فصل: الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ أَسْمَاءِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ أَسْمَاءِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ‏:‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي ابْن أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي‏.‏ فَهَذِهِ أَسْمَاءُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ‏.‏

وَسُمِّيَتْ ‏"‏فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ‏"‏، لِأَنَّهَا يُفْتَتَحُ بِكِتَابَتِهَا الْمَصَاحِفُ، وَيُقْرَأُ بِهَا فِي الصَّلَوَاتِ، فَهِيَ فَوَاتِحُ لِمَا يَتْلُوهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ‏.‏

وَسُمِّيَتْ ‏"‏أُمَّ الْقُرْآنِ ‏"‏لِتُقَدِّمِهَا عَلَى سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ غَيْرِهَا، وَتَأَخُّرِ مَا سِوَاهَا خَلْفَهَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ‏.‏ وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَاهَا شَبِيهٌ بِمَعْنَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ‏.‏ وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا- بِكَوْنِهَا كَذَلِكَ- أُمَّ الْقُرْآنِ، لِتَسْمِيَةِ الْعَرَبِ كُلَّ جَامِعٍ أَمْرًا- أَوْ مُقَدِّمٍ لِأَمْرٍ إِذَا كَانَتْ لَهُ تَوَابِعُ تَتَبُّعُهُ، هُوَ لَهَا إِمَامٌ جَامِعٌ- ‏"‏أُمًّا‏"‏‏.‏ فَتَقُولُ لِلْجِلْدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ الدُّمَاغَ‏:‏ ‏"‏أُمَّ الرَّأْس‏"‏‏.‏ وَتُسَمِّي لِوَاءَ الْجَيْشِ وَرَايَتَهُمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ تَحْتَهَا لِلْجَيْشِ- ‏"‏أُمًّا ‏"‏‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ، يَصِفُ رَايَةً مَعْقُودَةً عَلَى قَنَاةٍ يَجْتَمِعُ تَحْتَهَا هُوَ وَصَحْبُهُ‏:‏

وَأَسَـمْرَ، قَـوَّامٍ إِذَا نَـامَ صُحْـبَتِي *** خَـفِيفِ الثِّيَابِ لَا تُوَارِي لَهُ أَزْرَا

عَـلَى رَأْسِـهِ أُمٌّ لَنَـا نَقْتَـدِي بِهَـا *** جِمَـاعُ أُمُورٍ لَا نُعَاصِي لَهَا أمْرَا

إِذَا نَـزَلَتْ قِيـلَ‏:‏ انْـزِلُوا، وَإِذَا غَدَتْ *** غَـدَتْ ذَاتَ بِرْزيقٍ نَنَالُ بِهَا فَخْرَا

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏عَلَى رَأْسِهِ أُمٌّ لَنَا ‏"‏، أَيْ عَلَى رَأْسِ الرُّمْحِ رَايَةٌ يَجْتَمِعُونَ لَهَا فِي النُّـزُولِ وَالرَّحِيلِ وَعِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَكَّةَ سُمِّيَتْ ‏"‏أُمَّ الْقُرَى ‏"‏، لِتَقَدُّمِهَا أَمَامَ جَمِيعِهَا، وَجَمْعِهَا مَا سِوَاهَا‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْهَا فَصَارَتْ لِجَمِيعِهَا أُمًّا‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ الْهِلَالِيِّ‏:‏

إِذَا كَـانَتِ الْخَمْسُـونَ أُمَّـكَ، لَـمْ يَكُنْ *** لِـدَائِكَ، إِلَّا أَنْ تَمـوتَ، طَبِيبُ

لِأَنَّ الْخَمْسِينَ جَامِعَةٌ مَا دُونَهَا مِنَ الْعَدَدِ، فَسَمَّاهَا أُمًّا لِلَّذِي قَدْ بَلَغَهَا‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ اسْمِهَا أَنَّهَا ‏"‏السَّبْعُ ‏"‏، فَإِنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْآيِ الَّتِي صَارَتْ بِهَا سَبْعَ آيَاتٍ‏.‏ فَقَالَ عُظْمُ أَهْلِ الْكُوفَةِ‏:‏ صَارَتْ سَبْعَ آيَاتٍ ب‏)‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏(‏وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينِ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ سَبْعُ آيَاتٍ، وَلَيْسَ مِنْهُنَّ‏)‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏(‏وَلَكِنَّ السَّابِعَةَ ‏{‏أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏ وَذَلِكَ قَوْلُ عُظْمِ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ومُتْقِنِيهِمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ بَيَّنَا الصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا‏:‏ ‏(‏اللَّطِيفُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ‏)‏ بِوَجِيزٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَنَسْتَقْصِي بَيَانَ ذَلِكَ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ وَالْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي كِتَابِنَا‏:‏ ‏(‏الْأَكْبَرُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ‏)‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا وَصْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتِهَا السَّبْعَ بِأَنَّهُنَّ مَثَانٍ، فَلِأَنَّهَا تُثْنَى قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَتَطَوُّعٍ وَمَكْتُوبَةٍ‏.‏ وَكَذَلِكَ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحِجْرِ‏:‏ 87‏]‏ قَالَ‏:‏ هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ‏.‏ ثُمَّ سُئِلَ عَنْهَا وَأَنَا أَسْمَعُ فَقَرَأَهَا‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا، فَقَالَ‏:‏ تُثْنَى فِي كُلِّ قِرَاءَةٍ- أَوْ قَالَ- فِي كُلِّ صَلَاةٍ‏.‏ الشَّكُّ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ‏.‏

وَالْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَصَدَ أَبُو النَّجْمِ الْعَجِلِي بِقَوْلِهِ‏:‏

الْحَـمْدُ لِلَّـهِ الَّـذِي عَافَـانِي *** وَكُـلَّ خَـيْرٍ بَعْـدَهُ أَعْطَـانِي

مِـنَ القُرَآنِ وَمِـنَ الْمَثَانِي

وَكَذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزِ الْآخَرِ‏:‏

نَشَـدْتُكُمْ بِمُـنَـزِّلِ الْفُرْقَـانِ *** أُمِّ الْكـتَابِ السَّبْعِ مِنْ مَثَانِي

ثُنِّيـنَ مِـنْ آيٍ مِـنَ القُـرْآنِ *** وَالسَّـبْعِ سَبْعِ الطُّوَلِ الدَّوَانِي

وَلَيْسَ فِي وُجُوبِ اسْمِ ‏"‏السَّبْعِ الْمَثَانِي ‏"‏لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، مَا يَدْفَعُ صِحَّةَ وُجُوبِ اسْمِ ‏"‏الْمَثَانِي‏"‏ لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَلِمَا ثَنَّى الْمِئِينَ مِنَ السُّوَرِ‏.‏ لِأَنَّ لِكُلٍّ وَجْهًا وَمَعْنًى مَفْهُومًا، لَا يَفْسُدُ- بِتَسْمِيَتِهِ بَعْضَ ذَلِكَ بِالْمَثَانِي- تَسْمِيَةُ غَيْرِهِ بِهَا‏.‏

فَأَمَّا وَجْهُ تَسْمِيَةِ مَا ثَنَّى الْمِئِينَ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْمَثَانِي، فَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّتَهُ، وَسَنَدُّلُّ عَلَى صِحَّةِ وَجْهِ تَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ بِهِ عِنْدَ انْتِهَائِنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ الِاسْتِعَاذَةِ

تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَعُوذُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالِاسْتِعَاذَةُ‏:‏ الِاسْتِجَارَةُ‏.‏ وَتَأْوِيلُ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏‏)‏ أُعَوِّذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏أَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ- دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ- مِنَ الشَّيْطَانِ أَنْ يَضُرَنِي فِي دِينِي، أَوْ يَصُدَنِي عَنْ حَقٍّ يَلْزَمُنِي لِرَبِّي‏.‏

تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنَ الشَّيْطَانِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالشَّيْطَانُ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏:‏ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ وَكُلُّ شَيْءٍ‏.‏ وَكَذَلِكَ قَالَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 112‏]‏، فَجَعَلَ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ، مِثْلَ الَّذِي جَعَلَ مِنَ الْجِنِّ‏.‏

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَرَكِبَ بِرْذَوْنًا فَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بِهِ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ فَلَا يَزْدَادُ إِلَّا تَبَخْتُرًا، فَنَـزَلَ عَنْهُ، وَقَالَ‏:‏ مَا حَمَلْتُمُونِي إِلَّا عَلَى شَيْطَانٍ‏!‏ مَا نَـزَلْتُ عَنْهُ حَتَّى أَنْكَرْتُ نَفْسِي‏.‏

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمْرَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُتَمَرِّدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ شَيْطَانًا، لِمُفَارَقَةِ أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ أَخْلَاقَ سَائِرِ جِنْسِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَبُعْدِهِ مِنَ الْخَيْرِ‏.‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّهُ أُخِذَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ شَطَنَتْ دَارِي مِنْ دَارِكَ- يُرِيدُ بِذَلِكَ‏:‏ بَعُدَتْ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ‏:‏

نَـأَتْ بِسُـعَادَ عَنْـكَ نَـوًى شَـطُونُ *** فَبَـانَتْ، وَالْفُـؤَادُ بِهَـا رَهِينُ

وَالنَّوَى‏:‏ الْوَجْهُ الَّذِي نَوَتْهُ وَقَصَدَتْهُ‏.‏ وَالشَّطُونُ‏:‏ الْبَعِيدُ‏.‏ فَكَأَنَّ الشَّيْطَانَ- عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ- فَيْعَالُ مِنْ شَطَنَ‏.‏ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، قَوْلُ أُمِّيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ‏:‏

أَيُّمَـا شَـاطِنٍ عَصَـاهُ عَكَـاهُ *** ثُـمَّ يُلْقَى فِي السِّـجْنِ وَالْأَكْبَالِ

وَلَوْ كَانَ فَعْلَانَ، مَنْ شَاطَ يَشِيطُ، لَقَالَ‏:‏ أَيُّمَا شَائِطٍ، وَلَكِنَّهُ قَالَ‏:‏ أَيُّمَا شَاطِنٍ، لِأَنَّهُ مِنْ ‏"‏شَطَنٍ يَشْطُنُ، فَهُوَ شَاطِنٌ‏"‏‏.‏

تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏الرَّجِيمِ‏)‏‏.‏

وَأَمَّا الرَّجِيمُ فَهُوَ‏:‏ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ كَفٌّ خَضِيبٌ، وَلِحْيَةٌ دَهِينٌ، وَرَجُلٌ لَعِينٌ، يُرِيدُ بِذَلِكَ‏:‏ مَخْضُوبَةٌ وَمَدْهُونَةٌ وَمَلْعُونٌ‏.‏ وَتَأْوِيلُ الرَّجِيمِ‏:‏ الْمَلْعُونُ الْمَشْتُومُ‏.‏ وَكُلُّ مَشْتُومٍ بِقَوْلٍ رَدِيءٍ أَوْ سَبٍّ فَهُوَ مَرْجُومٌ‏.‏ وَأَصْلُ الرَّجْمِ الرَّمْيُ، بِقَوْلٍ كَانَ أَوْ بِفِعْلٍ‏.‏ وَمِنَ الرَّجْمِ بِالْقَوْلِ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ مَرْيَمَ‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيلَ لِلشَّيْطَانِ رَجِيمٌ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ طَرَدَهُ مِنْ سَمَوَاتِهِ، وَرَجَمَهُ بِالشُّهُبِ الثَّواقِبِ

