فصل: تَفْسِيرُ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تَفْسِيرُ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيمَا فِي ابْتِدَاءِ فَوَاتِحِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ، وَمَا انْتَزَعَ بِهِ كُلَّ قَائِلٍ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ وَمَذْهَبِهِ مِنَ الْعِلَّةِ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُمْ مِنَالِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ طسم وطس، نَظِيرَ الَّذِي ذُكِرَ عَنْهُمْ فِي‏:‏ ‏(‏الم‏)‏ وَ‏(‏المر‏)‏ وَ‏(‏المص‏)‏‏.‏

وَقَدْ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏طسم‏)‏ قَالَ‏:‏ فَإِنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏طسم‏)‏ قَالَ‏:‏ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجَمِيعِ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلْتُهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَآيَاتُ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلِهَا الَّذِي بُيِّنَ لِمَنْ تَدَبَرَهُ بِفَهْمٍ، وَفَكَّرَ فِيهِ بِعَقْلٍ، أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، لَمْ يَتَخَرَّصْهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَتَقَوَّلْهُ مِنْ عِنْدِهِ، بَلْ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ رَبُّهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لَعَلَّكَ يَا مُحَمَّدُ قَاتِلٌ نَفْسَكَ وَمُهْلِكُهَا إِنْ لَمْ يُؤْمِنْ قَوْمُكَ بِكَ، وَيُصَدِّقُوكَ عَلَى مَا جِئْتَهُمْ بِهِ وَالْبَخْعُ‏:‏ هُوَ الْقَتْلُ وَالْإِهْلَاكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ‏:‏

أَلَّا أيُّهَـذَا الْبَـاخِعُ الوَجْـدِ نَفْسَـهُ *** لِشَـيْءٍ نَحَتْـهُ عَـنْ يَدَيْـهِ المَقـادِرُ

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏بَاخِعٌ نَفْسَكَ‏}‏‏:‏ قَاتِلٌ نَفْسَكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَعَلَّكَ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ مُخْرِجٌ نَفْسِكَ مِنْ جَسَدِكَ، قَالَ‏:‏ ذَلِكَ الْبَخْعُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ‏}‏ عَلَيْهِمْ حِرْصًا‏.‏

وَأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِبَاخِعٍ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ زُرْتُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ زَارَنِي، وَهُوَ جَزَاءٌ؛ وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ أَنْ مُسْتَقْبَلًا لَكَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ فِي “ أَنْ “ الْكَسْرَ، كَمَا يُقَالُ؛ أَزُورُ عَبْدَ اللَّهِ إِنْ يَزُورُنِي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ فَظَلَّ الْقَوْمُ الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةٌ خَاضِعَةً أَعْنَاقُهُمْ لَهَا مِنَ الذِّلَّةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَظَلُّوا خَاضِعَةً أَعْنَاقُهُمْ لَهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏خَاضِعِينَ‏)‏ قَالَ‏:‏ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَنَزَّلَ عَلَيْهِ آيَةً يُذَلُّونَ بِهَا، فَلَا يَلْوِي أَحَدٌ عُنُقَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَرَاهُمْ أَمْرًا مِنْ أَمْرِهِ لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَهُ بِمَعْصِيَةٍ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُلْقِينَ أَعْنَاقَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْخَاضِعُ‏:‏ الذَّلِيلُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ فَظَلَّتْ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ لِلْآيَةِ خَاضِعِينَ، وَيَقُولُ‏:‏ الْأَعْنَاقُ‏:‏ هُمُ الْكُبَرَاءُ مِنَ النَّاسِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ تَذْكِيرِ ‏(‏خَاضِعِينَ‏)‏، وَهُوَ خَبَرٌ عَنِ الْأَعْنَاقِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ يَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَهُ ‏(‏أَعْنَاقُهُمْ‏)‏ عَلَى الْجَمَاعَاتِ، نَحْوُ‏:‏ هَذَا عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيرٌ، أَوْ ذُكِّرَ كَمَا يُذَكَّرُ بَعْضُ الْمُؤَنَّثِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

تَمَزَّزْتُهَـا وَالـدِّيكُ يَدْعُـو صَبَاحَـهُ *** إِذَا مَـا بَنُـو نَعْشٍ دَنَـوْا فَتَصَوَّبُـوا

فَجَمَاعَاتُ هَذَا أَعْنَاقٌ، أَوْ يَكُونَ ذِكْرهُ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمُذَكَّرِ كَمَا يُؤَنَّثُ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى‏:‏

وَتَشْـرُقُ بِـالقَوْلِ الَّـذِي قَـدْ أذَعْتَـهُ *** كمَـا شَـرَقَتْ صَـدْرُ الْقَنَـاةِ مِنَ الدَّمِ

وَقَالَ الْعَجَّاجُ‏:‏

لَمَّا رَأَى مَتْنَ السَّمَاءِ أَبْعَدَتْ ***

وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ‏:‏

إِذَا الْقُنْبُضَـاتُ السُّـودُ طَوَّفْنَ بِالضُّحَى *** رَقَـدْنَ عَلَيهِـنَّ الْحِجَـالُ الْمُسَـجَّفُ

وَقَالَ الْأَعْشَى‏:‏

وَإِنَّ امْـرَأً أهْـدَى إلَيْـكِ وَدُونَـهُ *** مِـنَ الْأَرْضِ يَهْمَـاءٌ وَبَيْـدَاءُ خَـيْفَقُ

لَمَحْقُوقَـةٌ أَنْ تَسْـتَجِيبِي لِصَوْتِـهِ *** وَأَنْ تَعْلَمِـي أَنَّ الْمُعَـانَ المُـوَفَّقُ

قَالَ‏:‏ وَيَقُولُونَ‏:‏ بَنَاتُ نَعْشٍ وَبَنُو نَعْشٍ، وَيُقَالُ‏:‏ بَنَاتُ عُرْسٍ، وَبَنُو عُرْسٍ؛ وَقَالَتِ امْرَأَةٌ‏:‏ أَنَا امْرُؤٌ لَا أُخْبِرُ السِّرَّ، قَالَ‏:‏ وَذُكِرَ لِرُؤْبَةَ رَجُلٌ فَقَالَ‏:‏ هُوَ كَانَ أَحَدَ بَنَاتِ مَسَاجِدِ اللَّهِ، يَعْنِي الْحَصَى‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ‏:‏ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

تَـرَى أرْمَـاحَهُمْ مُتَقَلِّدِيهَـا *** إِذَا صَـدِئَ الحَـدِيدُ عـلى الكُمَـاةِ

فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ‏:‏ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ خَاضِعِيهَا هُمْ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ يَدُكَ بَاسِطُهَا، بِمَعْنَى‏:‏ يَدُكَ بَاسِطُهَا أَنْتَ، فَاكْتَفَى بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنَ الِاسْمِ أَنْ يَكُونَ، فَصَارَ الْفِعْلُ كَأَنَّهُ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ لِلثَّانِي، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏

لَمَحْقُوقَةٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ

إِنَّمَا هُوَ لَمَحْقُوقَةٌ أَنْتِ، وَالْمَحْقُوقَةُ‏:‏ النَّاقَةُ، إِلَّا أَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى الْمَرْءِ لِمَا عَادَ بِالذِّكْرِ‏.‏ وَكَانَ آخَرُ مِنْهُمْ يَقُولُ‏:‏ الْأَعْنَاقُ‏:‏ الطَّوَائِفُ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ رَأَيْتُ النَّاسَ إِلَى فُلَانٍ عُنُقًا وَاحِدَةً، فَيَجْعَلُ الْأَعْنَاقَ الطَّوَائِفَ وَالْعُصُبَ؛ وَيَقُولُ‏:‏ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْأَعْنَاقُ هُمُ السَّادَةُ وَالرِّجَالُ الْكُبَرَاءُ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ فَظَلَّتْ رُءُوسُ الْقَوْمِ وَكُبَرَاؤُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ، وَقَالَ‏:‏ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ الْأَعْنَاقَ إِذَا خَضَعَتْ فَأَرْبَابُهَا خَاضِعُونَ، فَجَعَلْتَ الْفِعْلَ أَوَّلًا لِلْأَعْنَاقِ، ثُمَّ جَعَلْتَ خَاضِعِينَ لِلرِّجَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

عَـلى قَبْضَـةٍ مَرْجُـوَّةٍ ظَهْـرُ كَفِّـهِ *** فَـلَا المَـرْءُ مُسْـتَحِيٌ وَلَا هُـوَ طَاعِمُ

فَأَنَّثَ فِعْلَ الظَّهْرِ، لِأَنَّ الْكَفَّ تَجْمَعُ الظَّهْرَ، وَتَكْفِي مِنْهُ، كَمَا أَنَّكَ تَكْتَفِي بِأَنْ تَقُولَ‏:‏ خَضَعَتْ لَكَ، مِنْ أَنْ تَقُولَ‏:‏ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتِي، وَقَالَ‏:‏ أَلَّا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ‏:‏ كُلُّ ذِي عَيْنٍ نَاظِرٌ وَنَاظِرَةٌ إِلَيْكَ، لِأَنَّ قَوْلَكَ‏:‏ نَظَرَتْ إِلَيْكَ عَيْنِي، وَنَظَرَتْ إِلَيْكَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِتَرْكِ كُلٍّ، وَلَهُ الْفِعْلُ وَمَرَدُّهُ إِلَى الْعَيْنِ، فَلَوْ قُلْتَ‏:‏ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعَةٌ، كَانَ صَوَابًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ وَأَشْبَهُهَا بِمَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْأَعْنَاقُ هِيَ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ ذَلِيلَةً، لِلْآيَةِ الَّتِي يُنْزِلُهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ “ خَاضِعِينَ “ مُذَكَّرًا، لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي الْأَعْنَاقِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِ جَرِيرٍ‏:‏

