فصل: تفسير الآية رقم (104)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏}‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ تَأْوِيلُهُ‏:‏ لَا تَقُولُوا خِلَافًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏}‏، قَالَ‏:‏ لَا تَقُولُوا خِلَافًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏}‏، لَا تَقُولُوا خِلَافًا‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ تَأْوِيلُهُ‏:‏ أَرْعِنَا سَمْعَكَ‏.‏ أَيِ‏:‏ اسْمَعْ مِنَّا وَنَسْمَعُ مِنْكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏رَاعَنَا‏)‏، أَيْ‏:‏ أَرْعِنَا سَمْعَكَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏}‏، لَا تَقُولُوا اسْمَعْ مِنَّا وَنَسْمَعُ مِنْكَ‏.‏

وَحُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عَبِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضِّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏، قَالَ‏:‏ كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ‏:‏ أَرْعِني سَمْعَكَ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيالسَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ كَلِمَةٌ كَانَتِ الْيَهُودُ تَقَولُهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالْمَسَبَّةِ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏}‏ قَوْلٌ كَانَتْ تَقَوُّلَهُ الْيَهُودُ اسْتِهْزَاءً، فَزَجَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا كَقَوْلِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ‏:‏ ‏{‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ يَقُولُونَ أَرْعِنَا سَمْعَكَ‏!‏ حَتَّى قَالَهَا أُنَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏:‏ فَكَرِهَ اللَّهُ لَهُمْ مَا قَالَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏}‏، كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا يَقُولُونَ‏:‏ رَاعِنَا سَمْعَكَ‏!‏ فَكَانَ الْيَهُودُ يَأْتُونَ فَيَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ مُسْتَهْزِئِينَ، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا‏}‏‏.‏

وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏)‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ رَاعِنَا سَمْعَكَ‏!‏ وَإِنَّمَا ‏"‏رَاعِنَا‏"‏ كَقَوْلِكَ، عَاطِنَا‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا‏}‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الْقَوْمُ، قَالُوا‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 46‏]‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏قَالَ‏:‏ هَذَا الرَّاعِنُ‏)‏- وَالرَّاعِنُ‏:‏ الْخَطَّاءُ- قَالَ‏:‏ فَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏:‏ لَا تَقُولُوا خَطَّاءٌ، كَمَا قَالَ الْقَوْمُ، وَقُولُوا‏:‏ انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا‏.‏ قَالَ‏:‏ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُكَلِّمُونَهُ، وَيَسْمَعُ مِنْهُمْ، وَيَسْأَلُونَهُ وَيُجِيبُهُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ هِيَ كَلِمَةٌ كَانَتِ الْأَنْصَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَقُولُهَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَقُولُوهَا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏)‏، قَالَ‏:‏ كَانَتْ لُغَةً فِي الْأَنْصَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏(‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏)‏ وَلَكِنْ قُولُوا انْظُرْنَا‏)‏ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏)‏، قَالَ‏:‏ كَانَتْ لُغَةً فِي الْأَنْصَارِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏)‏، قَالَ‏:‏ إِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا إِذَا حَدَّثَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ لِصَاحِبِهِ‏:‏ أَرْعِنِي سَمْعَكَ‏!‏ فَنُهُوْا عَنْ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏‏:‏ قَوْلُ السَّاخِرِ‏.‏ فَنَهَاهُمْ أَنْ يَسْخَرُوا مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهمْ‏:‏ بَلْ كَانَ ذَلِكَ كَلَامُ يَهُودِيٍّ مِنَ الْيَهُودِ بِعَيْنِهِ، يُقَالُ لَهُ‏:‏ رَفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ، كَانَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ عَلَى وَجْهِ السَّبِّ لَهُ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْهُ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قِيلِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا‏}‏، كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ- مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو قَيْنُقَاعَ- كَانَ يُدْعَى رَفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ السَّائِبِ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ هَذَا خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ ابْنُ التَّابُوتِ، لَيْسَ ابْنَ السَّائِبِ- كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا لَقِيَهُ فَكَلَّمَهُ قَالَ‏:‏ أَرْعِنِي سَمْعَكَ، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَتْ تُفَخَّمُ بِهَذَا، فَكَانَ نَاسٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ ‏(‏اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ‏)‏، كَقَوْلِكَ اسْمَعْ غَيْرَ صَاغِرٍ، وَهِيَ الَّتِي فِي النِّسَاءِ ‏{‏مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 46‏]‏، يَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ طَعْنًا فِي الدِّينِ‏.‏ ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي نَهْيِ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا لِنَبِيِّهِ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهَا كَلِمَةٌ كَرِهَهَا اللَّهُ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوهَا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَظِيرَ الَّذِي ذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «لَا تَقُولُوا لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ، وَلَكِنْ قُولُوا‏:‏ الْحَبَلَةُ، ولَا تَقُولُوا‏:‏ عَبْدِي، وَلَكِنْ قُولُوا‏:‏ فَتَايَ»‏.‏

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَكُونَانِ مُسْتَعْمَلَتَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَتَأْتِي الْكَرَاهَةُ أَوِ النَّهْيُ بِاسْتِعْمَالِ إِحْدَاهُمَا، وَاخْتِيَارِ الْأُخْرَى عَلَيْهَا فِي الْمُخَاطَبَاتِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَامَعْنَى نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ‏"‏الْعِنَبِ‏"‏ أَنْ يُقَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏كَرْمٌ‏)‏، وَفِي ‏"‏الْعَبْدِ‏"‏ أَنْ يُقَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏عَبْدٌ‏)‏، فَمَا الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏ حِينَئِذٍ، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ النَّهْيُ مِنَ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَقُولُوهُ، حَتَّى أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤْثِرُوا قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏انْظُرْنَا‏)‏‏؟‏

قِيلَ‏:‏ الَّذِي فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، نَظِيرُ الَّذِي فِي قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏الْكَرَمُ‏)‏ لِلْعِنَبِ، و‏"‏الْعَبْدُ‏"‏ لِلْمَمْلُوكِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏عَبْدِي‏)‏ لِجَمِيعِ عِبَادِ اللَّهِ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُضَافَ بَعْضُ عِبَادِ اللَّهِ- بِمَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ- إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُضَافَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، بِغَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي يُضَافُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُقَالُ‏:‏ ‏(‏فَتَايَ‏)‏‏.‏ وَكَذَلِكَ وَجْهُ نَهْيِهِ فِي ‏"‏الْعِنَبِ‏"‏ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏(‏كَرْمٌ‏)‏ خَوْفًا مِنْ تَوَهُّمِ وَصْفِهِ بِالْكَرَمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسَكَّنَةً، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُسَكِّنُ بَعْضَ الْحَرَكَاتِ إِذَا تَتَابَعَتْ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ؛ فَكَرِهَ أَنْ يَتَّصِفَ بِذَلِكَ الْعِنَبُ، فَكَذَلِكَ نَهَى اللَّهُ-عَزَّ وَجَلَّ- الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏؛ لَمَّا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى احْفَظْنَا وَنَحْفَظُكُ، وَارْقُبْنَا وَنَرْقُبُكَ‏.‏ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ‏:‏ ‏(‏رَعَاكَ اللَّهُ‏)‏‏:‏ بِمَعْنَى حَفِظَكَ اللَّهُ وَكَلَأَكَ- وَمُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى‏:‏ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏(‏أَرْعَيْتُ سَمْعِي إِرْعَاءً- أَوْ رَاعَيْتُهُ- سَمْعِي رِعَاءً أَوْ مُرَاعَاةً‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ فَرَّغْتُهُ لِسَمَاعِ كَلَامِهِ‏.‏ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ‏:‏

يُـرْعِي إِلَـى قَـوْلِ سَادَاتِ الرِّجَالِ إِذَا *** أَبْـدَوْا لَـهُ الْحَـزْمَ أَوْ مَا شَاءَهُ ابْتَدَعَا

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏يَرْعِي‏)‏ يُصْغِي بِسَمْعِهِ إِلَيْهِ مُفْرِغَهُ لِذَلِكَ‏.‏

وَكَانَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- قَدْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَوْقِيرِ نَبِيِّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَعْظِيمِهِ، حَتَّى نَهَاهُمْ-جَلَّ ذِكْرُهُ- فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ عَنْ رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فَوْقَ صَوْتِهِ، وَأَنْ يَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَخَوْفِهِمْ عَلَى ذَلِكَ حُبُوطَ أَعْمَالِهِمْ‏.‏ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالزَّجْرِ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا لَهُ مِنَ الْقَوْلِ مَا فِيهِ جَفَاءٌ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَخَيَّرُوا لِخِطَابِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ أَحْسَنَهَا، وَمِنِ الْمَعَانِي أَرَقَّهَا‏.‏ فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏ لِمَا فِيهِ مِنَ احْتِمَالِ مَعْنَى‏:‏ ارْعَنَا نَرْعَاكَ، إِذْ كَانَتِ الْمُفَاعَلَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ اثْنَيْنِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِل‏:‏ ‏(‏عَاطِنَا، وَحَادِثْنَا، وَجَالِسْنَا‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ افْعَلْ بِنَا وَنَفْعَلُ بِكَ- وَمَعْنَى‏:‏ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، حَتَّى نَفْهَمَكَ وَتَفْهَمَ عَنَّا، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَأَنْ يُفْرِدُوا مَسْأَلَتَهُ بِانْتِظَارِهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ، لِيَعْقِلُوا عَنْهُ بِتَبْجِيلٍ مِنْهُمْ لَهُ وَتَعْظِيمٍ، وَأَنْ لَا يَسْأَلُوهُ مَا سَأَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْجَفَاءِ وَالتَّجَهُّمِ مِنْهُمْ لَهُ، وَلَا بِالْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ، تَشَبُّهًا مِنْهُمْ بِالْيَهُودِ فِي خِطَابِهِمْ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِهِمْ لَهُ‏:‏ ‏{‏اسْمَعْ غَيْرَ مَسْمَعٍ وَرَاعِنَا‏}‏‏.‏

يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَـزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏، فَدَلَّ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي عَاتَبَهُمْ عَلَيْهِ، مِمَّا يَسُرُّ الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ‏.‏