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَوَّلَ مَا نَـزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ الِاسْتِعَاذَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ أَوَّلُ مَا نَـزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ ‏"‏يَا مُحَمَّدُ اسْتَعِذْ، قُلْ‏:‏ أَسْتَعِيذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏"‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ قُلْ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الْعَلَقُ‏:‏ 1‏]‏‏.‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ أَنْـزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ‏.‏ فَأَمْرَهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ دُونَ خَلْقِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِسْمِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ أَدَّبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْلِيمِهِ تَقْدِيمَ ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَمَامَ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِي وَصْفِهِ بِهَا قَبْلَ جَمِيعِ مُهِمَّاتِهِ، وَجَعَلَ مَا أَدَّبَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ، مِنْهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا، وَسَبِيلًا يَتَّبِعُونَهُ عَلَيْهَا، فَبِهِ افْتِتَاحُ أَوَائِلِ مَنْطِقِهِمْ، وَصُدُورُ رَسَائِلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَحَاجَاتِهِمْ، حَتَّى أَغْنَتْ دَلَالَةُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏، عَلَى مَا بَطَنَ مِنْ مُرَادِهِ الَّذِي هُوَ مَحْذُوفٌ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاءَ مَنْ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏مُقْتَضِيَةٌ فِعْلًا يَكُونُ لَهَا جَالِبًا، وَلَا فِعْلَ مَعَهَا ظَاهِرٌ، فَأَغْنَتْ سَامِعَ الْقَائِلِ ‏"‏بِسْمِ اللَّه‏"‏ مَعْرِفَتُهُ بِمُرَادِ قَائِلِهِ، عَنْ إِظْهَارِ قَائِلِ ذَلِكَ مُرَادَهُ قَوْلًا إِذْ كَانَ كُلُّ نَاطِقٍ بِهِ عِنْدَ افْتِتَاحِهِ أَمْرًا، قَدْ أُحْضِرَ مَنْطِقُهُ بِهِ- إِمَّا مَعَهُ، وَإِمَّا قَبْلَهُ بِلَا فَصْلٍ- مَا قَدْ أَغْنَى سَامِعَهُ عَنْ دَلَالَةٍ شَاهِدَةٍ عَلَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ افْتَتَحَ قِيلَهُ بِهِ‏.‏ فَصَارَ اسْتِغْنَاءُ سَامِعِ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ إِظْهَارِ مَا حَذَفَ مِنْهُ، نَظِيرَ اسْتِغْنَائِهِ- إِذَا سَمِعَ قَائِلًا قِيلَ لَهُ‏:‏ مَا أَكَلَتِ الْيَوْمَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏طَعَامًا ‏"‏- عَنْ أَنْ يُكَرِّرَ الْمَسْئُولُ مَعَ قَوْلِهِ ‏"‏طَعَامًا ‏"‏، أَكَلْتُ، لِمَا قَدْ ظَهَرَ لَدَيْهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، بِتَقَدُّمِ مَسْأَلَةِ السَّائِلِ إِيَّاهُ عَمَّا أَكَلَ‏.‏ فَمَعْقُولٌ إذًا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إِذَا قَالَ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم‏"‏ ثُمَّ افْتَتَحَ تَالِيًا سُورَةً، أَنَّ إِتْبَاعَهُ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏تِلَاوَةَ السُّورَةِ، يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم‏"‏ وَمَفْهُومٌ بِهِ أَنَّهُ مُرِيدٌ بِذَلِكَ‏:‏ أَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏.‏ وَكَذَلِكَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏ عِنْدَ نُهُوضِهِ لِلْقِيَامِ أَوْ عِنْدَ قُعُودِهِ وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ، يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِقِيلِهِ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏، أَقُومُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَأَقْعُدُ بِاسْمِ اللَّهِ‏.‏ وَكَذَلِكَ سَائِرِ الْأَفْعَالِ‏.‏

وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَوَّلَ مَا نَـزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ، قَالَ‏:‏ ‏"‏يَا مُحَمَّدُ، قُلْ‏:‏ أَسْتَعِيذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏"‏ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ‏:‏ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، يَقُولُ‏:‏ اقْرَأْ بِذِكْرِ اللَّهِ رَبِّكَ، وَقُمْ وَاقْعُدْ بِذِكْرِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏مَا وَصَفْتَ، وَالْجَالِبُ الْبَاءَ فِي ‏"‏بِسْمِ اللَّه‏"‏ مَا ذَكَرْتَ، فَكَيْفَ قِيلَ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏، بِمَعْنَى أَقْرَأُ بِاسْمِ اللَّهِ ‏"‏، أَوْ أَقُومُ أَوْ أَقْعُدُ بِاسْمِ اللَّهِ‏؟‏ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَ قَارِئٍ كِتَابَ اللَّهِ، فَبِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ قِرَاءَتُهُ، وَأَنَّ كُلَّ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ أَوْ فَاعِلٍ فِعْلًا فَبِاللَّهِ قِيَامُهُ وَقُعُودُهُ وَفِعْلُهُ‏.‏ وَهَلَّا- إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ- قِيلَ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏وَلَمْ يَقُلْ ‏"‏بِسْمِ اللَّه‏"‏‏؟‏ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ‏:‏ أَقُومُ وَأَقْعُدُ بِاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَوْ أَقْرَأُ بِاللَّهِ- أَوْضَحُ مَعْنًى لِسَامِعِهِ مِنْ قَوْلِهِ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ أَقُومُ ‏"‏أَقُومُ أَوْ أَقْعُدُ بِاسْمِ اللَّهِ ‏"‏، يُوهِمُ سَامِعَهُ أَنَّ قِيَامَهُ وَقُعُودَهُ بِمَعْنَى غَيْرِ اللَّهِ‏.‏

قِيلَ لَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏:‏ إِنَّ الْمَقْصُودَ إِلَيْهِ مِنْ مَعْنَى ذَلِكَ غَيْرُ مَا تَوَهَّمَتْهُ فِي نَفْسِكَ‏.‏ وَإِنَّمَامَعْنَى قَوْلِهِ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏‏:‏ أَبْدَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ أَقْرَأُ بِتَسْمِيَتِي اللَّهَ، أَوْ أَقُومُ وَأَقْعُدُ بِتَسْمِيَتِي اللَّهَ وَذِكْرِهِ- لَا أَنَّهُ يَعْنِي بِقِيلِهِ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏‏:‏ أَقُومُ بِاللَّهِ، أَوْ أَقْرَأُ بِاللَّهِ، فَيَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ‏:‏ أَقْرَأُ بِاللَّهِ، أَوْ أَقُومُ أَوْ أَقْعُدُ بِاللَّهِ- أَوْلَى بِوَجْهِ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتَ، فَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الِاسْمَ اسْمٌ، وَأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ سَمَّيْتُ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُخْرِجُ الْمَصَادِرَ مُبْهَمَةً عَلَى أَسْمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَقَوْلِهِمْ‏:‏ أَكْرَمْتُ فُلَانًا كَرَامَةً، وَإِنَّمَا بِنَاءُ مَصْدَرِ ‏"‏أَفَعُلْتُ ‏"‏- إِذَا أُخْرِجَ عَلَى فِعْلِهِ- ‏"‏الْإِفْعَالُ ‏"‏‏.‏ وَكَقَوْلِهِمْ‏:‏ أَهَنْتُ فُلَانًا هَوَانًا، وَكَلَّمْتُهُ كَلَامًا‏.‏ وَبِنَاءُ مَصْدَرِ‏:‏ ‏"‏فَعَّلَت‏"‏ التَّفْعِيلُ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

أَكُفْـرًا بَعْـدَ رَدِّ الْمَـوْتِ عَنِّـي *** وَبَعْـدَ عَطَـائِكَ الْمِئَـةَ الرِّتَاعَـا

يُرِيدُ‏:‏ إِعْطَائِكَ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ‏:‏

وَإِنْ كَـانَ هَـذَا البُخْـلُ مِنْـكَ سَجِيَّةً *** لَقَـدْ كُـنْتُ فِـي طُولِي رَجَاءَكَ أَشْعَبَا

يُرِيدُ‏:‏ فِي إِطَالَتِي رَجَاءَكَ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ‏:‏

أَظُلَيْـمُ إِنَّ مُصَـابَكُمْ رَجُـلًا *** أَهْـدَى السَّـلَامَ تَحِيَّـةً ظُلْـمُ

يُرِيدُ‏:‏ إِصَابَتُكُمْ‏.‏ وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَكْثُرُ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ، لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ‏.‏

فَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ- عَلَى مَا وَصَفْنَا، مِنْ إِخْرَاجِ الْعَرَبِ مَصَادِرَ الْأَفْعَالِ عَلَى غَيْرِ بَنَّاءِ أَفْعَالِهَا- كَثِيرًا، وَكَانَ تَصْدِيرُهَا إِيَّاهَا عَلَى مَخَارِجِ الْأَسْمَاءِ مَوْجُودًا فَاشِيًا، فَبَيِّنٌ بِذَلِكَ صَوَابُ مَا قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏ أَنَّ مَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ فِي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ‏:‏ أَبْدَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ، قَبْلَ فِعْلِي، أَوْ قَبْلَ قَوْلِي‏.‏

وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏، إِنَّمَا مَعْنَاهُ‏:‏ أَقْرَأُ مُبْتَدِئًا بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ، أَوْ أَبْتَدِئُ قِرَاءَتِي بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ‏.‏ فَجُعِلَ ‏"‏الِاسْمُ ‏"‏ مَكَانَ التَّسْمِيَةِ، كَمَا جُعِلَ الْكَلَامُ مَكَانَ التَّكْلِيمِ، وَالْعَطَاءُ مَكَانَ الْإِعْطَاءِ‏.‏

وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ أَوَّلُ مَا نَـزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏"‏يَا مُحَمَّدُ، قُلْ‏:‏ أَسْتَعِيذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏"‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏قُلْ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏، يَقُولُ لَهُ جِبْرِيلُ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، اقْرَأْ بِذِكْرِ اللَّهِ رَبِّكَ، وَقُمْ وَاقْعُدْ بِذِكْرِ اللَّهِ‏.‏

وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا- مِنْ أَنَّهُ يُرَادُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ مُفْتَتِحًا قِرَاءَتَهُ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏‏:‏ أَقْرَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ، وَأَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ، بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى- وَيُوَضِّحُ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ قَائِلِهِ‏:‏ بِاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَوَّلِ كُلِ شَيْءٍ، مَعَ أَنَّ الْعِبَادَ إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يَبْتَدِئُوا عِنْدَ فَوَاتِحِ أُمُورِهِمْ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ، لَا بِالْخَبَرِ عَنْ عَظْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ، كَالَّذِي أُمِرُوا بِهِ مِنَ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ، وَعِنْدَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَسَائِرِ أَفْعَالِهِمْ‏.‏ وَكَذَلِكَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ تِلَاوَةِ تَنْـزِيلِ اللَّهِ، وَصُدُورِ رَسَائِلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ‏.‏

وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْجَمِيعِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، أَنَّ قَائِلًا لَوْقَالَ عِنْدَ تَذْكِيَتِهِ بَعْضَ بَهَائِمِ الْأَنْعَامِ ‏"‏بِاللَّهِ ‏"‏، وَلَمْ يَقُلْ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏، أَنَّهُ مُخَالِفٌ- بِتَرْكِهِ قِيلَ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏مَا سُنَّ لَهُ عِنْدَ التَّذْكِيَةِ مِنَ الْقَوْلِ‏.‏ وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ ‏"‏بِسْمِ اللَّه‏"‏ ‏"‏بِاللَّهِ ‏"‏، كَمَا قَالَ الزَّاعِمُ أَنَّ اسْمَ اللَّهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم‏"‏ هُوَ اللَّهُ‏.‏ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ عِنْدَ تَذْكِيَتِهِ ذَبِيحَتَهُ ‏"‏بِاللَّهِ ‏"‏، قَائِلًا مَا سُنَّ لَهُ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى الذَّبِيحَةِ‏.‏ وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ تَارِكٌ مَا سُنَّ لَهُ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى ذَبِيحَتِهِ- إِذْ لَمْ يَقُلْ ‏"‏بِسْمِ اللَّه‏"‏- دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى فَسَادِ مَا ادَّعَى مِنَ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏، أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ ‏"‏بِاللَّهِ ‏"‏، وَأَنَّ اسْمَ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ‏.‏

وَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِكْثَارِ فِي الْإِبَانَةِ عَنِ الِاسْمِ‏:‏ أَهُوَ الْمُسَمَّى، أَمْ غَيْرُهُ، أَمْ هُوَ صِفَةٌ لَهُ‏؟‏ فَنُطِيلُ الْكِتَابَ بِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا مَوْضِعٌ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِبَانَةِ عَنِ الِاسْمِ الْمُضَافِ إِلَى اللَّهِ‏:‏ أَهْوَ اسْمٌ، أَمْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ‏؟‏ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِي بَيْتِ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ‏:‏

إِلَـى الْحَـوْلِ، ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا، *** وَمَـنْ يَبْـكِ حَـوْلًا كَـامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ

فَقَدْ تَأَوَّلَهُ مُقَدَّم فِي الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ‏:‏ ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا، وَأَنَّ اسْمَ السَّلَامِ هُوَ السَّلَامُ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ لَوْ جَازَ ذَلِكَ وَصَحَّ تَأْوِيلُهُ فِيهِ عَلَى مَا تَأَوَّلَ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ رَأَيْتُ اسْمَ زَيْدٍ، وَأَكَلْتُ اسْمَ الطَّعَامِ، وَشَرِبْتُ اسْمَ الشَّرَابِ، وَفِي إِجْمَاعِ جَمِيعِ الْعَرَبِ عَلَى إِحَالَةِ ذَلِكَ مَا يُنْبِئُ عَنْ فَسَادِ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَ لَبِيدٍ‏:‏ ‏"‏ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ‏"‏، أَنَّهُ أَرَادَ‏:‏ ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا، وَادِّعَائِهِ أَنَّ إِدْخَالَ الِاسْمِ فِي ذَلِكَ وَإِضَافَتَهُ إِلَى السَّلَامِ إِنَّمَا جَازَ، إِذْ كَانَ اسْمُ الْمُسَمَّى هُوَ الْمُسَمَّى بِعَيْنِهِ‏.‏

وَيُسْأَلُ الْقَائِلُونَ قَوْلَ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ هَذَا، فَيُقَالُ لَهُمْ‏:‏ أَتَسْتَجِيزُونَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏"‏أَكَلْتُ اسْمَ الْعَسَلِ ‏"‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ أَكَلْتُ الْعَسَلَ، كَمَا جَازَ عِنْدَكُمْ‏:‏ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكَ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْكَ‏؟‏

فَإِنْ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ‏!‏ خَرَجُوا مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَأَجَازُوا فِي لُغَتِهَا مَا تُخَطِّئُهُ جَمِيعُ الْعَرَبِ فِي لُغَتِهَا‏.‏ وَإِنْ قَالُوا‏:‏ لَا سُئِلُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا‏:‏ فَلَنْ يَقُولُوا فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمُوا فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِ لَبِيدٍ هَذَا عِنْدَكَ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ، كِلَاهُمَا غَيْرُ الَّذِي قَالَهُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ ‏"‏السَّلَامَ ‏"‏ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَبِيدٌ عَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ‏"‏، ثُمَّ الْزَمَا اسْمَ اللَّهِ وَذِكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَدَعَا ذِكْرِي وَالْبُكَاءَ عَلَيَّ، عَلَى وَجْهِ الْإِغْرَاءِ‏.‏ فَرَفَعَ الِاسْمَ، إِذْ أَخَّرَ الْحَرْفَ الَّذِي يَأْتِي بِمَعْنَى الْإِغْرَاءِ‏.‏ وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ، إِذَا أَخَّرَتِ الْإِغْرَاءَ وَقَدَّمَتِ الْمُغْرَى بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَنْصِبُ بِهِ وَهُوَ مُؤَخَّرٌ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

يَـا أَيُّهَـا الْمَـائِحُ دَلْـوِي دُونَكَـا‏!‏ *** إِنَّـي رَأَيْـتُ النَّـاسَ يَحْمَدُونَكَـا‏!‏

فَأَغْرَى ب ‏"‏دُونَكَ ‏"‏، وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ‏:‏ دُونَكَ دَلْوِي‏.‏ فَذَلِكَ قَوْلُ لَبِيدٍ‏:‏

إِلَى الْحَوْلِ، ثُمَّ اسْمُ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا ***

يَعْنِي‏:‏ عَلَيْكُمَا اسْمَ السَّلَامِ، أَيْ‏:‏ الْزَمَا ذِكْرَ اللَّهِ وَدَعَا ذِكْرِي وَالْوَجْدَ بِي، لِأَنَّ مَنْ بَكَى حَوْلًا عَلَى امْرِئٍ مَيِّتٍ فَقَدِ اعْتَذَرَ‏.‏ فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْهِ‏.‏

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْهُمَا‏:‏ ثُمَّ تَسْمِيَتِي اللَّهَ عَلَيْكُمَا، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِلشَّيْءِ يَرَاهُ فَيُعْجِبُهُ‏:‏ ‏"‏اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكَ ‏"‏ يُعَوِّذُهُ بِذَلِكَ مِنَ السُّوءِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ ثُمَّ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكُمَا مِنَ السُّوءِ، وَكَأَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِ لَبِيدٍ‏.‏

وَيُقَالُ لِمَنْ وَجَّهَ بَيْتَ لَبِيدٍ هَذَا إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا، أَتَرَى مَا قُلْنَا- مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ- جَائِزًا، أَوْ أَحَدُهُمَا، أَوْ غَيْرَ مَا قُلْتَ فِيهِ‏؟‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ لَا‏!‏ أَبَانَ مِقْدَارَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِتَصَارِيفَ وُجُوهِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَغْنَى خَصْمِهِ عَنْ مُنَاظَرَتِهِ‏.‏

وَإِنْ قَالَ‏:‏ بَلَى‏!‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ فَمَا بِرِهَانُكَ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْتَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَنَّهُ الصَّوَابُ، دُونَ الَّذِي ذَكَرْتَ أَنَّهُ مُحْتَمِلُهُ- مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَلْزَمُنَا تَسْلِيمُهُ لَكَ‏؟‏ وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ الضَّحَّاكِ ‏[‏وَهُوَ يُلَقَّبُ بزبريق‏]‏ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الْكُتَّابِ لِيُعَلِّمَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ‏:‏ اُكْتُبْ ‏"‏بِسْم‏"‏ فَقَالَ لَهُ عِيسَى‏:‏ وَمَا ‏"‏بِسْمُ ‏"‏‏؟‏ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ‏:‏ مَا أَدْرِي‏!‏ فَقَالَ عِيسَى‏:‏ الْبَاءُ بَهَاءُ اللَّهِ، وَالسِّينُ‏:‏ سَنَاؤُهُ، وَالْمِيمُ‏:‏ مَمْلَكَتُه‏)‏‏.‏

فَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ غَلَطًا مِنَ الْمُحَدِّثِ، وَأَنْ يَكُونَ أَرَادَ ‏[‏ب س م‏]‏، عَلَى سَبِيلٍ مَا يُعَلَّمُ الْمُبْتَدِئُ مِنَ الصِّبْيَانِ فِي الْكُتَّابِ حُرُوفَ أَبِي جَادٍ، فَغَلِطَ بِذَلِكَ، فَوَصَلَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏بِسْمِ ‏"‏، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِهَذَا التَّأْوِيلِ إِذَا تُلِيَ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏، عَلَى مَا يَتْلُوهُ الْقَارِئُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَاهُ عَلَى الْمَفْهُومِ بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ وَأَهْلِ لِسَانِهَاِ، إِذَا حُمِلَ تَأْوِيلُهُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏اللَّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا تَأْوِيلُقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏"‏اللَّهِ ‏"‏مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِ وَتَأْوِيلِهِ، فَإِنَّهُ عَلَى مَعْنَى مَا رُوِيَ لَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- ‏:‏ هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَيَعْبُدُهُ كُلُّ خَلْقٍ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا كَرَيْبٍ حَدَّثَنَا، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ ‏"‏اللَّهِ ‏"‏ ذُو الْأُلُوهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ فَهَلْ لِذَلِكَ فِي ‏"‏فَعَلَ وَيَفْعَلُ ‏"‏ أَصْلٌ كَانَ مِنْهُ بِنَاءُ هَذَا الِاسْمِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ أَمَّا سَمَاعًا مِنْ الْعَرَبِ فَلَا وَلَكِنِ اسْتِدْلَالًا‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ وَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ هِيَ الْعِبَادَةُ، وَأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَأَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي ‏"‏فَعَلَ وَيَفْعَلُ ‏"‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ لَا تَمَانُعَ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي الْحُكْمِ لِقَوْلِ الْقَائِلِ- يَصِفُ رَجُلًا بِعِبَادَةٍ، وَبِطَلَبِ مَا عِنْدَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏"‏تَأَلَّهَ فَلَانٌ ‏"‏- بِالصِّحَّةِ وَلَا خِلَافَ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ‏:‏

لِلَّـهِ دَرُّ الْغَانِيَـاتِ الْمُـدَّهِ *** سَـبَّحْنَ وَاسْـتَرْجَعْنَ مِـنْ تَـأَلُّهِي

يَعْنِي‏:‏ مِنْ تَعَبُّدِي وَطَلَبِي اللَّهَ بِعَمَلِي‏.‏

وَلَا شَكَّ أَنَّ ‏"‏التَّأَلُّهَ ‏"‏، التَّفَعُّلَ مِنْ‏:‏ ‏"‏أَلَهَ يَأْلَهُ ‏"‏، وَأَنَّ مَعْنَى ‏"‏أَلَه‏"‏- إِذَا نُطِقَ بِهِ‏:‏- عَبَدَ اللَّهَ‏.‏ وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ مَصْدَرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ نَطَقَتْ مِنْهُ بِـ ‏"‏فَعَلَ يَفْعَلُ ‏"‏ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ‏.‏

وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّهُ قَرَأَ ‏"‏وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَك‏"‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 127‏]‏ قَالَ‏:‏ عِبَادَتَكَ، وَيُقَالُ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيينةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ‏)‏، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ

وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا وَمُجَاهِدٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ قَوْلُهُ ‏"‏وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَك‏"‏ قَالَ‏:‏ وَعِبَادَتَكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِلَاهَةَ- عَلَى مَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ- مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ أَلَهَ اللَّهَ فُلَانٌ إِلَاهَةً، كَمَا يُقَالُ‏:‏ عَبَدَ اللَّهَ فُلَانٌ عِبَادَةً، وَعَبَرَ الرُّؤْيَا عِبَارَةً‏.‏ فَقَدْ بَيَّنَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ هَذَا‏:‏ أَنَّ ‏"‏أَلَهَ ‏"‏عَبَدَ، وَأَنَّ ‏"‏الْإِلَاهَة‏"‏ مَصْدَرُهُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَبَدَ اللَّهَ‏:‏ أَلَهَهُ- عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ- فَكَيْفَ الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ، إِذَا أَرَادَ الْمُخْبِرُ الْخَبَرَ عَنِ اسْتِيجَابِ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِهِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ أَمَّا الرِّوَايَةُ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ- عَلَى قِيَاسِ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ عِيسَى أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الْكُتَّابِ لِيُعَلِّمَهُ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ اُكْتُبْ ‏"‏اللَّهَ ‏"‏ فَقَالَ لَهُ عِيسَى‏:‏ ‏"‏أَتَدْرِي مَا اللَّهُ‏؟‏ اللَّهُ إِلَهُ الْآلِهَة‏)‏‏.‏

أَنْ يُقَالَ، اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ أَلَهَ الْعَبْدَ، وَالْعَبْدُ أَلَهَهُ‏.‏ وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ ‏"‏اللَّهِ ‏"‏- مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَصْلُهُ ‏"‏الْإِلَهُ ‏"‏‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَعَ اخْتِلَافِ لَفْظَيْهِمَا‏؟‏

