فصل: تفسير الآية رقم (18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَتَحْسَبُ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ الَّذِينَ قَصَصْنَا عَلَيْكَ قِصَّتَهُمْ، لَوْ رَأَيْتَهُمْ فِي حَالِ ضَرْبِنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي كَهْفِهِمُ الَّذِي أَوَوْا إِلَيْهِ أَيْقَاظًا‏.‏ وَالْأَيْقَاظُ‏:‏ جَمْعُ يَقِظٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ‏:‏

وَوَجـدُوا إِخْـوَتَهُمْ أَيْقَاظًـا *** وسَـيْفَ غَيَّـاظٍ لَهُـمْ غَيَّاظًـا

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَهُمْ رُقُودٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَهُمْ نِيَامٌ، وَالرُّقُودُ‏:‏ جَمْعُ رَاقِدٍ، كَالْجُلُوسِ‏:‏ جَمْعُ جَالِسٍ، وَالْقُعُودُ‏:‏ جَمْعُ قَاعِدٍ، وَقَوْلُهُ ‏{‏وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَنُقَلِّبُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ فِي رَقْدَتِهِمْ مَرَّةً لِلْجَنْبِ الْأَيْمَنِ، وَمَرَّةً لِلْجَنْبِ الْأَيْسَرِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ‏}‏ وَهَذَا التَّقْلِيبُ فِي رَقْدَتِهِمُ الْأُولَى، قَالَ‏:‏ وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَبَا عِيَاضٍ قَالَ‏:‏ لَهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ تَقْلِيبَتَانِ‏.‏

حُدِّثَتْ عَنْ يَزِيدَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَوْ أَنَّهُمْ لَا يُقَلَّبُونَ لَأَكْلَتْهُمُ الْأَرْضُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ‏}‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيالَّذِي عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ كَلْبٌ مِنْ كِلَابِهِمْ كَانَ مَعَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَ إِنْسَانًا مِنَ النَّاسِ طَبَّاخًا لَهُمْ تَبِعَهُمْ‏.‏

وَأَمَّا الْوَصِيدُ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ الْفِنَاءُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏بِالْوَصِيدِ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ بِالْفِنَاءِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ‏{‏وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ‏}‏ قَالَ‏:‏ بِالْفِنَاءِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏(‏بِالْوَصِيدِ‏)‏ قَالَ‏:‏ بِالْفِنَاءِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏(‏بِالْوَصِيدِ‏)‏ قَالَ‏:‏ بِالْفَنَاءِ‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ يُمْسِكُ بَابَ الْكَهْفِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ بِفَنَاءِ الْكَهْفِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏بِالْوَصِيدِ‏)‏ قَالَ‏:‏ بِفِنَاءِ الْكَهْفِ‏.‏

حُدِّثَتْ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ ثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏بِالْوَصِيدِ‏)‏ قَالَ‏:‏ يَعْنِي بِالْفِنَاءِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الْوَصِيدُ‏:‏ الصَّعِيدُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ‏}‏ يَعْنِي فَنَاءَهُمْ، وَيُقَالُ‏:‏ الْوَصِيدُ‏:‏ الصَّعِيدُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ عَنْتَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْوَصِيدُ‏:‏ الصَّعِيدُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ عَمْرٍو، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْوَصِيدُ‏:‏ الصَّعِيدُ، التُّرَابُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الْوَصِيدُ الْبَابُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ‏}‏ قَالَ‏:‏ بِالْبَابِ، وَقَالُوا بِالْفِنَاءِ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ الْوَصِيدُ‏:‏ الْبَابُ، أَوْ فِنَاءُ الْبَابِ حَيْثُ يُغْلِقُ الْبَابَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَابَ يُوصَدُ، وَإِيصَادُهُ‏:‏ إِطْبَاقُهُ وَإِغْلَاقُهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ‏}‏ وَفِيهِ لُغَتَانِ‏:‏ الْأَصِيدُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَالْوَصِيدُ‏:‏ وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ تِهَامَةَ وَذُكِرَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، قَالَ‏:‏ إِنَّهَا لُغَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ‏:‏ وَرَخْتُ الْكِتَابَ وَأَرَخْتُهُ، وَوَكَدْتُ الْأَمْرَ وَأَكَّدْتُهُ، فَمَنْ قَالَ الْوَصِيدَ، قَالَ‏:‏ أَوْصَدْتُ الْبَابَ فَأَنَا أُوصِدُهُ، وَهُوَ مُوصَدٌ، وَمَنْ قَالَ الْأَصِيدُ، قَالَ‏:‏ آصَدْتُ الْبَابَ فَهُوَ مُؤْصَدٌ، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِفِنَاءِ كَهْفِهِمْ عِنْدَ الْبَابِ، يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ بَابَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَوِ اطَّلَعَتْ عَلَيْهِمْ فِي رَقْدَتِهِمُ الَّتِي رَقَّدُوهَا فِي كَهْفِهِمْ، لَأَدْبَرْتَ عَنْهُمْ هَارِبًا مِنْهُمْ فَارًّا، ‏{‏وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏

وَلَمُلِئَتْ نَفْسُكَ مِنَ اطِّلَاعِكَ عَلَيْهِمْ فَزَعًا، لِمَا كَانَ اللَّهُ أَلْبَسَهُمْ مِنَ الْهَيْبَةِ، كَيْ لَا يَصِلَ إِلَيْهِمْ وَاصِلٌ، وَلَا تَلْمَسُهُمْ يَدٌ لَامَسٍ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ فِيهِمْ أَجْلَهُ، وَتُوقِظَهُمْ مَنْ رَقَّدَتِهِمْ قُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ عِبْرَةً لِمَنْ شَاءَ مَنْ خَلْقِهِ، وَآيَةً لِمَنْ أَرَادَ الِاحْتِجَاجَ بِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا‏}‏ فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءُ الْمَدِينَةِ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَلَمُلِّئْتَ‏)‏ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَمْتَلِئُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ‏:‏ ‏(‏وَلَمُلِئْتَ‏)‏ بِالتَّخْفِيفِ، بِمَعْنَى‏:‏ لَمُلِئَتْ مَرَّةً، وَهُمَا عِنْدَنَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي الْقِرَاءَةِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ كَمَا أَرْقَدْنَا هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ فِي الْكَهْفِ، فَحَفَظْنَاهُمْ مِنْ وُصُولِ وَاصِلٍ إِلَيْهِمْ، وَعَيْنِ نَاظِرٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ، وَحَفِظْنَا أَجْسَامَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ، وَثِيَابَهُمْ مِنَ الْعَفَنِ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ بِقُدْرَتِنَا، فَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ، وَأَيْقَظْنَاهُمْ مَنْ نَوْمِهِمْ، لِنُعَرِّفَهُمْ عَظِيمَ سُلْطَانِنَا، وَعَجِيبَ فِعْلِنَا فِي خَلْقِنَا، وَلِيَزْدَادُوا بَصِيرَةً فِي أَمْرِهِمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ بَرَاءَتِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْآلِهَةِ، وَإِخْلَاصِهِمْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِذَا تَبَيَّنُوا طُولَ الزَّمَانِ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ بِهَيْئَتِهِمْ حِينَ رَقَدُوا، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لِيَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ فَتَسَاءَلُوا فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ‏}‏ وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اسْتَنْكَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ طُولَ رَقْدَتِهِمْ ‏{‏قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَأَجَابَهُ الْآخَرُونَ فَقَالُوا‏:‏ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ، فَقَالَ الْآخَرُونَ‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ‏}‏ فَسَلَّمُوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ‏}‏ يَعْنِي مَدِينَتَهُمُ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا هَرَابًا، الَّتِي تُسَمَّى أَفَسُوسَ ‏{‏فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ‏}‏ ذَكَرَ أَنَّهُمْ هَبُّوا مِنْ رَقْدَتِهِمْ جِيَاعًا، فَلِذَلِكَ طَلَبُوا الطَّعَامَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَذِكْرُ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ ذَكَرَ أَنَّهُمْ بُعِثُوا مِنْ رَقْدَتِهِمْ حِينَ بَعَثُوا مِنْهَا‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ بِشرُوسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهَبَّ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ‏:‏ إِنَّهُمْ غبرُوُا، يَعْنِي الْفِتْيَةَ مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بَعْدَ مَا بُنِيَ عَلَيْهِمْ بَابُ الْكَهْفِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ، ثُمَّ إِنْ رَاعِيًا أَدْرَكَهُ الْمَطَرُ عِنْدَ الْكَهْفِ، فَقَالَ‏:‏ لَوْ فَتَحْتُ هَذَا الْكَهْفَ وَأَدْخَلْتُ غَنَمِي مِنَ الْمَطَرِ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَالِجُهُ حَتَّى فَتْحَ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، وَرَدَّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْسَامِهِمْ مِنَ الْغَدِ حِينَ أَصْبَحُوا، فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ بِوَرِقٍ يَشْتَرِي طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَى بَابَ مَدِينَتِهِمْ، رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ‏:‏ بِعْنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ طَعَامًا، فَقَالَ‏:‏ وَمَنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الدَّرَاهِم‏؟‏ قَالَ‏:‏ خَرَجْتُ أَنَا وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسَ، فَآوَانَا اللَّيْلُ، ثُمَّ أَصْبَحُوا، فَأَرْسَلُونِي، فَقَالَ‏:‏ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ مُلْكِ فُلَانٍ، فَأَنَّى لَكَ بِهَا، فَرَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، وَكَانَ مَلِكًا صَالِحًا، فَقَالَ‏:‏ مَنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الْوَرِقِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ خَرَجْتُ أَنَا وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسَ، حَتَّى أَدْرَكْنَا اللَّيْلُ فِي كَهْفِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ أَمَرُونِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُمْ طَعَامًا، قَالَ‏:‏ وَأَيْنَ أَصْحَابُكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فِي الْكَهْفِ، قَالَ‏:‏ فَانْطَلَقُوا مَعَهُ حَتَّى أَتَوْا بَابَ الْكَهْفِ، فَقَالَ‏:‏ دَعُونِي أَدْخُلْ عَلَى أَصْحَابِي قَبْلَكُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ، وَدَنَا مِنْهُمْ ضُرِبَ عَلَى أُذُنِهِ وَآذَانِهِمْ، فَجَعَلُوا كُلَّمَا دَخَلَ رَجُلٌ أُرْعِبَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، فَبَنَوْا عِنْدَهُمْ كَنِيسَةً، اتَّخَذُوهَا مَسْجِدًا يَصِلُونَ فِيهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ‏:‏ كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ أَبْنَاءَ مُلُوكِ الرُّومِ، رَزَقَهُمُ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، فَتَعَوَّذُوا بِدِينِهِمْ، وَاعْتَزَلُوا قَوْمَهُمْ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْكَهْفِ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى سَمْعِهِمْ، فَلَبِثُوا دَهْرًا طَوِيلًا حَتَّى هَلَكَتْ أُمَّتُهُمْ، وَجَاءَتْ أُمَّةٌ مُسْلِمَةٌ، وَكَانَ مِلْكُهُمْ مُسْلِمًا، فَاخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، فَقَالَ قَائِلٌ‏:‏ يُبْعَثُ الرُّوحُ وَالْجَسَدُ جَمِيعًا، وَقَالَ قَائِلٌ‏:‏ يُبْعَثُ الرُّوحُ، فَأَمَّا الْجَسَدُ فَتَأْكُلُهُ الْأَرْضُ، فَلَا يَكُونُ شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَى مَلِكِهِمُ اخْتِلَافِهِمْ، فَانْطَلَقَ فَلَبِسَ الْمُسُوحَ، وَجَلَسَ عَلَى الرَّمَادِ، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ‏:‏ أَيْ رَبِّ، قَدْ تَرَى اخْتِلَافَ هَؤُلَاءِ، فَابْعَثْ لَهُمْ آيَةً تُبَيِّنَ لَهُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ يَشْتَرِي لَهُمْ طَعَامًا، فَدَخْلَ السُّوقُ، فَجَعَلَ يُنْكِرُ الْوُجُوهَ، وَيَعْرِفُ الطُّرُقَ، وَيَرَى الْإِيمَانَ بِالْمَدِينَةِ ظَاهِرًا، فَانْطَلَقَ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ حَتَّى أَتَى رَجُلًا يَشْتَرِي مِنْهُ طَعَامًا، فَلَمَّا نَظَّرَ الرَّجُلُ إِلَى الْوَرِقِ أَنْكَرَهَا، قَالَ‏:‏ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ كَأَنَّهَا أَخْفَافُ الرُّبَعِ، يَعْنِي الْإِبِلَ الصِّغَارَ، فَقَالَ لَهُ الْفَتَى‏:‏ أَلَيْسَ مَلِكُكُمْ فُلَانًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلْ مَلِكُنَا فُلَانٌ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا حَتَّى رَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ الْفَتَى خَبَرَ أَصْحَابِهِ، فَبَعَثَ الْمَلِكُ فِي النَّاسِ، فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّكُمْ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ فِي الرَّوْحِ وَالْجَسَدِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ آيَةً، فَهَذَا رَجُلٌ مِنْ قَوْمِ فُلَانٍ، يَعْنِي مَلِكَهُمُ الَّذِي مَضَى، فَقَالَ الْفَتَى‏:‏ انْطَلَقُوا بِي إِلَى أَصْحَابِي، فَرَكِبَ الْمَلِكُ، وَرَكِبَ مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْكَهْفِ، فَقَالَ الْفَتَى دَعُونِي أَدْخُلُ إِلَى أَصْحَابِي، فَلَمَّا أَبْصَرَهُمْ ضُرِبَ عَلَى أُذُنِهِ وَعَلَى آذَانِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَبْطَئُوهُ دَخْلَ الْمَلِكُ، وَدَخْلَ النَّاسُ مَعَهُ، فَإِذَا أَجْسَادٌ لَا يُنَكِّرُونَ مِنْهَا شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهَا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا، فَقَالَ الْمَلِكُ‏:‏ هَذِهِ آيَةٌ بَعْثِهَا اللَّهُ لَكُمْ، قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ قَدْ غَزَا مَعَ حَبِيبِ بْنِ مُسْلِمَةَ، فَمَرُّوا بِالْكَهْفِ، فَإِذَا فِيهِ عِظَامٌ، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ هَذِهِ عِظَامُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لَقَدْ ذَهَبَتْ عِظَامُهُمْ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِ مِئَةِ سَنَةٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ مَلِكِ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ رَجُلٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ تيذوسيسُ، فَلَمَّا مَلَكَ بَقِيَ مُلْكُهُ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ سَنَةً، فَتَحَزَّبَ النَّاسُ فِي مُلْكِهِ، فَكَانُوا أَحْزَابًا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ تيذوسيسِ، وَبَكَى إِلَى اللَّهِ وَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ، وَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا لِمَا رَأَى أَهْلَ الْبَاطِلِ يَزِيدُونَ وَيُظْهِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ وَيَقُولُونَ‏:‏ لَا حَيَاةَ إِلَّا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا تُبْعَثُ النُّفُوسُ، وَلَا تُبْعَثُ الْأَجْسَادُ، وَنَسُوا مَا فِي الْكِتَابِ، فَجَعَلَ تيذوسيسُ يُرْسِلُ إِلَى مَنْ يَظُنُّ فِيهِ خَيَّرًا، وَأَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ فِي الْحَقِّ، فَجَعَلُوا يُكَذِّبُونَ بِالسَّاعَةِ، حَتَّى كَادُوا أَنْ يُحَوِّلُوا النَّاسَ عَنِ الْحَقِّ وَمِلَّةِ الْحَوَارِيِّينَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ تيذوسيسُ، دَخْلَ بَيْتَهُ فَأَغْلَقَهُ عَلَيْهِ، وَلَبِسَ مِسْحًا وَجَعْلَ تَحْتِهِ رَمَادًا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، فَدَأَبَ ذَلِكَ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ زَمَانًا يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ، وَيَبْكِي إِلَيْهِ مِمَّا يَرَى فِيهِ النَّاسَ، ثُمَّ إِنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ الَّذِي يَكْرَهُ هَلْكَةَ الْعِبَادِ، أَرَادَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى الْفِتْيَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ شَأْنَهُمْ، وَيَجْعَلَهُمْ آيَةً لَهُمْ، وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنْ يَسْتَجِيبَ لِعَبْدِهِ الصَّالِحِ تيذوسيسَ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْـزِعُ مِنْهُ مُلْكَهُ، وَلَا الْإِيمَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ، وَأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ يَجْمَعَ مَنْ كَانَ تَبَدَّدَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِ رَجُلٍ مَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدَ الَّذِي بِهِ الْكَهْفُ، وَكَانَ الْجَبَلُ بنجلوسُ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ، وَكَانَ اسْمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ أوليَاسَ، أَنْ يَهْدِمَ الْبُنْيَانَ الَّذِي عَلَى فَمِ الْكَهْفِ، فَيَبْنِيَ بِهِ حَظِيرَةً لِغَنَمِهِ، فَاسْتَأْجِرْ عَامِلِينَ، فَجَعَلَا يَنْـزَعَانِ تِلْكَ الْحِجَارَةَ، وَيَبْنِيَانِ بِهَا تِلْكَ الْحَظِيرَةَ، حَتَّى نَـزَعَا مَا عَلَى فَمِ الْكَهْفِ، حَتَّى فَتَحَا عَنْهُمْ بَابَ الْكَهْفِ، وَحَجَبَهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ بِالرُّعْبِ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَشْجَعَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ غَايَةَ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ بَابِ الْكَهْفِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يَرَى كَلْبَهُمْ دُونَهُمْ إِلَى بَابِ الْكَهْفِ نَائِمًا، فَلَمَّا نَـزَعَا الْحِجَارَةِ، وَفَتَحَا عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ، أَذِنَ اللَّهُ ذُو الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالسُّلْطَانِ مُحْيِي الْمَوْتَى لِلْفِتْيَةِ أَنْ يَجْلِسُوا بَيْنَ ظَهَرَانِي الْكَهْفِ، فَجَلَسُوا فَرِحِينَ مُسْفِرَةً وُجُوهُهُمْ طَيِّبَةً أَنْفُسَهُمْ، فَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى كَأَنَّمَا اسْتَيْقَظُوا مِنْ سَاعَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَسْتَيْقِظُونَ لَهَا إِذَا أَصْبَحُوا مِنْ لَيْلَتِهِمُ الَّتِي يَبِيتُونَ فِيهَا، ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّوْا، كَالَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَ، لَا يَرَوْنَ، وَلَا يُرَى فِي وُجُوهِهِمْ، وَلَا أَبْشَارِهِمْ، وَلَا أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ يُنْكِرُونَهُ كَهَيْئَتِهِمْ حِينَ رَقَدُوا بِعَشِيِّ أَمْسِ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَلِكَهُمْ دقينوسَ الْجَبَّارَ فِي طَلَبِهِمْ وَالْتِمَاسِهِمْ فَلَمَّا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، قَالُوا لِيَمْلِيخَا، وَكَانَ هُوَ صَاحِبُ نَفَقَتِهِمْ، الَّذِي كَانَ يَبْتَاعُ لَهُمْ طَعَامَهُمْ وَشَرَابَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَجَاءَهُمْ بِالْخَبَرِ أَنْ دقينوسَ يَلْتَمِسَهُمْ، وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ‏:‏ أَنْبِئْنَا يَا أَخِي مَا الَّذِي قَالَ النَّاسُ فِي شَأْنِنَا عَشِيَّ أَمْسِ عِنْدَ هَذَا الْجَبَّارِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ رَقَدُوا كَبَعْضِ مَا كَانُوا يَرْقُدُونَ، وَقَدْ خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ نَامُوا كَأَطْوَلِ مَا كَانُوا يَنَامُونَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أَصْبَحُوا فِيهَا، حَتَّى تَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ‏}‏ نِيَامًا‏؟‏ ‏{‏قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ‏}‏ وَكُلُّ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ يَسِيرُ‏.‏ فَقَالَ لَهُمْ يَمْلِيخَا‏:‏ افْتُقِدْتُمْ وَالْتُمِسْتُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤْتَى بِكُمُ الْيَوْمَ، فُتُذْبَحُونَ لِلطَّوَاغِيتِ، أَوْ يَقْتُلَكُمْ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ مَكْسَلْمِينَا‏:‏ يَا إِخْوَتَاهُ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقَوْنَ، فَلَا تَكْفُرُوا بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِذَا دَعَاكُمْ عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَا تُنْكِرُوا الْحَيَاةَ الَّتِي لَا تَبِيدُ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ بِاللَّهِ، وَالْحَيَاةِ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ، ثُمَّ قَالُوا لِيَمْلِيخَا‏:‏ انْطَلِقْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَسَمَّعْ مَا يُقَالُ لَنَا بِهَا الْيَوْمَ، وَمَا الَّذِي نُذْكَرُ بِهِ عِنْدَ دقينوسَ، وَتَلَطَّفَ، وَلَا يُشْعِرَنِّ بِنَا أَحَدٌ، وَابْتَعْ لَنَا طَعَامًا فَأْتِنَا بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ آنَ لَكَ، وَزِدْنَا عَلَى الطَّعَامِ الَّذِي قَدْ جِئْتِنَا بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ قَلِيلًا فَقَدْ أَصْبَحْنَا جِيَاعًا، فَفَعَلَ يَمْلِيخَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ، وَوَضْعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ الثِّيَابَ الَّتِي كَانَ يَتَنَكَّرُ فِيهَا، وَأَخَذَ وَرِقًا مِنْ نَفَقَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُمْ، الَّتِي ضُرِبَتْ بِطَابَعِ دقينوسَ الْمَلِكَ، فَانْطَلَقَ يَمْلِيخَا خَارِجًا، فَلَمَّا مَرَّ بِبَابِ الْكَهْفِ، رَأَى الْحِجَارَةَ مَنْـزُوعَةً عَنْ بَابِ الْكَهْفِ‏.‏ فَعَجِبَ مِنْهَا، ثُمَّ مَرَّ فَلَمْ يُبَالِ بِهَا، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ مُسْتَخْفِيًا يَصُدُّ عَنِ الطَّرِيقِ تَخَوُّفًا أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَيُعَرِّفُهُ، فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى دقينوسَ، وَلَا يَشْعُرُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَنَّ دقينوسَ وَأَهْلَ زَمَانِهِ قَدْ هَلَكُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مِئَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ مَا بَيْنَ أَنْ نَامُوا إِلَى أَنِ اسْتَيْقَظُوا ثَلَاثُ مِئَةٍ وَتِسْعُ سِنِينَ، فَلَمَّا رَأَى يَمْلِيخَا بَابَ الْمَدِينَةِ رَفَعَ بَصَرَهُ، فَرَأَى فَوْقَ ظَهْرِ الْبَابِ عَلَّامَةً تَكُونُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، إِذَا كَانَ ظَاهِرًا فِيهَا، فَلَمَّا رَآهَا عَجِبَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ مُسْتَخْفِيًا إِلَيْهَا، فَنَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَتُعْجِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ الْبَابَ، فَتَحَوَّلَ إِلَى بَابٍ آخَرَ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَظَرَ فَرَأَى مِنْ ذَلِكَ مَا يُحِيطُ بِالْمَدِينَةِ كُلُّهَا، وَرَأَى عَلَى كُلِّ بَابٍ مِثْلِ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّ الْمَدِينَةَ لَيْسَتْ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَ يَعْرِفُ، وَرَأَى نَاسًا كَثِيرِينَ مُحْدَثِينَ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَمْشِي وَيَعْجَبُ وَيُخَيِّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ حَيْرَانُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي أَتَى مِنْهُ، فَجَعَلَ يَعْجَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَيَقُولُ‏:‏ يَا لَيْتَ شِعْرِي، أَمَّا هَذِهِ عَشِيَّةَ أَمْسِ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخْفُونَ هَذِهِ الْعَلَامَةَ وَيَسْتَخِفُّونَ بِهَا، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ لِعِلِّيِّ حَالِمٍ، ثُمَّ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَائِمٍ، فَأَخَذَ كِسَاءَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَمْشِي بَيْنَ ظَهَرَانِي سُوقِهَا، فَيَسْمَعُ أُنَاسًا كَثِيرًا يَحْلِفُونَ بِاسْمِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَزَادَهُ فَرْقًا، وَرَأَى أَنَّهُ حَيْرَانُ، فَقَامَ مُسْنِدَا ظَهْرِهِ إِلَى جِدَارٍ مِنْ جُدُرِ الْمَدِينَةِ وَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ‏:‏ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هَذَا‏!‏ أَمَّا عَشِيَّةُ أَمْسِ فَلَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ إِنْسَانٌ يَذْكُرُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِلَّا قُتِلَ، وَأَمَّا الْغَدَاةُ فَأَسْمَعُهُمْ، وَكُلّ إِنْسَانٍ يَذْكُرُ أَمْرَ عِيسَى لَا يَخَافُ، ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِهِ‏:‏ لَعَلَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي أَعْرِفُ، أَسْمَعُ كَلَامَ أَهْلِهَا وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَاللَّهَ مَا أَعْلَمُ مَدِينَةً قُرْبَ مَدِينَتِنَا، فَقَامَ كَالْحَيْرَانِ لَا يَتَوَجَّهُ وَجْهًا، ثُمَّ لَقِيَ فَتَى مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ مَا اسْمُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ يَا فَتَى‏؟‏ قَالَ‏:‏ اسْمُهَا أَفَسُوسُ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ‏:‏ لَعَلَّ بِي مَسًّا، أَوْ بِي أَمْرٌ أَذْهَبَ عَقْلِي، وَاللَّهُ يَحِقُّ لِي أَنَّ أَسْرَعَ الْخُرُوجِ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ أَخْزَى فِيهَا أَوْ يُصِيبُنِي شَرٌّ فَأَهْلَكُ، هَذَا الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ يَمْلِيخَا أَصْحَابَهُ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُمْ مَا بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَفَاقَ فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهُ لَوْ عَجَّلَتِ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَفْطَنَ بِي لَكَانَ أَكَيِّسَ لِي، فَدَنَا مِنَ الَّذِينَ يَبِيعُونَ الطَّعَامَ، فَأَخْرَجَ الْوَرِقَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، فَأَعْطَاهَا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقَالَ‏:‏ بِعْنِي بِهَذِهِ الْوَرَقِ يَا عَبْدَ اللَّهِ طَعَامًا، فَأَخَذَهَا الرَّجُلُ، فَنَظَرَ إِلَى ضَرْبِ الْوَرِقِ وَنَقْشِهَا، فَعَجِبَ مِنْهَا، ثُمَّ طَرَحَهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَارَحُونَهَا بَيْنَهُمْ مِنْ رَجُلٍ إِلَى رَجُلٍ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ بَيْنَهُمْ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَصَابَ كنـزا خَبِيئًا فِي الْأَرْضِ مُنْذُ زَمَانٍ وَدَهْرٍ طَوِيلٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ يَتَشَاوَرُونَ مِنْ أَجْلِهِ فَرَّقَ فَرْقًا شَدِيدًا، وَجَعَلَ يَرْتَعِدُ وَيَظُنُّ أَنَّهُمْ قَدْ فَطِنُوا بِهِ وَعَرَفُوهُ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ دقينوسَ يُسَلِّمُونَهُ إِلَيْهِ، وَجُعِلَ أُنَاسٌ آخَرُونَ يَأْتُونَهُ فَيَتَعَرَّفُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ وَهُوَ شَدِيدُ الْفَرْقِ مِنْهُمْ‏:‏ أَفْضِلُوا عِلِيَّ، فَقَدْ أَخَذْتُمْ وَرَقِي فَأَمْسَكُوا، وَأَمَّا طَعَامُكُمْ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهِ، قَالُوا لَهُ‏:‏ مَنْ أَنْتَ يَا فَتَى، وَمَا شَأْنُكَ‏؟‏ وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدَتْ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْأَوَّلِينَ، فَأَنْتِ تُرِيدُ أَنْ تُخْفِيَهُ مِنَّا، فَانْطَلِقْ مَعَنَا فَأَرِنَاهُ وَشَارِكْنَا فِيهِ، نُخْفِ عَلَيْكَ مَا وَجَدْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَفْعَلْ نَأْتِ بِكَ السُّلْطَانَ، فَنُسَلِّمُكَ إِلَيْهِ فَيَقْتُلُكَ، فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُمْ، عَجِبَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ‏:‏ قَدْ وَقَعْتُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كُنْتُ أَحْذَرُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالُوا‏:‏ يَا فَتَى إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكْتُمَ مَا وَجَدْتَ، وَلَا تَظُنَّ فِي نَفْسِكَ أَنَّهُ سَيَخْفَى حَالُكَ، فَجَعَلَ يَمْلِيخَا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لَهُمْ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، وَفَرَقَ حَتَّى مَا يَحِيرُ إِلَيْهِمْ جَوَابًا، فَلَمَّا رَأَوْهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَخَذُوا كِسَاءَهُ فَطَوَّقُوهُ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ جَعَلُوا يَقُودُونَهُ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ مُلَبَّبًا، حَتَّى سَمِعَ بِهِ مَنْ فِيهَا، فَقِيلَ‏:‏ أُخِذَ رَجُلٌ عِنْدَهُ كَنْزٌ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ‏:‏ وَاللَّهِ مَا هَذَا الْفَتَى مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَمَا رَأَيْنَاهُ فِيهَا قَطُّ، وَمَا نَعْرِفُهُ، فَجَعَلَ يَمْلِيخَا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لَهُمْ، مَعَ مَا يَسْمَعُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَرَقَ، فَسَكَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، وَلَوْ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يُصَدَّقْ، وَكَانَ مُسْتَيْقِنًا أَنَّ أَبَاهُ وَإِخْوَتَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّ حَسَبَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِهَا، وَأَنَّهُمْ سَيَأْتُونَهُ إِذَا سَمِعُوا، وَقَدِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ مِنْ عَشِيَّةِ أَمْسِ يَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْيَوْمَ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدًا، فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ كَالْحَيْرَانِ يَنْتَظِرُ مَتَى يَأْتِهِ بَعْضُ أَهْلِهِ، أَبُوهُ أَوْ بَعْضُ إِخْوَتِهِ فَيُخَلِّصُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، إِذِ اخْتَطَفُوهُ فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى رَئِيسَيِ الْمَدِينَةِ وَمُدَبِّرِيهَا اللَّذَيْنِ يُدَبِّرَانِ أَمْرَهَا، وَهُمَا رَجُلَانِ صَالِحَانِ، كَانَ اسْمُ أَحَدِهِمَا أريوسُ، وَاسْمُ الْآخَرِ أَسْطِيوُسُ، فَلَمَّا انْطَلَقَ بِهِ إِلَيْهِمَا، ظَنَّ يَمْلِيخَا أَنَّهُ يَنْطَلِقُ بِهِ إِلَى دقينوسَ الْجَبَّارِ مَلِكِهِمُ الَّذِي هَرَبُوا مِنْهُ، فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَجَعَلَ النَّاسُ يَسْخَرُونَ مِنْهُ، كَمَا يُسْخَرُ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالْحَيْرَانِ، فَجَعَلَ يَمْلِيخَا يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَإِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِلَهَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَوْلِجْ مَعِي رُوحًا مِنْكَ الْيَوْمَ تُؤَيِّدُنِي بِهِ عِنْدَ هَذَا الْجَبَّارِ، وَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ‏:‏ فَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، يَا لَيْتَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا لَقِيتُ، وَأَنِّي يُذْهَبُ بِي إِلَى دقينوسَ الْجَبَّارِ، فَلَوْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ، فَيَأْتُونَ، فَنَقُومُ جَمِيعًا بَيْنَ يَدِي دقينوسَ، فَإِنَّا كُنَّا تَوَاثَقْنَا لَنَكُونَنَّ مَعًا، لَا نَكْفُرُ بِاللَّهِ وَلَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَلَا نَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَلَنْ يَرَوْنِي وَلَنْ أَرَاهُمْ أَبَدًا، وَقَدْ كُنَّا تَوَاثَقْنَا أَنْ لَا نَفْتَرِقُ فِي حَيَاةٍ وَلَا مَوْتٍ أَبَدًا، يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ بِي‏؟‏ أَقَاتِلَيْ هُوَ أَمْ لَا‏؟‏ ذَلِكَ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ يَمْلِيخَا نَفْسَهُ فِيمَا أَخْبَرَ أَصْحَابُهُ حِينَ رَجَعَ إِلَيْهِمْ‏.‏

فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الرَّجُلَيْنِ الصَّالِحَيْنِ أريوسَ وأسطيوسَ، فَلَمَّا رَأَى يَمْلِيخَا أَنَّهُ لَمْ يُذْهَبْ بِهِ إِلَى دقينوسَ، أَفَاقَ وَسَكَنَ عَنْهُ الْبُكَاءُ، فَأَخَذَ أريوسُ وأسطيوسُ الْوَرِقَ فَنَظَرَا إِلَيْهَا وَعَجِبَا مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَيْنَ الْكَنْزُ الَّذِي وَجَدَتْ يَا فَتَى، هَذَا الْوَرِقُ يَشْهَدُ عَلَيْكَ أَنَّكَ قَدْ وَجَدْتَ كَنْزًا، فَقَالَ لَهُمَا يَمْلِيخَا‏:‏ مَا وَجَدْتُ كَنْزًا وَلَكِنَّ هَذِهِ الْوَرِقَ وَرِقُ آبَائِي، وَنَقْشُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَضَرْبُهَا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا شَأْنِي، وَمَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكُمْ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا‏:‏ مِمَّنْ أَنْتَ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ يَمْلِيخَا‏:‏ مَا أَدْرِي، فَكُنْتُ أَرَى أَنِّي مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالُوا‏:‏ فَمَنْ أَبُوكَ وَمَنْ يَعْرِفُكَ بِهَا‏؟‏ فَأَنْبَأَهُمْ بِاسْمِ أَبِيهِ، فَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَعْرِفُهُ وَلَا أَبَاهُ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْتَ رَجُلٌ كَذَّابٌ لَا تُنْبِئُنَا بِالْحَقِّ، فَلَمْ يُدِرْ يَمْلِيخَا مَا يَقُولُ لَهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ نَكَّسَ بَصَرَهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَوْلِهِ‏:‏ هَذَا رَجُلٌ مَجْنُونٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، وَلَكِنَّهُ يُحَمِّقُ نَفْسَهُ عَمْدًا لِكَيْ يَنْفَلِتَ مِنْكُمْ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا، وَنَظَرَ إِلَيْهِ نَظَرًا شَدِيدًا‏:‏ أَتُظَنُّ أَنَّكَ إِذْ تَتَجَانَّنُ نُرْسِلُكَ وَنُصَدِّقُكَ بِأَنَّ هَذَا مَالُ أَبِيكَ، وَضَرْبُ هَذِهِ الْوَرِقِ وَنَقْشُهَا مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِ مِئَةِ سَنَةٍ‏؟‏ وَإِنَّمَا أَنْتَ غُلَامٌ شَابٌّ تَظُنُّ أَنَّكَ تَأْفِكُنَا، وَنَحْنُ شَمْطٌ كَمَا تَرَى، وَحَوْلَكَ سُرَاةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَوُلَاةُ أَمْرِهَا، إِنِّي لَأَظَنَّنِي سَآمُرُ بِكَ فَتُعَذِّبُ عَذَابًا شَدِيدًا، ثُمَّ أُوثِقُكَ حَتَّى تَعْتَرِفَ بِهَذَا الْكَنْزِ الَّذِي وَجَدْتَ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ يَمْلِيخَا‏:‏ أَنْبَئُونِي عَنْ شَيْءٍ أَسْأَلُكُمْ عَنْهُ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ صَدَقْتُكُمْ عَمَّا عِنْدِي، أَرَأَيْتُمْ دقينوسَ الْمَلِكَ الَّذِي كَانَ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ عَشِيَّةَ أَمْسِ مَا فَعَلَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ‏:‏ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ رَجُلٌ اسْمهُ دقينوسَ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مَلِكٌ قَدْ هَلَكَ مُنْذُ زَمَانٍ وَدَهْرٍ طَوِيلٍ، وَهَلَكَتْ بَعْدَهُ قُرُونٌ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ يَمْلِيخَا‏:‏ فَوَاللَّهِ إِنِّي إِذًا لِحَيْرَانٌ، وَمَا هُوَ بِمُصَدِّقٍ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِمَا أَقُولُ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ، لَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الْجَبَّارِ دقينوسَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُهُ عَشِيَّةَ أَمْسِ حِينَ دَخَلَ مَدِينَةَ أَفَسُوسَ، وَلَكِنْ لَا أَدْرِي أَمَدِينَةُ أَفَسُوسَ هَذِهِ أَمْ لَا‏؟‏ فَانْطَلَقَا مَعِي إِلَى الْكَهْفِ الَّذِي فِي جَبَلِ بنجلوسَ أُرِيكُمْ أَصْحَابِي، فَلَمَّا سَمِعَ أريوسُ مَا يَقُولُ يَمْلِيخَا قَالَ‏:‏ يَا قَوْمُ لَعَلَّ هَذِهِ آيَةً مِنْ آيَاتِ اللَّهِ جَعَلَهَا لَكُمْ عَلَى يَدَيْ هَذَا الْفَتَى، فَانْطَلَقُوا بِنَا مَعَهُ يُرِنَا أَصْحَابَهُ، كَمَا قَالَ‏:‏ فَانْطَلَقَ مَعَهُ أريوسُ وأسطيوسُ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ، نَحْوَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِمْ‏.‏