فَأَمَّا التَّأْوِيلُ الَّذِي حُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏ أَنَّهُ بِمَعْنَى‏:‏ خِلَافًا، فَمِمَّا لَا يُعْقَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ ‏"‏رَاعَيْتُ‏"‏ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى ‏"‏فَاعَلْتُ‏"‏ مِنْ ‏"‏الرِّعْيَةِ‏"‏ وَهِيَ الرِّقْبَةُ والكَلَاءَةُ‏.‏ وَالْآخَرُ بِمَعْنَى إِفْرَاغُ السَّمْعِ، بِمَعْنَى ‏"‏أَرَعَيْتُهُ سَمْعِي‏"‏‏.‏ وَأَمَّا‏"‏رَاعَيْتُ‏"‏ بِمَعْنَى ‏"‏خَالَفَتْ‏"‏، فَلَا وَجْهَ لَهُ مَفْهُومٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَرَأَ ذَلِكَ بِالتَّنْوِينِ، ثُمَّ وَجَّهَهُ إِلَى مَعْنَى الرُّعُونَةِ وَالْجَهْلِ وَالْخَطَأِ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَالَ فِي ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، فَيَكُونُ لِذَلِكَ- وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا قِرَاءَةَ الْقُرَّاءِ- مَعْنًى مَفْهُومٌ حِينَئِذٍ‏.‏

وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ الَّذِي حُكِيَ عَنْ عَطِيَّةَ وَمَنْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ‏:‏ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏ كَانَتْ كَلِمَةً لِلْيَهُودِ بِمَعْنَى السَّبِّ وَالسُّخْرِيَةِ، فَاسْتَعْمَلَهَا الْمُؤْمِنُونَ أَخْذًا مِنْهُمْ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ كَلَامًا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ، ثُمَّ يَسْتَعْمِلُونَهُ بَيْنَهُمْ وَفِي خِطَابِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ كَلِمَةٌ صَحِيحَةٌ مَفْهُومَةٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَافَقَتْ كَلِمَةً مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، هِيَ عِنْدَ الْيَهُودِ سَبٌّ، وَهِيَ عِنْدَ الْعَرَبِ‏:‏ أَرْعِنِي سَمْعَكَ وَفَرِّغْهُ لِتَفَهَمَ عَنِّي، فَعَلِمَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- مَعْنَى الْيَهُودِ فِي قَيْلِهِمْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ مَعْنَاهَا مِنْهُمْ خِلَافُ مَعْنَاهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَنَهَى اللَّهُ-عَزَّ وَجَلَّ- الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قِيلِهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِئَلَّا يَجْتَرِئَ مَنْ كَانَ مَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَعْنَى الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ، أَنْ يُخَاطِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ‏.‏ وَهَذَا تَأْوِيلٌ لَمْ يَأْتِ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ، مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ‏.‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا وَصَفْنَا، إِذْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرُ الْمَفْهُومُ بِالْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ‏.‏

وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ‏:‏ ‏(‏لَا تَقُولُوا رَاعِنًا‏)‏ بِالتَّنْوِينِ، بِمَعْنَى‏:‏ لَا تَقُولُوا قَوْلًا ‏"‏رَاعِنًا‏"‏، مِنَ ‏"‏الرُّعُونَةِ‏"‏ وَهِيَ الْحُمْقُ وَالْجَهْلُ‏.‏ وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ لِقُرَّاءِ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفَةٌ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ الْقِرَاءَةُ بِهَا لِشُذُوذِهَا وَخُرُوجِهَا مِنْ قِرَاءَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَخِلَافِهَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْحُجَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَمِنْ نَوَّنَ ‏"‏رَاعِنًا‏"‏ نَوَّنَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَا تَقُولُوا‏)‏، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عَامِلٌ فِيهِ‏.‏ وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْهُ فَإِنَّهُ تَرَكَ تَنْوِينَهُ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَحْكِيٌّ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏، بِمَعْنَى مَسْأَلَتِهِ‏:‏ إِمَّا أَنْ يُرْعِيَهُمْ سَمْعَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَرْعَاهُمْ وَيَرْقُبَهُمْ- عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا قَدْ مَضَى- فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ لَا تَقُولُوا فِي مَسْأَلَتِكُمْ إِيَّاهُ ‏"‏رَاعِنَا‏"‏‏.‏ فَتَكُونُ الدِّلَالَةُ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ فِي‏"‏رَاعِنَا‏"‏ حِينَئِذٍ سُقُوطَ الْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ فِي ‏"‏يُرَاعِيه‏"‏ وَيَدُلُّ عَلَيْهَا- أَعْنِي عَلَى ‏"‏اليَاءِ‏"‏ السَّاقِطَةِ – كَسْرَةُ ‏"‏الْعَيْنِ‏"‏ مَنْ ‏"‏رَاعِنَا‏"‏‏.‏

وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏لَا تَقُولُوا رَاعَوْنَا‏)‏، بِمَعْنَى حِكَايَةِ أَمْرٍ صَالِحَةٍ لِجَمَاعَةٍ بِمُرَاعَاتِهِمْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَتِهِ صَحِيحًا، وُجِّهَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ كَأَنَّهُمْ نُهُوْا عَنْ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ فِي خِطَابِ بَعْضِهمْ بَعْضًا، كَانَ خِطَابُهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِغَيْرِهِ‏.‏ وَلَا نَعْلَمُ ذَلِكَ صَحِيحًا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي تَصِحُّ مِنْهُ الْأَخْبَارُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏وَقُولُوا انْظُرْنَا‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏وَقُولُوا انْظُرْنَا‏)‏، وَقُولُوا يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ انْظُرْنَا وَارْقُبْنَا، نَفْهَمْ وَنَتَبَيَّنْ مَا تَقُولُ لَنَا، وَتُعَلِّمُنَا، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏وَقُولُوا انْظُرْنَا‏)‏ فَهِّمْنَا، بَيَّنْ لَنَا يَا مُحَمَّدُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏وَقُولُوا انْظُرْنَا‏)‏ فَهِّمْنَا، بَيَّنْ لَنَا يَا مُحَمَّدُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏نَظَرَتُ الرَّجُلَ أَنْظُرْهُ نَظْرَةً‏)‏ بِمَعْنَى انْتَظَرَتْهُ وَرَقَبْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ‏:‏

وَقَـدْ نَظَـرْتُكُمُ أَعْشَـاءَ صَـادِرَةٍ *** لِلْخِـمْسِ، طَـالَ بِهَا حَوْزِي وتَنْسَاسِي

وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحَدِيدِ‏:‏ 13‏]‏، يَعْنِي بِهِ‏:‏ انْتَظَرُونَا‏.‏

وَقَدْ قُرِئَ‏:‏ ‏"‏أَنْظِرْنَا‏"‏ وَ‏"‏أَنِظْرُونَا‏"‏ بِقَطْعِ ‏"‏الْأَلْفِ‏"‏ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا فَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَرَادَ‏:‏ أَخِّرْنَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ ص‏:‏ 79‏]‏، أَيْ أَخِّرْنِي‏.‏ وَلَا وَجْهَ لِقِرَاءَةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أُمِرُوا بِالدُّنُوِّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهُ، وَإِلْطَافِ الْخِطَابِ لَهُ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ- لَا بِالتَّأَخُّرِ عَنْهُ، وَلَا بِمَسْأَلَتِهِ تَأْخِيَرهُمْ عَنْهُ‏.‏ فَالصَّوَابُ- إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ- مِنَ الْقِرَاءَةِ قِرَاءَةُ مَنْ وَصَلَ الْأَلْفَ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏انْظُرْنَا‏)‏، وَلَمْ يَقْطَعْهَا بِمَعْنَى‏:‏ انْتَظَرْنَا‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى ‏(‏أَنْظِرْنَا‏)‏ بِقِطَعِ الْأَلْفِ بِمَعْنَى‏:‏ أَمْهِلْنَا‏.‏ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ سَمَاعًا‏:‏ ‏(‏أَنْظِرْنِي أُكَلِّمْكَ‏)‏، وَذَكَرَ سَامِعُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ اسْتَثْبَتَهُ فِي مَعْنَاهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَمْهِلْنِي، فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ صَحِيحًا عَنْهُمْ ‏"‏فانْظُرْنَا‏"‏ و‏"‏أَنْظِرْنَا‏"‏- بِقَطْعِ ‏"‏الأَلْفِ‏"‏ وَوَصْلِهَا- مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي لَا أَسْتُجِيزُ غَيْرَهَا، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏وَقُولُوا انْظُرْنَا‏)‏، بِوَصْلِ ‏"‏الْأَلْفِ‏"‏ بِمَعْنَى‏:‏ انْتَظِرْنَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى تَصْوِيبِهَا، وَرَفْضِهِمْ غَيْرَهَا مِنَ القراءاتِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏وَاسْمَعُوا‏)‏، وَاسْمَعُوا مَا يُقَالُ لَكُمْ وَيُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّكُمْ، وَعُوهُ وَافْهَمُوهُ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏وَاسْمَعُوا‏)‏، اسْمَعُوا مَا يُقَالُ لَكُمْ‏.‏

فَمَعْنَى الْآيَةِ إذًا‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا لِنَبِيِّكُمْ‏:‏ رَاعِنَا سَمْعَكَ وَفَرَّغْهُ لَنَا نَفْهَمْكَ وَتَفْهَمْ عَنَّا مَا نَقُولُ، وَلَكِنْ قُولُوا‏:‏ انْتَظِرْنَا وَتَرَقَّبْنَا حَتَّى نَفْهَمَ عَنْكَ مَا تُعَلِّمُنَا وَتُبَيِّنُهُ لَنَا‏.‏ وَاسْمَعُوا مِنْهُ مَا يَقُولُ لَكُمْ، فَعُوهُ وَاحْفَظُوهُ وَافْهَمُوهُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّ لِمَنْ جَحَدَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ آيَاتِهِ، وَخَالَفَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَكَذَّبَ رَسُولَهُ، الْعَذَابَ الْمُوجِعَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ‏:‏ وَلِلْكَافِرِينَ بِي وَبِرَسُولِي عَذَابٌ أَلِيمٌ‏.‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏الْأَلِيمُ‏)‏، الْمُوجِعُ‏.‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا الدِّلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْآثَارِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَا يَوَدُّ‏)‏، مَا يُحِبُّ، أَيْ‏:‏ لَيْسَ يُحِبُّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏وَدَّ فُلَانٌ كَذَا يَوَدُّهُ وُدًّا وَوِدًّا وَمَوَدَّةً‏)‏‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏الْمُشْرِكِينَ‏"‏ فَإِنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْعَطْفِ عَلَى‏"‏أَهْلِ الْكِتَابِ‏"‏‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ مَا يُحِبُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ‏.‏

