فصل: تفسير الآية رقم (7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا قَضَى إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ ‏{‏إِنْ أَحْسَنْتُمْ‏}‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَطَعْتُمُ اللَّهَ وَأَصْلَحْتُمْ أَمْرَكُمْ، وَلَزِمْتُمْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ‏(‏أَحْسَنْتُمْ‏)‏ وَفَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ ‏(‏لِأَنْفُسِكُمْ‏)‏ لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا تَنْفَعُونَ بِفِعْلَتِكُمْ مَا تَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنْفُسَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏.‏ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْكُمْ مَنْ بَغَاكُمْ سَوَءًا، وَينمِي لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَيَزِيدُكُمْ إِلَى قُوَّتِكُمْ قُوَّةً‏.‏ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُثِيبُكُمْ بِهِ جِنَانَهُ ‏{‏وَإِنْ أَسَأْتُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَإِنْ عَصَيْتُمُ اللَّهَ وَرَكِبْتُمْ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ حِينَئِذٍ، فَإِلَى أَنْفُسِكُمْ تُسِيئُونَ، لِأَنَّكُمْ تُسْخِطُونَ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ رَبَّكُمْ، فَيُسَلِّطُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا عَدُوَّكُمْ، وَيُمَكِّنُ مِنْكُمْ مِنْ بَغَاكُمْ سَوَءًا، وَيُخَلِّدُكُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ‏.‏ وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏}‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ فَإِلَيْهَا كَمَا قَالَ ‏{‏بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا‏}‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ أَوْحَى إِلَيْهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَإِذَا جَاءَ وَعَدُ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ مِنْ مَرَّتَيْ إِفْسَادِكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَرْضِ ‏{‏لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لِيَسُوءَ مَجِيءُ ذَلِكَ الْوَعْدِ لِلْمَرَّةِ الْأُخْرَةِ وُجُوهَكُمْ فَيُقَبِّحُهَا‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏{‏لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ‏}‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ ‏{‏لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ لِيَسُوءَ الْعِبَادُ أُولُو الْبَأْسِ الشَّدِيدِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وُجُوهَكُمْ، وَاسْتَشْهَدَ قَارِئُو ذَلِكَ لِصِحَّةِ قِرَاءَتِهِمْ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ ‏{‏وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ‏}‏ وَقَالُوا‏:‏ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنِ الْجَمِيعِ فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ‏(‏لِيَسُوءُوا‏)‏، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏{‏لِيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ‏}‏ عَلَى التَّوْحِيدِ وَبِالْيَاءِ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلِ، أَحَدَهُمَا مَا قَدْ ذَكَرْتُ، وَالْآخِرَ مِنْهُمَا‏:‏ لِيَسُوءَ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ، فَمِنْ وَجْهِ تَأْوِيلِ ذَلِكَ إِلَى لِيَسُوءَ مَجِيءُ الْوَعْدِ وُجُوهَكُمْ، جُعِلَ جَوَابُ قَوْلَهُ فَإِذَا مَحْذُوفًا، وَقَدِ اسْتُغْنِيَ بِمَا ظَهَرَ عَنْهُ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ “ جَاءَ “، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَأْوِيلَهُ‏:‏ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ جَاءَ‏.‏ وَمِنْ وَجْهِ تَأْوِيلِهِ إِلَى‏:‏ لِيَسُوءَ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ، كَانَ أَيْضًا فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، قَدِ اسْتُغْنِيَ هُنَا عَنْهُ بِمَا قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ، غَيْرُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَحْذُوفَ سِوَى “ جَاءَ “، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثْنَاهُمْ لِيَسُوءَ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ، فَيَكُونُ الْمُضْمَرُ بَعَثْنَاهُمْ، وَذَلِكَ جَوَابُ إِذَا حِينَئِذٍ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏{‏لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ‏}‏ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ عَنْ نَفْسِهِ‏.‏

وَكَانَ مَجِيءُ وَعَدِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ عِنْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيَى‏.‏

ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ، وَالْخَبَرِ عَمَّا جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حِينَئِذٍ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا إِسْنَادَهُ قَبْلُ أَنْ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّ خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَلَاكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدَيْ غُلَامٍ يَتِيمٍ ابْنِ أَرْمَلَةٍ مَنْ أَهْلِ بَابِلَ، يُدْعَى بُخْتَنَصَّرُ، وَكَانُوا يَصْدِقُونَ فَتَصْدُقُ رُؤْيَاهُمْ، فَأَقْبَلَ فَسَأَلَ عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَى أُمِّهِ وَهُوَ يَحْتَطِبُ، فَلَمَّا جَاءَ وَعَلَى رَأْسِهِ حِزْمَةٌ مِنْ حَطَبٍ أَلْقَاهَا، ثُمَّ قَعَدَ فِي جَانِبٍ الْبَيْتِ فَضَمَّهُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ‏:‏ اشْتَرِ لَنَا بِهَا طَعَامًا وَشَرَابًا، فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ لَحَمًا وَبِدِرْهَمٍ خُبْزًا وَبِدِرْهَمٍ خَمْرًا، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ‏:‏ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَكْتُبَ لِي أَمَانًا إِنْ أَنْتَ مَلَكْتَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَقَالَ‏:‏ أَتَسْخَرُ بِي‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنِّي لَا أَسْخَرُ بِكَ، وَلَكِنْ مَا عَلَيْكَ أَنْ تَتَّخِذَ بِهَا عِنْدِي يَدًا، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّهُ، فَقَالَتْ‏:‏ وَمَا عَلَيْكَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَنْقُصْكَ شَيْئًا، فَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَالنَّاسُ حَوْلَكَ قَدْ حَالُوا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَاجْعَلْ لِي آيَةً تَعْرِفُنِي بِهَا قَالَ‏:‏ نَرْفَعُ صَحِيفَتَكَ عَلَى قَصَبَةٍ أَعْرِفُكَ بِهَا، فَكَسَاهُ وَأَعْطَاهُ‏.‏ ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُكْرِمُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَيُدْنِي مَجْلِسَهُ، وَيَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِهِ، وَلَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، وَأَنَّهُ هَوَى أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ امْرَأَةٍ لَهُ، فَسَأَلَ يَحْيَى عَنْ ذَلِكَ، فَنَهَاهُ عَنْ نِكَاحِهَا وَقَالَ‏:‏ لَسْتَ أَرْضَاهَا لَكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمُّهَا فَحَقَدَتْ عَلَى يَحْيَى حِينَ نَهَاهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا، فَعَمَدَتْ أُمُّ الْجَارِيَةِ حِينَ جَلَسَ الْمَلِكِ عَلَى شَرَابِهِ، فَأَلْبَسَتْهَا ثِيَابًا رِقَاقًا حُمْرًا، وَطَيَّبَتْهَا وَأَلْبَسَتْهَا مِنَ الْحُلِيِّ، وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهَا أَلْبَسَتْهَا فَوْقَ ذَلِكَ كِسَاءً أَسْوَدَ، وَأَرْسَلَتْهَا إِلَى الْمَلِكِ، وَأَمَرَتْهَا أَنْ تَسْقِيَهُ، وَأَنْ تَعْرِضَ لَهُ نَفْسَهَا، فَإِنْ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا أَبَتْ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْطِيَهَا مَا سَأَلَتْهُ، فَإِذَا أَعْطَاهَا ذَلِكَ سَأَلَتْهُ أَنْ يَأْتِيَ بِرَأْسِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فِي طَسْتٍ، فَفَعَلَتْ، فَجَعَلَتْ تَسْقِيهِ وَتَعْرِضُ لَهُ نَفْسَهَا؛ فَلَمَّا أَخَذَ فِيهِ الشَّرَابُ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ‏:‏ لَا أَفْعَلُ حَتَّى تُعْطِيَنِي مَا أَسْأَلُكَ، فَقَالَ‏:‏ مَا الَّذِي تَسْأَلِينِي‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ أَسْأَلُكَ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، فَأُوتَىَ بِرَأْسِهِ فِي هَذَا الطَّسْتِ، فَقَالَ‏:‏ وَيَحكِ سَلِينِي غَيْرَ هَذَا، فَقَالَتْ لَهُ‏:‏ مَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ إِلَّا هَذَا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا أَلَحَّتْ عَلَيْهِ بَعَثَ إِلَيْهِ، فَأُتِيَ بِرَأْسِهِ، وَالرَّأْسُ يَتَكَلَّمُ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ لَا يَحِلُّ لَكَ ذَلِكَ؛ فَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا دَمُهُ يَغْلِي، فَأَمَرَ بِتُرَابٍ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ، فَرَقَى الدَّمُ فَوْقَ التُّرَابِ يَغْلِي، فَأَلْقَى عَلَيْهِ التُّرَابَ أَيْضًا، فَارْتَفَعَ الدَّمُ فَوْقَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُلْقِي عَلَيْهِ التُّرَابَ حَتَّى بَلَغَ سُورَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَغْلِي وَبَلَغَ صَحَابِينَ، فَثَارَ فِي النَّاسِ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ جَيْشًا، وَيُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا فَأَتَاهُ بُخْتَنَصَّرُ وَكَلَّمَهُ وَقَالَ‏:‏ إِنَّ الَّذِي كُنْتَ أَرْسَلْتَهُ تِلْكَ الْمَرَّةِ ضَعِيفٌ، وَإِنِّي قَدْ دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ وَسَمِعْتُ كَلَامَ أَهْلِهَا، فَابْعَثْنِي، فَبَعَثَهُ، فَسَارَ بُخْتَنَصَّرُ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ تَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي مَدَائِنِهِمْ، فَلَمْ يُطِقْهُمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْمَقَامُ وَجَاعَ أَصْحَابُهُ، أَرَادُوا الرُّجُوعَ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِمْ عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَتْ‏:‏ أَيْنَ أَمِيرُ الْجُنْدِ‏؟‏ فَأُتِيَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَتْ لَهُ‏:‏ إِنَّهُ بَلَّغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ بِجُنْدِكَ قَبْلَ أَنْ تَفْتَحَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَدْ طَالَ مَقَامِي، وَجَاعَ أَصْحَابِي، فَلَسْتُ أَسْتَطِيعُ الْمَقَامَ فَوْقَ الَّذِي كَانَ مِنِّي، فَقَالَتْ‏:‏ أَرَأَيْتُكَ إِنْ فَتَحْتُ لَكَ الْمَدِينَةَ أَتُعْطِينِي مَا سَأَلَتْكُ، وَتَقْتُلُ مَنْ أَمَرْتُكَ بِقَتْلِهِ، وَتَكُفُّ إِذَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَكُفَّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَتْ‏:‏ إِذَا أَصْبَحْتَ فَاقْسِمْ جُنْدَكَ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ، ثُمَّ أَقِمْ عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ رُبْعًا، ثُمَّ ارْفَعُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَنَادَوْا‏:‏ إِنَّا نَسْتَفْتِحُكَ يَا اللَّهُ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، فَإِنَّهَا سَوْفَ تَسَّاقَطُ، فَفَعَلُوا، فَتَسَاقَطَتِ الْمَدِينَةُ، وَدَخَلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَقَالَتْ لَهُ‏:‏ اقْتُلْ عَلَى هَذَا الدَّمِ حَتَّى يَسْكُنَ، وَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى دَمِ يَحْيَى وَهُوَ عَلَى تُرَابٍ كَثِيرٍ، فَقَتَلَ عَلَيْهِ حَتَّى سَكَنَ سَبْعِينَ أَلْفًا وَامْرَأَةً؛ فَلَمَّا سَكَنَ الدَّمُ قَالَتْ لَهُ‏:‏ كُفَّ يَدَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا قُتِلَ نَبِيٌّ لَمْ يَرْضَ، حَتَّى يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَهُ، وَمَنْ رَضِيَ قَتَلَهُ، وَأَتَاهُ صَاحِبُ الصَّحِيفَةِ بِصَحِيفَتِهِ، فَكَفَّ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَمْرَ بِهِ أَنْ تُطْرَحَ فِيهِ الْجِيَفُ، وَقَالَ‏:‏ مَنْ طَرَحَ فِيهِ جِيفَةً فَلَهُ جِزْيَتُهُ تِلْكَ السَّنَةَ، وَأَعَانَهُ عَلَى خَرَابِهِ الرُّومُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى، فَلَمَّا خَرَّبَهُ بُخْتَنَصَّرُ ذَهَبَ مَعَهُ بِوُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَشْرَافِهِمْ، وَذَهَبَ بِدَانْيَالَ وَعَلَيَا وَعَزَارِيَا وَمِيشَائِيلَ، هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَذَهَبَ مَعَهُ بِرَأْسِ جَالُوتَ؛ فَلَمَّا قَدِمَ أَرْضَ بَابِلَ وَجَدَّ صَحَابِينَ قَدْ مَاتَ، فَمَلِكَ مَكَانَهُ، وَكَانَ أَكْرَمُ النَّاسِ عَلَيْهِ دَانْيَالَ وَأَصْحَابَهُ، فَحَسَدَهُمْ الْمَجُوسُ عَلَى ذَلِكَ، فَوَشَوْا بِهِمْ إِلَيْهِ وَقَالُوا‏:‏ إِنَّ دَانْيَالَ وَأَصْحَابَهُ لَا يَعْبُدُونَ إِلَهَكَ، وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبِيحَتِكَ، فَدَعَاهُمْ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا‏:‏ أَجَلْ إِنَّ لَنَا رَبًّا نَعْبُدُهُ، وَلَسْنَا نَأْكُلُ مِنْ ذَبِيحَتِكُمْ، فَأَمَرَ بِخَدٍّ فُخُدَّ لَهُمْ، فَأُلْقُوا فِيهِ وَهُمْ سِتَّةٌ، وَأُلْقِيَ مَعَهُمْ سَبْعًا ضَارِيًا لِيَأْكُلَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ انْطَلَقُوا فَلْنَأْكُلْ وَلِنَشْرَبْ، فَذَهَبُوا فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثُمَّ رَاحُوا فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا وَالسَّبْعُ مُفْتَرِشٌ ذِرَاعَيْهِ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَخْدِشْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَمْ يَنْكَأْهُ شَيْئًا، وَوَجَدُوا مَعَهُمْ رَجُلًا فَعَدُّوهُمْ فَوَجَدُوهُمْ سَبْعَةً، فَقَالُوا‏:‏ مَا بَالُ هَذَا السَّابِعِ إِنَّمَا كَانُوا سِتَّةٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ السَّابِعُ، وَكَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَلَطَمَهُ لَطْمَةً فَصَارَ فِي الْوَحْشِ، فَكَانَ فِيهِمْ سَبْعَ سِنِينَ، لَا يَرَاهُ وَحْشِيٌّ إِلَّا أَتَاهُ حَتَّى يَنْكِحَهُ، يَقْتَصُّ مِنْهُ مَا كَانَ يَصْنَعُ بِالرِّجَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مُلْكَهُ، فَكَانُوا أَكْرَمَ خَلْقِ اللَّهِ عَلَيْهِ‏.‏ ثُمَّ إِنَّ الْمَجُوسَ وَشَوْا بِهِ ثَانِيَةً، فَأَلْقَوْا أَسَدًا فِي بِئْرٍ قَدْ ضَرِيَ، فَكَانُوا يُلْقُونَ إِلَيْهِ الصَّخْرَةَ فَيَأْخُذُهَا، فَأَلْقَوْا إِلَيْهِ دَانْيَالَ، فَقَامَ الْأَسَدُ فِي جَانِبٍ، وَقَامَ دَانْيَالُ فِي جَانِبٍ لَا يَمَسُّهُ، فَأَخْرَجُوهُ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ خَدَّ لَهُمْ خَدًّا، فَأَوْقَدَ فِيهِ نَارًا، حَتَّى إِذَا أَجَّجَهَا قَذَفَهُمْ فِيهَا، فَأَطْفَأَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَنُلْهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ‏.‏ ثُمَّ إِنَّ بُخْتَنَصَّرَ رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ صَنَمًا رَأْسُهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَعُنُقُهُ مِنْ شِبْهٍ، وَصَدَّرُهُ مِنْ حَدِيدٍ، وَبَطْنُهُ أَخْلَاطُ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَقَوَارِيرَ، وَرِجْلَاهُ مِنْ فَخَّارٍ؛ فَبَيِّنَا هُوَ قَائِمٌ يَنْظُرُ، إِذْ جَاءَتْ صَخْرَةٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، فَكَسَرَتِ الصَّنَمَ فَجَعَلَتْهُ هَشِيمًا، فَاسْتَيْقَظَ فَزَعًا وَأُنْسِيهَا، فَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ، فَسَأَلَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ أَخْبَرُونِي عَمَّا رَأَيْتُ، فَقَالُوا لَهُ‏:‏ لَا بَلْ أَنْتَ أَخْبِرْنَا، مَا رَأَيْتَ فَنَعْبُرُهُ لَكَ، قَالَ‏:‏ لَا أَدْرِي، قَالُوا لَهُ‏:‏ فَهَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ الَّذِينَ تُكْرِمُهُمْ، فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ، فَإِنْ هُمْ لَمْ يُخْبِرُوكَ بِمَا رَأَيْتَ فَمَا تَصْنَعُ بِهِمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَقْتُلُهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى دَانْيَالَ وَأَصْحَابَهُ، فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ أَخْبَرُونِي مَاذَا رَأَيْتُ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ دَانْيَالُ‏:‏ بَلْ أَنْتَ أَخْبِرْنَا مَا رَأَيْتَ فَنَعْبُرُهُ لَكَ، قَالَ‏:‏ لَا أَدْرِي قَدْ نَسِيَتْهَا، فَقَالَ لَهُ دَانْيَالُ‏:‏ كَيْفَ نَعْلَمُ رُؤْيَا لَمْ تُخْبِرْنَا بِهَا‏؟‏ فَأَمَرَ الْبَوَّابَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ، فَقَالَ دَانْيَالُ لِلْبَوَّابِ‏:‏ إِنَّ الْمَلِكَ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِنَا مِنْ أَجْلِ رُؤْيَاهُ، فَأَخِّرْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ نَحْنُ أَخْبَرَنَا الْمَلِكَ بِرُؤْيَاهُ وَإِلَّا فَاضْرِبْ أَعْنَاقَنَا، فَأَجَّلَهُمْ فَدَعَوُا اللَّهَ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَبْصَرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رُؤْيَا بُخْتَنَصَّرَ عَلَى حِدَةٍ، فَأَتَوُا الْبَوَّابَ فَأَخْبَرُوهُ، فَدَخْلَ عَلَى الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ‏:‏ أَدْخَلَهُمْ عَلَيَّ؛ وَكَانَ بُخْتَنَصَّرُ لَا يَعْرِفُ مِنْ رُؤْيَاهُ شَيْئًا، إِلَّا شَيْئًا يَذْكُرُونَهُ، فَقَالُوا لَهُ‏:‏ أَنْتَ رَأَيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَقَصُّوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ صَدَقْتُمْ، قَالُوا‏:‏ نَحْنُ نَعْبُرُهَا لَكَ‏.‏ أَمَّا الصَّنَمُ الَّذِي رَأَيْتَ رَأْسَهُ مِنْ ذَهَبٍ، فَإِنَّهُ مَلِكٌ حَسَنٌ مِثْلُ الذَّهَبِ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ الْأَرْضَ كُلَهَا؛ وَأَمَّا الْعُنُقُ مِنَ الشَّبَهِ، فَهُوَ مُلْكُ ابْنِكِ بَعْدُ، يَمْلِكُ فَيَكُونُ مُلْكُهُ حَسَنًا، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ الذَّهَبِ؛ وَأَمَّا صَدْرُهُ الَّذِي مِنْ حَدِيدٍ فَهُوَ مُلْكُ أَهْلِ فَارِسَ، يَمْلِكُونَ بُعْدَكَ ابْنَكَ، فَيَكُونُ مُلْكُهُمْ شَدِيدًا، مِثْلُ الْحَدِيدِ؛ وَأَمَّا بَطْنُهُ الْأَخْلَاطُ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ مُلْكُ أَهْلِ فَارِسَ، وَيَتَنَازَعُ النَّاسُ الْمُلْكَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ، حَتَّى يَكُونَ الْمَلِكُ يَمْلِكُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ يُقْتَلُ، فَلَا يَكُونُ لِلنَّاسِ قَوَّامٌ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّنَمِ قَوَّامٌ عَلَى رَجُلَيْنِ مِنْ فَخَّارٍ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيًّا مَنْ أَرْضِ الْعَرَبِ؛ فَأَظْهَرَهُ عَلَى بَقِيَّةِ مُلْكِ أَهْلِ فَارِسٍ، وَبَقِيَّةِ مُلْكِ ابْنِكَ وَمُلْكِكَ، فَدَمَّرَهُ وَأَهْلَكَهُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا جَاءَتِ الصَّخْرَةُ فَهَدَمَتِ الصَّنَمَ، فَعَطَفَ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرُ فَأَحَبَّهُمْ، ثُمَّ إِنْ الْمَجُوسَ وَشَوْا بِدَانْيَالَ، فَقَالُوا‏:‏ إِنَّ دَانْيَالَ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ أَنْ يَبُولَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ عَارًا، فَجَعَلَ لَهُمْ بُخْتَنَصَّرُ طَعَامًا، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، وَقَالَ لِلْبَوَّابِ‏:‏ انْظُرْ أَوَّلَ مَنْ يَخْرُجُ عَلَيْكَ يَبُولُ، فَاضْرِبْهُ بِالطَّبَرْزِينِ، وَإِنْ قَالَ‏:‏ أَنَا بُخْتَنَصَّرُ، فَقُلْ‏:‏ كَذَّبَتْ، بُخْتَنَصَّرُ أَمَرَنِي، فَحَبَسَ اللَّهُ عَنْ دَانْيَالَ الْبَوْلَ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَامَ مِنَ الْقَوْمِ يُرِيدُ الْبَوْلَ بُخْتَنَصَّرُ، فَقَامَ مُدِلًّا وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا يَسْحَبُ ثِيَابَهُ؛ فَلَمَّا رَآهُ الْبَوَّابُ شَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ أَنَا بُخْتَنَصَّرُ، فَقَالَ‏:‏ كَذَّبَتْ، بُخْتَنَصَّرُ أَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ أَوَّلَ مَنْ يَخْرُجُ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي الْمُعَلَّى، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ‏:‏ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى سنحاريبَ، قَالَ‏:‏ فَرَدَّ اللَّهُ لَهُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ؛ قَالَ‏:‏ ثُمَّ عَصَوْا رَبَّهُمْ وَعَادُوا لِمَا نَهَوْا عَنْهُ، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ بُخْتَنَصَّرَ، فَقَتْلَ الْمُقَاتِلَةِ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ، وَأَخَذَ مَا وَجَدَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَدَخَلُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا‏}‏ دَخَلُوهُ فَتَبِرُّوهُ وَخَرَّبُوهُ وَأَلْقَوْا فِيهِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْعُذْرَةِ وَالْحَيْضِ وَالْجِيَفِ وَالْقَذِرِ، فَقَالَ اللَّهُ ‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا‏}‏ فَرَحِمَهُمْ فَرَدَّ إِلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ وَخَلَّصَ مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، فَقَالَ أَبُو الْمُعَلَّى، وَلَا أَعْلَمَ ذَلِكَ؛ إِلَّا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَعِدْهُمُ الرَّجْعَةَ إِلَى مُلْكِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ بَعَثَ اللَّهُ مَلِكَ فَارِسَ بِبَابِلَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ، فَأَتَوْا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَمَّرُوهُمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآخِرَةُ وَوَعْدُهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ‏:‏ لَمَّا ضُرِبَ لِبُخْتَنَصَّرَ الْمَلِكُ بِجُرَّانِهِ، قَالَ‏:‏ ثَلَاثَةٌ فَمَنِ اسْتَأْخَرَ مِنْكُمْ بَعْدَهَا فَلْيَمْشِ إِلَى خَشَبَتِهِ، فَغَزَا الشَّامَ، فَذَلِكَ حِينَ قَتَلَ وَأَخْرَجَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَنَزَعَ حُلِيَّتَهُ، فَجَعَلَهَا آنِيَةً لِيَشْرَبَ فِيهَا الْخُمُورَ، وَخَوَّانًا يَأْكُلُ عَلَيْهِ الْخَنَازِيرُ، وَحَمَلَ التَّوْرَاةَ مَعَهُ، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي النَّارِ، وَقَدِمَ فِيمَا قَدِمَ بِهِ مِئَةَ وَصَيْفٍ مِنْهُمْ دَانْيَالُ وَعَزْرِيَا وَحَنَانِيَا وَمَشَائِيلُ، فَقَالَ لِإِنْسَانُ‏:‏ أَصْلِحْ لِي أَجْسَامَ هَؤُلَاءِ لَعَلِّي أَخْتَارُ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً يَخْدِمُونَنِي، فَقَالَ دَانْيَالُ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ إِنَّمَا نُصِرُوا عَلَيْكُمْ بِمَا غَيَّرْتُمْ مِنْ دِينِ آبَائِكُمْ، لَا تَأْكُلُوا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَلَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، فَقَالُوا لِلَّذِي يُصْلِحُ أَجْسَامُهُمْ‏:‏ هَلْ لَكَ أَنْ تُطْعِمَنَا طَعَامًا، هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْكَ فِي الْمَئُونَةِ مِمَّا تُطْعِمُ أَصْحَابَنَا، فَإِنْ لَمْ نَسْمَنْ قَبْلَهُمْ رَأَيْتَ رَأْيَكَ، قَالَ‏:‏ مَاذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ خَبَزُ الشَّعِيرِ وَالْكُرَّاثُ، فَفَعَلَ فَسَمِنُوا قَبْلَ أَصْحَابِهِمْ، فَأَخَذَهُمْ بُخْتَنَصَّرُ يَخْدِمُونَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ رَأَى بُخْتَنَصَّرُ رُؤْيَا، فَجَلَسَ فَنَسِيَهَا؛ فَعَادَ فَرَقَدَ فَرَآهَا، فَقَامَ فَنَسِيَهَا، ثُمَّ عَادَ فَرَقَدَ فَرَآهَا، فَخَرَجَ إِلَى الْحُجْرَةِ؛ فَنَسِيَهَا؛ فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا الْعُلَمَاءَ وَالْكُهَّانَ، فَقَالَ‏:‏ أَخْبَرُونِي بِمَا رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ، وَأَوِّلُوا لِي رُؤْيَايَ، وَإِلَّا فَلْيَمْشِ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ إِلَى خَشَبَتِهِ، مَوْعِدُكُمْ ثَالِثَةٌ‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ هَذَا لَوْ أَخْبَرَنَا بِرُؤْيَاهُ، وَذِكْرَ كَلَامًا لَمْ أَحْفَظْهُ، قَالَ‏:‏ وَجَعَلَ دَانْيَالُ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ قَرَابَتِهِ يَقُولُ‏:‏ لَوْ دَعَانِي الْمَلِكُ لَأَخْبَرْتُهُ بِرُؤْيَاهُ، وَلَأَوَّلْتُهَا لَهُ، قَالَ‏:‏ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ‏:‏ مَا أَحْمَقَ هَذَا الْغُلَامَ الْإِسْرَائِيلِيَّ إِلَى أَنْ مَرَّ بِهِ كَهْلٌ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ‏:‏ إِيهٍ، قَالَ‏:‏ وَعُنُقُهُ مِنْ فِضَّةٍ، قَالَ‏:‏ إِيهٍ، قَالَ‏:‏ وَصَدْرَهُ مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ‏:‏ إِيهٍ، قَالَ‏:‏ وَبَطْنُهُ مِنْ صِفْرٍ، قَالَ‏:‏ إِيهٍ، قَالَ‏:‏ وَرَجُلَاهُ مِنْ آنَكٍ، قَالَ‏:‏ إِيهٍ، قَالَ‏:‏ وَقَدَّمَاهُ مِنْ فَخَّارٍ، قَالَ‏:‏ هَذَا الَّذِي رَأَيْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِيهٍ، قَالَ‏:‏ فَجَاءَتْ حَصَاةٌ فَوَقَعَتْ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ فِي بَطْنِهِ، ثُمَّ فِي رِجْلَيْهِ، ثُمَّ فِي قَدَمَيْهِ، قَالَ‏:‏ فَأَهْلَكَتْهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَمَا هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَمَّا الذَّهَبُ فَإِنَّهُ مُلْكَكَ، وَأَمَّا الْفِضَّةُ فَمُلْكُ ابْنِكَ مِنْ بَعْدِكَ، ثُمَّ مَلِكُ ابْنُ ابْنِكَ، قَالَ‏:‏ وَأَمَّا الْفَخَّارُ فَمُلْكُ النِّسَاءِ، فَكَسَاهُ جُبَّةً تَرِثُونَ وَسُوَّرَهُ وَطَافَ بِهِ فِي الْقَرْيَةِ، وَأَجَازَ خَاتَمَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ فَارِسُ، قَالُوا‏:‏ مَا الْأَمْرُ إِلَّا أَمْرُ هَذَا الْإِسْرَائِيلِيِّ، فَقَالُوا‏:‏ ائْتُوهُ مِنْ نَحْوِ الْفِتْيَةِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا تَذْكُرُوا لَهُ دَانْيَالَ، فَإِنَّهُ لَا يُصَدِّقُكُمْ عَلَيْهِ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا‏:‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ الثَّلَاثَةَ لَيْسُوا عَلَى دِينِكَ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّكَ إِنْ قَرُبْتَ إِلَيْهِمْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ لَمْ يَأْكُلُوا وَلَمْ يَشْرَبُوا، فَأَمَرَ بِحَطَبٍ كَثِيرٍ فَوُضِعَ، ثُمَّ أَرْقَاهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَوَقَدْ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ آخَرِ اللَّيْلِ يَبُولُ، فَإِذَا هُمْ يَتَحَدَّثُونَ، وَإِذَا مَعَهُمْ رَابِعٌ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ يُصَلِّي، قَالَ‏:‏ مَنْ هَذَا يَا دَانْيَالُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا جِبْرِيلُ، إِنَّكَ ظَلَمْتَهُمْ، قَالَ‏:‏ ظَلَمَتُهُمْ، مُرْ بِهِمْ يَنْزِلُوا؛ فَأَمَرَ بِهِمْ فَنَزَلُوا، قَالَ‏:‏ وَمَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى بُخْتَنَصَّرَ مِنَ الدَّوَابِّ كُلِّهَا، فَجُعِلَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الدَّوَابِّ رَأْسُهُ رَأْسُ سَبْعٍ، مِنَ السِّبَاعِ الْأَسَدُ، وَمِنَ الطَّيْرِ النَّسْرُ، وَمَلَكَ ابْنُهُ فَرَأَى كَفًّا خَرَجَتْ بَيْنَ لَوْحَيْنِ، ثُمَّ كَتَبَتْ سَطْرَيْنِ، فَدَعَا الْكُهَّانَ وَالْعُلَمَاءَ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ فِي ذَلِكَ عِلْمًا، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ‏:‏ إِنَّكَ لَوْ أَعَدْتَ إِلَى دَانْيَالَ مَنْزِلَتَهُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ مِنْ أَبِيكَ أَخْبَرَكَ، وَكَانَ قَدْ جَفَاهُ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّي مُعِيدٌ إِلَيْكَ مَنْزِلَتَكَ مِنْ أَبِي، فَأَخْبَرَنِي مَا هَذَانَ السَّطْرَانِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَمَّا أَنْ تُعِيدَ إِلَيَّ مَنْزِلَتِي مِنْ أَبِيكَ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا؛ وَأَمَّا هَذَانَ السَّطْرَانِ فَإِنَّكَ تُقْتُلُ اللَّيْلَةَ، فَأَخْرَجَ مَنْ فِي الْقَصْرِ أَجْمَعِينَ، وَأَمَرَ بِقَفْلِهِ، فَأُقْفِلَتِ الْأَبْوَابُ عَلَيْهِ، وَأَدْخَلَ مَعَهُ آمِنَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي نَفْسِهِ مَعَهُ سَيْفٌ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ جَاءَكَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَاقْتُلْهُ، وَإِنْ قَالَ أَنَا فُلَانٌ؛ وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْبَطْنَ، فَجَعَلَ يَمْشِي حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَرَقَدَ وَرَقَدَ صَاحِبُهُ، ثُمَّ نَبَّهَهُ الْبَطْنُ، فَذَهَبَ يَمْشِي وَالْآخَرُ نَائِمٌ، فَرَجَعَ فَاسْتَيْقَظَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَنَا فُلَانٌ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ‏}‏ آخِرُ الْعُقُوبَتَيْنِ ‏{‏لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ كَمَا دَخَلَهُ عَدْوُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ ‏{‏وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا‏}‏ فَبَعْثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ بُخْتَنَصَّرَ الْمَجُوسِيَّ الْبَابِلِيَّ، أَبْغَضَ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَسَبَا وَقَتْلَ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وِسَامَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ‏}‏ مِنَ الْمَرَّتَيْنِ ‏{‏لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ لِيُقَبِّحُوا وُجُوهَكُمْ ‏{‏وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ يُدَمِّرُوا مَا عَلَوْا تَدْمِيرًا، قَالَ‏:‏ هُوَ بُخْتَنَصَّرُ، بَعْثَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا أَفْسَدُوا بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ بُخْتَنَصَّرَ، فَخَرَّبَ الْمَسَاجِدَ وَتَبِرَ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ فِيمَا بَلَغَنِي، اسْتَخْلَفَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ، يَعْنِي بَعْدَ قَتْلِهِمْ شَعْيَاءَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ‏:‏ نَاشَةُ بْنُ آمُوصَ، فَبَعْثَ اللَّهُ الْخَضِرَ نَبِيًّا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَدْ بَلَغَنِي يَقُولُ‏:‏ «“ إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ خَضِرًا، لِأَنَهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَقَامَ عَنْهَا وَهِيَ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ “» قَالَ‏:‏ وَاسْمُ الْخَضِرِ فِيمَا كَانَ وَهَبُ بْنُ مُنَبِّهٍ يَزْعُمُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ أَرَمَيَا بْنُ حَلْفِيَا، وَكَانَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عُمْرَانَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، قَالَا ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ ابْنِ حُمَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِإرْمِيَا حِينَ بَعَثَهُ نَبِيًّا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ يَا إِرْمِيَا مِنْ قَبْلِ أَنْ أَخْلُقَكَ اخْتَرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُصَوِّرَكَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ قَدَّسْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْرِجَكَ مَنْ بَطْنِ أُمِّكَ طَهَّرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ السَّعْيَ نَبَّأْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الْأَشُدَّ اخْتَرْتُكَ، وَلِأَمْرٍ عَظِيمٍ اخْتَبَأْتُكَ؛ فَبَعَثَ اللَّهُ إِرْمِيَا إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ، وَيَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ؛ قَالَ‏:‏ ثُمَّ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَكِبُوا الْمَعَاصِي، وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ، وَنَسُوا مَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى صَنَعَ بِهِمْ، وَمَا نَجَّاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ سنحاريبَ وَجُنُودِهِ‏.‏ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِرْمِيَاءَ‏:‏ أَنِ ائْتِ قَوْمَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ مَا آمُرُكَ بِهِ، وَذَكِّرْهُمْ نِعْمَتِي عَلَيْهِمْ، وَعَرِّفْهُمْ أَحْدَاثَهُمْ، فَقَالَ إِرْمِيَاءُ‏:‏ إِنِّي ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ تُقَوِّنِي، وَعَاجِزٌ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْنِي، وَمُخْطِئٌ إِنْ لَمْ تُسَدِّدْنِي، وَمَخْذُولٌ إِنْ لَمْ تَنْصُرْنِي، وَذَلِيلٌ إِنْ لَمْ تُعِزَّنِي، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ أَوَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا تَصْدُرُ عَنْ مَشِيئَتِي، وَأَنَّ الْقُلُوبَ كُلَّهَا وَالْأَلْسِنَةَ بِيَدِي، أُقَلِّبُهَا كَيْفَ شِئْتُ، فَتُطِيعُنِي، وَإِنِّي أَنَا اللَّهُ الَّذِي لَا شَيْءَ مِثْلِي، قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِنَّ بِكَلِمَتِي، وَأَنَا كَلَّمْتُ الْبِحَارَ، فَفَهِمَتْ قَوْلِي، وَأَمَرْتُهَا فَعَقِلَتْ أَمْرِي، وَحَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالْبَطْحَاءِ فَلَا تَدَّى حَدِّي، تَأْتِي بِأَمْوَاجٍ كَالْجِبَالِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ حَدِّي أَلْبَسْتُهَا مَذَّلَةَ طَاعَتِي خَوْفًا وَاعْتِرَافًا لِأَمْرِي إِنِّي مَعَكَ، وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ شَيْءٌ مَعِي، وَإِنِّي بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ مِنْ خَلْقِي، لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَاتِي، وَلِتَسْتَحِقَّ بِذَلِكَ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَإِنْ تُقَصِّرْ عَنْهَا فَلَكَ مَثَلُ وَزْرِ مَنْ تَرْكَبُ فِي عَمَاهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، انْطَلِقْ إِلَى قَوْمِكَ فَقُلْ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ لَكُمْ صَلَاحَ آبَائِكُمْ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَسْتَتِيبَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَبْنَاءِ، وَسَلْهُمْ كَيْفَ وَجَدَ آبَاؤُهُمْ مَغَبَّةَ طَاعَتِي، وَكَيْفَ وُجَدُوا هُمْ مَغَبَّةَ مَعْصِيَتِي، وَهَلْ عَلِمُوا أَنَّ أَحَدًا قَبْلَهُمْ أَطَاعَنِي فَشَقِيَ بِطَاعَتِي، أَوْ عَصَانِي فَسَعِدَ بِمَعْصِيَتِي، فَإِنَّ الدَّوَابَّ مِمَّا تَذْكُرُ أَوْطَانَهَا الصَّالِحَةَ، فَتَنْتَابُهَا، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ رَتَعُوا فِي مُرُوجِ الْهَلَكَةِ‏.‏ أَمَّا أَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ فَاتَّخَذُوا عِبَادِي خَوَلًا لِيَعْبُدُوهُمْ دُونِي وَتَحَكَّمُوا فِيهِمْ بِغَيْرِ كِتَابِي حَتَّى أَجَهَلُوهُمْ أَمْرِي، وَأَنْسَوْهُمْ ذَكَرِي، وَغَرُّوهُمْ مِنِّي‏.‏ أَمَّا أُمَرَاؤُهُمْ وَقَادَاتُهُمْ فَبَطَرُوا نِعْمَتِي، وَأَمِنُوا مَكْرِي، وَنَبَذُوا كِتَابِي، وَنَسُوا عَهْدِي، وَغَيَّرُوا سُنَّتِي، فَادَّانَ لَهُمْ عِبَادِي بِالطَّاعَةِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِي، فَهُمْ يُطِيعُوهُمْ فِي مَعْصِيَتِي، وَيُتَابِعُونَهُمْ عَلَى الْبِدَعِ الَّتِي يَبْتَدِعُونَ فِي دِينِي جَرَاءَةً عَلَيَّ وَغِرَّةً وَفِرْيَةً عَلَيَّ وَعَلَى رُسُلِي، فَسُبْحَانَ جَلَالِي وَعُلُوِّ مَكَانِيِّ، وَعِظَمِ شَأْنِي، فَهَلْ يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعْصِيَتِي، وَهَلْ يَنْبَغِي فِي أَنْ أَخْلُقَ عِبَادًا أَجْعَلُهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِي‏.‏ وَأَمَّا قُرَّاؤُهُمْ وَفُقَهَاؤُهُمْ فَيَتَعَبَّدُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَيَتَزَيَّنُونَ بِعِمَارَتِهَا لِغَيْرِي، لِطَلَبِ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، وَيَتَفَقَّهُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الْعِلْمِ، وَيَتَعَلَّمُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الْعَمَلِ‏.‏ وَأَمَّا أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ، فَمُكْثِرُونَ مَقْهُورُونَ مُغِيرُونَ، يَخُوضُونَ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَيَتَمَنَّوْنَ عَلَيَّ مِثْلَ نُصْرَةِ آبَائِهِمْ وَالْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمْتُهُمْ بِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنْ لَا أَحَدَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ مِنِّي بِغَيْرِ صِدْقٍ وَلَا تَفَكُّرٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، وَلَا يَذْكُرُونَ كَيْفَ كَانَ صَبْرُ آبَائِهِمْ لِي، وَكَيْفَ كَانَ جَدُّهُمْ فِي أَمْرِي حِينَ غَيَّرَ الْمُغِيرُونَ، وَكَيْفَ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، فَصَبَرُوا وَصَدَقُوا حَتَّى عَزَّ أَمْرِي، وَظَهَرَ دِينِي، فَتَأَنَّيْتُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَعَلَّهُمْ يَسْتَجِيبُونَ، فَأَطْوَلْتُ لَهُمْ، وَصَفَحْتُ عَنْهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَأَكْثَرْتُ وَمَدَدْتُ لَهُمْ فِي الْعُمْرِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، فَأَعْذَرْتُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، أُمْطِرُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ، وَأُنْبِتُ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَأُلْبِسُهُمُ الْعَافِيَةَ وَأُظْهِرُهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ فَلَا يَزْدَادُونَ إِلَّا طُغْيَانًا وَبُعْدًا مِنِّي، فَحَتَّى مَتَى هَذَا‏؟‏ أَبِي يَتَمَرَّسُونَ أَمْ إِيَّايَ يُخَادِعُونَ‏؟