فصل: تفسير الآية رقم (18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏(‏18‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَشَهِدَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَأُولُو الْعِلْمِ‏.‏

فـَ ‏"‏الْمَلَائِكَة‏"‏ مَعْطُوفٌ بِهِمْ عَلَى اسْمِ ‏"‏اللَّهِ‏)‏، وَ‏"‏ أَنَّه‏"‏ مَفْتُوحَةٌ بـِ ‏"‏ شَهِدَ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَكَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏شَهِدَ اللَّهُ‏)‏، قَضَى اللَّهُ، وَيَرْفَعُ ‏"‏ الْمَلَائِكَةَ‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ وَالْمَلَائِكَةُ شُهُودٌ وَأُولُو الْعِلْمِ‏.‏

وَهَكَذَا قَرَأَتْ قَرَأَةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ ‏"‏أَنَّهُ‏)‏، عَلَى مَا ذَكَرْتُ مِنْ إِعْمَال‏"‏ شَهِدَ ‏"‏فِي‏"‏ أَنَّهُ ‏"‏الْأُولَى، وَكَسْرِ الْأَلِفِ مِن‏"‏ إِنَّ ‏"‏الثَّانِيَةِ وَابْتِدَائِهَا‏.‏ سِوَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ جَمِيعًا بِفَتْحِ أَلِفَيْهِمَا، بِمَعْنَى‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّالدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ- فَعَطَفَ بـ‏"‏ أَنَّ الدِّينَ ‏"‏عَلَى‏"‏ أَنَّهُ ‏"‏الْأَوْلَى، ثُمَّ حَذَف‏"‏ وَاوَ ‏"‏الْعَطْفِ، وَهَى مُرَادَةٌ فِي الْكَلَامِ‏.‏ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَنَّ الدِّينَ‏)‏، بِكَسْر‏"‏ إِنَّ ‏"‏الْأُولَى، وَفَتْح‏"‏ أَنَّ ‏"‏الثَّانِيَةِ بِإِعْمَال‏"‏ شَهِدَ ‏"‏فِيهَا، وَجَعْل‏"‏ أَنَّ ‏"‏الْأُولَى اعْتِرَاضًا فِي الْكَلَامِ غَيْرَ عَامِلٍ فِيهَا‏"‏ شَهِدَ ‏"‏ وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏}‏ بِفَتْحِ ‏"‏أَن‏"‏ وَكَسْرِ ‏"‏إِن‏"‏ مِنْ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامِ ‏"‏ عَلَى مَعْنَى إِعْمَال‏"‏ الشَّهَادَةِ ‏"‏فِي‏"‏ أَنَّ ‏"‏الْأُولَى، وَ‏"‏ أَن‏"‏ الثَّانِيَةُ مُبْتَدَأَةٌ‏.‏ فَزَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقِرَاءَتِهِ إِيَّاهُمَا بِالْفَتْحِ جَمْعَ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ‏.‏ فَخَالَفَ بِقِرَاءَتِهِ مَا قَرَأَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتُ جَمِيعَ قَرَأَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، بِدَعْوَى تَأْوِيلٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، زَعَمَ أَنَّهُمَا قَالَاهُ وَقَرَآ بِهِ‏.‏ وَغَيْرُ مَعْلُومٍ مَا ادَّعَى عَلَيْهِمَا بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ وَلَا سَقِيمَةٍ‏.‏ وَكَفَى شَاهِدًا عَلَى خَطَأِ قِرَاءَتِهِ، خُرُوجُهَا مِنْ قِرَاءَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَالصَّوَابُ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ قِرَاءَةِ ذَلِكَ- فَتْحُ الْأَلِفِ مِنْ ‏"‏أَنَّه‏"‏ الْأُولَى، وَكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ ‏"‏إِن‏"‏ الثَّانِيَةِ، أَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏)‏، ابْتِدَاءً‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلٌ كَالدَّالِّ عَلَى تَصْحِيحِ مَا قَرَأَ بِهِ فِي ذَلِكَ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فِي فَتْحِ ‏"‏أَن‏"‏ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَنَّ الدِّينَ‏)‏، وَهُوَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ‏}‏ ‏"‏ إِلَى ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏، قَالَ‏:‏ اللَّهُ يَشْهَدُ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْعُلَمَاءُ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏.‏

فَهَذَا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ‏"‏الشَّهَادَة‏"‏ إِنَّمَا هِيَ عَامِلَةٌ فِي ‏"‏أَن‏"‏ الثَّانِيَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏"‏‏.‏ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ جَائِزٌ فِي ‏"‏أَن‏"‏ الْأُولَى وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى مَنْصُوبَةً عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ، بِمَعْنَى‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ فَتَكُونُ مَفْتُوحَةً بِمَعْنَى الْخَفْضِ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِمَعْنَى النَّصْبِ فِي مَذْهَبِ بَعْضِهِمْ، ‏"‏وَالشَّهَادَة‏"‏ عَامِلَةٌ فِي ‏"‏أَن‏"‏ الثَّانِيَةَ، كَأَنَّكَ قُلْتَ‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، لِإِنَّهُ وَاحِدٌ، ثُمَّ تُقَدِّمُ ‏"‏ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ‏)‏، فَتَفْتَحُهَا عَلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ‏.‏

وَالْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ أَنْ تَكُونَ ‏"‏إِن‏"‏ الْأَوْلَى مَكْسُورَةٌ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهَا مُعْتَرَضٌ بِهَا، ‏"‏وَالشَّهَادَة‏"‏ وَاقِعَةٌ عَلَى ‏"‏أَن‏"‏ الثَّانِيَةِ‏:‏ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ- وَالْمَلَائِكَةُ، أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏أَشْهَدُ- فَإِنِّي مُحِقٌّ- أَنَّكَ مِمَّا تُعَابُ بِهِ بَرِئٌ‏)‏، فـَ ‏"‏إِن‏"‏ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ، لِأَنَّهَا مُعْتَرَضَةٌ، ‏"‏وَالشَّهَادَة‏"‏ وَاقِعَةٌ عَلَى ‏"‏أَن‏"‏ الثَّانِيَةِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏)‏، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُ الَّذِي يَلِي الْعَدْلَ بَيْنَ خَلْقِهِ‏.‏

‏"‏ وَالْقِسْطُ‏)‏، هُوَ الْعَدْلُ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏(‏هُوَ مُقْسِطٌ ‏"‏ وَ‏"‏ قَدْ أَقْسَطَ‏)‏، إِذَا عَدَلَ‏.‏

وَنَصَبَ ‏"‏قَائِمًا‏"‏ عَلَى الْقَطْعِ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ‏"‏هُو‏"‏ الَّتِي فِي ‏"‏ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏"‏‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ اسْمِ ‏"‏اللَّه‏"‏ الَّذِي مَعَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏شَهِدَ اللَّهُ‏)‏، فَكَانَ مَعْنَاهُ‏:‏ شَهِدَ اللَّهُ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏.‏ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَأُولُو الْعِلْمِ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ‏}‏، ثُمَّ حُذِفَتِ ‏"‏الْأَلِفُ وَاللَّام‏"‏ مِنَ ‏"‏ الْقَائِمِ‏)‏، فَصَارَ نَكِرَةً وَهُوَ نَعْتٌ لِمَعْرِفَةٍ فَنُصِبَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ قَطْعًا، عَلَى أَنَّهُ مِنْ نَعْتِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لِأَنَّ ‏"‏الْمَلَائِكَةَ وَأُولِي الْعِلْمِ‏)‏، مَعْطُوفُونَ عَلَيْهِ‏.‏ فَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏قَائِمًا‏"‏ حَالًا مِنْهُ‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏، فَإِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يَسْتَحِقُّ الْعُبُودَةَ غَيْرَ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ‏.‏