وَأَمَّا ‏(‏أَنْ‏)‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَنْ يُنَـزِّلَ‏)‏ فَنُصِبَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏يَوَدُّ‏)‏‏.‏ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وَجْهِ دُخُولِ ‏"‏مِنْ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مِنْ خَيْرٍ‏)‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَكُونُ فِي أَوَّلِهِ جَحْدٌ، فِيمَا مَضَى، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ مَا يُحِبُّ الْكَافِرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، أَنْ يُنَـزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ اللَّهِ فَنَـزَّلَهُ عَلَيْكُمْ‏.‏ فَتَمَنَّى الْمُشْرِكُونَ وَكَفَرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ لَا يُنْـزِّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْفَرْقَانَ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِكَمِهِ وَآيَاتِهِ، وَإِنَّمَا أَحَبَّتِ الْيَهُودُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ، حَسَدًا وَبَغْيًا مِنْهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دِلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَقَبُولِ شَيْءٍ مِمَّا يَأْتُونَهُمْ بِهِ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ لَهُمْ مِنْهُمْ، بِإِطْلَاعِهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- إِيَّاهُمْ عَلَى مَا يَسْتَبْطِنُهُ لَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ مِنَ الضِّغَنِ وَالْحَسَدِ، وَإِنْ أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ خِلَافَ مَا هُمْ مُسْتَبْطِنَونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ‏}‏‏:‏ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ مَنْ يَشَاءُ بِنَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، فَيُرْسِلُهُ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مَنْ خَلَقَهُ، فَيَتَفَضَّلُ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَنْ أَحَبَّ فَيَهْدِيهِ لَهُ‏.‏ وَ‏"‏اخْتِصَاصُهُ‏"‏ إِيَّاهُمْ بِهَا، إِفْرَادُهُمْ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ رِسَالَتَهُ إِلَى مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ خَلْقِهِ، وَهِدَايَتَهُ مَنْ هَدَى مِنْ عِبَادِهِ، رَحْمَةً مِنْهُ لَهُ لِيُصَيِّرَهُ بِهَا إِلَى رِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَفَوْزِهِ بِهَا بِالْجَنَّةِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ بِهَا ثَنَاءَهُ‏.‏ وَكُلُّ ذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَنْ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ نَالَهُ عِبَادُهُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَإِنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ ابْتِدَاءً وَتَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏، تَعْرِيضٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ‏:‏ أَنَّ الَّذِي آتَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ، تَفَضُّلٌ مِنْهُ، وَأَنَّ نِعَمَهُ لَا تُدْرَكُ بِالْأَمَانِيِّ، وَلَكِنَّهَا مَوَاهِبُ مِنْهُ يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مَنْ خَلْقِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏ مَا نَنْقُلْ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ، إِلَى غَيْرِهِ فَنُبَدِّلْهُ وَنُغَيِّرْهُ، وَذَلِكَ أَنْ يُحَوَّلَ الْحَلَالَ حَرَامًا، وَالْحَرَامَ حَلَّالًا وَالْمُبَاحَ مَحْظُورًا، وَالْمَحْظُورَ مُبَاحًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ، وَالْمَنْعِ وَالْإِبَاحَةِ‏.‏ فَأَمَّا الْأَخْبَارُ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏النَّسْخِ‏"‏ مِنْ ‏"‏نَسْخِ الْكِتَابِ‏"‏، وَهُوَ نَقْلُهُ مِنْ نُسْخَةٍ إِلَى أُخْرَى غَيْرِهَا‏.‏ فَكَذَلِكَمَعْنَى ‏"‏نَسْخِ‏"‏ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، إِنَّمَا هُوَ تَحْوِيلُهُ وَنَقْلُ عِبَارَتِهِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَمَعْنَى نَسْخِ الْآيَةِ، فَسَوَاءٌ- إِذَا نُسِخَ حَكَمُهَا فَغُيِّرَ وَبُدِّلَ فَرْضُهَا، وَنُقِلَ فَرْضُ الْعِبَادُ عَنِ اللَّازِمِ كَانَ لَهُمْ بِهَا- أَأُقِرَّ خَطُّهَا فَتُرِكَ، أَوْ مُحِيَ أَثَرُهَا، فَعُفِّيَ وَنُسِيَ؛ إِذْ هِيَ حِينَئِذٍ فِي كِلْتَا حَالَتَيْهَا مَنْسُوخَةٌ، وَالْحُكْمُ الْحَادِثُ الْمُبْدَلُ بِهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ، وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ فَرْضُ الْعِبَادِ، هُوَ النَّاسِخُ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ نَسَخَ اللَّهُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا يَنْسَخُهُ نَسْخًا، وَ ‏"‏النُّسْخَةُ‏"‏‏:‏ الِاسْمُ‏.‏ وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ‏:‏

حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ إِنْ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقْرِئُ قُرْآنًا، ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا، وَمِنِ الْقُرْآنِ مَا قَدْ نُسِخَ وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏، أَمَّا نَسْخُهَا، فَقَبْضُهَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْله‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مَا نُبَدِّلْ مِنْ آيَةٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏، نُثْبِتْ خَطَّهَا، ‏[‏وَنُبَدِّلْ حُكْمَهَا‏]‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏، نُثْبِتْ خَطَّهَا، وَنُبَدِّلْ حُكْمَهَا‏.‏ حُدِّثْتُ بِهِ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ شَوْذَبٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏ نُثْبِتْ خَطَّهَا، ‏[‏وَنُبَدِّلْ حُكْمَهَا‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنْسِهَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ؛ فَقَرَأَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنْسِهَا‏}‏‏.‏ وَلِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ‏:‏

أَحَدُهمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيله‏:‏ مَا نَنْسَخْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ آيَةٍ فَنُغَيِّرْ حُكْمَهَا أَوْ نُنْسِهَا‏.‏ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏مَا نُنْسِكَ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَخْهَا نَجِئْ بِمِثْلِهَا‏}‏، فَذَلِكَ تَأْوِيلُ‏:‏ ‏(‏النِّسْيَانِ‏)‏‏.‏ وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏، كَانَ يُنْسَخُ الْآيَةُ بِالْآيَةِ بَعْدَهَا، وَيَقْرَأُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تُنْسَى وَتُرْفَعُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يُنْسِي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ، وَيَنْسَخُ مَا شَاءَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ كَانَ عَبِيدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏نُنْسِهَا‏}‏، نَرْفَعْهَا مِنْ عِنْدِكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنْسِهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقْرِئَ قُرْآنًا، ثُمَّ نَسِيَهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ يَتَأَوَّلُ الْآيَةَ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا‏:‏ ‏{‏أَوْ تَنْسَهَا‏}‏ بِمَعْنَى الْخِطَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ عَنَى أَوْ تَنْسَهَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ ذِكْرُ الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنِ الْقَاسِمِ ‏[‏بْنِ رَبِيعَةَ‏]‏ قَالَ، سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَاصٍّ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ تَنْسَهَا‏}‏، قُلْتُ لَهُ‏:‏ فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقْرَؤُهَا‏:‏ ‏{‏أَوْ تُنْسَهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ فَقَالَ سَعْدٌ‏:‏ إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْـزِلْ عَلَى الْمُسَيَّبِ وَلَا عَلَى آلِ الْمُسَيَّبِ‏!‏ قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى‏}‏ ‏[‏الْأَعْلَى‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْكَهْفِ‏:‏ 24‏]‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قَانِفٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي وَقَاصٍّ يَذْكُرُ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى وَآدَمُ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَا جَمِيعًا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ قَالَ، سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ رَبِيعَةَ الثَّقَفِيَّ يَقُولُ‏:‏ قُلْتُ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ‏:‏ إِنِّي سَمِعْتُ ابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقْرَأُ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ تُنْسَهَا‏}‏ فَقَالَ سَعْدٌ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْـزِلِ الْقُرْآنَ عَلَى الْمُسَيَّبِ وَلَا عَلَى ابْنِهِ‏!‏ إِنَّمَا هِيَ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ تَنْسَهَا‏}‏ يَا مُحَمَّدُ‏.‏ ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى‏}‏ وَ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏نُنْسِهَا‏)‏‏:‏ نَرْفَعْهَا‏.‏ وَكَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْـزَلَ أُمُورًا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ رَفَعَهَا‏.‏

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْهُمَا، أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى ‏"‏التَّرْكِ‏"‏، مِنْ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 67‏]‏، يَعْنِي بِهِ‏:‏ تَرَكُوا اللَّهَ فَتَرَكَهُمْ‏.‏ فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ حِينَئِذٍ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ‏:‏ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ فَنُغَيِّرْ حُكْمَهَا وَنُبَدِّلْ فَرْضَهَا، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنَ الَّتِي نَسَخْنَاهَا أَوْ مَثَلِهَا‏.‏ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَأَوَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ نَنْسَهَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَوْ نَتْرُكْهَا لَا نُبَدِّلْهَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْله‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنْسِهَا‏}‏، نَتْرُكْهَا لَا نَنْسَخُهَا‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضِّحَاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏نُنْسِهَا‏}‏، نَمْحُهَا‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ‏:‏ ‏{‏أَوْ نَنْسَأْهَا‏}‏ بِفَتْحِ النُّونِ وَهَمْزَة بَعْدَ السِّينِ، بِمَعْنَى نُؤَخِّرُهَا، مِنْ قَوْلِك‏:‏ ‏(‏نَسَأْتُ هَذَا الْأَمْرَ أَنْسَؤُهُ نَسَأً وَنَسَاءً‏)‏، إِذَا أَخَّرْتُهُ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ بِعْتُهُ بِنَسَاءٍ، يَعْنِي بِتَأْخِيرٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ‏:‏

لَعَمْـرُكَ إِنَّ الْمَـوْتَ مَـا أَنْسَـأَ الْفَتَى *** لَكِـالطِّوَلِ الْمُرْخَـى وَثِنْيَـاهُ بِـالْيَدِ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَنْسَأَ‏)‏، أَخَّرَ‏.‏

