فصل: تفسير الآيات رقم (41- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَدَلِيلٌ لَهُمْ أَيْضًا، وَعَلَامَةٌ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى كُلِّ مَا نَشَاءُ، حَمْلُنَا ذَرِّيَّتَهُمْ، يَعْنِي مَنْ نَجَا مِنْ وَلَدِ آدَمَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ، وَإِيَّاهَا عَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْفُلْكِ الْمَشْحُونِ؛ وَالْفَلْكُ‏:‏ هِيَ السَّفِينَةُ، وَالْمَشْحُونُ‏:‏ الْمَمْلُوءُ الْمُوقَرُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ ‏{‏أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ الْمُمْتَلِئُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثني أَبِي، قَالَ‏:‏ ثني عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏ يَعْنِي الْمُثْقَلَ‏.‏

حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ‏:‏ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ ‏{‏الْفُلْكُ الْمَشْحُونُ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْمُوقَرُ‏.‏

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ‏:‏ ثنا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ ‏(‏الْمَشْحُونِ‏)‏ قَالَ‏:‏ الْمَحْمُولِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ‏{‏أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ سَفِينَةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏ الْمُوقَرِ، يَعْنِي سَفِينَةَ نُوحٍ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏(‏الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏)‏ قَالَ‏:‏ الْفُلْكُ الْمَشْحُونُ‏:‏ الْمَرْكَبُ الَّذِي كَانَ فِيهِ نُوحٌ، وَالذُّرِّيَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْمَرْكَبِ؛ قَالَ‏:‏ وَالْمَشْحُونُ‏:‏ الَّذِي قَدْ شُحِنَ، الَّذِي قَدْ جُعِلَ فِيهِ لِيَرْكَبَهُ أَهْلُهُ، جَعَلُوا فِيهِ مَا يُرِيدُونَ، فَرُبَّمَا امْتَلَأَ وَرُبَّمَا لَمْ يَمْتَلِئْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ‏:‏ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ أَتَدْرُونَ مَا الْفُلْكُ الْمَشْحُونُ‏؟‏ قُلْنَا‏:‏ لَا قَالَ‏:‏ هُوَ الْمُوقَرُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْآمُلِيُّ، قَالَ‏:‏ ثنا هَارُونُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنْ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ ‏(‏الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏)‏ قَالَ‏:‏ الْمُوقَرُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَخَلَقْنَا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِيكَ يَا مُحَمَّدُ، تَفَضُّلًا مِنَّا عَلَيْهِمْ، مِنْ مَثَلِ ذَلِكَ الْفُلْكِ الَّذِي كُنَّا حَمَلْنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مَنْ حَمَلْنَا فِيهِ الَّذِي يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْمَرَاكِبِ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي عُنِيَ بِقَوْلِهِ ‏(‏مَا يَرْكَبُونَ‏)‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ السُّفُنُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ‏:‏ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ تَدْرُونَ مَا ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏‏؟‏ قُلْنَا‏:‏ لَا‏.‏ قَالَ‏:‏ هِيَ السُّفُنُ جُعِلَتْ مِنْ بَعْدِ سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَى مِثْلِهَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثنا يَحْيَى، قَالَ‏:‏ ثنا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ السُّفُنُ الصِّغِارُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثنا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثنا يَحْيَى، قَالَ‏:‏ ثنا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ السُّفُنُ الصِّغِارُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ ‏{‏وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ‏}‏‏؟‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ ثنا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ السُّفُنُ الصِّغِارُ‏.‏

حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ بَكْرٍ الضَّبِّيُّ، قَالَ‏:‏ ثنا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ‏:‏ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ السُّفُنُ الصِّغِارُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ‏:‏ ثنا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ السُّفُنَ الَّتِي اتُّخِذَتْ بَعْدَهَا، يَعْنِي بَعْدَ سَفِينَةِ نُوحٍ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ السُّفُنُ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَهِيَ هَذِهِ الْفُلْكُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ مِنْ مِثْلِ سَفِينَةٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ الْإِبِلُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبِي، قَالَ‏:‏ ثني عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ الْإِبِلَ، خَلَقَهَا اللَّهُ كَمَا رَأَيْتَ، فَهِيَ سُفُنُ الْبَرِّ، يَحْمِلُونَ عَلَيْهَا وَيَرْكَبُونَهَ‏.‏

حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ ثنا غُنْدَرٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْإِبِلَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثنا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ هِيَ الْإِبِلُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مِنَ الْأَنْعَامِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ هِيَ الْإِبِلُ‏.‏

وَأَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ عُنِيَ بِذَلِكَ السُّفُنُ، وَذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ ‏{‏وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ‏}‏ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَقَ مَعْلُومٌ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا فِي الْمَاءِ، وَلَا غَرَقَ فِي الْبَرِّ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِنْ نَشَأَ نُغْرِقْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا رَكِبُوا الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ‏(‏فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَا مُغِيثَ لَهُمْ إِذَا نَحْنُ غَرَّقْنَاهُمْ يُغِيثُهُمْ، فَيُنْجِيهِمْ مِنَ الْغَرَقِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ‏}‏ أَيْ‏:‏ لَا مُغِيثَ

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا هُوَ يُنْقِذُهُمْ مِنَ الْغَرَقِ شَيْءٌ إِنْ نَحْنُ أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ، إِلَّا أَنْ نُنْقِذَهُمْ نَحْنُ رَحْمَةً مِنَّا لَهُمْ، فَنُنْجِيهِمْ مِنْهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلِنُمَتِّعَهُمْ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ، إِلَّا أَنْ نَرْحَمَهُمْ فَنُمَتِّعَهُمْ إِلَى أَجَلٍ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ إِلَى الْمَوْتِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ، الْمُكَذِّبِينَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ احْذَرُوا مَا مَضَى بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ وَمَثُلَاتِهِ بِمَنْ حَلَّ ذَلِكَ بِهِ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ أَنْ يَحِلَّ مِثْلَهُ بِكُمْ بِشِرْكِكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ رَسُولَهُ‏.‏ ‏(‏وَمَا خَلْفَكُمْ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَا بَعْدَ هَلَاكِكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ لَاقُوهُ إِنْ هَلَكْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ ‏(‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ لِيَرْحَمَكُمْ رَبُّكُمْ إِنْ أَنْتُمْ حَذِرْتُمْ ذَلِكَ، وَاتَّقَيْتُمُوهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ شِرْكِكُمْ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ فِيمَا أَوْجَبَ عَلَيْكُمْ مِنْ فَرَائِضِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ‏}‏‏:‏ وَقَائِعَ اللَّهِ فِيمَنْ خَلَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ‏.‏

وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ ‏(‏مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ‏)‏ قَالَ‏:‏ مَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قُلْنَا، لِأَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ اتَّقُوا عُقُوبَةَ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَمَا خَلْفَكُمْ مِمَّا تَعْمَلُونَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَمْ تَعْمَلُوهُ بَعْدُ، فَذَلِكَ بَعْدَ تَخْوِيفٍ لَهُمُ الْعِقَابَ عَلَى كُفْرِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَا تَجِيءُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ آيَةٌ، يَعْنِي حُجَّةً مِنْ حُجَجِ اللَّهِ، وَعَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِهِ عَلَى حَقِيقَةِ تَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ، إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا، وَلَا يَتَدَبَّرُونَهَا، فَيَعْلَمُوا بِهَا مَا احْتَجَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَا‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَأَيْنَ جَوَابُ قَوْلِهِ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ‏}‏‏؟‏ قِيلَ‏:‏ جَوَابُهُ وَجَوَابُ قَوْلِهِ ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ قَوْلُهُ ‏{‏إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ مِنْهُمْ كَانَ عَنْ كُلِّ آيَةٍ لِلَّهِ، فَاكْتُفِيَ بِالْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ ‏{‏اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ‏}‏ وَعَنْ قَوْلِهِ ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ‏}‏ بِالْخَبَرِ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا لِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمِ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ أَعْرَضُوا، وَإِذَا أَتَتْهُمْ آيَةٌ أَعْرَضُوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ‏:‏ أَنْفِقُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ الَّذِي رَزَقَكُمْ، فَأَدُّوا مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِيهِ لِأَهْلِ حَاجَتِكُمْ وَمَسْكَنَتِكُمْ، قَالَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ، وَعَبَدُوا مَنْ دُونَهُ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏:‏ أَنُطْعِمُ أَمْوَالَنَا وَطَعَامَنَا مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ ‏{‏إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِيلِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ مَا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ فِي قِيلِكُمْ لَنَا‏:‏ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ عَلَى مَسَاكِينِكُمْ، إِلَّا فِي ذَهَابٍ عَنِ الْحَقِّ، وَجَوْرٍ عَنِ الرُّشْدِ مُبِينٍ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَتَدَبَّرَهُ، أَنَّهُ فِي ضَلَالٍ، وَهَذَا أَوْلَى وَجْهَيْهِ بِتَأْوِيلِهِ‏.‏ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قِيلِ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ حِينَئِذٍ‏:‏ مَا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فِي قِيلِكُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ‏:‏ أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ، إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، عَنْ أَنَّ قِيلَكُمْ ذَلِكَ لَهُمْ ضَلَالٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ وَعِيدَ اللَّهِ، وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَمَاتِ، يَسْتَعْجِلُونَ رَبَّهُمْ بِالْعَذَابِ ‏(‏مَتَى هَذَا الْوَعْدُ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْوَعْدُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ ‏(‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏)‏ أَيُّهَا الْقَوْمُ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَا يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَ بِوَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ، وَذَلِكَ نَفْخَةُ الْفَزَعِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، وَجَاءَتِ الْآثَارُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَثَرِ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا ثنا عَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ الْقَوَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ لَيُنْفَخَنَّ فِي الصُّورِ، وَالنَّاسُ فِي طُرُقِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الثَّوْبَ لَيَكُونَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يَتَسَاوَمَانِ، فَمَا يُرْسِلُهُ أَحَدُهُمَا مِنْ يَدِهِ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ، وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ ‏{‏مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةُ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ‏}‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ‏:‏ «‏"‏تَهِيجُ السَّاعَةُ بِالنَّاسِ وَالرَّجُلُ يَسْقِي مَاشِيَتَهُ، وَالرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ، وَالرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي سُوقِهِ وَالرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ، وَتَهِيجُ بِهِمْ وَهُمْ كَذَلِكَ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونِ ‏"‏»‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ ‏{‏مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ النَّفْخَةُ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «‏"‏إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلَقَ الصُّورَ، فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏:‏ وَمَا الصُّورُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَرْنٌ قَالَ‏:‏ وَكَيْفَ هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلَاثُ نَفَخَاتٍ، الْأُولَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ، والثَّانِيِةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى فَيَقُولُ‏:‏ انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَأْمُرُهُ اللَّهُ فَيُدِيمُهَا وَيُطَوِّلُهَا، فَلَا يَفْتُرُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ ‏{‏وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ‏}‏ ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِنَفْخَةِ الصَّعْقِ، فَيَقُولُ‏:‏ انْفُخْ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فَيَصْعَقُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ، ثُمَّ يُمِيتُ مَنْ بَقِيَ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ، بَدَّلَ الْأَرْضَ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، فَيَبْسُطُهَا وَيَسْطَحُهَا، وَيَمُدُّهَا مَدَّ الْأَدِيمِ الْعِكَاظِيِّ، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، ثُمَّ يَزْجُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ زَجْرَةً، فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْمُبَدَّلَةِ فِي مِثْلِ مَوَاضِعِهِمْ مِنَ الْأُولَى مَا كَانَ فِي بَطْنِهَا كَانَ فِي بَطْنِهَا، وَمَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا‏"‏»‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏(‏وَهُمْ يَخِصِّمُونَ‏)‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ‏:‏ ‏(‏وَهُمْ يَخْصِّمُونَ‏)‏ بِسُكُونِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، فَجَمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ، بِمَعْنَى‏:‏ يَخْتَصِمُونَ، ثُمَّ أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الصَّادِ فَجَعَلَهَا صَادًا مُشَدَّدَةً، وَتَرَكَ الْخَاءَ عَلَى سُكُونِهَا فِي الْأَصْلِ‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ‏:‏ ‏(‏وَهُمْ يَخَصِّمُونَ‏)‏ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ بِمَعْنَى‏:‏ يَخْتَصِمُونَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ نَقَلُوا حَرَكَةَ التَّاءِ وَهِيَ الْفَتْحَةُ الَّتِي فِي يَفْتَعِلُونَ إِلَى الْخَاءِ مِنْهَا، فَحَرَّكُوهَا بِتَحْرِيكِهَا، وَأَدْغَمُوا التَّاءَ فِي الصَّادِ وَشَدَّدُوهَا‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏(‏يَخِصِّمُونَ‏)‏ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، فَكَسَرُوا الْخَاءَ بِكَسْرِ الصَّادِ وَأَدْغَمُوا التَّاءَ فِي الصَّادِ وَشَدَّدُوهَا‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُمْ‏:‏ ‏(‏يَخْصِمُونَ‏)‏ بِسُكُونِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ، بِمَعْنَى ‏(‏يَفْعِلُونَ‏)‏ مِنَ الْخُصُومَةِ، وَكَأَنَّ مَعْنَى قَارِئِ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏:‏ كَأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ‏:‏ كَانَ وَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ يَخْصِمُونَ مَنْ وَعَدَهُمْ مَجِيءَ السَّاعَةِ، وَقِيَامَ الْقِيَامَةِ، وَيَغْلِبُونَهُ بِالْجَدَلِ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ قِرَاءَاتٌ مَشْهُورَاتٌ مَعْرُوفَاتٌ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي، فَبِأَيَّتِهِنَّ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَلَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ أَنْ يُوصُوا فِي أَمْوَالِهِمْ أَحَدًا ‏{‏وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا يَسْتَطِيعُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ خَارِجًا عَنْ أَهْلِهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يُمْهَلُونَ بِذَلِكَ‏.‏ وَلَكِنْ يُعَجَّلُونَ بِالْهَلَاكِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً‏}‏ أَيْ‏:‏ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ ‏{‏وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ أُعْجِلُوا عَنْ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ هَذَا مُبْتَدَأُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَ ‏{‏فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً‏}‏ حَتَّى بَلَغَ ‏{‏إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏(‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ‏)‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيُعْنَى بِهَذِهِ النَّفْخَةِ، نَفْخَةُ الْبَعْثِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ‏}‏ يَعْنِي مِنْ أَجْدَاثِهِمْ، وَهِيَ قُبُورُهُمْ، وَاحِدُهَا جَدَثٌ، وَفِيهَا لُغَتَانِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْعَالِيَةِ، فَتَقُولُهُ بِالثَّاءِ‏:‏ جَدَثٌ، وَأَمَّا أَهْلُ السَّافِلَةِ فَتَقُولُهُ بِالْفَاءِ جَدَفٌ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مِنَ الْقُبُورِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ‏}‏ أَيْ‏:‏ مِنَ الْقُبُورِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِلَى رَبِّهِمْ يَخْرُجُونَ سِرَاعًا، وَالنَّسَلَانُ‏:‏ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏(‏يَنْسِلُونَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ يَخْرُجُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ‏}‏ أَيْ‏:‏ يَخْرُجُونَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةُ الْبَعْثِ لِمَوْقِفِ الْقِيَامَةِ فَرُدَّتْ أَرْوَاحُهُمْ إِلَى أَجْسَامِهِمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ نَوْمَةٍ نَامُوهَا ‏{‏يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا‏}‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ نَوْمَةٌ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا‏}‏ قَالَ‏:‏ نَامُوا نَوْمَةً قَبْلَ الْبَعْثِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ‏:‏ ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ خَيْثَمَةَ فِي قَوْلِهِ ‏{‏يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا‏}‏ قَالَ‏:‏ يَنَامُونَ نَوْمَةً قَبْلَ الْبَعْثِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا‏}‏ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ‏.‏ وَالرَّقْدَةُ‏:‏ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ ‏{‏يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْكَافِرُونَ يَقُولُونَهُ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ‏{‏مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا‏}‏ مَنْ أَيْقَظَنَا مِنْ مَنَامِنَا، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ بَعَثَ فَلَانٌ نَاقَتَهُ فَانْبَعَثَتْ، إِذَا أَثَارَهَا فَثَارَتْ‏.‏ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏مَنْ أَهَبَّنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا‏)‏‏.‏‏.‏ وَفِي قَوْلِهِ ‏(‏هَذَا‏)‏ وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى ‏"‏مَا‏"‏، وَيَكُونَ ذَلِكَ كَلَامًا مُبْتَدَأً بَعْدَ تَنَاهِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ ‏(‏مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا‏)‏ فَتَكُونُ ‏"‏مَا‏"‏ حِينَئِذٍ مَرْفُوعَةً بِهَذَا، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ هَذَا وَعْدُ الرَّحْمَنِ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ‏.‏ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ‏:‏ أَنْ تَكُونَ مِنْ صِفَةِ الْمَرْقَدِ، وَتَكُونُ خَفْضًا وَرَدًّا عَلَى الْمَرْقَدِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الْخَبَرِ عَنِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا، ثُمَّ يُبْتَدَؤُ الْكَلَامُ فَيُقَالُ‏:‏ مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، بِمَعْنَى‏:‏ بَعَثَكُمْ وَعْدُ الرَّحْمَنِ، فَتَكُونُ ‏"‏مَا‏"‏ حِينَئِذٍ رَفَعًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي يَقُولُ حِينَئِذٍ‏:‏ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ يَقُولُ ذَلِكَ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ‏}‏ مِمَّا سُرَّ الْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ هَذَا حِينَ الْبَعْثِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَالَ أَهْلُ الْهُدَى‏:‏ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ كِلَا الْقَوْلَيْنِ، أَعْنِي ‏{‏يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ‏}‏‏:‏ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا‏}‏ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ‏}‏ كَانُوا أَخْبَرُونَا أَنَّا نُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنُحَاسَبُ وَنُجَازَى‏.‏