قِيلَ‏:‏ كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْكَهْفِ‏:‏ 38‏]‏ أَصْلُهُ‏:‏ لَكِنَّ أَنَا، هُوَ اللَّهُ رَبِّي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَتَـرْمِينَنِي بِـالطَّرْفِ، أَيْ أَنْـتَ مُذْنِبٌ *** وَتَقْلِينَنِـي، لَكِـنَّ إِيَّـاكِ لَا أَقْـلِي

يُرِيدُ‏:‏ لَكِنَّ أَنَا إِيَّاكِ لَا أَقْـلِي، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ مِنْ ‏"‏أَنَا ‏"‏فَالْتَقَتْ نُونُ ‏"‏أَنَا‏"‏ ‏"‏وَنُونُ ‏"‏لَكِنْ ‏"‏وَهِيَ سَاكِنَةٌ، فَأُدْغِمَتْ فِي نُونِ ‏"‏أَنَا‏"‏ فَصَارَتَا نُونًا مُشَدَّدَةً‏.‏ فَكَذَلِكَ ‏"‏اللَّهُ ‏"‏ أَصْلُهُ ‏"‏الْإِلَهُ ‏"‏، أُسْقِطَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الِاسْمِ، فَالْتَقَتِ اللَّامُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الِاسْمِ، وَاللَّامُ الزَّائِدَةُ الَّتِي دَخَلَتْ مَعَ الْأَلِفِ الزَّائِدَةِ وَهِيَ سَاكِنَةٌ، فَأُدْغِمَتْ فِي الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ عَيْنُ الِاسْمِ، فَصَارَتَا فِي اللَّفْظِ لَامًا وَاحِدَةً مُشَدَّدَةً، كَمَا وَصَفْنَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ ‏{‏لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا ‏"‏الرَّحْمَنُ ‏"‏، فَهُوَ فَعْلَانُ، مِنْ رَحِمَ، و ‏"‏الرَّحِيم‏"‏ فَعِيلٌ مِنْهُ‏.‏ وَالْعَرَبُ كَثِيرًا مَا تَبْنِي الْأَسْمَاءَ مَنْ ‏"‏فَعِلَ يَفْعَلُ ‏"‏عَلَى ‏"‏فَعْلَانِ ‏"‏، كَقَوْلِهِمْ مِنْ غَضِبَ‏:‏ غَضْبَانُ، وَمَنْ سَكِرَ‏:‏ سَكْرَانُ، وَمِنْ عَطِشَ‏:‏ عَطْشَانُ‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ ‏"‏رَحْمَن‏"‏ مِنْ رَحِمَ، لِأَنَّ ‏"‏فَعِلَ ‏"‏مِنْهُ‏:‏ رَحِمَ يَرْحَمُ‏.‏ وَقِيلَ ‏"‏رَحِيمٌ ‏"‏، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُ ‏"‏فَعِل‏"‏ مِنْهَا مَكْسُورَةً، لِأَنَّهُ مَدْحٌ‏.‏ وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يَحْمِلُوا أَبْنِيَةَ الْأَسْمَاءِ- إِذَا كَانَ فِيهَا مَدْحٌ أَوْ ذَمٌّ- عَلَى ‏"‏فَعِيلٍ ‏"‏، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُ ‏"‏فَعِلَ ‏"‏مِنْهَا مَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً، كَمَا قَالُوا مِنْ ‏"‏عَلِم‏"‏ عَالِمٌ وَعَلِيمٌ، وَمِنْ ‏"‏قَدَرَ ‏"‏قَادِرٌ وَقَدِيرٌ‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهَا بِنَاءً عَلَى أَفْعَالِهَا، لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِنْ ‏"‏فَعِلَ يَفْعَل‏"‏ و ‏"‏فَعَلَ يَفْعِلُ ‏"‏فَاعِلٌ‏.‏ فَلَوْ كَانَ ‏"‏الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيم‏"‏ خَارِجَيْنِ عَلَى بِنَاءِ أَفْعَالِهِمَا لَكَانَتْ صُورَتُهُمَا ‏"‏الرَّاحِمَ ‏"‏‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَإِذَا كَانَ الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ اسْمَيْنِ مُشْتَقَّيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَمَا وَجْهُ تَكْرِيرِ ذَلِكَ، وَأَحَدُهُمَا مُؤَدٍّ عَنْ مَعْنَى الْآخَرِ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْتَ، بَلْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهُمَا مَعْنًى لَا تُؤَدِّي الْأُخْرَى مِنْهُمَا عَنْهَا‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ وَمَا الْمَعْنَى الَّذِي انْفَرَدَتْ بِهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَصَارَتْ إِحْدَاهُمَا غَيْرَ مُؤَدِّيَةٍ الْمَعْنَى عَنِ الْأُخْرَى‏؟‏

قِيلَ‏:‏ أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا تَمَانُعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ، أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏الرَّحْمَنُ ‏"‏- عَنْ أَبْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ مِنْ ‏"‏فَعِلَ يَفْعَل‏"‏- أَشَدُّ عُدُولًا مِنْ قَوْلِهِ ‏"‏الرَّحِيمِ ‏"‏‏.‏ وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، أَنَّ كُلَّ اسْمٍ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي ‏"‏فَعِلَ يَفْعَلُ ‏"‏- ثُمَّ كَانَ عَنْ أَصْلِهِ مَنْ ‏"‏فَعِلَ يَفْعَل‏"‏ أَشَدَّ عُدُولًا- أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ مُفَضَّلٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِالِاسْمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى أَصْلِهِ مَنْ ‏"‏فَعِلَ يَفْعَلُ ‏"‏، إِذَا كَانَتِ التَّسْمِيَةُ بِهِ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا‏.‏ فَهَذَا مَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ ‏"‏الرَّحْمَنِ ‏"‏، مِنْ زِيَادَةِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ ‏"‏الرَّحِيمِ ‏"‏ فِي اللُّغَةِ‏.‏

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ وَالْخَبَرِ، فَفِيهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ اخْتِلَافٌ‏:‏-

فَحَدَّثَنِي السُّرِّيُّ بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ زَفَرَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ العَرْزَميَّ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏الرَّحْمَنِ‏"‏ بِجَمِيعِ الْخَلْقِ، ‏"‏الرَّحِيمِ‏"‏، قَالَ‏:‏ بِالْمُؤْمِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ- يَعْنِي الْخُدْرِيَّ- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ‏:‏ الرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَة‏)‏‏.‏

فَهَذَانِ الْخَبِرَانِ قَدْ أَنْبَآ عَنْ فَرْقٍ مَا بَيْنَ تَسْمِيَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏رَحْمَنُ ‏"‏، وَتَسْمِيَتُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏رَحِيمٌ ‏"‏، وَاخْتِلَافُ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ- وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ الْفَرْقِ، فَدَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَأَيُّ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ أَوْلَى عِنْدَكَ بِالصِّحَّةِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ لِجَمِيعِهِمَا عِنْدَنَا فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ قَائِلٍ‏:‏ أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ‏؟‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ بِالرَّحْمَنِ، دُونَ الَّذِي فِي تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحِيمِ‏:‏ هُوَ أَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحْمَنِ مَوْصُوفٌ بِعُمُومِ الرَّحْمَةِ جَمِيعَ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحِيمِ مَوْصُوفٌ بِخُصُوصِ الرَّحْمَةِ بَعْضَ خَلْقِهِ، إِمَّا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَإِمَّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ‏.‏ فَلَا شَكَّ- إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ- أَنَّ ذَلِكَ الْخُصُوصَ الَّذِي فِي وَصْفِهِ بِالرَّحِيمِ لَا يَسْتَحِيلُ عَنْ مَعْنَاهُ، فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا‏.‏

فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ- وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ خَصَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِمَا لَطَفَ بِهِمْ مِنْ تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لِطَاعَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، مِمَّا خُذِلَ عَنْهُ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ، وَكَفَرَ وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَرَكِبَ مَعَاصِيَهُ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ، مَا أَعَدَّ فِي آجِلِ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْفَوْزِ الْمُبِينِ، لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَصَدَّقَ رُسُلَهُ، وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ، خَالِصًا، دُونَ مَنْ أَشْرَكَ وَكَفَرَ بِهِ- كَانَ بَيِّنًا أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَعَ مَا قَدْ عَمَّهُمْ بِهِ وَالْكُفَّارَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى جَمِيعِهِمْ، فِي الْبَسْطِ فِي الرِّزْقِ، وَتَسْخِيرِ السَّحَابِ بِالْغَيْثِ، وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، وَصِحَّةِ الْأَجْسَامِ وَالْعُقُولِ، وَسَائِرِ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى، الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ‏.‏

فَرَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ رَحْمَنُ جَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَحِيمُ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏.‏ فَأَمَّا الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ فَكَانَ رَحْمَانًا لَهُمْ بِهِ، فَمَا ذَكَرْنَا مَعَ نَظَائِرِهِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَى إِحْصَائِهَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 34، وَسُورَةُ النَّحْلِ‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَالَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِيهَا مِنْ رَحْمَتِهِ، فَكَانَ لَهُمْ رَحْمَانًا، تَسْوِيَتُهُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي عَدْلِهِ وَقَضَائِهِ، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ‏.‏ فَذَلِكَ مَعْنَى عُمُومِهِ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، الَّذِي كَانَ بِهِ رَحْمَانًا فِي الْآخِرَةِ‏.‏

وَأَمَّا مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ، الَّذِي كَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ فِيهَا، كَمَا قَالَ جُلَّ ذِكْرِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَحْزَابِ‏:‏ 43‏]‏ فَمَا وَصَفْنَا مِنَ اللُّطْفِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ، فَخَصَّهُمْ بِهِ، دُونَ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا مَا خَصَّهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ دُونَ الْكَافِرِينَ، فَمَا وَصَفْنَا آنِفًا مِمَّا أَعَدَّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّعِيمِ، وَالْكَرَامَةِ الَّتِي تَقْصُرُ عَنْهَا الْأَمَانِيُّ‏.‏

وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي تَأْوِيلِهِ فَهُوَ مَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ الرَّحْمَنُ، الْفِعْلَانُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ‏.‏ قَالَ‏:‏ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ‏:‏ الرَّقِيقُ الرَّفِيقُ بِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْحَمَهُ، وَالْبَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْنُفَ عَلَيْهِ‏.‏ وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا‏.‏

وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي بِهِ رَبُّنَا رَحْمَنُ، هُوَ الَّذِي بِهِ رَحِيمٌ، وَإِنْ كَانَ لِقَوْلِهِ ‏"‏الرَّحْمَنِ ‏"‏مِنَ الْمَعْنَى، مَا لَيْسَ لِقَوْلِهِ ‏"‏الرَّحِيمِ ‏"‏‏.‏ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَعْنَى ‏"‏الرَّحْمَن‏"‏ بِمَعْنَى الرَّقِيقِ عَلَى مَنْ رَقَّ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى ‏"‏الرَّحِيمِ ‏"‏ بِمَعْنَى الرَّفِيقِ بِمَنْ رَفُقَ بِهِ‏.‏

وَالْقَوْلُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْنَاهُ عَنِ الْعَرْزَميِّ، أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقًا مَعْنَاهُ مَعْنَى ذَلِكَ، فِي أَنَّ لِلرَّحْمَنِ مِنَ الْمَعْنَى مَا لَيْسَ لِلرَّحِيمِ، وَأَنَّ لِلرَّحِيمِ تَأْوِيلًا غَيْرَ تَأْوِيلِ الرَّحْمَنِ‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ عُمْرَانُ بْنُ بَكَّار الكلاعي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَزْهَرِ نَصْرُ بْنُ عَمْرٍو اللَّخْمِيُّ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ يَقُولُ‏:‏ كَانَ الرَّحْمَنُ، فَلَمَّا اخْتَزَلَ الرَّحْمَنُ مِنِ اسْمِهِ كَانَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ‏.‏