وَلِمَا رَأَى الْفِتْيَةُ أَصْحَابُ الْكَهْفِ يَمْلِيخَا قَدِ احْتَبَسَ عَلَيْهِمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ عَنِ الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي بِهِ، ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ أُخِذَ فَذُهِبَ بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ دَقْينوسَ الَّذِي هَرَبُوا مِنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَظُنُّونَ ذَلِكَ وَيَتَخَوَّفُونَهُ، إِذْ سَمِعُوا الْأَصْوَاتِ وَجَلَبَةَ الْخَيْلِ مُصَعَّدَةً نَحْوَهُمْ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ رُسُلُ الْجَبَّارِ دقينوسَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ لِيُؤْتَى بِهِمْ، فَقَامُوا حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالُوا‏:‏ انْطَلَقُوا بِنَا نَأْتِ أَخَانَا يَمْلِيخَا، فَإِنَّهُ الْآنَ بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ دقينوسَ يَنْتَظِرُ مَتَى نَأْتِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَهُمْ جُلُوسٌ بَيْنَ ظَهَرَانِيِ الْكَهْفِ، فَلَمْ يَرَوْا إِلَّا أريوسَ وَأَصْحَابَهُ وُقُوفًا عَلَى بَابِ الْكَهْفِ، وَسَبْقَهُمْ يَمْلِيخَا، فَدَخْلَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَبْكِي، فَلَمَّا رَأَوْهُ يَبْكِي بَكَوْا مَعَهُ، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنْ شَأْنِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِمُ النَّبَأَ كُلَّهُ، فَعَرَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا نِيَامًا بِأَمْرِ اللَّهِ ذَلِكَ الزَّمَانَ كُلَّهُ، وَإِنَّمَا أُوقِظُوا لِيَكُونُوا آيَةً لِلنَّاسِ، وَتَصْدِيقًا لِلْبَعْثِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى إِثْرِ يَمْلِيخَا أريوسُ، فَرَأَى تَابُوتًا مِنْ نُحَاسٍ مَخْتُومًا بِخَاتَمٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَقَامَ بِبَابِ الْكَهْفِ، ثُمَّ دَعَا رِجَالًا مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَفَتَحَ التَّابُوتَ عِنْدَهُمْ، فَوَجَدُوا فِيهِ لَوْحَيْنِ مِنْ رَصَاصٍ، مَكْتُوبًا فِيهِمَا كِتَابٌ، فَقَرَأَهُمَا فَوَجَدَ فِيهِمَا أَنَّ مَكْسَلْمِينَا، ومحسلمينَا، و يَمْلِيخَا، ومرطونسَ، وكسطونسَ، ويبورسَ، ويكرونسَ، ويطبيونسَ، وقالوشَ، كَانُوا فَتِيَّةً هَرَبُوا مِنْ مَلِكِهِمْ دقينوسَ الْجَبَّارِ، مَخَافَةَ أَنْ يَفْتِنَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَدَخَلُوا هَذَا الْكَهْفَ، فَلَمَّا أَخْبَرَ بِمَكَانِهِمْ أَمَرَ بِالْكَهْفِ فَسَدَّ عَلَيْهِمْ بِالْحِجَارَةِ، وَإِنَّا كَتَبَنَا شَأْنَهُمْ وَقِصَّةَ خَبَرِهِمْ، لِيُعَلِّمُهُ مَنْ بَعْدِهِمْ إِنْ عَثَرَ عَلَيْهِمْ‏.‏ فَلَمَّا قَرَءُوهُ، عَجِبُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ الَّذِي أَرَاهُمْ آيَةً لِلْبَعْثِ فِيهِمْ، ثُمَّ رَفَعُوا أَصْوَاتِهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ، ثُمَّ دَخَلُوا عَلَى الْفِتْيَةِ الْكَهْفَ، فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِ، مُشْرِقَةً وُجُوهُهُمْ، لَمْ تَبْلُ ثِيَابُهُمْ، فَخَرَّ أريوسُ وَأَصْحَابُهُ سُجُودًا، وَحَمِدُوا اللَّهَ الَّذِي أَرَاهُمْ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ، ثُمَّ كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَنْبَأَهُمُ الْفِتْيَةُ عَنِ الَّذِينَ لَقَوْا مِنْ مَلِكِهِمْ دقينوسَ ذَلِكَ الْجَبَّارُ الَّذِي كَانُوا هَرَبُوا مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ أريوسَ وَأَصْحَابَهُ بَعَثُوا بَرِيدًا إِلَى مَلِكِهِمُ الصَّالِحِ تيذوسيسَ، أَنَّ عَجِّلْ لَعَلَّكَ تَنْظُرُ إِلَى آيَةٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُلْكِكَ، وَجَعَلَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ، لِتَكُونَ لَهُمْ نُورًا وَضِيَاءً، وَتَصْدِيقًا بِالْبَعْثِ، فَاعْجَلْ عَلَى فِتْيَةٍ بَعَثَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ تَوَفَّاهُمْ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِ مِئَةِ سَنَةٍ، فَلَمَّا أَتَى الْمَلِكَ تيذوسيسَ الْخَبَرُ، قَامَ مِنَ الْمَسْنَدَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَرَجَعَ إِلَيْهِ رَأْيُهُ وَعَقْلُهُ، وَذَهَبَ عَنْهُ هَمُّهُ، وَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ‏:‏ أَحْمَدُكَ اللَّهُمَّ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَعْبُدُكَ، وَأَحْمَدُكَ، وَأُسَبِّحُ لَكَ، تَطَوَّلَتْ عِلِيَّ، وَرَحِمَتْنِي بِرَحْمَتِكَ، فَلَمْ تُطْفِئِ النُّورَ الَّذِي كُنْتَ جَعَلْتَهُ لِآبَائِي، وَلِلْعَبْدِ الصَّالِحِ قسطيطينوسَ الْمَلِكِ، فَلَمَّا نَبَّأَ بِهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ رَكِبُوا إِلَيْهِ، وَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى أَتَوْا مَدِينَةَ أَفَسَوَّسَ، فَتَلَقَّاهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى صَعَدُوا نَحْوَ الْكَهْفِ حَتَّى أَتَوْهُ، فَلَمَّا رَأَى الْفِتْيَةُ تيذوسيسَ، فَرِحُوا بِهِ، وَخَرُّوا سُجُودًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَقَامَ تيذوسيسُ قُدَّامَهُمْ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُمْ وَبَكَى، وَهُمْ جُلُوسٌ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيَحْمَدُونَهُ، وَيَقُولُ‏:‏ وَاللَّهُ مَا أَشْبَهَ بِكُمْ إِلَّا الْحَوَارِيُّونَ حِينَ رَأَوُا الْمَسِيحَ، وَقَالَ‏:‏ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْكُمْ، كَأَنَّكُمُ الَّذِي تُدْعَوْنَ فَتُحْشَرُونَ مِنَ الْقُبُورِ، فَقَالَ الْفِتْيَةُ لتيذوسيسَ‏:‏ إِنَّا نُوَدِّعُكَ السَّلَامَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَفِظَكَ اللَّهُ، وَحَفِظَ لَكَ مِلْكَكَ بِالسَّلَامِ، وَنُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَأَمَرَ بِعَيْشٍ مِنْ خُلَّرٍ وَنَشِيلٍ إِنَّ أَسْوَأَ مَا سَلَكَ فِي بَطْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَعْلَمَ شَيْئًا إِلَّا كَرَامَةً إِنَّ أَكْرَمَ بِهَا، وَلَا هَوَانَ إِنْ أُهِينَ بِهِ‏.‏ فَبَيْنَمَا الْمَلِكُ قَائِمٌ، إِذْ رَجَعُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، فَنَامُوا، وَتَوَفَّى اللَّهُ أَنْفُسَهُمْ بِأَمْرِهِ، وَقَامَ الْمَلِكُ إِلَيْهِمْ، فَجَعَلَ ثِيَابَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَابُوتٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا أَمْسَوْا وَنَامَ، أَتَوْهُ فِي الْمَنَامِ، فَقَالُوا‏:‏ إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ مِنْ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَلَكِنَّا خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ وَإِلَى التُّرَابِ نَصِيرُ، فَاتْرُكْنَا كَمَا كُنَّا فِي الْكَهْفِ عَلَى التُّرَابِ حَتَّى يَبْعَثَنَا اللَّهُ مِنْهُ، فَأَمَرَ الْمَلِكُ حِينَئِذٍ بِتَابُوتٍ مِنْ سَاجٍ، فَجَعَلُوهُمْ فِيهِ، وَحَجَبَهُمُ اللَّهُ حِينَ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِمْ بِالرُّعْبِ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ الْمَلِكُ فَجَعَلَ كَهْفَهُمْ مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ، وَجُعِلَ لَهُمْ عِيدًا عَظِيمًا، وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى كُلَّ سَنَةٍ، فَهَذَاحَدِيثُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُوَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ‏:‏ بَعَثَهُمُ اللَّهُ- يَعْنِي الْفِتْيَةَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ- وَقَدْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَلَكٌ مُسْلِمٌ، يَعْنِي عَلَى أَهْلِ مَدِينَتِهِمْ، وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَى الْفِتْيَةِ الْجُوعَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَرَدُّوا عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، ‏{‏قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ‏}‏ وَإِذَا مَعَهُمْ وَرِقٌ مِنْ ضَرْبِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانُوا فِي زَمَانِهِ ‏{‏فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ‏}‏‏:‏ أَيْ بِطَعَامٍ ‏{‏وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا‏}‏‏.‏ فَخَرَجَ أَحَدُهُمْ فَرَأَى الْمَعَالِمَ مُتَنَكِّرَةً حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ لَا يَعْرِفُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَخَرَجَ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ، فَسَامَهُ بِطَعَامِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ‏:‏ هَاتِ وَرِقَكَ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ الْوَرَقَ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الْوَرَقُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذِهِ وَرِقُنَا وَوَرِقُ أَهْلِ بِلَادِنَا، فَقَالَ‏:‏ هَيْهَاتَ هَذِهِ الْوَرِقُ مِنْ ضَرْبِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مُنْذُ ثَلَاثِ مِئَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ، أَنْتَ أَصَبْتَ كَنْزًا، وَلَسْتُ بِتَارِكِكَ حَتَّى أَرْفَعَكَ إِلَى الْمَلِكِ، فَرَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، وَإِذَا الْمَلِكُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُهُ مُسْلِمُونَ، فَفَرِحَ وَاسْتَبْشَرَ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ أَمَرَهُ، وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ أَصْحَابِهِ، فَبَعَثُوا إِلَى اللَّوْحِ فِي الْخِزَانَةِ، فَأَتَوْا بِهِ، فَوَافَقَ مَا وَصَفَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ‏:‏ نَحْنُ أَحَقُّ بِهِمْ هَؤُلَاءِ أَبْنَاءُ آبَائِنَا، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ‏:‏ نَحْنُ أَحَقُّ بِهِمْ، هُمْ مُسْلِمُونَ مِنَّا، فَانْطَلَقُوا مَعَهُ إِلَى الْكَهْفِ، فَلَمَّا أَتَوْا بَابَ الْكَهْفِ قَالَ‏:‏ دَعُونِي حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى أَصْحَابِي حَتَّى أُبَشِّرَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِنْ رَأَوْكُمْ مَعِي أَرْعَبْتُمُوهُمْ، فَدَخَلَ فَبَشَّرَهُمْ، وَقَبَضَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ، قَالَ‏:‏ وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُمْ، فَلَمْ يَهْتَدُوا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ‏:‏ نَبْنِي عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا، فَإِنَّهُمْ أَبْنَاءُ آبَائِنَا، وَنَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ‏:‏ نَحْنُ أَحَقُّ بِهِمْ، هُمْ مِنَّا، نَبْنِي عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا نُصْلِي فِيهِ، وَنَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ كَمَا بَيَّنَا قَبْلُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ، كَذَلِكَ أَخْبَرَ عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَعْثَرَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَعْثَرَهُمْ عَلَيْهِمْ، لِيَتَحَقَّقَ عِنْدَهُمْ بِبَعْثِ اللَّهِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ مَنْ رَقَّدْتِهِمْ بَعْدَ طُولِ مُدَّتِهَا بِهَيْئَتِهِمْ يَوْمَ رَقَدُوا، وَلَمْ يَشِيبُوا عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي عَلَيْهِمْ، وَلَمٍّ يَهْرَمُوا عَلَى كَرِّ الدُّهُورِ وَالْأَزْمَانِ فِيهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى بَعْثِ مَنْ أَمَاتَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَبْرِهِ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ أَخْبَرَنَا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ‏}‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ ‏{‏بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ‏}‏ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالْقَافِ‏.‏ وَقَرَأَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ ‏(‏بَورْقِكُمْ‏)‏ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَكَسْرِ الْقَافِ‏.‏ وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مُتَّفِقَاتٌ الْمَعَانِي، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَلْفَاظُ مِنْهَا، وَهُنَّ لُغَاتٌ مَعْرُوفَاتٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ فَتْحُ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالْقَافِ، لِأَنَّهُ الْوَرِقُ، وَمَا عَدَّا ذَلِكَ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ عَلَيْهِ طَلَبُ التَّخْفِيفِ‏.‏ وَفِيهِ أَيْضًا لُغَةٌ أُخْرَى وَهُوَ الْوَرْقُ، كَمَا يُقَالُ لِلْكَبِدِ كَبْدٌ‏.‏ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ، فَالْقِرَاءَةُ بِهِ إِلَيَّ أَعْجَبُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأُخْرَيَانِ مَدْفُوعَةً صِحَّتُهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِأَنَّ الَّذِي بَعَثَ مَعَهُ بِالْوَرِقِ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ اسْمُهُ يَمْلِيخَا‏.‏