وَمِمَّنْ قَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ، وَقَرَأَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ، وَتَأَوَّلَهُ كَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَا حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ نُؤَخِّرْهَا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏أَوْ نَنَسْأَهْا‏)‏، قَالَ‏:‏ نُرْجِئْهَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏أَوْ نَنَسْأَهْا‏}‏، نُرْجِئْهَا وَنُؤَخِّرْهَا‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ‏:‏ ‏{‏أَوْ نَنْسَأْهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ نُؤَخِّرْهَا فَلَا نَنْسَخْهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ عُبَيْدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ‏{‏أَوْ نَنْسَأْهَا‏}‏، إِرْجَاؤُهَا وَتَأْخِيرُهَا‏.‏

هَكَذَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، ‏"‏عَنْ عُبَيْدٍ الْأَزْدِيِّ‏"‏، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ ‏"‏ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا‏:‏ ‏{‏نَنْسَأْهَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏:‏ مَا نُبَدِّلْ مِنْ آيَةٍ أَنْـزَلْنَاها إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، فَنُبْطِلْ حُكْمَهَا وَنُثْبِتْ خَطَّهَا، أَوْ نُؤَخِّرْهَا فَنُرْجِئْهَا وَنُقِرَّهَا فَلَا نُغَيِّرْهَا وَلَا نُبْطِلْ حُكْمَهَا، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مَثَلِهَا‏.‏

وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ تُنْسَهَا‏}‏‏.‏ وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْقِرَاءَة نَظِيرُ تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنْسِهَا‏}‏، إِلَّا أَنَّ مَعْنَى ‏{‏أَوْ تُنْسَهَا‏}‏، أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ‏.‏

وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏{‏مَا نُنْسِخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏، بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ، بِمَعْنَى‏:‏ مَا نَنْسَخُكَ يَا مُحَمَّدُ نَحْنُ مِنْ آيَةٍ – مِنْ ‏"‏أَنْسَخْتُكَ فَأَنَا أَنَسْخُكَ‏"‏‏.‏ وَذَلِكَ خَطَأٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا، لِخُرُوجِهِ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الْحُجَّةُ مِنَ الْقَرَأَةِ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ‏.‏ وَكَذَلِكَ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ ‏{‏تُنْسَهَا‏}‏ أَوْ ‏{‏تَنْسَهَا‏}‏ لِشُذُوذِهَا وَخُرُوجِهَا عَنِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْحُجَّةُ مِنْ قُرَّاءِ الْأُمَّةَ‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنْسِهَا‏}‏ بِالصَّوَابِ، مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنْسِهَا‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ نَتْرُكُهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَخْبَرَ نَبِيَّهُ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ مَهْمَا بَدَّلَ حُكْمًا أَوْ غَيَّرَهُ، أَوْ لَمْ يُبَدِّلْهُ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ، فَهُوَ آتِيهِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ بِمِثْلِهِ‏.‏ فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْآيَةِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهَا، أَنْ يَكُونَ- إِذْ قَدَّمَ الْخَبَرَ عَمَّا هُوَ صَانِعٌ إِذَا هُوَ غَيَّرَ وَبَدَّلَ حُكْمَ آيَةٍ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ عَمَّا هُوَ صَانِعٌ، إِذَا هُوَ لَمْ يُبَدِّلْ ذَلِكَ وَلَمْ يُغَيِّرْ، فَالْخَبَرُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَقِيبَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏‏.‏ قَوْلُهُ‏:‏ أَوْ نَتْرُكْ نَسْخَهَا، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْرُوفَ الْجَارِيَ فِي كَلَامِ النَّاسِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتَ، فَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى ‏"‏الإِنْسَاءِ‏"‏ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَمَعْنَى ‏"‏النَّسَّاءِ‏"‏ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ؛ إِذْ كَانَ كُلُّ مَتْرُوكٍ فَمُؤَخَّرٌ عَلَى حَالِ مَا هُوَ مَتْرُوكٌ‏.‏

وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏أَوْ تَنْسَهَا‏}‏، إِذَا عُنِيَ بِهِ النِّسْيَانُ، وَقَالُوا‏:‏ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسِيَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا مِمَّا لَمْ يُنْسَخْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَسِيَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ ذَكَرَهُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَبَعْدُ، فَإِنَّهُ لَوْ نَسِيَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ قَرَءُوهُ وَحَفِظُوهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، بِجَائِزٍ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَنْ يَنْسَوْهُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَفِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 86‏]‏، مَا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يُنْسِ نَبِيَّهُ شَيْئًا مِمَّا آتَاهُ مِنَ الْعِلْمِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا قَوْلٌ يَشْهَدُ عَلَى بُطُولِهِ وَفَسَادِهِ، الْأَخْبَارُ الْمُتَظَاهِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ‏:‏ أَنَّ أُولَئِكَ السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ، قَرَأْنَا بِهِمْ وَفِيهِمْ كِتَابًا‏:‏ ‏(‏بَلَّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا‏)‏‏.‏ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ رُفِعَ‏.‏

وَالَّذِي ذَكَرْنَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ‏:‏ ‏(‏لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ‏)‏‏.‏ ثُمَّ رُفِعَ‏.‏

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَطُولُ بِإِحْصَائِهَا الْكِتَابُ‏.‏

وَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ فِي فِطْرَةِ ذِي عَقْلٍ صَحِيحٍ، وَلَا بِحُجَّةِ خَبَرٍ أَنْ يُنْسِيَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ مَا قَدْ كَانَ أَنْـزَلَهُ إِلَيْهِ‏.‏ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ‏:‏ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏، فَإِنَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ لَا يَذْهَبُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِجَمِيعِهِ، فَلَمْ يَذْهَبْ بِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ إِنَّمَا ذَهَبَ بِمَا لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا نُسِخَ مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ بِالْعِبَادِ إِلَيْهِ‏.‏ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الْأَعْلَى‏:‏ 7‏]‏، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُنْسِي نَبِيَّهُ مِنْهُ مَا شَاءَ، فَالَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ‏.‏

فَأَمَّا نَحْنُ، فَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ طَلَبَ اتِّسَاقِ الْكَلَامِ عَلَى نِظَامٍ فِي الْمَعْنَى، لَا إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ كَانَ أَنْسَى نَبِيَّهُ بَعْضَ مَا نُسِخَ مِنْ وَحْيِهِ إِلَيْهِ وَتَنْـزِيلِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مَثَلِهَا‏}‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَأَرْفَقُ بِكُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مَثَلِهَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ آيَةٌ فِيهَا تَخْفِيفٌ، فِيهَا رَحْمَةٌ، فِيهَا أَمْرٌ، فِيهَا نَهْيٌ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنَ الَّتِي نَسَخْنَاهَا، أَوْ بِخَيْرٍ مِنَ الَّتِي تَرَكْنَاهَا فَلَمْ نَنْسَخْهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا‏)‏، يَقُولُ‏:‏ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنَ الَّتِي نَسَخْنَاهَا، أَوْ مِثْلِهَا، أَوْ مِثْلِ الَّتِي تَرَكْنَاهَا‏.‏

‏"‏فَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ‏"‏ اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مِنْهَا‏)‏- عَائِدَتَانِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ- عَلَى الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏‏.‏ و‏"‏الْهَاءُ وَالْأَلِفُ‏"‏ اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ مِثْلِهَا‏}‏، عَائِدَتَانِ عَلَى ‏"‏الهَاءِ وَالْأَلِفِ‏"‏ اللَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنْسِهَا‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏- حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ كَانَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏نُنْسِهَا‏}‏‏:‏ نَرْفَعْهَا مِنْ عِنْدِكُمْ، نَأْتِ بِمِثْلِهَا أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنْسِهَا‏}‏، نَرْفَعْهَا، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ بِمِثْلِهَا‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ شَوْذَبٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَنَا‏:‏ مَا نُبَدِّلْ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ فَنُغَيِّرْهُ، أَوْ نَتْرُكْ تَبْدِيلَهُ فَنُقِرَّهُ بِحَالِهِ، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ- مَنْ حُكْمِ الْآيَةِ الَّتِي نَسَخْنَا فَغَيَّرْنَا حُكْمَهَا- إِمَّا فِي الْعَاجِلِ لِخِفَّتِهِ عَلَيْكُمْ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وَضْعُ فَرْضٍ كَانَ عَلَيْكُمْ، فَأُسْقِطَ ثِقْلُهُ عَنْكُمْ، وَذَلِكَ كَالَّذِي كَانَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ فَرْضِ قِيَامِ اللَّيْلِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فَوُضِعَ عَنْهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ فِي عَاجَلِهُمْ، لِسُقُوطِ عِبْءِ ذَلِكَ وَثِقْلِ حَمْلِهِ عَنْهُمْ، وَإِمَّا فِي الْآجِلِ لِعِظَمِ ثَوَابِهِ، مِنْ أَجْلِ مَشَقَّةِ حَمْلِهِ، وَثِقْلِ عِبْئِهِ عَلَى الْأَبْدَانِ‏.‏ كَالَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ صِيَامِ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فِي السَّنَةِ، فَنُسِخَ وَفُرِضَ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ صَوْمُ شَهْرٍ كَامِلٍ فِي كُلِّ حَوْلٍ، فَكَانَ فَرْضُ صَوْمِ شَهْرٍ كَامِلٍ كُلَّ سَنَةٍ أَثْقَلَ عَلَى الْأَبْدَانِ مِنْ صِيَامِ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَالثَّوَابُ عَلَيْهِ أَجْزَلُ، وَالْأَجْرُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ؛ لِفَضْلِ مَشَقَّتِهِ عَلَى مُكَلَّفِيهِ مِنْ صَوْمِ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، فَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَبْدَانِ أَشَقَّ، فَهُوَ خَيْرٌ مِنَ الْأَوَّلِ فِي الْآجِلِ لِفَضْلِ ثَوَابِهِ وَعِظَمِ أَجْرِهِ، الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ لِصَوْمِ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا‏}‏؛ لِأَنَّهُ إِمَّا بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْعَاجِلِ لِخِفَّتِهِ عَلَى مَنْ كُلِّفَهُ، أَوْ فِي الْآجِلِ لِعِظَمِ ثَوَابِهِ وَكَثْرَةِ أَجْرِهِ‏.‏