‏ وَإِنِّي أَحْلِفُ بِعِزَّتِي لَأُقَيِّضَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً يَتَحَيَّرُ فِيهَا الْحَلِيمُ، وَيَضِلُّ فِيهَا رَأْيُ ذِي الرَّأْيِ، وَحِكْمَةُ الْحَكِيمِ، ثُمَّ لَأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ جَبَّارًا قَاسِيًا عَاتِيًا، أُلْبِسُهُ الْهَيْبَةَ، وَأَنْتَزِعُ مِنْ صَدْرِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْبَيَانَ، يَتْبَعُهُ عَدَدٌ وَسَوَادٌ مِثْلَ سَوَادِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، لَهُ عَسَاكِرُ مِثْلُ قِطَعِ السَّحَابِ، وَمَرَاكِبُ أَمْثَالُ الْعَجَاجِ، كَأَنَّ خَفِيقَ رَايَاتِهِ طَيَرَانُ النُّسُورِ، وَأَنَّ حَمْلَةَ فُرْسَانِهِ كَوَبَرِ الْعَقِبَانِ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِرْمِيَا‏:‏ إِنِّي مَهْلُكٌ بَنَى إِسْرَائِيلَ بِيَافِثَ، وَيَافِثُ أَهْلُ بَابِلَ، وَهَمُّ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، ثُمَّ لَمَّا سَمِعَ إِرْمِيَا وَحْيَ رَبِّهِ صَاحَ وَبَكَى وَشَقَّ ثِيَابَهُ، وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ‏:‏ مَلْعُونٌ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ لَقِيَتِ التَّوْرَاةَ، وَمِنْ شَرِّ أَيَّامِي يَوْمٌ وُلِدَتْ فِيهِ، فَمَا أُبْقِيتُ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا لِمَا هُوَ أَشَرُّ عَلَيَّ، لَوْ أَرَادَ بِي خَيْرًا مَا جَعَلَنِي آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمِنْ أَجْلِي تُصِيبُهُمُ الشِّقْوَةُ وَالْهَلَاكُ؛ فَلَمَّا سَمِعَ اللَّهُ تَضَرُّعَ الْخَضِرَ وَبُكَاءَهُ، وَكَيْفَ يَقُولُ، نَادَاهُ‏:‏ يَا إِرْمِيَا أَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْكَ فِيمَا أَوْحَيْتُ لَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ يَا رَبِّ أَهْلِكْنِي قَبْلَ أَنْ أَرَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَا أُسَرُّ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ وَعِزَّتِي الْعَزِيزَةُ لَا أُهْلِكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرَ مِنْ قِبَلَكَ فِي ذَلِكَ، فَفَرِحَ عِنْدَ ذَلِكَ إِرْمِيَا لِمَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَقَالَ‏:‏ لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُوسَى وَأَنْبِيَاءَهُ بِالْحَقِّ لَا آمُرُ رَبِّي بِهَلَاكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبَدًا، ثُمَّ أَتَى مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخْبَرَهُ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَاسْتَبْشَرَ وَفَرِحَ وَقَالَ‏:‏ إِنْ يُعَذِّبْنَا رَبّنَا فَبِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ قَدَّمْنَاهَا لِأَنْفُسِنَا، وَإِنَّ عَفَا عَنَّا فَبِقُدْرَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَبِثُوا بَعْدَ هَذَا الْوَحْيِ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا مَعْصِيَةً وَتَمَادِيًا فِي الشَّرِّ، وَذَلِكَ حِينَ اقْتَرَبَ هَلَاكَهُمْ، فَقَلَّ الْوَحْي حِينَ لَمْ يَكُونُوا يَتَذَكَّرُونَ الْآخِرَةَ، وَأَمْسَكَ عَنْهُمْ حِينَ أَلَّهَتْهُمُ الدُّنْيَا وَشَأْنُهَا، فَقَالَ لَهُمْ مِلْكَهُمْ‏:‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، انْتَهَوْا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّكُمْ بِأُسُّ اللَّهِ، وَقَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ لَا رَحْمَةَ لَهُمْ بِكُمْ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ قَرِيبُ التَّوْبَةِ، مَبْسُوطُ الْيَدَيْنِ بِالْخَيْرِ، رَحِيمٌ بِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ‏.‏ فَأَبَوْا عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعُوا عَنْ شَيْءٍ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْقَى فِي قَلْبِ بُخْتَنَصَّرَ بْنِ نَجُورَ بْنِ زَاذَانَ بْنِ سنحاريبَ بْنِ دَارِيَاسَ بْنِ نَمْرُودَ بْنِ فَالْخَ بْنِ عَابِرَ بْنِ نَمْرُودَ صَاحِبِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي حَاجَّهُ فِي رَبِّهِ، أَنَّ يَسِيرَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِيهِ مَا كَانَ جِدُّهُ سنحاريبَ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ، فَخَرَجَ فِي سِتِّ مِئَةِ أَلْفِ رَايَةٍ يُرِيدُ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ فَلَمَّا فَصَلَ سَائِرًا أَتَى مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْخَبَرَ أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ قَدْ أَقْبَلَ هُوَ وَجُنُودُهُ يُرِيدُكُمْ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ إِلَى إِرْمِيَا، فَجَاءَهُ فَقَالَ‏:‏ يَا إِرْمِيَا أَيْنَ مَا زَعَمْتَ لَنَا أَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى إِلَيْكَ أَنْ لَا يُهْلِكَ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى يَكُونَ مِنْكَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ‏؟‏ فَقَالَ إِرْمِيَا لِلْمَلِكِ‏:‏ إِنْ رَبِّي لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَأَنَا بِهِ وَاثِقٌ؛ فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْأَجَلُ وَدَنَا انْقِطَاعُ مُلْكِهِمْ وَعَزْمَ اللَّهُ عَلَى هَلَاكِهِمْ، بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ اذْهَبْ إِلَى إِرْمِيَا فَاسْتَفْتِهِ، وَأَمَرَهُ بِالَّذِي يَسْتَفْتِي فِيهِ، فَأَقْبَلَ الْمَلَكُ إِلَى إِرْمِيَاءَ، وَكَانَ قَدْ تَمَثَّلَ لَهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا‏:‏ مَنْ أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسْتَفْتِيكَ فِي بَعْضِ أَمْرِي، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتَيْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي أَهْلِ رَحِمِي، وَصَلْتُ أَرْحَامَهُمْ بِمَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ، لَمْ آتِ إِلَيْهِمْ إِلَّا حُسْنًا، وَلَمْ آلُهُمْ كَرَامَةً، فَلَا تَزِيدُهُمْ كَرَامَتِي إِيَّاهُمْ إِلَّا إِسْخَاطًا لِي، فَأَفْتِنِي فِيهِمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَحْسِنْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَصِلْ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَصِلَ، وَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ وَانْصَرِفْ عَنْهُ، فَمَكَثَ أَيَّامًا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الَّذِي جَاءَهُ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا‏:‏ مَنْ أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنَا الرَّجُلُ الَّذِي آتَيْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي شَأْنٍ أَهْلِي، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ‏:‏ أَوْ مَا ظَهَرَتْ لَكَ أَخْلَاقَهُمْ بَعْدُ، وَلَمْ تَرَ مِنْهُمُ الَّذِي تُحِبُّ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَعْلَمُ كَرَامَةً يَأْتِيهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ لِأَهْلِ رَحِمِهِ إِلَّا قَدْ أَتَيْتُهَا إِلَيْهِمْ وَأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ‏:‏ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَأَحْسَنِ إِلَيْهِمْ، أَسْأَلُ اللَّهَ الَّذِي يُصْلِحُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ أَنْ يُصْلِحَ ذَاتَ بَيْنَكُمْ، وَأَنْ يَجْمَعَكُمْ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَيُجَنِّبَكُمْ سَخَطِهِ، فَقَالَ الْمَلِكُ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَبِثَ أَيَّامًا وَقَدْ نَزَلَ بُخْتَنَصَّرُ وَجُنُودُهُ حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَعَهُ خَلَائِقُ مِنْ قَوْمِهِ كَأَمْثَالِ الْجَرَادِ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا إِرْمِيَا، فَقَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيْنَ مَا وَعَدَكَ اللَّهُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنِّي بِرَبِّي وَاثِقٌ‏.‏ ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ أَقْبَلَ إِلَى إِرْمِيَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى جِدَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَضْحَكُ وَيَسْتَبْشِرُ بِنَصْرِ رَبِّهِ الَّذِي وَعَدَهُ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا‏:‏ مَنْ أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنَا الَّذِي كُنْتُ أَتَيْتُكَ فِي شَأْنِ أَهْلِي مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ‏:‏ أَوْلَمَ يَأْنَ لَهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنَ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يُصِيبُنِي مِنْهُمْ قَبْلَ الْيَوْمِ كُنْتُ أَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّ مَأْرَبَهُمْ فِي ذَلِكَ سُخْطِي؛ فَلَمَّا أَتَيْتُهُمُ الْيَوْمَ رَأَيْتُهُمْ فِي عَمَلٍ لَا يُرْضِي اللَّهَ وَلَا يُحِبُّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ‏:‏ عَلَى أَيِّ عَمَلٍ رَأَيْتَهُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ رَأَيْتُهُمْ عَلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ، فَلَوْ كَانُوا عَلَى مَثَلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْيَوْمِ لَمْ يَشْتَدْ عَلَيْهِمْ غَضَبِي، وَصَبَرْتُ لَهُمْ وَرَجَوْتُهُمْ، وَلَكِنْ غَضِبَتِ الْيَوْمَ لِلَّهِ وَلَكَ، فَأَتَيْتُكَ لِأُخْبِرَكَ خَبِّرْهُمْ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِلَّا مَا دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ رَبَّكَ أَنْ يُهْلِكَهُمْ، فَقَالَ إِرْمِيَا‏:‏ يَا مَالِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، إِنْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ وَصَوَابٍ فَأَبْقِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى سُخْطِكَ وَعَمَلٍ لَا تَرْضَاهُ فَاهْلِكْهُمْ، فَمَا خَرَجَتِ الْكَلِمَةُ مَنْ فِي إِرْمِيَا حَتَّى أَرْسَلَ اللَّهُ صَاعِقَةً مِنَ السَّمَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَالْتَهَبَ مَكَانُ الْقُرْبَانِ، وَخَسَفَ بِسَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا؛ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِرْمِيَا صَاحَ وَشَقَّ ثِيَابِهِ، وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ‏:‏ يَا مَلِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِيَدِكَ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَيْنَ مِيعَادُكُ الَّذِي وَعَدْتِنِي، فَنُودِيَ إِرْمِيَا‏:‏ إِنَّهُمْ لَمْ يُصِبْهُمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ إِلَّا بِفُتْيَاكَ الَّتِي أَفْتَيْتَ بِهَا رَسُولنَا، فَاسْتَيْقَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا فُتْيَاهُ الَّتِي أَفْتَى بِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّهِ، ثُمَّ إِنَّ إِرْمِيَا طَارَ حَتَّى خَالَطَ الْوَحْشَ، وَدَخَلَ بُخْتَنَصَّرُ وَجُنُودُهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَوَطِئَ الشَّامَ، وَقَتْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أَمْرَ جُنُودَهُ أَنْ يَمْلَأَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تُرْسَهُ تُرَابًا ثُمَّ يَقْذِفُهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَذَفُوا فِيهِ التُّرَابَ حَتَّى مُلَأَّوْهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى أَرْضِ بَابِلَ، وَاحْتَمَلَ مَعَهُ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا مَنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلَّهُمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاخْتَارَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفَ صَبِيٍّ؛ فَلَمَّا خَرَجَتْ غَنَائِمُ جُنْدِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَهَا فِيهِمْ، قَالَتْ لَهُ الْمُلُوكُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ‏:‏ أَيُّهَا الْمَلِكُ لَكَ غَنَائِمُنَا كُلُّهَا، وَاقْسِمْ بَيْنَنَا هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانَ الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَفَعْلَ وَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ أَغْلِمَةٍ، وَكَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْغِلْمَانِ دَانْيَالُ وَحَنَانِيَا وَعَزَارِيَا وَمِيشَائِيلُ وَسَبْعَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ دَاوُدَ، وَأَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ، وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ أَشَرَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ زَبَالُونَ بْنِ يَعْقُوبَ وَنَفَثَالِي بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ سِبْطٍ رُوبِيلَ وَلَاوِي ابْنَيْ يَعْقُوبَ، وَمَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلَهُمْ بُخْتَنَصَّرُ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَثُلُثًا أَقَرَّ بِالشَّامِ، وَثُلُثًا سَبَى، وَثُلُثًا قَتْلَ، وَذَهَبَ بِآنِيَةِ بَيْتِ الْمُقَدَّسِ حَتَّى أَقْدَمَهَا بَابِلَ، وَذَهَبَ بِالصِّبْيَانِ السَّبْعِينَ الْأَلْفِ حَتَّى أَقْدَمَهُمْ بَابِلَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ الْأَوْلَى الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِحْدَاثِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، فَلَمَّا وَلَّى بُخْتَنَصَّرُ عَنْهُمْ رَاجِعًا إِلَى بَابِلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَقْبَلَ أَرَمَيَا عَلَى حِمَارٍ لَهُ مَعَهُ عَصِيرٌ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّتَهُ حِينَ أَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ، ثُمَّ خَبَّرَ رُؤْيَا بُخْتَنَصَّرَ وَأَمْرَ دَانْيَالَ، وَهَلَاكَ بُخْتَنَصَّرَ، وَرُجُوعَ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِ بُخْتَنَصَّرَ بُعْدَ هَلَاكِهِ إِلَى الشَّامِ، وَعِمَارَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَمْرَ عُزَيْرَ وَكَيْفَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ عَمَدَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بُعْدَ ذَلِكَ يُحْدِثُونَ الْأَحْدَاثَ، يَعْنِي بَعْدَ مَهْلِكِ عُزَيْرَ، وَيَعُودُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَبْعَثُ فِيهِمُ الرُّسُلَ، فَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ، وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ، حَتَّى كَانَ آخِرَ مَنْ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَكَانُوا مِنْ بَيْتِ آلِ دَاوُدَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُحَمَّدً بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ، وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ قَتْلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا قَالَ‏:‏ مَا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا إِلَّا بِسَبَبِ امْرَأَةٍ بَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ فِيهِمْ مَلِكٌ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا تَحْتَ يَدَيْ ذَلِكَ الْمَلِكِ، فَهَمَّتِ ابْنَةُ ذَلِكَ الْمَلِكِ بِأَبِيهَا، فَقَالَتْ‏:‏ لَوْ أَنِّي تَزَوَّجْتُ بِأَبِي فَاجْتَمَعَ لِي سُلْطَانُهُ دُونَ النِّسَاءِ، فَقَالَتْ لَهُ‏:‏ يَا أَبَتِ تَزَوَّجْنِي وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَ لَهَا‏:‏ يَا بُنَيَّةُ إِنَّ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا لَا يَحِلُّ لَنَا هَذَا، فَقَالَتْ‏:‏ مِنْ لِي بِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا ضَيَّقَ عَلَيَّ، وَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِأَبِي، فَأَغْلِبُ عَلَى مُلْكِهِ وَدُنْيَاهُ دُونَ النِّسَاءِ؛ قَالَ‏:‏ فَأَمَرَتِ اللَّعَّابِينَ وَمَحَلَتْ بِذَلِكَ لِأَجْلِ قَتْلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، فَقَالَتْ‏:‏ ادْخُلُوا عَلَيْهِ فَالْعَبُوا، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُمْ فَإِنَّهُ سَيُحَكِّمُكُمْ، فَقُولُوا‏:‏ دَمُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا وَلَا تَقْبَلُوا غَيْرَهُ‏.‏ وَكَانَ اسْمُ الْمَلِكِ رُوَّادُ، وَاسْمُ ابْنَتِهِالْبَغِيُّ، وَكَانَ الْمَلِكُ فِيهِمْ إِذَا حَدَّثَ فَكَذِبَ، أَوْ وَعَدَ فَأَخْلَفَ خُلِعَ فَاسْتُبْدِلَ بِهِ غَيْرُهُ؛ فَلَمَّا أَلَعِبُوهُ وَكَثُرَ عَجَبُهُ مِنْهُمْ، قَالَ‏:‏ سَلُونِي أُعْطَكُمْ، فَقَالُوا لَهُ‏:‏ نَسْأَلُكَ دَمُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أَعْطِنَا إِيَّاهُ، قَالَ‏:‏ وَيَحْكُمُ سَلُونِي غَيْرَ هَذَا، فَقَالُوا‏:‏ لَا نَسْأَلُكَ شَيْئًا غَيْرَهُ، فَخَافَ عَلَى مِلْكِهِ إِنْ هُوَ أَخْلَفَهُمْ أَنْ يَسْتَحَلَّ بِذَلِكَ خَلْعُهُ، فَبَعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَهُوَ جَالِسٌ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي، فَذَبَحُوهُ فِي طَسْتٍ ثُمَّ حَزُّوا رَأْسَهُ، فَاحْتَمَلَهُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ وَالدَّمِ يَحْمِلُ فِي الطَّسْتِ مَعَهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَطَلَعَ بِرَأْسِهِ يَحْمِلُهُ حَتَّى وَقَفَ بِهِ عَلَى الْمَلِكِ، وَرَأْسُهُ يَقُولُ فِي يَدِي الَّذِي يَحْمِلُهُ لَا يَحِلُّ لَكَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ أَيُّهَا الْمَلِكُ لَوْ أَنَّكَ وَهَبْتَ لِي هَذَا الدَّمَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ وَمَا تَصَنُّعٌ بِهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أُطَهِّرُ مِنْهُ الْأَرْضَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ ضَيَّقَهَا عَلَيْنَا، فَقَالَ‏:‏ أَعْطَوْهُ هَذَا الدَّمَ، فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي قُلَّةٍ، ثُمَّ عَمَدَ بِهِ إِلَى بَيْتٍ فِي الْمَذْبَحِ، فَوَضْعَ الْقُلَّةَ فِيهِ، ثُمَّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ، فَفَارَ فِي الْقُلَّةِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا مِنْ تَحْتِ الْبَابِ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ؛ فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ ذَلِكَ، فَظَعَ بِهِ، فَأَخْرَجَهُ فَجَعَلَهُ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ يَفُورُ، وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ‏:‏ أَقَرَّ مَكَانَهُ فِي الْقُرْبَانِ وَلَمْ يُحَوَّلْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ فَلَمَّا رَفَّعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ بَيْنٍ أَظْهُرِهِمْ وَقَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ‏(‏وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ‏:‏ وَقَتَلُوا زَكَرِيَّا‏)‏، ابْتَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَابِلَ يُقَالُ لَهُ خَرْدُوسُ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِأَهْلِ بَابِلَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمْ الشَّامَ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَمَرَ رَأْسًا مِنْ رُءُوسِ جُنْدِهِ يُدْعَى نبورُ زَاذَانَ صَاحِبُ الْقَتْلِ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ إِنِّي قَدْ كُنْتُ حَلَفْتُ بِإِلَهِي لَئِنْ أَظْهَرْنَا عَلَى أَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَأَقْتُلُنَّهُمْ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُهُمْ فِي وَسَطِ عَسْكَرِي، إِلَّا أَنْ لَا أَجِدَ أَحَدًا أَقْتُلُهُ، فَأَمَرَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نبورُ زَادَانِ، فَدَخْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانُوا يُقَرِّبُونَ فِيهَا قُرْبَانَهُمْ، فَوُجِدَ فِيهَا دَمًا يَغْلِي، فَسَأَلَهُمْ فَقَالَ‏:‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَا شَأْنُ هَذَا الدَّمِ الَّذِي يَغْلِي، أَخْبِرُونِي خَبَرَهُ وَلَا تَكْتُمُونِي شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ هَذَا دَمُ قُرْبَانٍ كَانَ لَنَا كُنَّا قَرَّبْنَاهُ فَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَّا، فَلِذَلِكَ هُوَ يَغْلِي كَمَا تَرَاهُ، وَلَقَدْ قَرَّبْنَا مُنْذُ ثَمَانِ مِئَةٍ سَنَةٍ الْقُرْبَانَ فَتُقُبِّلَ مِنَّا إِلَّا هَذَا الْقُرْبَانُ، قَالَ‏:‏ مَا صَدَقْتُمُونِي الْخَبَرَ قَالُوا لَهُ‏:‏ لَوْ كَانَ كَأَوَّلِ زَمَانِنَا لَقُبِلَ مِنَّا، وَلَكِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ مِنَّا الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ وَالْوَحْيَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَّا، فَذَبَحَ مِنْهُمْ نبور زادان عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعَ مِئَةٍ وَسَبْعِينَ رُوحًا مِنْ رُءُوسِهِمْ، فَلَمْ يُهَدَّأْ، فَأَمُرُّ بِسَبْعِ مِئَةِ غُلَامٍ مِنْ غِلْمَانِهِمْ فَذُبِحُوا عَلَى الدَّمِ فَلَمْ يُهَدَّأْ، فَأَمَرَ بِسَبْعَةِ آلَافٍ مِنْ شِيَعِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ، فَذَبَحَهُمْ عَلَى الدَّمِ فَلَمْ يَبْرُدْ وَلَمْ يَهْدَأْ؛ فَلَمَّا رَأَى نبور زاذان أَنَّ الدَّمَ لَا يَهْدَأُ قَالَ لَهُمْ‏:‏ وَيْلُكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَصَدِقُونِي وَاصْبِرُوا عَلَى أَمْرِ رَبِّكُمْ، فَقَدْ طَالَ مَا مَلَكْتُمْ فِي الْأَرْضِ، تَفْعَلُونَ فِيهَا مَا شِئْتُمْ قَبْلَ أَنْ لَا أَتْرُكَ مِنْكُمْ نَافِخَ نَارٍ، لَا أُنْثَى وَلَا ذِكْرًا إِلَّا قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا رَأَوُا الْجُهْدَ وَشِدَّةَ الْقَتْلِ صَدَقُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالُوا لَهُ‏:‏ إِنَّ هَذَا دَمَ نَبِيٍّ مِنَّا كَانَ يَنْهَانَا عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ، فَلَوْ أَطَعْنَاهُ فِيهَا لَكَانَ أَرْشَدَ لَنَا، وَكَانَ يُخْبِرُنَا بِأَمْرِكُمْ فَلَمْ نُصَدِّقْهُ، فَقَتَلْنَاهُ، فَهَذَا دَمُهُ، فَقَالَ لَهُمْ نبور زاذان‏:‏ مَا كَانَ اسْمُهُ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ‏:‏ الْآنَ صَدَقْتُمُونِي، بِمِثْلِ هَذَا يَنْتَقِمُ رَبُّكُمْ مِنْكُمْ؛ فَلَمَّا رَأَى نبور زاذان أَنَّهُمْ صَدَقُوهُ خَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ لِمَنْ حَوْلُهُ‏:‏ غَلِّقُوا الْأَبْوَابَ، أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ، وَأَخْرِجُوا مَنْ كَانَ هَهُنَا مَنْ جَيْشِ خُرْدُوسَ وَخَلَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، قَدْ عَلِمَ رَبِّي وَرَبُّكَ مَا قَدْ أَصَابَ قَوْمَكَ مِنْ أَجْلِكَ، وَمَا قُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ أَجْلِكَ، فَاهْدَأْ بِإِذْنِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ لَا أُبْقِي مِنْ قَوْمِكَ أَحَدًا، فَهَدَأَ دَمُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَرَفْعَ نبورزاذانُ عَنْهُمُ الْقَتْلَ وَقَالَ‏:‏ آمَنْتُ بِمَا آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَصَدَّقَتْ وَأَيْقَنْتُ أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ آخِرُ لَمْ يَصْلُحْ، وَلَوْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ لَمْ تَسْتَمْسِكِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَصْلُحْ فَتُبَارِكَ وَتَقَدَّسَ، وَتَسْبَحَ وَتَكْبَّرَ وَتَعَظِّمَ، مَلِكُ الْمُلُوكِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، فَلَهُ الْحُلْمُ وَالْعِلْمُ وَالْعِزَّةُ وَالْجَبَرُوتُ، وَهُوَ الَّذِي بَسَطَ الْأَرْضَ وَأَلْقَى فِيهَا رَوَاسِيَ لِئَلَّا تَزُولَ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِرَبِّي أَنْ يَكُونَ وَيَكُونَ مُلْكُهُ‏.‏ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَأْسٍ مِنْ رُءُوسِ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ نبورَ زَاذَانَ حَبُورٌ صَدُوقٌ، وَالْحَبُورُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ‏:‏ حَدِيثُ الْإِيمَانِ، وَإِنَّ نبورَ زَاذَانَ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ خردوسَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ مِنْكُمْ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُكُمْ وَسَطَ عَسْكَرِهِ، وَإِنِّي لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْصِيَهُ، قَالُوا لَهُ‏:‏ افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ‏.‏ فَأَمَرَهُمْ فَحَفَرُوا خَنْدَقًا وَأَمْرَ بِأَمْوَالِهِمْ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ، فَذَبَحَهَا حَتَّى سَالَ الدَّمُ فِي الْعَسْكَرِ، وَأَمَرَ بِالْقَتْلَى الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ، فَطُرِحُوا عَلَى مَا قُتِلَ مِنْ مَوَاشِيهِمْ حَتَّى كَانُوا فَوْقَهُمْ، فَلَمْ يَظُنْ خردوسُ إِلَّا أَنَّ مَا كَانَ فِي الْخَنْدَقِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا بَلَغَ الدَّمُ عَسْكَرَهُ، أَرْسَلَ إِلَى نبورَ زَاذَانَ أَنِ ارْفَعْ عَنْهُمْ، فَقَدْ بَلَغَتْنِي دِمَاؤُهُمْ، وَقَدِ انْتَقَمْتُ مِنْهُمْ بِمَا فَعَلُوا، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ إِلَى أَرْضِ بَابِلَ، وَقَدْ أَفْنَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ كَادَ، وَهِيَ الْوَقْعَةُ الْآخِرَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ وَعَسَى مِنَ اللَّهِ حَقٌّ، فَكَانَتِ الْوَقْعَةُ الْأَوْلَى‏:‏ بُخْتَنَصَّرَ وَجُنُودَهُ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ الْآخِرَةُ خردوسَ وَجُنُودَهُ، وَهِيَ كَانَتْ أَعْظَمُ الْوَقْعَتَيْنِ، فِيهَا كَانَ خَرَابُ بِلَادِهِمْ، وَقَتْلُ رِجَالِهِمْ، وَسَبْيُ ذَرَّارِيهِمْ وَنِسَائِهِمْ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ‏{‏وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا‏}‏ ثُمَّ عَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَكْثَرَ عَدَدَهُمْ، وَنَشْرَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، ثُمَّ بَدَّلُوا وَأَحْدَثُوا الْأَحْدَاثَ، وَاسْتَبْدَلُوا بِكِتَابِهِمْ غَيْرَهُ، وَرَكِبُوا الْمَعَاصِي، وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ وَضَيَّعُوا الْحُدُودَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَتَّابٍ رَجُلٍ مِنْ تَغَلُّبٍ كَانَ نَصْرَانِيًّا عُمْرًا مِنْ دَهْرِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ، فَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَفَقِهَ فِي الدِّينِ، وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ عَمَّرَ فِي الْإِسْلَامِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ‏:‏ كَانَ آخَرُ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيًّا بَعْثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكُمْ‏:‏ إِنِّي قَدْ سُلِبْتُ أَصْوَاتَكُمْ، وَأَبْغَضْتُكُمْ بِكَثْرَةِ أَحْدَاثِكُمْ، فَهَمُّوا بِهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ‏:‏ ائْتِهِمْ وَاضْرِبْ لِى وَلَهُمْ مَثَلَا فَقُلْ لَهُمْ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لَكُمْ‏:‏ اقْضُوا بَيْنِي وَبَيْنَ كَرَمِي، أَلَمْ أَخْتَرْ لَهُ الْبِلَادَ، وَطَيَّبْتُ لَهُ الْمُدِرَّةَ، وَحَظَرَتْهُ بِالسِّيَاجِ، وَعَرَّشَتْهُ السَّوِيقَ وَالشَّوْكَ وَالسِّيَاجَ وَالْعَوْسَجَ، وَأَحَطْتُهُ بِرِدَائِي، وَمَنَعْتُهُ مِنَ الْعَالَمِ وَفَضَّلْتُهُ، فَلَقِيَنِي بِالشَّوْكِ وَالْجُذُوعِ، وَكُلِّ شَجَرَةٍ لَا تُؤْكَلُ مَا لِهَذَا اخْتَرْتُ الْبَلْدَةَ، وَلَا طَيَّبْتُ الْمَدَرَةَ، وَلَا حَظَرْتُهُ بِالسِّيَاجِ، وَلَا عَرَشْتُهُ السَّوِيقَ، وَلَا حُطْتُهُ بِرِدَائِي، وَلَا مَنَعْتُهُ مِنَ الْعَالَمِ، فَضَّلْتُكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُمُونِي بِكُلِّ مَا أَكْرَهَ مِنْ مَعْصِيَتِي وَخِلَافِ أَمْرِي لِمَهْ إِنَّ الْحِمَارَ لَيَعْرِفُ مِذْوَدَهُ، لَمَهْ إِنَّ الْبَقَرَةَ لِتَعْرِفُ سَيِّدَهَا، وَقَدْ حَلَفْتُ بِعِزَّتِي الْعَزِيزَةِ، وَبِذِرَاعِي الشَّدِيدِ لَآخُذُنَّ رِدَائِي، وَلَأَمْرِجَنَّ الْحَائِطَ، وَلَأَجْعَلَنَّكُمْ تَحْتَ أَرْجُلِ الْعَالَمِ، قَالَ‏:‏ فَوَثَبُوا عَلَى نَبِيِّهِمْ فَقَتَلُوهُ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ، وَنَزَعَ مِنْهُمُ الْمَلِكَ، فَلَيْسُوا فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا وَعَلَيْهِمْ ذُلٌّ وَصَغَارٌ وَجِزْيَةٌ يُؤَدُّونَهَا، وَالْمُلْكُ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ يَزَالُوا كَذَلِكَ أَبَدًا، مَا كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ قَالَ‏:‏ فَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ جِمَاعِ أَحَادِيثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَتِ الْآخِرَةُ أَشَدَّ مِنَ الْأَوْلَى بِكَثِيرٍ، قَالَ‏:‏ لِأَنَّ الْأُولَى كَانَتْ هَزِيمَةً فَقَطْ، وَالْآخِرَةُ كَانَ التَّدْمِيرُ، وَأَحْرَقَ بُخْتَنَصَّرُ التَّوْرَاةَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَخَرِّبَ الْمَسْجِدَ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ بَعَثَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، قَالَ‏:‏ فَكَانَ فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، نِكَاحُ ابْنَةِ الْأَخِ، قَالَ‏:‏ وَكَانَتْ لِمَلِكِهِمُ ابْنَةَ أَخٍ تُعْجِبُهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ لَهَا كُلَّ يَوْمٍ حَاجَةٌ يَقْضِيهَا؛ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا قَالَتْ لَهَا‏:‏ إِذَا دَخَلْتِ عَلَى الْمَلِكِ فَسَأَلَكِ حَاجَتَكِ، فَقُولِي‏:‏ حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا؛ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ سَأَلَهَا حَاجَتَهَا، فَقَالَتْ‏:‏ حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَقَالَ‏:‏ سَلِي غَيْرَ هَذَا‏!‏ فَقَالَتْ‏:‏ مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا هَذَا، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ دَعَا يَحْيَى وَدَعَا بِطَسْتٍ فَذَبَحَهُ، فَبَدَرَتْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخْتَنَصَّرَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتْهُ عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ، قَالَ‏:‏ فَأَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْهُمْ مِنْ سِنٍّ وَاحِدٍ فَسَكَنَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلِيَدْخُلْ عَدُوَّكُمُ الَّذِي أَبْعَثُهُ عَلَيْكُمْ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَهْرًا مِنْهُمْ لَكُمْ وَغَلَبَةً، كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ حِينَ أَفْسَدْتُمُ الْفَسَادَ الْأَوَّلَ فِي الْأَرْضِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏{‏وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا‏}‏ فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ وَلِيُدَمِّرُوا مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِكُمْ تَدْمِيرًا، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ دَمَّرْتَ الْبَلَدَ‏:‏ إِذَا خَرَّبَتْهُ وَأَهْلَكْتَ أَهْلَهُ، وَتَبَرَ تَبْرًا وَتَبَارًا، وَتَبَّرَتْهُ أُتْبِرُهُ تَتْبِيرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا‏}‏ يَعْنِي‏:‏ هَلَاكًا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ‏{‏وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ تَدْمِيرًا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ يُدَمِّرُوا مَا عَلَوْا تَدْمِيرًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لَعَلَّ رَبَّكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بَعْدَ انْتِقَامِهِ مِنْكُمْ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيَسُوءَ مَبْعَثُهُ عَلَيْكُمْ وُجُوهَكُمْ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَسْتَنْقِذُكُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَيَنْتَشِلُكُمْ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي يُحِلُّهُ بِكُمْ، وَيَرْفَعُكُمْ مِنَ الْخُمُولَةِ الَّتِي تَصِيرُونَ إِلَيْهَا، فَيُعِزُّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَسَى مِنَ اللَّهِ‏:‏ وَاجِبٌ، وَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ، فَكَثُرَ عَدَدُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَرَفَعَ خَسَاسَتَهُمْ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْمُلُوكَ وَالْأَنْبِيَاءَ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ‏:‏ وَإِنْ عُدْتُمْ يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمَعْصِيَتِي وَخِلَافِ أَمْرِي، وَقَتْلِ رُسُلِي، عُدْنَا عَلَيْكُمْ بِالْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ، وَإِحْلَالِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ بِكُمْ، فَعَادُوا، فَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِعِقَابِهِ وَإِحْلَالِ سُخْطِهِ بِهِمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا‏}‏ قَالَ‏:‏ عَادُوا فَعَادَ، ثُمَّ عَادُوا فَعَادَ، ثُمَّ عَادُوا فَعَادَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ مُلُوكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ‏:‏ سِنْدِبَادَانَ وَشَهْرَبَادَانَ وَآخَرَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا‏}‏ قَالَ‏:‏ فَعَادُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ ‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ‏}‏ فَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِعَائِدَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ‏{‏وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا‏}‏ قَالَ‏:‏ عَادَ الْقَوْمُ بِشَرِّ مَا يَحْضُرُهُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا شَاءَ أَنَّ يَبْعَثَ مِنْ نِقْمَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ، ثُمَّ كَانَ خِتَامُ ذَلِكَ أَنْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْعَرَبِ، فَهُمْ فِي عَذَابِ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةٍ أُخْرَى ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْعَرَبِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ ‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا‏}‏ فَعَادُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ‏}‏ قَالَ بَعْدَ هَذَا ‏(‏وَإِنْ عُدْتُمْ‏)‏ لِمَا صَنَعْتُمْ لِمِثْلِ هَذَا مِنْ قَتْلِ يَحْيَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ‏(‏عُدْنَا‏)‏ إِلَيْكُمْ بِمِثْلِ هَذَا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ وَجَعَلَنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ سِجْنًا يُسْجَنُونَ فِيهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُمْرَانَ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ سِجْنًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ جَعَلَ اللَّهُ مَأْوَاهُمْ فِيهَا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مَحْبِسًا حَصُورًا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ سِجْنًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ‏(‏حَصِيرًا‏)‏ قَالَ‏:‏ يُحْصَرُونَ فِيهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ يُحْصَرُونَ فِيهَا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ سِجْنًا يُسْجَنُونَ فِيهَا حُصِرُوا فِيهَا‏.‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ سِجْنًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَجَعَلَنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ فِرَاشًا وَمِهَادًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ الْحَصِيرُ‏:‏ فِرَاشٌ وَمِهَادٌ، وَذَهَبَ الْحَسَنُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى أَنَّ الْحَصِيرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عُنِيَ بِهِ الْحَصِيرُ الَّذِي يُبْسَطُ وَيُفْتَرَشُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْبِسَاطَ الصَّغِيرَ حَصِيرًا، فَوَجَّهَ الْحَسَنُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَ جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ بِهِ بِسَاطًا وَمِهَادًا، كَمَا قَالَ ‏{‏لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ‏}‏ وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ وَتَأْوِيلٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ، فَوَجَّهُوهُ إِلَى أَنَّهُ فَعِيلٌ مِنَ الْحَصْرِ الَّذِي هُوَ الْحَبْسُ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَتْ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ تُسَمِّي الْعَرَبُ الْمُلْكَ حَصِيرًا