وَقَدِ‏:‏ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ الزَّهْرِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُقَاتِلٍ ‏{‏فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ‏}‏ اسْمُهُ يمليخُ‏.‏

وَأَمَّاقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا‏}‏ فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ فَلْيَنْظُرْ أَيَّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَكْثَرَ طَعَامًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ ‏{‏أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا‏}‏ قَالَ‏:‏ أَكْثَرُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَيُّهَا أَكْثَرُ‏)‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَاهُ‏:‏ أَيُّهَا أَحَلُّ طَعَامًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏{‏أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا‏}‏ قَالَ‏:‏ أَحَلُّ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَاهُ‏:‏ أَيُّهَا خَيْرٌ طَعَامًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَزْكَى طَعَامًا‏}‏ قَالَ‏:‏ خَيْرٌ طَعَامًا‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ‏:‏ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَحَلُّ وَأَطْهَرُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى فِي اخْتِيَارِ الْأَكْثَرِ طَعَامًا لِلشِّرَاءِ مِنْهُ إِلَّا بِمَعْنَى إِذَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ طَعَامًا، كَانَ خَلِيقًا أَنْ يَكُونَ الْأَفْضَلَ مِنْهُ عِنْدَهُ أُوجِدَ، وَإِذَا شَرَطَ عَلَى الْمَأْمُورِ الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْأَفْضَلِ، فَقَدْ أَمَرَ بِشِرَاءِ الْجَيِّدِ، كَانَ مَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ قَلِيلًا الْجَيِّدُ أَوْ كَثِيرًا، وَإِنَّمَا وَجْهٌ مِنْ وَجْهِ تَأْوِيلِ أَزْكَى إِلَى الْأَكْثَرِ، لِأَنَّهُ وُجِدَ الْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ قَدْ زَكَا مَالُ فُلَانٍ‏:‏ إِذَا كَثُرَ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

قَبائِلُنَا سَبْعٌ وأنْتُمْ ثَلَاثَةٌ *** وَلَلسَّبْعُ أزْكَى مِنْ ثَلَاثٍ وَأَطْيَبُ

بِمَعْنَى‏:‏ أَكْثَرُ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَلَالَ الْجَيِّدَ وَإِنَّ قُلَّ، أَكْثَرُ مِنَ الْحَرَامِ الْخَبِيثِ وَإِنْ كَثُرَ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ ‏{‏فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا‏}‏ فَأُضِيفَ إِلَى كِنَايَةِ الْمَدِينَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَهْلُهَا، لِأَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ‏:‏ فَلْيَنْظُرْ أَيُّ أَهْلِهَا أَزْكَى طَعَامًا لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِ بِالْمُرَادِ مِنَ الْكَلَامِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا عَنَوْا بِقَوْلِهِ ‏{‏أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا‏}‏‏:‏ أَيُّهَا أَحَلُّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فَارَقُوا قَوْمَهُمْ وَهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، فَلَمْ يَسْتَجِيزُوا أَكْلَ ذَبِيحَتِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَلْيَأْتِكُمْ بِقُوتٍ مِنْهُ تَقْتَاتُونَهُ، وَطَعَامٍ تَأْكُلُونَهُ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُوَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ‏{‏فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ بِطَعَامٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَلْيَتَلَطَّفْ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ وَلِيَتَرَفَّقْ فِي شِرَائِهِ مَا يَشْتَرِي، وَفِي طَرِيقِهِ وَدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ ‏{‏وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا يُعْلِمَنَّ بِكُمْ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ‏}‏ يَعْنُونَ بِذَلِكَ‏:‏ دقينوسَ وَأَصْحَابَهُ، قَالُوا‏:‏ إِنَّ دقينوسَ وَأَصْحَابَهُ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ، فَيَعْلَمُوا مَكَانَكُمْ، يَرْجُمُوكُمْ شَتْمًا بِالْقَوْلِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَشْتُمُوكُمْ بِالْقَوْلِ، يُؤْذُوكُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَوْ يَرُدُّوكُمْ فِي دِينِهِمْ، فَتَصِيرُوا كَفَّارًا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ

‏{‏وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَنْ تُدْرِكُوا الْفَلَاحَ، وَهُوَ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ وَالْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ، إِذًا‏:‏ أَيْ إِنْ أَنْتُمْ عُدْتُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أَبَدًا‏:‏ أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَكَمَا بَعَثْنَاهُمْ بَعْدَ طُولِ رَقْدَتِهِمْ كَهَيْئَتِهِمْ سَاعَةَ رَقَدُوا، لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ، فَيَزْدَادُوا بِعَظِيمِ سُلْطَانِ اللَّهِ بَصِيرَةً، وَبِحُسْنِ دِفَاعِ اللَّهِ عَنْ أَوْلِيَائِهِ مَعْرِفَةً ‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ كَذَلِكَ أَطْلَعَنَا عَلَيْهِمُ الْفَرِيقَ الْآخَرَ الَّذِينَ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَفِي مِرْيَةٍ مِنْ إِنْشَاءِ أَجْسَامِ خَلْقِهِ، كَهَيْئَتِهِمْ يَوْمَ قَبْضِهِمْ بَعْدَ الْبِلَى، فَيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَيُوقِنُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَطْلَعَنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمَ مَنْ كَذَّبَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ‏}‏‏.‏

يَعْنِي‏:‏ الَّذِينَ أَعْثَرُوا عَلَى الْفِتْيَةِ يَقُولُ تَعَالَى‏:‏ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ، وَإِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَوْتَى بَعْدَ مَمَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِ تيذوسيسَ، حِينَ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فِيمَا اللَّهُ فَاعِلٌ بِمَنْ أَفْنَاهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَبْلَاهُ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، أَمُنَشِّئُهُمْ هُوَ أَمْ غَيْرُ مَنْشَئِهِمْ، وَقَوْلُهُ ‏{‏فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَقَالَ الَّذِينَ أَعْثَرْنَاهُمْ عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ‏:‏ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ‏{‏رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ رَبُّ الْفِتْيَةِ أَعْلَمُ بِالْفِتْيَةِ وَشَأْنِهِمْ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ قَالَالْقَوْمُ الَّذِينَ غُلِبُوا عَلَى أَمْرِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ‏{‏لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا‏}‏‏.‏

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ، أَهُمُ الرَّهْطُ الْمُسْلِمُونَ، أَمْ هُمُ الْكُفَّارُ‏؟‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا لَمْ يَمْضِ مِنْهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ يَعْنِي عَدُوَّهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُوَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ‏:‏ عَمَّى اللَّهُ عَلَى الَّذِينَ أَعْثَرَهُمْ عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ مَكَانَهُمْ، فَلَمْ يَهْتَدُوا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ‏:‏ نَبْنِي عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا، فَإِنَّهُمْ أَبْنَاءُ آبَائِنَا، وَنَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ‏:‏ بَلْ نَحْنُ أَحَقُّ بِهِمْ، هُمْ مِنَّا، نَبْنِي عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا نُصْلِي فِيهِ، وَنَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ سَيَقُولُ بَعْضُ الْخَائِضِينَ فِي أَمْرِ الْفِتْيَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، هَمّ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُمْ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ‏{‏رَجْمًا بِالْغَيْبِ‏}‏‏:‏ يَقُولُ‏:‏ قَذْفًا بِالظَّنِّ غَيْرَ يَقِينِ عِلْمٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَأَجْعَلُ مِنِّي الْحَقَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا ***

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ‏}‏‏:‏ أَيْ قَذْفًا بِالْغَيْبِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَجْمًا بِالْغَيْبِ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَذْفًا بِالظَّنِّ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُمْ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏.‏