أَرَى مَـرَّ السِّـنِينَ أخَـذْنَ مِنِّـي *** كَمَـا أخَـذَ السِّـرَارُ مِـنَ الْهِـلَالِ

وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ مَرَّ، لَوْ أُسْقِطَ مِنَ الْكَلَامِ، لَأَدَّى مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ عَنْهُ وَلَمْ يُفْسِدْ سُقُوطُهُ مَعْنَى الْكَلَامِ عَمَّا كَانَ بِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُسْقِطَتِ الْأَعْنَاقُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ، لَأَدَّى مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّجَالَ إِذَا ذَلُّوا، فَقَدْ ذَلَّتْ رِقَابُهُمْ، وَإِذَا ذَلَّتْ رِقَابُهُمْ فَقَدْ ذَلُّوا‏.‏

فَإِنْ قِيلَ فِي الْكَلَامِ‏:‏ فَظَلُّوا لَهَا خَاضِعِينَ، كَانَ الْكَلَامُ غَيْرَ فَاسِدٍ، لِسُقُوطِ الْأَعْنَاقِ، وَلَا مُتَغَيِّرٌ مَعْنَاهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ سُقُوطِهَا، فَصُرِفَ الْخَبَرُ بِالْخُضُوعِ إِلَى أَصْحَابِ الْأَعْنَاقِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ ابْتَدَأَ بِذِكْرِ الْأَعْنَاقِ لِمَا قَدْ جَرَى بِهِ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ، إِذَا كَانَ الِاسْمُ الْمُبْتَدَأُ بِهِ، وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يُؤَدِّي الْخَبَرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَا يَجِيءُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ وَيَجْحَدُونَ مَا أَتَيْتهمْ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ مِنْ تَذْكِيرٍ وَتَنْبِيهٍ عَلَى مَوَاضِعِ حُجَجِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى صِدْقِكَ، وَحَقِيقَةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِمَّا يُحَدِّثُهُ اللَّهُ إِلَيْكَ وَيُوحِيهِ إِلَيْكَ، لِتُذَكِّرَهُمْ بِهِ، إِلَّا أَعْرَضُوا عَنِ اسْتِمَاعِهِ، وَتَرَكُوا إِعْمَالَ الْفِكْرِ فِيهِ وَتَدَبُّرَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَقَدْ كَذَّبَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِالذِّكْرِ الَّذِي أَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ ‏{‏فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَسَيَأْتِيهِمْ أَخْبَارُ الْأَمْرِ الَّذِي كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَذَلِكَ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ أَنَّهُ مُحِلٌّ بِهِمْ عِقَابُهُ عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَوْلَمَ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ وَالنَّشْرِ إِلَى الْأَرْضِ، كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَيْتَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا ‏{‏مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ يَعْنِي بِالْكَرِيمِ‏:‏ الْحَسَنَ، كَمَا يُقَالُ لِلنَّخْلَةِ الطَّيِّبَةِ الْحَمْلِ‏:‏ كَرِيمَةٌ، وَكَمَا يُقَالُ لِلشَّاةِ أَوِ النَّاقَةِ إِذَا غَزُرَتَا، فَكَثُرَتْ أَلْبَانُهُمَا‏:‏ نَاقَةٌ كَرِيمَةٌ، وَشَاةٌ كَرِيمَةٌ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، مِمَّا تَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ حَسَنٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ فِي إِنْبَاتِنَا فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ لِآيَةً‏.‏ يَقُولُ‏:‏ لَدَلَالَةٌ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ، عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي بِهَا أَنْبَتَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ ذَلِكَ النَّبَاتَ بَعْدَ جَدُوبَتِهَا، لَنْ يُعْجِزَهُ أَنْ يَنْشِرَ بِهَا الْأَمْوَاتَ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، أَحْيَاءً مِنْ قُبُورِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَا كَانَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ، الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَكَ يَا مُحَمَّدُ، بِمُصَدِّقِيكَ عَلَى مَا تَأْتِيهِمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الذِّكْرِ‏.‏

يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِي أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَلَا يُؤْمِنُ بِكَ أَكْثَرُهُمْ لِلسَّابِقِ مِنْ عِلْمِي فِيهِمْ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَإِنَّ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَهْوَ الْعَزِيزُ فِي نِقْمَتِهِ، لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ‏.‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِنِّي إِنْ أَحْلَلْتُ بِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، الْمُعْرِضِينَ عَمَّا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ عِنْدِي، عُقُوبَتِي بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، فَلَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنِّي مَانِعٌ، لِأَنِّي أَنَا الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، يَعْنِي أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ بِمَنْ تَابَ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى مَا سَلَّفَ مِنْ جُرْمِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ‏.‏

وَكَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، مَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ كُلُّ شَيْءٍ فِي الشُّعَرَاءِ مِنْ قَوْلِهِ ‏(‏الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏)‏ فَهُوَ مَا أَهْلَكَ مِمَّنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ، يَقُولُ‏:‏ عَزِيزٌ حِينَ انْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ، رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ حِينَ أَنْجَاهُمْ مِمَّا أَهْلَكَ بِهِ أَعْدَاءَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ عَقِيبُ وَعِيدِ اللَّهِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ، لَمْ يَكُونُوا أُهْلِكُوا، فَيُوَجَّهُ إِلَى أَنَّهُ خَبْرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ فِعْلِهِ بِهِمْ وَإِهْلَاكِهِ‏.‏ وَلَعَلَّ ابْنَ جُرَيْجٍ بِقَوْلِهِ هَذَا أَرَادَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَقِيبَ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ إِهْلَاكِهِ مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا كَانَ عَقِيبَ خَبَرِهِمْ كَذَلِكَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ ‏{‏أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ يَعْنِي الْكَافِرِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَنَصْبُ الْقَوْمِ الثَّانِي تَرْجَمَةٌ عَنِ الْقَوْمِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏أَلَا يَتَّقُونَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ أَلَا يَتَّقُونَ عِقَابَ اللَّهِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ قَوْمُ فِرْعَوْنَ فَقُلْ لَهُمْ‏:‏ أَلَا يَتَّقُونَ‏.‏ وَتَرَكَ إِظْهَارَ فَقُلْ لَهُمْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ‏.‏ وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ أَلَا يَتَّقُونَ بِالْيَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ أَلَا تَتَّقُونَ بِالتَّاءِ، لِأَنَّ التَّنْزِيلَ كَانَ قَبْلَ الْخِطَابِ، وَلَوْ جَاءَتِ الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِالتَّاءِ كَانَ صَوَابًا، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ‏}‏ وَ“ سَتُغْلَبُونَ “

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏قَالَ‏)‏ مُوسَى لِرَبِّهِ ‏{‏رَبِّ إِنِّي أَخَافُ‏}‏ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ أَمَرْتَنِي أَنْ آتِيَهُمْ ‏{‏أَنْ يُكَذِّبُونِ‏}‏ بِقَيْلِي لَهُمْ‏:‏ إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَيْهِمْ‏.‏ ‏{‏وَيَضِيقُ صَدْرِي‏}‏ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ إِنْ كَذَّبُونِي‏.‏ وَرَفَعَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَيَضِيقُ صَدْرِي‏}‏ عَطْفًا بِهِ عَلَى أَخَافُ، وَبِالرَّفْعِ فِيهِ قَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَمَعْنَاهُ‏:‏ وَإِنِّي يَضِيقُ صَدْرِي‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا يَنْطِقُ بِالْعِبَارَةِ عَمَّا تُرْسِلُنِي بِهِ إِلَيْهِمْ، لِلْعِلَّةِ الَّتِي كَانَتْ بِلِسَانِهِ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي‏}‏ كَلَامٌ مَعْطُوفٌ بِهِ عَلَى يَضِيقُ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ‏}‏ يَعْنِي هَارُونَ أَخَاهُ، وَلَمْ يَقِلْ‏:‏ فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ لِيُؤَازِرَنِي وَلِيُعِينَنِي، إِذْ كَانَ مَفْهُومَا مَعْنَى الْكَلَامِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ لَوْ نَزَلَتْ بِنَا نَازِلَةٌ لَفَزَعْنَا إِلَيْكَ، بِمَعْنَى‏:‏ لَفَزَعْنَا إِلَيْكَ لِتُعِينَنَا‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلِقَوْمِ فِرْعَوْنَ عَلَيَّ دَعْوَى ذَنْبٍ أَذْنَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ قَتْلُهُ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلَهَا مِنْهُمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي قَتَلَ مِنْهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ قَتْلُ مُوسَى النَّفْسَ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَتْلُ النَّفْسِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي قَوْدًا بِالنَّفْسِ الَّتِي قَتَلْتُ مِنْهُمْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏كَلَّا‏)‏‏:‏ أَيْ لَنْ يَقْتُلَكَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ‏.‏ ‏{‏فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِنَا، يَعْنِي بِأَعْلَامِنَا وَحُجَجِنَا الَّتِي أَعْطَيْنَاكَ عَلَيْهِمْ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ‏}‏ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مَا يَقُولُونَ لَكُمْ، وَيُجِيبُونَكُمْ بِهِ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، يَقُولُ‏:‏ فَأْتِ أَنْتَ يَا مُوسَى وَأَخُوكَ هَارُونَ فِرْعَوْنَ‏.‏ ‏{‏فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ إِلَيْكَ بِ ‏{‏أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ وَقَالَ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ يُخَاطِبُ اثْنَيْنِ بِقَوْلِهِ فَقُوْلَا لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَصْدَرَ مِنْ أَرْسَلْتُ، يُقَالُ‏:‏ أَرْسَلْتُ رِسَالَةً وَرَسُولًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