وَالَّذِي أَرَادَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، عَطَاءٌ بِقَوْلِهِ هَذَا‏:‏ أَنَّ الرَّحْمَنَ كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَتَسَمَّى بِهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَلَمَّا تَسَمَّى بِهِ الْكَذَّابُ مُسَيْلِمَةُ- وَهُوَ اخْتِزَالُهُ إِيَّاهُ، يَعْنِي اقْتِطَاعُهُ مِنْ أَسْمَائِهِ لِنَفْسِهِ- أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ اسْمَهُ ‏"‏الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏"‏لِيَفْصِلَ بِذَلِكَ لِعِبَادِهِ اسْمَهُ مِنِ اسْمِ مِنْ قَدْ تَسَمَّى بِأَسْمَائِهِ، إِذْ كَانَ لَا يُسَمَّى أَحَدٌ ‏"‏الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ ‏"‏، فَيَجْمَعُ لَهُ هَذَانِ الِاسْمَانِ، غَيْره جَلَّ ذِكْرُهُ‏.‏ وَإِنَّمَا يَتَسَمَّى بَعْضُ خَلْقِهِ إِمَّا رَحِيمًا، أَوْ يَتَسَمَّى رَحْمَنَ‏.‏ فَأَمَّا ‏"‏رَحْمَنُ رَحِيم‏"‏، فَلَمْ يَجْتَمِعَا قَطُّ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَلَا يُجْمَعَانِ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ‏.‏ فَكَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ هَذَا‏:‏ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا فَصَلَ بِتَكْرِيرِ الرَّحِيمِ عَلَى الرَّحْمَنِ، بَيْنَ اسْمِهِ وَاسْمِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ، اخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا أَوِ اتَّفَقَا‏.‏

وَالَّذِي قَالَ عَطَاءٌ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ فَاسِدِ الْمَعْنَى، بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَصَّ نَفْسَهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِهِمَا مَعًا مُجْتَمِعَيْنَ، إِبَانَةً لَهَا مِنْ خَلْقِهِ، لِيَعْرِفَ عِبَادُهُ بِذِكْرِهِمَا مَجْمُوعَيْنِ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِهِمَا دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ، مَعَ مَا فِي تَأْوِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي لَيْسَ فِي الْآخَرِ مِنْهُمَا‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْغَبَاءِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ ‏"‏الرَّحْمَنَ ‏"‏، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي لُغَتِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْفُرْقَانِ‏:‏ 60‏]‏، إِنْكَارًا مِنْهُمْ لِهَذَا الِاسْمِ، كَأَنَّهُ كَانَ مُحَالًا عِنْدَهُ أَنْ يُنْكِرَ أَهْلُ الشِّرْكِ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِصِحَّتِهِ، أَوْ‏:‏ لَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَتْلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَوْلَ اللَّهِ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ‏}‏- يَعْنِي مُحَمَّدًا- ‏{‏كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 146‏]‏ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِهِ مُكَذِّبُونَ، وَلِنُبُوَّتِهِ جَاحِدُونَ‏!‏ فَيَعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يُدَافِعُونَ حَقِيقَةً مَا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ، وَاسْتَحْكَمَتْ لَدَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ‏.‏ وَقَدْ أُنْشِدَ لِبَعْضِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءِ‏:‏

أَلَّا ضَـرَبَتْ تِلْـكَ الْفَتَـاةُ هَجِينَهَـا *** أَلَّا قَضَـبَ الرَّحْـمَنُ رَبِّـي يَمِينَهَـا

وَقَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ السَّعْدِيُّ‏:‏

عَجِـلْتُمْ عَلَيْنَـا عَجْلَتَيْنَـا عَلَيْكُـمُ *** وَمَـا يَشَـإ الرَّحْـمَنُ يَعْقِـدْ وَيُطْلِـقِ

وَقَدْ زَعَمَ أَيْضًا بَعْضُ مَنْ ضَعُفَتْ مَعْرِفَتُهُ بِتَأْوِيلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَقَلَّتْ رِوَايَتُهُ لِأَقْوَالِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، أَنَّ ‏"‏الرَّحْمَنَ ‏"‏مَجَازُهُ‏:‏ ذُو الرَّحْمَةِ، و ‏"‏الرَّحِيم‏"‏ مَجَازُهُ‏:‏ الرَّاحِمُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ قَدْ يُقَدِّرُونَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَذَلِكَ لِاتِّسَاعِ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَدْ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالُوا‏:‏ نَدْمَانُ وَنَدِيمٌ، ثُمَّ اُسْتُشْهِدَ بِبَيْتِ بُرْجِ بْنِ مُسْهِرٍ الطَّائِيِّ‏:‏

وَنَدْمَـانٍ يَزِيـدُ الْكَـأَسَ طِيبًـا، *** سَـقَيْتُ وَقَدْ تَغَـوَّرَتِ النُّجُـومُ

وَاسْتَشْهَدَ بِأَبْيَاتِ نَظَائِرِهِ فِي النَّدِيمِ وَالنَّدْمَانِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ مَعْنَى الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ فِي التَّأْوِيلِ لِقَوْلِهِ‏:‏ الرَّحْمَنُ ذُو الرَّحْمَةِ، وَالرَّحِيمُ الرَّاحِمُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ بَيَانَ تَأْوِيلِ مَعْنَيَيْهِمَا عَلَى صِحَّتِهِ‏.‏ ثُمَّ مَثَّلَ ذَلِكَ بِاللَّفْظَيْنِ يَأْتِيَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَعَادَ إِلَى مَا قَدْ جَعَلَهُ بِمَعْنَيَيْنِ، فَجَعَلَهُ مِثَالَ مَا هُوَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ‏.‏

وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَا الرَّحْمَةِ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّ لَهُ الرَّحْمَةَ، وَصَحَّ أَنَّهَا لَهُ صِفَةٌ، وَأَنَّ الرَّاحِمَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ سَيَرْحَمُ، أَوْ قَدْ رَحِمَ فَانْقَضَى ذَلِكَ مِنْهُ، أَوْ هُوَ فِيهِ‏.‏

وَلَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنَّ الرَّحْمَةَ لَهُ صِفَةٌ، كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا لَهُ صِفَةٌ، إِذَا وُصِفَ بِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ‏.‏ فَأَيْنَ مَعْنَى ‏"‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏ عَلَى تَأْوِيلِهِ، مِنْ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ تَأْتِيَانِ مُقَدَّرَتَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَاتِّفَاقِ الْمَعَانِي‏؟‏ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ إِذَا كَانَ غَيْرَ أَصْلٍ مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ، كَانَ وَاضِحًا عَوَارُهُ‏.‏

وَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَلِمَ قَدَّمَ اسْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏اللَّهِ‏"‏، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏الرَّحْمَنِ ‏"‏، وَاسْمِهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏الرَّحْمَنِ ‏"‏، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏الرَّحِيمِ‏"‏‏؟‏

قِيلَ‏:‏ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ، إِذَا أَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْ مُخْبَرٍ عَنْهُ، أَنْ يُقَدِّمُوا اسْمَهُ، ثُمَّ يُتْبِعُوهُ صِفَاتِهِ وَنُعُوتَهُ‏.‏ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الْحُكْمِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مُقَدَّمًا قَبْلَ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، لِيَعْلَمَ السَّامِعُ الْخَبَرَ، عَمَّنِ الْخَبَرُ‏.‏ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ- وَكَانَ لِلَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَسْمَاءٌ قَدْ حَرَّمَ عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يَتَسَمَّوْا بِهَا، خَصَّ بِهَا نَفْسَهُ دُونَهُمْ، وَذَلِكَ مِثْلُ ‏"‏اللَّهِ ‏"‏و ‏"‏الرَّحْمَن‏"‏ و ‏"‏الْخَالِقِ ‏"‏، وَأَسْمَاءٌ أَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يُسَمِّيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَا، وَذَلِكَ‏:‏ كَالرَّحِيمِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَالْكَرِيمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ- كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تُقَدَّمَ أَسْمَاؤُهُ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، لِيَعْرِفَ السَّامِعُ ذَلِكَ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحَمْدُ وَالتَّمْجِيدُ، ثُمَّ يُتْبِعُ ذَلِكَ بِأَسْمَائِهِ الَّتِي قَدْ تَسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ، بَعْدَ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَوِ السَّامِعِ مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ مَا يَتْلُو ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي‏.‏ فَبَدَأَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏اللَّهِ ‏"‏، لِأَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَا مِنْ جِهَةِ التَّسَمِّي بِهِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى ‏"‏اللَّهِ ‏"‏ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْمَعْبُودُ، وَلَا مَعْبُودَ غَيْرُهُ جَلَّ جَلَالُهُ، وَأَنَّ التَّسَمِّيَ بِهِ قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَإِنَّ قَصَدَ الْمُتَسَمِّي بِهِ مَا يَقْصِدُ الْمُتَسَمِّي بِسَعِيدٍ وَهُوَ شَقِيٌّ، وَبِحَسَنٍ وَهُوَ قَبِيحٌ‏.‏

أَوَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ قَالَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ‏:‏ ‏{‏أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ‏}‏ فَاسْتَكْبَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُقِرِّ بِهِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي خُصُوصِهِ نَفْسَهُ بِاللَّهِ وَبِالرَّحْمَنِ‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوَا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْإِسْرَاءِ‏:‏ 110‏]‏‏.‏ ثُمَّ ثَنَّى بِاسْمِهِ، الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ، إِذْ كَانَ قَدْ مَنَعَ أَيْضًا خَلْقَهُ التَّسَمِّيَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ قَدْ يَسْتَحِقُّ تَسْمِيَتَهُ بِبَعْضِ مَعَانِيهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ وَصْفُ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُوَ دُونَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ، بِبَعْضِ صِفَاتِ الرَّحْمَةِ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَ الْأُلُوهِيَّةِ أَحَدٌ دُونَهُ‏.‏ فَلِذَلِكَ جَاءَ الرَّحْمَنُ ثَانِيًا لِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏اللَّهِ ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا اسْمُهُ الَّذِي هُوَ ‏"‏الرَّحِيمِ ‏"‏فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِمَّا هُوَ جَائِزٌ وَصْفُ غَيْرِهِ بِهِ‏.‏ وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، فَكَانَ- إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا- وَاقِعًا مَوَاقِعَ نُعُوتِ الْأَسْمَاءِ اللَّوَاتِي هُنَّ تَوَابِعُهَا، بَعْدَ تَقَدُّم الْأَسْمَاءِ عَلَيْهَا‏.‏ فَهَذَا وَجْهُ تَقْدِيمِ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏اللَّهِ ‏"‏، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏الرَّحْمَنِ ‏"‏، وَاسْمِهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏الرَّحْمَن‏"‏ عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏الرَّحِيمِ ‏"‏‏.‏

وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ فِي ‏"‏الرَّحْمَنِ ‏"‏ مِثْلَ مَا قُلْنَا، أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي مَنَعَ التَّسَمِّيَ بِهَا الْعِبَادَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مُسْعِدَة، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ ‏"‏الرَّحْمَنِ ‏"‏ اسْمٌ مَمْنُوعٌ‏.‏

مَعَ أَنَّ فِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ مَنْعِ التَّسَمِّي بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ، مَا يُغْنِي عَنِ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بُقُولِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ‏.‏

ِتفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ فَاتِحَةِ الْكِتَاب ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَمَعْنَى ‏(‏الْحَمْدُ لِلَّهِ‏)‏‏:‏ الشُّكْرُ خَالِصًا لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، وَدُونَ كُلِّ مَا بَرَأَ مِنْ خَلْقِهِ، بِمَا أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا الْعَدَدُ، وَلَا يُحِيطُ بِعَدَدِهَا غَيْرُهُ أَحَدٌ، فِي تَصْحِيحِ الْآلَاتِ لِطَاعَتِهِ، وَتَمْكِينِ جَوَارِحِ أَجْسَامِ الْمُكَلَّفِينَ لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، مَعَ مَا بَسَطَ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، وَغَذَاهُمْ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الْعَيْشِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ عَلَيْهِ، وَمَعَ مَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى دَوَامِ الْخُلُودِ فِي دَارِ الْمُقَامِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ‏.‏ فَلِرَبِّنَا الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا‏.‏

