فصل: تفسير الآية رقم (8)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ بَلَاءٌ فِي جَسَدِهِ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ عَاهَةٍ، أَوْ شِدَّةٍ فِي مَعِيشَتِهِ، وَجُهْدٌ وَضِيقٌ ‏(‏دَعَا رَبَّهُ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ اسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ الَّذِي خَلَقَهُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ، وَرَغِبَ إِلَيْهِ فِي كَشْفِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏مُنِيبًا إِلَيْهِ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ تَائِبًا إِلَيْهِ مِمَّا كَانَ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، وَإِشْرَاكِ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ، رَاجِعًا إِلَى طَاعَتِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْوَجَعُ وَالْبَلَاءُ وَالشِّدَّةُ ‏{‏دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُسْتَغِيثًا بِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ثُمَّ إِذَا مَنَحَهُ رَبُّهُ نِعْمَةً مِنْهُ، يَعْنِي عَافِيَةً، فَكَشَفَ عَنْهُ ضُرَّهُ، وَأَبْدَلَهُ بِالسَّقَمِ صِحَّةً، وَبِالشِّدَّةِ رَخَاءً‏.‏ وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ‏:‏ قَدْ خَوَّلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ الْعِجْلِيِّ‏:‏

أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلْ *** كُومَ الذَّرَا مِنْ خَوَلِ الْمُخَوِّلِ

وَحُدِّثْتُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَّهُ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو يَقُولُ فِي بَيْتِ زُهَيْرٍ‏:‏

هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْوَلُوا الْمَالَ يُخْوِلُوا *** وَإِنْ يُسْأَلُوا يُعْطُوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يُغْلُوا

قَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ قَالَ يُونُسُ‏:‏ إِنَّمَا سَمِعْنَاهُ‏:‏

هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْبِلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا

قَالَ‏:‏ وَهِيَ بِمَعْنَاهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ‏{‏ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ‏}‏‏:‏ إِذَا أَصَابَتْهُ عَافِيَةٌ أَوْ خَيْرٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ تَرَكَ دُعَاءَهُ الَّذِي كَانَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكْشِفَ مَا كَانَ بِهِ مِنْ ضُرٍّ ‏{‏وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا‏}‏ يَعْنِي‏:‏ شُرَكَاءَ‏.‏ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ‏(‏نَسِيَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ تَرَكَ، هَذَا فِي الْكَافِرِ خَاصَّةً‏.‏

وَلِ‏"‏مَا‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏نَسِيَ مَا كَانَ‏)‏ وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ تَرَكَ الَّذِي كَانَ يَدْعُوهُ فِي حَالِ الضُّرِّ الَّذِي كَانَ بِهِ، يَعْنِي بِهِ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، فَتَكُونُ‏"‏مَا‏"‏ مَوْضُوعَةً عِنْدَ ذَلِكَ مَوْضِعَ ‏"‏مَنْ‏"‏ كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ يَعْنِي بِهِ اللَّهَ، وَكَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ‏.‏ وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَانَ فِي الْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِلَيْهِ‏)‏ وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ مَا‏.‏ وَالْآخَرُ‏:‏ مِنْ ذِكْرِ الرَّبِّ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَمْثَالًا وَأَشْبَاهًا‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهَا فِيهِ لَهُ أَنْدَادًا، قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ جَعَلُوهَا لَهُ أَنْدَادًا فِي طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ‏{‏وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَنْدَادُ مِنَ الرِّجَالِ‏:‏ يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ عَبَدَ الْأَوْثَانَ، فَجَعَلَهَا لِلَّهِ أَنْدَادًا فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا‏.‏

وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ عَنَى بِهِ أَنَّهُ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَعَلَ لَهُ الْأَوْثَانَ أَنْدَادًا، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ عِتَابِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَهُ عَلَى عِبَادَتِهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لِيُزِيلَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُوَحِّدَ اللَّهَ وَيُؤْمِنَ بِهِ عَنْ تَوْحِيدِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِهِ، وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِفَاعِلِ ذَلِكَ‏:‏ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ بِاللَّهِ قَلِيلًا إِلَى أَنْ تَسْتَوْفِيَ أَجَلَكَ، فَتَأْتِيَكَ مَنِيَّتُكَ ‏{‏إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ‏}‏‏:‏ أَيْ إِنَّكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الْمَاكِثِينَ فِيهَا‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ‏)‏‏:‏ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَتَهَدُّدٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِقُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَمَّنْ‏)‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَبَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَعَامَّةُ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏"‏أَمَنْ‏"‏ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَلِقِرَاءَتِهِمْ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْأَلِفُ فِي‏"‏أَمَنْ‏"‏ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، يُرَادُ بِهَا‏:‏ يَا مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَالْعَرَبُ تُنَادِي بِالْأَلِفِ كَمَا تُنَادِي بِيَا، فَتَقُولُ‏:‏ أَزَيْدُ أَقْبِلْ، وَيَا زَيْدُ أَقْبِلْ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ‏:‏

أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمْ بِيَدٍ *** إِلَّا يَدٌ لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ

وَإِذَا وَجَّهْتَ الْأَلِفَ إِلَى النِّدَاءِ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ قُلْ تَمَتَّعْ أَيُّهَا الْكَافِرُ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَيَا مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا إِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَكُونُ فِي النَّارِ عَمَّا لِلْفَرِيقِ الْكَافِرِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، الْكِفَايَةُ عَنْ بَيَانِ مَا لِلْفَرِيقِ الْمُؤْمِنِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا اخْتِلَافُ أَحْوَالِهِمَا فِي الدُّنْيَا، وَمَعْقُولًا أَنَّ أَحَدَهُمَا إِذَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ لِكُفْرِهِ بِرَبِّهِ أَنَّ الْآخَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، فَحَذَفَ الْخَبَرَ عَمَّا لَهُ، اكْتِفَاءً بِفَهْمِ السَّامِعِ الْمُرَادَ مِنْهُ مِنْ ذِكْرِهِ، إِذْ كَانَ قَدْ دَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ بِالْمَذْكُورِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَمَنْ‏"‏ أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ أَهَذَا كَالَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، ثُمَّ اكْتَفَى بِمَا قَدْ سَبَقَ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ فَرِيقِ الْكَفْرِ بِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، إِذْ كَانَ مَفْهُومًا الْمُرَادُ بِالْكَلَامِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ *** سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعًا

فَحَذَفَ لَدَفَعْنَاهُ وَهُوَ مُرَادٌ فِي الْكَلَامِ إِذْ كَانَ مَفْهُومًا عِنْدَ السَّامِعِ مُرَادُهُ‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏(‏أَمَّنَ‏)‏ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، بِمَعْنَى‏:‏ أَمْ مَنْ هُوَ‏؟‏ وَيَقُولُونَ‏:‏ إِنَّمَا هِيَ ‏(‏أَمَّنْ‏)‏ اسْتِفْهَامٌ اعْتُرِضَ فِي الْكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ قَدْ مَضَى، فَجَاءَ بِأَمْ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ مَتْرُوكًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ جَرَى الْخَبَرُ عَنْ فَرِيقِ الْكَفْرِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ أَتْبَعَ الْخَبَرَ عَنْ فَرِيقِ الْإِيمَانِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ الْمُرَادُ، فَاسْتُغْنِيَ بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِ بِمَعْنَاهُ مِنْ ذِكْرِهِ، إِذْ كَانَ مَعْقُولًا أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ هَذَا أَفْضَلُ أَمْ هَذَا‏؟‏‏.‏

وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ مَعَ صِحَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي التَّأْوِيلِ وَالْإِعْرَابِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ فِي مَعْنَى الْقَانِتِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ أَقْوَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِيَعْلَمَ النَّاظِرُ فِي الْكِتَابِ اتِّفَاقَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ‏:‏ هُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قِرَاءَةُ الْقَارِئِ قَائِمًا فِي الصَّلَاةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْقُنُوتِ، قَالَ‏:‏ لَا أَعْلَمُ الْقُنُوتَ إِلَّا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَطُولَ الْقِيَامِ، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ الطَّاعَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ‏}‏ يَعْنِي بِالْقُنُوتِ‏:‏ الطَّاعَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُطِيعُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْقَانِتُ‏:‏ الْمُطِيعُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏آنَاءَ اللَّيْلِ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ سَاعَاتِ اللَّيْلِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏ أَوَّلُهُ، وَأَوْسَطُهُ، وَآخِرُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ‏(‏آنَاءَ اللَّيْلِ‏)‏ قَالَ‏:‏ سَاعَاتُ اللَّيْلِ‏.‏

وَقَدْ مَضَى بَيَانُنَا عَنْ مَعْنَى الْآنَاءِ بِشَوَاهِدِهِ، وَحِكَايَةُ أَقْوَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏سَاجِدًا وَقَائِمًا‏)‏ يَقُولُ‏:‏ يَقْنُتُ سَاجِدًا أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا قَائِمًا، يَعْنِي‏:‏ يُطِيعُ، وَالْقُنُوتُ عِنْدَنَا الطَّاعَةُ، وَلِذَلِكَ نَصَبَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏سَاجِدًا وَقَائِمًا‏)‏ لِأَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ أَمَّنْ هُوَ يَقْنُتُ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا طَوْرًا، وَقَائِمًا طَوْرًا، فَهُمَا حَالٌ مِنْ قَانِتٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏يَحْذَرُ الْآخِرَةَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ يَحْذَرُ عَذَابَ الْآخِرَةِ‏.‏ كَمَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْأَزْدِيُّ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏يَحْذَرُ الْآخِرَةَ‏)‏ قَالَ‏:‏ يَحْذَرُ عِقَابَ الْآخِرَةِ، وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، يَقُولُ‏:‏ وَيَرْجُو أَنْ يَرْحَمَهُ اللَّهُ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ‏:‏ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا لَهُمْ فِي طَاعَتِهِمْ لِرَبِّهِمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَمَا عَلَيْهِمْ فِي مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ التَّبِعَاتِ، وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَهُمْ يَخْبِطُونَ فِي عَشْوَاءَ، لَا يَرْجُونَ بِحُسْنِ أَعْمَالِهِمْ خَيْرًا، وَلَا يَخَافُونَ بِسَيِّئِهَا شَرًّا‏؟‏ يَقُولُ‏:‏ مَا هَذَانِ بِمُتَسَاوِيَيْنِ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي نَصْرُ بْنُ مُزَاحِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ الْجَرِيرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مُجَاهِدٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ نَحْنُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ، وَعَدُوُّنَا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّمَا يَعْتَبِرُ حُجَجَ اللَّهِ، فَيَتَّعِظُ، وَيَتَفَكَّرُ فِيهَا، وَيَتَدَبَّرُهَا أَهْلُ الْعُقُولِ وَالْحِجَا، لَا أَهْلَ الْجَهْلِ وَالنَّقْصِ فِي الْعُقُولِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْلِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏قُلْ‏)‏ يَا مُحَمَّدُ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ ‏(‏اتَّقُوا رَبَّكُمُ‏)‏ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ‏}‏‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ لِلَّذِينِ أَطَاعُوا اللَّهَ حَسَنَةٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَقَالَ ‏"‏فِي‏"‏ مِنْ صِلَةِ ‏"‏حَسَنَةٌ‏"‏، وَجَعَلَ مَعْنَى الْحَسَنَةِ‏:‏ الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْعَافِيَةُ وَالصِّحَّةُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏"‏فِي‏"‏ مِنْ صِلَةِ أَحْسَنُوا، وَمَعْنَى الْحَسَنَةِ‏:‏ الْجَنَّةُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَأَرْضُ اللَّهِ فَسِيحَةٌ وَاسِعَةٌ، فَهَاجِرُوا مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَحِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ‏}‏ فَهَاجِرُوا وَاعْتَزِلُوا الْأَوْثَانَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّمَا يُعْطِي اللَّهُ أَهْلَ الصَّبْرِ عَلَى مَا لَقُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا أَجْرَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، يَقُولُ‏:‏ ثَوَابُهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ لَا وَاللَّهِ مَا هُنَاكُمْ مِكْيَالٌ وَلَا مِيزَانٌ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ فِي الْجَنَّةِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَعْبُدَهُ مُفْرِدًا لَهُ الطَّاعَةَ، دُونَ كُلِّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ ‏{‏وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏‏:‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَمَرَنِي رَبِّي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ أَكُونَ بِفِعْلِ ذَلِكَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ، فَخَضَعَ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَخْلَصَ لَهُ الْعِبَادَةَ، وَبَرِئَ مِنْ كُلِّ مَا دُونَهُ مِنَ الْآلِهَةِ‏.‏ وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي فِيمَا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ عِبَادَتِهِ، مُخْلِصًا لَهُ الطَّاعَةَ، وَمُفْرِدَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ‏.‏ ‏(‏عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏)‏‏:‏ يَعْنِي عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ذَلِكَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَعْظُمُ هَوْلُهُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ‏:‏ اللَّهُ أَعْبُدُ مُخْلِصًا، مُفْرِدًا لَهُ طَاعَتِي وَعِبَادَتِي، لَا أَجْعَلُ لَهُ فِي ذَلِكَ شَرِيكًا، وَلَكِنِّي أُفْرِدُهُ بِالْأُلُوهَةِ، وَأَبْرَأُ مِمَّا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، فَاعْبُدُوا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ مَا شِئْتُمْ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ، فَسَتَعْلَمُونَ وَبَالَ عَاقِبَةِ عِبَادَتِكُمْ ذَلِكَ إِذَا لَقِيتُمْ رَبَّكُمْ‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ‏:‏ اللَّهُ أَعْبُدُ مُخْلِصًا، مُفْرِدًا لَهُ طَاعَتِي وَعِبَادَتِي، لَا أَجْعَلُ لَهُ فِي ذَلِكَ شَرِيكًا، وَلَكِنِّي أُفْرِدُهُ بِالْأُلُوهَةِ، وَأَبْرَأُ مِمَّا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، فَاعْبُدُوا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ مَا شِئْتُمْ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ، فَسَتَعْلَمُونَ وَبَالَ عَاقِبَةِ عِبَادَتِكُمْ ذَلِكَ إِذَا لَقِيتُمْ رَبَّكُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ‏:‏ إِنَّ الْهَالِكِينَ الَّذِينَ غَبَنُوا أَنْفُسَهُمْ، وَهَلَكَتْ بِعَذَابِ اللَّهِ أَهْلُوهُمْ مَعَ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِذْ دَخَلُوا النَّارَ فِيهَا أَهْلٌ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَهْلُونَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللَّهُ لِلنَّارِ، وَخَلَقَ النَّارَ لَهُمْ، فَزَالَتْ عَنْهُمُ الدُّنْيَا، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةُ، قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ أَهْلُ النَّارِ، خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَخَسِرُوا الْأَهْلِينَ، فَلَمْ يَجِدُوا فِي النَّارِ أَهْلًا وَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَهْلٌ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ غَبَنُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، قَالَ‏:‏ يَخْسَرُونَ أَهْلِيهِمْ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَهْلٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ، وَيَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَيَهْلَكُونَ فِي النَّارِ، فَيَمُوتُونَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ فَيَخْسَرُونَهُمَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَلَا إِنَّ خُسْرَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ هَلَاكُهَا هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هُوَ الْهَلَاكُ الَّذِي يَبِينُ لِمَنْ عَايَنَهُ وَعَلِمَهُ أَنَّهُ الْخُسْرَانُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ الْخَاسِرِينَ يَوْمَ الْقَيَّامَةِ فِي جَهَنَّمَ‏:‏ ‏{‏مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ‏}‏ وَذَلِكَ كَهَيْئَةِ الظُّلَلِ الْمَبْنِيَّةِ مِنَ النَّارِ ‏(‏وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ وَمِنْ تَحْتِهِمْ مِنَ النَّارِ مَا يَعْلُوهُمْ، حَتَّى يَصِيرَ مَا يَعْلُوهُمْ مِنْهَا مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلًا وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ‏}‏ يَغْشَاهُمْ مِمَّا تَحْتَهُمْ فِيهَا مِنَ الْمِهَادِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِهِ، مِمَّا لِلْخَاسِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ، تَخْوِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ لَكُمْ، يُخَوِّفُكُمْ بِهِ لِتَحْذَرُوهُ، فَتَجْتَنِبُوا مَعَاصِيَهُ، وَتُنِيبُوا مِنْ كُفْرِكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَتَنْجُوَا مِنْ عَذَابِهِ فِي الْآخِرَةِ ‏(‏فَاتَّقُونِ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ فَاتَّقَوْنِي بِأَدَاءِ فَرَائِضِي عَلَيْكُمْ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيَّ، لِتَنْجُوا مِنْ عَذَابِي وَسُخْطِي‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏‏:‏ أَيِ اجْتَنِبُوا عِبَادَةَ كُلِّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الطَّاغُوتِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِشَوَاهِدِ ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ الشَّيْطَانُ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَنَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الشَّيْطَانُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ الشَّيْطَانُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ الشَّيْطَانُ هُوَ هَا هُنَا وَاحِدٌ وَهِيَ جَمَاعَةٌ‏.‏

وَالطَّاغُوتُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ هَذَا وَاحِدٌ مُؤَنَّثٌ، وَلِذَلِكَ قِيلَ‏:‏ أَنْ يَعْبُدُوهَا‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ إِنَّمَا أُنِّثَتْ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى جَمَاعَةٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَتَابُوا إِلَى اللَّهِ وَرَجَعُوا إِلَى الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِمَّا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ‏.‏ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا زَيْدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ‏}‏‏:‏ وَأَقْبَلُوا إِلَى اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَجَابُوا إِلَيْهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏لَهُمُ الْبُشْرَى‏)‏ يَقُولُ‏:‏ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ ‏{‏فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ مِنَ الْقَائِلِينَ، فَيَتَّبِعُونَ أَرْشَدَهُ وَأَهْدَاهُ، وَأَدَلَّهُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَيَتْرُكُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى رَشَادٍ، وَلَا يَهْدِي إِلَى سَدَادٍ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏(‏فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏)‏ وَأَحْسَنُهُ طَاعَةُ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏)‏ قَالَ‏:‏ أَحْسُنُ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ فَيَعْمَلُونَ بِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ، يَقُولُ‏:‏ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِلرَّشَادِ وَإِصَابَةِ الصَّوَابِ، لَا الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، وَيَعْبُدُونَ مَا لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ أُولِي الْعُقُولِ وَالْحِجَا‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ مَعْرُوفِينَ وَحَّدُوا اللَّهَ، وَبَرِئُوا مِنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَا دُونَ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نَبِيِّهِ يَمْدَحُهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا‏}‏ الْآيَتَيْنِ، حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏:‏ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، نَزَلَ فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا‏}‏ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ ‏{‏وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا نَبِيٍّ ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ‏}‏‏:‏ أَفَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فِي سَابِقِ عِلْمِ رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ بِكَفْرِهِ بِهِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ‏}‏ بِكَفْرِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ يَا مُحَمَّدُ مَنْ هُوَ فِي النَّارِ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، فَأَنْتَ تُنْقِذُهُ، فَاسْتَغْنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ‏)‏ عَنْ هَذَا‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ‏:‏ هَذَا مِمَّا يُرَادُ بِهِ اسْتِفْهَامٌ وَاحِدٌ، فَيَسْبِقُ الِاسْتِفْهَامُ إِلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَيَرُدُّ الِاسْتِفْهَامَ إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ لَهُ‏.‏ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ‏:‏ ‏{‏أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ‏}‏ فَرَدَّدَ ‏"‏أَنَّكُمْ‏"‏ مَرَّتَيْنِ‏.‏ وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ إِذَا مُتُّمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَسْتَخْطِئُ الْقَوْلَ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَقُولُ‏:‏ لَا تَكُونُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ‏}‏ كِنَايَةً عَمَّنْ تَقَدَّمَ، لَا يُقَالُ‏:‏ الْقَوْمُ ضَرَبَتْ مَنْ قَامَ، يَقُولُ‏:‏ الْمَعْنَى‏:‏ أَلِتَجْزِئَةٍ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ مِنْهُمْ‏.‏ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلِمَةِ‏:‏ أَفَأَنَّتْ تَهْدِي يَا مُحَمَّدُ مَنْ قَدْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَتُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ بِالْإِيمَانِ‏؟‏ لَسْتَ عَلَى ذَلِكَ بِقَادِرٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لَكِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ، لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَالِيُّ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ ‏{‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِ جَنَّاتِهَا الْأَنْهَارُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَعْدَ اللَّهِ‏)‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَعَدْنَا هَذِهِ الْغُرَفَ الَّتِي مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ فِي الْجَنَّةِ، هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ ‏{‏لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُهُمْ وَعْدَهُ، وَلَكِنَّهُ يُوفِي بِوَعْدِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏أَلَمْ تَرَ‏)‏ يَا مُحَمَّدُ ‏{‏أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً‏}‏ وَهُوَ الْمَطَرُ ‏{‏فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَأَجْرَاهُ عُيُونًا فِي الْأَرْضِ، وَأَحَدُهَا يَنْبُوعٌ، وَهُوَ مَا جَاشَ مِنَ الْأَرْضِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ‏}‏ قَالَ‏:‏ كُلُّ نَدَى وَمَاءٍ فِي الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ نَزَلَ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ بَيَانٍ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ أَنْبَتَ بِذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَجَعَلَهُ فِي الْأَرْضِ عُيُونًا زَرْعًا ‏(‏مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مِنْ بَيْنِ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَسِمْسِمٍ وَأُرْزٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ ‏{‏ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ يَيْبَسُ ذَلِكَ الزَّرْعُ مِنْ بَعْدِ خُضْرَتِهِ، يُقَالُ لِلْأَرْضِ إِذَا يَبِسَ مَا فِيهَا مِنَ الْخُضَرِ وَذَوَى‏:‏ هَاجَتِ الْأَرْضُ، وَهَاجَ الزَّرْعُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا‏)‏ يَقُولُ‏:‏ فَتَرَاهُ مِنْ بَعْدِ خُضْرَتِهِ وَرُطُوبَتِهِ قَدْ يَبِسَ فَصَارَ أَصْفَرَ، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ إِذَا يَبِسَ اصْفَرَّ ‏{‏ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا‏}‏ وَالْحُطَامُ‏:‏ فُتَاتُ التِّبْنِ وَالْحَشِيشِ، يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ يُجْعَلُ ذَلِكَ الزَّرْعُ بَعْدَ مَا صَارَ يَابِسًا فُتَاتًا مُتَكَسِّرًا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ فِي فِعْلِ اللَّهِ ذَلِكَ كَالَّذِي وَصَفَ لَذِكْرَى وَمَوْعِظَةً لِأَهْلِ الْعُقُولِ وَالْحِجَا يَتَذَكَّرُونَ بِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّ مِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إِحْدَاثُ مَا شَاءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَإِنْشَاءُ مَا أَرَادَ مِنَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ، وَإِحْيَاءُ مَنْ هَلَكَ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ وَإِعَادَتِهِ مِنْ بَعْدِ فَنَائِهِ، كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ فَنَائِهِ، كَالَّذِي فَعَلَ بِالْأَرْضِ الَّتِي أَنْزَلَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا الْمَاءَ، فَأَنْبَتَ بِهَا الزَّرْعَ الْمُخْتَلِفَ الْأَلْوَانِ بِقُدْرَتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِفَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَفَمَنْ فَسَحَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِمَعْرِفَتِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَالْإِذْعَانِ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَالْخُضُوعِ لِطَاعَتِهِ ‏{‏فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَهُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَيَقِينٍ، بِتَنْوِيرِ الْحَقِّ فِي قَلْبِهِ، فَهُوَ لِذَلِكَ لِأَمْرِ اللَّهِ مُتَّبِعٌ، وَعَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ مُنْتَهٍ فِيمَا يُرْضِيهِ، كَمَنْ أَقْسَى اللَّهُ قَلَبَهُ، وَأَخْلَاهُ مِنْ ذِكْرِهِ، وَضَيَّقَهُ عَنِ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ، وَاتِّبَاعِ الْهُدَى، وَالْعَمَلِ بِالصَّوَابِ‏؟‏ وَتَرَكَ ذِكْرَ الَّذِي أَقْسَى اللَّهُ قَلْبَهُ، وَجَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ اجْتِزَاءٌ بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ الْمُرَادَ مِنَ الْكَلَامِ، إِذْ ذُكِرَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ، وَجُعِلَ مَكَانَ ذِكْرِ الصِّنْفِ الْآخَرِ الْخَبَرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ كِتَابُ اللَّهِ، هُوَ الْمُؤْمِنُ بِهِ يَأْخُذُ، وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَسَّعَ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَالنُّورُ‏:‏ الْهُدَى‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَيْسَ الْمُنْشَرِحُ صَدْرُهُ مِثْلَ الْقَاسِي قَلْبُهُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَوَيْلٌ لِلَّذِينِ جَفَتْ قُلُوبُهُمْ وَنَأَتْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَعْرَضَتْ، يَعْنِي عَنِ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُذَكِّرًا بِهِ عِبَادَهُ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَلَمْ يُصَدِّقْ بِمَا فِيهِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ ‏(‏مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ‏)‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَوُضِعَتْ‏"‏مِنْ‏"‏ مَكَانَ‏"‏عَنْ‏"‏، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ‏:‏ أُتْخِمْتُ مِنْ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ، وَعَنْ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْقَاسِيَةُ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَتَدَبَّرَهُ بِفَهْمٍ أَنَّهُ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ جَائِرٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا‏}‏ يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ ‏(‏مُتَشَابِهًا‏)‏ يَقُولُ‏:‏ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَلَا تَضَادَّ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا‏}‏الْآيَةُ تُشْبِهُ الْآيَةَ، وَالْحَرْفُ يُشْبِهُ الْحَرْفَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ‏(‏كِتَابًا مُتَشَابِهًا‏)‏ قَالَ‏:‏ الْمُتَشَابِهُ‏:‏ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏كِتَابًا مُتَشَابِهًا‏)‏ قَالَ‏:‏ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَدُلُّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏مَثَانِيَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ تُثَنَّى فِيهِ الْأَنْبَاءُ وَالْأَخْبَارُ وَالْقَضَاءُ وَالْأَحْكَامُ وَالْحُجَجُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ‏}‏ قَالَ‏:‏ ثَنَّى اللَّهُ فِيهِ الْقَضَاءَ، تَكُونُ السُّورَةُ فِيهَا الْآيَةُ فِي سُورَةٍ أُخْرَى آيَةٌ تُشْبِهُهَا، وَسُئِلَ عَنْهَا عِكْرِمَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏(‏مَثَانِيَ‏)‏ قَالَ‏:‏ ثَنَّى اللَّهُ فِيهِ الْفَرَائِضَ، وَالْقَضَاءَ، وَالْحُدُودَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏مَثَانِيَ‏)‏ قَالَ‏:‏ كِتَابُ اللَّهِ مَثَانِي، ثَنَّى فِيهِ الْأَمْرَ مِرَارًا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَثَانِيَ‏)‏ قَالَ‏:‏ كِتَابُ اللَّهِ مَثَانِي، ثَنَّى فِيهِ الْأَمْرَ مِرَارًا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَثَانِيَ‏)‏ ثَنَّى فِي غَيْرِ مَكَانٍ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَثَانِيَ‏)‏ مُرَدِّدٌ، رُدِّدَ مُوسَى فِي الْقُرْآنِ وَصَالِحٌ وَهُودٌ وَالْأَنْبِيَاءُ فِي أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ تَقْشَعِرُّ مِنْ سَمَاعِهِ إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ جُلُودُ الَّذِينَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ ‏{‏ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ يَعْنِي إِلَى الْعَمَلِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالتَّصْدِيقِ بِهِ‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَصْحَابَهُ سَأَلُوهُ الْحَدِيثَ‏.‏

ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْدِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَكَّامُ بْنُ سِلْمٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَمْرٍو الْمَلَئِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ حَدَّثْتَنَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ سَيَّارٍ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، قَالَ‏:‏ قَالُوا‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ‏.‏

‏{‏ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَذَا الَّذِي يُصِيبُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَتَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ مِنِ اقْشِعْرَارِ جُلُودِهِمْ، ثُمَّ لِينِهَا وَلِينِ قُلُوبِهِمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، ‏(‏هُدَى اللَّهِ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ تَوْفِيقَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَفَّقَهُمْ لَهُ ‏{‏يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يَهْدِي تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالْقُرْآنِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏.‏

وَقَدْ يَتَوَجَّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏ذَلِكَ هُدَى‏)‏ إِلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ هَذَا الْقُرْآنُ بَيَانُ اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ، يُوَفِّقُ لِلْإِيمَانِ بِهِ مَنْ يَشَاءُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَنْ يَخْذُلُهُ اللَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا فِيهِ، فَيُضِلُّهُ عَنْهُ، فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، يَقُولُ‏:‏ فَمَا لَهُ مِنْ مُوَفِّقٍ لَهُ، وَمُسَدِّدٍ يُسَدِّدُهُ فِي اتِّبَاعِهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ اتِّقَاءِ هَذَا الضَّالِّ بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ أَنْ يُرْمَى بِهِ فِي جَهَنَّمَ مَكْبُوبًا عَلَى وَجْهِهِ، فَذَلِكَ اتِّقَاؤُهُ إِيَّاهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ، يَقُولُ‏:‏ هُوَ مِثْلُ ‏{‏أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏‏؟‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ أَنْ يَنْطَلِقَ بِهِ إِلَى النَّارِ مَكْتُوفًا، ثُمَّ يُرْمَى بِهِ فِيهَا، فَأَوَّلُ مَا تَمَسُّ النَّارُ وَجْهُهُ، وَهَذَا قَوْلٌ يُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَهُ لِضِعْفِ سَنَدِهِ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا تَرَكَ جَوَابَهُ اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ عَنْهُ‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَيْرٌ، أَمْ مَنْ يَنْعَمُ فِي الْجِنَانِ‏؟‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَيُقَالُ يَوْمَئِذٍ لِلظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِإِكْسَابِهِمْ إِيَّاهَا سُخْطَ اللَّهِ‏.‏ ذُوقُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْقَوْمُ وَبَالَ مَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَكْسِبُونَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ مَضَوْا فِي الدُّهُورِ الْخَالِيَةِ رُسُلَهُمْ ‏{‏فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَجَاءَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَشْعُرُونَ‏:‏ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ بِمَجِيئِهِ مِنْهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَعَجَّلَ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمُ الْهَوَانَ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابَ قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُنْظِرْهُمْ إِذْ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ‏{‏وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَعَذَابُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا أَدْخَلَهُمُ النَّارَ، فَعَذَّبَهُمْ بِهَا، أَكْبَرُ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، يَقُولُ‏:‏ لَوْ عَلِمَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ ذَلِكَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَقَدْ مَثَّلْنَا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ مِنْ أَمْثَالِ الْقُرُونِ لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، تَخْوِيفًا مِنَّا لَهُمْ وَتَحْذِيرًا ‏(‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ لِيَتَذَكَّرُوا فَيَنْزَجِرُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏)‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ‏{‏غَيْرَ ذِي عِوَجٍ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ ذِي لَبْسٍ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ‏}‏‏:‏ غَيْرُ ذِي لَبْسٍ‏.‏

وَنُصِبَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏)‏ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ هَذَا الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَعْرِفَةٌ، وَقَوْلُهُ ‏(‏قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏)‏ نَكِرَةٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ جَعَلْنَا قُرْآنًا عَرَبِيًّا إِذْ كَانُوا عَرَبًا، لِيَفْهَمُوا مَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ، حَتَّى يَتَّقُوا مَا حَذَّرَهُمُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ بَأْسِهِ وَسَطْوَتِهِ، فَيُنِيبُوا إِلَى عِبَادَتِهِ وَإِفْرَادِ الْأُلُوهَةِ لَهُ، وَيَتَبَرَّءُوا مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَوَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَثَّلَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْكَافِرِ بِاللَّهِ الَّذِي يَعْبُدُ آلِهَةً شَتَّى، وَيُطِيعُ جَمَاعَةً مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَالْمُؤْمِنَ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ الْوَاحِدَ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِهَذَا الْكَافِرِ رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ هُوَ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مَالِكِينَ مُتَشَاكِسِينَ، يَعْنِي مُخْتَلِفِينَ مُتَنَازِعِينَ، سَيِّئَةٌ أَخْلَاقُهُمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ رَجُلٌ شَكَسٌ‏:‏ إِذَا كَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْتَخْدِمُهُ بِقَدَرِ نَصِيبِهِ وَمِلْكِهِ فِيهِ، وَرَجُلًا مُسَلَّمًا لِرَجُلٍ، يَقُولُ‏:‏ وَرَجُلًا خُلُوصًا لِرَجُلٍ يَعْنِي الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ الَّذِي أَخْلَصَ عِبَادَتَهُ لِلَّهِ، لَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَلَا يَدَيْنِ لِشَيْءٍ سِوَاهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَرَجُلًا سَلَمًا‏)‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةَ‏:‏ ‏"‏وَرَجُلًا سَالِمًا‏"‏ وَتَأَوَّلُوهُ بِمَعْنَى‏:‏ رَجُلًا خَالِصًا لِرَجُلٍ‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا‏:‏ ‏"‏سَالِمًا لِرَجُلٍ‏"‏ يَعْنِي بِالْأَلِفِ، وَقَالَ‏:‏ لَيْسَ فِيهِ لِأَحَدٍ شَيْءٌ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ‏:‏ ‏{‏وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ صُلْحًا‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّلَمَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ سَلِمَ فُلَانٌ لِلَّهِ سَلَمًا بِمَعْنَى‏:‏ خَلَصَ لَهُ خُلُوصًا، تَقُولُ الْعَرَبُ‏:‏ رَبِحَ فُلَانٌ فِي تِجَارَتِهِ رِبْحًا وَرَبَحًا وَسَلِمَ سِلْمًا وَسَلَمًا وَسَلَامَةً، وَأَنَّ السَّالِمَ مِنْ صِفَةِ الرَّجُلِ، وَسَلِمَ مَصْدَرٌ مِنْ ذَلِكَ‏.‏ وَأَمَّا الَّذِي تَوَهَّمَهُ مَنْ رَغِبَ مِنْ قِرَاءَةِ ذَلِكَ سَلَمًا مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ صُلْحًا، فَلَا وَجْهَ لِلصُّلْحِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ صِفَةِ الْآخَرِ، إِنَّمَا تَقَدَّمَ بِالْخَبَرِ عَنِ اشْتِرَاكِ جَمَاعَةٍ فِيهِ دُونَ الْخَبَرِ عَنْ حَرْبِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَنْ مُخَالِفِهِ بِخُلُوصِهِ لِوَاحِدٍ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا مَوْضِعَ لِلْخَبَرِ عَنِ الْحَرْبِ وَالصُّلْحِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَالِمًا لِرَجُلٍ‏"‏ قَالَ‏:‏ هَذَا مَثَلُ إِلَهِ الْبَاطِلِ وَإِلَهِ الْحَقِّ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هَذَا الْمُشْرِكُ تَتَنَازَعُهُ الشَّيَاطِينُ، لَا يُقِرُّ بِهِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏"‏وَرَجُلًا سَالِمًا لِرَجُلٍ‏"‏ قَالَ‏:‏ هُوَ الْمُؤْمِنُ أَخْلَصَ الدَّعْوَةَ وَالْعِبَادَةَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الشُّرَكَاءُ الْمُتَشَاكِسُونَ‏:‏ الرَّجُلُ الَّذِي يَعْبُدُ آلِهَةً شَتَّى كُلُّ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ إِلَهًا يَرْضَوْنَهُ وَيَكْفُرُونَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ، فَضَرَبَ اللَّهُ هَذَا الْمَثَلَ لَهُمْ، وَضَرَبَ لِنَفْسِهِ مَثَلًا يَقُولُ‏:‏ رَجُلًا سَلِمَ لِرَجُلٍ يَقُولُ‏:‏ يَعْبُدُونَ إِلَهًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ مَثَّلَ لِأَوْثَانِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ الَّذِي فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ كُلُّهُمْ سَيِّئُ الْخُلُقِ، لَيْسَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ إِلَّا تَلْقَاهُ آخِذًا بِطَرَفٍ مِنْ مَالٍ لِاسْتِخْدَامِهِ أَسِوَاؤُهُمْ، وَالَّذِي لَا يَمْلِكُهُ إِلَّا وَاحِدٌ، فَإِنَّمَا هَذَا مَثَّلَ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْآلِهَةَ، وَجَعَلُوا لَهَا فِي أَعْنَاقِهِمْ حُقُوقًا، فَضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لَهُمْ، وَلِلَّذِي يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَرَجُلًا سَالِمَا لِرَجُلٍ ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ لَيْسَ مَعَهُ شِرْكٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَلْ يَسْتَوِي مِثْلُ هَذَا الَّذِي يَخْدِمُ جَمَاعَةَ شُرَكَاءٍ سَيِّئَةٌ أَخْلَاقُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ لِخِدْمَتِهِ مَعَ مُنَازَعَتِهِ شُرَكَاءَهُ فِيهِ وَالَّذِي يَخْدِمُ وَاحِدًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ مُنَازِعٌ إِذَا أَطَاعَهُ عَرَفَ لَهُ مَوْضِعَ طَاعَتِهِ وَأَكْرَمَهُ، وَإِذَا أَخْطَأَ صَفَحَ لَهُ عَنْ خَطَئِهِ، يَقُولُ‏:‏ فَأَيُّ هَذَيْنِ أَحْسَنُ حَالًا وَأَرْوَحُ جِسْمًا وَأَقَلُّ تَعَبًا وَنَصَبًا‏؟‏‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَنِ اخْتُلِفَ فِيهِ خَيْرٌ، أَمْ مَنْ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ‏؟‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏الْحَمْدُ لِلَّهِ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ الشُّكْرُ الْكَامِلُ، وَالْحَمْدُ التَّامُّ لِلَّهِ وَحْدَهُ دُونَ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَمَا يَسْتَوِي هَذَا الْمُشْتَرِكُ فِيهِ، وَالَّذِي هُوَ مُنْفَرِدُ مُلْكُهُ لِوَاحِدٍ، بَلْ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ، فَهُمْ بِجَهْلِهِمْ بِذَلِكَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً شَتَّى مِنْ دُونِ اللَّهِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ ‏(‏هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ مَثَلَيْنِ لِأَنَّهُمَا كِلَاهُمَا ضَرَبَا مَثَلًا وَاحِدًا، فَجَرَى الْمَثَلُ بِالتَّوْحِيدِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ‏}‏ آيَةً إِذْ كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا فِي الْآيَةِ‏.‏

وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ مَيِّتٌ عَنْ قَلِيلٍ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِيكَ مَنْ قَوْمِكَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ مَيِّتُونَ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ إِنْ جَمِيعَكُمُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْكُمْ مِنَ الظَّالِمِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَ جَمِيعِكِمْ بِالْحَقِّ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى بِهِ اخْتِصَامَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَاخْتِصَامَ الْمَظْلُومِ وَالظَّالِمِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا عَلَيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يُخَاصِمُ الصَّادِقُ الْكَاذِبَ، وَالْمَظْلُومُ الظَّالِمَ، وَالْمُهْتَدِي الضَّالَّ، وَالضَّعِيفُ الْمُسْتَكْبِرَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ الْكُفْرِ‏.‏

حَدَّثَنِي ابْنُ الْبَرْقِيِّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ الدَّرَاوَرْدِيِّ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ‏:‏ «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ قَالَ الزُّبَيْرُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُنْكِرُ عَلَيْنَا مَا كَانَ بَيْنَنَا فَى الدُّنْيَا مَعَ خَوَاصِّ الذُّنُوبِ‏؟‏ فَقَالَ النَّبِيُّ‏:‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏"‏نَعَمْ حَتَّى يُؤَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقُّه»‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عَنِيَ بِذَلِكَ اخْتِصَامَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ

‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ عَلَيْنَا هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا نَدْرِي مَا تَفْسِيرُهَا حَتَّى وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، فَقُلْنَا‏:‏ هَذَا الَّذِي وَعَدَنَا رَبُّنَا أَنْ نَخْتَصِمَ فِيهِ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، قَالُوا‏:‏ مَا خُصُومَتُنَا بَيْنَنَا وَنَحْنُ إِخْوَانٌ، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَالُوا‏:‏ هَذِهِ خُصُومَتُنَا بَيْنَنَا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ عُنِيَ بِذَلِكَ‏:‏ إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ سَتَمُوتُ، وَإِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ سَتَمُوتُونَ، ثُمَّ إِنَّ جَمِيعَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَخْتَصِمُونَ عِنْدَ رَبِّكُمْ، مُؤْمِنُكُمْ وَكَافِرُكُمْ، وَمُحِقُّوكُمْ وَمُبْطِلُوكُمْ، وَظَالِمُوكُمْ وَمَظْلُومُوكُمْ، حَتَّى يُؤْخَذَ لِكُلٍّ مِنْكُمْ مِمَّنْ لِصَاحِبِهِ قَبْلَهُ حَقَّ حَقُّهُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِأَنَّ اللَّهَ عَمَّ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ خِطَابَ جَمِيعِ عِبَادِهِ، فَلَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ مِنْهُمْ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ عَلَى مَا عَمَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَقَدْ تَنْزِلُ الْآيَةُ فِي مَعْنَى، ثُمَّ يَكُونُ دَاخِلًا فِي حُكْمِهَا كُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى مَا نَزَلَتْ بِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَمَنْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَعْظَمُ فِرْيَةً مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، فَادَّعَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَصَاحِبَةً، أَوْ أَنَّهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ ‏{‏وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَكَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ إِذْ أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَابْتَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ رَسُولًا وَأَنْكَرَ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ‏}‏‏:‏ أَيْ بِالْقُرْآنِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ‏}‏ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ أَلَيْسَ فِي النَّارِ مَأْوًى وَمَسْكَنٌ لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَامْتَنَعَ مِنْ تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتِّبَاعِهِ عَلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَتَاهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَحُكْمِ الْقُرْآنِ‏؟‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَمَا ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَالصِّدْقُ الَّذِي جَاءَ بِهِ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ أَيْضًا، هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَنْ جَاءَ بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهَ ‏(‏وَصَدَّقَ بِهِ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ رَسُولَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏:‏ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ‏:‏ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مِصْعَدٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَسَيِّدِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدَّقَ بِهِ، قَالَ‏:‏ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏:‏ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصِّدْقُ‏:‏ الْقُرْآنُ، وَالْمُصَدِّقُونَ بِهِ‏:‏ الْمُؤْمِنُونَ

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِالْقُرْآنِ، وَصَدَّقَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏}‏ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدَّقَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ جِبْرِيلُ، وَالصِّدْقُ‏:‏ الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَصَدَّقَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏:‏ الْمُؤْمِنُونَ، وَالصِّدْقُ‏:‏ الْقُرْآنُ، وَهُمُ الْمُصَدِّقُونَ بِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ‏:‏ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتُمُونَا فَاتَّبَعْنَا مَا فِيهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ يَجِيئُونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ‏:‏ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتُمُونَا، فَاتَّبَعْنَا مَا فِيهِ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ كُلُّ مَنْ دَعَا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا ابْتَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ بَيْنِ رُسُلِ اللَّهِ وَأَتْبَاعِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَأَنْ يُقَالَ‏:‏ الصِّدْقُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْمُصَدِّقُ بِهِ‏:‏ الْمُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، مِنْ جَمِيعِ خَلْقِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ وَأَتْبَاعِهِ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ عَقِيبُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ‏}‏ وَذَلِكَ ذَمٌّ مِنَ اللَّهِ لِلْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ، الْمُكَذِّبِينَ بِتَنْزِيلِهِ وَوَحْيِهِ، الْجَاحِدِينَ وَحْدَانِيَّتَهُ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ عَقِيبُ ذَلِكَ مَدْحُ مَنْ كَانَ بِخِلَافِ صِفَةِ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَوَصْفُهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا، وَتَصْدِيقُهُمْ بِتَنْزِيلِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ، وَالَّذِينَ هُمْ كَانُوا كَذَلِكَ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، الْقَائِمُونَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ بِالدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَحُكْمِ كِتَابِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَخُصَّ وَصْفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَلَا عَلَى أَهْلِ زَمَانٍ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِصِفَةٍ، ثُمَّ مَدَحَهُمْ بِهَا، وَهِيَ الْمَجِيءُ بِالصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَصْفُهُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا كَانَ مَنْ بَنِي آدَمَ‏.‏