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ فِي قِيلِهِمْ ‏{‏مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا‏}‏ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا بِمَنْ بَعَثَهُمْ مِنْ مَرْقَدِهِمْ جُهَّالًا وَلِذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِمُ اسْتَثْبَتُوا، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونُوا اسْتَثْبَتُوا ذَلِكَ إِلَّا مِنْ غَيْرِهِمْ، مِمَّنْ خَالَفَتْ صِفَتُهُ صِفَتَهُمْ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنْ كَانَتْ إِعَادَتُهُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ مَمَاتِهِمْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّالِثَةُ فِي الصُّورِ ‏{‏فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَإِذَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ لَدَيْنَا قَدْ أُحْضِرُوا، فَأُشْهِدُوا مَوْقِفَ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي قِرَاءَتِهِمْ ‏(‏إِلَّا صَيْحَةً‏)‏ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏(‏فَالْيَوْمَ‏)‏ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏{‏لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا‏}‏ كَذَلِكَ رَبُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسًا شَيْئًا، فَلَا يُوَفِّيهَا جَزَاءَ عَمَلِهَا الصَّالِحِ، وَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا وِزْرَ غَيْرِهَا، وَلَكِنَّهُ يُوَفِّي كُلَّ نَفْسٍ أَجْرَ مَا عَمِلَتْ مِنْ صَالِحٍ، وَلَا يُعَاقِبُهَا إِلَّا بِمَا اجْتَرَمَتْ وَاكْتَسَبَتْ مِنْ شَيْءٍ ‏{‏وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا تُكَافَئُونَ إِلَّا مُكَافَأَةَ أَعْمَالِكُمُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ‏}‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى الشُّغُلِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ذَلِكَ افْتِضَاضُ الْعَذَارَى‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثنا يَعْقُوبُ، عَنْ حَفْصِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ شُغُلُهُمُ افْتِضَاضُ الْعَذَارَى‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثنا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ افْتِضَاضُ الْأَبْكَارِ‏.‏

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَسْبَاطِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ افْتِضَاضُ الْأَبْكَارِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ زُرَيْقٍ الطُّهَوِيُّ، قَالَ‏:‏ ثنا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو النَّضْرِ، عَنِ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فِي افْتِضَاضِ الْعَذَارَى وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُمْ فِي نِعْمَةٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ ‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ فِي نِعْمَةٍ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، قَالَ‏:‏ ثنا مَرْوَانُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنْ أَبِي سَهْلٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ ‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ‏}‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ شَغَلَهُمُ النَّعِيمُ عَمَّا فِيهِ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْعَذَابِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُمْ فِي شُغُلٍ عَمَّا فِيهِ أَهْلُ النَّارِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ فِي شُغُلٍ عَمَّا يَلْقَى أَهْلُ النَّارِ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ‏}‏ وَهُمْ أَهْلُهَا ‏{‏فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ‏}‏ بِنِعَمٍ تَأْتِيهِمْ فِي شُغُلٍ، وَذَلِكَ الشُّغُلُ الَّذِي هُمْ فِيهِ نِعْمَةٌ، وَافْتِضَاضُ أَبْكَارٍ، وَلَهْوٌ وَلَذَّةٌ، وَشُغُلٌ عَمَّا يَلْقَى أَهْلُ النَّارِ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏(‏فِي شُغُلٍ‏)‏ فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ‏:‏ ‏(‏فِي شُغْلٍ‏)‏ بِضَمِّ الشِّينِ وَتَسْكِينِ الْغَيْنِ‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الضَّمَّ فِي الشِّينِ وَالتَّسْكِينَ فِي الْغَيْنِ، وَالْفَتْحَ فِي الشِّينِ وَالْغَيْنِ جَمِيعًا فِي شَغَلٍ‏.‏وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ‏(‏فِي شُغُلٍ‏)‏ بِضَمِّ الشِّينِ وَالْغَيْنِ‏.‏

وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قِرَاءَتُهُ بِضَمِّ الشِّينِ وَالْغَيْنِ، أَوْ بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ، بِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَهُ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ مَعَ تَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا‏.‏ وَأَمَّا قِرَاءَتُهُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْغَيْنِ، فَغَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدِي، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى خِلَافِهَا‏.‏

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏(‏فَاكِهُونَ‏)‏ فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ ‏(‏فَاكِهُونَ‏)‏ بِالْأَلِفِ‏.‏ وَذُكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ‏:‏ ‏(‏فَكِهُونَ‏)‏ بِغَيْرِ أَلِفٍ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِالْأَلِفِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ فَرِحُونَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَرِحُونَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ عَجِبُونَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ ‏(‏فَاكِهُونَ‏)‏ قَالَ‏:‏ عَجِبُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏(‏فَكِهُونَ‏)‏ قَالَ‏:‏ عَجِبُونَ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ‏:‏ مِنْهُمُ الْفَكِهُ الَّذِي يَتَفَكَّهُ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَتَفَكَّهُ بِالطَّعَامِ أَوْ بِالْفَاكِهَةِ، أَوْ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ‏:‏ إِنَّ فُلَانًا لَفَكِهٌ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ، قَالَ‏:‏ وَمَنْ قَرَأَهَا ‏(‏فَاكِهُونَ‏)‏ جَعَلَهُ كَثِيرَ الْفَوَاكِهِ صَاحِبَ فَاكِهَةٍ، وَاسْتَشْهَدَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ الْحُطَيْئَةِ‏:‏

وَدَعَـوْتَنِي وَزَعَمْـتَ أَنَّـكَ *** لَابِـنٌ بِـالصَّيْفِ تَـامِرْ

أَيْ عِنْدَهُ لَبَنٌ كَثِيرٌ، وَتَمْرٌ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ عَاسِلٌ، وَلَاحِمٌ، وَشَاحِمٌ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ذَلِكَ بِمَنْـزِلَةِ حَاذِرُونَ وَحَذِرُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَشْبَهُ بِالْكَلِمَةِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى بِقَوْلِهِ ‏(‏هُمْ‏)‏ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ‏(‏وَأَزْوَاجُهُمْ‏)‏ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ ‏{‏هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ حَلَائِلُهُمْ فِي ظُلَلٍ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏فِي ظُلَلٍ‏)‏ بِمَعْنَى‏:‏ جَمْعُ ظُلَّةٍ، كَمَا تُجْمَعُ الْحُلَّةُ حُلَلًا‏.‏ وَقَرَأَهُ آخَرُونَ ‏(‏فِي ظِلَالٍ‏)‏؛ وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ جَمْعُ الظُّلَلِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْكِنِّ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ حِينَئِذٍ‏:‏ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي كِنٍّ لَا يَضْحَوْنَ لِشَمْسٍ كَمَا يَضْحَى لَهَا أَهْلُ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ لَا شَمْسَ فِيهَا‏.‏ وَالْآخَرُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ جَمْعُ ظُلَّةٍ، فَيَكُونُ وَجْهُ جَمْعِهَا كَذَلِكَ نَظِيرَ جَمْعِهِمُ الْخُلَّةَ فِي الْكَثْرَةِ‏:‏ الْخِلَالُ، وَالْقُلَّةَ‏:‏ قِلَالٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ‏}‏ وَالْأَرَائِكُ‏:‏ هِيَ الْحِجَالُ فِيهَا السُّرُرُ وَالْفُرُشُ‏:‏ وَاحِدَتُهَا أَرِيكَةٌ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ فِرَاشٍ أَرِيكَةٌ، وَيَسْتَشْهِدُ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ‏:‏

كَأَنَّمَـا يُبَاشِـرْنَ بِالْمَعْزَاءِ مَسَّ الْأَرَائِكِ

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ‏.‏

حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ ‏{‏عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَرَائِكُ‏:‏ السُّرُرُ عَلَيْهَا الْحِجَالُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ‏:‏ ثنا سُفْيَانُ، قَالَ‏:‏ ثنا حُصَيْنٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَرَائِكُ‏:‏ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ‏:‏ ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏(‏عَلَى الْأَرَائِكِ‏)‏ قَالَ‏:‏ سُرُرٌ عَلَيْهَا الْحِجَالُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثنا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ‏:‏ الْأَرَائِكُ‏:‏ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْحَسَنَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْأَرَائِكِ قَالَ‏:‏ هِيَ الْحِجَالُ‏.‏ أَهْلُ الْيَمَنِ يَقُولُونَ‏:‏ أَرِيكَةُ فُلَانٍ‏.‏ وَسَمِعْتُ عِكْرِمَةَ وَسُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ‏:‏ هِيَ الْحِجَالُ عَلَى السُّرُرِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ الْحِجَالُ فِيهَا السُّرُرُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ‏}‏ يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ فَاكِهَةٌ ‏{‏وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَهُمْ فِيهَا مَا يَتَمَنَّوْنَ‏.‏ وَذُكِرَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَقُولُ‏:‏ دَعْ عَلَيَّ مَا شِئْتَ أَيْ‏:‏ تَمَنَّ عَلَيَّ مَا شِئْتَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ‏}‏ فِي رَفْعِ ‏"‏سَلَامٌ‏"‏ وَجْهَانِ فِي قَوْلِ بَعْضِ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ؛ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِمَا يَدَّعُونَ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ مُسَلَّمٌ لَهُمْ خَالِصٌ‏.‏ وَإِذَا وُجِّهَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ حِينَئِذٍ مَنْصُوبًا تَوْكِيدًا خَارِجًا مِنَ السَّلَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ وَلَهُمْ فِيهَا مَا يَدَّعُونَ مُسَلَّمٌ خَالِصٌ حَقًّا، كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ قَالَهُ قَوْلًا‏.‏ وَالْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ‏(‏سَلَامٌ‏)‏ مَرْفُوعًا عَلَى الْمَدْحِ، بِمَعْنَى‏:‏ هُوَ سَلَامٌ لَهُمْ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ‏.‏ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏سَلَامًا قَوْلًا‏)‏ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مُتَنَاهٍ عِنْدَ قَوْلِهِ ‏(‏وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ‏)‏ ثُمَّ نَصَبَ سَلَامًا عَلَى التَّوْكِيدِ، بِمَعْنَى‏:‏ مُسَلِّمًا قَوْلًا‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ‏:‏ انْتَصَبَ قَوْلًا عَلَى الْبَدَلِ مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ أَقُولُ ذَلِكَ قَوْلًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمَنْ نَصَبَهَا نَصَبَهَا عَلَى خَبَرِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى قَوْلِهِ ‏(‏وَلَهُمْ‏)‏ فِيهَا ‏(‏مَا يَدَّعُونَ‏)‏‏.‏

وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، أَنْ يَكُونَ ‏(‏سَلَامٌ‏)‏ خَبَرًا لِقَوْلِهِ ‏{‏وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ‏}‏ فَيَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَلَهُمْ فِيهَا مَا يَدَّعُونَ، وَذَلِكَ هُوَ سَلَامٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى‏:‏ تَسْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ، وَيَكُونُ قَوْلًا تَرْجَمَةَ مَا يَدَّعُونَ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ خَارِجًا مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ سَلَامٌ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِمَا حَدَّثَنَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَقْرِيُّ عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ، يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ‏:‏ إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، أَقْبَلَ يَمْشِي فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ، فَيَقِفُ عَلَى أَوَّلِ أَهْلِ دَرَجَةٍ، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ ‏{‏سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ‏}‏ فَيَقُولُ‏:‏ سَلُوا، فَيَقُولُونَ‏:‏ مَا نَسْأَلُكَ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ، لَوْ أَنَّكَ قَسَّمْتَ بَيْنَنَا أَرْزَاقَ الثَّقَلَيْنِ لَأَطْعَمْنَاهُمْ وَسَقَيْنَاهُمْ وَكَسَوْنَاهُمْ، فَيَقُولُ‏:‏ سَلُوا، فَيَقُولُونَ‏:‏ نَسْأَلُكَ رِضَاكَ، فَيَقُولُ‏:‏ رِضَائِي أَحَلَّكُمْ دَارَ كَرَامَتِي، فَيَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَهْلِ كُلِّ دَرَجَةٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ، قَالَ‏:‏ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ طَلَعَتْ لَأَطْفَأَ ضَوْءُ سِوَارَيْهَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، فَكَيْفَ بِالْمُسَوَّرَةِ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ ثنا حَرْمَلَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ‏:‏ إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، أَقْبَلَ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ، قَالَ‏:‏ فَيُسَلِّمُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ السَّلَامَ، قَالَ الْقُرَظِيُّ‏:‏ وَهَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ‏{‏سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ‏}‏‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ سَلُونِي، فَيَقُولُونَ‏:‏ مَاذَا نَسْأَلُكَ، أَيْ رَبِّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلْ سَلُونِي قَالُوا‏:‏ نَسْأَلُكَ أَيْ رَبِّ رِضَاكَ، قَالَ‏:‏ رِضَائِي أَحلَّكُمْ دَارَ كَرَامَتِي، قَالُوا‏:‏ يَا رَبِّ وَمَا الَّذِي نَسْأَلُكَ‏!‏ فَوَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ، وَارْتِفَاعِ مَكَانِكَ، لَوْ قَسَّمْتَ عَلَيْنَا رِزْقَ الثَّقَلَيْنِ لَأَطْعَمْنَاهُمْ، وَلَأَسْقَيْنَاهُمْ، وَلَأَلْبَسْنَاهُمْ وَلَأَخْدَمْنَاهُمْ، لَا يُنْقِصُنَا ذَلِكَ شَيْئًا، قَالَ‏:‏ إِنَّ لَدَيَّ مَزِيدًا، قَالَ‏:‏ فَيَفْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ فِي دَرَجَتِهِمْ حَتَّى يَسْتَوِيَ فِي مَجْلِسِهِ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ تَأْتِيهِمُ التُّحَفُ مِنَ اللَّهِ تَحْمِلُهَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ‏.‏ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثنا حَرْمَلَةُ، قَالَ‏:‏ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ‏:‏ إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، أَقْبَلَ يَمْشِي فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَيَقِفُ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ فَمَاذَا نَسْأَلُكَ يَا رَبِّ، فَوَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ وَارْتِفَاعِ مَكَانِكَ، لَوْ أَنَّكَ قَسَّمْتَ عَلَيْنَا أَرْزَاقَ الثَّقَلَيْنِ، الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَأَطْعَمْنَاهُمْ، وَلَسَقَيْنَاهُمْ، وَلَأَخْدَمْنَاهُمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا عِنْدَنَا، قَالَ‏:‏ بَلَى فَسَلُونِي، قَالُوا‏:‏ نَسْأَلُكَ رِضَاكَ، قَالَ‏:‏ رِضَائِي أَحَلَّكُمْ دَارَ كَرَامَتِي، فَيَفْعَلُ هَذَا بِأَهْلِ كُلِّ دَرَجَةٍ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مَجْلِسِهِ‏.‏ وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُهُ‏"‏‏.‏ فَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ ‏"‏سَلَامٌ ‏"‏ بَيَانٌ عَنْ قَوْلِهِ ‏(‏مَا يَدَّعُونَ‏)‏، وَأَنَّ الْقَوْلَ خَارِجٌ مِنَ السَّلَامِ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏(‏مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ رَحِيمٌ بِهِمْ إِذْ لَمْ يُعَاقِبْهُمْ بِمَا سَلَفَ لَهُمْ مِنْ جُرْمٍ فِي الدُّنْيَا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 61‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏‏.‏

يَعْنِي بِقَوْلِهِ ‏(‏وَامْتَازُوا‏)‏‏:‏ تَمَيَّزُوا؛ وَهِيَ افْتَعِلُوا، مِنْ مَازَ يَمِيزُ، فَعَلَ يَفْعِلُ مِنْهُ‏:‏ امْتَازَ يَمْتَازُ امْتِيَازًا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ عُزِلُوا عَنْ كُلِّ خَيْرٍ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «‏"‏إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ جَهَنَّمَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ سَاطِعٌ مُظْلِمٌ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ‏}‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ ‏{‏هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ ‏{‏وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ‏}‏ فَيَتَمَيَّزُ النَّاسُ وَيَجْثُونَ، وَهِيَ قَوْلُ اللَّهِ ‏{‏وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ ‏"‏»‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ‏:‏ وَتَمَيَّزُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ، فَإِنَّكُمْ وَارِدُونَ غَيْرَ مَوْرِدِهِمْ، دَاخِلُونَ غَيْرَ مَدْخَلِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏ وَفِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَهُوَ‏:‏ ثُمَّ يُقَالُ‏:‏ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ، يَقُولُ‏:‏ أَلَمْ أُوصِكُمْ وَآمُرْكُمْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ فَتُطِيعُوهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَقُولُ لَكُمْ‏:‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، قَدْ أَبَانَ لَكُمْ عَدَاوَتَهُ بِامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِأَبِيكُمْ آدَمَ، حَسَدًا مِنْهُ لَهُ، عَلَى مَا كَانَ اللَّهُ أَعْطَاهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَغُرُورَهُ إِيَّاهُ، حَتَّى أَخْرَجَهُ وَزَوْجَتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ أَنِ اعْبُدُونِي دُونَ كُلِّ مَا سِوَايَ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، وَإِيَّايَ فَأَطِيعُوا، فَإِنَّ إِخْلَاصَ عِبَادَتِي، وَإِفْرَادَ طَاعَتِي، وَمَعْصِيَةَ الشَّيْطَانِ، هُوَ الدِّينُ الصَّحِيحُ، وَالطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ‏{‏وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا‏}‏‏:‏ وَلَقَدْ صَدَّ الشَّيْطَانُ مِنْكُمْ خَلْقًا كَثِيرًا عَنْ طَاعَتِي، وَإِفْرَادِي بِالْأُلُوهَةِ حَتَّى عَبَدُوهُ، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِي آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا‏}‏ قَالَ‏:‏ خَلْقً‏.‏

وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ ‏(‏جِبِلًّا‏)‏ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَكَانَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ يَقْرَءُونَهُ ‏(‏جُبُلًا‏)‏ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ يَقْرَؤُهُ‏:‏ ‏(‏جُبْلًا‏)‏ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَسْكِينِ الْبَاءِ، وَكُلُّ هَذِهِ لُغَاتٌ مَعْرُوفَاتٌ، غَيْرَ أَنِّي لَا أُحِبُّ الْقِرَاءَةَ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِإِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ اللَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَالْأُخْرَى‏:‏ ضَمُّ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَخْفِيفُ اللَّامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، إِذْ أَطَعْتُمُ الشَّيْطَانَ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تُطِيعُوا عَدُوَّكُمْ وَعَدُوَّ اللَّهِ، وَتَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا عَلَى كُفْرِكُمْ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِكُمْ رُسُلَهُ، فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ جَهَنَّمَ أَوَّلُ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ احْتَرِقُوا بِهَا الْيَوْمَ ورِدُوهَا؛ يَعْنِي بِالْيَوْمِ‏:‏ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏(‏بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏)‏‏:‏ يَقُولُ‏:‏ بِمَا كُنْتُمْ تَجْحَدُونَهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُكَذِّبُونَ بِهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ‏}‏‏:‏ الْيَوْمَ نَطْبَعُ عَلَى أَفْوَاهِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏{‏وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ‏}‏ بِمَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ ‏{‏وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ‏}‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّ الَّذِي يَنْطِقُ مِنْ أَرْجُلِهِمْ‏:‏ أَفْخَاذُهُمْ مِنَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى ‏{‏بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْآثَامِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ‏:‏ ثنا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ أَبُو بُرْدَةَ‏:‏ قَالَ أَبُو مُوسَى‏:‏ يُدْعَى الْمُؤْمِنُ لِلْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَبُّهُ عَمَلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَيَعْتَرِفُ فَيَقُولُ‏:‏ نَعَمْ أَيْ رَبٍّ عَمِلْتُ عَمِلْتُ عَمِلْتُ، قَالَ‏:‏ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَيَسْتُرُهُ مِنْهَا، فَمَا عَلَى الْأَرْضِ خَلِيقَةٌ تَرَى مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ شَيْئًا، وَتَبْدُو حَسَنَاتُهُ، فَوَدَّ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَرَوْنَهَا؛ وَيُدْعَى الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لِلْحِسَابِ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَبُّهُ عَمَلَهُ فَيَجْحَدُهُ، وَيَقُولُ أَيْ رَبِّ، وَعَزَّتِكَ لَقَدْ كَتَبَ عَلَيَّ هَذَا الْمَلَكُ مَا لَمْ أَعْمَلْ، فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ‏:‏ أَمَا عَمِلْتَ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا فِي مَكَانِ كَذَا‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ لَا وَعِزَّتِكَ أَيْ رَبِّ، مَا عَمِلْتُهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خُتِمَ عَلَى فِيهِ‏.‏ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ‏:‏ فَإِنِّي أَحْسَبُ أَوَّلَ مَا يَنْطِقُ مِنْهُ لِفَخْذِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ تَلَا ‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثني يَحْيَى، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ‏:‏ يُقَالُ لِلرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏:‏ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ‏:‏ مَا عَمِلْتُ، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُ، فَيَقُولُ لِجَوَارِحِهِ‏:‏ أَبْعَدَكُنَّ اللَّهُ، مَا خَاصَمْتُ إِلَّا فِيكُنَّ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ قَدْ كَانَتْ خُصُومَاتٌ وَكَلَامٌ، فَكَانَ هَذَا آخِرَهُ، ‏{‏نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الطَّائِيُّ، قَالَ‏:‏ ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ ضَمْضَمِ بْنِ زُرْعَةَ، عَنْ شُرَيْحٍ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «‏"‏أَوَّلُ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ مِنَ الْإِنْسَانِ، يَوْمَ يَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى الْأَفْوَاهِ، فَخِذُهُ مِنْ رِجْلِهِ الْيُسْرَى‏"‏»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 67‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَعْمَيْنَاهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَأَضْلَلْنَاهُمْ عَنْ قَصْدِ الْمَحَجَّةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَضْلَلْتُهُمْ وَأَعْمَيْتُهُمْ عَنِ الْهُدَى وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَتَرَكْنَاهُمْ عُمْيًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَوْ يَشَاءُ لَطَمَسَ عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَتَرَكَهُمْ عُمْيًا يَتَرَدَّدُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَوْ شِئْنَا لَتَرَكْنَاهُمْ عُمْيًا يَتَرَدَّدُونَ‏.‏ وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا تَهَدَّدَ بِهِ قَوْمًا كُفَّارًا، فَلَا وَجْهَ لِأَنْ يُقَالُ‏:‏ وَهُمْ كُفَّارٌ، لَوْ نَشَاءُ لَأَضْلَلْنَاهُمْ وَقَدْ أُضِلُّهُمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ‏:‏ لَوْ نَشَاءُ لَعَاقَبْنَاهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَصَيَّرْنَاهُمْ عُمْيًا لَا يُبْصِرُونَ طَرِيقًا، وَلَا يَهْتَدُونَ لَهُ؛ وَالطَّمْسُ عَلَى الْعَيْنِ‏:‏ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ جَفْنَيِ الْعَيْنِ غَرٌّ، وَذَلِكَ هُوَ الشَّقُّ الَّذِي بَيْنَ الْجَفْنَيْنِ كَمَا تَطْمِسُ الرِّيحُ الْأَثَرَ، يُقَالُ‏:‏ أَعْمَى مَطْمُوسٌ وَطَمِيسٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَابْتَدَرُوا الطَّرِيقَ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ ‏{‏فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ‏}‏ قَالَ الطَّرِيقَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ‏}‏ أَيِ‏:‏ الطَّرِيقَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الصِّرَاطُ، الطَّرِيقُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏فَأَنَّى يُبْصِرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَأَيَّ وَجْهٍ يُبْصِرُونَ أَنْ يَسْلُكُوهُ مِنَ الطُّرُقِ، وَقَدْ طَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ ‏{‏فَأَنَّى يُبْصِرُونَ‏}‏ وَقَدْ طَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ‏.‏

وَقَالَ الَّذِينَ وَجَّهُوا تَأْوِيلَ قَوْلِهِ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ‏}‏ إِلَى أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ الْعَمَى عَنِ الْهُدَى، تَأْوِيلُ قَوْلِهِ ‏(‏فَأَنَّى يُبْصِرُونَ‏)‏‏:‏ فَأَنَّى يَهْتَدُونَ لِلْحَقِّ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

-حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏(‏فَأَنَّى يُبْصِرُونَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ فَكَيْفَ يَهْتَدُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثني أَبِي، قَالَ‏:‏ ثني عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏(‏فَأَنَّى يُبْصِرُونَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ لَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَقْعَدْنَا هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَرْجُلِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ ‏{‏فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمْضُوا أَمَامَهُمْ، وَلَا أَنْ يَرْجِعُوا وَرَاءَهُمْ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَوْ نَشَاءُ لَأَقْعَدْنَاهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، ثنا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ‏}‏ أَيْ‏:‏ لَأَقْعَدْنَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ ‏{‏فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ‏}‏ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَتَقَدَّمُوا وَلَا يَتَأَخَّرُو‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَهْلَكْنَاهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثني أَبِي، قَالَ‏:‏ ثني عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَوْ نَشَاءُ أَهْلَكْنَاهُمْ فِي مَسَاكِنِهِمْ، وَالْمَكَانَةُ وَالْمَكَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏(‏وَمَنْ نُعَمِّرْهُ‏)‏ فَنَمُدُّ لَهُ فِي الْعُمُرِ ‏(‏نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ‏)‏ نَرُدُّهُ إِلَى مِثْلِ حَالِهِ فِي الصِّبَا مِنَ الْهِرَمِ وَالْكِبَرِ، وَذَلِكَ هُوَ النَّكْسُ فِي الْخَلْقِ، فَيَصِيرُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا بَعْدَ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ يَعْلَمُهُ‏.‏

وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ ‏{‏وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَنْ نَمُدُّ لَهُ فِي الْعُمُرِ نُنَكِّسُهُ فِي الْخَلْقِ، لِكَيْلَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا، يَعْنِي الْهِرَمَ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏(‏نُنَكِّسْهُ‏)‏ فَقَرَأَهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏(‏نَنْكِسْهُ‏)‏ بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَتَسْكِينِ الثَّانِيَةِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ‏(‏نُنَكِّسْهُ‏)‏ بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، غَيْرَ أَنَّ الَّتِي عَلَيْهَا عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ أَعْجَبُ إِلَيَّ، لِأَنَّ التَّنْكِيسَ مِنَ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ إِنَّمَا هُوَ حَالٌ بَعْدَ حَالٍ، وَشَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ، فَذَلِكَ تَأْيِيدٌ لِلتَّشْدِيدِ‏.‏

وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏(‏أَفَلَا يَعْقِلُونَ‏)‏ فَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ الْمَدِينَةِ ‏(‏أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏)‏ بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ‏.‏ وَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ الْكُوفَةِ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، وَقِرَاءَةُ ذَلِكَ بِالْيَاءِ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ‏}‏ فَإِخْرَاجُ ذَلِكَ خَبَرًا عَلَى نَحْوِ مَا خَرَجَ قَوْلُهُ ‏{‏لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ‏}‏ أَعْجَبُ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ غَيْرَ مَدْفُوعٍ‏.‏

وَيَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ‏(‏أَفَلَا يَعْقِلُونَ‏)‏‏:‏ أَفَلَا يَعْقِلُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى مَا يَشَاءُ بِمُعَايَنَتِهِمْ مَا يُعَايِنُونَ مِنْ تَصْرِيفِهِ خَلْقَهُ فِيمَا شَاءَ وَأَحَبَّ مِنْ صِغَرٍ إِلَى كِبَرٍ، وَمِنْ تَنْكِيسٍ بَعْدَ كِبَرٍ فِي هِرَمٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَا عَلَّمْنَا مُحَمَّدًا الشِّعْرَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، «عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ قِيلَلِ عَائِشَة‏:‏ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَثَّلُ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ كَانَ أَبْغَضَ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِبَيْتِ أَخِي بَنِي قَيْسٍ، فَيَجْعَلُ آخِرَهُ أَوَّلَهُ، وَأَوَّلَهُ آخِرَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ إِنَّهُ لَيْسَ هَكَذَا، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَنَا بِشَاعِرٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِي‏"‏»‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏(‏إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ‏)‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ، يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏)‏ إِنْ هُوَ‏)‏ أَيْ‏:‏ مُحَمَّدٌ إِلَّا ذِكْرٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، ذَكَّرَكُمُ اللَّهُ بِإِرْسَالِهِ إِيَّاهُ إِلَيْكُمْ، وَنَبَّهَكُمْ بِهِ عَلَى حَظِّكُمْ ‏(‏وَقُرْآنٍ مُبِينٍ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ وَهَذَا الَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ قُرْآنٌ مُبِينٌ، يَقُولُ‏:‏ يُبَيِّنُ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ بِعَقْلٍ وَلُبٍّ، أَنَّهُ تَنْـزِيلٌ مِنَ اللَّهِ أَنْـزَلَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا مَعَ كَاهِنٍ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏(‏وَقُرْآنٍ مُبِينٍ‏)‏ قَالَ‏:‏ هَذَا الْقُرْآنُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنْ مُحَمَّدٌ إِلَّا ذِكْرٌ لَكُمْ لِيُنْذِرَ مِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ حَيَّ الْقَلْبِ، يَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهُ، وَيَفْهَمُ مَا يُبَيَّنُ لَهُ، غَيْرَ مَيِّتِ الْفُؤَادِ بَلِيدٍ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا‏}‏ قَالَ‏:‏ مَنْ كَانَ عَاقِلً‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا‏}‏‏:‏ حَيَّ الْقَلْبِ، حَيَّ الْبَصَرِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏{‏وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَيَحِقَّ الْعَذَابُ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، الْمُوَلِّينَ عَنِ اتِّبَاعِهِ، الْمُعْرِضِينَ عَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ بِأَعْمَالِهِمْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏(‏أَوَلَمْ يَرَوْا‏)‏ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ ‏{‏أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مِمَّا خَلَقْنَا مِنَ الْخَلْقِ ‏(‏أَنْعَامًا‏)‏ وَهِيَ الْمَوَاشِي الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ، فَسَخَّرَهَا لَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ‏{‏فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَهُمْ لَهَا مُصَرِّفُونَ كَيْفَ شَاءُوا بِالْقَهْرِ مِنْهُمْ لَهَا وَالضَّبْطِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏}‏ أَيْ‏:‏ ضَابِطُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏}‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَهِيَ الْإِبِلُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ وَالْبَقَرُ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَلَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ‏:‏ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَقَرَأَ ‏(‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ‏)‏ قَالَ‏:‏ وَالْبَقَرُ وَالْإِبِلُ هِيَ النَّعَمُ، وَلَيْسَتْ تَدْخُلُ الشَّاءُ فِي النَّعَمِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏(‏وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ وَذَلَّلْنَا لَهُمْ هَذِهِ الْأَنْعَامَ ‏(‏فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ فَمِنْهَا مَا يَرْكَبُونَ كَالْإِبِلِ يُسَافِرُونَ عَلَيْهَا؛ يُقَالُ‏:‏ هَذِهِ دَابَّةٌ رُكُوبٌ، وَالرُّكُوبُ بِالضَّمِّ‏:‏ هُوَ الْفِعْلُ ‏(‏وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ‏)‏ لُحُومَهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ‏}‏‏:‏ يَرْكَبُونَهَا يُسَافِرُونَ عَلَيْهَا ‏{‏وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ‏}‏ لُحُومَهَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَنْعَامِ مَنَافِعُ، وَذَلِكَ مَنَافِعُ فِي أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا بِاتِّخَاذِهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَثَاثًا وَمَتَاعًا، وَمِنْ جُلُودِهَا أَكْنَانًا، وَمَشَارِبُ يَشْرَبُونَ أَلْبَانَهَا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ‏}‏ يَلْبَسُونَ أَصْوَافَهَا ‏(‏وَمَشَارِبُ‏)‏ يَشْرَبُونَ أَلْبَانَهَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏(‏أَفَلَا يَشْكُرُونَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ أَفَلَا يَشْكُرُونَ نِعْمَتِي هَذِهِ، وَإِحْسَانِي إِلَيْهِمْ بِطَاعَتِي، وَإِفْرَادِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَتَرْكِ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَاتَّخَذَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا ‏(‏لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ طَمَعًا أَنْ تَنْصُرَهُمْ تِلْكَ الْآلِهَةُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لَا تَسْتَطِيعُ هَذِهِ الْآلِهَةُ نَصْرَهُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِهِمْ سُوءًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ ضُرًّا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لِآلِهَتِهِمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏(‏مُحْضَرُونَ‏)‏ وَأَيْنَ حُضُورُهُمْ إِيَّاهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِذَلِكَ‏:‏ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ عِنْدَ الْحِسَابِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ عِنْدَ الْحِسَابِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فِي الدُّنْيَا يَغْضَبُونَ لَهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ‏}‏ الْآلِهَةُ ‏{‏وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ‏}‏ وَالْمُشْرِكُونَ يَغْضَبُونَ لِلْآلِهَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ لَا تَسُوقُ إِلَيْهِمْ خَيْرًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ سُوءًا، إِنَّمَا هِيَ أَصْنَامٌ‏.‏