لَقَـدْ كَـذَبَ الوَاشُـونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ *** بِسُـوءٍ وَلَا أرْسَـلْتُهُمْ بِرَسُـولِ

يُعْنَى بِرِسَالَةٍ، وَقَالَ الْآخَرُ‏:‏

أَلَا مَـنْ مُبْلِـغٌ عَنِّـي خِفَافَـا *** رَسُـولًا بَيْـتُ أهلِـكَ مُنْتَهَاهَـا

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ رَسُولًا رِسَالَةً، فَأَنَّثَ لِذَلِكَ الْهَاءَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَهُوَ‏:‏ فَأَتَيَا فِرْعَوْنَ فَأَبْلَغَاهُ رِسَالَةَ رَبِّهِمَا إِلَيْهِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ‏:‏ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا يَا مُوسَى وَلِيدًا، وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ‏؟‏ وَذَلِكَ مُكْثُهُ عِنْدَهُ قَبْلَ قَتْلِ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلَهُ مِنَ الْقِبْطِ‏.‏ ‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ قَتْلَهُ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلَ مِنَ الْقِبْطِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَتْلُ النَّفْسِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَإِنَّمَا قِيلَ ‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ‏}‏ لِأَنَّهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَجُوزُ كَسْرُ الْفَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا هَذَا الْمَعْنَى‏.‏ وَذُكِرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ‏:‏ “ وَفَعَلْتَ فِعْلَتَكَ “ بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ لِقِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ- مُخَالَفَةٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ عَلَى دِينِنَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ يَعْنِي عَلَى دِينِنَا هَذَا الَّذِي تَعِيبُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ نِعْمَتنَا عَلَيْكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ رَبَّيْنَاكَ فِينَا وَلِيدًا، فَهَذَا الَّذِي كَافَأْتَنَا أَنْ قَتَلْتَ مِنَّا نَفْسًا، وَكَفَرْتَ نِعْمَتنَا‏!‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ كَافِرًا لِلنِّعْمَةِ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا الْكُفْرُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ لِمُوسَى إِنْ كَانَ مُوسَى كَانَ عِنْدَهُ عَلَى دِينِهِ يَوْمَ قَتْلِ الْقَتِيلِ عَلَى مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ‏:‏ فَعَلْتَ الْفَعْلَةَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ، الْإِيمَانُ عِنْدَهُ‏:‏ هُوَ دِينُهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مُوسَى عِنْدَهُ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ‏:‏ إِنَّمَا أَرَادَ‏:‏ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ يَوْمَئِذٍ يَا مُوسَى، عَلَى قَوْلِكَ الْيَوْمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا يَتَوَجَّهُ‏.‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ‏:‏ وَقَتَلْتَ الَّذِي قَتَلْتَ مِنَّا وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ نِعْمَتنَا عَلَيْكَ، وَإِحْسَانَنَا إِلَيْكَ فِي قَتْلِكَ إِيَّاهُ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَأَنْتَ الْآنَ مِنَ الْكَافِرِينَ لِنِعْمَتِي عَلَيْكَ، وَتَرْبِيَتِي إِيَّاكَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ‏:‏ فَعَلْتُ تِلْكَ الْفَعْلَةَ الَّتِي فُعِلَتْ، أَيْ قَتَلْتُ تِلْكَ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلْتُ إِذَنْ وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَنَا مِنَ الْجَاهِلِينَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَنِي مِنَ اللَّهِ وَحْيٌ بِتَحْرِيمِ قَتْلِهِ عَلَيَّ‏.‏ وَالْعَرَبُ تَضَعُ مِنَ الضَّلَالِ مَوْضِعَ الْجَهْلِ، وَالْجَهْلِ مَوْضِعَ الضَّلَالِ، فَتَقُولُ‏:‏ قَدْ جَهِلَ فُلَانٌ الطَّرِيقَ وَضَلَّ الطَّرِيقَ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ “ وَأَنَا مِنَ الْجَاهِلِينَ “‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ فَقَالَ مُوسَى‏:‏ لَمْ أَكْفُرْ، وَلَكِنْ فَعَلْتُهَا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏.‏ وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ “ فَعَلْتُهَا إِذَا وَأَنَا مِنَ الْجَاهِلِينَ “‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏}‏ قُبَلَ أَنْ يَأْتِيَنِي مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ كَانَ قَتْلِي إِيَّاهُ ضَلَالَةٌ خَطَأٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالضَّلَالَةُ هَهُنَا الْخَطَأُ، لَمْ يُقِلْ ضَلَالَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَنَا مِنَ الْجَاهِلِينَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ‏:‏ ‏{‏فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ‏}‏ مَعْشَرَ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ‏{‏لَمَّا خِفْتُكُمْ‏}‏ أَنْ تَقْتُلُونِي بِقَتْلِي الْقَتِيلِ مِنْكُمْ‏.‏ ‏{‏فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَوَهَبَ لِي رَبِّي نُبُوَّةً وَهِيَ الْحُكْمُ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا‏}‏ وَالْحُكْمُ‏:‏ النُّبُوَّةُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَلْحَقَنِي بِعِدَادِ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَى خَلْقِهِ، مُبَلِّغًا عَنْهُ رِسَالَتَهُ إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِهِ إِيَّايَ إِلَيْكَ يَا فِرْعَوْنُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ نَبِيِّهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفِرْعَوْنَ ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ‏}‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ وَتِلْكَ، تَرْبِيَةَ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ، يَقُولُ‏:‏ وَتَرْبِيَتُكَ إِيَّايَ، وَتَرْكُكَ اسْتِعْبَادِي، كَمَا اسْتَعْبَدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعْمَةٌ مِنْكَ تَمُنُّهَا عَلَيَّ بِحَقٍّ‏.‏ وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ عَنْهُ، وَهُوَ‏:‏ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَرَكْتَنِي، فَلَمْ تَسْتَعْبِدْنِي، فَتَرَكَ ذِكْرَ “ وَتَرَكْتَنِي “ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ ‏{‏أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ عَلَيْهِ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ اخْتِصَارًا لِلْكَلَامِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَسْتَحِقَّ رَجُلَانِ مِنْ ذِي سُلْطَانٍ عُقُوبَةً، فَيُعَاقِبُ أَحَدَهُمَا، وَيَعْفُو عَنِ الْآخَرِ، فَيَقُولُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ هَذِهِ نِعْمَةٌ عَلَيَّ مِنَ الْأَمِيرِ أَنْ عَاقَبَ فُلَانًا، وَتَرَكَنِي، ثُمَّ حَذَفَ “ وَتَرَكَنِي “ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ وَجْهَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا النَّصْبُ، لِتَعَلُّقِ “ تَمُنُّهَا “ بِهَا، وَإِذَا كَانَتْ نَصْبًا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ لِتَعَبُّدِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏ وَالْآخَرُ‏:‏ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا رَدٌّ عَلَى النِّعْمَةِ‏.‏ وَإِذَا كَانَتْ رَفْعًا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ تَعْبِيدُكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏‏:‏ أَنِ اتَّخَذْتَهُمْ عَبِيدًا لَكَ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ عَبَّدْتُ الْعَبِيدَ وَأَعْبَدْتُهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

عَـلَامَ يُعْبِـدنِي قَـومِي وقـدْ كَـثُرَتْ *** فِيهـا أبـاعِرُ مـا شـاءُوا وَعُبْـدَانُ

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَهَرْتَهُمْ وَاسْتَعْمَلْتَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ تَمُنُّ عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ‏:‏ قَهَرْتَ وَغَلَبْتَ وَاسْتَعْمَلْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ وَرَبَّيْتَنِي قَبْلُ وَلِيدًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هَذَا اسْتِفْهَامٌ كَانَ مِنْ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ، كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ أَتَمُنُّ عَلَيَّ أَنِ اتَّخَذْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ‏:‏ أَتَمُنُّ عَلَيَّ أَنِ اتَّخَذْتَ أَنْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدًا‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ، فَيُقَالُ‏:‏ هَذَا اسْتِفْهَامٌ كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ أَتَمُنُّهَا عَلَيَّ‏؟‏ ثُمَّ فَسَّرَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ وَجَعْلَهُ بَدَلًا مِنَ النِّعْمَةِ‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُنْكِرُ هَذَا الْقَوْلَ، وَيَقُولُ‏:‏ هُوَ غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَمْزُ الِاسْتِفْهَامِ يُلْقَى، وَهُوَ يَطْلُبُ، فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ كَالْخَبَرِ، قَالَ‏:‏ وَقَدِ اسْتُقْبِحَ وَمَعَهُ أَمْ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَاسْتَقْبَحُوا‏:‏

تَـرُوحُ مِـنَ الْحَـيِّ أَمْ تَبْتَكِـرْ *** وَمَـاذَا يَضُـرُّكَ لَـوْ تَنْتَظِـرْ‏؟‏

قَالَ‏:‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ أَتَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ، وَحَذَفَ الِاسْتِفْهَامَ أَوَّلًا اكْتِفَاءً بِأَمْ‏.‏ وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ‏:‏ بَلِ الْأَوَّلُ خَبَرٌ، وَالثَّانِي اسْتِفْهَامٌ، وَكَأَنَّ “ أَمْ “ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ الْكَلَامِ فَهِيَ الْأَلِفُ، فَأَمَّا وَلَيْسَ مَعَهُ أَمْ، فَلَمْ يَقُلْهُ إِنْسَانٌ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ فِي ذَلِكَ مَا قُلْنَا‏.‏ وَقَالَ‏:‏ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ لِنِعْمَتِي‏:‏ أَيْ لِنِعْمَةِ تَرْبِيَتِي لَكَ، فَأَجَابَهُ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ هِيَ نِعْمَةٌ عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ النَّاسَ وَلَمْ تَسْتَعْبِدْنِي‏.‏

وَقَوْلُ ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَيُّ شَيْءٍ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏؟‏

‏(‏قَالَ‏)‏ مُوسَى هُوَ ‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ وَمَالِكُهُنَّ ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَالُكُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ‏.‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أَنَّ مَا تُعَايِنُونَهُ كَمَا تُعَايِنُونَهُ، فَكَذَلِكَ فَأَيْقِنُوا أَنَّ رَبَّنَا هُوَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ‏{‏قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ‏}‏ قَالَ فِرْعَوْنُ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ قَوْمِهِ‏:‏ أَلَا تَسْتَمِعُونَ لِمَا يَقُولُ مُوسَى، فَأَخْبَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقَوْمَ بِالْجَوَابِ عَنْ مَسْأَلَةِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ وَقِيلِهِ لَهُ ‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ لِيُفْهِمْ بِذَلِكَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ مَقَالَتَهُ لِفِرْعَوْنَ، وَجَوَابَهُ إِيَّاهُ عَمَّا سَأَلَهُ، إِذْ قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ ‏{‏أَلَا تَسْتَمِعُونَ‏}‏ إِلَى قَوْلِ مُوسَى، فَقَالَ لَهُمُ الَّذِي دَعَوْتُهُ إِلَيْهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ ‏(‏رَبُّكُمُ‏)‏ الَّذِي خَلَقَكُمْ ‏{‏وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ‏}‏ فَقَالَ فِرْعَوْنُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ مُوسَى ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ رَسُولَكُمْ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ قَوْلًا لَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَفْهَمُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ وَنَسَبَ مُوسَى عَدُوُّ اللَّهِ إِلَى الْجِنَّةِ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ قَوْمِهِ أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ يُعْبَدُ، وَأَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَيْهِ مُوسَى بَاطِلٌ لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ، فَقَالَ مُوسَى عِنْدَ ذَلِكَ مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ، وَمُعَرِّفُهُمْ رَبَّهُمْ بِصِفَتِهِ وَأَدِلَّتِهِ، إِذْ كَانَ عِنْدَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَنَّ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ رَبًّا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ فِرْعَوْنُ، وَأَنَّ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ لِآبَائِهِمْ أَرْبَابًا مُلُوكٌ أُخَرَ، كَانُوا قَبْلَ فِرْعَوْنَ، قَدْ مَضَوْا فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ أَنَّ مُوسَى أَخْبَرَهُمْ بِشَيْءٍ لَهُ مَعْنًى يَفْهَمُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ‏:‏ إِنَّهُ مَجْنُونٌ، لِأَنَّ كَلَامَهُ كَانَ عِنْدَهُمْ كَلَامًا لَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهُ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ فَمَعْنَاهُ‏:‏ الَّذِي أَدْعُوكُمْ وَفِرْعَوْنَ إِلَى عِبَادَتِهِ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا، يَعْنِي مَلِكَ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ شَيْءٍ لَا إِلَى عِبَادَةِ مُلُوكِ مِصْرَ الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَهَا قَبْلَ فِرْعَوْنَ لِآبَائِكُمْ فَمَضَوْا، وَلَا إِلَى عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ الَّذِي هُوَ مِلْكُهَا‏.‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنْ كَانَ لَكُمْ عُقُولٌ تَعْقِلُونَ بِهَا مَا يُقَالُ لَكُمْ، وَتَفْهَمُونَ بِهَا مَا تَسْمَعُونَ مِمَّا يَعِينَ لَكُمْ؛ فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَمْرِ الَّذِي عَلِمُوا أَنَّهُ الْحَقُّ الْوَاضِحُ، إِذْ كَانَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ مُلُوكِ مِصْرَ لَمْ يُجَاوِزْ مُلْكُهُمْ عَرِيشَ مِصْرَ، وَتَبَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُمْ مُوسَى إِلَى عِبَادَتِهِ، هُوَ الْمَلَكُ الَّذِي يَمْلِكُ الْمُلُوكَ‏.‏ قَالَ فِرْعَوْنُ حِينَئِذٍ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْحَقِّ، وَتَمَادِيًا فِي الْغَيِّ لِمُوسَى‏:‏ ‏{‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَئِنْ أَقْرَرْتَ بِمَعْبُودٍ سِوَايَ ‏{‏لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَأَسْجُنَنَّكَ مَعَ مَنْ فِي السَّجْنِ مِنْ أَهْلِهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ لَمَّا عَرَّفَهُ رَبَّهُ، وَأَنَّهُ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَدَعَاهُ إِلَى عِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الْأُلُوهَةِ لَهُ، وَأَجَابَهُ فِرْعَوْنُ بِقَوْلِهِ ‏{‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏}‏‏:‏ أَتَجْعَلُنِي مِنَ الْمَسْجُونِينَ ‏{‏أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ‏}‏ يُبَيِّنُ لَكَ صِدْقَ مَا أَقُولُ يَا فِرْعَوْنُ وَحَقِيقَةَ مَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ‏؟‏ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ السُّكُونُ لِلْإِنْصَافِ، وَالْإِجَابَةُ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ الْبَيَانِ؛ فَلَمَّا قَالَ مُوسَى لَهُ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ‏:‏ فَأْتِ بِالشَّيْءِ الْمُبِينِ حَقِيقَةَ مَا تَقُولُ، فَإِنَّا لَنْ نَسْجُنَكَ حِينَئِذٍ إِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهَا غَيْرِي إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ إِنْ كُنْتَ مُحِقًّا فِيمَا تَقُولُ، وَصَادِقًا فِيمَا تَصِفُ وَتُخْبِرُ، ‏{‏فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَتَحَوَّلَتْ ثُعْبَانًا، وَهِيَ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ كَمَا قَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ مِنْ صِفَتِهِ، وَقَوْلُهُ ‏(‏مُبِينٌ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ يَبِينُ لِفِرْعَوْنَ وَالْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّهُ ثُعْبَانٌ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مُبِينٌ لَهُ خَلْقُ حَيَّةٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَخْرَجَ مُوسَى يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ تَلْمَعُ ‏(‏لِلنَّاظِرِينَ‏)‏ لِمَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَرَاهَا‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمِنْهَالِ، قَالَ‏:‏ ارْتَفَعَتِ الْحَيَّةُ فِي السَّمَاءِ قَدْرَ مِيلٍ، ثُمَّ سَفْلَتْ حَتَّى صَارَ رَأْسُ فِرْعَوْنَ بَيْنَ نَابَيْهَا، فَجَعَلَتْ تَقُولُ‏:‏ يَا مُوسَى مُرْنِي بِمَا شِئْتَ، فَجَعَلَ فِرْعَوْنُ يَقُولُ‏:‏ يَا مُوسَى أَسْأَلُكَ‏.‏ بِالَّذِي أَرْسَلَكَ، قَالَ‏:‏ فَأَخَذَهُ بَطْنُهُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَ فِرْعَوْنُ لَمَّا أَرَاهُ مُوسَى مِنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ لِمُوسَى بِحَقِيقَةِ مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ، وَصِدْقِ مَا أَتَاهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ ‏{‏لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ‏}‏ يَعْنِي لِأَشْرَافِ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ‏.‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ مُوسَى سَحَرَ عَصَاهُ حَتَّى أَرَاكُمُوهَا ثُعْبَانًا ‏(‏عَلِيمٌ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ ذُو عِلْمٍ بِالسِّحْرِ وَبَصَرٍ بِهِ‏.‏ ‏{‏يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ بِقَهْرِهِ إِيَّاكُمْ بِالسِّحْرِ‏.‏ وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ فَجَعَلَ الْخِطَابَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ مِنَ الْقِبْطِ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ الْقِبْطَ كَانُوا قَدِ اسْتَعْبَدُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاتَّخَذُوهُمْ خَدَمًا لِأَنْفُسِهِمْ وَمُهَانًا، فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ‏}‏ وَهُوَ يُرِيدُ‏:‏ أَنْ يُخْرِجَ خَدَمَكُمْ وَعَبِيدَكُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ إِلَى الشَّأْمِ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْتُ مَعْنَى ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ وَلِأَخِيهِ ‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَأَيُّ شَيْءٍ تَأْمُرُونَ فِي أَمْرِ مُوسَى وَمَا بِهِ تُشِيرُونَ مِنَ الرَّأْيِ فِيهِ‏؟‏ ‏{‏قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَأَجَابَ فِرْعَوْنَ الْمَلَأُ حَوْلَهُ بِأَنْ قَالُوا لَهُ‏:‏ أَخِّرْ مُوسَى وَأَخَاهُ وَأَنْظِرْهُ، وَابْعَثْ فِي بِلَادِكَ وَأَمْصَارِ مِصْرَ حَاشِرِينَ يَحْشُرُونَ إِلَيْكَ كُلَّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ بِالسِّحْرِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَجَمَعَ الْحَاشِرُونَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ فِرْعَوْنُ بِحَشْرِ السَّحَرَةِ ‏{‏لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لِوَقْتٍ وَاعَدَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى الِاجْتِمَاعَ مَعَهُ فِيهِ مِنْ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَذَلِكَ يَوْمُ الزِّينَةِ ‏{‏وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى‏}‏‏.‏