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏.‏‏"‏وَالَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ‏"‏ فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَتِهِ أَنَّ الَّذِي مِنْ قَوْلُهُ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏}‏ لَمْ يُعْنَ بِهَا وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ مُرَادٌ بِهَا جِمَاعٌ ذَلِكَ صِفَتُهُمْ، وَلَكِنَّهَا أُخْرِجَتْ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، إِذْ لَمْ تَكُنْ مُوَقَّتَةً‏.‏ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّ ‏"‏الذِي‏"‏فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جُعِلَ فِي مَعْنَى جَمَاعَةٍ بِمَنْزِلَةِ‏"‏مَنْ‏"‏‏.‏ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا أَيْضًا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ فَجَعْلَ الْخَبَرَ عَنْ ‏"‏الذِي‏"‏جِمَاعًا، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى جِمَاعٍ‏.‏ وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ عُنِيَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَصَدَّقَ بِهِ‏)‏‏:‏ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، فَقَوْلٌ بَعِيدٌ مِنَ الْمَفْهُومِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَكَانَ التَّنْزِيلُ‏:‏ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، فَكَانَتْ تَكُونُ ‏"‏الذِي‏"‏ مُكَرَّرَةً مَعَ التَّصْدِيقِ، لِيَكُونَ الْمُصَدِّقُ غَيْرَ الْمُصَدِّقِ، فَأَمَّا إِذَا لَمَّ يُكَرِّرْ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْكَلَامِ، أَنَّ التَّصْدِيقَ مِنْ صِفَةِ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، لَا وَجْهَ لِلْكَلَامِ غَيْرَ ذَلِكَ‏.‏ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ ‏"‏الذِي‏"‏فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ بِمَا قَدْ بَيَّنَّا، كَانَ الصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِهِ مَا بَيَّنَّا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ‏.‏ هُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ بِتَوْحِيدِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ، وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، فَخَافُوا عِقَابَهُ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ اتَّقَوُا الشِّرْكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ، وَتَلَذُّهُ أَعْيُنُهُمْ ‏{‏ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَذَا الَّذِي لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا فَأَطَاعَ اللَّهَ فِيهَا، وَائْتَمَرَ لِأَمْرِهِ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَاهُ فِيهَا عَنْهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَجَزَى هَؤُلَاءِ الْمُحْسِنِينَ رَبَّهُمْ بِإِحْسَانِهِمْ، كَيْ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ، فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، بِمَا كَانَ مِنْهُمْ فِيهَا مِنْ تَوْبَةٍ وَإِنَابَةٍ مِمَّا اجْتَرَحُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ فِيهَا ‏{‏وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَيُثِيبُهُمْ ثَوَابَهُمْ ‏{‏بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا‏}‏ فِي الدُّنْيَا ‏(‏يَعْمَلُونَ‏)‏ مِمَّا يَرْضَى اللَّهُ عَنْهُمْ دُونَ أَسْوَئِهَا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏‏:‏ أَيْ وَلَهُمْ ذُنُوبٌ، أَيْ رُبَّ نِعَمٍ ‏(‏لَهُمْ‏)‏ فِيهَا ‏{‏مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى أَنْ بَلَغَ ‏(‏وَمَغْفِرَةٌ‏)‏ لِئَلَّا يَيْأَسَ مَنْ لَهُمُ الذُّنُوبُ أَنْ لَا يَكُونُوا مِنْهُمْ ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالُ‏:‏ 4‏]‏، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏"‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عِبَادَهُ‏"‏عَلَى الْجِمَاعِ، بِمَعْنَى‏:‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ مُحَمَّدًا وَأَنْبِيَاءَهُ مِنْ قَبْلَهُ مَا خَوَّفَتْهُمْ أُمَمُهُمْ مِنْ أَنْ تَنَالُهُمْ آلِهَتُهُمْ بِسُوءٍ، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏(‏بِكَافٍ عَبْدَهُ‏)‏ عَلَى التَّوْحِيدِ، بِمَعْنَى‏:‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ‏.‏ فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ لِصِحَّةِ مَعْنَيَيْهَا وَاسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِهِمَا فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ بَلَى، وَاللَّهِ لِيَكْفِيَنَّهُ اللَّهُ وَيُعِزُّهُ وَيَنْصُرُهُ كَمَا وَعَدَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَيُخَوِّفُكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّدُ بِالَّذِينِ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْآلِهَةِ أَنْ تُصِيبَكَ بِسُوءٍ، بِبَرَاءَتِكَ مِنْهَا، وَعَيْبِكَ لَهَا، وَاللَّهُ كَافِيكَ ذَلِكَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، «عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ الْآلِهَةُ، قَالَ‏:‏ ‏"‏بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى شُعَبٍ بِسُقَامٍ لِيَكْسِرَ الْعُزَّى، فَقَالَ سَادِنُهَا، وَهُوَ قَيِّمُهَا‏:‏ يَا خَالِدُ أَنَا أُحَذِّرُكُهَا، إِنَّ لَهَا شِدَّةً لَا يَقُومُ إِلَيْهَا شَيْءٌ، فَمَشَى إِلَيْهَا خَالِدٌ بِالْفَأْسِ فَهَشَّمَ أَنْفَهَا‏"‏‏.‏»

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ ‏{‏وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ بِآلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ يُخَوِّفُونَكَ بِآلِهَتِهِمُ الَّتِي مِنْ دُونِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَنْ يَخْذُلْهُ اللَّهُ فَيُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَسَبِيلِ الرُّشْدِ، فَمَا لَهُ سِوَاهُ مِنْ مُرْشِدٍ وَمُسَدِّدٍ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ، وَمُوَفِّقٍ لِلْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ ‏{‏وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَنْ يُوَفِّقُهُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِكِتَابِهِ، فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ، يَقُولُ‏:‏ فَمَا لَهُ مِنْ مُزِيغٍ يُزِيغُهُ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ إِلَى الِارْتِدَادِ إِلَى الْكُفْرِ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ أَلَيْسَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بِعَزِيزٍ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ كَفَرَةِ خَلْقِهِ، ذِي انْتِقَامٍ مِنْ أَعْدَائِهِ الْجَاحِدِينَ وَحْدَانِيَّتَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ‏:‏ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ‏؟‏ لِيَقُولُنَّ‏:‏ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ، فَقُلْ‏:‏ أَفَرَأَيْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ هَذَا الَّذِي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْآلِهَةِ ‏{‏إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ بِشِدَّةٍ فِي مَعِيشَتِي، هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ عَنِّي مَا يُصِيبُنِي بِهِ رَبِّي مِنَ الضُّرِّ‏؟‏ ‏{‏أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ أَنْ يُصِيبَنِي سِعَةٌ فِي مَعِيشَتِي، وَكَثْرَةُ مَالِي، وَرَخَاءٌ وَعَافِيَةٌ فِي بَدَنِي، هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتٌ عَنِّي مَا أَرَادَ أَنْ يُصِيبَنِي بِهِ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ‏؟‏ وَتَرَكَ الْجَوَابَ لِاسْتِغْنَاءِ السَّامِعِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ‏.‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ فَإِنَّهُمْ سَيَقُولُونَ لَا فَقُلْ‏:‏ حَسْبِي اللَّهُ مِمَّا سِوَاهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، إِيَّاهُ أَعْبُدُ، وَإِلَيْهِ أَفْزَعُ فِي أُمُورِي دُونَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ، فَإِنَّهُ الْكَافِي، وَبِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ، لَا إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ‏{‏عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ عَلَى اللَّهِ يَتَوَكَّلُ مَنْ هُوَ مُتَوَكِّلٌ، وَبِهِ فَلْيَثِقْ لَا بِغَيْرِهِ‏.‏ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا‏.‏ يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ حَتَّى بَلَغَ ‏(‏كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ الْأَصْنَامَ ‏{‏أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ‏{‏كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ‏}‏ وَ ‏{‏مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ‏}‏، فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِضَافَةِ وَخَفْضِ الضُّرِّ وَالرَّحْمَةِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ بِالتَّنْوِينِ، وَنَصْبِ الضُّرِّ وَالرَّحْمَةِ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏كَيْدِ الْكَافِرِينَ‏)‏ فَى حَالِ الْإِضَافَةِ وَالتَّنْوِينِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ، الَّذِي اتَّخَذُوا الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ اعْمَلُوا أَيُّهَا الْقَوْمُ عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي تَعْمَلُونَ وَمَنَازِلُكُمْ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏عَلَى مَكَانَتِكُمْ‏)‏ قَالَ‏:‏ عَلَى نَاحِيَتِكُمْ ‏(‏إِنِّي عَامِلٌ‏)‏ كَذَلِكَ عَلَى تُؤَدَةٍ عَلَى عَمَلِ مَنْ سَلَفَ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ قَبْلِي ‏(‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏)‏ إِذَا جَاءَكُمْ بَأْسُ اللَّهِ، مَنِ الْمُحِقُّ مِنَّا مِنَ الْمُبْطِلِ، وَالرَّشِيدُ مِنَ الْغَوِيِّ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، مَا أَتَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، يَعْنِي‏:‏ يُذِلُّهُ وَيُهِينُهُ ‏{‏وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ عَذَابٌ دَائِمٌ لَا يُفَارِقُهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّفَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ‏{‏فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَمَنْ عَمِلَ بِمَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْهِ وَاتَّبَعَهُ فَلِنَفْسِهِ، يَقُولُ‏:‏ فَإِنَّمَا عَمِلَ بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَإِيَّاهَا بَغَى الْخَيْرَ لَا غَيْرَهَا، لِأَنَّهُ أَكْسَبَهَا رِضَا اللَّهِ وَالْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ‏.‏ ‏(‏وَمَنْ ضَلَّ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَنْ جَارَ عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، وَالْبَيَانِ الَّذِي بَيَّنَاهُ لَكَ، فَضَّلَ عَنْ قَصْدِ الْمَحَجَّةِ، وَزَالَ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلُ، فَإِنَّمَا يَجُورُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِلَيْهَا يَسُوقُ الْعَطَبَ وَالْهَلَاكَ، لِأَنَّهُ يُكْسِبُهَا سُخْطَ اللَّهِ، وَأَلِيمَ عِقَابِهِ، وَالْخِزْيَ الدَّائِمَ‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَنْ أَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِ مِنَ النَّاسِ بِرَقِيبٍ تَرْقُبُ أَعْمَالَهُمْ، وَتَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَفْعَالَهُمْ، إِنَّمَا أَنْتَ رَسُولٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ أَيْ بِحَفِيظٍ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ بِحَفِيظٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأُلُوهَةَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ خَالِصَةٌ دُونَ كُلِّ مَا سِوَاهُ، أَنَّهُ يُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ شَيْءٌ سِوَاهُ، فَجَعَلَ ذَلِكَ خَبَرًا نَبَّهَهُمْ بِهِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا‏}‏ فَيَقْبِضُهَا عِنْدَ فَنَاءِ أَجَلِهَا، وَانْقِضَاءِ مُدَّةِ حَيَاتِهَا، وَيَتَوَفَّى أَيْضًا الَّتِي لَمَّ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، كَمَا الَّتِي مَاتَتْ عِنْدَ مَمَاتِهَا ‏{‏فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ‏}‏ ذَكَرَ أَنَّ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ تَلْتَقِي فِي الْمَنَامِ، فَيَتَعَارَفُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْهَا، فَإِذَا أَرَادَ جَمِيعُهَا الرُّجُوعَ إِلَى أَجْسَادِهَا أَمْسَكَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ عِنْدَهُ وَحَبَسَهَا، وَأَرْسَلَ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى أَجْسَادِهَا إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى وَذَلِكَ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ حَيَّاتِهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ‏.‏ قَالَ‏:‏ يَجْمَعُ بَيْنَ أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ، وَأَرْوَاحِ الْأَمْوَاتِ، فَيَتَعَارَفُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتَعَارَفَ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجْسَادِهَا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ تُقْبَضُ الْأَرْوَاحُ عِنْدَ نِيَامِ النَّائِمِ، فَتُقْبَضَ رُوحُهُ فِي مَنَامِهِ، فَتَلْقَى الْأَرْوَاحُ بَعْضُهَا بَعْضًا‏:‏ أَرْوَاحُ الْمَوْتَى وَأَرْوَاحُ النِّيَامِ، فَتَلْتَقِي فَتَسَاءَلَ، قَالَ‏:‏ فَيُخَلِّي عَنْ أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ، فَتَرْجِعُ إِلَى أَجْسَادِهَا، وَتُرِيدُ الْأُخْرَى أَنْ تَرْجِعَ، فَيَحْبِسُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، قَالَ‏:‏ إِلَى بَقِيَّةِ آجَالِهَا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ فَالنَّوْمُ وَفَاةٌ ‏{‏فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى‏}‏ الَّتِي لَمْ يَقْبِضْهَا ‏{‏إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ فِي قَبْضِ اللَّهِ نَفْسَ النَّائِمِ وَالْمَيِّتِ وَإِرْسَالِهِ بَعْدُ نَفْسُ هَذَا تَرْجِعُ إِلَى جِسْمِهَا، وَحَبْسُهُ لِغَيْرِهَا عَنْ جِسْمِهَا لِعَبْرَةٍ وَعِظَةٍ لِمَنْ تَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ، وَبَيَانًا لَهُ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ إِذَا شَاءَ، وَيُمِيتُ مَنْ شَاءَ إِذَا شَاءَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

لْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَمِ اتَّخَذَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ دُونِهِ آلِهَتَهُمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا شُفَعَاءَ تُشَفِّعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي حَاجَاتِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ‏}‏يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ‏:‏ أَتَتَّخِذُونَ هَذِهِ الْآلِهَةَ شُفَعَاءَ كَمَا تَزْعُمُونَ وَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قُلْ لَهُمْ‏:‏ إِنْ تَكُونُوا تَعْبُدُونَهَا لِذَلِكَ، وَتَشْفَعُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَأَخْلِصُوا عِبَادَتَكُمْ لِلَّهِ، وَأَفْرِدُوهُ بِالْأُلُوهَةِ، فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ جَمِيعًا لَهُ، لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ، وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا وَأَنْتُمْ مَتَى أَخْلَصْتُمْ لَهُ الْعِبَادَةَ، فَدَعَوْتُمُوهُ، وَشَفَّعَكُمْ ‏{‏لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَهُ سُلْطَانُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمُلْكُهَا، وَمَا تَعْبُدُونَ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ لَهُ، يَقُولُ‏:‏ فَاعْبُدُوا الْمَلِكَ لَا الْمَمْلُوكَ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ إِلَى اللَّهِ مَصِيرُكُمْ، وَهُوَ مُعَاقِبُكُمْ عَلَى إِشْرَاكِكُمْ بِهِ، إِنْ مُتُّمْ عَلَى شِرْكِكُمْ‏.‏

وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَاعْبُدُوا الْمَالِكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى ضُرِّكُمْ فِيهَا، وَعِنْدَ مَرْجِعِكُمْ إِلَيْهِ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ‏}‏ الْآلِهَةُ ‏{‏قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا‏}‏ الشَّفَاعَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏.‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِذَا أُفْرِدَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالذِّكْرِ، فَدُعِيَ وَحْدَهُ، وَقِيلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْمَعَادِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ‏.‏ وَعَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏اشْمَأَزَّتْ‏)‏‏:‏ نَفَرَتْ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ‏.‏ ‏(‏وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ

يَقُولُ‏:‏ وَإِذَا ذُكِرَ الْآلِهَةُ الَّتِي يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ فَقِيلَ‏:‏ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَى، إِذِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يَسْتَبْشِرُونَ بِذَلِكَ وَيَفْرَحُونَ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ‏}‏‏:‏ أَيْ نَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَكْبَرَتْ ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ الْآلِهَةُ ‏{‏إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏اشْمَأَزَّتْ‏)‏ قَالَ‏:‏ انْقَبَضَتْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذَلِكَ يَوْمَ قَرَأَ عَلَيْهِمُ ‏"‏النَّجْم‏"‏ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏اشْمَأَزَّتْ‏)‏ قَالَ‏:‏ نَفَرَتْ ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ أَوْثَانُهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِأَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ اللَّهُ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ الَّذِي لَا تَرَاهُ الْأَبْصَارُ، وَلَا تُحِسُّهُ الْعُيُونُ، وَالشَّهَادَةُ الَّذِي تَشْهَدُهُ أَبْصَارُ خَلْقِهِ، وَتَرَاهُ أَعْيُنُهُمْ ‏{‏أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ‏}‏ فَتَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ يَوْمَ تَجْمَعُهُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ ‏(‏فِيمَا كَانُوا فِيهِ‏)‏ فِي الدُّنْيَا ‏(‏يَخْتَلِفُونَ‏)‏ مِنَ الْقَوْلِ فِيكَ، وَفِي عَظْمَتِكَ وَسُلْطَانِكَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ بَيْنَهُمْ، فَتَقْضِي يَوْمَئِذٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرْتَ وَحْدَكَ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذَا ذُكِرَ مَنْ دُونَكَ اسْتَبْشَرُوا بِالْحَقِّ‏.‏

وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ فَاطِرٌ‏:‏ قَالَ خَالِقٌ‏.‏ وَفِي قَوْلِهِ ‏(‏عَالِمَ الْغَيْبِ‏)‏ قَالَ‏:‏ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ فَهُوَ يَعْلَمُهُ، ‏(‏وَالشَّهَادَةِ‏)‏‏:‏ مَا عَرَفَ الْعِبَادُ وَشَهِدُوا، فَهُوَ يَعْلَمُهُ‏.‏