‏{‏قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَائِلِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيعَدَدِ الْفِتْيَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِرَجْمًا مِنْهُمْ بِالْغَيْبِ‏:‏ ‏{‏رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ ‏{‏إِلَّا قَلِيلٌ‏}‏ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عَنَى بِالْقَلِيلِ‏:‏ أَهْلَ الْكِتَابِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ أَنَا مِمَّنِ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ، وَيَقُولُ‏:‏ عِدَّتُهُمْ سَبْعَةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، كَانُوا سَبْعَةً‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ‏:‏ أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ، كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ عِدَّتُهُمْ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَأَنَا مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، هُمْ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَلَا تُمَارِ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تُجَادِلْ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِمْ، يَعْنِي فِي عِدَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَحُذِفَتِ الْعِدَّةُ اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِمْ فِيهَا لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِالْمُرَادِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا تُمَارِ فِي عِدَّتِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا‏}‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى الْمِرَاءِ الظَّاهِرِ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ، وَرَخَّصَ فِيهِ لِنَبِيِّهِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أُبِيحُ لَهُ أَنْ يَتْلُوَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُمَارِيهِمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ حَسْبُكَ مَا قَصَصْتُ عَلَيْكَ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِلَّا بِمَا قَدْ أَظْهَرْنَا لَكَ مِنْ أَمْرِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا‏}‏‏:‏ أَيْ حَسْبُكَ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ حَسْبُكَ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِهِمْ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعَتِ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ حَسْبُكَ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الْمِرَاءُ الظَّاهِرُ هُوَ أَنَّ يَقُولَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ‏:‏ لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ، لَيْسَ تَعْلَمُونَ عِدَّتَهُمْ إِنْ قَالُوا كَذَا وَكَذَا فَقُلْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ عِدَّتَهُمْ، وَقَرَأَ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ حَتَّى بَلَغَ ‏{‏رَجْمًا بِالْغَيْبِ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَا تَسْتَفْتِ فِي عِدَّةِ الْفِتْيَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ مِنْهُمْ، يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ عِدَّتَهُمْ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ فِيهِمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، لَا يَقِينًا مِنَ الْقَوْلِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا‏}‏ مِنْ يَهُودَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا‏}‏‏:‏ مِنْ يَهُودَ، قَالَ‏:‏ وَلَا تَسْأَلْ يَهُودَ عَنْ أَمْرِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، إِلَّا مَا قَدْ أَخْبَرْتُكَ مِنْ أَمْرِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا‏}‏‏:‏ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏ كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُمْ كَانُوا بُنِيَ الرُّكْنَا وَالرُّكْنَا‏:‏ مُلُوكُ الرُّومِ، رَزَقَهُمُ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، فَتَفَرَّدُوا بِدِينِهِمْ، وَاعْتَزَلُوا قَوْمَهُمْ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْكَهْفِ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أَصَمِخَتِهِمْ، فَلَبِثُوا دَهْرًا طَوِيلًا حَتَّى هَلَكَتْ أُمَّتُهُمْ وَجَاءَتْ أُمَّةٌ مُسَلِّمَةٌ بِعْدَهُمْ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ مُسْلِمًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا‏}‏‏.‏

وَهَذَا تَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ لَا يَجْزِمُ عَلَى مَا يُحَدِّثُ مِنَ الْأُمُورِ أَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، إِلَّا أَنْ يَصِلَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٍ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ‏.‏

وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَلَغَنَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وَعَدَ سَائِلِيهِ عَنِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ اللَّوَاتِي قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا مَضَى اللَّوَاتِي، إِحْدَاهُنَّ الْمَسْأَلَةُ عَنْ أَمْرِ الْفِتْيَةِ مَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْهُنَّ غَدَ يَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَاحْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنْهُ فِيمَا قِيلَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ، حَتَّى حَزَنَهُ إِبْطَاؤُهُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَوَابَ عَنْهُنَّ، وَعَرَّفَ نَبِيَّهُ سَبَبَ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ عَنْهُ، وَعَلَّمَهُ مَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي عِدَّاتِهِ وَخَبَرِهِ عَمَّا يَحْدُثُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يَأْتِهِ مِنَ اللَّهِ بِهَا تَنْزِيلٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ‏}‏ يَا مُحَمَّدُ ‏{‏لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا‏}‏ كَمَا قَلْتَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَأَلُوكَ عَنْ أَمْرِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَالْمَسَائِلِ الَّتِي سَأَلُوكَ عَنْهَا، سَأُخْبِرُكُمْ عَنْهَا غَدًا ‏{‏إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ إِلَّا أَنْ تَقُولَ مَعَهُ‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَتَرَكَ ذِكْرَ تَقُولُ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَ مِنْهُ، إِذْ كَانَ فِي الْكَلَامِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ‏:‏ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْقَوْلِ، لَا مِنَ الْفِعْلِ كَأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ‏:‏ لَا تَقُولُنَّ قَوْلًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ذلِكَ الْقَوْلَ، وَهَذَا وَجْهٌ بَعِيدٌ مِنَ الْمَفْهُومِ بِالظَّاهِرِ مِنَ التَّنْزِيلِ مَعَ خِلَافِهِ تَأْوِيلَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ وَاسْتَثْنِ فِي يَمِينِكَ إِذَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ نَسِيتَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْيَمِينِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَرْبِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ، قَالَ لَهُ‏:‏ أَنْ يَسْتَثْنِيَ وَلَوْ إِلَى سَنَةٍ، وَكَانَ يَقُولُ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ فِي ذَلِكَ قِيلَ لِلْأَعْمَشِ سُمْعَتُهُ مِنْ مُجَاهِدٍ، فَقَالَ‏:‏ ثَنِي بِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سَلِيمٍ، يَرَى ذَهَبَ كِسَائِي هَذَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ الِاسْتِثْنَاءُ، ثُمَّ ذَكَرَتْ فَاسْتَثْنِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّ الْحَسَنَ، قَالَ‏:‏ إِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقِلْ‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا عُصِيَتْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَكَّامُ بْنُ سِلْمٍ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ قَالَ‏:‏ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا عُصِيَتْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حُكَّامٌ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا تَرَكْتَ ذِكْرَهُ، لِأَنَّ أَحَدَ مَعَانِي النِّسْيَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ التُّرْكِ، وَقَدْ بَيَّنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ أَفَجَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْيَسْتَثْنِي فِي يَمِينِهِإِذْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا ذُكِرْتَ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ حَالِ حَلِفِهِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ بَلِ الصَّوَابُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ وَلَوْ بَعْدَ حِنْثِهِ فِي يَمِينِهِ، فَيَقُولُ‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِيَخْرُجَ بِقِيلِهِ ذَلِكَ مِمَّا أَلْزَمُهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَرَجُ بِتَرْكِهِ مَا أَمَرَهُ بِقِيلِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْكُفَّارَةُ فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِحَالٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاؤُهُ مَوْصُولًا بِيَمِينِهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَمَا وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَهُ‏:‏ ثُنْيَاهُ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، وَمَنْ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ بَعْدَ شَهْرٍ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّ مُعَنَّاهُمْ فِي ذَلِكَ نَحْوَ مُعَنَّانَا فِي أَنَّ ذَلِكَ لَهُ، وَلَوْ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، وَأَنَّهُ بِاسْتِثْنَائِهِ وَقِيلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ حِينِ مِنْ حَالِ حَلِفِهِ، يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَرَجُ الَّذِي لَوْ لَمْ يَقُلْهُ كَانَ لَهُ لَازِمًا، فَأَمَّا الْكُفَّارَةُ فَلَهُ لَازِمَةٌ بِالْحِنْثِ بِكُلِّ حَالٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاؤُهُ كَانَ مَوْصُولًا بِالْحِلْفِ، وَذَلِكَ أَنَا لَا نَعْلَمُ قَائِلًا قَالَ مِمَّنْ قَالَ لَهُ الثُّنْيَا بَعْدَ حِينٍ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ يَضَعُ عَنْهُ الْكُفَّارَةَ إِذَا حَنِثَ، فَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ مَعْنَى الْقَوْلِ فِيهِ، كَانَ نَحْوَ مُعَنَّانَا فِيهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنِي فَيُسَدِّدُنِي لِأَسُدَّ مِمَّا وَعَدَتْكُمْ وَأَخْبَرَتْكُمْ أَنَّهُ سَيَكُونُ، إِنْ هُوَ شَاءَ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ إِذَا نَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي كَلَامِهِ، الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ فِي أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ مَعَ قَوْلِهِ‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِذَا ذَكَرَ‏.‏

ذَكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدٍ، رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، كَانَ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ يَحْيَى بْنُ عِبَادٍ، قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا‏}‏ قَالَ فَقَالَ‏:‏ وَإِذَا نَسِيَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ‏:‏ فَتَوْبَتُهُ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ كَفَّارَةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ ‏{‏عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا‏}‏ وَقَالُوا‏:‏ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا مِنَ اللَّهِ عَنْ قَدْرِ لُبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ ‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا‏}‏ وَجْهٌ مَفْهُومٌ، وَقَدْ أَعْلَمُ اللَّهُ خَلْقَهُ مَبْلَغَ لُبْثِهِمْ فِيهِ وَقَدْرَهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا‏}‏ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَرَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا‏:‏ وَلَبِثُوا ‏(‏يَعْنِي أَنَّهُ قَالَ النَّاسُ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ قَالَتْهُ الْيَهُودُ، فَرَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ مَبْلَغِ مَا لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا‏}‏ قَالَ‏:‏ عَدَدُ مَا لَبِثُوا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ، وَزَادَ فِيهِ ‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُوَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا‏}‏ قَالَ‏:‏ وَتِسْعُ سِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ‏:‏ ثَنِي الْأَجْلَحُ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ‏}‏ فَقَالُوا‏:‏ أَيَّامًا أَوْ أَشْهُرًا أَوْ سِنِينَ‏؟‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ بَيْنَ جَبَلَيْنِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَبِثَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ رُقُودًا إِلَى أَنْ بَعَثَهُمُ اللَّهُ، لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ، وَإِلَى أَنْ أَعْثَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ أَعْثَرَ، ثَلَاثَ مِئَةِ سِنِينَ وَتِسْعَ سِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ بِذَلِكَ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ، وَأَمَّا الَّذِي ذُكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ ‏(‏وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ‏}‏ ‏(‏وَقَوْلُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَالُوا فِيمَا ذُكِرَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لِلْفَتِيَّةِ مِنْ لَدُنْ دَخَلُوا الْكَهْفَ إِلَى يَوْمِنَا ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَتِسْعَ سِنِينَ، فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ أَنَّ ذَلِكَ قَدَّرَ لُبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ مِنْ لَدُنْ أَوَوْا إِلَيْهِ أَنَّ بَعْثَهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا بَعْدَ أَنْ قَبَضَ أَرْوَاحَهُمْ، مِنْ بَعْدِ أَنْ بَعَثَهُمْ مَنْ رَقْدَتِهِمْ إِلَى يَوْمِهِمْ هَذَا، لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ، وَغَيْرُ مَنْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنْ قَدْرِ لُبْثِهِمْ فِي كَهْفِهِمُ ابْتِدَاءً، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا‏}‏ وَلَمْ يَضَعْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنْهُ عَنْ قَوْلِ قَوْمٍ قَالُوهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُضَافَ خَبَرُهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ جَازَ فِي كُلِّ أَخْبَارِهِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي أَخْبَارِهِ جَازَ فِي أَخْبَارِ غَيْرِهِ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ أَنَّهَا أَخْبَارُهُ، وَذَلِكَ قَلْبُ أَعْيَانِ الْحَقَائِقِ وَمَا لَا يُخَيَّلُ فَسَادُهُ‏.‏