أَوْ يَكُونُ مِثْلَهَا فِي الْمَشَقَّةِ عَلَى الْبَدَنِ وَاسْتِوَاءِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ عَلَيْهِ، نَظِيرَ نَسْخِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَرْضَ الصَّلَاةِ شَطْرَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِلَى فَرْضِهَا شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏.‏ فَالتَّوَجُّهُ شَطْرَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِنْ خَالَفَ التَّوَجُّهَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ، فَكُلْفَةُ التَّوَجُّهِ- شَطْرَ أَيِّهِمَا تَوَجَّهَ شَطْرَهُ – وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَى الْمُتَوَجِّهِ شَطْرَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ مُؤُؤنَةِ تَوَجُّهِهِ شَطْرَهُ، نَظِيرُ الَّذِي عَلَى بَدَنِهِ مُؤْنَةُ تُوَجُّهِهِ شَطْرَ الْكَعْبَةِ، سَوَاءً‏.‏ فَذَلِكَ هُوَمَعْنَى ‏"‏الْمِثْلِ‏"‏ الَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ مِثْلِهَا‏}‏‏.‏

وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا‏}‏‏:‏ مَا نَنْسَخْ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُخَاطِبِينَ بِالْآيَةِ لَمَّا كَانَ مَفْهُومًا عِنْدَهُمْ مَعْنَاهَا، اكْتَفِي بِدِلَالَةِ ذِكْرِ ‏"‏الْآيَةِ‏"‏ مِنْ ذِكْرِ ‏"‏حُكْمِهَا‏"‏، وَذَلِكَ نَظِيرُ سَائِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 93‏]‏، بِمَعْنَى حُبِّ الْعِجْل، وَنَحْوَ ذَلِكَ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًَا‏:‏ مَا نُغَيِّرْ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ فَنُبَدِّلْهُ، أَوْ نَتْرُكْهُ فَلَا نُبَدِّلْهُ، نَأْتِ بِخَيْرٍ لَكُمْ-أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- حَكْمًا مِنْهَا، أَوْ مِثْلَ حَكَمِهَا فِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ وَالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْعِجْلَ لَا يُشْرَبُ فِي الْقُلُوبِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْتَبِسُ عَلَى مَنْ سَمِعَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ‏}‏، أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ وَأَشْرَبُوا فِي قُلُوبِهِمْ حُبُّ الْعِجْلِ، فَمَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا‏}‏- لِذَلِكَ نَظِيرٌ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ الَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مَثَلِهَا‏}‏، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ خَيِّرٌ مِنْ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنِّي قَادِرٌ عَلَى تَعْوِيضِكَ مِمَّا نَسَخْتُ مِنْ أَحْكَامِي، وَغَيَّرَتُهُ مِنْ فَرَائِضِي الَّتِي كُنْتُ افْتَرَضْتُهَا عَلَيْكَ، مَا أَشَاءُ مِمَّا هُوَ خَيْرٌ لَكَ وَلِعِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَعَكَ، وَأَنْفَعُ لَكَ وَلَهُمْ، إِمَّا عَاجِلًا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا آجِلًا فِي الْآخِرَةِ- أَوْ بِأَنْ أُبَدِّلَ لَكَ وَلَهُمْ مَكَانَهُ مِثْلَهُ فِي النَّفْعِ لَهُمْ عَاجِلًا فِي الدُّنْيَا وَآجِلًا فِي الْآخِرَةِ وَشَبِيهَهُ فِي الْخِفَّةِ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ‏؟‏ فَاعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنِّي عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قَدِيرٌ‏)‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ قَوِيٌّ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏قَدْ قَدَرْتَ عَلَى كَذَا وَكَذَا‏)‏، إِذَا قَوِيتَ عَلَيْهِ، ‏"‏أَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَقْدُرُ عَلَيْهِ قُدْرَةً وَقِدْرَانًا وَمَقْدِرَةً‏"‏، وَبَنُو مَرَّةَ مِنْ غطفانَ تَقُولُ‏:‏ ‏(‏قَدِرْتَ عَلَيْهِ‏)‏ بِكَسْرِ الدَّالِّ‏.‏

فَأَمَّا مِنَ ‏"‏التَّقْدِيرِ‏"‏ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏قَدَّرْتُ الشَّيْءَ‏)‏، فَإِنَّهُ يُقَالُ مِنْهُ ‏"‏قَدْرْتُهُ أَقْدِرُهُ قَدْرًا وَقَدَرًا‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ أَوَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، وَأَنَّهُ لَهُ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى قِيلَ لَهُ ذَلِكَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ بَلَى‏!‏ فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- خَبَّرَ عَنْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مُخْرَجَ التَّقْرِيرِ، كَمَا تَفْعَلُ مِثْلُهُ الْعَرَبُ فِي خِطَابِ بَعْضِهَا بَعْضًا، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ‏:‏ ‏(‏أَلَمْ أُكْرِمْكَ‏؟‏ أَلَمْ أَتَفَضَّلْ عَلَيْك‏؟‏‏)‏ بِمَعْنَى إِخْبَارِهِ أَنَّهُ قَدْ أَكْرَمَهُ وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ، يُرِيدُ‏:‏ أَلَيْسَ قَدْ أَكْرَمَتْكَ‏؟‏ أَلَيْسَ قَدْ تَفَضَّلْتُ عَلَيْكَ‏؟‏ بِمَعْنَى قَدْ عَلِمْتَ ذَلِكَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ عِنْدَنَا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ‏}‏، إِنَّمَا مَعْنَاهُ‏:‏ أَمَا عَلِمْتَ‏؟‏ وَهُوَ حَرْفُ جَحْدٍ أُدْخِلَ عَلَيْهِ حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، وَحُرُوفُ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ إِمَّا بِمَعْنَى الِاسْتِثْبَاتِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى النَّفْيِ، فَأَمَّا بِمَعْنَى الْإِثْبَاتِ، فَذَلِكَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى حُرُوفِ الْجَحْدِ‏.‏ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عِنْدِي، وَإِنْ كَانَ ظَهْرَ ظُهُورَ الْخِطَابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّمَا هُوَ مَعْنِيٌّ بِهِ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا‏}‏‏.‏ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ‏}‏، فَعَادَ بِالْخِطَابِ فِي آخِرِ الْآيَةِ إِلَى جَمِيعِهِمْ، وَقَدْ ابْتَدَأَ أَوَّلَهَا بِخِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الَّذِينَ وَصَفْتُ أَمْرَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ‏.‏ وَذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مُسْتَفِيضٌ بَيْنَهُمْ فَصِيحٌ‏:‏ أَنْ يُخْرُجَ الْمُتَكَلِّمُ كَلَامَهُ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ مِنْهُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَهُوَ قَاصِدٌ بِهِ غَيْرَهُ، وَعَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِوَاحِدٍ وَهُوَ يَقْصِدُ بِهِ جَمَاعَةً غَيْرَهُ، أَوْ جَمَاعَةً وَالْمُخَاطَبُ بِهِ أَحَدُهُمْ- وَعَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِلْجَمَاعَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ أَحَدُهُمْ‏.‏ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 2‏]‏، فَرَجَعَ إِلَى خِطَابِ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ ابْتَدَأَ الْكَلَامَ بِخِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْكُمَيْتِ بْنِ زَيْدٍ فِي مَدْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏

إِلَـى السِّـرَاجِ الْمُنِـيرِ أَحْـمَدَ، لَا *** يَعْـدِلُنِي رَغْبَـةٌ وَلَا رَهَـبُ

عَنْـهُ إِلَـى غَـيْرِهِ وَلَـوْ رُفِـعَ الـنَّـ *** ـاسُ إِلَـى الْعُيُـونِ وَارْتَقَبُـوا

وَقِيـلَ‏:‏ أَفْـرَطْتَ‏!‏ بَـلْ قَصَـدْتُ وَلَـوْ *** عَنَّفَنِـي الْقَـائِلُونَ أَوْ ثَلَبُـوا

لَـجَّ بِتَفْضِيلِـكَ اللِّسَـانُ، وَلَـوْ *** أُكْـثِـرَ فِيـكَ الضِّجَـاجُ وَاللَّجَـبُ

أَنْـتَ الْمُصَفَّى الْمَحْضُ الْمُهَذَّبُ فِي النِّـ *** ـسْـبَةِ، إِنْ نَـصَّ قَـوْمَكَ النَّسَـبُ

فَأَخْرَجَ كَلَامَهُ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَاصِدٌ بِذَلِكَ أَهْلَ بَيْتِهِ، فَكَنَّى عَنْ وَصْفِهِمْ وَمَدْحِهِمْ، بِذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ بَنِي أُمِّيَّةَ، بِالْقَائِلِينَ الْمُعَنِّفِينَ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا أَحَدَ يُوصَفُ بِتَعْنِيفِ مَادِحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْضِيلِهِ، وَلَا بِإِكْثَارِ الضِّجَاجِ وَاللَّجَبِ فِي إِطْنَابِ الْقِيلِ بِفَضْلِهِ‏.‏

وَكَمَا قَالَ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٌ‏:‏

أَلَا إِنَّ جِـيَرانِي الْعَشِـيَّةَ رَائِـحُ *** دَعَتْهُـمْ دَوَاعٍ مِـنْ هَـوًى وَمَنَـادِحُ

فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَلَا إِنَّ جِيرَانِي الْعَشِيَّةَ‏)‏ فَابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنْ جَمَاعَةِ جِيرَانِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏رَائِحُ‏)‏، لِأَنَّ قَصْدَهُ- فِي ابْتِدَائِهِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ كَلَامِهِ- الْخَبَرُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ، وَكَمَا قَالَ جَمِيلٌ أَيْضًا فِي كَلِمَتِهِ الْأُخْرَى‏:‏

خَـلِيلَيَّ فِيمَـا عِشْـتُمَا، هَـلْ رَأَيْتُمَـا *** قَتِيـلًا بَكَـى مِـنْ حُـبِّ قَاتِلِـهِ قَبْلِي‏؟‏