وَبِمَا ذَكَرَنَا مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِ رَبِّنَا جَلَّ ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏الْحَمْدُ لِلَّهِ‏)‏، جَاءَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏"‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏"‏‏:‏ هُوَ الشُّكْرُ لِلَّهِ، وَالِاسْتِخْذَاءُ لِلَّهِ، وَالْإِقْرَارُ بِنِعْمَتِهِ وَهِدَايَتِِهِِ وَابْتِدَائِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السُّكُونِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ- وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ‏:‏ ‏(‏قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِذَا قُلْتَ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏"‏، فَقَدْ شَكَرْتَ اللَّهَ، فَزَادَكَ‏)‏‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏"‏، ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْحُسْنَى، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏الشُّكْرُ لِلَّهِ ‏"‏، ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ وَأَيَادِيهِ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏"‏، ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ‏.‏ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ، مِنْ أَيِّ مَعْنَيَيِ الثَّنَاءِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، قَالَ‏:‏ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي السَّلُولِيُّ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ‏:‏ مَنْ قَالَ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏"‏، فَذَلِكَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْخَرَّازُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَرْمِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ الْقُرْقُسَانِيُّ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الْأُسُودِ بْنِ سَرِيعٍ‏:‏ ‏(‏أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْحَمْدُ، مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَلَا تَمَانُعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ مِنَ الْحُكْمِ، لِقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا ‏"‏- بِالصِّحَّةِ‏.‏ فَقَدْ تَبَيَّنَ- إِذْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ صَحِيحًا- أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ قَدْ يُنْطَقُ بِهِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ، وَأَنَّ الشُّكْرَ قَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْحَمْدِ‏.‏ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا ‏"‏، فَيَخْرُجُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّه‏"‏ مَصْدَرَ‏:‏ ‏"‏أَشْكُرُ ‏"‏، لِأَنَّ الشُّكْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى الْحَمْدِ، كَانَ خَطَأً أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْحَمْدِ غَيْرُ مَعْنَاهُ وَغَيْرُ لَفْظِهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَمَا وَجْهُ إِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْحَمْدِِ‏؟‏ وَهَلَّا قِيلَ‏:‏ حَمْدًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْحَمْدِ، مَعْنًى لَا يُؤَدِّيهِ قَوْلُ الْقَائِلِ ‏"‏حَمْدًا ‏"‏، بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَهُمَا فِي الْحَمْدِ مُنْبِئٌ عَنْ أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ جَمِيعُ الْمَحَامِدِ وَالشُّكْرُ الْكَامِلُ لِلَّهِ‏.‏ وَلَوْ أُسْقِطَتَا مِنْهُ لَمَا دَلَّ إِلَّا عَلَى أَنَّ حَمْدَ قَائِلِ ذَلِكَ لِلَّهِ، دُونَ الْمَحَامِدِ كُلِّهَا‏.‏ إِذْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏حَمْدًا لِلَّهِ ‏"‏ أَوْ ‏"‏حَمْدٌ لِلَّهِ ‏"‏‏:‏ أَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا، وَلَيْسَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ الْعَالَمِينَ‏}‏، تَالِيًا سُورَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ‏:‏ أَحْمَدُ اللَّهَ، بَلِ التَّأْوِيلُ فِي ذَلِكَ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ، مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ لِلَّهِ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا كِفَاءَ لَهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالْعَاجِلِ وَالْآجِلِ‏.‏

وَلِذَلِكَ مِنَ الْمَعْنَى، تَتَابَعَتْ قِرَاءَةُ الْقُرَّاءِ وَعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَمْدِ مَنَ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ دُونَ نَصْبِهَا، الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى تَالِيهِ كَذَلِكَ‏:‏ أَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا‏.‏ وَلَوْ قَرَأَ قَارِئُ ذَلِكَ بِالنَّصْبِ، لَكَانَ عِنْدِي مُحِيلًا مَعْنَاهُ، وَمُسْتَحِقًّا الْعُقُوبَةَ عَلَى قِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ كَذَلِكَ، إِذَا تَعَمَّدَ قِرَاءَتَهُ كَذَلِكَ، وَهُوَ عَالِمٌ بِخَطَئِهِ وَفَسَادِ تَأْوِيلِهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏"‏‏؟‏ أَحَمِدَ اللَّهُ نَفْسَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَأَثْنَى عَلَيْهَا، ثُمَّ عَلَّمْنَاهُ لِنَقُولَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ‏؟‏ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِذًا ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ وَهُوَ عَزَّ ذِكْرُهُ مَعْبُودٌ لَا عَابِدٌ‏؟‏ أَمْ ذَلِكَ مِنْ قِيلِ جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏؟‏ فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلَّهِ كَلَامًا‏.‏

قِيلَ‏:‏ بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ حَمِدَ نَفْسَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهَا بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ عَلَّمَ ذَلِكَ عِبَادَهُ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ تِلَاوَتَهُ، اخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ وَابْتِلَاءً، فَقَالَ لَهُمْ قُولُوا‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، وَقُولُوا‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏‏.‏ فَقَوْلُهُ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ مِمَّا عَلَّمَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنْ يَقُولُوهُ وَيَدِينُوا لَهُ بِمَعْنَاهُ، وَذَلِكَ مَوْصُولٌ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، وَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ قُولُوا هَذَا وَهَذَا‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ وَأَيْنَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏قُولُوا ‏"‏، فَيَكُونَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ مَا ادَّعَيْتَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ الْعَرَبَ مِنْ شَأْنِهَا- إِذَا عَرَفَتْ مَكَانَ الْكَلِمَةِ، وَلَمْ تَشُكَّ أَنَّ سَامِعَهَا يَعْرِفُ، بِمَا أَظْهَرَتْ مِنْ مَنْطِقِهَا، مَا حَذَفَتْ- حَذْفُ مَا كَفَى مِنْهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْطِقهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي حُذِفَتْ، قَوْلًا أَوْ تَأْوِيلَ قَوْلٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وأَعْلَـمُ أَنَّنِـي سَـأَكُونُ رَمْسًـا *** إِذَا سَـارَ النَّـوَاعِجُ لَا يَسِـيرُ

فَقَـالَ السَّـائِلُونَ لِمَـنْ حَـفَرْتُمْ‏؟‏ *** فَقَـالَ الْمُخْـبِرُونَ لَهُـمْ‏:‏ وَزِيـرُ

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يُرِيدُ بِذَلِكَ، فَقَالَ الْمُخْبِرُونَ لَهُمْ‏:‏ الْمَيِّتُ وَزِيرٌ، فَأَسْقَطَ الْمَيِّتَ، إِذْ كَانَ قَدْ أَتَى مِنَ الْكَلَامِ بِمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ‏:‏

وَرأَيْـتِ زَوْجَـكِ فِـي الْـوَغَى *** مُتَقَلِّـدًا سَـيْفًا وَرُمْحَـا

وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الرُّمْحَ لَا يُتَقَلَّدُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ‏:‏ وَحَامِلًا رُمْحًا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ، اُكْتُفِيَ بِمَا قَدْ ظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ، عَنْ إِظْهَارِ مَا حُذِفَ مِنْهُ‏.‏ وَقَدْ يَقُولُونَ لِلْمُسَافِرِ إِذَا وَدَّعُوهُ‏:‏ ‏"‏مُصَاحَبًا مُعَافًى ‏"‏، يَحْذِفُونَ ‏"‏سِرْ، وَاخْرُجْ ‏"‏، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ، وَإِنْ أَسْقَطَ ذِكْرَهُ‏.‏

فَكَذَلِكَ مَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، لَمَّا عُلِمَ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، مِنْ مَعْنَى أَمْرِهِ عِبَادَهُ، أَغْنَتْ دَلَالَةُ مَا ظُهِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ عَنْ إِبْدَاءٍ مَا حُذِفَ‏.‏

وَقَدْ رَوَيْنَا الْخَبَرَ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مُبْتَدَأً فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏"‏، وَبَيَّنَا أَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا عَلَّمَ مُحَمَّدًا مَا أُمِرَ بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ‏.‏ وَهَذَا الْخَبَرُ يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنْ تَأْوِيلِ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ ‏"‏اللَّهِ ‏"‏، فِي ‏"‏ بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى تِكْرَارِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ ‏(‏رَبِّ‏)‏، فَإِنَّالرَّبَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِمُنْصَرِفٌ عَلَى مَعَانٍ‏:‏ فَالسَّيِّدُ الْمُطَاعُ فِيهَا يُدْعَى رَبًّا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ‏:‏

وأَهْلَكْـنَ يَوْمًـا رَبَّ كِنْـدَةَ وابنَـه *** وَرَبَّ مَعـدٍّ، بَيْـنَ خَـبْتٍ وعَرْعَـرِ

يَعْنِي بِرَبِّ كِنْدَةَ‏:‏ سَيِّد كِنْدَةَ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ‏:‏

تَخُـبُّ إِلَـى النُّعْمَـانِ حَـتَّى تَنالَـهُ *** فِـدًى لَـكَ مِـنْ رَبٍّ طَـرِيفِي وَتَالِدِي

وَالرَّجُلُ الْمُصْلِحُ لِلشَّيْءِ يُدْعَى رَبًّا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ بْنِ غَالِبٍ‏:‏

كَـانُوا كَسَـالِئَةٍ حَمْقَـاءَ إِذْ حَـقَنَتْ *** سِـلاءَهَا فِـي أَدِيـمٍ غَـيْرِ مَرْبُـوبِ

يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ فِي أَدِيمٍ غَيْرِ مُصْلَحٍ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ‏:‏ إِنَّ فُلَانًا يَرُبُّ صَنِيعَتَهُ عِنْدَ فُلَانٍ، إِذَا كَانَ يُحَاوِلُ إِصْلَاحَهَا وَإِدَامَتَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبَدَةَ‏:‏

فكُـنْتَ امـرَأً أَفْضَـتْ إِلَيْـكَ رِبَابَتِي *** وَقَبْلَـكَ رَبَّتْنِي، فَضِعْـتُ، رُبُـوبُ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَفْضَتْ إِلَيْكَ ‏"‏أَيْ وَصَلَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي، فَصِرْتَ أَنْتَ الَّذِي تَرُبُّ أَمْرِي فَتُصْلِحُهُ، لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ رَبَابَةِ غَيْرِكَ مِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكَ عَلَيَّ، فَضَيَّعُوا أَمْرِي وَتَرَكُوا تَفَقُّدَهُ- وَهُمُ الرُّبُوبُ‏:‏ وَاحِدُهُمْ رَبٌّ‏.‏ وَالْمَالِكُ لِلشَّيْءِ يُدْعَى رَبَّهُ‏.‏ وَقَدْ يَتَصَرَّفُ أَيْضًا مَعْنَى ‏"‏الرَّب‏"‏ فِي وُجُوهٍ غَيْرِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ‏.‏

فَرَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ السَّيِّدُ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ، وَلَا مِثْلَ فِي سُؤْدُدِهِ، وَالْمُصْلِحُ أَمْرَ خَلْقِهِ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَالْمَالِكُ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِيتَأْوِيلُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، جَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ‏:‏ ‏"‏يَا مُحَمَّدُ قُلْ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ كُلُّهُ- السَّمَوَاتُ كُلُّهُنَّ وَمَنْ فِيهِنَّ، والأَرَضُونَ كُلُّهُنَّ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ، مِمَّا يُعْلَمُ وَمِمَّا لَا يُعْلَمُ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ اعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ رَبَّكَ هَذَا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْعَالَمُونَ جَمْعُ عَالَمٍ، وَالْعَالَمُ‏:‏ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَالْأَنَامِ وَالرَّهْطِ وَالْجَيْشِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعَاتٌ عَلَى جِمَاعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ‏.‏