بِمَعْنَى أَنَّهُ مَحْصُورٌ‏:‏ أَيْ مَحْجُوبٌ عَنِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ لَبِيَدٌ‏:‏

وَمَقَامَةٍ غُلْبِ الرِّقَابِ كَأنَّهُمْ *** جِنٌّ لَدَى بابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ

يَعْنِي بِالْحَصِيرِ‏:‏ الْمَلِكُ، وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ‏:‏ حَصُورٌ وَحَصِرٌ‏:‏ لِمَنْعِهِ مَا لَدَيْهِ مِنَ الْمَالِ عَنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَحَبْسِهِ إِيَّاهُ عَنِ النَّفَقَةِ، كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ‏:‏

وشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي *** لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَوَّارِ

وَيُرْوَى‏:‏ بِسَآَّرٍ‏.‏ وَمِنْهُ الْحَصْرُ فِي الْمَنْطِقِ لِامْتِنَاعٍ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَاحْتِبَاسِهِ إِذَا أَرَادَهُ‏.‏ وَمِنْهُ أَيْضًا الْحَصُورُ عَنِ النِّسَاءِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعِهِ مِنَ الْجِمَاعِ، وَكَذَلِكَ الْحَصْرُ فِي الْغَائِطِ‏:‏ احْتِبَاسُهُ عَنِ الْخُرُوجِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ‏.‏ فَأَمَّا الْحَصِيرَانِ‏:‏ فَالْجَنْبَانِ، كَمَا قَالَ الطِّرْمَاحُ‏:‏

قَلِيلًا تَتَلَّى حاجَةً ثُمَّ عُولِيَتْ *** عَلى كُلِّ مَفْرُوشِ الْحَصِيرَيْنِ بَادِنِ

يَعْنِي بِالْحَصِيرَيْنِ‏:‏ الْجَنْبَيْنِ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ فِرَاشًا وَمِهَادًا لَا يُزَايِلُهُ مِنَ الْحَصِيرِ الَّذِي بِمَعْنَى الْبِسَاطِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَامِعًا مَعْنَى الْحَبْسِ وَالِامْتِهَادِ، مَعَ أَنَّ الْحَصِيرَ بِمَعْنَى الْبِسَاطِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَشْهَرُ مِنْهُ بِمَعْنَى الْحَبْسِ، وَأَنَّهَا إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَصِفَ شَيْئًا بِمَعْنَى حَبَسَ شَيْئًا، فَإِنَّمَا تَقُولُ‏:‏ هُوَ لَهُ حَاصَرٌ أَوْ مَحْصُرٌ، فَأَمَّا الْحَصِيرُ فَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِهِمْ، إِلَّا إِذَا وَصَفْتَهُ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، فَيَكُونُ فِي لَفْظِ فَعَيِلٍ، وَمَعْنَاهُ مَفْعُولٍ بِهِ، أَلَّا تُرَى بَيْتَ لَبِيَدٍ‏:‏ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ‏:‏ لَدَى بَابِ الْمَحْصُورِ، فَصَرَفَ مَفْعُولًا إِلَى فَعِيلٍ‏.‏ فَأَمَّا فَعِيلُ فِي الْحَصْرِ بِمَعْنَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ الْحَاصِرُ‏.‏ فَذَلِكَ مَا لَا نَجِدُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَلِذَلِكَ قُلْتُ‏:‏ قَوْلُ الْحَسَنِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا أَعْلَمَ لِمَا قَالَ وَجْهًا يَصِحُّ إِلَّا بَعِيدًا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ جَاءَ حَصِيرٌ بِمَعْنَى حَاصَرٍ، كَمَا قِيلَ‏:‏ عَلِيمٌ بِمَعْنَى عَالَمٍ، وَشَهِيدٌ بِمَعْنَى شَاهَدٍ، وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْحَاصِرِ كَمَا سَمِعْنَا فِي عَالِمٍ وَشَاهِدٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْشِدُ وَيُسَدِّدُ مَنِ اهْتَدَى بِهِ ‏{‏لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لِلسَّبِيلِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ السُّبُلِ، وَذَلِكَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ فَهَذَا الْقُرْآنُ يَهْدِي عِبَادَ اللَّهِ الْمُهْتَدِينَ بِهِ إِلَى قَصْدِ السَّبِيلِ الَّتِي ضَلَّ عَنْهَا سَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏}‏ قَالَ‏:‏ الَّتِي هِيَ أَصْوَبُ‏:‏ هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الْحَقُّ؛ قَالَ‏:‏ وَالْمُخَالِفُ هُوَ الْبَاطِلُ‏.‏ وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ‏{‏فَيِهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ فِيهَا الْحَقُّ لَيْسَ فِيهَا عِوَجٌ‏.‏ وَقَرَأَ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ قَيِّمًا مُسْتَقِيمًا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَيُبَشِّرُ أَيْضًا مَعَ هِدَايَتِهِ مَنِ اهْتَدَى بِهِ لِلسَّبِيلِ الْأَقْصَدِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَعْمَلُونَ فِي دُنْيَاهُمْ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بِأَنَّ ‏{‏لَهُمْ أَجْرًا‏}‏ مِنَ اللَّهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحَاتِ ‏(‏كَبِيرًا‏)‏ يَعْنِي ثَوَابًا عَظِيمًا، وَجَزَاءً جَزِيلًا وَذَلِكَ هُوَ الْجَنَّةُ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ رَضِيَ عَمَلَهُ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْجَنَّةُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ أَجْرٌ كَبِيرٌ، أَجْرٌ كَرِيمٌ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فَهُوَ الْجَنَّةُ،

وَأَنَّ فِي قَوْلِهِ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا‏}‏ نُصِبَ بِوُقُوعِ الْبِشَارَةِ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الثَّانِيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏

وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْمَعَادِ إِلَى اللَّهِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ لِذَلِكَ لَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ رُكُوبِ مَعَاصِي اللَّهِ ‏{‏أَعْتَدْنَا لَهُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَعْدَدْنَا لَهُمْ، لِقُدُومِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏{‏عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ يَعْنِي مُوجِعًا، وَذَلِكَ عَذَابُ جَهَنَّمَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُذَكِّرًا عِبَادَهُ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ، وَيَدْعُو الْإِنْسَانَ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ أُهْلِكُهُ وَالْعَنْهُ عِنْدَ ضَجَرِهِ وَغَضَبِهِ، كَدُعَائِهِ بِالْخَيْرِ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ كَدُعَائِهِ رَبَّهُ بِأَنْ يَهِبَّ لَهُ الْعَافِيَةَ، وَيَرْزُقَهُ السَّلَامَةَ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، يَقُولُ‏:‏ فَلَوِ اسْتُجِيبَ لَهُ فِي دُعَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ بِالشَّرِّ كَمَا يُسْتَجَابُ لَهُ فِي الْخَيْرِ هَلَكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا‏}‏ يَعْنِي قَوْلَ الْإِنْسَانِ‏:‏ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ وَاغْضَبْ عَلَيْهِ، فَلَوْ يُعَجِّلُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا يُعَجِّلُ لَهُ الْخَيْرَ، لَهَلَكَ، قَالَ‏:‏ وَيُقَالُ‏:‏ هُوَ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا‏}‏ أَنْ يَكْشِفَ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ لَوْ أَنَّهُ ذَكَرَنِي وَأَطَاعَنِي، وَاتَّبَعَ أَمْرِي عِنْدَ الْخَيْرِ، كَمَا يَدْعُونِي عِنْدَ الْبَلَاءِ، كَانَ خَيْرًا لَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا‏}‏ يَدْعُو عَلَى مَالِهِ، فَيَلْعَنُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ لَأَهْلَكَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَوِ اسْتُجِيبَ لَهُ هَلَكَ، وَعَلَى خَادِمِهِ، أَوْ عَلَى مَالِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا‏}‏ قَالَ‏:‏ ذَلِكَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ بِالشَّرِّ عَلَى وَلَدِهِ وَعَلَى امْرَأَتِهِ، فَيُعَجِّلُ‏:‏ فَيَدْعُو عَلَيْهِ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُصِيبَهُ‏.‏

وَاخْتَلَفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا‏}‏ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمِنْ ذَكَرَتْ قَوْلَهُ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا بِالدُّعَاءِ عَلَى مَا يَكْرَهُ، أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فِيهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عَنَى بِذَلِكَ آدَمَ أَنَّهُ عَجَّلَ حِينَ نَفْخِ فِيهِ الرُّوحَ قَبْلَ أَنْ تَجْرِيَ فِي جَمِيعِ جَسَدِهِ، فَرَامَ النُّهُوضَ، فَوَصَفَ وَلَدَهُ بِالِاسْتِعْجَالِ، لِمَا كَانَ مِنِ اسْتِعْجَالِ أَبِيهِمْ آدَمَ الْقِيَامَ، قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ خَلْقُهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحُكْمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ، قَالَ‏:‏ أَوَّلُ مَا خَلْقَ اللَّهُ مِنْ آدَمَ رَأْسُهُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ وَهُوَ يُخْلَقُ، قَالَ‏:‏ وَبَقِيَتْ رِجْلَاهُ؛ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ قَالَ‏:‏ يَا رَبِّ عَجِّلْ قَبْلَ اللَّيْلِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ‏{‏وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ لَمَّا نَفَخَ اللَّهُ فِي آدَمَ مِنْ رُوحِهِ أَتَتِ النَّفْخَةُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَجَعْلَ لَا يَجْرِي شَيْءٌ مِنْهَا فِي جَسَدِهِ، إِلَّا صَارَ لَحْمًا وَدَمًا؛ فَلَمَّا انْتَهَتِ النَّفْخَةُ إِلَى سُرَّتِهِ، نَظَرَ إِلَى جَسَدِهِ، فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ جَسَدِهِ فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ‏{‏وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا‏}‏ قَالَ‏:‏ ضَجِرًا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى سَرَّاءَ، وَلَا ضَرَّاءَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةًلِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، مُخَالَفَتُهُ بَيْنَ عَلَامَةِ اللَّيْلِ وَعَلَامَةِ النَّهَارِ، بِإِظْلَامِهِ عَلَامَةَ اللَّيْلِ، وَإِضَاءَتِهِ عَلَامَةَ النَّهَارِ، لِتَسْكُنُوا فِي هَذَا، وَتَتَصَرَّفُوا فِي ابْتِغَاءِ رِزْقِ اللَّهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَكُمْ بِفَضْلِهِ فِي هَذَا، وَلِتَعْلَمُوا بِاخْتِلَافِهِمَا عَدَدَ السِّنِينَ وَانْقِضَاءَهَا، وَابْتِدَاءَ دُخُولِهَا، وَحِسَابَ سَاعَاتِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَأَوْقَاتَهَا ‏{‏وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَكُلُّ شَيْءٍ بَيَّنَاهُ بَيَانًا شَافِيًا لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ لِتَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَتُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، دُونَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ، عَنْ أَبِي الطُفَيْلِ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ لِعَلِيٍّ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذِهِ اللَّطْخَةُ الَّتِي فِي الْقَمَرِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ وَيْحَكَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ‏{‏فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ‏}‏، فَهَذِهِ مَحْوُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا طَلَقٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ‏:‏ سَأَلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَلِيًّا فَقَالَ‏:‏ مَا هَذَا السَّوَادُ فِي الْقَمَرِ‏؟‏ فَقَالَ عَلِيٌّ ‏{‏فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏}‏ هُوَ الْمَحْوُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ، فَسَأَلَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ذَاكَ آيَةُ اللَّيْلِ مُحِيَتْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ، عَنْ رَفِيعِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ‏:‏ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏:‏ سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ، فَقَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ فَقَالَ‏:‏ مَا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، فَقَالَ‏:‏ قَاتَلَكَ اللَّهُ، هَلَّا سَأَلَتْ عَنْ أَمْرِ دِينِكَ وَآخِرَتِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ذَلِكَ مَحْوُ اللَّيْلِ‏.‏

حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبَانٍ الْمِصْرِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُفَيرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ حُيَيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَبْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيٍّ‏:‏ مَا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ السَّوَادُ بِاللَّيْلِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ كَانَ الْقَمَرُ يُضِيءُ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ، وَالشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ‏:‏ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ‏:‏ ذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ ‏{‏فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ‏}‏ قَالَ‏:‏ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، وَكَذَلِكَ خَلَقَهُ اللَّهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَيْلًا وَنَهَارًا، كَذَلِكَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ ‏{‏فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ وَسُدْفَةَ النَّهَارِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏}‏‏:‏ أَي مُنِيرَةً، وَخَلَقَ الشَّمْسَ أَنْوَرَ مِنَ الْقَمَرِ وَأَعْظَمَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَيْلًا وَنَهَارًا، كَذَلِكَ جَعَلَهُمَا اللَّهُ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ‏{‏وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏}‏ فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ مَعْنَاهَا‏:‏ مُضِيئَةً، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ‏{‏وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا‏}‏ مَعْنَاهُ‏:‏ مُضِيئًا، كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ قِيلَ مُبْصِرًا، لِإِضَاءَتِهِ لِلنَّاسِ الْبَصَرَ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ هُوَ مَنْ أَبْصَرَ النَّهَارَ‏:‏ إِذَا صَارَ النَّاسُ يُبْصِرُونَ فِيهِ فَهُوَ مُبْصِرٌ، كَقَوْلِهِمْ‏:‏ رَجُلٌ مُجْبِنٌ‏:‏ إِذَا كَانَ أَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ جُبَنَاءَ، وَرَجُلٌ مُضْعِفٌ‏:‏ إِذَا كَانَتْ رُوَاتُهُ ضُعَفَاءَ، فَكَذَلِكَ النَّهَارُ مُبْصِرًا‏:‏ إِذَا كَانَ أَهْلُهُ بُصَرَاءَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ جَعَلَ لَكُمْ سَبْحًا طَوِيلًا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا‏}‏‏:‏ أَيْ بَيَّنَاهُ تَبْيِينًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَكُلُّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ مَا قُضِيَ لَهُ أَنَّهُ عَامَلُهُ، وَهُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنْ شَقَاءٍ أَوْ سَعَادَةٍ بِعَمَلِهِ فِي عُنُقِهِ لَا يُفَارِقُهُ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ ‏{‏أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ‏}‏ مَثَلٌ لِمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَفَاءَلُ بِهِ أَوْ تَتَشَاءَمُ مِنْ سَوَانِحِ الطَّيْرِ وَبَوَارِحِهَا، فَأَعْلَمَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ قَدْ أَلْزَمَهُ رَبُّهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ نَحْسًا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي أَلْزَمُهُ مِنَ الطَّائِرِ، وَشَقَاءً يُورِدُهُ سَعِيرًا، أَوْ كَانَ سَعْدًا يُورِدُهُ جَنَّاتِ عَدْنٍ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِه»‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنَى أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الطَّائِرُ‏:‏ عَمَلُهُ، قَالَ‏:‏ وَالطَّائِرُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، فَمِنْهُ التَّشَاؤُمُ الَّذِي يَتَشَاءَمُ بِهِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَكُلَ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَمَلُهُ وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُلَازِمُهُ أَيْنَمَا كَانَ، فَزَائِلٌ مَعَهُ أَيْنَمَا زَالَ‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ وَقَالَ‏:‏ طَائِرُهُ‏:‏ عَمِلَهُ، قَالَ‏:‏ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ عَمَلُهُ وَمَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ طَائِرَهُ‏:‏ عَمَلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ؛ وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو جَمِيعًا عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَمَلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو الْفَقِيمِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَفِي عُنُقِهِ وَرَقَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ، قَالَ‏:‏ هُوَ مَا سَبَقَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏‏:‏ إِيْ وَاللَّهِ بِسَعَادَتِهِ وَشَقَائِهِ بِعَمَلِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ طَائِرَهُ‏:‏ عَمِلَهُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قَالَ‏:‏ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وُصَفْتَ، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ أَلْزَمْنَاهُ فِي يَدَيْهِ وَرَجْلَيْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ لِأَنَّ الْعُنُقَ هُوَ مَوْضِعُ السِّمَاتِ، وَمَوْضِعُ الْقَلَائِدِ وَالْأَطْوِقَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُزَيِّنُ أَوْ يُشِينُ، فَجَرَى كَلَامُ الْعَرَبِ بِنِسْبَةِ الْأَشْيَاءِ اللَّازِمَةِ بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَضَافُوا الْأَشْيَاءَ اللَّازِمَةَ سَائِرِ الْأَبْدَانِ إِلَى الْأَعْنَاقِ، كَمَا أَضَافُوا جِنَايَاتِ أَعْضَاءِ الْأَبْدَانِ إِلَى الْيَدِ، فَقَالُوا‏:‏ ذَلِكَ بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي جَرَّ عَلَيْهِ لِسَانُهُ أَوْ فَرْجُهُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ‏{‏أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏}‏ فَقَرَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَهُوَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ ‏(‏وَنُخْرِجُ‏)‏ بِالنُّونِ ‏{‏لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏}‏ بِفَتْحِ الْيَاءِ مَنْ يَلْقَاهُ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ مِنْهُ، بِمَعْنَى‏:‏ وَنَخْرُجُ لَهُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ ‏(‏أَلْزَمْنَاهُ‏)‏، وَنَحْنُ نَخْرُجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَ عَمَلِهِ مَنْشُورًا، وَكَانَ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ الشَّامِ يُوَافِقُ هَؤُلَاءِ عَلَى قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏(‏وَنُخْرِجُ‏)‏ وَيُخَالِفُهُمْ فِي قَوْلِهِ ‏(‏يَلْقَاهُ‏)‏ فَيَقْرَؤُهُ ‏(‏وَيُلَقَّاهُ‏)‏ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، بِمَعْنَى‏:‏ وَنَخْرُجُ لَهُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَيَقُولُ‏:‏ يَلْقَى الْإِنْسَانُ ذَلِكَ الْكِتَابَ مَنْشُورًا‏.‏

وَذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا ‏(‏وَيَخْرَجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا‏)‏ قَالَ‏:‏ يَزِيدُ‏:‏ يَعْنِي يَخْرُجُ الطَّائِرُ كِتَابًا، هَكَذَا أَحْسَبُهُ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ؛ وَكَأَنَّ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَجَّهَ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ إِلَى‏:‏ وَيَخْرُجُ لَهُ الطَّائِرُ الَّذِي أَلْزَمْنَاهُ عُنُقَ الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَصِيرُ كِتَابًا يَقْرَؤُهُ مَنْشُورًا‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ‏:‏ ‏(‏وَيُخْرَجُ لَهُ‏)‏ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى مَذْهَبِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَكَأَنَّهُ وَجَّهَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى وَيَخْرُجُ لَهُ الطَّائِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا، يُرِيدُ‏:‏ وَيُخْرِجُ اللَّهُ ذَلِكَ الطَّائِرَ قَدْ صَيَّرَهُ كِتَابًا، إِلَّا أَنَّهُ نَحَّاهُ نَحْوُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ ‏(‏وَنُخْرِجُ‏)‏ بِالنُّونِ وَضَمِّهَا ‏{‏لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏}‏ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ الَّذِي أَلْزَمَ خَلْقَهُ مَا أَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَلِيِهِ خَبَرًا عَنْهُ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنْ يَكُونَ بِالنُّونِ كَمَا كَانَ الْخَبَرُ الَّذِي قَبِلَهُ بِالنُّونِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏(‏يَلْقَاهُ‏)‏ فَإِنَّ فِي إِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى تَصْوِيبِ مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ، وَشُذُوذِ مَا خَالَفَهُ الْحُجَّةَ الْكَافِيَةَ لَنَا عَلَى تَقَارُبِ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ‏:‏ أَعْنِي ضَمَّ الْيَاءِ وَفَتْحَهَا فِي ذَلِكَ، وَتَشْدِيدَ الْقَافِ وَتَخْفِيفَهَا فِيهِ؛ فَإِذَا كَانَ الصَّوَابُ فِي الْقِرَاءَةِ هُوَ مَا اخْتَرْنَا بِالَّذِي عَلَيْهِ دَلَّلْنَا، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ وَكُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ بَنِي آدَمَ، أَلْزَمْنَاهُ نَحْسَهُ وَسَعْدَهُ، وَشَقَاءَهُ وَسَعَادَتَهُ، بِمَا سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِنَا أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهِ، وَعَامِلٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي عُنُقِهِ، فَلَا يُجَاوِزُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ مَا قَضَيْنَا عَلَيْهِ أَنَّهُ عَامَلُهُ، وَمَا كَتَبَنَا لَهُ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهِ، وَنَحْنُ نُخْرِجُ لَهُ إِذَا وَافَانَا كِتَابًا يُصَادِفُهُ مَنْشُورًا بِأَعْمَالِهِ الَّتِي عَمِلَهَا فِي الدُّنْيَا، وَبِطَائِرِهِ الَّذِي كَتَبْنَا لَهُ، وَأَلْزَمْنَاهُ إِيَّاهُ فِي عُنُقِهِ، قَدْ أَحْصَى عَلَيْهِ رَبُّهُ فِيهِ كُلَّ مَا سَلَفَ فِي الدُّنْيَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ عَمَلُهُ الَّذِي عَمِلَ أُحْصِيَ عَلَيْهِ، فَأُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُتِبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏}‏‏:‏ أَيْ عَمَلَهَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرَ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَمِلَهُ ‏(‏وَنُخْرِجُ لَهُ‏)‏ قَالَ‏:‏ نُخْرِجُ ذَلِكَ الْعَمَلَ ‏{‏كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏}‏ قَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ وَتَلَا الْحَسَنُ ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ‏}‏ يَا ابْنَ آدَمَ بَسَطْتُ لَكَ صَحِيفَتَكَ، وَوُكِّلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ، وَالْآخِرُ عَنْ يَسَارِكِ‏.‏ فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الَّذِي عَنْ شِمَالِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ، حَتَّى إِذَا مِتَّ طَوَيْتُ صَحِيفَتَكَ، فَجَعَلْتُ فِي عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ، حَتَّى تُخْرِجَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏{‏اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ قَدْ عَدَلَ وَاللَّهِ عَلَيْكَ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ طَائِرَهُ‏:‏ عَمَلَهُ، وَنَخْرُجُ لَهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏.‏

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ ‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏‏:‏ أَيْ حَظَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ طَارَ سَهْمُ فُلَانٍ بِكَذَا‏:‏ إِذَا خَرَجَ سَهْمُهُ عَلَى نَصِيبٍ مِنَ الْأَنْصِبَاءِ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا لَهُ وَجْهٌ، فَإِنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْتُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنَّ يُتَجَاوَزَ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ مَا قَالُوهُ إِلَى غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ، إِنْ كَانَ عَنَى بِقَوْلِهِ حَظِّهِ مِنَ الْعَمَلِ وَالشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ، فَلَمْ يَبْعُدْ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏}‏ فَيُقَالُ لَهُ ‏{‏اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ فَتُرِكَ ذِكْرُ قَوْلَهُ‏:‏ فَنَقُولُ لَهُ، اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ‏.‏ وَعَنَى بِقَوْلِهِ ‏{‏اقْرَأْ كِتَابَكَ‏}‏‏:‏ اقْرَأْ كِتَابَ عَمَلَكَ الَّذِي عَمِلْتَهُ فِي الدُّنْيَا، الَّذِي كَانَ كَاتِبَانَا يَكْتُبَانِهِ، وَنُحْصِيهِ عَلَيْكَ ‏{‏كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ حَسَبُكَ الْيَوْمَ نَفْسَكَ عَلَيْكَ حَاسِبًا يَحْسبُ عَلَيْكَ أَعْمَالَكَ، فَيُحْصِيهَا عَلَيْكَ، لَا نَبْتَغِي عَلَيْكَ شَاهِدًا غَيْرَهَا، وَلَا نَطْلُبُ عَلَيْكَ مُحْصِيًا سِوَاهَا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ سَيَقْرَأُ يَوْمئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا فِي الدُّنْيَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَاوَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَنِ اسْتَقَامَ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ فَاتَّبَعَهُ، وَذَلِكَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي ابْتَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَيْسَ يَنْفَعُ بِلُزُومِهِ الِاسْتِقَامَةَ، وَإِيمَانِهِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ ‏{‏وَمَنْ ضَلَّ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمِنْ جَارَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، فَأَخَذَ عَلَى غَيْرِ هُدًى، وَكَفَرَ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْحَقِّ، فَلَيْسَ يَضُرُّ بِضَلَالِهِ وَجَوْرِهِ عَنِ الْهُدَى غَيْرَ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ لَهَا بِذَلِكَ غَضَبُ اللَّهِ وَأَلِيمَ عَذَابِهِ‏.‏‏.‏ وَإِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ ‏{‏فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ فَإِنَّمَا يَكْسِبُ إِثْمُ ضَلَالِهِ عَلَيْهَا لَا عَلَى غَيْرِهَا، وَقَوْلُهُ ‏{‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَا تَحْمِلُ حَامِلَةُ حِمْلَ أُخْرَى غَيْرَهَا مِنَ الْآثَامِ‏.‏ وَقَالَ ‏{‏وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ لِأَنَّ مَعْنَاهَا‏:‏ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وَازِرَةَ وِزْرِ نَفْسٍ أُخْرَى يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ وَزَرْتُ كَذَا أَزْرُهُ وِزْرًا، وَالْوِزْرُ‏:‏ هُوَ الْإِثْمُ، يُجْمَعُ أَوْزَارًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ‏{‏وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ‏}‏ وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَلَا تَأْثَمُ آثِمَةٌ إِثْمَ أُخْرَى، وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ نَفْسِ إِثْمَهَا دُونَ إِثْمِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَنْفُسِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ وَاللَّهِ مَا يُحَمِّلُ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ ذَنْبَ غَيْرِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُ إِلَّا بِعَمَلِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي قَوْمٍ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَقْطَعُ عُذْرَهُمْ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يَسْبِقَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ خَبَرًا، أَوْ يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ بَيِّنَةً، وَلَيْسَ مُعَذَّبًا أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَمَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَسَمَ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْفَتْرَةِ وَالْمَعْتُوهَ وَالْأَصَمَّ وَالْأَبْكَمَ، وَالشُّيُوخَ الَّذِينَ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَقَدْ خَرِفُوا، ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولًا أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، فَيَقُولُونَ‏:‏ كَيْفَ وَلَمْ يَأْتِنَا رَسُولٌ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ، فَيُطِيعُهُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُطِيعَهُ قَبْلَ؛ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ ‏(‏أَمَرْنَا‏)‏ بِقَصْرِ الْأَلْفِ وَغَيْرِ مَدِّهَا وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا‏.‏ وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ تَأْوِيلِهِ‏:‏ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِالطَّاعَةِ، فَفَسَقُوا فِيهَا بِمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ، وَخِلَافِهِمْ أَمْرَهُ، كَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَعَصَوْا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَلَمَةَ أَوْ غَيْرِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ‏:‏ أَمَرْنَا بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَيْضًا إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ فَفَسَقُوا فِيهَا، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ‏:‏ هُوَ أَمِيرٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ‏.‏ وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ‏:‏ قَدْ يَتَوَجَّهُ مَعْنَاهُ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ إِلَى مَعْنَى أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا، وَيَحْتَجُّ لِتَصْحِيحِهِ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «“ خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ “» وَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ مَأْمُورَةٌ‏:‏ كَثِيرَةُ النَّسْلِ‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ، وَلَا يُجِيزُنَا أَمَرْنَا، بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا إِلَّا بِمَدِّ الْأَلْفِ مِنْ أَمَرْنَا‏.‏ وَيَقُولُ فِي قَوْلِهِ “ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ “‏:‏ إِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِمَجِيءِ مَأْبُورَةٍ بَعْدَهَا، كَمَا قِيلَ‏:‏ “ ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ “ فَهَمْزَ مَأْزُورَاتٍ لِهَمْزِ مَأْجُورَاتٍ، وَهِيَ مَنْ وَزَرَتْ إِتْبَاعًا لِبَعْضِ الْكَلَامِ بَعْضًا‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو عُثْمَانَ ‏(‏أَمَّرْنَا‏)‏ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، بِمَعْنَى الْإِمَارَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ أَنَّهُ قَرَأَ ‏(‏أَمَّرْنَا‏)‏ مُشَدَّدَةً مِنَ الْإِمَارَةِ‏.‏ وَقَدْ تَأَوَّلَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ سَلَّطْنَا أَشْرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالْعَذَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَرْثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْكِسَائِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، أَنَّهُ قَرَأَهَا ‏(‏أَمَّرْنَا‏)‏ وَقَالَ‏:‏ سَلَّطْنَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَى حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي حَفْصٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَّرْنَا‏)‏ مُثْقَلَةً‏:‏ جَعَلْنَا عَلَيْهَا مُتْرَفِيهَا‏:‏ مُسْتَكْبَرِيهَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَرْثُ قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ بَعَثْنَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ ‏(‏آمَرْنَا‏)‏ بِمَدِّ الْأَلْفِ مِنْ أَمْرِنَا، بِمَعْنَى‏:‏ أَكْثَرْنَا فَسَقَتَهَا‏.‏ وَقَدْ وَجَّهَ تَأْوِيلُ هَذَا الْحَرْفِ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِينَ حَدَّثُونَا لَمْ يُمَيِّزُوا لَنَا اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ، وَكَيْفَ قَرَأَ ذَلِكَ الْمُتَأَوِّلُونَ، إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مِنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهَ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً آَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَكْثَرْنَا عَدَدَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلَهُ ‏{‏آمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ أَكْثَرْنَاهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏آَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ أَكْثَرْنَاهُمْ‏.‏

حُدِّثَتْ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ‏{‏آَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏:‏ أَيْ كُبَرَاءَهَا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَا ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهَ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً آمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏:‏ أَيْ جَبَابِرَتَهَا، فَفَسَقُوا فِيهَا وَعَمِلُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ ‏{‏فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا‏}‏ وَكَانَ يُقَالُ‏:‏ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ صَلَاحًا، بَعَثَ عَلَيْهِمْ مُصْلِحًا، وَإِذَا أَرَادَ بِهِمْ فَسَادًا بَعَثَ عَلَيْهِمْ مُفْسِدًا، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَهَا أَكْثَرَ مُتْرَفِيهَا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏آمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ أَكْثَرْنَاهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، قَالَ‏:‏ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا عَلَىزَيْنَبَوَهُوَ يَقُولُ‏:‏ «“ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمُ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا، وَحَلَّقَ بَيْنَ إِبْهَامِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ “»‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَمَرْنَا‏:‏ أَكْثَرْنَا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلشَّيْءِ الْكَثِيرِ أَمْرٌ لِكَثْرَتِهِ‏.‏ فَأَمَّا إِذَا وُصِفَ الْقَوْمُ بِأَنَّهُمْ كَثُرُوا، فَإِنَّهُ يُقَالُ‏:‏ أَمْرُ بَنُو فُلَانٍ، وَأَمَرَ الْقَوْمُ يَأْمُرُونَ أَمْرًا، وَذَلِكَ إِذَا كَثُرُوا وَعَظُمَ أَمْرُهُمْ، كَمَا قَالَ لَبِيَدٌ‏.‏

إِنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا وَإِنْ أَمِرُوا *** يَوْمًا يَصِيرُوا للِقُلِّ والنَّقَدِ

وَالْأَمْرُ الْمَصْدَرُ، وَالِاسْمُ الْإِمْرُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ عَظِيمًا، وَحُكِيَ فِي مِثْلِ شَرٍّ إِمْرٍ‏:‏ أَيْ كَثِيرٍ‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ بِقَصْرِ الْأَلْفِ مِنْ أَمْرِنَا وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنْهَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى تَصْوِيبِهَا دُونَ غَيْرِهَا‏.‏ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَوْلَى بِالصَّوَابِ بِالْقِرَاءَةِ، فَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِهِ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ‏:‏ أَمَرَنَا أَهْلَهَا بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا وَفَسَقُوا فِيهَا، فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ مَعْنَى أَمَرَنَا‏:‏ الْأَمْرُ، الَّذِي هُوَ خِلَافُ النَّهْيِ دُونَ غَيْرِهِ، وَتَوْجِيهُ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى الْأَشْهُرِ الْأَعْرَفِ مِنْ مَعَانِيهِ، أُولَى مَا وُجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ مَنْ غَيْرِهِ‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ ‏{‏فَفَسَقُوا فِيهَا‏}‏‏:‏ فَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فِيهَا، وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ ‏{‏فَحَقَ عَلَيْهَا الْقَوْلُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ بِمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ وَفُسُوقِهِمْ فِيهَا، وَعِيدُ اللَّهِ الَّذِي أَوْعَدَ مَنْ كَفَرَ بِهِ، وَخَالَفَ رُسُلَهُ، مِنَ الْهَلَاكِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِالرُّسُلِ وَالْحُجَجِ ‏{‏فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَخَرَّبْنَاهَا عِنْدَ ذَلِكَ تَخْرِيبًا، وَأَهْلَكْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مَنْ أَهْلِهَا إِهْلَاكًا، كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ‏:‏

وَكَانَ لَهُمْ كَبَكْرِ ثَمُودَ لَمَّا *** رَغا ظُهْرًا فَدَمَّرَهُمْ دَمارًا

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا‏}‏‏.‏

وَهَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُكَذِّبِي رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَتَهْدِيدِهِمْ لَهُمْ بِالْعِقَابِ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ لَهُمْ، أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مُحِلٌّ بِهِمْ سُخْطُهُ، وَمُنَزِّلُ بِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ مَا أَنْزَلَ بِمَنْ قَبِلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ سَلَكُوا فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ سَبِيلَهُمْ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَقَدْ أَهْلَكْنَا أَيُّهَا الْقَوْمُ مَنْ قَبِلَكُمْ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ إِلَى زَمَانِكُمْ قُرُونًا كَثِيرَةً كَانُوا مِنْ جُحُودِ آيَاتِ اللَّهِ وَالْكَفْرِ بِهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، عَلَى مَثَلِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَلَسْتُمْ بِأَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ أَحَدٍ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَيُعَذِّبُ قَوْمًا بِمَا لَا يُعَذِّبُ بِهِ آخَرِينَ، أَوْ يَعْفُو عَنْ ذُنُوبِ نَاسٍ فَيُعَاقِبُ عَلَيْهَا آخَرِينَ؛ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ فَأَنِيبُوا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ رَبِّكُمْ، فَقَدْ بُعِثْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا يُنَبِّهكُمْ عَلَى حُجَجِنَا عَلَيْكُمْ، وَيُوقِظكُمْ مِنْ غَفْلَتِكُمْ، وَلَمْ نَكُنْ لِنُعَذِّبَ قَوْمًا حَتَّى نَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مُنَبَّهًا لَهُمْ عَلَى حُجَجِ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ عَلَى فُسُوقِكُمْ مُقِيمُونَ، وَكَفَى بِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا‏:‏ يَقُولُ‏:‏ وَحَسْبُكَ يَا مُحَمَّدُ بِاللَّهِ خَابَرًا بِذُنُوبِ خَلْقِهِ عَالِمًا، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ مُشْرِكِي قَوْمِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَا أَفْعَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ عَالِمٌ خَابَرٌ بَصِيرٌ، يَقُولُ‏:‏ يُبْصِرُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَلَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي مَبْلَغِ مُدَّةِ الْقَرْنِ،

فَحَدَّثْنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ‏:‏ الْقَرْنُ‏:‏ عِشْرُونَ وَمِئَةُ سَنَةٍ، فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ قَرْنٍ كَانَ، وَآخِرُهُمْ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ هُوَ مِئَةُ سَنَةٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْصِيُّ أَبُو الصَّلْتِ الطَّائِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَامَةُ بْنُ حَوَّاسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ الْمَازِنِيِّ، قَالَ‏:‏ وَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ‏:‏ «سَيَعيِشُ هَذَا الْغُلَامُ قَرْنًا “ قُلْتُ‏:‏ كَمِ الْقَرْن‏؟‏ قَالَ‏:‏ “ مِئَةُ سَنَةٍ “»‏.‏

حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَامَةُ بْنُ حَوَّاسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ‏:‏ مَا زِلْنَا نُعِدُّ لَهُ حَتَّى تَمَّتْ مِئَةُ سَنَةٍ ثُمَّ مَاتَ، قَالَ أَبُو الصَّلْتِ‏:‏ أَخْبَرَنِي سَلَامَةُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ هَذَا كَانَ خَتْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ شَاكِرٍ، عَنِ ابْنِ سِيريِنَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَة»‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَكَفَى بِرَبِّكَ‏}‏ أُدْخِلَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ ‏(‏بِرَبِّكَ‏)‏ وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَكَفَاكَ رَبُّكَ، وَحَسْبُكَ رَبُّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا، دَلَالَةً عَلَى الْمَدْحِ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ كَلَامٍ كَانَ بِمَعْنَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ، تُدْخِلُ فِي الِاسْمِ الْبَاءَ وَالِاسْمُ الْمُدْخَلَةُ عَلَيْهِ الْبَاءِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِتَدُلَّ بِدُخُولِهَا عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ أَكْرِمْ بِهِ رَجُلًا وَنَاهِيكَ بِهِ رَجُلًا وَجَادَ بِثَوْبِكَ ثَوْبًا، وَطَابَ بِطَعَامِكُمْ طَعَامًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَوْ أُسْقِطَتِ الْبَاءُ مِمَّا دَخَلَتْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ رُفِعَتْ، لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

ويُخْبِرُنِي عَنْ غَائِبِ الْمَرْءِ هَدْيُهُ *** كَفَى الْهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ الْمَرْءُ مُخْبِرًا

فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ مَدْحٌ أَوْ ذَمٌّ فَلَا يُدْخِلُونَ فِي الِاسْمِ الْبَاءَ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ قَامَ بِأَخِيكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ‏:‏ قَامَ أَخُوكَ، إِلَّا أَنْ تُرِيدَ‏:‏ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ بِهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى غَيْرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَنْ كَانَ طَلَبُهُ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةُ وَلَهَا يَعْمَلُ وَيَسْعَى، وَإِيَّاهَا يَبْتَغِي، لَا يُوقِنُ بِمِعَادٍ، وَلَا يَرْجُو ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا مِنْ رَبِّهِ عَلَى عَمَلِهِ ‏{‏عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يُعَجِّلُ اللَّهُ لَهُ فِي الدُّنْيَا مَا يَشَاءُ مِنْ بَسْطِ الدُّنْيَا عَلَيْهِ، أَوْ تَقْتِيرِهَا لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ، أَوْ إِهْلَاكِهِ بِمَا يَشَاءُ مِنْ عُقُوبَاتِهِ‏.‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ أَصْلَيْنَاهُ عِنْدَ مَقْدِمِهِ عَلَيْنَا فِي الْآخِرَةِ جَهَنَّمَ، ‏(‏مَذْمُومًا‏)‏ عَلَى قِلَّةِ شُكْرِهِ إِيَّانَا، وَسُوءِ صَنِيعِهِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَيَادِينَا عِنْدَهُ فِي الدُّنْيَا ‏(‏مَدْحُورًا‏)‏ يَقُولُ‏:‏ مُبْعِدًا‏:‏ مُقْصَى فِي النَّارِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ وَسَدْمَهُ وَطِلْبَتَهُ وَنِيَّتَهُ، عَجَّلَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، ثُمَّ اضْطَرَّهُ إِلَى جَهَنَّمَ، قَالَ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا‏}‏ مَذْمُومًا فِي نِعْمَةِ اللَّهِ مَدْحُورًا فِي نِقْمَةِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبُو طَيْبَةَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصِّيصَةِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِسْحَاقَ الْفَزَارِيَّ يَقُولُ ‏{‏عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ‏}‏ قَالَ‏:‏ لِمَنْ نُرِيدُ هَلَكَتَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏(‏مَذْمُومًا‏)‏ يَقُولُ‏:‏ مَلُومًا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْعَاجِلَةَ‏:‏ الدُّنْيَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَإِيَّاهَا طَلَبَ، وَلَهَا عَمِلَ عَمَلَهَا، الَّذِي هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَمَا يُرْضِيهِ عَنْهُ، وَأَضَافَ السَّعْيَ إِلَى الْهَاءِ وَالْأَلِفِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ‏:‏ وَسَعَى لِلْآخِرَةِ سَعْيَ الْآخِرَةِ، وَمَعْنَاهُ‏:‏

وَعَمِلَ لَهَا عَمَلَهَا لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِمَعْنَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهُ لَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، يَقُولُ‏:‏ هُوَ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِثَوَابِ اللَّهِ، وَعِظَمِ جَزَائِهِ عَلَى سَعْيِهِ لَهَا، غَيْرُ مُكَذِّبٍ بِهِ تَكْذِيبَ مَنْ أَرَادَ الْعَاجِلَةَ، يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏(‏فَأُولَئِكَ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ فَمِنْ فِعْلٍ ذَلِكَ ‏{‏كَانَ سَعْيُهُمْ‏}‏ يَعْنِي عَمَلَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ ‏(‏مَشْكُورًا‏)‏ وَشَكَرَ اللَّهُ إِيَّاهُمْ عَلَى سَعْيِهِمْ ذَلِكَ، حَسُنَ جَزَائُهُ لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَتَجَاوُزِهِ لَهُمْ عَنْ سَيِّئِهَا بِرَحْمَتِهِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا‏}‏ شَكَرَ اللَّهُ لَهُمْ حَسَنَاتِهِمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ يَمُدُّ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ مُرِيدِي الْعَاجِلَةِ، وَمُرِيدِي الْآخِرَةِ، السَّاعِي لَهَا سَعْيهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ عَطَائِهِ، فَيُرْزَقُهُمَا جَمِيعًا مِنْ رِزْقِهِ إِلَى بُلُوغِهِمَا الْأَمَدَ، وَاسْتِيفَائِهِمَا الْأَجَلَّ مَا كُتِبَ لَهُمَا، ثُمَّ تَخْتَلِفُ بِهِمَا الْأَحْوَالُ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَتَفْتَرِقُ بِهِمَا بَعْدَ الْوُرُودِ الْمَصَادِرُ، فَفَرِيقٌ مُرِيدِي الْعَاجِلَةَ إِلَى جَهَنَّمَ مَصْدَرُهُمْ، وَفَرِيقٌ مُرِيدِي الْآخِرَةَ إِلَى الْجَنَّةِ مَآبُهُمْ ‏{‏وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ الَّذِي يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعًا عَمَّنْ بَسَطَهُ عَلَيْهِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ مَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا‏}‏‏:‏ أَيْ مَنْقُوصًا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَسَّمَ الدُّنْيَا بَيْنَ الْبَرِّ والْفَاجِرِ، وَالْآخِرَةِ خُصُوصًا عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مَنْقُوصًا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخَرِّمِي، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَهْلُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ السِّرَاجُ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ ‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ كُلًّا نُعْطِي مِنَ الدُّنْيَا الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ثُمَّ قَالَ ‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ‏}‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ فَيَرْزُقُ مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا، وَيُرْزُقُ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ‏{‏وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مَمْنُوعًا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ‏}‏ أَهْلَ الدُّنْيَا وَأَهْلَ الْآخِرَةِ ‏{‏مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مَمْنُوعًا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ‏}‏ أَهْلَ الدُّنْيَا وَأَهْلَ الْآخِرَةِ ‏{‏مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا‏}‏ مِنْ بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ، قَالَ‏:‏ وَالْمَحْظُورُ‏:‏ الْمَمْنُوعُ، وَقَرَأَ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ بِعَيْنِ قَلْبِكَ إِلَى هَذَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمْ أَحَدُهُمَا الدَّارُ الْعَاجِلَةُ، وَإِيَّاهَا يَطْلُبُ، وَلَهَا يَعْمَلُ؛ وَالْآخِرُ الَّذِي يُرِيدُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَهَا يَسْعَى مُوقِنًا بِثَوَابِ اللَّهِ عَلَى سَعْيِهِ، كَيْفَ فَضَّلَنَا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، بِأَنْ بَصَّرْنَا هَذَا رَشَّدَهُ، وَهَدَيْنَاهُ لِلسَّبِيلِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيَسَّرْنَاهُ لِلَّذِي هُوَ أَهْدَى وَأَرْشَدُ، وَخَذَلْنَا هَذَا الْآخَرَ، فَأَضْلَلْنَاهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَأَغْشَيْنَا بَصَرَهُ عَنْ سَبِيلِ الرُّشْدِ ‏{‏وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَفَرِيقُ مُرِيدِ الْآخِرَةِ أَكْبُرُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ دَرَجَاتٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِتَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا بِتَفْضِيلِ اللَّهِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفَرِيقِ الْآخَرِينَ فِي الدُّنْيَا فِيمَا بَسَطْنَا لَهُمْ فِيهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏‏:‏ أَيْ فِي الدُّنْيَا ‏{‏وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا‏}‏ وَإِنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ مَنَازِلَ، وَإِنَّ لَهُمْ فَضَائِلَ بِأَعْمَالِهِمْ‏.‏

ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ “ إِنَّ بَيْنَ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْفَلِهِمْ دَرَجَةً كَالنَّجْمِ يُرَى فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا “‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا تَجْعَلُ يَا مُحَمَّدُ مَعَ اللَّهِ شَرِيكًا فِي أُلُوهَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَلَكِنَّ أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ، وَأَفْرِدْ لَهُ الْأُلُوهَةِ، فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَجْعَلْ مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَتَعْبُدْ مَعَهُ سِوَاهُ، تَقْعُدْ مَذْمُومًا‏:‏ يَقُولُ‏:‏ تَصِيرُ مَلُومًا عَلَى مَا ضَيَّعتَ مَنْ شَكَرِ اللَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ مَنْ نَعْمَهُ، وَتَصْيِيرِكَ الشُّكْرَ لِغَيْرِ مَنْ أَوْلَاكَ الْمَعْرُوفَ، وُفِّيَ إِشْرَاكِكَ فِي الْحَمْدِ مَنْ لَمْ يُشْرِكْهُ فِي النِّعْمَةِ عَلَيْكَ غَيْرِهِ، مَخْذُولًا قَدْ أَسْلَمَكَ رَبُّكَ لِمَنْ بَغَاكَ سُوءًا، وَإِذَا أَسْلَمَكَ رَبُّكَ الَّذِي هُوَ نَاصِرٌ أَوْلِيَائَهُ لَمْ يَكُنْ لَكَ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يَنْصُرُكَ وَيَدْفَعُ عَنْكَ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَذْمُومًا فِي نِعْمَةِ اللَّهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِنَبِيِّ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ مَعْنِيٌّ بِهِ جَمِيعَ مَنْ لَزِمَهُ التَّكْلِيفُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ‏.‏