فصل: تفسير الآية رقم (129)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذِهِ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَهِيَ الدَّعْوَةُ الَّتِي كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى‏)‏‏:‏ حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الْكَلَاعِيِّ‏:‏ ‏(‏أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوِيدٍ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ‏.‏ وَسَوْفَ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ‏:‏ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْمَهُ، وَرُؤْيَا أُمِّي‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ-، وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ- قَالَا جَمِيعًا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوِيدٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوِيدٍ، عَنْ عبدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ‏)‏، فَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، فَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْرِفُونَ وَجْهَهُ وَنَسَبَهُ، يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ‏)‏، هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏(‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ‏)‏، هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ قَدْ اسْتُجِيبَ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَيَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ‏)‏‏:‏ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ كِتَابَكَ الَّذِي تُوحِيهِ إِلَيْهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَيَعْنِي بِـ ‏"‏الكِتَابَ‏"‏‏:‏ الْقُرْآنَ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى لِمَ سُمِّيَ الْقُرْآنُ ‏"‏ كِتَابًا‏)‏، وَمَا تَأْوِيلُهُ‏.‏ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏(‏وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ‏)‏، الْقُرْآنُ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ‏"‏ الحِكْمَةِ ‏"‏ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ السَّنَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏"‏ ‏"‏ وَالْحِكْمَةُ‏)‏، أَيْ السُّنَّةُ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏"‏ الحِكْمَةُ‏)‏، هِيَ الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ وَالْفِقْهُ فِيهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِمَالِكٍ‏:‏ مَا الْحِكْمَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ، وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَالْحِكْمَةَ‏)‏ قَالَ، ‏(‏الحِكْمَةَ‏)‏، الدِّينُ الَّذِي لَا يَعْرِفُونَهُ إِلَّا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ و‏(‏الْحِكْمَةَ‏)‏، الْعَقْلُ فِي الدِّينِ وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 269‏]‏، وَقَالَ لِعِيسَى، ‏{‏وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 48‏]‏ قَالَ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 175‏]‏ قَالَ، لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْآيَاتِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ مَعَهَا حِكْمَةٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَالْحِكْمَةَ‏)‏ شَيْءٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، يُنَوِّرُ لَهُ بِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ‏"‏ الحِكْمَةَ‏)‏، أَنَّهَا الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ الَّتِي لَا يُدْرَكُ عِلْمُهَا إِلَّا بِبَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ نَظَائِرِهِ‏.‏ وَهُوَ عِنْدِي مَأْخُوذٌ مِنْ ‏"‏ الحُكْمِ ‏"‏ الَّذِي بِمَعْنَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، بِمَنْـزِلَةِ ‏"‏ الْجِلْسَةِ وَالْقِعْدَةِ ‏"‏ مِنْ ‏"‏ الْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ‏)‏، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏إِنْ فَلَانَا لَحَكِيمٌ بَيِّنُ الْحِكْمَةِ‏}‏، يَعْنِي بِهِ‏:‏ إِنَّهُ لَبَيِّنُ الْإِصَابَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ‏.‏

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ‏:‏ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمْ كِتَابَكَ الَّذِي تُنْـزِلُهُ عَلَيْهِمْ، وَفَصْلَ قَضَائِكَ وَأَحْكَامِكَ الَّتِي تُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيُزَكِّيهِمْ‏)‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ‏"‏ التَّزْكِيَةِ ‏"‏‏:‏ التَّطْهِيرُ، وَأَنَّ مَعْنَى ‏"‏ الزَّكَاةِ‏)‏، النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ‏.‏

فَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَيُزَكِّيهِمْ‏)‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ وَيُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيُنَمِّيهِمْ وَيُكَثِّرُهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُزَكِّيهِمْ‏)‏ قَالَ، يَعْنِي بِالزَّكَاةِ، طَاعَةَ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَيُزَكِّيهِمْ‏)‏ قَالَ، يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَيُخَلِّصُهُمْ مِنْهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ إِنَّكَ يَا رَبِّ أَنْتَ ‏"‏ العَزِيزُ ‏"‏ الْقَوِيُّ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ، فَافْعَلْ بِنَا وَبِذُرِّيَّتِنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَطَلَبْنَاهُ مِنْكَ؛ و ‏"‏ الْحَكِيمُ ‏"‏ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَدْبُِيرُهُ خَلَلٌ وَلَا زَلَلٌ، فَأَعْطِنَا مَا يَنْفَعُنَا وَيَنْفَعُ ذُرِّيَّتَنَا، وَلَا يَنْقُصُكَ وَلَا يَنْقُصُ خَزَائِنَكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏، وَأَيُّ النَّاسِ يَزْهَدُ فِي مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَتْرُكُهَا رَغْبَةً عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا‏؟‏

وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لِاخْتِيَارِهِمْ مَا اخْتَارُوا مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ عَلَى الْإِسْلَامِ‏.‏ لِأَنَّ ‏"‏ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ‏"‏ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الْمُسْلِمَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 67‏]‏، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ‏:‏ وَمَنْ يَزْهَدُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏، رَغِبَ عَنْ مِلَّتِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَاتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، بِدْعَةً لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ، وَتَرَكُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ- يَعْنِي الْإِسْلَامَ- حَنِيفًا؛ كَذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَمِنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ‏)‏ قَالَ، رَغِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَابْتَدَعُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ، وَتَرَكُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ الْإِسْلَامَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِلَّا مَنْ سَفَّهَ نَفْسَهُ‏)‏، إِلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى ‏(‏السَّفَهِ‏)‏، الْجَهْلُ‏.‏

فَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَمَا يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ، إِلَّا سَفِيهٌ جَاهِلٌ بِمَوْضِعِ حَظِّ نَفْسِهِ فِيمَا يَنْفَعُهَا، وَيَضُرُّهَا فِي مَعَادِهَا، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ‏)‏ قَالَ، إِلَّا مَنْ أَخْطَأَ حَظَّهُ‏.‏

وَإِنَّمَا نَصْبُ ‏"‏ النَّفْسِ ‏"‏ عَلَى مَعْنَى الْمُفَسِّرِ‏.‏ ذَلِكَ أَنْ ‏"‏ السَّفَهَ ‏"‏ فِي الْأَصْلِ لِلنَّفْسِ، فَلَمَّا نُقِلَ إِلَى ‏"‏ مَنْ‏)‏، نَصَبَتِ ‏"‏ النَّفْسَ‏)‏، بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ‏.‏ كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏هُوَ أَوْسَعُكُمْ دَارًا‏)‏، فَتَدْخُلَ ‏"‏ الدَّارُ ‏"‏ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ السِّعَةَ فِيهَا، لَا فِي الرَّجُلِ‏.‏ فَكَذَلِكَ ‏"‏ النَّفْسُ ‏"‏ أَدْخَلَتْ لِأَنَّ السَّفَهَ لِلنَّفْسِ لَا لِـ ‏"‏ مَنْ ‏"‏‏.‏ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ‏:‏ سَفِهَ أَخُوكَ‏.‏ وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُفَسَّرَ بِالنَّفْسِ، وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى مَعْرِفَةٍ، لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيلِ نَكِرَةٍ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ إِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏سَفِهَ نَفْسَهُ‏)‏ جَرَتْ مَجْرَى ‏"‏ سَفِهَ ‏"‏ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، وَإِنَّمَا عَدَّاهُ إِلَى ‏"‏ نَفْسِهِ ‏"‏ و ‏"‏ رَأْيِهِ ‏"‏ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي الْمَعْنَى نَحْوَ ‏(‏سَفِهَ‏)‏، إِذَا هُوَ لَمَّ يَتَعَدَّ‏.‏ فَأَمَّا ‏"‏ غَبِنَ ‏"‏ وَ ‏"‏ خَسِرَ ‏"‏ فَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، يُقَالُ‏:‏ ‏(‏غَبِنَ خَمْسِينَ، وَخَسِرَ خَمْسِينَ‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا‏)‏، وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَا إِبْرَاهِيمَ‏.‏ و ‏"‏ الْهَاءُ ‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏اصْطَفَيْنَاهُ‏)‏، مِنْ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

و ‏"‏ الِاصْطِفَاءُ ‏"‏ ‏"‏ الافْتِعَالُ ‏"‏ مِنْ ‏(‏الصَّفْوَةِ‏)‏، وَكَذَلِكَ ‏"‏ اصْطَفَيْنَا ‏"‏ ‏"‏افْتَعَلْنَا ‏"‏ مِنْهُ، صُيِّرَتْ تَاؤُهَا طَاءً لِقُرْبِ مَخْرِجِهَا مِنْ مَخْرَجِ الصَّادِ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏اصْطَفَيْنَاهُ‏)‏‏:‏ اخْتَرْنَاهُ وَاجْتَبَيْنَاهُ لِلْخَلَّةِ، وَنُصَيِّرُهُ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ بَعْدَهُ إِمَامًا‏.‏

وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ أَنَّ مَنْ خَالَفَ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا سَنَّ لِمَنْ بَعْدَهُ، فَهُوَ لِلَّهِ مُخَالِفٌ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ خَلْقَهُ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ لِإِبْرَاهِيمَ مُخَالِفٌ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ اصْطَفَاهُ لِخُلَّتِهِ، وَجَعْلِهِ لِلنَّاسِ إِمَامًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ دِينَهُ كَانَ الْحَنِيفِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ‏.‏ فَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ الْبَيَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ لِلَّهِ عَدُوٌّ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِمَامَ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏)‏، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ فِي الدَّارِ الْآخِرَة لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏.‏

و ‏"‏ الصَّالِحُ ‏"‏ مِنْ بَنِي آدَمَ‏:‏ هُوَ الْمُؤْدِّي حُقُوقَ اللَّهِ عَلَيْهِ‏.‏

فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ، أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا صَفِيٌّ، وَفِي الْآخِرَةِ وَلِيٌّ وَأَنَّهُ وَارِدٌ مَوَارِدَ أَوْلِيَائِهِ الْمُوَفِّينَ بِعَهْدِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ‏}‏، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ‏:‏ أَخْلِصْ لِي الْعِبَادَةَ، وَاخْضَعْ لِي بِالطَّاعَةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى ‏"‏ الإِسْلَامِ ‏"‏ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ مُجِيبًا لِرَبِّهِ‏:‏ خَضَعْتُ بِالطَّاعَةِ، وَأَخْلَصْتُ الْعِبَادَةَ، لِمَالِكِ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ وَمُدَبِّرهَا دُونَ غَيْرِهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ ‏"‏ إِذْ ‏"‏ وَقْتٌ، فَمَا الَّذِي وُقِّتَ بِهِ‏؟‏ وَمَا الَّذِي هُوَ لَهُ صِلَةٌ‏.‏

قِيلَ‏:‏ هُوَ صِلَةٌ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا‏)‏‏.‏ وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، حِينَ قَالَ لَهُ رَبُّهُ‏:‏ أَسْلِمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏.‏ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حِينَ قُلْنَا لَهُ‏:‏ أَسْلِمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏.‏ فَأَظْهَرَ اسْمَ ‏"‏ اللَّهِ ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ‏}‏، عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْ غَائِبٍ، وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ قَبْلُ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ خُفَافُ بْنُ نَدْبَةَ‏:‏

أَقـُولُ لـَهُ- وَالـرُّمْحُ يـَأْطِرُ مَتْنَهُ‏:‏ *** تـأَمَّلْ خُفَافًـا إِنَّنـي أَنَا ذَالِكَـا

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَهَلْ دَعَا اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْإِسْلَامِ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ نَعَمْ، قَدْ دَعَاهُ إِلَيْهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ وَفِي أَيِّ حَالٍ دَعَاهُ إِلَيْهِ‏؟‏

قِيلَ حِينَ قَالَ‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 79‏]‏، وَذَلِكَ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي قَالَ لَهُ رَبُّهُ‏:‏ أَسْلِمْ- مِنْ بَعْدِ مَا امْتَحَنَهُ بِالْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَوَصَّى بِهَا‏)‏، وَوَصَّى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ‏.‏ عَنَى بِـ ‏"‏ الكَلِمَةِ ‏"‏ قَوْلَهُ ‏"‏ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏)‏، وَهِيَ ‏"‏ الإِسْلَامُ ‏"‏ الَّذِي أَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ وَالتَّوْحِيدِ لِلَّهِ، وَخُضُوعُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ لَهُ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ‏)‏، عَهِدَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَيَعْقُوبُ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَوَصَّى بِذَلِكَ أَيْضًا يَعْقُوبُ بَنِيهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ وَوَصَّى بِهَا يَعْقُوبُ بَنِيهِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ‏)‏، وَصَّاهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَوَصَّى يَعْقُوبُ بِمِثْلِ ذَلِكَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ‏}‏، خَبَرٌ مُنْقَضٍ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَيَعْقُوبُ‏)‏ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ‏.‏ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ‏}‏‏.‏ بِأَنْ يَقُولُوا‏:‏ أَسْلَمْنَا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ- وَوَصَّى يَعْقُوبُ بَنِيهِ‏:‏ أَنْ‏:‏ ‏{‏يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكَُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏‏.‏

وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏.‏ لِأَنَّ الَّذِي أَوْصَى بِهِ يَعْقُوبُ بَنِيهِ، نَظِيرُ الَّذِي أَوْصَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ‏:‏ مِنَ الْحَثِّ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ، وَالْإِسْلَامِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ‏:‏ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ‏:‏ أَنْ ‏"‏ يَا بَنِيَّ ‏"‏- فَمَا بَالُ ‏"‏ أَنْ ‏"‏ مَحْذُوفَةٌ مِنَ الْكَلَامِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَوْلٌ، فَحُمِلَتْ عَلَى مَعْنَاهَا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَاءَ بِلَفْظِ الْقَوْلِ، لَمْ تَحْسُنْ مَعَهُ ‏"‏ أَنْ‏)‏، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَالُ‏:‏ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِبَنِيهِ وَيَعْقُوبُ‏:‏ ‏(‏يَا بَنِيَّ‏)‏‏.‏ فَلَمَّا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ قَوْلًا حُمِلَتْ عَلَى مَعْنَاهَا دُونَ لَفْظِهَا، فَحُذِفَتْ ‏"‏ أَنْ ‏"‏ الَّتِي تَحْسُنُ مَعَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الْأُنْثَيَيْنِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 11‏]‏، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

إِنـي سَـأُبْدِي لَـكَ فِيمَـا أُبْـدِيَ *** لـي شـجَنَانِ شـجْنٌ بِنَجـدِ

وَشَجَنٌ لِي بِبِلَادِ السِّنْدِ ***

فَحُذَِفَتْ ‏(‏أَنْ‏)‏، إِذْ كَانَ الْإِبْدَاءُ بِاللِّسَانِ فِي الْمَعْنَى قَوْلًا فَحَمَلَهُ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ‏:‏ إِنَّمَا حُذِفَتْ ‏"‏ أَنْ ‏"‏ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ‏}‏، اكْتِفَاءً بِالنِّدَاءِ- يَعْنِي بِالنِّدَاءِ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏يَا بَنِيَّ‏)‏ وَزَعَمَ أَنَّ عِلَّتَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ الِاكْتِفَاءَ بِالْأَدَوَاتِ عَنْ ‏(‏أَنْ‏)‏، كَقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏(‏نَادَيْتُ هَلْ قُمْتَ‏؟‏- وَنَادَيْتُ أَيْنَ زِيدٌ‏؟‏‏)‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَرُبَّمَا أَدْخَلُوهَا مَعَ الْأَدَوَاتِ‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ ‏(‏نَادَيْتُ، أَنْ هَلْ قُمْتَ‏؟‏‏)‏‏.‏

وَقَدْ قَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ القَرَأَةِ‏:‏ ‏(‏وَأَوْصَى بِهَا إِبْرَاهِيمُ‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ عَهِدَ‏.‏

وَأَمَّا مِنْ قَرَأَ ‏"‏ وَوَصَّى ‏"‏ مُشَدَّدَةً، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِمْ عَهْدًا بَعْدَ عَهْدٍ، وَأَوْصَى وَصِيَّةَ بَعْدً وَصِيَّةٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكَُمُ الدِّينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكَُمُ الدِّينَ‏}‏، إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لَكُمْ هَذَا الدِّينَ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْكُمْ فِيهِ، وَاجْتَبَاهُ لَكُمْ‏.‏

وَإِنَّمَا أَدْخَلَ ‏"‏ الأَلِفَ وَاللَّامَ ‏"‏ فِي ‏"‏ الدِّينِ‏)‏، لِأَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا مِنْ وَلَدِهِمَا وَبَنِيهِمَا بِذَلِكَ، كَانُوا قَدْ عَرَّفُوهُ بِوَصِيَّتِهِمَا إِيَّاهُمْ بِهِ، وَعَهْدِهِمَا إِلَيْهِمْ فِيهِ، ثُمَّ قَالَا لَهُمْ- بَعْدَ أَنْ عَرَفَاهُمُوهُ-‏:‏ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ هَذَا الدِّينَ الَّذِي قَدْ عَهِدَ إِلَيْكُمْ فِيهِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَمُوتُوا إِلَّا وَأَنْتُمْ عَلَيْهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ أوَ إِلَى بَنِي آدَمَ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ، فَيُنْهَى أَحَدُهُمْ أَنْ يَمُوتَ إِلَّا عَلَى حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ظَنَنْتَ‏.‏ وَإِنَّمَا مَعْنَى ‏"‏ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏)‏، أَيْ‏:‏ فَلَا تُفَارِقُوا هَذَا الدِّينَ- وَهُوَ الْإِسْلَامُ- أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْرِي مَتَى تَأْتِيهِ مَنِيَّتُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَا لَهُمْ‏:‏ ‏(‏فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏)‏، لِأَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَتَى تَأْتِيكُمْ مَنَايَاكُمْ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَلَا تُفَارِقُوا الْإِسْلَامَ، فَتَأْتِيَكُمْ مَنَايَاكُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى غَيْرِ الدِّينِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لَكُمْ رَبُّكُمْ فَتَمُوتُوا وَرَبُّكُمْ سَاخِطٌ عَلَيْكُمْ، فَتَهْلَكُوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ‏)‏، أَكُنْتُمْ‏.‏ وَلَكِنَّهُ اسْتَفْهَمَ بِـ ‏(‏أَمْ‏)‏، إِذْ كَانَ اسْتِفْهَامًا مُسْتَأْنَفًا عَلَى كَلَامٍ قَدْ سَبَقَهُ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏الم تَنْـزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ السَّجْدَةِ‏:‏ 3‏]‏ وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ اسْتِفْهَامٍ ابْتَدَأَتْهُ بَعْدَ كَلَامٍ قَدْ سَبَقَهُ، تَسْتَفْهِمُ فِيهِ بِـ ‏"‏ أَمْ ‏"‏‏.‏

