتْلَهُمْ، ثُمَّ أَتَى دِمَشْقَ، فَوَجْدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كبا‏:‏ أَيْ كُنَاسَةٍ، فَسَأَلَهُمْ مَا هَذَا الدَّم‏؟‏ قَالُوا‏:‏ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذَا وَكُلَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْكِبَا ظَهَرَ، قَالَ‏:‏ فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ، فَسَكَنَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، قَالُوا‏:‏ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قِتَالٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ‏}‏ قَالَ‏:‏ مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ فَارِسَ يَتَجَسَّسُونَ أَخْبَارَهُمْ، وَيَسْمَعُونَ حَدِيثَهُمْ، مَعَهُمْ بُخْتَنَصَّرُ، فَوَعَى أَحَادِيثَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَارِسُ وَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ، وَنُصِرَتْ عَلَيْهِمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَهَذَا وَعْدُ الْأُولَى‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ جُنْدٌ جَاءَهُمْ مِنْ فَارِسَ يَتَجَسَّسُونَ أَخْبَارَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ ذَلِكَ أَيْ مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ فَارِسَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ثُمَّ أَدَلْنَاكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْإِدَالَةُ وَالْكُرْةُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ، فِيمَا ذَكَرَ السُّدِّيِّ فِي خَبَرِهِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَزَوْهُمْ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ، وَاسْتَنْقَذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْهُمْ‏.‏ وَفِي قَوْلِ آخَرِينَ‏:‏ إِطْلَاقُ الْمَلِكِ الَّذِي غَزَاهُمْ مَا فِي يَدَيْهِ مِنْ أَسْرَاهُمْ، وَرَدَّ مَا كَانَ أَصَابَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ قَتَّالٍ، وَفِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنْهُ هِيَ إِدَالَةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ جَالُوتَ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَقَدْ ذَكَّرْنَا كُلَّ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ فِيمَا مَضَى

‏{‏وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَزِدْنَا فِيمَا أَعْطَيْنَاكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْبَنِينِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَصَيَّرْنَاكُمْ أَكْثَرِ عَدَدٍ نَافِرٍ مِنْهُمْ‏.‏ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا‏}‏‏:‏ أَيْ عَدَدًا، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ دَاوُدَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ‏{‏وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ عَدَدًا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ‏}‏ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، بُعْدَ أَنْ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ، وَانْصَرَفَ الْآخَرُونَ عَنْهُمْ ‏{‏وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ جَعَلْنَاكُمْ بَعْدَ هَذَا أَكْثَرَ عَدَدًا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ‏}‏ ثُمَّ رَدَدْتُ الْكُرَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَرْبَعَةُ آلَافٍ‏.‏