وَيَعْنِي بـِ ‏"‏الْعَزِيزِ‏)‏، الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَلَا يَنْتَصِرُ مِنْهُ أَحَدٌ عَاقَبَهُ أَوِ انْتَقَمَ مِنْه‏"‏ الْحَكِيمُ ‏"‏ فِي تَدْبِيرِهِ، فَلَا يَدْخُلُهُ خَلَلٌ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ نَفْيَ مَا أَضَافَتِ النَّصَارَى الَّذِينَ حَاجُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى مِنَ الْبُنُوَّةِ، وَمَا نَسَبَ إِلَيْهِ سَائِرُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا، وَاتِّخَاذُهُمْ دُونَهُ أَرْبَابًا‏.‏ فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ الْخَالِقُ كُلَّ مَا سِوَاهُ، وَأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ مَا اتَّخَذَهُ كُلُّ كَافِرٍ وَكُلُّ مُشْرِكٍ رَبًّا دُونَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ بِهِ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏ فَبَدَأَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِنَفْسِهِ، تَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ، وَتَنْـزِيهًا لَهَا عَمَّا نَسَبَ الَّذِينَ ذَكَرْنَا أَمْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ- مَا نَسَبُوا إِلَيْهَا، كَمَا سَنَّ لِعِبَادِهِ أَنْ يَبْدَءُوا فِي أُمُورِهِمْ بِذِكْرِهِ قَبْلَ ذِكْرِ غَيْرِهِ، مُؤَدِّبًا خَلْقَهُ بِذَلِكَ‏.‏

وَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ الْخَبَرُ عَنْ شَهَادَةِ مَنِ ارْتَضَاهُمْ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدَّسُوهُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَعُلَمَاءِ عِبَادِهِ‏.‏ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ مَلَائِكَتَهُ- الَّتِي يُعَظِّمُهَا الْعَابِدُونَ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَيَعْبُدُهَا الْكَثِيرُ مِنْهُمْ- وَأَهْلَ الْعِلْمِ مِنْهُمْ مُنْكِرُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي عِيسَى، وَقَوْلَ مِنَ اتَّخَذَ رَبًّا غَيْرَهُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ، فَقَالَ‏:‏ شَهِدَتِ الْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّخَذَ رَبًّا دُونَ اللَّهِ فَهُوَ كَاذِبٌ احْتِجَاجًا مِنْهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الَّذِينَ حَاجُّوهُ مِنْ وَفْدِ نَجْرَانَ فِي عِيسَى‏.‏

وَاعْتُرِضَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَصَفْتِهِ عَلَى مَا بَيَّنْتُ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْفَالِ‏:‏ 41‏]‏، افْتِتَاحًا بِاسْمِهِ الْكَلَامَ، فَكَذَلِكَ افْتَتَحَ بِاسْمِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ الشَّهَادَةَ بِمَا وَصَفْنَاهُ مِنْ نَفْيِ الْأُلُوهَةِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَكْذِيبِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ‏.‏

فَأَمَّا مَا قَالَ الَّذِي وَصَفْنَا قَوْلَهُ‏:‏ مِنْ أَنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏شَهِدَ‏)‏، قَضَى- فَمِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا الْعَجَمِ، لِأَنَّ ‏"‏الشَّهَادَةَ‏)‏، مَعْنًى، ‏"‏وَالْقَضَاء‏"‏ غَيْرُهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ‏}‏، بِخِلَافِ مَا قَالُوا- يَعْنِي‏:‏ بِخِلَافِ مَا قَالَ وَفْدُ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى ‏"‏ قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏)‏، أَيْ بِالْعَدْلِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏بِالْقِسْطِ‏)‏، بِالْعَدْلِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَمَعْنَى ‏"‏ الدِّينِ‏)‏، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ الطَّاعَةُ وَالذِّلَّةُ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

وَيَـوْمُ الحَـزْنِ إِذْ حُشِـدَتْ مَعَـدٌّ *** وَكَـانَ النَّـاسُ، إِلَّا نَحْـنُ دِينَـا

يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ مُطِيعِينَ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَطَامِيِّ‏:‏

كَانَتْ نَوَارُ تَدِينُكَ الْأَدْيَانَا ***

يَعْنِي‏:‏ تُذِلُّكَ‏.‏ وَقَوْلُ الْأَعْشَى مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ‏:‏

هُـوَ دَانَ الـرِّبَابَ إِذْ كَـرِهُـوا الـدِّ *** ينَ دِرَاكًـا بِغَـزْوَةٍ وَصِيَـالِ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏دَانَ ‏"‏ ذَلَّلَ وَبِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏كَرِهُوا الدِّينَ‏)‏، الطَّاعَةَ‏.‏

وَكَذَلِكَ ‏"‏الْإِسْلَامُ‏)‏، وَهُوَالِانْقِيَادُ بِالتَّذَلُّلِ وَالْخُشُوعِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏أَسْلَم‏"‏ بِمَعْنَى‏:‏ دَخَلَ فِي السِّلْمِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏أَقْحَطَ الْقَوْمُ‏)‏، إِذَا دَخَلُوا فِي الْقَحْطِ،

‏"‏ وَأَرْبَعُوا‏)‏، إِذَا دَخَلُوا فِي الرَّبِيعِ فَكَذَلِكَ ‏"‏ أَسْلَمُوا‏)‏، إِذَا دَخَلُوا فِي السَّلَمِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ بِالْخُضُوعِ وَتَرْكُ الْمُمَانَعَةِ‏.‏

فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏}‏ ‏"‏‏:‏ إِنَّ الطَّاعَةَ الَّتِي هِيَ الطَّاعَةُ عِنْدَهُ، الطَّاعَةُ لَهُ، وَإِقْرَارُ الْأَلْسُنِ وَالْقُلُوبِ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَانْقِيَادُهَا لَهُ بِالطَّاعَةِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، وَتَذَلُّلُهَا لَهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْبَارٍ عَلَيْهِ، وَلَا انْحِرَافٍ عَنْهُ، دُونَ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ مَعَهُ فِي الْعُبُودَةِ وَالْأُلُوهَةِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏}‏، وَالْإِسْلَامُ‏:‏ شَهَادَةُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَ لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءَهُ، لَا يُقْبَلُ غَيْرُهُ وَلَا يُجْزَى إِلَّا بِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏الْإِسْلَامُ‏)‏، الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتُهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَسَائِرُ الْفَرَائِضِ لِهَذَا تَبَعٌ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَسْلَمْنَا‏)‏ ‏[‏سُورَةُ الْحُجُرَاتِ‏:‏ 14‏]‏، قَالَ‏:‏ دَخَلْنَا فِي السِّلْمِ، وَتَرَكْنَا الْحَرْبَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏)‏، أَيْ‏:‏ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ مِنَ التَّوْحِيدِ لِلرَّبِّ، وَالتَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْإِنْجِيلَ- وَهُوَ ‏"‏الْكِتَاب‏"‏ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- فِي أَمْرِ عِيسَى، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ فِيمَا قَالُوهُ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي كَثُرَ بِهَا اخْتِلَافُهُمْ بَيْنَهُمْ، وَتَشَتَّتَتْ بِهَا كَلِمَتُهُمْ، وَبَايَنَ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏;‏ حَتَّى اسْتَحَلَّ بِهَا بَعْضُهُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ ‏{‏إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا عَلِمُوا الْحَقَّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْفِرْيَةِ مُبْطِلُونَ‏.‏ فَأَخْبَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَنَّهُمْ أَتَوْا مَا أَتَوْا مِنَ الْبَاطِلِ، وَقَالُوا مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ بِاللَّهِ، عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِخَطَأِ مَا قَالُوهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ جَهْلًا مِنْهُمْ بِخَطَئِهِ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوهُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، تَعَدِّيًا مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَطَلَبَ الرِّيَاسَاتِ وَالْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أَتَوُا الْكُتَّابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْكِتَابُ وَالْعِلْمُ ‏"‏ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا، وَطَلَبَ مُلْكِهَا وَسُلْطَانِهَا، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الدُّنْيَا مِنْ بَعْدِ مَا كَانُوا عُلَمَاءَ النَّاسِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ تِلَاوَةَ هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أَتَوُا الْكُتَّابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا، وَطَلَبَ مُلْكِهَا وَسُلْطَانِهَا‏.‏ مِنْ قِبَلِهَا وَاللَّهِ أُتِينَا‏!‏ مَا كَانَ عَلَيْنَا مَنْ يَكُونُ عَلَيْنَا، بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ فِينَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنَّا أُتِينَا مِنْ قِبَلِهَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ‏:‏ إِنَّ مُوسَى لِمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَا سَبْعِينَ حَبْرًا مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاسْتَوْدَعَهُمُ التَّوْرَاةَ، وَجَعَلَهُمْ أُمَنَاءَ عَلَيْهِ، كُلُّ حِبْرٍ جُزْءًا مِنْهُ، وَاسْتَخْلَفَ مُوسَى يُوشَعُ بْنُ نُونٍ‏.‏ فَلَمَّا مَضَى الْقَرْنُ الْأَوَّلُ وَمَضَى الثَّانِي وَمَضَى الثَّالِثُ، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمْ- وَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ أَبْنَاءِ أُولَئِكَ السَّبْعِينَ- حَتَّى أَهْرَقُوا بَيْنَهُمُ الدِّمَاءَ، وَوَقَعَ الشَّرُّ وَالِاخْتِلَافُ‏.‏ وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ قِبَلِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، بَغْيًا بَيْنَهُمْ عَلَى الدُّنْيَا، طَلَبًا لِسُلْطَانِهَا وَمُلْكِهَا وَخَزَائِنِهَا وَزُخْرُفِهَا، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏"‏‏.‏

فَقَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏)‏، الْيَهُودُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، دُونَ النَّصَارَى مِنْهُمْ، وَغَيْرِهِمْ‏.‏

وَكَانَ غَيْرُهُ يُوَجِّهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ النَّصَارَى الَّذِينَ أُوتُوا الْإِنْجِيلَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ‏}‏، الَّذِي جَاءَكَ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ الْوَاحِدَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ ‏"‏ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏)‏، يَعْنِي بِذَلِكَ النَّصَارَى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏(‏19‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ وَمَنْ يَجْحَدُحُجَجَ اللَّهِ وَأَعْلَامَهُ الَّتِي نَصَبَهَا ذِكْرَى لِمَنْ عَقَلَ، وَأَدِلَّةً لِمَنِ اعْتَبَرَ وَتَذَكَّرَ، فَإِنَّ اللَّهَ مُحْصٍ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ الَّتِي كَانَ يَعْمَلُهَا فِي الدُّنْيَا، فَمُجَازِيهِ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏"‏ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ سَرِيعُ الْإِحْصَاءِ‏.‏ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ حَافَظٌ عَلَى كُلِّ عَامِلٍ عَمَلَهُ، لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى عَقْدٍ كَمَا يَعْقِدُهُ خَلْقُهُ بِأَكُفِّهِمْ، أَوْ يَعُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّهُ يَحْفَظُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا مَؤُونَةٍ، وَلَا مُعَانَاةٍ لِمَا يُعَانِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْحِسَابِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى ‏"‏ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏)‏، كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِحْصَاؤُهُ عَلَيْهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏، إِحْصَاؤُهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ فَإِنْ حَاجَّكَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، النَّفَرُ مِنْ نَصَارَى أَهْلِ نَجْرَانَ فِي أَمْرِ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَخَاصَمُوكَ فِيهِ بِالْبَاطِلِ، فَقُلْ‏:‏ انْقَدْتُ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِلِسَانِي وَقَلْبِي وَجَمِيعِ جَوَارِحِي‏.‏ وَإِنَّمَا خَصَّ جَلَّ ذِكْرُهُ بِأَمْرِهِ بِأَنْ يَقُولَ‏:‏ ‏(‏أَسَلَّمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ‏)‏، لِأَنَّالْوَجْهَ أَكْرَمُ جَوَارِحِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ بَهَاؤُهُ وَتَعْظِيمُهُ، فَإِذَا خَضَعَ وَجْهُهُ لِشَيْءٍ، فَقَدْ خَضَعَ لَهُ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْكَرَامَةِ عَلَيْهِ مِنْ جَوَارِحِ بَدَنِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَأَسْلَمَ مَنِ اتَّبَعَنِي أَيْضًا وَجْهَهُ لِلَّهِ مَعِي‏.‏ وَ‏"‏ مِنْ ‏"‏مَعْطُوفٍ بِهَا عَلَى‏"‏ التَّاءِ ‏"‏فِي‏"‏ أَسْلَمْتُ‏)‏، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ‏:‏ ‏(‏فَإِنْ حَاجُّوكَ ‏"‏ أَيْ‏:‏ بِمَا يَأْتُونَكَ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏(‏خَلَقْنَا، وَفَعَلْنَا، وَجَعَلْنَا، وَأَمَرْنَا‏)‏، فَإِنَّمَا هِيَ شُبَهٌ بَاطِلَةٌ قَدْ عَرَفُوا مَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ ‏{‏فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏وَقُلْ‏)‏، يَا مُحَمَّدُ، لِلَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ ‏"‏مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ‏"‏ وَالْأُمِّيِّينَ ‏"‏الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَب‏"‏ أَأَسْلَمْتُمْ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ قُلْ لَهُمْ‏:‏ هَلْ أَفْرَدْتُمُ التَّوْحِيدَ وَأَخْلَصْتُمُ الْعِبَادَةَ وَالْأُلُوهَةَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، دُونَ سَائِرِ الْأَنْدَادِ وَالْأَشْرَاكِ الَّتِي تُشْرِكُونَهَا مَعَهُ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُمْ وَإِقْرَارِكُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِمْ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرَهُ وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ ‏"‏ فَإِنْ أَسْلَمُوا‏)‏، يَقُولُ‏:‏ فَإِنِ انْقَادُوا لِإِفْرَادِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ وَالْأُلُوهَةِ لَهُ‏"‏ فَقَدِ اهْتَدَوْا‏)‏، يَعْنِي‏:‏ فَقَدْ أَصَابُوا سَبِيلَ الْحَقِّ، وَسَلَكُوا مَحَجَّةَ الرُّشْدِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏(‏فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ‏"‏ عَقِيبَ الِاسْتِفْهَامِ‏؟‏ وَهَلْ يَجُوزُ عَلَى هَذَا فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ لِرَجُلٍ‏:‏ ‏(‏هَلْ تَقُومُ‏؟‏ فَإِنْ تَقُمْ أُكْرِمْكَ ‏"‏‏؟‏