‏"‏ وَالشُّهَدَاءُ ‏"‏ جَمْعُ ‏"‏ شَهِيدٍ‏)‏، كَمَا ‏"‏ الشُّرَكَاءُ ‏"‏ جَمْعُ ‏"‏ شَرِيكٍ ‏"‏ و ‏"‏ الْخُصَمَاءُ ‏"‏ جَمْعُ ‏"‏ خَصِيمٍ ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ أَكُنْتُمْ- يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الْمُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَه-، حُضُورَ يَعْقُوبَ وَشُهُودَهُ إِذْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، أَيْ إِنَّكُمْ لَمْ تَحْضُرُوا ذَلِكَ، فَلَا تَدَّعُوَا عَلَى أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي الْأَبَاطِيلَ، وَتَنْحِلُوهُمُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، فَإِنِّي ابْتَعَثْتُ خَلِيلِيَ إِبْرَاهِيمَ- وَوَلَدَهُ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ وَذُرِّيَّتَهُمْ- بِالْحَنِيفِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَبِذَلِكَ وَصَّوْا بَنِيهِمْ، وَبِهِ عَهِدُوا إِلَى أَوْلَادِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ‏.‏ فَلَوْ حَضَرْتُمُوهُمْ فَسَمِعْتُمْ مِنْهُمْ، عَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ مَا نَحِلْتُمُوهُمْ مِنَ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ مِنْ بَعْدِهِمْ‏.‏

وَهَذِهِ آيَاتٌ نـَزَلَتْ، تَكْذِيبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَوَلَدِهِ يَعْقُوبَ‏:‏ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏(‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ‏)‏، فَتَعْلَمُوا مَا قَالَ لِوَلَدِهِ وَقَالَ لَهُ وَلَدُهُ‏؟‏ ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ مَا قَالَ لَهُمْ وَمَا قَالُوا لَهُ‏.‏ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ‏}‏، يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلََ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ‏)‏، إِذْ قَالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ ‏"‏‏.‏

و ‏"‏ إِذْ ‏"‏ هَذِهِ مُكَرَّرَةٌ إِبْدَالًا مِنْ ‏"‏ إِذْ ‏"‏ الْأَوْلَى، بِمَعْنَى‏:‏ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ يَعْقُوبَ، إِذْ قَالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ حِينَ حُضُورِ مَوْتِهِ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي‏)‏- أَيُّ شَيْءٍ تَعْبُدُونَ، ‏"‏ مِنْ بَعْدِي ‏"‏‏؟‏ أَيْ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِي‏؟‏ قَالُوا‏:‏ ‏(‏نَعْبُدُ إِلَهَكَ‏}‏، يَعْنِي بِهِ‏:‏ قَالَ بَنُوهُ لَهُ‏:‏ نَعْبُدُ مَعْبُودَكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ، وَمَعْبُودَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، ‏"‏ إِلَهًا وَاحِدًا ‏"‏ أَيْ‏:‏ نُخْلَصُ لَهُ الْعِبَادَةَ، وَنُوَحِّدُ لَهُ الرُّبُوبِيَّةَ، فَلَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَلَا نَتَّخِذُ دُونَهُ رَبًّا‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏)‏، وَنَحْنُ لَهُ خَاضِعُونَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ‏.‏

وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏)‏، أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْحَالِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ نَعْبُدُ إِلَهَكَ مُسْلِمِينَ لَهُ بِطَاعَتِنَا وَعِبَادَتِنَا إِيَّاهُ‏.‏ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا، فَيَكُونُ بِمَعْنَى‏:‏ نَعْبُدُ إِلَهَكَ بَعْدَكَ، وَنَحْنُ لَهُ الْآنَ وَفِي كُلِّ حَالٍ مُسْلِمُونَ‏.‏

وَأَحْسَنُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ- فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ- أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْحَالِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى‏:‏ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، مُسْلِمِينَ لِعِبَادَتِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّمَا قَدَّمُ ذِكْرَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِسْحَاقَ، لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ أَسَنَّ مِنْ إِسْحَاقَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ‏)‏ قَالَ، يُقَالُ‏:‏ بَدَأَ بِإِسْمَاعِيلَ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ‏.‏

وَقَرَأَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ‏:‏ ‏(‏وَإِلَهَ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ‏)‏، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ، إِذْ كَانَ عَمَّا لِيَعْقُوبَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ تُرْجِمَ بِهِ عَنِ الْآبَاءِ، وَدَاخِلًا فِي عِدَادِهِمْ‏.‏ وَذَلِكَ مِنْ قَارِئِهِ كَذَلِكَ، قِلَّةُ عَلِمٍ مِنْهُ بِمَجَارِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏.‏ وَالْعَرَبُ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ أَنْ تَجْعَلَ الْأَعْمَامَ بِمَعْنَى الْآبَاءِ، وَالْأَخْوَالَ بِمَعْنَى الْأُمَّهَاتِ‏.‏ فَلِذَلِكَ دَخَلَ إِسْمَاعِيلُ فِيمَنْ تُرْجِمُ بِهِ عَنِ الْآبَاءِ‏.‏ وَإِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ، تَرْجَمَةٌ عَنِ الْآبَاءِ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، وَلَكِنَّهُمْ نَُصِبُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُجَرُّونَ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏وَإِلَهَ آبَائِكَ‏)‏، لِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ عَلَى تَصْوِيبِ ذَلِكَ، وَشُذُوذِ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْقُرَّاءِ مِمَّنْ قَرَأَ خِلَافَ ذَلِكَ‏.‏

وَنُصِبَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏إِلَهًا‏)‏، عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِلَهَكَ‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ‏.‏ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ‏)‏، إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَوَلَدَهُمْ‏.‏

يَقُولُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى‏:‏ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، دَعَوْا ذِكْرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ بِغَيْرِ مَا هُمْ أَهْلُهُ، وَلَا تَنْحَلُوهُمْ كُفْرَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَتُضِيفُونَهَا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ أُمَّةٌ- وَيَعْنِي‏:‏ بِـ ‏"‏ الْأُمَّةِ ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ الْجَمَاعَةَ وَالْقَرْنَ مِنَ النَّاسِ- قَدْ خَلَتْ‏:‏ مَضَتْ لِسَبِيلِهَا‏.‏

وَإِنَّمَا قِيلَ لِلَّذِي قَدْ مَاتَ فَذَهَبَ‏:‏ ‏(‏قَدْ خَلَا‏)‏، لِتَخَلِّيهِ مِنَ الدُّنْيَا وَانْفِرَادِهِ، عَمَّا كَانَ مِنَ الْأُنْسِ بِأَهْلِهِ وَقُرَنَائِهِ فِي دُنْيَاهُ‏.‏

وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏(‏خَلَا الرَّجُلُ‏)‏، إِذَا صَارَ بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا أَنِيسَ لَهُ فِيهِ، وَانْفَرَدَ مِنَ النَّاسِ‏.‏ فَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فِي الَّذِي يَمُوتُ، عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ‏.‏

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى‏:‏ إِنَّ لِمَنْ نَحَلْتُمُوهُ- ضَلَالَكُمْ وَكُفْرَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ- مِنْ أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي، مَا كَسَبَ‏.‏