وَهُوَ يُرِيدُ قَاتِلَتَهُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِفُ امْرَأَةً، فَكَنَّى بِاسْمِ الرَّجُلِ عَنْهَا، وَهُوَ يَعْنِيهَا‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ قَصْدُ أَصْحَابِهِ‏.‏ وَذَلِكَ بَيِّنٌ بِدِلَالَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكَمَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصَيْرٍ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ‏}‏ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ بَعْدَهَا- عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏.‏

أَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ مِلْكُ السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ ‏"‏مُلَكَ‏"‏ السُّلْطَانِ وَالْمَمْلَكَةِ دُونَ ‏"‏الْمِلْكِ‏"‏‏.‏ وَالْعَرَبُ إِذَا أَرَادَتِ الْخَبَرَ عَنِ ‏"‏الْمَمْلَكَةِ‏"‏ الَّتِي هِيَ مَمْلَكَةُ سُلْطَانٍ، قَالَتْ‏:‏ ‏(‏مَلَكَ اللَّهُ الْخَلْقَ مُلْكًا‏)‏، وَإِذَا أَرَادَتِ الْخَبَرَ عَنِ ‏"‏الْمِلْكِ‏"‏ قَالَتْ‏:‏ مَلَكَ فُلَانٌ هَذَا الشَّيْءَ فَهُوَ يَمْلِكُهُ مِلْكًا وَمَلَكَةً وَمَلْكًا‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا‏:‏ أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ لِي مُلَكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسُلْطَانَهُمَا دُونَ غَيْرِي، أَحْكُمُ فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا مَا أَشَاءُ، وَآمُرُ فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاءُ، وَأَنْهَى عَمَّا أَشَاءُ، وَأَنْسَخُ وَأُبَدِّلُ وَأُغِيرُ مِنْ أَحْكَامِي الَّتِي أَحْكُمُ بِهَا فِي عِبَادِي مَا أَشَاءُ إِذَا أَشَاءُ، وَأُقِرُّ مِنْهَا مَا أَشَاءُ‏؟‏

وَهَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ-عَزَّ وَجَلَّ- خِطَابًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْ عَظَمَتِهِ، فَإِنَّهُ مِنْهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- تَكْذِيبٌ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا نَسْخَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَجَحَدُوا نُبُوَّةَ عِيسَى، وَأَنْكَرُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَجِيئِهِمَا بِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِتَغْيِيرِ مَا غَيَّرَ اللَّهُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّ لَهُ مَلِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسُلْطَانَهُمَا، فَإِنَّ الْخَلْقَ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ وَطَاعَتِهِ، عَلَيْهِمُ السَّمْعُ لَهُ وَالطَّاعَةُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَمْرَهُمْ بِمَا شَاءَ وَنَهْيَهُمْ عَمَّا شَاءَ، وَنَسْخَ مَا شَاءَ، وَإِقْرَارَ مَا شَاءَ، وَإِنْسَاءَ مَا شَاءَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ‏.‏ ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ‏:‏ انْقَادُوا لِأَمْرِي، وَانْتَهَوْا إِلَى طَاعَتِي فِيمَا أَنْسَخُ وَفِيمَا أَتْرُكُ فَلَا أَنْسَخُ، مِنْ أَحْكَامِي وَحُدُودِي وَفَرَائِضِي، وَلَا يَهُولَنَّكُمْ خِلَافُ مُخَالِفٍ لَكُمْ فِي أَمْرِي وَنَهْيِي وَنَاسِخِي وَمَنْسُوخِي، فَإِنَّهُ لَا قَيِّمَ بِأَمْرِكُمْ سِوَايَ، وَلَا نَاصِرَ لَكُمْ غَيْرِي، وَأَنَا الْمُنْفَرِدُ بِوِلَايَتِكُمْ، وَالدِّفَاعِ عَنْكُمْ، وَالْمُتَوَحِّدُ بِنُصْرَتِكُمْ بِعِزِّي وَسُلْطَانِي وَقُوَّتِي عَلَى مَنْ نَاوَأَكُمْ وَحَادَّكُمْ، وَنَصَبَ حَرْبَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ، حَتَّى أُعْلِيَ حُجَّتَكُمْ، وَأَجْعَلَهَا عَلَيْهِمْ لَكُمْ‏.‏

و‏"‏الْوَلِيُّ‏"‏ مَعْنَاهُ ‏"‏فَعِيلٌ‏"‏ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏وَلِيتُ أَمْرَ فُلَانٍ‏)‏، إِذَا صِرْتُ قَيِّمًا بِهِ، ‏"‏فَأَنَا أَلِيهِ، فَهُوَ وَلِيُّهُ‏"‏ وقَيِّمُهُ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ‏:‏ ‏(‏فُلَانٌ وَلِيُّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ‏)‏، يَعْنِي بِهِ‏:‏ الْقَائِمَ بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏النَّصِير‏"‏ فَإِنَّهُ‏"‏فَعِيلَ‏"‏ مِنْ قَوْلِك‏:‏ ‏"‏نَصَرْتُكَ أَنْصُرُكَ، فَأَنَا نَاصِرُكَ وَنَصِيرُكَ‏"‏، وَهُوَ الْمُؤَيِّدُ وَالْمُقَوِّي‏.‏

وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏، فَإِنَّهُ سِوَى اللَّهِ، وَبَعْدَ اللَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ‏:‏

يَـا نَفْسُ مَـا لَكِ دُونَ اللَّـهِ مِـنْ وَاقِي *** وَمَـا عَـلَى حَدَثَـانِ الدَّهْـرِ مِنْ بَاقِي

يُرِيدُ‏:‏ مَا لَكِ سِوَى اللَّهِ وَبَعْدَ اللَّهِ مَنْ يَقِيكِ الْمَكَارِهَ‏.‏

فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا‏:‏ وَلَيْسَ لَكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بَعْدَ اللَّهِ مِنْ قَيِّمٍ بِأَمْرِكُمْ، وَلَا نَصِيْرٌ فَيُؤَيِّدَكُمْ وَيُقَوِّيَكُمْ، فَيُعِينَكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُنْـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ- وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ- قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ قَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ وَوَهَبُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ائْتِنَا بِكِتَابٍ تُنَـزِّلُهُ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ نَقْرَؤُهُ، وَفَجَّرْ لَنَا أَنْهَارًا نَتَّبِعْكَ وَنُصَدِّقْكَ‏!‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ‏}‏، وَكَانَ مُوسَى يُسْأَلُ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ ‏{‏أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ‏}‏، أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً، فَسَأَلَتِ الْعَرَبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِاللَّهِ فَيَرَوْهُ جَهْرَةً‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ‏}‏، أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً‏.‏ فَسَأَلَتْ قُرَيْشٌ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ وَهُوَ لَكُمْ كَمَائِدَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْ كَفَرْتُمْ‏!‏ فَأَبَوْا وَرَجَعُوا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ سَأَلَتْ قُرَيْشٌ مُحَمَّدًا أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ وَهُوَ لَكُمْ كَالْمَائِدَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْ كَفَرْتُمْ‏!‏ فَأَبَوْا وَرَجَعُوا، فَأَنْـزَلَ اللَّه‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ‏}‏، أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهُ جَهْرَةً‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ‏:‏ قَالَ رَجُل‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ كَانَتْ كَفَّارَاتُنَا كَفَّارَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏!‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ اللَّهُمَّ لَا نَبْغِيهَا‏!‏ مَا أَعْطَاكُمْ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا فَعَلَ أَحَدُهُمُ الْخَطِيئَةَ وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِهِ وَكَفَّارَتَهَا، فَإِنَّ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ أَعْطَاكُمْ اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاءِ‏:‏ 110‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَالَ‏:‏ «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَاتٌ لَمَّا بَيْنَهُنَّ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالَكٌ»‏.‏

فَأَنْـزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى ‏(‏أَمِ‏)‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أمْ تُرِيدُونَ‏}‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ‏:‏ هِيَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ‏.‏ وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ‏؟‏

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ‏:‏ هِيَ بِمَعْنَى اسْتِفْهَامٍ مُسْتَقْبَلٍ مُنْقَطِعٍ مِنَ الْكَلَامِ، كَأَنَّكَ تَمِيلُ بِهَا إِلَى أَوَّلِهِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ‏:‏ إِنَّهَا لَإِبِلٌ يَا قَوْمُ أَمْ شَاءُ‏"‏ و‏"‏لَقَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا أَمْ حَدْسُ نَفْسِي‏؟‏‏"‏ قَالَ‏:‏ وَلَيْسَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ‏}‏ عَلَى الشَّكِّ، وَلَكِنَّهُ قَالَهُ لِيُقَبِّحَ لَهُ صَنِيعَهُمْ‏.‏ وَاسْتَشْهَدَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ الْأَخْطَلِ‏:‏

كَـذَبَتْكَ عَيْنُـكَ أَمْ رَأَيْـتَ بِوَاسِـطٍ *** غَلَسَ الظَّـلَامِ مِـنَ الرَّبَـابِ خَيَـالَا