وَالْعَالَمُ اسْمٌ لِأَصْنَافِ الْأُمَمِ، وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا عَالَمٌ، وَأَهْلُ كُلِّ قَرْنٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا عَالَمُ ذَلِكَ الْقَرْنِ وَذَلِكَ الزَّمَانِ‏.‏ فَالْإِنْسُ عَالَمٌ، وَكُلُّ أَهْلِ زَمَانٍ مِنْهُمْ عَالَمُ ذَلِكَ الزَّمَانِ‏.‏ وَالْجِنُّ عَالَمٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ، كُلُّ جِنْسٍ مِنْهَا عَالَمُ زَمَانِهِ‏.‏ وَلِذَلِكَ جُمِعَ فَقِيلَ‏:‏ عَالَمُونَ، وَوَاحِدُهُ جَمْعٌ، لِكَوْنِ عَالَمِ كُلِّ زَمَانٍ مِنْ ذَلِكَ عَالَمَ ذَلِكَ الزَّمَانِ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَجَّاجِ‏:‏

فَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا الْعَالَمِ ***

فَجَعْلَهُمْ عَالَمَ زَمَانِهِ‏.‏ وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قُلْنَاهُ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ كُلُّهُ‏:‏ السَّمَوَاتُ والأَرَضُونَ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُنَّ، مِمَّا يُعْلَمُ ولَا يُعْلَمُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏:‏ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ رَبِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ ابْنِ آدَمَ، وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ عَالَمٌ عَلَى حِدَتِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مَهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِمَثَلِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ كُلُّ صِنْفٍ عَالَمٌ‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْإِنْسُ عَالَمٌ، وَالْجِنُّ عَالَمٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفِ عَالَمٍ، أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفِ عَالَمٍ- هُوَ يَشُكُّ- مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَلِلْأَرْضِ أَرْبَعُ زَوَايَا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ ثَلَاثَةُ آلَافِ عَالَمٍ وَخَمْسمِائَةِ عَالَمٍ، خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ الَعَالَمِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏، فِي تَأْوِيلِ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَلَمْ نَحْتَجْ إِلَى الْإِبَانَةِ عَنْ وَجْهِ تَكْرِيرِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إِذْ كُنَّا لَا نَرَى أَنَّ ‏"‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ- آيَةٌ، فَيَكُونَ عَلَيْنَا لِسَائِلٍ مَسْأَلَةٌ بِأَنْ يَقُولَ‏:‏ مَا وَجْهُ تَكْرِيرِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ مَضَى وَصْفُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِه ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏، مَعَ قُرْبِ مَكَانِ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ مِنَ الْأُخْرَى، وَمُجَاوَرَتِهَا صَاحِبَتَهَا‏؟‏ بَلْ ذَلِكَ لَنَا حُجَّةٌ عَلَى خَطَإِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ آيَةٌ‏.‏ إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لَكَانَ ذَلِكَ إِعَادَةَ آيَةٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَفْظٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا‏.‏ وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آيَتَانِ مُتَجَاوِرَتَانِ مُكَرَّرَتَانِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَعْنًى وَاحِدٍ، لَا فَصْلَ بَيْنِهِمَا مِنْ كَلَامٍ يُخَالِفُ مَعْنَاهُ مَعْنَاهُمَا‏.‏ وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِتَكْرِيرِ آيَةٍ بِكَمَالِهَا فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، مَعَ فُصُولٍ تَفْصِلُ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَلَامٍ يُعْتَرَضُ بِهِ مَعْنَى الْآيَاتِ الْمُكَرَّرَاتِ أَوْ غَيْرَ أَلْفَاظِهَا، وَلَا فَاصِلَ بَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُه ‏{‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ مِن ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏، وَقَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏، مِن ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَإِنَّ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين‏"‏ فَاصِلٌ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

قِيلَ‏:‏ قَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَقَالُوا‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَإِنَّمَا هُوَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏.‏ وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ فَقَالُوا‏:‏ إِنَّ قَوْلَهُ ‏{‏مَلِكِ يَوْمِ الدِّين‏}‏ تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَبْدَهُ أَنْ يَصِفَهُ بِالْمُلْكِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَلِك، وَبِالْمِلْكِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ‏"‏ مَالِك ‏"‏‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُجَاوِرَ وَصَفِّهِ بِالْمُلْكِ أَوِ الْمِلْكِ، مَا كَانَ نَظِيرَ ذَلِكَ مِنَ الْوَصْفِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، الَّذِي هُوَ خَبَرٌ عَنْ مِلْكِهِ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ، وَأَنْ يَكُونَ مُجَاوِرَ وَصْفِهِ بِالْعَظَمَةِ وَالْأُلُوهَةِ مَا كَانَ لَهُ نَظِيرًا فِي الْمَعْنَى مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَوْله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيم‏}‏‏.‏

فَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ ‏{‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيم‏}‏ بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ قَبْلَ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُؤَخَّرًا‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ نَظَائِرُ ذَلِكَ- مِنَ التَّقْدِيمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ، وَالْمُؤَخَّر الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ- فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَفْشَى، وَفِي مَنْطِقِهَا أَكْثَرُ، مِنْ أَنْ يُحْصَى‏.‏ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرِ بْنِ عَطِيَّةَ‏:‏

طَـافَ الْخَيَـالُ- وأَيْـنَ مِنْكَ‏؟‏- لِمَامَا *** فَـارْجِعْ لِـزَوْرِكَ بِالسَّـلَامِ سَـلَامًا

بِمَعْنَى طَافَ الْخَيَالُ لِمَامًا، وَأَيْنَ هُوَ مِنْكَ‏؟‏ وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي كِتَابِهِ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْكَهْفِ‏:‏ 1‏]‏ بِمَعْنَى‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ شَاهِدٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ- ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ- آيَةً

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ الْقُرَّاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي تِلَاوَةِ ‏{‏مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏‏.‏ فَبَعْضُهُمْ يَتْلُوهُ ‏{‏مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، وَبَعْضُهُمْ يَتْلُوهُ ‏{‏مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ وَبَعْضُهُمْ يَتْلُوهُ ‏{‏مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ بِنَصْبِ الْكَافِ‏.‏ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا حِكَايَةَ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةٌ فِي‏"‏ كِتَابٍ الْقِرَاءَاتِ ‏"‏، وَأَخْبَرَنَا بِالَّذِي نَخْتَارُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَالْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ صِحَّةَ مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ، فَكَرِهْنَا إِعَادَةَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إِذْ كَانَ الَّذِي قَصَدْنَا لَهُ، فِي كِتَابِنَا هَذَا، الْبَيَانَ عَنْ وُجُوهِ تَأْوِيلِ آيِ الْقُرْآنِ، دُونَ وُجُوهِ قِرَاءَتِهَا‏.‏

وَلَا خِلَافَ بَيْنِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ، أَنَّ الْمَلِكَ مِنْ ‏"‏الْمُلْكِ ‏"‏مُشْتَقٌّ، وَأَنَّ الْمَالِكَ مِنْ ‏"‏الْمِلْك‏"‏ مَأْخُوذٌ‏.‏ فَتَأْوِيلُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، أَنَّ لِلَّهِ الْمُلْكَ يَوْمَ الدِّينِ خَالِصًا دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مُلُوكًا جَبَابِرَةً يُنَازِعُونَهُ الْمُلْكَ، وَيُدَافِعُونَهُ الِانْفِرَادَ بِالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ وَالسُّلْطَانِ وَالْجَبْرِيَّةِ‏.‏ فَأَيْقَنُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ يَوْمَ الدِّينِ أَنَّهُمُ الصَّغَرَةُ الْأَذِلَّةُ، وَأَنَّ لَهُ- مِنْ دُونِهِمْ، وَدُونَ غَيْرِهِمْ- الْمُلْكَ وَالْكِبْرِيَاءَ، وَالْعِزَّةَ وَالْبَهَاءَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ فِي تَنْـزِيلِهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ غَافِر‏:‏ 16‏]‏‏.‏ فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ يَوْمئِذٍ بِالْمُلْكِ دُونَ مُلُوكِ الدُّنْيَا، الَّذِينَ صَارُوا يَوْمَ الدِّينِ مِنْ مُلْكِهِمْ إِلَى ذِلَّةٍ وَصَغَارٍ، وَمِنْ دُنْيَاهُمْ فِي الْمَعَادِ إِلَى خَسَارٍ‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، فَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَهُ حُكْمًا كَمِلْكِهِمْ فِي الدُّنْيَا‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النَّبَأِ‏:‏ 38‏]‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ طَهَ‏:‏ 108‏]‏‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 28‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ، وَأَصَحُّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي التِّلَاوَةِ عِنْدِي، التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ‏"‏مَلِكِ ‏"‏ بِمَعْنَى ‏"‏الْمُلْكِ ‏"‏‏.‏ لِأَنَّ فِي الْإِقْرَارِ لَهُ بِالِانْفِرَادِ بِالْمُلْكِ، إِيجَابًا لِانْفِرَادِهِ بِالْمِلْكِ، وَفَضِيلَةَ زِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَى الْمَالِكِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنْ لَا مَلِكَ إِلَّا وَهُوَ مَالِكٌ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَالِكُ لَا مَلِكًا‏.‏

وَبَعْدُ، فَإِِنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ، قَدْ أَخْبَرَ عِبَادَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ قَوْلِهِ ‏{‏مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ أَنَّهُ مَالِكُ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ وَسَيِّدُهُمْ، وَمُصْلِحِهِمْ، وَالنَّاظِرُ لَهُمْ، وَالرَّحِيمُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏‏.‏

وَإِِذْ كَانَ جَلَّ ذِكْرُهُ قَدْ أَنْبَأَهُمْ عَنْ مِلْكِهِ إِِيَّاهُمْ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، فَأُولَى الصِّفَاتِ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنْ يَتْبَعَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَحْوِهِ قَوْلُهُ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏، مَعَ قُرْبِ مَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ الْمُوَاصَلَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ، إِِذْ كَانَتْ حِكْمَتُهُ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَا تُشْبِهُهَا حِكْمَةٌ، وَكَانَ فِي إِِعَادَةِ وَصْفِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِأَنَّهُ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، إِِعَادَةُ مَا قَدْ مَضَى مِنْ وَصْفِهِ بِهِ فِي قَوْلِهِ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، مَعَ تَقَارُبِ الْآيَتَيْنِ وَتَجَاوُزِ الصِّفَتَيْنِ‏.‏ وَكَانَ فِي إِِعَادَةِ ذَلِكَ تَكْرَارُ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ بِمَعَانٍ مُتَّفِقَةٍ، لَا تُفِيدُ سَامِعَ مَا كُرِّرَ مِنْهُ فَائِدَةً بِهِ إِِلَيْهَا حَاجَةٌ‏.‏ وَالَّذِي لَمَّ يَحْوِهِ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ مَا قَبْلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ‏}‏، وَهُوَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ الْمَلِكُ‏.‏

فَبَيِّنٌ إِِذًا أَنَّ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، وَأَحَقُّ التَّأْوِيلَيْنِ بِالْكِتَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ ‏{‏مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، بِمَعْنَى إِِخْلَاصُ الْمُلْكِ لَهُ يَوْمَ الدِّينِ، دُونَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ الَّذِي بِمَعْنَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ وَفَصْلَ الْقَضَاءِ، مُتَفَرِّدًا بِهِ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ‏.‏