وَقِيلَ لِلنَّاسِ‏:‏ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لِتَنْظُرُوا إِلَى مَا يَفْعَلُ الْفَرِيقَانِ، وَلِمَنْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ، لِمُوسَى أَوْ لِلسَّحَرَةِ‏؟‏ فَلَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ، وَمَعْنَى لَعَلَّ هُنَا كَيْ، يَقُولُ‏:‏ كَيْ نَتَّبِعَ السَّحَرَةَ، إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ مُوسَى، وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ مَعْنَاهَا‏:‏ لِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ كَانُوا عَلَى دِينِ فِرْعَوْنَ، فَغَيْرُ مَعْقُولٍ أَنْ يَقُولَ مَنْ كَانَ عَلَى دِينٍ‏:‏ أَنْظُرُ إِلَى حُجَّةِ مَنْ هُوَ عَلَى خِلَافِي لَعَلِّي اتَّبِعُ دِينِي، وَإِنَّمَا يُقَالُ‏:‏ أَنْظُرُ إِلَيْهَا كَيْ أَزْدَادَ بَصِيرَةً بَدِينِي، فَأُقِيمَ عَلَيْهِ‏.‏ وَكَذَلِكَ قَالَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ‏.‏ فَإِيَّاهَا عَنَوْا بِقَيْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ‏}‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ اجْتِمَاعَهُمْ لِلْمِيقَاتِ الَّذِي اتَّعَدَ لِلِاجْتِمَاعِ فِيهِ فِرْعَوْنُ وَمُوسَى كَانَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانُوا بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، قَالَ‏:‏ وَيُقَالُ‏:‏ بَلَغَ ذَنَبَ الْحَيَّةِ مَنْ وَرَاءَ الْبُحَيْرَةِ يَوْمَئِذٍ، قَالَ‏:‏ وَهَرَبُوا وَأَسْلَمُوا فِرْعَوْنَ وَهَمَّتْ بِهِ، فَقَالَ‏:‏ فَخُذْهَا يَا مُوسَى، قَالَ‏:‏ فَكَانَ فِرْعَوْنُ مِمَّا يَلِي النَّاسَ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَضَعُ عَلَى الْأَرْضِ شَيْئًا، قَالَ‏:‏ فَأَحْدَثَ يَوْمَئِذٍ تَحْتَهُ، قَالَ‏:‏ وَكَانَ إِرْسَالُهُ الْحَيَّةَ فِي الْقُبَّةِ الْحَمْرَاءِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ‏}‏ فِرْعَوْنَ لِوَعْدٍ لِمُوسَى وَمَوْعِدِ فِرْعَوْنَ ‏{‏قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا‏}‏ سِحْرِنَا قِبَلَكَ ‏{‏إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ‏}‏ مُوسَى قَالَ‏)‏ فِرْعَوْنُ لَهُمْ ‏(‏نَعَمْ‏)‏ لَكُمُ الْأَجْرُ عَلَى ذَلِكَ ‏{‏وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏}‏ مِنَّا‏.‏ فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ لِمُوسَى‏:‏ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ، وَتَرَكَ ذِكْرَ قَيْلِهِمْ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ خَبَرِ اللَّهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالَ لَهُمْ مُوسَى‏:‏ أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ فَ ‏{‏قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ‏}‏ مِنْ حِبَالِكُمْ وَعِصِيِّكُمْ‏.‏ ‏{‏فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ‏}‏ مِنْ أَيْدِيهِمْ ‏{‏وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَقْسَمُوا بِقُوَّةِ فِرْعَوْنَ وَشِدَّةِ سُلْطَانِهِ، وَمَنَعَةِ مَمْلَكَتِهِ ‏{‏إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ‏}‏ مُوسَى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ‏}‏ حِينَ أَلْقَتِ السَّحَرَةُ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَإِذَا عَصَا مُوسَى تَزْدَرِدُ مَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْفِرْيَةِ وَالسِّحْرِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَخَايِيلُ وَخُدْعَةٌ‏.‏ ‏{‏فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَمَّا تَبَيَّنَ السَّحَرَةُ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى حُقٌّ لَا سِحْرَ، وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ الَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، خَرُّوا لِوُجُوهِهِمْ سُجَّدًا لِلَّهِ، مُذْعِنِينَ لَهُ بِالطَّاعَةِ، مُقِرِّينَ لِمُوسَى بِالَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ السِّحْرِ بَاطِلٌ، قَائِلِينَ‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ الَّذِي دَعَانَا مُوسَى إِلَى عِبَادَتِهِ دُونَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ‏.‏ ‏{‏رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ قَالَ فِرْعَوْنُ لِلَّذِينِ كَانُوا سَحَرَتَهُ فَآمَنُوا‏:‏ آمَنْتُمْ لِمُوسَى بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ فِي الْإِيمَانِ بِهِ‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ مُوسَى لَرَئِيسُكُمْ فِي السِّحْرِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَكُمُوهُ، وَلِذَلِكَ آمَنْتُمْ بِهِ‏.‏ ‏{‏فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ عِنْدَ عِقَابِي إِيَّاكُمْ وَبَالَ مَا فَعَلْتُمْ، وَخَطَأَ مَا صَنَعْتُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ ‏{‏لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ‏}‏ مُخَالِفًا فِي قَطْعِ ذَلِكَ مِنْكُمْ بَيْنَ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ، وَذَلِكَ أَنْ أَقْطَعَ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى، ثُمَّ الْيَدَ الْيُسْرَى وَالرِّجْلَ الْيُمْنَى، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ مِنْ جَانِبٍ، ثُمَّ الرِّجْلَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ هُوَ الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ ‏{‏وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ فَوَكَّدَ ذَلِكَ بِأَجْمَعِينَ إِعْلَامًا مِنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَبْقٍ مِنْهُمْ أَحَدًا‏.‏ ‏{‏قَالُوا لَا ضَيْرَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَتِ السَّحَرَةُ‏:‏ لَا ضَيْرَ عَلَيْنَا؛ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ قَدْ ضَارَّ فُلَانٌ فُلَانًا فَهُوَ يُضِيرُ ضَيْرَا، وَمَعْنَاهُ‏:‏ لَا ضَرَرَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَا ضَيْرَ‏)‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ لَا يَضُرُّنَا الَّذِي تَقُولُ، وَإِنْ صَنَعَتْهُ بِنَا وَصَلَبَتْنَا‏.‏ ‏{‏إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاجِعُونَ، وَهُوَ مُجَازِينَا بِصَبْرِنَا عَلَى عُقُوبَتِكَ إِيَّانَا، وَثَبَاتِنَا عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ السَّحَرَةِ‏:‏ إِنَّا نَطْمَعُ‏:‏ إِنَّا نَرْجُو أَنْ يَصْفَعَ لَنَا رَبّنَا عَنْ خَطَايَانَا الَّتِي سَلَفَتْ مِنَّا قَبْلَ إِيمَانِنَا بِهِ، فَلَا يُعَاقِبُنَا بِهَا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا‏}‏ قَالَ‏:‏ السِّحْرَ وَالْكُفْرَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ‏.‏ ‏{‏أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لِأَنْ كُنَّا أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِمُوسَى وَصَدَّقَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَكْذِيبِ فِرْعَوْنَ فِي ادِّعَائِهِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي دَهْرِنَا هَذَا وَزَمَانِنَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانُوا كَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِآيَاتِهِ حِينَ رَأَوْهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ تَمَادَى فِرْعَوْنُ فِي غَيِّهِ وَأَبَى إِلَّا الثَّبَاتَ عَلَى طُغْيَانِهِ بَعْدَ مَا أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا، أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي‏:‏ يَقُولُ‏:‏ أَنْ سِرْ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ‏}‏ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ مُتَّبِعُوكَ وَقَوْمَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِيَحُولُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِهِمْ، أَرْضِ مِصْرَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 56‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ يَحْشُرُ لَهُ جُنْدُهُ وَقَوْمُهُ وَيَقُولُ لَهُمْ ‏(‏إِنَّ هَؤُلَاءِ‏)‏ يَعْنِي بِهَؤُلَاءِ‏:‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏{‏لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏ يَعْنِي بِالشِّرْذِمَةِ‏:‏ الطَّائِفَةُ وَالْعُصْبَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ عَصْبِ جَبِيرَةٍ، وَشِرْذِمَةُ كُلِّ شَيْءٍ‏:‏ بَقِيَّتُهُ الْقَلِيلَةُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ‏:‏