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْحِسَابِ تَتَبَرَّأُ مِنْهُمُ الْأَصْنَامُ، وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ لَهَا جُنْدًا حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا لَهُمْ جُنْدٌ يَغْضَبُونَ لَهُمْ، وَيُقَاتِلُونَ دُونَهُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى ‏{‏فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَلَا يحْزُنْكَ يَا مُحَمَّدُ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مِنْ قَوْمِكَ لَكَ‏:‏ إِنَّكَ شَاعِرٌ، وَمَا جِئْتَنَا بِهِ شِعْرٌ، وَلَا تَكْذِيبُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَجُحُودُهُمْ نُبُوَّتَكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَى قِيلِ ذَلِكَ الْحَسَدِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَلَا يُشْبِهُ الشِّعْرَ، وَأَنَّكَ لَسْتَ بِكَذَّابٍ، فَنَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِيقَةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ جُحُودِهِمْ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلَانِيَةً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ‏}‏ وَاخْتُلِفَ فِي الْإِنْسَانِ الَّذِي عُنِيَ بِقَوْلِهِ ‏(‏أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ‏)‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثنا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ ‏(‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا‏)‏ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، «عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ ‏{‏قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏‏:‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ حَائِلٍ، فَفَتَّهُ، ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الرِّيحِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يُحْيِي هَذَا وَهُوَ رَمِيمٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏وَاللَّهُ يُحْيِيهِ، ثُمَّ يُمِيتُهُ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ؛ قَالَ‏:‏ فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُد»‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِهِ‏:‏ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ‏:‏ «جَاءَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ حَائِلٍ، فَفَتَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ أَيَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا حَيًّا بَعْدَ مَا أَرَمَّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا، ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ نَارَ جَهَنَّمَ‏"‏ قَالَ‏:‏ ونَزَلَتِ الْآيَاتُ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏‏.‏ ‏"‏» وَإِلَى آخِرِ الْآيَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِهِ‏:‏ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثني أَبِي، قَالَ‏:‏ ثني عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ‏}‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ ‏(‏وَهِيَ رَمِيمٌ‏)‏ قَالَ‏:‏ «جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ حَائِلٍ فَكَسَرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا وَهُوَ رَمِيمٌ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا، وَيُمِيتُكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ ‏{‏قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏»‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ‏:‏ أَوْ لَمْ يَرَ هَذَا الْإِنْسَانُ الَّذِي يَقُولُ ‏{‏مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَسَوَّيْنَاهُ خَلْقًا سَوِيًّا ‏{‏فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَإِذَا هُوَ ذُو خُصُومَةٍ لِرَبِّهِ، يُخَاصِمُهُ فِيمَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ إِنِّي فَاعِلٌ، وَذَلِكَ إِخْبَارٌ لِلَّهِ إِيَّاهُ أَنَّهُ مُحْيِي خَلْقِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، فَيَقُولُ‏:‏ مَنْ يُحْيِي هَذِهِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏؟‏ إِنْكَارًا مِنْهُ لِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِحْيَائِهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏(‏مُبِينٌ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ يَبِينُ لِمَنْ سَمِعَ خُصُومَتَهُ وَقِيلَهُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُخَاصِمٌ رَبَّهُ الَّذِي خَلَقَهُ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَثَّلَ لَنَا شَبَهًا بِقَوْلِهِ ‏{‏مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ إِذْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ ذَلِكَ أَحَدٌ، يَقُولُ‏:‏ فَجَعَلَنَا كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ ذَلِكَ مِنَ الْخَلْقِ ‏(‏وَنَسِيَ خَلْقَهُ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ وَنَسِيَ خَلْقَنَا إِيَّاهُ كَيْفَ خَلَقْنَاهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا نُطْفَةً، فَجَعَلْنَاهَا خَلْقًا سَوِيًّا نَاطِقًا، يَقُولُ‏:‏ فَلَمْ يُفَكِّرْ فِي خَلْقِنَاهُ، فَيَعْلَمْ أَنَّ مَنْ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ حَتَّى صَارَ بَشَرًا سَوِيًّا نَاطِقًا مُتَصَرِّفًا، لَا يَعْجَزُ أَنْ يُعِيدَ الْأَمْوَاتَ أَحْيَاءً، وَالْعِظَامَ الرَّمِيمَ بَشَرًا كَهَيْئَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا بِهَا قَبْلَ الْفَنَاءِ، يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏(‏قُلْ‏)‏ لِهَذَا الْمُشْرِكِ الْقَائِلِ لَكَ‏:‏ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ‏{‏يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يُحْيِيهَا الَّذِي ابْتَدَعَ خَلْقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا ‏{‏وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَهُوَ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ ذُو عِلْمٍ كَيْفَ يُمِيتُ، وَكَيْفَ يُحْيِي، وَكَيْفَ يُبْدِئُ، وَكَيْفَ يُعِيدُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ خَلْقِهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ الَّذِي أَخْرَجَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا تَحْرِقُ الشَّجَرَ، لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا أَرَادَ، وَلَا يَعْجَزُ عَنْ إِحْيَاءِ الْعِظَامِ الَّتِي قَدْ رَمَّتْ، وَإِعَادَتِهَا بَشَرًا سَوِيًّا، وَخَلْقًا جَدِيدًا، كَمَا بَدَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ الَّذِي أَخْرَجَ هَذِهِ النَّارَ مِنْ هَذَا الشَّجَرِ قَادِرٌ أَنْ يَبْعَثَهُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏{‏فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الشَّجَرِ تُوقِدُونَ النَّارَ؛ وَقَالَ‏)‏ مِنْهُ‏)‏ وَالْهَاءُ مِنْ ذِكْرِ الشَّجَرِ، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ مِنْهَا، وَالشَّجَرُ جَمْعُ شَجَرَةٍ، لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الثَّمَرِ وَالْحَصَى، وَلَوْ قِيلَ‏:‏ مِنْهَا كَانَ صَوَابًا أَيْضًا، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُذَكِّرُ مِثْلَ هَذَا وَتُؤَنِّثُهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُنَبِّهًا هَذَا الْكَافِرَ الَّذِي قَالَ ‏{‏مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ عَلَى خَطَأِ قَوْلِهِ، وَعَظِيمِ جَهْلِهِ ‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ‏}‏ السَّبْعِ ‏{‏وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ‏}‏ مِثْلَكُمْ، فَإِنَّ خَلْقَ مِثْلِكُمْ مِنَ الْعِظَامِ الرَّمِيمِ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ فَمَنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ خَلْقُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِكُمْ، فَكَيْفَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِحْيَاءُ الْعِظَامِ بَعْدَ مَا قَدْ رَمَّتْ وَبَلِيَتْ‏؟‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ بَلَى هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَهُوَ الْخَلَّاقُ لِمَا يَشَاءُ، الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الْعَلِيمُ بِكُلِّ مَا خَلَقَ وَيَخْلُقُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثنا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ‏}‏ قَالَ‏:‏ هَذَا مَثَلٌ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، قَالَ‏:‏ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ شَيْءٌ هُوَ أَخَفُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أَهْوَنُ، فَأَمْرُ اللَّهِ كَذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَتَنْـزِيهُ الَّذِي بِيَدِهِ مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ وَخَزَائِنُهُ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏(‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ وَإِلَيْهِ تُرَدُّونَ وَتَصِيرُونَ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ‏.‏

آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ يس