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ‏:‏ إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ‏}‏ اسْتِفْهَامًا عَلَى كَلَامٍ قَدْ سَبَقَهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏الم تَنـزيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ‏}‏ ‏[‏السَّجْدَة‏:‏ 3‏]‏، فَجَاءَتْ ‏"‏أَمْ‏"‏ وَلَيْسَ قَبْلَهَا اسْتِفْهَام، فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ مُبْتَدَأٌ عَلَى كَلَامٍ سَبَقَهُ‏.‏ وَقَالَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ‏:‏ ‏(‏أَمْ‏)‏ فِي الْمَعْنَى تَكُونُ رَدًّا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى جِهَتَيْنِ‏:‏ إِحْدَاهُمَا أَنْ تُفَرِّقَ مَعْنَى ‏"‏أَيْ‏"‏، وَالْأُخْرَى‏:‏ أَنْ يُسْتَفْهَمَ بِهَا فَتَكُونَ عَلَى جِهَةِ النَّسَقِ، وَالَّذِي يُنْوَى بِهَا الِابْتِدَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ ابْتِدَاءٌ مُتَّصِلٌ بِكَلَامٍ‏.‏ فَلَوْ ابْتَدَأْتَ كَلَامًا لَيْسَ قَبْلَهُ كَلَامٌ ثُمَّ اسْتَفْهَمْتَ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِـ ‏"‏الْأَلْفِ‏"‏ أَوْ بِـ ‏"‏هَلْ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ‏}‏، قَبْلَهُ اسْتِفْهَامٌ، فَرُدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏:‏ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ مُبْتَدَأٌ، بِمَعْنَى‏:‏ أَتُرِيدُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ‏؟‏ وَإِنَّمَا جَازَ، أَنْ يَسْتَفْهِمَ الْقَوْمُ بِـ ‏"‏أَمْ‏"‏، وَإِنْ كَانَتْ ‏"‏أَمْ‏"‏ أَحَدُ شُرُوطِهَا أَنْ تَكُونَ نَسَقًا فِي الِاسْتِفْهَامِ لِتَقَدُّمِ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْكَلَامِ، لِأَنَّهَا تَكُونُ اسْتِفْهَامًا مُبْتَدَأً إِذَا تَقَدَّمَهَا سَابِقٌ مِنَ الْكَلَامِ‏.‏ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ اسْتِفْهَامٌ بِهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْهَا كَلَامٌ‏.‏ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏الم تَنـزيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ‏}‏ ‏[‏السَّجْدَة‏:‏ 3‏]‏ وَقَدْ تَكُونُ ‏"‏أَمْ‏"‏ بِمَعْنَى ‏"‏بَلْ‏"‏، إِذَا سَبَقَهَا اسْتِفْهَامٌ لَا يَصْلُحُ فِيهِ ‏"‏أَيْ‏"‏، فَيَقُولُونَ‏:‏ ‏(‏هَلْ لَكَ قِبَلَنَا حَقٌّ، أَمْ أَنْتَ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ بِالظُّلْمِ‏؟‏‏)‏ وَقَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَوَاللَّـهِ مَـا أَدْرِي أَسَـلْمَى تَغَـوَّلَتْ *** أَمِّ النَّـوْمُ أَمْ كُـلٌّ إِلَّـيَّ حَـبِيبُ

يَعْنِي‏:‏ بَلْ كُلٌّ إِلَيَّ حَبِيبُ‏.‏

وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ- مُنْكِرًا قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ‏"‏أَمْ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ‏}‏ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَقْبَلٌ مُنْقَطِعٌ مِنَ الْكَلَامِ، يَمِيلُ بِهَا إِلَى أَوَّلِهِ-‏:‏ إِنَّ الْأَوَّلَ خَبَرٌ، وَالثَّانِي اسْتِفْهَامٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ لَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ لَا يَكُونُ فِي الِاسْتِفْهَامِ، وَلَكِنْ أَدْرَكَهُ الشَّكُّ- بِزَعْمِهِ- بَعْدَ مُضِيِّ الْخَبَرِ، فَاسْتَفْهَمَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِذَا كَانَ مَعْنَى ‏"‏أَمْ‏"‏ مَا وَصَفْنَا، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ أَتُرِيدُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ نَظِيرَ مَا سَأَلَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ قَبْلِكُمْ، فَتَكْفُرُوا-إِنَّ مُنِعْتُمُوهُ- فِي مَسْأَلَتِكُمْ مَا لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ إِعْطَاؤُكُمُوهُ، أَوْ أَنْ تَهْلِكُوا إِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ عَطَاؤُكُمُوهُ، فَأَعْطَاكُمُوهُ، ثُمَّ كَفَرْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي سَأَلَتْ أَنْبِيَاءَهَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَسْأَلَتُهَا إِيَّاهُمْ، فَلَمَّا أُعْطِيَتْ كَفَرَتْ، فَعُوجِلَتْ بِالْعُقُوبَاتِ لِكُفْرِهَا، بَعْدَ إِعْطَاءِ اللَّهِ إِيَّاهَا سُؤْلَهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَبَدَّلْ‏}‏، وَمَنْ يَسْتَبْدِلِ ‏"‏الْكُفْرَ‏"‏، وَيَعْنِي بِـ ‏"‏الْكُفْرِ‏"‏، الْجُحُودَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ، ‏{‏بِالْإِيمَانِ‏}‏، يَعْنِي بِالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ عَنَى بِـ ‏"‏الْكُفْرِ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ الشِّدَّةَ، وَبِـ ‏"‏الْإِيمَانِ‏"‏ الرَّخَاءَ‏.‏ وَلَا أَعْرِفُ الشِّدَّةَ فِي مَعَانِي ‏"‏الْكُفْرِ‏"‏، وَلَا الرَّخَاءَ فِي مَعْنَى ‏"‏الْإِيمَانِ‏"‏، إِلَّا أَنَّ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ أَرَادَ بِتَأْوِيلِهِ ‏"‏الْكُفْرَ‏"‏ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبِتَأْوِيلِهِ ‏"‏الْإِيمَانَ‏"‏ فِي مَعْنَى الرَّخَاءِ-‏:‏ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْمَفْهُومِ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ يَتَبَدَّلِ الشِّدَّةَ بِالرَّخَاءِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ بِمَثَلِهِ‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا قُلْنَا‏:‏ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏}‏، خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِتَابٌ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى أَمْرٍ سَلَفَ مِنْهُمْ، مِمَّا سُرَّ بِهِ الْيَهُودُ، وَكَرِهَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ، فَكَرِهَهُ اللَّهُ لَهُمْ، فَعَاتَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْيَهُودَ أَهْلُ غِشٍّ لَهُمْ وَحَسَدٍ وَبَغْيٍ، وَأَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ لَهُمُ الْمَكَارِهَ، وَيَبْغُونَهُمُ الْغَوَائِلَ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَصِحُوهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ فَاسْتَبْدَلَ بِإِيمَانِهِ كُفْرًا، فَقَدْ أَخْطَأَ قَصْدَ السَّبِيلِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ أَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فَقَدْ ضَلَّ‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ ذَهَبَ وَحَادَ‏.‏ وَأَصِلُ ‏"‏الضَّلَالِ عَنِ الشَّيْءِ‏"‏، الذَّهَابُ عَنْهُ وَالْحَيْدُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْءِ الْهَالِكِ، وَالشَّيْءِ الَّذِي لَا يَؤْبَهُ لَهُ، كَقَوْلِهِمْ لِلرَّجُلِ الْخَامِلِ الَّذِي لَا ذِكْرَ لَهُ وَلَا نَبَاهَةَ‏:‏ ‏(‏ضُلُّ بْنُ ضُلٍّ‏)‏، وَ‏"‏قُلُّ بُنْ قُلٍّ‏"‏، وَكَقَوْلِ الْأَخْطَل، فِي الشَّيْءِ الْهَالِكِ‏:‏

كُـنْتَ القَـذَى فِـي مَـوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ *** قَـذَفَ الْأَتِـيُّ بِـهِ فَضَـلَّ ضَـلَالَا

يَعْنِي‏:‏ هَلَكَ فَذَهَبَ‏.‏

وَالَّذِي عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏، فَقَدْ ذَهَبَ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَحَادَ عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِـ ‏"‏السَّوَاءِ‏"‏، الْقَصْدَ وَالْمَنْهَجَ‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏السَّوَاءِ‏"‏ الْوَسَطُ‏.‏ ذُكِرَ عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا زِلْتُ أَكْتُبُ حَتَّى انْقَطَعَ سِوَائِي‏)‏، يَعْنِي‏:‏ وَسَطِي‏.‏ وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ‏:‏

يَـا وَيْـحَ أَنْصَـارِ النَّبِـيِّ وَنَسْـلِهِ *** بَعْـدَ الْمُغَيَّـبِ فِـي سَـوَاءِ الْمُلْحَـدِ

يَعْنِي بِالسَّوَاءِ‏:‏ الْوَسَطُ‏.‏ وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ ‏(‏هُوَ فِي سَوَاءِ السَّبِيلِ‏)‏، يَعْنِي فِي مُسْتَوَى السَّبِيلِ، ‏"‏وَسَوَاءُ الْأَرْضِ‏"‏‏:‏ مُسْتَوَاهَا، عِنْدَهُمْ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏السَّبِيلُ‏"‏، فَإِنَّهَا الطَّرِيقُ الْمَسْبُولُ، صُرِفَ مِنْ ‏"‏مَسْبُولٍ‏"‏ إِلَى‏"‏سَبِيلٍ‏"‏‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا‏:‏ وَمَنْ يَسْتَبْدِلْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ الْكُفْرَ، فَيَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ، فَقَدْ حَادَ عَنْ مَنْهَجِ الطَّرِيقِ وَوَسَطِهِ الْوَاضِحِ الْمَسْبُولِ‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُهُ الْخَبَرُ عَنْ زَوَالِ الْمُسْتَبْدَلِ بِالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ الْخَبَرُ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ دِينَ اللَّهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَجَعَلَهُ لَهُمْ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهُ إِلَى رِضَاهُ، وَسَبِيلًا يَرْكَبُونَهَا إِلَى مَحَبَّتِهِ وَالْفَوْزِ بِجَنَّاتِهِ‏.‏ فَجَعَلَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- الطَّرِيقَ- الَّذِي إِذَا رَكِبَ مَحَجَّتَهُ السَّائِرُ فِيهِ، وَلَزِمَ وَسَطَهُ الْمُجْتَازُ فِيهِ، نَجَا وَبَلَغَ حَاجَتَهُ، وَأَدْرَكَ طُلْبَتَهُ- لِدِينِهِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ عِبَادَهُ، مَثَلًا لِإِدْرَاكِهِمْ بِلُزُومِهِ وَاتِّبَاعِهِ، طَلَبَاتِهِمْ فِي آخِرَتِهِمْ، كَالَّذِي يُدْرِكُ اللَّازِمُ مَحَجَّةَ السَّبِيلِ بِلُزُومِهِ إِيَّاهَا طَلَبَتْهُ مِنَ النَّجَاةِ مِنْهَا، وَالْوُصُولِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَّهُ وَقَصَدَهُ‏.‏ وَجَعَلَ مَثَلَ الْحَائِدِ عَنْ دِينِهِ، الْجَائِرِ عَنْ اتِّبَاعِ مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ- فِي إِخْطَائِهِ مَا رَجَا أَنْ يُدْرِكَهُ بِعَمَلِهِ فِي آخِرَتِهِ وَيَنَالَ بِهِ فِي مَعَادِهِ، وَذَهَابِهِ عَمَّا أَمَّلَ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِهِ، وَبُعْدِهِ بِهِ مِنْ رَبِّهِ- مَثَلَ الْحَائِدِ عَنْ مَنْهَجِ الطَّرِيقِ وَقَصْدِ السَّبِيلِ، الَّذِي لَا يَزْدَادُ وَغُولًا فِي الْوَجْهِ الَّذِي سَلَكَهُ، إِلَّا ازْدَادَ مِنْ مَوْضِعِ حَاجَتِهِ بُعْدًا، وَعَنِ الْمَكَانِ الَّذِي أَمَّهُ وَأَرَادَهُ نَأْيًا‏.‏