جَـاءَ الشِّـتَاءُ وقَمِيصِـي أَخْـلَاقْ *** شَـرَاذِمٌ يَضْحَـكُ مِنْـهُ التَّـوَّاقْ

وَقِيلَ‏:‏ قَلِيلُونَ، لِأَنَّ كُلَّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ كَانَ يَلْزَمُهَا مَعْنَى الْقِلَّةَ؛ فَلَمَّا جَمَعَ جَمْعَ جَمَاعَاتِهِمْ قِيلَ‏:‏ قَلِيلُونَ، كَمَا قَالَ الْكُمَيْتُ‏:‏

فَـرَدَّ قَـوَاصِيَ الْأَحْيَـاءِ مِنْهُـمْ *** فَقَـدْ صَـارُوا كَحَـيٍّ وَاحِدِينَـا

وَذُكِرَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي سَمَّاهَا فِرْعَوْنُ شِرْذِمَةً قَلِيلِينَ، كَانُوا سِتَّ مِئَةِ أَلْفٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا سِتَّ مِئَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ الشِّرْذِمَةُ‏:‏ سِتُّ مِئَةِ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، قَالَ‏:‏ اجْتَمَعَ يَعْقُوبُ وَوَلَدُهُ إِلَى يُوسُفَ، وَهُمُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ، وَخَرَجُوا مَعَ مُوسَى وَهُمْ سِتُّ مِئَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ ‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏، وَخَرَجَ فِرْعَوْنُ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمَ حِصَانٍ عَلَى لَوْنِ فَرَسِهِ فِي عَسْكَرِهِ ثَمَانِ مِئَةِ أَلْفٍ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ‏:‏ وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ أَحْدَثَ النَّاسِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ‏:‏ فَحَدَّثَنَا أَنَّ الشِّرْذِمَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ فِرْعَوْنُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا سِتَّ مِئَةِ أَلْفٍ، قَالَ‏:‏ وَكَانَ مُقَدِّمَةُ فِرْعَوْنَ سَبْعَةَ مِئَةِ أَلْفٍ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى حِصَانٍ عَلَى رَأْسِهِ بَيْضَةٌ، وَفِي يَدِهِ حَرْبَةٌ، وَهُوَ خَلْفُهُمْ فِي الدَّهْمِ‏.‏ فَلَمَّا انْتَهَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْبَحْرِ، قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏.‏ يَا مُوسَى أَيْنَ مَا وَعَدْتَنَا، هَذَا الْبَحْرُ بَيْنَ أَيْدِينَا، وَهَذَا فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ قَدْ دَهَمَنَا مِنْ خَلْفِنَا، فَقَالَ مُوسَى لِلْبَحْرِ‏:‏ انْفَلِقْ أَبَا خَالِدٍ، قَالَ‏:‏ لَا لَنْ أَنْفَلِقَ لَكَ يَا مُوسَى، أَنَا أَقْدَمُ مِنْكَ خَلْقًا؛ قَالَ‏:‏ فَنُودِيَ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ، فَانْفَلَقَ الْبَحْرُ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا‏.‏ قَالَ الْجَرِيرِيُّ‏.‏ فَأَحْسَبُهُ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا انْتَهَى أَوَّلُ جُنُودِ فِرْعَوْنَ إِلَى الْبَحْرِ، هَابَتِ الْخَيْلُ اللَّهَبَ؛ قَالَ‏:‏ وَمَثُلَ لِحِصَانٍ مِنْهَا فَرَسٌ وَدِيقٌ، فَوَجَدَ رِيحَهَا فَاشْتَدَّ، فَاتَّبَعَهُ الْخَيْلُ؛ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا تَتَامَّ آخِرُ جُنُودِ فِرْعَوْنَ فِي الْبَحْرِ، وَخَرَجَ آخِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أُمِرَ الْبَحْرُ فَانْصَفَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏:‏ مَا مَاتَ فِرْعَوْنُ وَمَا كَانَ لِيَمُوتَ أَبَدًا، فَسَمِعَ اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ‏:‏ فَرَمَى بِهِ عَلَى السَّاحِلِ، كَأَنَّهُ ثَوْرٌ أَحْمَرُ يَتَرَاءَاهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏ يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُمْ يَوْمَئِذٍ سِتُّ مِئَةِ أَلْفٍ، وَلَا يُحْصَى عَدَدُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنِ اجْمَعْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كُلَّ أَرْبَعَةِ أَبْيَاتٍ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ اذْبَحُوا أَوْلَادَ الضَّأْنِ، فَاضْرِبُوا بِدِمَائِهَا عَلَى الْأَبْوَابِ، فَإِنِّي سَآمُرُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ لَا تَدْخُلَ بَيْتًا عَلَى بَابِهِ دَمٌ، وَسَآمُرُهُمْ بِقَتْلِ أَبْكَارِ آلِ فِرْعَوْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ اخْبِزُوا خُبْزًا فَطِيرًا، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ لَكُمْ، ثُمَّ أَسْرِ بِعِبَادِي حَتَّى تَنْتَهِيَ لِلْبَحْرِ، فَيَأْتِيَكَ أَمْرِي، فَفَعَلَ؛ فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ فِرْعَوْنُ‏:‏ هَذَا عَمَلُ مُوسَى وَقَوْمِهِ قَتَلُوا أَبْكَارَنَا مِنْ أَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهِمْ أَلْفَ أَلْفٍ وَخَمْسَ مِئَةِ أَلْفٍ وَخَمْسَ مِئَةِ مَلِكٍ مُسَوَّرٍ، مَعَ كُلِّ مَلِكٍ أَلْفُ رَجُلٍ، وَخَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي الْكِرْشِ الْعُظْمَى، وَقَالَ ‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ قِطْعَةٌ، وَكَانُوا سِتَّ مِئَةِ أَلْفٍ، مِئَتَا أَلْفٍ مِنْهُمْ أَبْنَاءُ عِشْرِينَ سَنَةٍ إِلَى أَرْبَعِينَ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ مَعَ فِرْعَوْنَ يَوْمَئِذٍ أَلْفُ جَبَّارٍ، كُلُّهُمْ عَلَيْهِ تَاجٌ، وَكُلُّهُمْ أَمِيرٌ عَلَى خَيْلٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ كَانُوا ثَلَاثِينَ مَلِكًا سَاقَةٌ خَلْفَ فِرْعَوْنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ وَجَبْرَائِيلُ أَمَامَهُمْ، يَرُدُّ أَوَائِلَ الْخَيْلِ عَلَى أَوَاخِرِهَا، فَأَتْبَعَهُمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الشِّرْذِمَةَ لَنَا لَغَائِظُونَ، فَذَكَرَ أَنَّ غَيْظَهُمْ إِيَّاهُمْ كَانَ قَتْلُ الْمَلَائِكَةِ مَنْ قَتَلَتْ مِنْ أَبْكَارِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ بِقَتْلِهِمْ أَبْكَارَنَا مِنْ أَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا‏.‏ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ بِذَهَابِهِمْ مِنْهُمْ بِالْعَوَارِي الَّتِي كَانُوا اسْتَعَارُوهَا مِنْهُمْ مِنَ الْحُلِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِفِرَاقِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَخُرُوجِهِمْ مِنْ أَرْضِهِمْ بِكُرْهٍ لَهُمْ لِذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ‏}‏ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُمْ مُعَدُّونَ مُؤَدُّونَ ذَوُو أَدَاةٍ وَقُوَّةٍ وَسِلَاحٍ‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ‏:‏ “ وَأَنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ “ بِغَيْرِ أَلِفٍ‏.‏ وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ‏:‏ كَأَنَّ الْحَاذِرَ الَّذِي يُحَذِّرُكَ الْآنَ، وَكَأَنَّ الْحَذِرَ الْمَخْلُوقُ حَذِرًا لَا تَلْقَاهُ إِلَّا حَذِرًا؛ وَمِنَ الْحَذَرِ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ‏:‏

هَـلْ أَنْسَـأَنْ يَوْمًـا إِلَـى غَـيْرِهِ *** إنِّـي حَـوَالِيٌّ وَإِنِّـي حَـذِرُ

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ، فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِيهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْأَسْوَدَ بْنَ زَيْدٍ يَقْرَأُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُقَوُّونَ مُؤَدُّونَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْعَرْجَاءِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مُؤَدُّونَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ حَذَرْنَا، قَالَ‏:‏ جَمَعْنَا أَمْرَنَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُؤَدُّونَ مُعَدُّونَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ‏.‏

ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ مَعَ فِرْعَوْنَ سِتُّ مِئَةِ أَلْفِ حِصَانٍ أَدْهَمَ سِوَى أَلْوَانِ الْخَيْلِ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ الضَّبِّيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُؤَدُّونَ مُقَوُّونَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَأَخْرَجْنَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مِنْ بَسَاتِينَ وَعُيُونِ مَاءٍ، وَكُنُوزِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏.‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ الْكَرِيمَ‏:‏ الْمَنَابِرُ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏(‏كَذَلِكَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ هَكَذَا أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْتُ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا‏.‏ ‏(‏وَأَوْرَثْنَاهَا‏)‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَوْرَثَنَا تِلْكَ الْجَنَّاتِ الَّتِي أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْهَا وَالْعُيُونِ وَالْكُنُوزِ وَالْمَقَامِ الْكَرِيمِ عَنْهُمْ بِهَلَاكِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ‏}‏ فَأَتْبَعَ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مُشْرِقَيْنِ حِينَ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، وَقِيلَ حِينَ أَصْبَحُوا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ خَرَجَ مُوسَى لَيْلًا فَكُسِفَ الْقَمَرُ وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ، وَقَالَ أَصْحَابُهُ‏:‏ إِنَّ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَنَا سَنَنْجَى مِنْ فِرْعَوْنَ، وَأَخَذَ عَلَيْنَا الْعَهْدَ لَنَخْرُجَنَّ بِعِظَامِهِ مَعَنَا، فَخَرَجَ مُوسَى لَيْلَتَهُ يَسْأَلُ عَنْ قَبْرِهِ، فَوَجَدَ عَجُوزًا بَيْتُهَا عَلَى قَبْرِهِ، فَأَخْرَجَتْهُ لَهُ بِحُكْمِهَا، وَكَانَ حُكْمُهَا أَوْ كَلِمَةٌ تُشْبِهُ هَذَا، أَنْ قَالَتِ‏:‏ احْمِلْنِي فَأَخْرِجْنِي مَعَكَ، فَجَعَلَ عِظَامَ يُوسُفَ فِي كِسَائِهِ، ثُمَّ حَمَلَ الْعَجُوزَ عَلَى كِسَائِهِ، فَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَخَيْلُ فِرْعَوْنَ هِيَ مِلْءٌ أَعِنَّتِهَا حَضَرًا فِي أَعْيُنِهِمْ وَلَا تَبْرَحُ، حُبِسَتْ عَنْ مُوسَى وَأَصْحَابِهِ حَتَّى تَوَارَوْا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، وَخَيْلُ فِرْعَوْنَ فِي مَلْءِ أَعِنَّتِهَا فِي رَأْيِ عُيُونِهِمْ، وَلَا تَبْرَحُ، حُبِسَتْ عَنْ مُوسَى وَأَصْحَابِهِ حَتَّى تَوَارَوْا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَلَمَّا تُنَاظَرَ الْجَمْعَانِ‏:‏ جَمْعُ مُوسَى وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَجَمْعُ فِرْعَوْنَ وَهُمُ الْقِبْطُ ‏{‏قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏ أَيْ إِنَّا لَمُلْحَقُونَ، الْآنَ يَلْحَقُنَا فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَيَقْتُلُونَنَا، وَذُكِرَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِمُوسَى، تَشَاؤُمًا بِمُوسَى‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ تَشَاءَمُوا بِمُوسَى، وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ‏}‏ فَنَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى فِرْعَوْنَ قَدْ رَمَقَهُمْ قَالُوا ‏{‏إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالُوا يَا مُوسَى أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتِنَا‏}‏ الْيَوْمَ يُدْرِكُنَا فِرْعَوْنُ فَيَقْتُلُنَا، إِنَّا لَمُدْرِكُونَ؛ الْبَحْرُ بَيْنَ أَيْدِينَا، وَفِرْعَوْنُ مِنْ خَلْفِنَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ لَمَّا انْتَهَى مُوسَى إِلَى الْبَحْرِ، وَهَاجَتِ الرِّيحُ الْعَاصِفُ، فَنَظَرَ أَصْحَابُ مُوسَى خَلْفَهُمْ إِلَى الرِّيحِ، وَإِلَى الْبَحْرِ أَمَامَهُمْ ‏{‏قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى الْأَعْرَجِ ‏{‏إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏، وَقَرَأَهُ الْأَعْرَجُ‏:‏ “ إِنَّا لَمُدَرَّكُونَ “ كَمَا يُقَالُ نُزِّلْتُ، وَأُنْزِلْتُ‏.‏ وَالْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا الَّتِي عَلَيْهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ‏:‏ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ، كَلَّا لَنْ تُدْرَكُوا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ، يَقُولُ‏:‏ سَيَهْدِينِ لِطَرِيقٍ أَنْجُو فِيهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، قَالَ‏:‏ لَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ خَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِ مُوسَى عَلَى سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ دُهْمِ الْخَيْلِ، سِوَى مَا فِي جُنْدِهِ مِنْ شِيَةِ الْخَيْلِ، وَخَرَجَ مُوسَى حَتَّى إِذَا قَابَلَهُ الْبَحْرُ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْهُ مُنْصَرَفٌ، طَلَعَ فِرْعَوْنُ فِي جُنْدِهِ مِنْ خَلْفِهِمْ ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ أَيْ لِلنَّجَاةِ، وَقَدْ وَعَدَنِي ذَلِكَ، وَلَا خُلْفَ لِمَوْعُودِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ سَيَكْفِينِي، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وَقَوْلُهُ‏:‏ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ‏}‏ ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ أَمَرَ الْبَحْرَ أَنْ لَا يَنْفَلِقُ حَتَّى يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ‏:‏ فَتَقَدَّمَ هَارُونُ فَضَرَبَ الْبَحْرَ، فَأَبَى أَنْ يَنْفَتِحَ، وَقَالَ‏:‏ مَنْ هَذَا الْجَبَّارُ الَّذِي يَضْرِبُنِي، حَتَّى أَتَاهُ مُوسَى فَكُنَّاهُ أَبَا خَالِدٍ، وَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ أَوْحَى اللَّهُ فِيمَا ذُكِرَ إِلَى الْبَحْرِ‏:‏ إِذَا ضَرَبَكَ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقْ لَهُ، قَالَ‏:‏ فَبَاتَ الْبَحْرُ يَضْرِبُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَرَقًا مِنَ اللَّهِ، وَانْتِظَارَ أَمْرِهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ بِهَا وَفِيهَا سُلْطَانُ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاهُ، فَانْفَلَقَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، ظَنَّ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، قَالَ‏:‏ لَمَّا ضَرَبَ مُوسَى بِعَصَاهُ الْبَحْرَ، قَالَ‏:‏ إِيهَا أَبَا خَالِدٍ، فَأَخَذَهُ إفْكَلُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَحَجَّاجٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ، قَالُوا‏:‏ لَمَّا انْتَهَى مُوسَى إِلَى الْبَحْرِ وَهَاجَتِ الرِّيحُ وَالْبَحْرُ يَرْمِي بِتَيَّارِهِ، وَيَمُوجُ مِثْلُ الْجِبَالِ، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ أَنْ لَا يَنْفَلِقُ حَتَّى يَضْرِبَهُ مُوسَى بِالْعَصَا، فَقَالَ لَهُ يُوشَعُ‏:‏ يَا كَلِيمَ اللَّهِ أَيْنَ أُمِرْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَهُنَا، قَالَ‏:‏ فَجَازَ الْبَحْرَ مَا يُوَارِي حَافِرَهُ الْمَاءُ، فَذَهَبَ الْقَوْمُ يَصْنَعُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا، وَقَالَ لَهُ الَّذِي يَكْتُمُ إِيمَانَهُ‏:‏ يَا كَلِيمَ اللَّهِ أَيْنَ أُمِرْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَهُنَا، فَكَبَحَ فَرَسَهُ بِلِجَامِهِ حَتَّى طَارَ الزَّبَدُ مِنْ شِدْقَيْهِ، ثُمَّ قَحَمَهُ الْبَحْرُ فَأُرْسِبَ فِي الْمَاءِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، فَضَرَبَ بِعَصَاهُ مُوسَى الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ، فَإِذَا الرَّجُلُ وَاقِفٌ عَلَى فَرَسِهِ لَمْ يَبْتَلْ سَرْجُهُ وَلَا لُبْدُهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَكَانَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْبَحْرِ لَمَّا ضَرَبَهُ مُوسَى كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ‏.‏ وَذُكِرَ أَنَّهُ انْفَلَقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِلْقَةً عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ فِرْقٌ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، فَدَخَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ فِي الْبَحْرِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا، فِي كُلِّ طَرِيقٍ سِبْطٌ، وَكَانَ الطَّرِيقُ كَمَا إِذَا انْفَلَقَتِ الْجُدْرَانُ، فَقَالَ كُلُّ سِبْطٍ‏:‏ قَدْ قُتِلَ أَصْحَابُنَا؛ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مُوسَى دَعَا اللَّهَ فَجَعَلَهَا قَنَاطِرَ كَهَيْئَةِ الطِّيقَانِ، فَنَظَرَ آخِرُهُمْ إِلَى أَوَّلِهِمْ حَتَّى خَرَجُوا جَمِيعًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَحَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ قَالُوا‏:‏ انْفَلَقَ الْبَحْرُ، فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا فِي كُلِّ طَرِيقٍ سِبْطٌ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا، وَكَانَتِ الطُّرُقُ بِجُدْرَانٍ، فَقَالَ كُلُّ سِبْطٍ‏:‏ قَدْ قُتِلَ أَصْحَابُنَا؛ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مُوسَى، دَعَا اللَّهَ فَجَعَلَهَا لَهُمْ بِقَنَاطِرَ كَهَيْئَةِ الطِّيقَانِ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَعَلَى أَرْضٍ يَابِسَةٍ كَأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يُصِبْهَا قَطُّ حَتَّى عَبَرَ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ لَمَّا انْفَلَقَ الْبَحْرُ لَهُمْ صَارَ فِيهِ كَوًى يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏}‏ أَيْ كَالْجَبَلِ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ كَالْجَبَلِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَسْوَدِ بْنِ يُعَفِّرَ‏:‏