فَإِنَّ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا‏}‏ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ‏}‏ خَبَرٌ مِنْهُ عَنْ قَوْمٍ قَالُوهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ غَيْرَهُ، فَأَمَّا وَهُوَ مُحْتَمَلٌ مَا قُلْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا إِلَى يَوْمٍ أَنْزَلْنَا هَذِهِ السُّورَةَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي فَغَيْرُ وَاجِبٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ‏}‏ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ قَوْمٍ قَالُوهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْتِ خَبَرٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ‏}‏ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ قَوْمٍ قَالُوهُ، وَلَا قَامَتْ بِصِحَّةِ ذَلِكَ حُجَّةٌ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، صَحَّ مَا قُلْنَا، وَفَسَدَ مَا خَالَفَهُ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ‏}‏ فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ ‏{‏ثَلَاثِ مِئَةٍ سِنِينَ‏}‏ بِتَنْوِينِ‏:‏ ثَلَاثِ مِئَةٍ، بِمَعْنَى‏:‏ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ سِنِينَ ثَلَاثَ مِئَةٍ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ‏{‏ثَلَاثَ مِئَةِ سِنِينَ‏}‏ بِإِضَافَةِ ثَلَاثِ مِئَةٍ إِلَى السِّنِينَ‏:‏ غَيْرُ مُنَوَّنٍ‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ‏:‏ ‏{‏ثَلَاثَ مِئَةٍ‏}‏ بِالتَّنْوِينِ ‏(‏سِنِينَ‏)‏، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا تُضِيفُ الْمِئَةَ إِلَى مَا يُفَسِّرُهَا إِذَا جَاءَ تَفْسِيرُهَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ ثَلَاثُ مِئَةِ دِرْهَمٍ، وَعِنْدِي مِئَةُ دِينَارٍ، لِأَنَّ الْمِئَةَ وَالْأَلْفَ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَالْعَرَبُ لَا تُفَسِّرُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا كَانَ بِمَعْنَاهُ فِي كَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَالْوَاحِدُ يُؤَدَّى عَنِ الْجِنْسِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْقَلِيلِ مِنَ الْعَدَدِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ رُبَّمَا وَضَعَتِ الْجَمْعَ الْقَلِيلَ مَوْضِعَ الْكَثِيرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْكَثِيرِ، وَأَمَّا إِذَا جَاءَ تَفْسِيرُهَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهَا تُنَوَّنُ، فَتَقُولُ‏:‏ عِنْدِي أَلْفٌ دَرَاهِمُ، وَعِنْدِي مِئَةٌ دَنَانِيرُ، عَلَى مَا قَدْ وَصَفَتْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لِلَّهِ عِلْمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، يَقُولُ‏:‏ فَسَلِّمُوا لَهُ عِلْمَمَبْلَغِ مَا لَبِثَتِ الْفِتْيَةُ فِي الْكَهْفِإِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ سِوَى الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَبْصِرْ بِاللَّهِ وَأَسْمِعْ، وَذَلِكَ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ، كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ مَا أَبْصَرَهُ وَأَسْمَعَهُ‏.‏

وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ مَا أَبْصَرَ اللَّهُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَأَسْمَعَهُ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ فَلَا أَحَدٌ أَبْصَرُ مِنَ اللَّهِ وَلَا أَسْمَعُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ‏!‏‏.‏

حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَرَى أَعْمَالَهُمْ، وَيَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ سَمِيعًا بَصِيرًا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ مَا لِخَلْقِهِ دُونَ رَبِّهِمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَلِيٌّ، يَلِي أَمْرَهُمْ وَتَدْبِيرَهُمْ، وَصَرْفَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مُصْرِفُونَ‏.‏

‏{‏وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا يَجْعَلُ اللَّهُ فِي قَضَائِهِ، وَحُكْمِهِ فِي خَلْقِهِ أَحَدًا سِوَاهُ شَرِيكًا، بَلْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ فِيهِمْ، وَتَدْبِيرِهِمْ وَتَصْرِيفِهِمْ فِيمَا شَاءَ وَأَحَبَّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَاتَّبِعْ يَا مُحَمَّدُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَهَذَا، وَلَا تَتْرُكُنَّ تِلَاوَتَهُ، وَاتِّبَاعَ مَا فِيهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَالْعَمَلَ بِحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، فَتَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَصِيرَ مَنْ خَالَفَهُ، وَتَرَكَ اتِّبَاعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى جَهَنَّمَ ‏{‏لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا مُغَيِّرَ لِمَا أَوْعَدَ بِكَلِمَاتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْكَ أَهْلَ مَعَاصِيهِ، وَالْعَامِلِينَ بِخِلَافِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَإِنْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ فَتَتَّبِعْهُ وَتَأْتَمَّ بِهِ، فَنَالَكَ وَعِيدُ اللَّهِ الَّذِي أَوْعَدَ فِيهِ الْمُخَالِفِينَ حُدُودَهُ، لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَوْئِلًا تَئِلُ إِلَيْهِ وَمَعْدِلًا تَعْدِلُ عَنْهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ مُحِيطَةٌ بِكَ وَبِجَمِيعِ خَلْقِهِ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الْهَرَبِ مِنْ أَمْرٍ أَرَادَ بِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مُلْتَحَدًا‏)‏ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُمْ فِي الْبَيَانِ عَنْهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مُلْتَحَدًا‏)‏ قَالَ‏:‏ مَلْجَأٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏(‏مُلْتَحَدًا‏)‏ قَالَ‏:‏ مَلْجَأٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مَوْئِلًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مُلْتَحَدًا‏)‏ قَالَ‏:‏ مَلْجَأً وَلَا مَوْئِلًا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا يَجِدُونَ مُلْتَحِدًا يَلْتَحِدُونَهُ، وَلَا يَجِدُونَ مِنْ دُونِهِ مَلْجَأً وَلَا أَحَدًا يَمْنَعُهُمْ، وَالْمُلْتَحِدُ‏:‏ إِنَّمَا هُوَ الْمُفْتَعَلُ مِنَ اللَّحْدِ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ لَحَدْتُ إِلَى كَذَا‏:‏ إِذَا مِلْتُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّحْدِ‏:‏ لَحْدٌ، لِأَنَّهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَيْسَ بِالشِّقِّ الَّذِي فِي وَسَطِهِ، وَمِنْهُ الْإِلْحَادُ فِي الدِّينِ، وَهُوَ الْمُعَانَدَةُ بِالْعُدُولِ عَنْهُ، وَالتَّرْكِ لَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏وَاصْبِرْ‏)‏ يَا مُحَمَّدُ ‏{‏نَفْسَكَ مَعَ‏}‏ أَصْحَابِكَ ‏{‏الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏}‏ بِذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَغَيْرِهَا ‏(‏يُرِيدُونَ‏)‏ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ ‏(‏وَجْهَهُ‏)‏ لَا يُرِيدُونَ عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيقَوْلِهِ ‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏}‏ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ ذَلِكَ ‏{‏بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏}‏، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَآنِهِ ‏(‏بِالْغُدْوَةِ وَالْعَشِيِّ‏)‏، وَذَلِكَ قِرَاءَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَكْرُوهَةٌ، لِأَنَّ غُدْوَةً مُعَرَّفَةٌ، وَلَا أَلِفَ وَلَا لَامَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرِفَةً، فَأَمَّا الْمَعَارِفُ فَلَا تُعَرَّفُ بِهِمَا، وَبَعْدُ، فَإِنَّ غُدْوَةً لَا تُضَافُ إِلَى شَيْءٍ، وَامْتِنَاعُهَا مِنَ الْإِضَافَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى امْتِنَاعِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ مَا دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنَ الْأَسْمَاءِ صَلُحَتْ فِيهِ الْإِضَافَةُ، وَإِنَّمَا تَقُولُ الْعَرَبُ‏:‏ أَتَيْتُكَ غَدَاةَ الْجُمْعَةِ، وَلَا تَقُولُ‏:‏ أَتَيْتُكَ غُدْوَةَ الْجُمْعَةِ، وَالْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ فِي الْأَمْصَارِ لَا نَسْتَجِيزُ غَيْرَهَا لِإِجْمَاعِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَلِلْعِلَّةِ الَّتِي بَيَّنَّا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَلَا تُصْرَفْ عَيْنَاكَ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تَصْبِرَ نَفْسَكَ مَعَهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَا تُجَاوِزْهُمْ إِلَيْهِ، وَأَصِلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ عَدَوْتُ ذَلِكَ، فَأَنَا أَعْدُوهُ‏:‏ إِذَا جَاوَزْتُهُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا تُجَاوِزْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تَتَعَدَّهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ الْقَوْمُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ نُجَالِسَ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا، فَجَانِبْهُمْ يَا مُحَمَّدُ، وَجَالِسْ أَشْرَافَ الْعَرَبِ، فَنَـزَلَ الْقُرْآنُ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ‏}‏ وَلَا تُحَقِّرْهُمْ، قَالَ‏:‏ قَدْ أَمَرُونِي بِذَلِكَ، قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ وَهَبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، «أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَـزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَعْضِ أَبْيَاتِهِ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ فَخَرَجَ يَلْتَمِسُ، فَوَجَدَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، مِنْهُمْ ثَائِرُ الرَّأْسِ، وَجَافِّ الْجِلْدِ، وَذُو الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَلِمَا رَآهُمْ جَلَسَ مَعَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لِي فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَه» ‏"‏ وَرُفِعَتِ الْعَيْنَانِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ لَا تَعْدُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ إِلَى أَشْرَافِ الْمُشْرِكِينَ، تَبْغِي بِمُجَالَسَتِهِمُ الشَّرَفَ وَالْفَخْرَ، وَذَلِكَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ فِيمَا ذَكَرَ قَوْمٌ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ بَلْ مِنْ عُظَمَاءِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مِمَّنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَرَأَوْهُ جَالِسًا مَعَ خَبَّابٍ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُقِيمَهُمْ عَنْهُ إِذَا حَضَرُوا، قَالُوا‏:‏ فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ ثُمَّ كَانَ يَقُومُ إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ، وَيَتْرُكُهُمْ قُعُودًا، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏}‏ الْآيَة» ‏{‏وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ يُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏:‏ مُجَالَسَةُ أُولَئِكَ الْعُظَمَاءِ الْأَشْرَافِ‏.‏ وَقَدْ ذَكَرْتُ الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرٍو الْعَنْقَزِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ، وَكَانَ قَارِئُ الْأَزْدِ عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابٍ فِي قِصَّةٍ ذَكَرَهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَ فِيهَا هَذَا الْكَلَامَ مُدْرَجًا فِي الْخَبَرِ ‏{‏وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ قَالَ‏:‏ تُجَالِسُ الْأَشْرَافَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ أُخْبِرْتُ أَنَّ «عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ‏:‏ لَقَدْ آذَانِي رِيحُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، فَاجْعَلْ لَنَا مَجْلِسًا مِنْكَ لَا يُجَامِعُونَنَا فِيهِ، وَاجْعَلْ لَهُمْ مَجْلِسًا لَا نُجَامِعُهُمْ فِيهِ، فَنَـزَلَتِ الْآيَة»‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ «لَمَّا نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَه»‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ قَالَ‏:‏ تُرِيدُ أَشْرَافَ الدُّنْيَا‏.‏

حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ‏:‏ سُلَيْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ مُسْلِمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي مَشْجَعَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ‏:‏ «جَاءَتِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَذَوُوهُمْ، فَقَالُوا‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّكَ لَوْ جَلَسْتَ فِي صَدْرِ الْمَسْجِدِ، وَنَفَيْتَ عَنَّا هَؤُلَاءِ وَأَرْوَاحَ جِبَابِهِمْ يَعْنُونَ سَلْمَانَ وَأَبَا ذَرٍّ وَفُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ عَلَيْهِمْ جِبَابُ الصُّوفِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهَا- جَلَسْنَا إِلَيْكَ وَحَادَثْنَاكَ، وَأَخَذْنَا عَنْكَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏، حَتَّى بَلَغَ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا‏}‏ يَتَهَدَّدُهُمْ بِالنَّارِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَمِسُهُمْ حَتَّى أَصَابَهُمْ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَمَرَنِي أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَ رِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، مَعَكُمُ الْمَحْيَا وَمَعَكُمُ الْمَمَات»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَلَا تُطِعْ يَا مُحَمَّدُ مَنْ شَغَلْنَا قَلْبَهُ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ سَأَلُوكَ طَرْدَ الرَّهْطِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ عَنْكَ، عَنْ ذِكْرِنَا، بِالْكُفْرِ وَغَلَبَةِ الشَّقَاءِ عَلَيْهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَتَرَكَ اتِّبَاعَ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَآثَرَ هَوَى نَفْسِهِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ‏:‏ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَذَوُوهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابٍ ‏{‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا‏}‏ قَالَ‏:‏ عُيَيْنَةُ، وَالْأَقْرَعُ‏.‏

وأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَكَانَ أَمْرُهُ ضَيَاعًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ قَالَ ابْنُ عَمْرٍو فِي حَدِيثِهِ قَالَ‏:‏ ضَائِعًا‏.‏ وَقَالَ الْحَارِثُ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ ضَيَاعًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ ضَيَاعًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَاهُ‏:‏ وَكَانَ أَمْرُهُ نَدَمًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِبَادُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ دَاوُدَ ‏(‏فُرُطًا‏)‏ قَالَ‏:‏ نَدَامَةً‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَاهُ‏:‏ هَلَاكًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابٍ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ قَالَ‏:‏ هَلَاكًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَاهُ‏:‏ خِلَافًا لِلْحَقِّ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مُخَالِفًا لِلْحَقِّ، ذَلِكَ الْفُرُطُ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ ضَيَاعًا وَهَلَاكًا، مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ أَفْرَطَ فُلَانٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِفْرَاطًا‏:‏ إِذَا أَسْرَفَ فِيهِ وَتَجَاوَزَ قَدْرَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَكَانَ أَمْرُ هَذَا الَّذِي أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا فِي الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ، وَاحْتِقَارِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، سَرَفًا قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّهُ، فَضَيَّعَ بِذَلِكَ الْحَقَّ وَهَلَكَ‏.‏

وَقَدْ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، قَالَ‏:‏ قِيلَ لَهُ‏:‏ كَيْفَ قَرَأَ عَاصِمٌ‏؟‏ فَقَالَ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ‏:‏ قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ كَانَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ يَفْخَرُ بِقَوْلِ أَنَا وَأَنَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْفَلْنَا قُلُوبَهُمْ عَنْ ذِكْرِنَا، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، الْحَقُّأَيُّهَا النَّاسُ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ، وَإِلَيْهِ التَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ، وَبِيَدِهِ الْهُدَى وَالضَّلَالُيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مِنْكُمْ لِلرَّشَادِ، فَيُؤْمِنُ، وَيَضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَنِ الْهُدَى فَيَكْفُرُ، لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَسْتُ بِطَارِدٍ لِهَوَاكُمْ مَنْ كَانَ لِلْحَقِّ مُتَّبِعًا، وَبِاللَّهِ وَبِمَا أُنْـزِلَ عَلِيَّ مُؤْمِنًا، فَإِنْ شِئْتُمْ فَآمَنُوا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَاكْفُرُوا، فَإِنَّكُمْ إِنْ كَفَرْتُمْ فَقَدْ أَعَدَّ لَكُمْ رَبُّكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ نَارًا أَحَاطَ بِكُمْ سُرَادِقُهَا، وَإِنْ آمَنْتُمْ بِهِ وَعَمِلْتُمْ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّ لَكُمْ مَا وَصَفَ اللَّهُ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ‏.‏

وَرَوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ آمَنَ، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْكُفْرَ كَفَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُ الْعَالَمِينَ‏}‏ وَلَيْسَ هَذَا بِإِطْلَاقٍ مِنَ اللَّهِ الْكُفْرَ لِمَنْ شَاءَ، وَالْإِيمَانَ لِمَنْ أَرَادَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا‏}‏ وَالْآيَاتِ بَعْدَهَا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ، فَلَيْسَ بِمُعْجِزِي‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ وَقَوْلِهِ ‏{‏اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ هَذَا كُلُّهُ وَعِيدٌ لَيْسَ مُصَانَعَةً وَلَا مُرَاشَاةً وَلَا تَفْوِيضًا‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّا أَعْدَدْنَا، وَهُوَ مِنَ الْعُدَّةِ‏.‏ لِلظَّالِمِينَ‏:‏ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ لِلْكَافِرِينَ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَحَاطَ سُرَادِقُ النَّارِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ بِرَبِّهِمْ، وَذَلِكَ فِيمَا قِيلَ‏:‏ حَائِطٌ مِنْ نَارٍ يُطِيفُ بِهِمْ كَسُرَادِقِ الْفُسْطَاطِ، وَهِيَ الْحُجْرَةُ الَّتِي تُطِيفُ بِالْفُسْطَاطِ، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ‏:‏

يـا حَـكَمَ بْـنَ الْمُنْـذِرِ بْـنِ الْجَارُودْ *** سُـرادِقُ الْفَضْـلِ عَلَيْـكَ مَمْـدُودْ

وَكَمَا قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ‏:‏

هُـوَ الْمُـولِجُ النُّعْمـانَ بَيْتـًا سَـماؤُهُ *** صُـدُورُ الْفُيُـولِ بَعْـدَ بَيْـتٍ مُسَرْدَقٍ

يَعْنِي‏:‏ بَيْتًا لَهُ سُرَادِقٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ حَائِطٌ مِنْ نَارٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مُعَمَّرٍ، عَمَّنْ أَخْبَرَهُ، قَالَ ‏{‏أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ دُخَانٌ يُحِيطُ بِالْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ‏}‏‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ‏{‏أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ أَحَاطَ بِهِمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ ذَلِكَ السُّرَادِقَ هُوَ الْبَحْرُ‏.‏

ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَا ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّيَّةَ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَيِيِّ بْنِ يَعْلَى، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمِّيَّةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «الْبَحْرُ هُوَ جَهَنَّمُ‏"‏ قَالَ‏:‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ كَيْفَ ذَلِكَ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، أَوْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا أَبَدًا أَوْ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَلَا تُصِيبُنِي مِنْهَا قَطْرَة»‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَعْمُرُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «سُرَادِقُ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ، كِثْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِثْلُ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَة»‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ وَهَبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «إِنَّ لِسُرَادِقِ النَّارِ أَرْبَعَةَ جُدُرٍ، كِثْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِثْلُ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَة»‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ وَهَبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عَمْرٍو، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «مَاءٌ كَالْمُهْلِ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏كَعَكَرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِ سَقَطَ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيه»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِنْ يَسْتَغِثْ هَؤُلَاءِ الظَّالِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ مِنْ شِدَّةٍ مَا بِهِمْ مِنَ الْعَطَشِ، فَيَطْلُبُونَ الْمَاءَ يُغاثوا بِمَاءِ الْمُهْلِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُهْلِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ أُذِيبَ وَانْمَاعَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ سِقَايَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَأَمَرَ بِأُخْدُودٍ فَخُدَّ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ قَذَفَ فِيهِ مِنْ جَزْلِ حَطَبٍ، ثُمَّ قَذَفَ فِيهِ تِلْكَ السِّقَايَةَ، حَتَّى إِذَا أَزْبَدَتْ وَانْمَاعَتْ قَالَ لِغُلَامِهِ‏:‏ ادْعُ مَنْ يَحْضُرُنَا مَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَدَعَا رَهْطًا، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ‏:‏ أَتُرُونَ هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ مَا رَأَيْنَا فِي الدُّنْيَا شَبِيهًا لِلْمُهْلِ أَدْنَى مِنْ هَذَا الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، حِينَ أَزْبَدَ وَانْمَاعَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ الْقَيْحُ وَالدَّمُ الْأَسْوَدُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَكَّامٌ عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْقَيْحُ وَالدَّمُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْقَيْحُ وَالدَّمُ الْأَسْوَدُ، كَعَكِرِ الزَّيْتِ، قَالَ الْحَارِثُ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ يَعْنِي دُرْدِيَّهُ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏كَالْمُهْلِ‏)‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ أَسْوَدُ كَهَيْئَةِ الزَّيْتِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ‏{‏بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ‏}‏ مَاءُ جَهَنَّمَ أَسْوَدُ، وَهِيَ سَوْدَاءُ، وَشَجَرُهَا أَسْوَدُ، وَأَهْلُهَا سُودٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ ‏{‏وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ مَاءٌ غَلِيظٌ مِثْلُ دُرْدِيِّ الزَّيْتِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ وَهَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ‏:‏ الْمُهْلُ‏:‏ هُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حُرُّهُ‏.‏

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِهَا أَلْفَاظُ قَائِلِيهَا، فَمُتَقَارِبَاتُ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا أُذِيبَ مِنْ رَصَاصٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَقَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، وَأَنَّ مَا أُوْقِدَتْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ النَّارَ حَتَّى صَارَ كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ، فَقَدِ انْتَهَى أَيْضًا حَرُّهُ‏.‏

وَقَدْ‏:‏ حُدِّثْتُ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْمُنْتَجَعَ بْنَ نَبْهَانَ يَقُولُ‏:‏ وَاللَّهِ لِفُلَانٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنَ الطَّلْيَاءِ وَالْمُهْلِ، قَالَ‏:‏ فَقُلْنَا لَهُ‏:‏ وَمَا هُمَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ الْجَرْبَاءُ، وَالْمَلَّةُ الَّتِي تَنْحَدِرُ عَنْ جَوَانِبَ الْخُبْزَةِ إِذَا مَلَّتْ فِي النَّارِ مِنَ النَّارِ، كَأَنَّهَا سِهْلَةٌ حَمْرَاءُ مُدَقَّقَةٌ، فَهِيَ أَحْمَرُهُ، فَالْمُهْلُ إِذًا هُوَ كَلُّ مَائِعٍ قَدْ أُوْقِدَ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ غَايَةَ حَرِّهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَائِعًا، فَانْمَاعَ بِالْوَقُودِ عَلَيْهِ، وَبَلَغَ أَقْصَى الْغَايَةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ يَشْوِي ذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي يُغَاثُونَ بِهِ وُجُوهَهُمْ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ خَلَفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ يُقْرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا قُرِّبَ مِنْهُ، شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ‏}‏»‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الطَّالِقَانِيُّ وَيَعْمُرُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَا ثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ وَهَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ هَارُونُ‏:‏ إِذَا جَاعَ أَهْلُ النَّارِ، وَقَالَ جَعْفَرٌ‏:‏ إِذَا جَاءَ أَهْلُ النَّارِ اسْتَغَاثُوا بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، فَأَكَلُوا مِنْهَا، فَاخْتَلَسَتْ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ، فَلَوْ أَنَّ مَارًّا مَارٌّ بِهِمْ يَعْرِفُهُمْ، لَعَرَفَ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِمُ الْعَطَشُ، فَيَسْتَغِيثُونَ، فَيُغَاثُونَ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، فَإِذَا أَدْنَوْهُ مِنْ أَفْوَاهِهِمُ انْشَوَى مِنْ حَرِّهِ لُحُومُ وُجُوهِهِمُ الَّتِي قَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْجُلُودُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الشَّرَابُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ بِئْسَ الشَّرَابُ، هَذَاالْمَاءُ الَّذِي يُغَاثُ بِهِ هَؤُلَاءِ الظَّالِمُونَ فِي جَهَنَّمَالَّذِي صِفَتُهُ مَا وُصِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَسَاءَتْ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي أَعْتَدْنَاهَا لِهَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ مُرْتَفِقًا، وَالْمُرْتَفِقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏:‏ الْمُتَّكَأُ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ارْتَفَقْتُ إِذَا اتَّكَأْتُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

قـالَتْ لَـهُ وارْتَفَقَـتْ أَلَّا فَتـًى *** يَسُـوقُ بِـالْقَوْمِ غَـزَالَاتِ الضُّحَـى

أَرَادَ‏:‏ وَاتَّكَأَتْ عَلَى مِرْفَقِهَا، وَقَدِ ارْتَفَقَ الرَّجُلُ‏:‏ إِذَا بَاتَ عَلَى مِرْفَقِهِ لَا يَأْتِيهِ نَوْمٌ، وَهُوَ مُرْتَفِقٌ، كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ‏:‏

نـَامَ الْخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْـلَ مُرْتَفِقًـا *** كَأَنَّ عَيْنِيَّ فِيهَا الصَّـابُ مَذْبُـوحُ

وَأَمَّا مِنَ الرِّفْقِ فَإِنَّهُ يُقَالُ‏:‏ قَدِ ارْتَفَقْتُ بِكَ مُرْتَفَقًا، وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا‏}‏ يَعْنِي الْمُجْتَمَعَ‏.‏

ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏(‏مُرْتَفَقًا‏)‏‏:‏ أَيْ مُجْتَمَعًا‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُعْتِمِرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مُجْتَمَعًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ، وَلَسْتُ أَعْرِفُ الِارْتِفَاقَ بِمَعْنَى الِاجْتِمَاعِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا الِارْتِفَاقُ‏:‏ افْتِعَالٌ، إِمَّا مِنَ الْمِرْفَقِ، وَإِمَّا مِنَ الرِّفْقِ‏.‏