وَهَذِهِ السَّبِيلُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَهَا، هِيَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ‏"‏، الَّذِي أُمِرْنَا بِمَسْأَلَتِهِ الْهِدَايَةَ لَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، بِأَنَّ خِطَابَهُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا‏}‏- وَإِنَّ صَرْفَ فِي نَفْسِهِ الْكَلَامَ إِلَى خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا هُوَ خِطَابٌ مِنْهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعِتَابٌ مِنْهُ لَهُمْ، وَنَهْيٌ عَنْ انْتِصَاحِ الْيَهُودِ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَقَبُولِ آرَائِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ- وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا اسْتَعْمَلُوا أَوْ مَنِ اسْتَعْمَلَ مِنْهُمْ فِي خِطَابِهِ وَمَسْأَلَتِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَفَاءَ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَهُ، تَأَسِّيًا بِالْيَهُودِ فِي ذَلِكَ أَوْ بِبَعْضِهِمْ‏.‏ فَقَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ نَاهِيًا عَنْ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ‏:‏ لَا تَقُولُوا لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقُولُ لَهُ الْيَهُودُ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏، تَأَسِّيًا مِنْكُمْ بِهِمْ، وَلَكِنْ قُولُوا‏:‏ ‏(‏انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا‏)‏؛ فَإِنَّ أَذَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرٌ بِي، وَجُحُودٌ لِحَقِّي الْوَاجِبِ لِي عَلَيْكُمْ فِي تَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، وَلِمَنْ كَفَرَ بِي عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ مَا يَوَدُّونَ أَنْ يُنَـزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلَكِنْ كَثِيرًا مِنْهُمْ وَدُّوا أَنَّهُمْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا، حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لَكُمْ وَلِنَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ إِلَيْهِمْ وَإِلَى خَلْقِي كَافَّةً‏.‏

وَقَدْ قِيلَ إِنَّ اللَّهَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏، كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزَّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏، هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ الْعُمْرِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزَّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهمْ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ- وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَبُو يَاسِرٍ بْنِ أَخْطَبَ مِنْ أَشَدِّ يَهُودَ لِلْعَرَبِ حَسَدًا، إِذْ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَا جَاهِدَيْنِ فِي رَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ بِمَا اسْتَطَاعَا، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَلَيْسَ لِقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ عَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، مَعْنًى مَفْهُومٌ؛ لِأَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَاحِدٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ يَرُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ كُفَّارًا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَالْوَاحِدُ لَا يُقَالُ لَهُ‏:‏ ‏(‏كَثِيرٌ‏)‏، بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ فِي الْعَدَدِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ أَرَادَ بِوَجْهِ الْكَثْرَةِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا مَنْ وَصْفَهُ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، الْكَثْرَةَ فِي الْعِزِّ وَرِفْعَةِ الْمَنْـزِلَةِ فِي قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏فُلَانٌ فِي النَّاسِ كَثِيرٌ‏)‏، يُرَادُ بِهِ كَثْرَةُ الْمَنْـزِلَةِ وَالْقَدْرِ‏.‏ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ وَصَفَهُمْ بِصِفَةِ الْجَمَاعَةِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا‏}‏، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَنَى الْكَثْرَةَ فِي الْعَدَدِ أَوْ يَكُونَ ظَنَّ أَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ عَنْهُ الْوَاحِدُ، نَظِيرَ مَا قُلْنَا آنِفًا فِي بَيْتِ جَمِيلٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا خَطَأً؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، فَلَا بُدَّ مِنْ دِلَالَةٍ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، وَلَا دِلَالَةَ تَدُلُّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ دُونَ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ، فَيَجُوزُ صَرْفُ تَأْوِيلِ الْآيَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَإِحَالَةُ دَلِيلِ ظَاهِرِهِ إِلَى غَيْرِ الْغَالِبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَيَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوَدُّونَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَوَدُّونَهُ لَهُمْ، مِنَ الرِّدَّةِ عَنْ إِيمَانِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ، حَسَدًا مِنْهُمْ وَبَغْيًا عَلَيْهِمْ‏.‏

وَ ‏"‏الحَسَدُ‏"‏ إِذًا مَنْصُوبٌ عَلَى غَيْرِ النَّعْتِ لِلْكُفَّارِ، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَأْتِي خَارِجًا مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ الَّذِي يُخَالِفُ لَفْظُهُ لَفَظَ الْمَصْدَرِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ‏:‏ ‏(‏تَمَنَّيْتُ لَكَ مَا تَمَنَّيْتُ مِنَ السُّوءِ حَسَدًا مِنِّي لَكَ‏)‏، فَيَكُونُ ‏"‏الْحَسَدُ‏"‏ مَصْدَرًا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏تَمَنَّيْتُ مِنَ السُّوءِ‏)‏؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ تَمَنَّيْتُ لَكَ ذَلِكَ، مَعْنَى‏:‏ حَسَدْتُكَ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ فَعَلَى هَذَا نُصِبَ ‏"‏الْحَسَدُ‏"‏؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا‏}‏، مَعْنَى‏:‏ حَسَدَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ اللَّهُ مِنَ التَّوْفِيقِ، وَوَهَبَ لَكُمْ مِنَ الرَّشَادِ لِدِينِهِ وَالْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ، وَخَصَّكُمْ بِهِ مِنْ أَنْ جَعْلَ رَسُولَهُ إِلَيْكُمْ رَجُلًا مِنْكُمْ رَءُوفًا بِكُمْ رَحِيمًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْهُمْ، فَتَكُونُوا لَهُمْ تَبَعًا‏.‏ فَكَانَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏حَسَدًا‏)‏، مَصْدَرًا مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ‏:‏ ‏(‏لِي عِنْدَكَ كَذَا وَكَذَا‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ لِي قِبَلَكَ، وَكَمَا‏:‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ‏.‏

وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ وَدُّوا ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، إِعْلَامًا مِنْهُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَأْتُونَ مَا يَأْتُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِنَهْيِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنْهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ‏}‏، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لِهَؤُلَاءِ الْكَثِيرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ-الَّذِينَ يَوَدُّونَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَكُمْ كُفَّارًا مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمُ- الْحَقُّ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَالْمِلَّةِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا فَأَضَاءَ لَهُمْ‏:‏ أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ الَّذِي لَا يَمْتَرُونَ فِيهِ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ‏}‏، مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِسْلَامُ دِينُ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلُهُ- وَزَادَ فِيهِ‏:‏ فَكَفَرُوا بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا، إِذْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ‏.‏ حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْحَقُّ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الرَّسُولُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَدَلَّ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ كُفْرَ الَّذِينَ قَصَّ قِصَّتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، عِنَادٌ، وَعَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ وَمَعْرِفَةٍ بِأَنَّهُمْ عَلَى اللَّهِ مُفْتَرُونَ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ‏}‏، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مِنْ بَعْدِ مَا أَضَاءَ لَهُمُ الْحَقُّ، لَمْ يَجْهَلُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْحَسَدَ حَمَلَهُمْ عَلَى الْجَحْدِ‏.‏ فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ وَلَامَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ أَشَدَّ الْمَلَامَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهَِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاعْفُوا‏}‏ فَتَجَاوَزُوا عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ إِسَاءَةٍ وَخَطَأٍ فِي رَأْيٍ أَشَارُوا بِهِ عَلَيْكُمْ فِي دِينِكُمْ، إِرَادَةَ صَدِّكُمْ عَنْهُ، وَمُحَاوَلَةَ ارْتِدَادِكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ- وَعَمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ مَنْ قِيْلِهِمْ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ‏}‏، ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 46‏]‏، وَاصْفَحُوا عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ جَهْلٍ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، فَيُحْدِثُ لَكُمْ مَنْ أَمَرَهُ فِيكُمْ مَا يَشَاءُ، وَيَقْضِي فِيهِمْ مَا يُرِيدُ، فَقَضَى فِيهِمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَأَتَى بِأَمْرِهِ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 29‏]‏‏.‏ فَنَسَخَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- الْعَفْوَ عَنْهُمْ وَالصَّفْحَ، بِفَرْضِ قِتَالِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى تَصِيرَ كَلِمَتُهُمْ وَكَلِمَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةً، أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ صِغَارًا، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، وَنَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏، ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 5‏]‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ‏}‏، فَأَتَى اللَّهُ بِأَمْرِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏، حَتَّى بَلَغَ ‏(‏وَهُمْ صَاغِرُونَ‏)‏، أَيْ‏:‏ صِغَارًا وَنِقْمَةً لَهُمْ‏.‏ فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا كَانَ قَبْلَهَا‏:‏ ‏{‏فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ اعْفُوا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُحْدِثَ اللَّهُ أَمْرًا، فَأَحْدَثَ اللَّهُ بَعْدَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏، إِلَى‏:‏ ‏(‏وَهْمْ صَاغِرُونَ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ نَسَخَتْهَا‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هَذَا مَنْسُوخٌ، نَسَخَهُ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَهُمْ صَاغِرُونَ‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى ‏"‏القَدِيرِ‏"‏، وَأَنَّهُ الْقَوِيُّ‏.‏

فَمَعْنَى الْآيَةِ هَهُنَا‏:‏ إِنَّ اللَّهَ- عَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ بِالَّذِينِ وَصَفْتُ لَكُمْ أَمْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ- قَدِيرٌ، إِنْ شَاءَ انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِعِنَادِهِمْ رَبَّهُمْ، وَإِنْ شَاءَ هَدَاهُمْ لِمَا هَدَاكُمُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْإِيمَانِ، لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَمْرٌ شَاءَ قَضَاءَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ الْخُلُقَ وَالْأَمْرَ‏.‏