حَـلُّوا بِـأَنْقِرَةٍ يَسِـيلُ عَلَيْهِـمُ *** مَـاءُ الفُـرَاتِ يَجِـيءُ مِـنْ أطْـوَادِ

يَعْنِي بِالْأَطْوَادِ‏:‏ جَمْعَ طَوْدٍ، وَهُوَ الْجَبَلُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 68‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ‏}‏‏:‏ وَقَرَّبْنَا هُنَالِكَ آلَ فِرْعَوْنَ مِنَ الْبَحْرِ، وَقَدَّمْنَاهُمْ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ قُرِّبَتْ وَأُدْنِيَتْ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ‏:‏

طَـيَّ اللَّيَـالِي زُلَفًـا فَزُلَفَـا *** سَـمَاوَةَ الْهِـلَالِ حَـتَّى احْقَوْقَفَـا

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَرَّبْنَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ قَرَّبَهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَغْرَقَهُمْ فِي الْبَحْرِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ‏:‏ دَنَا فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ بَعْدَ مَا قَطَعَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ مِنَ الْبَحْرِ؛ فَلَمَّا نَظَرَ فِرْعَوْنُ إِلَى الْبَحْرِ مُنْفَلِقًا، قَالَ‏:‏ أَلَا تَرَوْنَ الْبَحْرَ فَرَقَ مِنِّي، قَدْ تَفَتَّحَ لِي حَتَّى أُدْرِكَ أَعْدَائِي فَأَقْتُلَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ ‏{‏وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ قَرَّبْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ هُمْ آلُ فِرْعَوْنَ؛ فَلَمَّا قَامَ فِرْعَوْنُ عَلَى الطُّرُقِ، وَأَبَتْ خَيْلُهُ أَنْ تَتَقَحَّمَ، فَنَزَلَ جِبْرَائِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَاذِيَانَةٍ، فَتَشَامَّتِ الْحُصُنُ رِيحَ الْمَاذِيَانَةِ فَاقْتَحَمَتْ فِي أَثَرِهَا حَتَّى إِذَا هَمَّ أَوَّلُهُمْ أَنْ يَخْرُجَ وَدَخَلَ آخِرُهُمْ، أُمِرَ الْبَحْرُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ، فَالْتَطَمَ عَلَيْهِمْ، وَتَفَرَّدَ جِبْرَائِيلُ بِمُقِلَّةٍ مِنْ مُقِلِّ الْبَحْرِ، فَجَعَلَ يَدُسُّهَا فِي فِيهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ أَقْبَلَ فِرْعَوْنُ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَاءِ، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى‏:‏ يَا مُكَلِّمَ اللَّهِ إِنَّ الْقَوْمَ يَتْبَعُونَنَا فِي الطَّرِيقِ، فَاضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَاخْلِطْهُ، فَأَرَادَ مُوسَى أَنْ يَفْعَلَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ‏:‏ أَنِ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا يَقُولُ‏:‏ أَمْرُهُ عَلَى سَكَنَاتِهِ ‏{‏إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ‏}‏ إِنَّمَا أَمْكُرُ بِهِمْ، فَإِذَا سَلَكُوا طَرِيقَكُمْ غَرَّقْتُهُمْ؛ فَلَمَّا نَظَرَ فِرْعَوْنُ إِلَى الْبَحْرِ قَالَ‏:‏ أَلَا تَرَوْنَ الْبَحْرَ فَرَقَ مِنِّي حَتَّى تَفَتَّحَ لِي، حَتَّى أُدْرِكَ أَعْدَائِي فَأَقْتُلَهُمْ؛ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى أَفْوَاهِ الطُّرُقِ وَهُوَ عَلَى حِصَانٍ، فَرَأَى الْحِصَانُ الْبَحْرَ فِيهِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ هَابَ وَخَافَ، وَقَالَ فِرْعَوْنُ‏:‏ أَنَا رَاجِعٌ، فَمَكَرَ بِهِ جِبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى، فَأَدْنَاهَا مِنْ حِصَانِ فِرْعَوْنَ، فَطَفِقَ فَرَسُهُ لَا يَقَرُّ، وَجَعَلَ جِبْرَائِيلُ يَقُولُ‏:‏ تَقَدَّمْ، وَيَقُولُ‏:‏ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقُّ بِالطَّرِيقِ مِنْكَ، فَتَشَامَّتِ الْحُصُنُ الْمَاذِيَانَةَ، فَمَا مَلَكَ فِرْعَوْنُ فَرَسَهُ أَنْ وَلَجَ عَلَى أَثَرِهِ؛ فَلَمَّا انْتَهَى فِرْعَوْنُ إِلَى وَسَطِ الْبَحْرِ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ‏:‏ خُذْ عَبْدِيَ الظَّالِمَ وَعِبَادِيَ الظَّلَمَةَ، سُلْطَانِي فِيكَ، فَإِنِّي قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَيْهِمْ، قَالَ‏:‏ فَتَغَطْمَطَتْ تِلْكَ الْفِرَقُ مِنَ الْأَمْوَاجِ كَأَنَّهَا الْجِبَالُ، وَضَرَبَ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ‏{‏قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ وَكَانَ جِبْرَائِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْأَسَفِ عَلَيْهِ لِمَا رَدَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَلِطُولِ عِلَاجِ مُوسَى إِيَّاهُ، فَدَخَلَ فِي أَسْفَلِ الْبَحْرِ، فَأَخْرَجَ طِينًا، فَحَشَاهُ فِي فَمِ فِرْعَوْنَ لِكَيْلَا يَقُولَهَا الثَّانِيَةَ، فَتُدْرِكُهُ الرَّحْمَةُ، قَالَ‏:‏ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِيكَائِيلَ يُعَيِّرُهُ‏:‏ ‏{‏آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ وَقَالَ جِبْرَائِيلُ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ مَا أَبْغَضْتُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ إِبْلِيسُ، وَالْآخَرُ فِرْعَوْنُ ‏{‏فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏‏:‏ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَا مُحَمَّدُ، وَأَنَا أَحْشُو فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةً يَرْحَمُهُ اللَّهُ بِهَا‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ‏}‏ وَجَمَعْنَا، قَالَ‏:‏ وَمِنْهُ لَيْلَةُ الْمُزْدَلِفَةِ، قَالَ‏:‏ وَمَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهَا لَيْلَةُ جَمْعٍ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ‏:‏ وَأَهْلَكْنَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى مِمَّا أَتْبَعْنَا بِهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مِنَ الْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ وَمَنْ مَعَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَجْمَعِينَ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مِنَ الْقِبْطِ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْجَيْنَا مُوسَى مِنْهُ وَمَنْ مَعَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ فِيمَا فَعَلْتُ بِفِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ، تَغْرِيقِي إِيَّاهُمْ فِي الْبَحْرِ إِذْ كَذَّبُوا رَسُولِي مُوسَى، وَخَالَفُوا أَمْرِي بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، وَالْإِنْذَارِ لَدَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّتِي فِيمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ تَكْذِيبِ رُسُلِي، وَعِظَةٌ لَهُمْ وَعِبْرَةٌ أَنِ ادَّكَرُوا وَاعْتَبَرُوا أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ فِعْلِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِكَ مَعَ الْبُرْهَانِ وَالْآيَاتِ الَّتِي قَدْ أَتَيْتَهُمْ، فَيَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ نَظِيرَ مَا حَلَّ بِهِمْ، وَلَكَ آيَةٌ فِي فِعْلِي بِمُوسَى، وَتَنْجِيَتِي إِيَّاهُ بَعْدَ طُولِ عِلَاجِهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مِنْهُ، وَإِظْهَارِي إِيَّاهُ وَتَوْرِيثَهُ وَقَوْمَهُ دُورَهُمْ وَأَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، عَلَى أَنِّي سَالِكٌ فِيكَ سَبِيلَهُ، إِنْ أَنْتَ صَبَرْتَ صَبْرَهُ، وَقُمْتَ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَى مَنْ أَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِ قِيَامَهُ، وَمُظْهِرُكَ عَلَى مُكَذِّبِيكَ، وَمُعْلِيكَ عَلَيْهِمْ‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَا كَانَ أَكْثَرُ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ مُؤْمِنِينَ بِمَا أَتَاكَ اللَّهُ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، فَسَابِقٌ فِي عِلْمِي أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ‏}‏ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، ‏(‏الرَّحِيمُ‏)‏ بِمَنْ أَنْجَى مِنْ رُسُلِهِ، وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ وَالْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَ بِهِ الْكَفَرَةَ‏.‏