‏"‏ وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَهَا‏)‏، عَائِدَةٌ إِنْ شِئْتَ عَلَى ‏(‏تِلْكَ‏)‏، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى ‏"‏ الْأُمَّةِ ‏"‏‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَهَا مَا كَسَبَتْ‏)‏، أَيْ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ،‏.‏ وَلَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ مَا عَمِلْتُمْ، وَلَا تُؤَاخَذُونَ أَنْتُمْ- أَيُّهَا النَّاحِلُونَ مَا نَحَلْتُمُوهُمْ مِنَ الْمِلَلِ- فَتُسْأَلُوا عَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَوَلَدُهُمْ يَعْمَلُونَ‏.‏ فَيَكْسِبُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، لِأَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ‏.‏ فَدَعُوَا انْتِحَالَهُمْ وَانْتِحَالَ مِلَلِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعَاوَى غَيْرُ مُغْنِيَتِكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يُغْنِي عَنْكُمْ عِنْدَهُ مَا سَلَفَ لَكُمْ مِنْ صَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ عَمِلْتُمُوهَا وَقَدَّمْتُمُوهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا‏}‏، وَقَالَتِ الْيَهُودُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ كُونُوا هُودًا تَهْتَدُوا؛ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَهُمْ‏:‏ كُونُوا نَصَارَى تَهْتَدُوا‏.‏

تَعْنِي بِقَوْلِهَا‏:‏ ‏(‏تَهْتَدُوا‏)‏، أَيْ تُصِيبُوا طَرِيقَ الْحَقِّ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ- وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ- جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ قَالَ عبدُ اللهِ بْنُ صُورِيَا الْأَعْوَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَا الْهُدَى إِلَّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ‏!‏ فَاتَّبِعْنَا يَا مُحَمَّدُ تَهْتَدِ‏!‏ وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ‏.‏ فَأَنـْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ احْتَجَّ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْلَغَ حَجَّةٍ وَأَوْجَزَهَا وَأَكْمَلَهَا، وَعَلَّمَهَا مُحَمَّدًا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، قُلْ- لِلْقَائِلِينَ لَكَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلِأَصْحَابِكَ‏:‏ ‏(‏كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا‏)‏-‏:‏ بَلْ تَعَالَوْا نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي يُجْمِعُ جَمِيعُنَا عَلَى الشَّهَادَةِ لَهَا بِأَنَّهَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَأَمَرَ بِهِ- فَإِنَّ دِينَهُ كَانَ الْحَنِيفِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ- وَنَدَعُ سَائِرَ الْمِلَلِ الَّتِي نَخْتَلِفُ فِيهَا، فَيُنْكِرُهَا بَعْضُنَا، وَيُقِرُّ بِهَا بَعْضُنَا‏.‏ فَإِنَّ ذَلِكَ- عَلَى اخْتِلَافِهِ- لَا سَبِيلَ لَنَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ، كَمَا لَنَا السَّبِيلُ إِلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ‏"‏ أَوْجُهٌ ثَلَاثَةٌ‏.‏ أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يُوَجَّهَ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى‏)‏، إِلَى مَعْنَى‏:‏ وَقَالُوا اتَّبِعُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ‏.‏ لِأَنَّهُمْ إِذْ قَالُوا‏:‏ ‏(‏كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى‏)‏، إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ دَعَوْهُمْ، ثُمَّ يُعْطَفُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْمِلَّةِ‏.‏ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لَا نَتَّبِعُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَلَا نَتَّخِذُهَا مِلَّةً، بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، ثُمَّ يُحْذَفُ ‏"‏ نَتَّبِع ‏"‏ الثَّانِيَةُ، وَيُعْطَفُ بِـ ‏"‏ الْمِلَّةِ ‏"‏ عَلَى إِعْرَابِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ بِمَعْنَى ‏"‏ نَتَّبِعُ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ‏:‏ بَلْ نَكُونُ أَصْحَابَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ أَهْلَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏ ثُمَّ حُذِفَ ‏"‏ الْأَهْلُ ‏"‏ وَ‏(‏الأَصْحَابُ‏)‏، وَأُقِيمَتِ ‏"‏ الْمِلَّة ‏"‏ مَقَامَهُمْ، إِذْ كَانَتْ مُؤَدِّيَةً عَنْ مَعْنَى الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

حَسـبْتَ بُغـامَ رَاحـِلَتِي عَنَاقـًا *** وَمـَا هـيَ، وَيـْبَ غـيْرِكَ، بِالْعَنَاقِ

يَعْنِي‏:‏ صَوْتَ عَنَاقٍ، فَتَكُونُ ‏"‏ الْمِلَّةُ ‏"‏ حِينَئِذٍ مَنْصُوبَةَ، عَطْفًا فِي الْإِعْرَابِ عَلَى ‏"‏ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ‏"‏‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى وَجْهِ الْإِغْرَاءِ، بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ ذَلِكَ رَفَعَا، فَتَأْوِيلُهُ- عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ رَفَعَا‏:‏ بَلْ الْهُدَى مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَ ‏(‏المِلَّةُ‏)‏، الدِّينُ وَأَمَّا ‏(‏الْحَنِيفُ‏)‏، فَإِنَّهُ الْمُسْتَقِيمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏.‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي تُقْبِلُ إِحْدَى قَدَمَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، إِنَّمَا قِيلَ لَهُ ‏(‏أَحْنَفُ‏)‏، نَظَرًا لَهُ إِلَى السَّلَامَةِ، كَمَا قِيلَ لِلْمُهْلَكَةِ مِنَ الْبِلَادِ ‏(‏الْمَفَازَةُ‏)‏، بِمَعْنَى الْفَوْزِ بِالنَّجَاةِ مِنْهَا وَالسَّلَامَةِ، وَكَمَا قِيلَ لِلَّدِيغِ‏:‏ ‏(‏السَّلِيمُ‏)‏، تَفَاؤُلًا لَهُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ، بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ مُسْتَقِيمًا‏.‏

فَيَكُونُ ‏"‏ الْحَنِيفُ ‏"‏ حِينَئِذٍ حَالًا مِن ‏"‏ إِبْرَاهِيمَ ‏"‏ وَأَمَّا أَهْلُ التَّأْوِيلِ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏"‏ الْحَنِيفُ ‏"‏ الْحَاجُّ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْلَامُ ‏(‏الْحَنِيفِيَّةَ‏)‏، لِأَنَّهُ أَوَّلُ إِمَامٍ لَزِمَ الْعِبَادَ- الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِهِ، وَالَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ- اتِّبَاعُهُ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَالِائْتِمَامِ بِهِ فِيهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَكُلٌّ مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَنَسُكَ مَنَاسِكَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مِلَّتِهِ، فَهُوَ ‏(‏حَنِيفٌ‏)‏، مُسْلِمٌ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ كَثِيرٍ أَبِي سَهْلٍ، قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ ‏(‏الْحَنِيفِيَّةِ‏)‏، قَالَ‏:‏ حَجُّ الْبَيْتِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ الْأَسَدِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بْنُ مُوسَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَنِيفًا ‏"‏ قَالَ الْحَنِيفُ‏:‏ الْحَاجُّ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُدَائِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ عَطِيَّةَ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ الْحَنِيفُ الْحَاجُّ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ التَيْمِيِّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ ‏(‏الْحَنِيفِيَّةِ‏)‏، قَالَ‏:‏ هُوَ حَجُّ هَذَا الْبَيْتِ‏.‏

قَالَ ابْنُ التَيْمِيِّ‏:‏ وَأَخْبَرَنِي جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السَّدِّيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ حُنَفَاءَ ‏"‏ قَالَ‏:‏ حَجَّاجًا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏حَنِيفًا ‏"‏ قَالَ‏:‏ حَاجًّا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ‏:‏ كَانَ النَّاسُ مِنْ مُضَرَ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّوْنَ ‏(‏حُنَفَاءَ‏)‏، فَأَنـْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏‏.‏ ‏[‏سُورَةُ الْحَجِّ‏:‏ 31‏]‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏(‏الْحَنِيفُ‏)‏، الْمُتَّبِعُ، كَمَا وَصَفْنَا قَبْلُ، مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ إِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ الِاسْتِقَامَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ حُنَفَاءَ ‏"‏ قَالَ‏:‏ مُتَّبِعِينَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنَّمَاسُمِّي دِينُ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏الْحَنِيفِيَّةَ‏)‏، لِأَنَّهُ أَوَّلُ إِمَامٍ سَنَّ لِلْعِبَادِ الْخِتَانَ، فَاتَّبَعَهُ مَنْ بَعْدَهُ عَلَيْهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَكُلٌّ مَنِ اخْتَتَنَ عَلَى سَبِيلِ اخْتِتَانِ إِبْرَاهِيمَ، فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ ‏"‏ حَنِيفٌ ‏"‏ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏(‏بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏)‏، بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ مُخْلِصًا‏.‏ ‏"‏ فَالْحَنِيفُ ‏"‏ عَلَى قَوْلِهِمْ‏:‏ الْمُخْلِصُ دِينَهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مُخْلِصًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ ‏"‏ الْحَنِيفِيَّةُ ‏"‏ الْإِسْلَامُ‏.‏ فَكُلٌّ مَنِئْتَمَّ بِإِبْرَاهِيمَ فِي مِلَّتِهِ فَاسْتَقَامَ عَلَيْهَا، فَهُوَ ‏"‏ حَنِيفٌ ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ ‏"‏ الْحَنَفُ ‏"‏ عِنْدِي، هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَاتِّبَاعُهُ عَلَى مِلَّتِهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ لَوْ كَانَتْ حَجَّ الْبَيْتِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَحُجُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكَ كَانُوا حُنَفَاءَ‏.‏ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحَنُّفَا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 67‏]‏

فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْخِتَانِ‏.‏ لِأَنَّ ‏"‏ الْحَنِيفِيَّةَ ‏"‏ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْخِتَانَ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ حُنَفَاءَ‏.‏ وَقَدْ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 67‏]‏‏.‏

فَقَدْ صَحَّ إذًا أَنْ ‏"‏ الْحَنِيفِيَّةَ ‏"‏ لَيْسَتِ الْخِتَانَ وَحْدَهُ، وَلَا حَجَّ الْبَيْتِ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُ هُوَ مَا وَصَفْنَا‏:‏ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَاتِّبَاعِهِ عَلَيْهَا، وَالِائْتِمَامِ بِهِ فِيهَا‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ أوَ مَا كَانَ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ، مُسْتَقِيمِينَ عَلَى مَا أَُمِرُوا بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ اسْتِقَامَةَ إِبْرَاهِيمَ وَأَتْبَاعِهِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ بَلَى‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَكَيْفَ أُضِيفَ ‏"‏ الْحَنِيفِيَّةُ ‏"‏ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَتْبَاعِهِ عَلَى مِلَّتِهِ خَاصَّةً، دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَأَتْبَاعِهِمْ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ حَنِيفًا مُتَّبِعًا طَاعَةَ اللَّهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدًا مِنْهُمْ إِمَامًا لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كَالَّذِي فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِإِبْرَاهِيمَ، فَجَعَلَهُ إِمَامًا فِيمَا بَيَّنَهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَالْخِتَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، تَعَبُّدًا بِهِ أَبَدًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ‏.‏ وَجَعَلَ مَا سَنَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَمًا مُمَيَّزًا بَيْنَ مُؤْمِنِي عِبَادِهِ وَكُفَّارِهِمْ، وَالْمُطِيعِ مِنْهُمْ لَهُ وَالْعَاصِي‏.‏ فَسُمِّي الْحَنِيفُ مِنَ النَّاسِ ‏"‏ حَنِيفًا ‏"‏ بِاتِّبَاعِهِ مِلَّتَهُ، وَاسْتِقَامَتِهِ عَلَى هَدْيِهِ وَمِنْهَاجِهِ، وَسُمِّي الضَّالُّ مِنْ مِلَّتِهِ بِسَائِرِ أَسْمَاءِ الْمِلَلِ، فَقِيلَ‏:‏ ‏(‏يَهُودِيٌّ، وَنَصْرَانِيٌّ، وَمَجُوسِيٌّ‏)‏، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الْمِلَلِ

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ وَ ‏(‏مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَدِينُ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَلَا كَانَ مِنَ الْيَهُودِ وَلَا مِنَ النَّصَارَى، بَلْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُولُوا آمَنًا بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْـزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلََ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ ‏"‏ قُولُوا ‏"‏- أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ قَالُوا لَكُمْ‏:‏ ‏"‏ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ‏"‏-‏:‏ ‏(‏آمَنَّا‏)‏، أَيْ صَدَّقْنَا ‏"‏ بِاللَّهِ ‏"‏‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى ‏(‏الْإِيمَانِ‏)‏، التَّصْدِيقُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

‏(‏وَمَا أُنـْزِلَ إِلَيْنَا‏)‏، يَقُولُ أَيْضًا‏:‏ صَدَّقْنَا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ فَأَضَافَ الْخِطَابَ بالتَّنْـزِيلِ إِلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُتَّبِعِيهِ، وَمَأْمُورِينَ مَنْهِيِّينَ بِهِ‏.‏ فَكَانَ- وَإِنْ كَانَ تَنْـزِيلًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَعْنَى التَّنْـزِيلِ إِلَيْهِمْ، لِلَّذِي لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْتُ

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَمَا أُنْـزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ‏)‏، صَدَّقْنَا أَيْضًا وَآمَنَّا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏وَإِسْمَاعِيلََ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ‏)‏، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى‏}‏، يَعْنِي‏:‏ وَآمَنَّا أَيْضًا بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ مُوسَى، وَبِالْإِنْجِيلِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ عِيسَى، وَالْكُتُبِ الَّتِي آتَى النَّبِيِّينَ كُلَّهُمْ، وَأَقْرَرْنَا وَصَدَّقْنَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقٌّ وَهُدَى وَنُورٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ كَانُوا عَلَى حَقٍّ وَهُدًى، يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ فِي الدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، ‏(‏لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ لَا نُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَنَتَبَرَّأُ مِنْ بَعْضٍ وَنَتَوَلَّى بَعْضًا، كَمَا تَبَرَّأَتِ الْيَهُودُ مِنْ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَأَقَرَّتْ بِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَمَا تَبَرَّأَتِ النَّصَارَى مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَرَّتْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ نَشْهَدُ لِجَمِيعِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا رُسُلَ اللَّهِ وَأَنْبِيَاءَهُ، بُعِثُوا بِالْحَقِّ وَالْهُدَى‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَنَحْنُ لَهُ خَاضِعُونَ بِالطَّاعَةِ، مُذْعِنُونَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ‏.‏

فَذُكِرَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ، فَكَفَرُوا بِعِيسَى وَبِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفرٌ مِنْ يَهُودَ، فِيهِمْ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ، وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَعَازِرُ، وَخَالِدٌ، وَزَيْدٌ، وَأَزَارُ بْنُ أَبِي أَزَارَ، وَأَشْيَعُ، فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالَ‏:‏ أُومِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْـزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏.‏ فَلَمَّا ذَكَرَ عِيسَى جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَقَالُوا‏:‏ لَا نُؤْمِنُ بِعِيسَى، وَلَا نُؤْمِنُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ‏.‏ فَأَنـْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 59‏]‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ- إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِع ‏"‏ مَكَانَ ‏"‏ رَافِعِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ قَتَادُةُ‏:‏ أُنْـزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَمْرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِتَصْدِيقِ رُسُلِهِ كُلِّهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْـزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏)‏، أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُصَدِّقُوا بِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ كُلِّهِمْ، وَلَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏ الْأَسْبَاط ‏"‏ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ، فَهُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مَنْ وُلِدِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏ وَلَدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ، فَسُمُّوْا ‏"‏ أَسْبَاطًا ‏"‏‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ الْأَسْبَاطُ، يُوسُفُ وَإِخْوَتُهُ، بَنُو يَعْقُوبَ‏.‏ وَلَدَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَوَلَدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ، فَسُمُّوْا‏:‏ ‏"‏ أَسْبَاطًا ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ‏:‏ أَمَّا الْأَسْبَاطُ، فَهُمْ بَنُو يَعْقُوبَ‏:‏ يُوسُفُ، وَبِنْيَامِينُ، وَرُوبِيلُ، وَيَهُوذَا، وَشَمْعُونُ، وَلَاوِيُّ، وَدَانٍ، وَقِهَاثُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ الْأَسْبَاطُ ‏"‏ يُوسُفُ وَإِخْوَتُهُ بَنُو يَعْقُوبَ، اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَوُلِدَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ، فَسُمُّوْا ‏"‏ الْأَسْبَاطَ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ نَكَحَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ- وَهُوَ إِسْرَائِيلُ- ابْنَةَ خَالِهِ ‏"‏ لَيَا ‏"‏ ابْنَة ‏(‏لَيَانٍ بْنِ تُوبِيلِ بْنِ إِلْيَاسَ‏)‏، فَوَلَدَتْ لَهُ ‏(‏رُوبِيلَ بْنَ يَعْقُوبَ‏)‏، وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، وَ‏(‏شَمْعُونَ بْنَ يَعْقُوبَ‏)‏، وَ ‏"‏ لَاوِيَّ بْنَ يَعْقُوبَ ‏"‏ وَ ‏"‏ يَهُوذَا بْنَ يَعْقُوب ‏"‏ وَ‏(‏رِيَالُونَ بْنَ يَعْقُوبَ‏)‏، وَ‏(‏يَشْجَرَ بْنَ يَعْقُوبَ‏)‏، وَ‏(‏دِينَةَ بِنْتَ يَعْقُوبَ‏)‏، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ ‏"‏ لَيَا بِنْتُ لَيَانٍ ‏"‏‏.‏ فَخَلَفَ يَعْقُوبُ عَلَى أُخْتِهَا ‏"‏ رَاحِيلَ بِنْتِ لَيَانِ بْنِ تُوبِيلَ بْنِ إِلْيَاسَ ‏"‏ فَوَلَدَتْ لَهُ ‏"‏ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوب ‏"‏ وَ ‏"‏ بِنْيَامِينَ ‏"‏- وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَسَدٌ- وَوُلِدَ لَهُ مِنْ سُرِّيَّتَيْنِ لَهُ‏:‏ اسْمُ إِحْدَاهُمَا ‏(‏زُلْفَةُ‏)‏، وَاسْمُ الْأُخْرَى ‏(‏بِلْهِيَّةُ‏)‏، أَرْبَعَةُ نَفَرٍ‏:‏ ‏(‏دَانُ بْنُ يَعْقُوبَ‏)‏، وَ ‏"‏ نَفثَالي بْنُ يَعْقُوب ‏"‏ وَ‏(‏جَادُ بْنُ يَعْقُوبَ‏)‏، وَ ‏"‏ إِشْرَبُ بْنُ يَعْقُوبَ ‏"‏ فَكَانَ بَنُو يَعْقُوبَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا نَشَرَ اللَّهُ مِنْهُمْ اثْنَى عَشَرَ سَبْطًا، لَا يُحْصِى عَدَدَهُمْ وَلَا يَعْلَمُ أَنْسَابَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا‏}‏‏.‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 160‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ‏)‏، فَإِنْ صَدَّقَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِاللَّهِ، وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ، وَمَا أُنْـزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، مِثْلَ مَا صَدَّقْتُمْ أَنْتُمْ بِهِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَأَقْرَرْتُمْ، فَقَدْ وُفِّقُوا ورَشِدوا، وَلَزِمُوا طَرِيقَ الْحَقِّ، وَاهْتَدَوْا، وَهُمْ حِينَئِذٍ مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنْهُمْ، بِدُخُولِهِمْ فِي مِلَّتِكُمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ‏.‏