فَإِِنَّ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَهُ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ نَبَّأَ عَنْ مِلْكِهِ إِِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، يُوجِبُ وَصْلَ ذَلِكَ بِالنَّبَإِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ‏:‏ مَنْ مَلَكَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ مِلْكِهِ إِِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏- فَقَدْ أَغْفَلَ وَظَنَّ خَطَأً‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِظَانٍّ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ قَوْلَهُ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ مَحْصُورٌ مَعْنَاهُ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ رُبُوبِيَّةِ عَالَمِ الدُّنْيَا دُونَ عَالَمِ الْآخِرَةِ، مَعَ عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنًى ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، أَوْ فِي خَبَرٍ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ مَنْقُولٍ، أَوْ بِحُجَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْمَعْقُولِ- لَجَازَ لِآخَرَ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ مَحْصُورٌ عَلَى عَالَمِ الزَّمَانِ الَّذِي فِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، دُونَ سَائِرِ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْعَالَمِينَ‏.‏ إِِذْ كَانَ صَحِيحًا بِمَا قَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الْبَيَانِ، أَنَّ عَالَمَ كُلِّ زَمَانٍ غَيْرَ عَالَمِ الزَّمَانِ الَّذِي بَعْدَهُ‏.‏

فَإِِنْ غَبِيَ- عَنْ عِلْمِ صِحَّةِ ذَلِكَ بِمَا قَدْ قَدَّمْنَا- ذُو غَبَاءٍ، فَإِِنَّ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْجَاثِيَةِ‏:‏ 16‏]‏ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ عَالَمَ كُلِّ زَمَانٍ، غَيْرُ عَالِمِ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَعَالَمِ الزَّمَانِ الَّذِي بَعْدَهُ، إِِِذْ كَانَاللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ فَضَّلَ أُمَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ الْآيَةُ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 110‏]‏‏.‏ فَمَعْلُومٌ بِذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِِِسْرَائِيلَ فِي عَصْرِ نَبِيِّنَا لَمْ يَكُونُوا- مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْضَلَ الْعَالَمِينَ، بَلْ كَانَ أَفْضَلَ الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَبَعْدَهُ إِِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، الْمُؤْمِنُونَ بِهِ الْمُتَّبِعُونَ مِنْهَاجَهُ، دُونَ مِنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ الضَّالَّةِ عَنْ مِنْهَاجِهِ‏.‏

وَإِِذْ كَانَ بَيِّنًا فَسَادُ تَأْوِيلِ مُتَأَوِّلٍ لَوْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ عَالَمَيْ زَمَنِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ عَالَمَيْ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ غَيْرِهِ- كَانَ وَاضِحًا فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَأْوِيلَهُ‏:‏ رَبُّ عَالَمِ الدُّنْيَا دُونَ عَالَمِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ ‏"‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏"‏ اسْتَحَقَّ الْوَصْلَ بِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ مِلْكِهِمْ وَرُبُوبِيَّتِهِمْ بِمِثْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا‏.‏

وَيُسْأَلُ زَاعِمُ ذَلِكَ، الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُتَحَكِّمٍ مِثْلِهِ- فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، تَحَكَّمَ فَقَالَ‏:‏ إِِنَّهُ إِِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ رَبُّ عَالَمَيْ زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ عَالَمَيْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَهُ، وَالْحَادِثَةِ بَعْدَهُ، كَالَّذِي زَعَمَ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ‏:‏ أَنَّهُ عَنَى بِهِ عَالَمَيْ الدُّنْيَا دُونَ عَالَمَيْ الْآخِرَةِ- مِنْ أَصْلٍ أَوْ دَلَالَةٍ‏.‏ فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا شَيْئًا إِِلَّا أَلْزَمَ فِي الْآخَرِ مَثَلَهُ‏.‏

وَأَمَّا الزَّاعِمُ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ أَنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ إِِقَامَةَ يَوْمِ الدِّينِ، فَإِِنَّ الَّذِي أَلْزَمْنَا قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ- لَهُ لَازِمٌ‏.‏ إِِذْ كَانَتْ إِِقَامَةُ الْقِيَامَةِ، إِِنَّمَا هِيَ إِِعَادَةُ الْخَلْقِ الَّذِينَ قَدْ بَادُوا لِهَيْئَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ الْهَلَاكِ، فِي الدَّارِ الَّتِي أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِيهَا مَا أَعَدَّ‏.‏ وُهُمُ الْعَالَمُونَ الَّذِينَ قَدْ أَخْبَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ فِي قَوْلِهِ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، فَإِِنَّهُ أَرَادَ‏:‏ يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، فَنَصَبَهُ بِنِيَّةِ النِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ يُوسُفَ‏:‏ 29‏]‏ بِتَأْوِيلِ‏:‏ يَا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، وَهُوَ شِعْرٌ- فِيمَا يُقَالُ- جَاهِلِيٌّ‏:‏

إِِنْ كٌُنْتَ أَزْنَنْتَنِي بِهَا كَذِبًا *** جَزْءُ، فَلَاقَيْتَ مِثْلَهَا عَجِلَا

يُرِيدُ‏:‏ يَا جَزْءُ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ‏:‏

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ لَا تَنْكِحُونَهَا، *** بَنِي شَابَ قَرْنَاهَا تَصُرُّ وتَحْلُبُ

يُرِيدُ‏:‏ يَا بَنِي شَابَ قَرْنَاهَا‏.‏ وَإِِنَّمَا أَوْرَطَهُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ- بِنَصْبِ الْكَافِ مِنْ ‏"‏مَالِكَ ‏"‏، عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ- حَيْرَتُهُ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ وِجْهَته، مَعَ جَرّ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ وَخَفْضِهِ‏.‏ فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعْنَى ذَلِكَ بَعْدَ جَرِّهِ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، فَنَصَبَ‏:‏ ‏{‏مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ لِيَكُونَ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ لَهُ خِطَابًا‏.‏ كَأَنَّهُ أَرَادَ‏:‏ يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏.‏

وَلَوْ كَانَ عَلِمَ تَأْوِيلِ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَأَنْ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين‏}‏ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَبْدَهُ بِقِيلٍ ذَلِكَ- كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنْ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ، ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، وَقُلْ أَيْضًا يَا مُحَمَّدُ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏- وَكَانَ عَقَلَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ مِنْ شَأْنِهَا إِِذَا حَكَتْ أَوْ أَمَرَتْ بِحِكَايَةِ خَبَرٍ يَتْلُو الْقَوْلَ، أَنْ تُخَاطِبَ ثُمَّ تُخْبِرَ عَنْ غَائِبٍ، وَتُخْبِرَ عَنِ الْغَائِبِ ثُمَّ تَعُودَ إِِلَى الْخِِطَابِِ، لِمَا فِي الْحِكَايَةِ بِالْقَوْلِ مِنْ مَعْنَى الْغَائِبِ وَالْمُخَاطَبِ، كَقَوْلِهِمْ لِلرَّجُلِ‏:‏ قَدْ قُلْتُ لِأَخِيكَ‏:‏ لَوْ قُمْتَ لَقُمْتُ، وَقَدْ قُلْتُ لِأَخِيكَ‏:‏ لَوْ قَامَ لَقُمْتُ- لَسَهُلَ عَلَيْهِ مَخْرَجُ مَا اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ وُجْهَتُهُ مِنْ جَرِّ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏‏.‏

وَمِنْ نَظِيرِ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ مَجْرُورًا، ثُمَّ عَوْدِهِ إِِلَى الْخِطَابِ بِـ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ- الْبَيْتُ السَّائِرُ مِنْ شِعْرِ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ‏:‏

يَا لَهْفَ نَفْسِي كَانَ جِدَّةُ خَالِدٍ *** وَبَيَاضُ وَجْهِكَ لِلتُّرَابِ الْأَعْفَرِ

فَرَجْعَ إِِلَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَبَيَاضُ وَجْهِكَ ‏"‏، بَعْدَ مَا قَدْ مَضَى الْخَبَرُ عَنْ خَالِدٍ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ‏:‏

بَاتَتْ تَشَكَّى إِِلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً *** وَقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعًا بَعْدَ سَبْعِينَا

فَرَجَعَ إِِلَى مُخَاطَبَةِ نَفْسِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخَبَرُ عَنْهَا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ، وَهُوَ أَصْدَقُ قِيلٍ وَأَثْبَتُ حُجَّةٍ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ يُونُسَ‏:‏ 22‏]‏، فَخَاطَبَ ثُمَّ رَجَعَ إِِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ وَجَرَيْنَ بِكُمْ‏.‏ وَالشَّوَاهِدُ مِنَ الشِّعْرِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ‏.‏

فَقِرَاءَةُ‏:‏ ‏"‏مَالِكَ يَوْمِ الدِّين‏"‏ مَحْظُورَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ، لِإِِجْمَاعِ جَمِيعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى رَفْضِ الْقِرَاءَةِ بِهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏يَوْمِ الدِّينِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالدِّينُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، بِتَأْوِيلِ الْحِسَابِ وَالْمُجَازَاةِ بِالْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ‏:‏

إِِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُمْ *** وَدِنَّاهُمُ مِثْلَ مَا يُقْرِضُونَا

وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ‏:‏

وَاعْلَمْ وأَيْقِنْ أَنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ *** وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مَا تَدِِينُ تُدَانُ

يَعْنِي‏:‏ مَا تَجْزِي تُجَازَى‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ‏}‏- يَعْنِي‏:‏ بِالْجَزَاءِ- ‏{‏وَإِِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الِانْفِطَارِ‏:‏ 9‏]‏ يُحْصُونَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ‏{‏فَلَوْلَا إِِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْوَاقِعَةِ‏:‏ 86‏]‏، يَعْنِي غَيْرَ مَجْزِيِّينَ بِأَعْمَالِكُمْ وَلَا مُحَاسَبِينَ‏.‏

وَلِلدِّينِ مَعَانٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، غَيْرُ مَعْنَى الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، سَنَذْكُرُهَا فِي أَمَاكِنِهَا إِِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَبِمَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ جَاءَتِ الْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مَعَ تَصْحِيحِ الشَّوَاهِدِ تَأْوِيلَهُمُ الَّذِي تَأَوَّلُوهُ فِي ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَوْمِ حِسَابِ الْخَلَائِقِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يُدِينُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، إِِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِِنَّ شَرًّا فَشَرًّا، إِِلَّا مَنْ عَفَا عَنْهُ، فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ الْقَنَّادِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ إِِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَوْمَ يَدِينُ اللَّهُ الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَوْمَ يُدَانُ النَّاسُ بِالْحِسَابِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏‏:‏ لَكَ اللَّهُمَّ نَخْشَعُ وَنَذِلُّ وَنَسْتَكِينُ، إِِقْرَارًا لَكَ يَا رَبَّنَا بِالرُّبُوبِيَّةِ لَا لِغَيْرِكَ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏، إِِيَّاكَ نُوَحِّدُ وَنَخَافُ وَنَرْجُو يَا رَبَّنَا لَا غَيْرُكَ‏.‏

وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا‏.‏ وَإِِنَّمَا اخْتَرْنَا الْبَيَانَ عَنْ تَأْوِيلِهِ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَخْشَعُ وَنَذِلُّ وَنَسْتَكِينُ، دُونَ الْبَيَانِ عَنْهُ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَرْجُو وَنَخَافُ- وَإِِنْ كَانَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ لَا يَكُونَانِ إِِلَّا مَعَ ذِلَّةٍ- لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ، عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ أَصِلُهَاالذِّلَّةُ، وَأَنَّهَا تُسَمَّى الطَّرِيقَ الْمُذَلَّلَ الَّذِي قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ، وَذَلَّلَتْهُ السَّابِلَةُ‏:‏ مُعَبَّدًا‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ‏:‏

تُبَارِي عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ وَأَتْبَعَتْ *** وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ

يَعْنِي بِالْمَوْرِ‏:‏ الطَّرِيقَ‏.‏ وَبِالْمُعَبَّدِ‏:‏ الْمُذَلَّلَ الْمَوْطُوءَ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْبَعِيرِ الْمُذَلَّلِ بِالرُّكُوبِ فِي الْحَوَائِجِ‏:‏ مُعَبَّدٌ‏.‏ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَبْدُ عَبْدًا لِذِلَّتِهِ لِمَوْلَاهُ‏.‏ وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ- مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَكَلَامِهَا- أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ إِِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