فَدَلَّ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ عَمَلًا إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي عَدَّهَا قَبْلَهَا، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوْا ‏"‏ وَنَحْوُ هَذَا، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا إِلَّا بِهِ، وَلَا تَحْرُمُ الْجَنَّةُ إِلَّا عَلَى مَنْ تَرَكَهُ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةٌ، جَاءَتْ مَصَاحِفُ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِهَا، وَأَجْمَعَتْ قَرَأَةُ الْقُرْآنِ عَلَى تَرْكِهَا‏.‏ وَذَلِكَ مَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لَا تَقُولُوا‏:‏ ‏"‏ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوْا ‏"‏- فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ مِثْلٌ- وَلَكِنْ قُولُوا‏:‏ ‏"‏ فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوْا ‏"‏- أَوْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ ‏"‏‏.‏

فَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ- فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً عَنْهُ- يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ‏)‏، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ اللَّهِ، وَبِمِثْلِ مَا أُنْـزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ‏.‏ وَذَلِكَ إِذَا صُرِفَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ، شِرْكٌ لَا شَكَّ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ‏.‏ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لِلَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، فَنُؤْمِنُ أَوْ نَكْفُرُ بِهِ‏.‏

وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَّهَ إِلَيْهِ تَأْوِيلَهُ‏.‏ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَا، وَهُوَ‏:‏ فَإِنْ صَدَّقُوا مِثْلَ تَصْدِيقِكُمْ بِمَا صَدَّقْتُمْ بِهِ- مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَدْنَا عَلَيْكُمْ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ- فَقَدْ اهْتَدَوْا‏.‏ فَالتَّشْبِيهُ إِنَّمَا وَقَعَ بَيْنَ التَّصْدِيقَِيْنِ وَالْإِقْرَارَيْنِ اللَّذَيْنِ هَمَّا إِيمَانُ هَؤُلَاءِ وَإِيمَانُ هَؤُلَاءِ‏.‏ كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏مَرَّ عَمْرٌو بِأَخِيكَ مِثْلَ مَا مَرَرْتُ بِهِ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ مَرَّ عَمْرٌو بِأَخِيكَ مِثْلَ مُرُورِي بِهِ‏.‏ وَالتَّمْثِيلُ إِنَّمَا دَخَلَ تَمْثِيلًا بَيْنَ الْمُرُورَيْنِ، لَا بَيْنَ عَمْرٍو وَبَيْنَ الْمُتَكَلِّمِ‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ‏)‏، إِنَّمَا وَقَعَ التَّمْثِيلُ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ، لَا بَيْنَ الْمُؤْمَنِ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَإِنْ تَوَلَّوْا‏)‏، وَإِنْ تَوَلَّى- هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ‏:‏ ‏"‏ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ‏"‏- فَأَعْرَضُوا، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِمِثْلِ إِيمَانِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَابْتُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلٌ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ رُسُلِ اللَّهِ وَبَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَصَدَّقُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ فَاعْلَمُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنَّهُمْ إِنَّمَا هُمْ فِي عِصْيَانٍ وَفِرَاقٍ وَحَرْبٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَكُمْ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏وَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ‏)‏، أَيْ‏:‏ فِي فِرَاقٍ

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏(‏فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ‏}‏، يَعْنِي فِرَاقَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ الشِّقَاقُ‏:‏ الْفِرَاقُ وَالْمُحَارَبَةُ‏.‏ إِذَا شَاقَّ فَقَدْ حَارَبَ، وَإِذَا حَارَبَ فَقَدْ شَاقَّ، وَهْمًا وَاحِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 115‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَصْلُ ‏"‏ الشِّقَاقِ ‏"‏ عِنْدَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏شَقَّ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ‏)‏، إِذَا كَرَبَهُ وَآذَاهُ‏.‏ ثُمَّ قِيلَ‏:‏ ‏(‏شَاقَّ فُلَانٌ فُلَانًا‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ نَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَا كَرَبَهُ وَآذَاهُ، وَأَثْقَلَتْهُ مَسَاءَتُهُ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 35‏]‏ بِمَعْنَى‏:‏ فِرَاقَ بَيْنِهِمَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ‏)‏، فَسَيَكْفِيكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ‏:‏ ‏(‏كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا‏)‏، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، إِنْ هُمْ تَوَلَّوْا عَنْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمِثْلِ إِيمَانِ أَصْحَابِكَ بِاللَّهِ، وَبِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ، وَمَا أُنْـزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِهِمْ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ- إِمَّا بِقَتْلِ السَّيْفِ، وَإِمَّا بِجَلَاءٍ عَنْ جِوَارِكَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ ‏"‏ السَّمِيعُ ‏"‏ لِمَا يَقُولُونَ لَكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيُبْدُونَ لَكَ بِأَفْوَاهِهِمْ، مِنَ الْجَهْلِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْمِلَلِ الضَّالَّةِ- ‏"‏ الْعَلِيم ‏"‏ بِمَا يُبْطِنُونَ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَسَدِ وَالْبَغْضَاءِ‏.‏

فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ عَاجِلًا وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ، فَكَفَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَسْلِيطِهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى قَتَلَ بَعْضَهُمْ، وَأَجْلَى بَعْضًا، وَأَذَلَّ بَعْضًا وَأَخْزَاهُ بِالْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنيِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِـ ‏"‏ الصِّبْغَةِ ‏"‏‏:‏ صِبْغَةَ الْإِسْلَامِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تُنَصِّرَ أَطْفَالَهُمْ، جَعَلَتْهُمْ فِي مَاءٍ لَهُمْ تَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ لَهَا تَقْدِيسٌ، بِمَنْـزِلَةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ صِبْغَةٌ لَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ‏.‏

فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ- إِذْ قَالُوا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ‏:‏ ‏"‏ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ‏"‏-‏:‏ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ أَيُّهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، بَلْ اتَّبَعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، صِبْغَةَ اللَّهِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الصِّبَغِ، فَإِنَّهَا هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الْمُسْلِمَةُ، وَدَعَوْا الشِّرْكَ بِاللَّهِ، وَالضَّلَالَ عَنْ مَحَجَّةِ هُدَاهُ‏.‏

وَنَصَبَ ‏"‏ الصِّبْغَةَ ‏"‏ مَنْ قَرَأَهَا نَصْبًا عَلَى الرَّدِّ عَلَى ‏"‏ الْمِلَّةِ ‏"‏‏.‏ وَكَذَلِكَ رَفَعَ ‏"‏ الصِّبْغَة ‏(‏مَنْ رَفَعَ ‏"‏ الْمِلَّةَ‏)‏، عَلَى رَدِّهَا عَلَيْهَا‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ رَفْعُهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ‏.‏ وَذَلِكَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، بِمَعْنَى‏:‏ هِيَ صِبْغَةُ اللَّهِ‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ نَصْبُهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الرَّدِّ عَلَى ‏(‏الْمِلَّةِ‏)‏، وَلَكِنْ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏)‏، ‏(‏صِبْغَةَ اللَّهِ‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ آمَنَّا هَذَا الْإِيمَانَ، فَيَكُونُ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ هُوَ صِبْغَةَ اللَّهِ‏.‏

وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ‏"‏ الصِّبْغَةِ ‏"‏ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ‏"‏ إِنَّ الْيَهُودَ تَصْبُغُ أَبْنَاءَهَا يَهُودَ، وَالنَّصَارَى تَصْبُغُ أَبْنَاءَهَا نَصَارَى، وَأَنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فَلَا صِبْغَةَ أَحْسَنُ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَلَا أَطْهَرُ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ بَعَثَ بِهِ نُوحًا وَالْأَنْبِيَاءَ بَعْدَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ عَطَاءٌ‏:‏ ‏"‏ صِبْغَةَ اللَّهِ ‏"‏ صَبَغَتِ الْيَهُودُ أَبْنَاءَهُمْ خَالَفُوا الْفِطْرَةَ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ صِبْغَةَ اللَّهِ ‏"‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ دِينَ اللَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ صِبْغَةَ اللَّهِ ‏"‏ قَالَ‏:‏ دِينَ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ ‏"‏ قَالَ‏:‏ دِينَ اللَّهِ، ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً‏}‏، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ دِينًا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ ‏"‏ قَالَ‏:‏ دِينَ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً‏}‏، يَقُولُ‏:‏ دِينَ اللَّهِ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ دِينًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ صِبْغَةَ اللَّهِ ‏"‏ قَالَ‏:‏ دِينَ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ صِبْغَةَ اللَّهِ ‏"‏ قَالَ‏:‏ دِينَ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي ابْنُ الْبَرْقِيِّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏صِبْغَةَ اللَّهِ‏)‏، فَذَكَرَ مِثْلَهُ‏.‏

وَقَالَ أَخَرُونَ‏:‏ ‏"‏ صِبْغَةَ اللَّهِ ‏"‏ فِطْرَةَ اللَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ صِبْغَةَ اللَّهِ ‏"‏ قَالَ‏:‏ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ‏"‏ قَالَ‏:‏ الصِّبْغَةُ، الْفِطْرَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ ‏"‏ صِبْغَةَ اللَّهِ‏)‏، الْإِسْلَامَ، فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ قَالَ لِي عبدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ‏:‏ ‏"‏ صِبْغَةَ اللَّهِ ‏"‏ قَالَ‏:‏ دِينَ اللَّهِ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ دِينًا‏.‏ قَالَ‏:‏ هِيَ فِطْرَةُ اللَّهِ‏.‏

وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، فَوَجَّهَ ‏"‏ الصِّبْغَةَ ‏"‏ إِلَى الْفِطْرَةِ، فَمَعْنَاهُ‏:‏ بَلْ نَتَّبِعُ فِطْرَةَ اللَّهِ وَمِلَّتَهُ الَّتِي خَلَقَ عَلَيْهَا خَلْقَهُ، وَذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ‏.‏ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 14‏]‏‏.‏ بِمَعْنَى خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ‏)‏، أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ قَالُوا لَهُ وَلِمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ‏:‏ ‏"‏ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ‏"‏‏.‏ فَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ بَلْ نَتْبَعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، صِبْغَةَ اللَّهِ، وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ‏.‏ يَعْنِي‏:‏ مِلَّةَ الْخَاضِعِينَ لِلَّهِ الْمُسْتَكِينِينَ لَهُ، فِي اتِّبَاعِنَا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَديْنُونَتِنَا لَهُ بِذَلِكَ، غَيْرَ مُسْتَكْبِرِينَ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِرِسَالَتِهِ رُسُلَهُ، كَمَا اسْتَكْبَرَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِكْبَارًا وَبَغْيًا وَحَسَدًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ‏)‏، قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُعَاشِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ قَالُوا لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ‏:‏ ‏(‏كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا‏)‏، وَزَعَمُوا أَنَّ دِينَهُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ، وَكِتَابَهُمْ خَيْرٌ مِنْ كِتَابِكُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ‏:‏ ‏(‏أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ‏)‏، بِيَدِهِ الْخَيِّرَاتُ، وَإِلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ- الْحَسَنَاتِ مِنْهَا وَالسَّيِّئَاتِ، فَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ بِاللَّهِ أَوْلَى مِنَّا، مِنْ أَجْلِ أَنْ نَبِيَّكُمْ قَبْلَ نَبِيِّنَا، وَكِتَابَكُمْ قَبْلَ كِتَابِنَا، وَرَبَّكُمْ وَرَبَّنَا وَاحِدٌ، وَأَنَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَّا مَا عَمِلَ وَاكْتَسَبَ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ وَسَيِّئهَا، يُجَازَى ‏[‏عَلَيْهَا‏]‏ فَيُثَابُ أَوْ يُعَاقَبُ،- لَا عَلَى الْأَنْسَابِ وَقَدَّمَ الدِّينَ وَالْكِتَابَ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا‏)‏، قُلْ أَتُخَاصِمُونَنَا وَتُجَادِلُونَنَا‏؟‏ كَمَا-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ‏)‏، قُلْ‏:‏ أَتُخَاصِمُونَنَا‏؟‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏(‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا‏)‏، أَتُخَاصِمُونَنَا‏؟‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏أَتُحَاجُّونَنَا‏)‏، أَتُجَادِلُونَنَا‏؟‏

فَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَنَحْنُ لِلَّهِ مُخَلِّصُو الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَلَا نَعْبُدُ غَيْرَهُ أَحَدًا، كَمَا عَبَدَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ مَعَهُ الْأَوْثَانَ، وَأَصْحَابُ الْعِجْلِ مَعَهُ الْعَجَلَ‏.‏

وَهَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ تَوْبِيخٌ لِلْيَهُودِ، وَاحْتِجَاجٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُولُوا- أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا لَكُمْ‏:‏ ‏"‏ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ‏"‏-‏:‏ ‏"‏ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ ‏"‏‏؟‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فِي اللَّهِ‏)‏، فِي دِينِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنَا أَنْ نَدِينَهُ بِهِ، وَرَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَاحِدٌ عَدْلٌ لَا يَجُورُ، وَإِنَّمَا يُجَازِي الْعِبَادَ عَلَى مَا اكْتَسَبُوا‏.‏ وَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنَّا، لِقِدَمِ دِينِكُمْ وَكِتَابِكُمْ وَنَبِيِّكُمْ، وَنَحْنُ مُخْلِصُونَ لَهُ الْعِبَادَةَ، لَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَقَدْ أَشْرَكْتُمْ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُ، فَعَبَدَ بَعْضُكُمُ الْعِجْلَ، وَبَعْضُكُمُ الْمَسِيحَ، فَأَنَّى تَكُونُونَ خَيْرًا مِنَّا، وَأَوْلَى بِاللَّهِ مِنَّا‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلََ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ وَجْهَانِ‏.‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ ‏"‏ أَمْ تَقُولُونَ ‏"‏ بِـ ‏"‏ التَّاءِ ‏"‏‏.‏ فَمَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُهُ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ- لِلْقَائِلِينَ لَكَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى‏:‏ ‏"‏ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ‏"‏-‏:‏ أَتُجَادِلُونَنَا فِي اللَّهِ، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ‏؟‏ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ ‏"‏‏.‏

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْهُمَا‏:‏ ‏"‏ أَمْ يَقُولُونَ ‏"‏ بِـ ‏"‏ الْيَاءِ ‏"‏‏.‏ وَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَّهَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُون ‏"‏ إِلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ السَّجْدَةِ‏:‏ 3‏]‏، وَكَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّهَا لَإِبِلٌ أَمْ شَاءٌ ‏"‏‏.‏ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ اسْتِفْهَامًا مُسْتَأْنَفًا، لِمَجِيءِ خَبَرٍ مُسْتَأْنَفٍ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏ أَتَقُومُ أَمْ يَقُومُ أَخُوكَ‏؟‏ ‏"‏ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُومُ أَخُوك ‏"‏ خَبَرًا مُسْتَأْنِفًا لِجُمْلَةٍ لَيْسَتْ مِنَ الْأَوَّلِ وَاسْتِفْهَامًا مُبْتَدَأً‏.‏ وَلَوْ كَانَ نَسَقًا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ، لَكَانَ خَبَرًا عَنِ الْأَوَّلِ، فَقِيلَ‏:‏ ‏"‏ أَتَقُومُ أَمْ تَقْعُدُ‏؟‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ، إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ بِـ ‏(‏الْيَاءِ‏)‏، فَإِنْ كَانَ الَّذِي بَعْدَ ‏"‏ أَمْ ‏"‏ جُمْلَةً تَامَّةً، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ‏.‏ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ قِيلَ‏:‏ أَيُّ هَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَائِنٌ‏؟‏ هَذَا أَمْ هَذَا‏؟‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ‏:‏ ‏"‏ أَمْ تَقُولُونَ ‏"‏ ‏"‏ بِالتَّاء ‏"‏ دُونَ ‏"‏ الْيَاءِ ‏"‏ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَيُّ هَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَفْعَلُونَ‏؟‏ أَتُجَادِلُونَنَا فِي دِينِ اللَّهِ، فَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلَى مِنَّا وَأَهْدَى مِنَّا سَبِيلًا- وَأَمرَنَا وَأَمَرَكُمْ مَا وَصَفْنَا، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَاهُ آنِفًا- أَمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَمَنْ سَمَّى اللَّهُ، كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى عَلَى مِلَّتِكُمْ، فَيَصِحُّ لِلنَّاسِ بَهْتُكُمْ وَكَذِبُكُمْ، لِأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ حَدَثَتْ بَعْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزَةٍ قِرَاءَةُ ذَلِكَ بـِ ‏(‏الْيَاءِ‏)‏، لِشُذُوذِهَا عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ‏.‏

وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا احْتِجَاجٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَصَهُمْ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ- لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى-‏:‏ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّ دِينَكُمْ أَفْضَلُ مِنْ دِينِنَا، وَأَنَّكُمْ عَلَى هُدَى وَنَحْنُ عَلَى ضَلَالَةٍ، بِبُرْهَانٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، فَتَدْعُونَنَا إِلَى دِينِكُمْ‏؟‏ فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَنَتْبَعَكُمْ عَلَيْهِ، أَمْ تَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى عَلَى دِينِكُمْ‏؟‏ فَهَاتُوا- عَلَى دَعْوَاكُمْ مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ ذَلِكَ- بُرْهَانًا فَنُصَدِّقَكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ‏.‏

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ- إِنِ ادَّعَوْا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى‏:‏ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ وَبِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَدْيَانِ، أَمِ اللَّهُ‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي‏:‏ فَإِنْ زَعَمَتْ يَا مُحَمَّدُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى- الَّذِينَ قَالُوا لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ‏:‏ ‏(‏كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى‏)‏، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى، فَمَنْ أَظْلِمُ مِنْهُمْ‏؟‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَيُّ امْرِئٍ أَظْلَمُ مِنْهُمْ‏؟‏ وَقَدْ كَتَمُوا شَهَادَةً عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا مُسْلِمِينَ، فَكَتَمُوا ذَلِكَ، وَنَحَلُوهُمُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏:‏

فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ‏"‏ قَالَ‏:‏ فِي قَوْلِ يَهُودَ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمَا، إِنَّهُمْ كَانُوا يَهُودَ أَوْ نَصَارَى‏.‏ فَيَقُولُ اللَّهُ‏:‏ لَا تَكْتُمُوا مِنِّي شَهَادَةً إِنْ كَانَتْ عِنْدَكُمْ فِيهِمْ‏.‏ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ‏)‏، فِي قَوْلِ الْيَهُودِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمَا‏:‏ إِنَّهُمْ كَانُوا يَهُودَ أَوْ نَصَارَى‏.‏ فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ‏:‏ لَا تَكْتُمُوا مِنِّي الشَّهَادَةَ فِيهِمْ، إِنْ كَانَتْ عِنْدَكُمْ فِيهِمْ‏.‏ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏(‏أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلََ‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ‏)‏، قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ عِنْدَ الْقَوْمِ مِنَ اللَّهِ شَهَادَةُ أَنَّ أَنْبِيَاءَهُ بُرَآءٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، كَمَا أَنَّ عِنْدَ الْقَوْمِ مِنَ اللَّهِ شَهَادَةَ أَنَّ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، فَبِمَ اسْتَحَلُّوهَا‏؟‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ‏)‏، أَهْلُ الْكِتَابِ، كَتَمُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏:‏ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَهُودَ وَلَا نَصَارَى، وَكَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ بَعْدَ هَؤُلَاءِ بِزَمَانٍ‏.‏

وَإِنَّمَا عَنَى تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، إِنِ ادَّعَوْا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ سُمِّي مَعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى، تَبَيَِنَ لِأَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ هُمْ نُصَرَاؤُهُمْ، كَذِبُهُمْ وَادِّعَاؤُهُمْ عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْبَاطِلَ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ حَدَثَتْ بَعَدَهُمْ وَإِنْ هُمْ نَفَوْا عَنْهُمُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، قِيلَ لَهُمْ‏:‏ فَهَلُمُّوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، فَإِنَّا وَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ جَمِيعًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ، وَنَحْنُ مُخْتَلِفُونَ فِيمَا خَالَفَ الدِّينَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عَنَى تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَمَنْ أَظْلَمَ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ‏)‏، الْيَهُودَ فِي كِتْمَانِهِمْ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتَهُ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلََ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى‏}‏، أُولَئِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَتَمُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ، وَاتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَكَتَمُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةَ عِنْدِهِ مِنَ اللَّهِ ‏"‏ قَالَ‏:‏ الشَّهَادَةُ، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي كَتَمُوا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، نَحْوَ حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ يَزِيدَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ‏"‏ قَالَ‏:‏ هُمْ يَهُودُ، يُسْأَلُونَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ صِفَتِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ، فَيَكْتُمُونَ الصِّفَةَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي قُلْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ‏)‏، فِي إِثْرِ قِصَّةِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، وَأَمَامَ قِصَّتِهِ لَهُمْ‏.‏ فَأَوْلَى بِالَّذِي هُوَ بَيْنَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِصَصِهِمْ دُونَ غَيْرِهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَأَيَّةُ شَهَادَةٍ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنَ اللَّهِ فِي أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ الشَّهَادَةُ الَّتِي عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ فِي أَمْرِهِمْ، مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَمَرَهُمْ فِيهَا بِالِاسْتِنَانِ بِسُنَّتِهِمْ وَاتِّبَاعِ مِلَّتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ‏.‏ وَهِيَ الشَّهَادَةُ الَّتِي عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ الَّتِي كَتَمُوهَا، حِينَ دَعَاهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا لَهُ‏:‏ ‏{‏لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 111‏]‏، وَقَالُوا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ‏:‏ ‏(‏كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا‏)‏، فَأَنـْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ، فِي تَكْذِيبِهِمْ، وَكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْبَاطِلَ وَالزُّورَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَقُلْ- لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ يُحَاجُّونَكَ يَا مُحَمَّدُ-‏:‏ ‏(‏وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏)‏، مِنْ كِتْمَانِكُمُ الْحَقَّ فِيمَا أَلْزَمَكُمْ فِي كِتَابِهِ بَيَانَهُ لِلنَّاسِ مِنْ أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي عَلَى جَمِيعِ الْخُلُقِ الدَّيْنُونَةُ بِهِ، دُونَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمِلَلِ- وَلَا هُوَ سَاهٍ عَنْ عِقَابِكُمْ عَلَى فِعْلِكُمْ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُحْصٍ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ مَا أَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ‏.‏ فَجَازَاهُمْ عَاجِلًا فِي الدُّنْيَا، بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَإِجْلَائِهِ عَنْ وَطَنِهِ وَدَارِهِ، وَهُوَ مُجَازِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ الْعَذَابَ الْمُهِينَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏تِلْكَ أُمَّةٌ‏)‏، إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلََ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بِمِثْلِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ ‏(‏الْأُمَّةَ‏)‏، الْجَمَاعَةُ‏.‏

فَمَعْنَى الْآيَةِ إذًا‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَكَ فِي اللَّهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، إِنْ كَتَمُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ سَمَّيْنَا مَعَهُ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى، فَكَذَبُوا‏:‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ- أَيْ مَضَتْ لِسَبِيلِهَا- فَصَارَتْ إِلَى رَبِّهَا، وَخَلَتْ بِأَعْمَالِهَا وَآمَالِهَا، لَهَا عِنْدَ اللَّهِ مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهَا، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ شَرٍّ، لَا يَنْفَعُهَا غَيْرُ صَالِحِ أَعْمَالِهَا، وَلَا يَضُرُّهَا إِلَّا سَيِّئُهَا‏.‏ فَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ذَلِكَ، فَإِنَّكُمْ، إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ- وَهُمُ الَّذِينَ بِهَمْ تَفْتَخِرُونَ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّ بِهِمْ تَرْجُونَ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ رَبِّكُمْ، مَعَ سَيِّئَاتِكُمْ وَعَظِيمِ خَطِيئَاتِكُمْ- لَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مَا قَدَّمُوا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَلَا يَضُرُّهُمْ غَيْرُ سَيِّئِهَا، فَأَنْتُمْ كَذَلِكَ أَحْرَى أَنْ لَا يَنْفَعُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مَا قَدَّمْتُمْ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَلَا يَضُرُّكُمْ غَيْرُ سَيِّئِهَا‏.‏ فَاحْذَرُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَبَادِرُوا خُرُوجَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ وَالْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَدَعُوا الِاتِّكَالَ عَلَى فَضَائِلِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، فَإِنَّمَا لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ، وَعَلَيْكُمْ مَا اكْتَسَبْتُمْ، وَلَا تُسأَلُونَ عَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلَُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ قَدِمَتْ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّمَا تُسْأَلُ عَمَّا كَسَبَتْ وَأَسْلَفَتْ، دُونَ مَا أَسْلَفَ غَيْرُهَا‏.‏