قِيلَ‏:‏ ذَلِكَ جَائِزٌ، إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرُ، وَإِنْ خَرَجَ مُخْرِجَ الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 91‏]‏، يَعْنِي‏:‏ انْتَهُوْا، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنِ الْحَوَارِيِّينَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِعِيسَى‏:‏ ‏{‏يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 112‏]‏، وَإِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةٌ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ‏:‏ ‏(‏هَلْ أَنْتَ كَافٌّ عَنَّا ‏"‏‏؟‏ بِمَعْنَى‏:‏ اكْفُفْ عَنَّا، وَكَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ، أَيْنَ ‏"‏‏؟‏ بِمَعْنَى‏:‏ أَقِمْ فَلَا تَبْرَحْ، وَلِذَلِكَ جُوزِيَ فِي الِاسْتِفْهَامِ كَمَا جُوزِيَ فِي الْأَمْرِ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ آمِنُوا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الصَّفِّ‏:‏ 10‏]‏، فَفَسَّرَهَا بِالْأَمْرِ، وَهِيَ فِي قِرَاءَتِنَا عَلَى الْخَبَرِ‏.‏ فَالْمُجَازَاةُ فِي قِرَاءَتِنَا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏هَلْ أَدُلُّكُمْ‏)‏، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏آمَنُوا‏)‏، عَلَى الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ هُوَ التَّفْسِيرُ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَعْنَى مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ‏}‏، الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ ‏{‏أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا‏}‏ ‏"‏ الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْأُمِّيُّونَ الَّذِينَ لَا يَكْتُبُونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏ ‏(‏20‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَإِنْ تَوَلَّوْا‏)‏، وَإِنْ أَدْبَرُوا مُعْرِضِينَ عَمَّا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّمَا أَنْتَ رَسُولٌ مُبَلِّغٌ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ غَيْرَ إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ إِلَى مَنْ أَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِي، وَأَدَاءِ مَا كَلَّفْتُكَ مِنْ طَاعَتِي ‏{‏وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَنْ يَقْبَلُ مِنْ عِبَادِهِ مَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَيْهِ فَيُطِيعُكَ بِالْإِسْلَامِ، وَبِمَنْ يَتَوَلَّى مِنْهُمْ عَنْهُ مُعْرِضًا فَيَرُدُّ عَلَيْكَ مَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَيْهِ، فَيَعْصِيكَ بِإِبَائِهِ الْإِسْلَامَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏، أَيْ‏:‏ يَجْحَدُونَ حُجَجَ اللَّهِ وَأَعْلَامَهُ فَيُكَذِّبُونَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ‏:‏ ثُمَّ جَمَعَ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ جَمِيعًا، وَذَكَرَ مَا أَحْدَثُوا وَابْتَدَعُوا، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏ ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ- أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ رُسُلَ اللَّهِ الَّذِينَ كَانُوا يُرْسَلُونَ إِلَيْهِمْ بِالنَّهْيِ عَمَّا يَأْتُونَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَرُكُوبِ مَا كَانُوا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ بِالزَّجْرِ عَنْهَا، نَحْوَ زَكَرِيَّا وَابْنِهِ يَحْيَى، وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَسَائِرُ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ‏:‏ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ‏}‏، بِمَعْنَى الْقَتْلِ‏.‏

وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ قَرَأَةِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏(‏وَيُقَاتِلُونَ‏)‏، بِمَعْنَى الْقِتَالِ، تَأَوُّلًا مِنْهُ قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏وَقَاتَلُوا‏)‏، فَقَرَأَ الَّذِي وَصَفْنَا أَمْرَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ التَّأْوِيلِ‏:‏ ‏(‏وَيُقَاتِلُونَ‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ‏:‏ ‏(‏وَيَقْتُلُونَ‏)‏، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقَرَأَةِ عَلَيْهِ بِهِ، مَعَ مَجِيءِ التَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِأَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ أَبِي مِسْكِينٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيُذَكِّرُونَ ‏[‏قَوْمَهُمْ‏]‏- وَلَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ- فَيُقْتَلُونَ، فَيَقُومُ رِجَالٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ، فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ فَيُقْتَلُونَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ، كَانَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ يَنْهَوْنَهُمْ وَيُذَكِّرُونَهُمْ، فَيَقْتُلُونَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ لَمْ يَقْرَأِ الْكِتَابَ، كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِي إِلَيْهِمْ فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ فَيُقْتَلُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَهُمُ ‏{‏الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ الْوَصَّابِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ حِمْيَرَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مَوْلَى بَنِي أَسَدٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ قُبَيْصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجِرَاحِ قَالَ‏:‏ ‏(‏قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏؟‏قَالَ‏:‏ ‏(‏رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ رَجُلٌ أَمَرَ بِالْمُنْكِرِ وَنَهَى عَنِ الْمَعْرُوفِ‏.‏ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏"‏إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى‏"‏ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏)‏، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ‏!‏ فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخَرِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا‏:‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَقْتُلُونَ آمِرِيهِمْ بِالْعَدْلِ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، الَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ قَتْلِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُكُوبِ مَعَاصِيهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏ ‏[‏21- 22‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏)‏، فَأَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَذَابًا مُؤْلِمًا لَهُمْ وَهُوَ الْمُوجِعُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أُولَئِكَ‏)‏، الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ‏.‏ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ، هُمُ ‏"‏الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ بَطَلَتْ أَعْمَالُهُم‏"‏ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏"‏‏.‏ فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا، فَلَمْ يَنَالُوا بِهَا مُحَمَّدَةً وَلَا ثَنَاءً مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ وَبَاطِلٍ، وَلَمْ يَرْفَعِ اللَّهُ لَهُمْ بِهَا ذِكْرًا، بَلْ لَعَنَهُمْ وَهَتَكَ أَسْتَارَهُمْ، وَأَبْدَى مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبَائِحِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى أَلْسُنِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ فِي كُتُبِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ، فَأَبْقَى لَهُمْ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا مَذَمَّةً، فَذَلِكَ حُبُوطِهَا فِي الدُّنْيَا‏.‏ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْعِقَابِ مَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ، وَأَعْلَمَ عِبَادَهُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَصِيرُ بُورًا لَا ثَوَابَ لَهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ كُفْرًا بِاللَّهِ، فَجَزَاءُ أَهْلِهَا الْخُلُودُ فِي الْجَحِيمِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ نَاصَرٍ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ، إِذَا هُوَ انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْ إِجْرَامِهِمْ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ، فَيَسْتَنْقِذُهُمْ مِنْهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏(‏23‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏أَلَمْ تَرَ‏)‏، يَا مُحَمَّدُ ‏"‏إِلَى ‏{‏الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ الَّذِينَ أُعْطَوْا حَظًّا مِنَ الْكِتَاب‏"‏ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ‏"‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي‏"‏ الْكِتَابِ ‏"‏ الَّذِي عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ‏"‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ التَّوْرَاةُ، دَعَاهُمْ إِلَى الرِّضَى بِمَا فِيهَا، إِذْ كَانَتِ الْفِرَقُ الْمُنْتَحِلَةُ الْكُتُبَ تُقِرُّ بِهَا وَبِمَا فِيهَا‏:‏ أَنَّهَا كَانَتْ أَحْكَامَ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَخَ مِنْهَا مَا نُسِخَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدَ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ‏:‏ عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ‏.‏ فَقَالَا فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا‏!‏ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ، فَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏!‏ فَأَبَيَا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏"‏‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدِ مَوْلَى آلِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَهَلُمَّا إِلَى التَّوْرَاةِ وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ‏}‏‏)‏ وَسَائِرَ الْحَدِيثِ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي كُرَيْبٍ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ بَلْ ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا دُعِيَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، فَأَبَتْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكُتَّابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏، أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ، دُعُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَإِلَى نَبِيِّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ‏}‏، الْآيَةَ قَالَ‏:‏ هُمُ الْيَهُودُ، دُعُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَإِلَى نَبِيِّهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏!‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابٍ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ يَكُونُ، وَفِي الْحُدُودِ‏.‏ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانِيِّ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَهْدِهِ، مِمَّنْ قَدْ أُوتِيَ عِلْمًا بِالتَّوْرَاةِ أَنَّهُمْ دُعُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي كَانُوا يُقِرُّونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- وَهُوَ التَّوْرَاةُ- فِي بَعْضِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ هُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تُنَازِعُهُمُ الَّذِي كَانُوا تَنَازَعُوا فِيهِ، ثُمَّ دُعُوا إِلَى حُكْمِ التَّوْرَاةِ فِيهِ فَامْتَنَعُوا مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ، كَانَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرَ نُبُوَّتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ أَمْرَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ وَدِينِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ فِي حَدٍّ‏.‏ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ كَانُوا نَازَعُوا فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَاهُمْ فِيهِ إِلَى حُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَأَبَى الْإِجَابَةَ فِيهِ وَكَتَمَهُ بَعْضُهُمْ‏.‏

وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَيِّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَيٍّ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ هُوَ هَذَا دُونَ هَذَا‏.‏ وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي دُعُوا إِلَى حُكْمِهِ، هُوَ مِمَّا كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِمُ الْإِجَابَةَ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ، فَامْتَنَعُوا مِنْهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ بِرِدَّتِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ، وَجُحُودِهِمْ مَا قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ بِإِقَامَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ‏.‏ فَلَنْ يَعْدُوَا أَنْ يَكُونُوا فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مَثَلَهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُوسَى وَمَا جَاءَ بِهِ وَهُمْ يَتَوَلَّوْنَهُ وَيُقِرُّونَ بِهِ‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏، ثُمَّ يَسْتَدْبِرُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي دَعَا إِلَى حُكْمِهِ، مُعْرِضًا عَنْهُ مُنْصَرِفًا، وَهُوَ بِحَقِيقَتِهِ وَحُجَّتِهِ عَالِمٌ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ ‏"‏الْكِتَاب‏"‏ هُوَ التَّوْرَاةُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِالْقُرْآنِ مُكَذِّبِينَ، وَبِالتَّوْرَاةِ بِزَعْمِهِمْ مُصَدِّقِينَ، فَكَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا هُمْ بِهِ فِي زَعْمِهِمْ مُقِرُّونَ، أَبْلُغَ، وَلِلْعُذْرِ أَقْطَعَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏(‏24‏]‏

يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏بِأَنَّهُمْ قَالُوا‏)‏، بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ فِيمَا نَازَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا أَبَوُا الْإِجَابَةَ إِلَى حُكْمِ التَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ‏:‏ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ‏}‏ ‏"‏وَهِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَهُنَّ الْأَيَّامُ الَّتِي عَبَدُوا فِيهَا الْعِجْلَ ثُمَّ يُخْرِجُنَا مِنْهَا رَبُّنَا، اغْتِرَارًا مِنْهُم‏"‏ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ بِمَا كَانُوا يَخْتَلِقُونَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَبَاطِيلِ، فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَ أَبَاهُمْ يَعْقُوبَ أَنْ لَا يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْ وَلَدِهِ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقِسْمِ‏.‏ فَأَكْذَبُهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ‏}‏، قَالُوا‏:‏ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ الَّتِي نَصَبْنَا فِيهَا الْعَجَلَ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْقَسَمُ وَالْعَذَابُ عَنَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏(‏وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏)‏، أَيْ قَالُوا‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ‏}‏، الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ قَالُوا‏:‏ لَنْ نُعَذَّبَ فِي النَّارِ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، قَالَ‏:‏ يَعْنِي الْيَهُودَ قَالَ‏:‏ وَقَالَ قَتَادَةُ مِثْلَهُ وَقَالَ‏:‏ هِيَ الْأَيَّامُ الَّتِي نَصَبُوا فِيهَا الْعَجَلَ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏، حِينَ قَالُوا‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبِنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ غَرَّهُمْ قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏{‏لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏25‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ‏)‏، فَأَيُّ حَالٍ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَفَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَاغْتِرَارِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَافْتِرَائِهِمُ الْكَذِبَ‏؟‏ وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِيدٌ لَهُمْ شَدِيدٌ، وَتَهْدِيدٌ غَلِيظٌ‏.‏

وَإِنَّمَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ الْآيَةَ‏:‏ فَمَا أَعْظَمَ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ وَتَنْكِيلِهِ بِهِمْ إِذَا جَمَعَهُمْ لِيَوْمٍ يُوَفَّى كُلُّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ، غَيْرَ مَظْلُومٍ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ فِيهِ إِلَّا عَلَى مَا اجْتَرَمَ، وَلَا يُؤَاخِذُ إِلَّا بِمَا عَمِلَ، يْجْزِي الْمُحْسِنُ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءُ بِإِسَاءَتِهِ، لَا يَخَافُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ‏}‏، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ فِي يَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ لِمُخَالَفَةِ مَعْنَى ‏"‏اللَّام‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى ‏"‏فِي‏"‏‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكَان‏"‏ اللَّامِ ‏"‏‏"‏ فِي‏)‏، لَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَاذَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ‏؟‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي دُخُول‏"‏ اللَّامِ‏)‏، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ مَعَ ‏"‏اللَّامِ ‏"‏‏:‏ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِمَا يَحْدُثُ فِي يَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْفَصْلِ اللَّهِ الْقَضَاءَ بَيْنَخَلْقِهِ، مَاذَا لَهُمْ حِينَئِذٍ مِنَ الْعِقَابِ وَأَلِيمِ الْعَذَابِ‏؟‏ فَمَع‏"‏ اللَّامِ ‏"‏فِي‏"‏ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ‏"‏نِيَّةُ فِعْلٍ، وَخَبَرٌ مَطْلُوبٌ قَدْ تُرِكَ ذِكْرُهُ، أَجْزَأَتْ دَلَالَةُ دُخُول‏"‏ اللَّامِ ‏"‏فِي‏"‏ الْيَوْمِ ‏"‏عَلَيْهِ مِنْهُ‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَع‏"‏ فِي‏)‏، فَلِذَلِكَ اخْتِيرَتِ ‏"‏اللَّام‏"‏ فَأُدْخِلَتْ فِي ‏"‏الْيَوْمِ‏)‏، دُون‏"‏ فِي‏"‏‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَا رَيْبَ فِيهِ‏)‏، فَإِنَّهُ‏:‏ لَا شَكَّ فِي مَجِيئِهِ‏.‏ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْكَافِيَةِ، مَعَ ذِكْرِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَعَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَوُفِّيَتْ‏)‏، وَوَفَّى اللَّهُ ‏"‏كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَر‏"‏ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏)‏، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَبْخَسُ الْمُحْسِنَ جَزَاءَ إِحْسَانِهِ، وَلَا يُعَاقِبُ مُسِيئًا بِغَيْرِ جُرْمِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ أَمَّا تَأْوِيلُ‏:‏ ‏(‏قُلِ اللَّهُمَّ‏)‏، فَإِنَّهُ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ يَا اللَّهُ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي نَصْبِ ‏"‏مِيم‏"‏ ‏"‏ اللَّهُمَّ‏)‏، وَهُوَ مُنَادًى، وَحُكْمُ الْمُنَادَى الْمُفْرَدُ غَيْرُ الْمُضَافِ الرَّفْعُ وَفِي دُخُولِ ‏"‏الْمِيم‏"‏ فِيهِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ ‏"‏اللَّه‏"‏ بِغَيْرِ ‏"‏مِيمٍ‏"‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّمَا زِيدَتْ فِيه‏"‏ الْمِيمَانِ‏)‏، لِأَنَّهُ لَا يُنَادَى بـِ ‏"‏يَا‏"‏ كَمَا يُنَادَى الْأَسْمَاءُ الَّتِي لَا ‏"‏أَلِف‏"‏ فِيهَا وَلَا ‏"‏لَامَ‏"‏‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي لَا‏"‏ أَلِفَ ‏"‏وَلَا‏"‏ لَامَ ‏"‏فِيهَا تُنَادَى بـ‏"‏ يَا ‏"‏كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏يَا زَيْدُ، وَيَا عَمْرُو‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجُعِلَت‏"‏ الْمِيمُ ‏"‏فِيهِ خَلَفًا مِن‏"‏ يَا‏)‏، كَمَا قَالُوا‏:‏ ‏(‏فَمْ، وَابْنُمْ، وَهُمْ، وَزُرْقُمْ، وَسُتْهُمْ‏)‏، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالنُّعُوتِ الَّتِي يُحْذَفُ مِنْهَا الْحَرْفُ، ثُمَّ يُبَدِّلُ مَكَانَهُ ‏"‏مِيمٌ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَكَذَلِكَ حُذِفَتْ مِن‏"‏ اللَّهُمَّ ‏"‏‏"‏ يَا‏"‏ الَّتِي يُنَادَى بِهَا الْأَسْمَاءُ الَّتِي عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَجُعِلَتِ ‏"‏الْمِيم‏"‏ خَلَفًا مِنْهَا فِي آخِرِ الِاسْمِ‏.‏

وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ آخَرُونَ، وَقَالُوا‏:‏ قَدْ سَمِعْنَا الْعَرَبَ تُنَادِي‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ ‏"‏بـ‏"‏ يَا ‏"‏كَمَا تُنَادِيهِ وَلَا‏"‏ مِيمَ‏)‏، فِيهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَلَوْ كَانَ الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مُصِيبًا فِي دَعْوَاهُ، لَمْ تُدْخِلِ الْعَرَبُ ‏"‏ يَا‏)‏، وَقَدْ جَاءُوا بِالْخَلْفِ مِنْهَا‏.‏ وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ‏:‏

وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا صَلَّيْتِ *** أَوْ كَبَّرْتِ يَا أَللَّهُمَا ارْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا

وَيُرْوَى‏:‏ ‏(‏سَبَّحَتْ أَوْ كَبَّرَتْ‏"‏‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَلَمْ نَرَ الْعَرَبَ زَادَتْ مِثْلَ هَذِهِ ‏"‏الْمِيم‏"‏ إِلَّا مُخَفَّفَةً فِي نَوَاقِصِ الْأَسْمَاءِ مِثْلَ‏:‏ ‏(‏الْفَمْ، وَابْنُمْ، وَهُمْ‏)‏، قَالُوا‏:‏ وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهَا كَلِمَةٌ ضُمَّ إِلَيْهَا ‏"‏أَمَّ‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ ‏(‏يَا أَلِلَّهِ أَمَّنَا بِخَيْرٍ‏)‏، فَكَثُرَتْ فِي الْكَلَامِ فَاخْتَلَطَتْ بِهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَالضَّمَّةُ الَّتِي فِي‏"‏ الْهَاءِ ‏"‏مِنْ هَمْزَة‏"‏ أَمَّ‏)‏، لَمَّا تُرِكَتِ انْتَقَلَتْ إِلَى مَا قَبْلَهَا‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَنَرَى أَنَّ قَوْلَ الْعَرَبِ‏:‏ ‏(‏هَلُمَّ إِلَيْنَا‏)‏، مِثْلُهَا‏.‏ إِنَّمَا كَانَ ‏"‏هَلُمَّ‏)‏، ‏"‏ هَلْ ‏"‏ضُمَّ إِلَيْهَا‏"‏ أُمَّ‏)‏، فَتُرِكَتْ عَلَى نَصْبِهَا‏.‏ قَالُوا‏:‏ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ إِذَا طَرَحَ ‏"‏الْمِيمَ ‏"‏‏:‏ ‏(‏يَا اللَّهُ اغْفِرْ لِي‏"‏ وَ‏"‏ يَا أَلَّلَهُ اغْفِرْ لِي‏)‏، بِهَمْزِ ‏"‏الْأَلِف‏"‏ مِنَ ‏"‏اللَّه‏"‏ مَرَّةً، وَوَصْلِهَا أُخْرَى، فَمَنْ حَذَفَهَا أَجْرَاهَا عَلَى أَصْلِهَا، لِأَنَّهَا ‏"‏أَلِفٌ وَلَامٌ‏)‏، مِثْل‏"‏ الْأَلِفِ وَاللَّامِ ‏"‏ اللَّتَيْنِ يَدْخُلَانِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَعَارِفِ زَائِدَتَيْنِ‏.‏ وَمَنْ هَمَزَهَا تَوَهَّمَ أَنَّهَا مِنَ الْحَرْفِ، إِذْ كَانَتْ لَا تَسْقُطُ مِنْهُ، وَأَنْشَدُوا فِي هَمْزِ الْأَلِفِ مِنْهَا‏:‏

مُبَارَكٌ هُوَّ وَمَنْ سَمَّاهُ *** عَلَى اسْمِكَ اللُّهُمَّ يَا أَللهُ

قَالُوا‏:‏ وَقَدْ كَثُرَتِ ‏"‏اللَّهُم‏"‏ فِي الْكَلَامِ، حَتَّى خُفِّفَتْ مِيمُهَا فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ، وَأَنْشَدُوا‏:‏

كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبِي رِيَاحٍ *** يَسْمَعُهَا اللَّهُمُ الْكُبَارُ

وَالرُّوَاةُ تَنْشُدُ ذَلِكَ‏:‏

يَسْمَعُهَا لَاهُهُ الْكُبَارُ ***

وَقَدْ أَنْشُدُهُ بَعْضُهُمْ‏:‏

يَسْمَعُهَا اللَّهُ وَاللَّهُ كُبَارُ ***

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ يَا مَالِكَ الْمُلْكِ، يَا مِنْ لَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ خَالِصًا دُونَ وَغَيْرِهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ‏}‏، أَيْ رَبَّ الْعِبَادِ الْمَلِكَ، لَا يَقْضِي فِيهِمْ غَيْرُكَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ تُعْطَى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، فَتَمْلِكُهُ وَتُسَلِّطُهُ عَلَى مَنْ تَشَاءُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ أَنْ تَنْزِعَهُ مِنْهُ، فَتُرِكَ ذِكْرُ ‏"‏ أَنْ تَنْزِعَهُ مِنْهُ‏)‏، اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ‏)‏، عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏خُذْ مَا شِئْتَ وَكُنْ فِيمَا شِئْتَ‏)‏، يُرَادُ‏:‏ خُذْ مَا شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَكُنْ فِيمَا شِئْتَ أَنْ تَكُونَ فِيهِ‏;‏ وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الِانْفِطَارِ‏:‏ 8‏]‏ يَعْنِي‏:‏ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ أَنْ يُرَكِبَكَ فِيهَا رَكَّبَكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا لِمَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ لِأُمَّتِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ وَذَكَرَ لَنَا‏:‏ ‏(‏أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ فِي أُمَّتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ‏}‏ ‏"‏ إِلَى ‏{‏إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ ‏(‏أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ فِي أُمَّتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلَه‏)‏‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ مَعْنَى ‏"‏ الْمُلْكِ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ النُّبُوَّةُ‏.‏

ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ‏}‏، قَالَ‏:‏ النُّبُوَّةَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏(‏26‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ‏)‏، بِإِعْطَائِهِ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ، وَبَسْطِ الْقُدْرَةِ لَهُ ‏"‏وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ‏"‏ بِسَلْبِكَ مُلْكَهُ، وَتَسْلِيطِ عَدُوِّهُ عَلَيْهِ ‏"‏بِيَدِكَ الْخَيْرُ‏)‏، أَيْ‏:‏ كُلُّ ذَلِكَ بِيَدِكَ وَإِلَيْكَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ، لِأَنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، دُونَ سَائِرِ خَلْقِكَ، وَدُونَ مَنِ اِتَّخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ إِلَهًا وَرَبًّا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِكَ، كَالْمَسِيحِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي اِتَّخَذَهَا الْأُمِّيُّونَ رَبًّا، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْر ِقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ‏}‏، الْآيَةَ، أَيْ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ بِيَدِكَ لَا إِلَى غَيْرِكَ ‏{‏إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، أَيْ‏:‏ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا غَيْرُكَ بِسُلْطَانِكَ وُقدْرَتِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏تُولِجُ‏"‏ تُدْخِلُ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏قَدْ وَلَجَ فُلَانٌ مَنْـزِلَهُ‏)‏، إِذَا دَخَلَهُ، ‏"‏فَهُوَ يَلِجُهُ وَلْجًا وَوُلُوجًا وَلِجَةً‏"‏- وَ‏"‏أَوْلَجْتُهُ أَنَا‏)‏، إِذَا أَدْخَلْتُهُ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ‏"‏ تُدْخِّلُ مَا نَقَصْتَ مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ فِي سَاعَاتِ النَّهَارِ، فَتَزِيدُ مِنْ نُقْصَانِ هَذَا فِي زِيَادَةِ هَذَا ‏"‏وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏)‏، وَتَدْخُلُ مَا نَقَصْتَ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، فَتَزِيدُ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ مَا نَقَصْتَ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيُّ‏:‏ ‏"‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏)‏، حَتَّى يَكُونَ اللَّيْلُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً، وَالنَّهَارُ تِسْعَ سَاعَاتٍ، وَتُدْخِلُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ حَتَّى يَكُونَ النَّهَارُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً، وَاللَّيْلُ تِسْعَ سَاعَاتٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ مَا نَقَصَ مِنَ النَّهَارِ يَجْعَلُهُ فِي اللَّيْلِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ اللَّيْلِ يَجْعَلُهُ فِي النَّهَارِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ مَا يَنْقُصُ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، يَعْتَقِبَانِ أَوْ‏:‏ يَتَعَاقَبَانِ، شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ ذَلِكَ مِنَ السَّاعَاتِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏، مَا يَنْقُصُ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، يَتَعَاقَبَانِ ذَلِكَ مِنَ السَّاعَاتِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏، نُقْصَانُ اللَّيْلِ فِي زِيَادَةِ النَّهَارِ، وَنُقْصَانُ النَّهَارِ فِي زِيَادَةِ اللَّيْلِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ نُقْصَانُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَأْخُذُ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ، وَيَأْخُذُ النَّهَارَ مِنَ اللَّيْلِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ نُقْصَانُ اللَّيْلِ فِي زِيَادَةِ النَّهَارِ، وَنُقْصَانُ النَّهَارِ فِي زِيَادَةِ اللَّيْلِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏، يَعْنِي أَنَّهُ يَأْخُذُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، فَيَكُونُ اللَّيْلُ أَحْيَانًا أَطْوَلَ مِنَ النَّهَارِ، وَالنَّهَارُ أَحْيَانًا أَطْوَلَ مِنَ اللَّيْلِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هَذَا طَوِيلٌ وَهَذَا قَصِيرٌ، أَخَذَ مِنْ هَذَا فَأَوْلَجَهُ فِي هَذَا، حَتَّى صَارَ هَذَا طَوِيلًا وَهَذَا قَصِيرًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اِخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏"‏تَأْوِيلُ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُ يُخْرِجُ الشَّيْءَ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ، وَيَخْرُجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الشَّيْءِ الْحَيِّ‏"‏‏.‏

ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، قَالَ‏:‏ هِيَ النُّطْفَةُ تَخْرُجُ مِنَ الرَّجُلِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ وَهُوَ حَيٌّ، وَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْهَا حَيًّا وَهِيَ مَيِّتَةٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّاسُ الْأَحْيَاءُ مِنَ النُّطَفِ وَالنُّطَفِ مَيِّتَةٌ، وَيُخْرِجُهَا مِنَ النَّاسِ الْأَحْيَاءِ، وَالْأَنْعَامِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، فَذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، فَالنُّطْفَةُ مَيِّتَةٌ تَكُونُ، تَخْرُجُ مِنْ إِنْسَانٍ حَيٍّ، وَيَخْرُجُ إِنْسَانٌ حَيٌّ مِنْ نُطْفَةٍ مَيِّتَةٍ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَطَاءٍ الْمُقَدِّمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ السِّجِسْتَانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي قَوْلِهِ‏.‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، قَالَ‏:‏ تَخْرُجُ النُّطْفَةَ مِنَ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلَ مِنَ النُّطْفَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، قَالَ‏:‏ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ هَذِهِ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ، وَتُخْرِجُ هَذِهِ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الْحَيِّ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏ ‏"‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ النَّاسُ الْأَحْيَاءُ مِنَ النُّطَفِ، وَالنُّطَفُ مَيِّتَةٌ مِنَ النَّاسِ الْأَحْيَاءِ، وَمِنَ الْأَنْعَامِ وَالنَّبْتِ كَذَلِكَ قَالَ اِبْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ وَسَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ عُوَيْمِرٍ يُخْبِرُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ‏:‏ إِخْرَاجُهُ النُّطْفَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِخْرَاجُهُ الْإِنْسَانَ مِنَ النُّطْفَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، قَالَ‏:‏ النُّطْفَةُ مَيِّتَةٌ، فَتَخْرُجُ مِنْهَا أَحْيَاءٌ ‏{‏وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، تُخْرِجُ النُّطْفَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَحْيَاءِ، وَالْحَبَّ مَيِّتٌ تُخْرِجُ مِنْهُ حَيًّا ‏"‏وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏)‏، تُخْرِجُ مِنْ هَذَا الْحَيِّ حَبًّا مَيِّتًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ ‏"‏أَنَّهُ يُخْرِجُ النَّخْلَةَ مِنَ النَّوَاةِ، وَالنَّوَاةَ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالسُّنْبُلَ مِنَ الْحَبِّ، وَالْحَبَّ مِنَ السُّنْبُلِ، وَالْبَيْضَ مِنَ الدَّجَاجِ، وَالدَّجَاجَ مِنَ الْبَيْضِ‏"‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هِيَ الْبَيْضَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحَيِّ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا الْحَيُّ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْحُكْمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ‏.‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّخْلَةُ مِنَ النَّوَاةِ وَالنَّوَاةَ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالْحَبَّةَ مِنَ السُّنْبُلَةِ، وَالسُّنْبُلَةَ مِنَ الْحَبَّةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏"‏مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُ يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ‏"‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِالْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، يَعْنِي الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ عَبْدٌ حَيُّ الْفُؤَادِ، وَالْكَافِرُ عَبْدٌ مَيِّتُ الْفُؤَادِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ، قَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، قَالَ‏:‏ يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَيُخْرِجُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ‏.‏

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، قَالَ‏:‏ تُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَتُخْرِجُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ‏.‏

حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، أَوْ عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً- أَوْ قَالَ‏:‏ أَرْبَعِينَ يَوْمًا- ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فِيهِ، فَخَرَجَ كُلُّ طَيِّبٍ فِي يَمِينِهِ، وَخَرَجَ كُلُّ خَبِيثٍ فِي يَدِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ خَلَطَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ خَلَقَ مِنْهَا آدَمَ، فَمِنْ ثَمَّ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَيُخْرِجُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ‏:‏ ‏(‏أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَإِذَا بِاِمْرَأَةٌ حَسَنَةُ النِّعْمَةِ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ هَذِهِ‏؟‏ قَالَتْ إِحْدَى خَالَاتِكَ ‏!‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ خَالَاتِي بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ لِغَرَائِبُ ‏!‏ وَأَيُّ خَالَاتِي هَذِهِ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ خَالِدَةُ اِبْنَةُ الْأَسْوَدِ اِبْنِ عَبْدِ يَغُوثَ‏.‏ قَالَ‏:‏ سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ‏!‏ وَكَانَتِ اِمْرَأَةً صَالِحَةً، وَكَانَ أَبُوهَا كَافِرًا‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، قَالَ‏:‏ هَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْكَافِرَ يَلِدُ مُؤْمِنًا، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَلِدُ كَافِرًا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ هُوَ كَذَلِكَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ، تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏يُخْرِجُ الْإِنْسَانَ الْحَيَّ وَالْأَنْعَامَ وَالْبَهَائِمَ الْأَحْيَاءَ مِنَ النُّطَفِ الْمَيِّتَةِ وَذَلِكَ إِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيَخْرِجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْبَهَائِمِ الْأَحْيَاءِ وَذَلِكَ إِخْرَاجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ‏"‏‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ حَيٍّ فَارَقَهُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي فَارَقَهُ مِنْهُ مَيِّتٌ‏.‏ فَالنُّطْفَةُ مَيِّتَةٌ لِمُفَارَقَتِهَا جَسَدَ مَنْ خَرَجَتْ مِنْهُ، ثُمَّ يُنْشِئُ اللَّهُ مِنْهَا إِنْسَانًا حَيًّا وَبَهَائِمَ وَأَنْعَامًا أَحْيَاءً‏.‏ وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ زَايَلَهُ شَيْءٌ مِنْهُ، فَالَّذِي زَايَلَهُ مِنْهُ مَيِّتٌ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْبَقَرَةِ‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وَأُمًّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى الْحَبَّةِ مِنَ السُّنْبُلَةِ، وَالسُّنْبُلَةِ مِنَ الْحَبَّةِ، وَالْبَيْضَةِ مِنَ الدَّجَاجَةِ، وَالدَّجَاجَةِ مِنَ الْبَيْضَةِ، وَالْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ مَفْهُومٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ الْأَغْلَبُ الظَّاهِرُ فِي اِسْتِعْمَالِ النَّاسِ فِي الْكَلَامِ‏.‏وَتَوْجِيهُ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الظَّاهِرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي النَّاسِ، أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهَا إِلَى الْخَفِيِّ الْقَلِيلِ فِي الِاسْتِعْمَالِ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏ بِالتَّشْدِيدِ، وَتَثْقِيلِ ‏"‏اليَاءِ‏"‏ مِنَ ‏"‏المَيِّتِ‏)‏، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُخْرِجُ الشَّيْءَ الْحَيَّ مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي قَدْ مَاتَ، وَمِمَّا لَمْ يَمُتْ‏.‏

وَقَرَأَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ‏:‏ ‏{‏تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏ بِتَخْفِيفِ ‏"‏اليَاءِ‏"‏ مِنَ ‏"‏المَيْتِ‏)‏، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُخْرِجُ الشَّيْءَ الْحَيَّ مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي قَدْ مَاتَ، دُونَ الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَمُتْ، وَيُخْرِجُ الشَّيْءَ الْمَيِّتَ، دُونَ الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَمُتْ، مِنَ الشَّيْءِ الْحَيِّ‏.‏

وَذَلِكَ أَنْ ‏"‏المَيِّتَ‏"‏ مُثَقَّلُ ‏"‏اليَاءِ‏"‏ عِنْدَ الْعَرَبِ‏:‏ مَا لَمْ يَمُتْ وَسَيَمُوتُ، وَمَا قَدْ مَاتَ‏.‏

وَأُمًّا ‏"‏المَيِّتُ‏"‏ مُخَفَّفًا، فَهُوَ الَّذِي قَدْ مَاتَ، فَإِذَا أَرَادُوا النَّعْتَ قَالُوا‏:‏ ‏"‏إِنَّكَ مَائِتٌ غَدًا، وَإِنَّهُمْ مَائِتُونَ‏"‏‏.‏ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ الِاسْمُ مِنْهُ‏.‏ يُقَالُ‏:‏ ‏"‏هُوَ الْجَائِدُ بِنَفْسِهِ وَالطَّائِبَةُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ‏)‏، وَإِذَا أُرِيدَ مَعْنَى الِاسْمِ قِيلَ‏:‏ ‏"‏هُوَ الْجَوَادُ بِنَفْسِهِ وَالطَّيِّبَةُ نَفْسُهُ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ شَدَّدَ ‏"‏اليَاءَ‏"‏ مِنَ ‏"‏المَيِّتِ‏"‏‏.‏ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الَّتِي قَدْ فَارَقَتِ الرَّجُلَ فَصَارَتْ مَيِّتَةٌ، وَسَيُخْرِجُهُ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ تُفَارِقَهُ وَهِيَ فِي صُلْبِ الرَّجُلِ ‏"‏وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏"‏ النُّطْفَةَ الَّتِي تَصِيرُ بِخُرُوجِهَا مِنَ الرَّجُلِ الْحَيِّ مَيِّتًا، وَهِيَ قَبْلَ خُرُوجِهَا مِنْهُ حَيَّةٌ‏.‏ فَالتَّشْدِيدُ أَبْلَغُ فِي الْمَدْحِ وَأَكْمَلُ فِي الثَّنَاءِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏27‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ أَنَّهُ يُعْطَى مَنْ يَشَاءُ مَنْ خَلْقِهِ فَيَجُودُ عَلَيْهِ، بِغَيْرِ مُحَاسَبَةٍ مِنْهُ لِمَنْ أَعْطَاهُ، لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ دُخُولَ اِنْتِقَاصٍ فِي خَزَائِنِهِ، وَلَا الْفِنَاءَ عَلَى مَا بِيَدِهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَتَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏)‏، قَالَ‏:‏ يُخْرِجُ الرِّزْقَ مِنْ عِنْدِهِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، لَا يَخَافُ أَنْ يَنْقُصَ مَا عِنْدَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا‏:‏ اللَّهُمَّ يَا مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْـزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، دُونَ مَنِ اِدَّعَى الْمُلْحِدُونَ أَنَّهُ لَهُمْ إِلَهٌ وَرَبٌّ وَعَبَدُوهُ دُونَكَ، أَوْ اِتَّخَذُوهُ شَرِيكًا مَعَكَ، أَوْ أَنَّهُ لَكَ وَلَدٌ وَبِيَدِكَ الْقُدْرَةُ الَّتِي تَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَتَقْدِرُ بِهَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، فَتَنْقُصُ مِنْ هَذَا وَتَزِيدُ فِي هَذَا، وَتَنْقُصُ مِنْ هَذَا وَتَزِيدُ فِي هَذَا، وَتُخْرِجُ مِنْ مَيِّتٍ حَيًّا وَمَنْ حَيٍّ مَيِّتًا، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ مِنْ خَلْقِكَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاكَ، وَلَا يَسْتَطِيعُهُ غَيْرُكَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ‏:‏ ‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏، أَيْ‏:‏ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ يَعْنِي‏:‏ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي تُؤْتِي الْمَلِكَ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَنْـزِعُهُ مِمَّنْ تَشَاءُ ‏"‏وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏)‏، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُكَ، وَلَا يَصْنَعُهُ إِلَّا أَنْتَ‏.‏ أَيْ‏:‏ فَإِنْ كُنْتَ سَلَّطْتَ عِيسَى عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي بِهَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ‏:‏ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ، وَالْخَلْقِ لِلطَّيْرِ مِنَ الطِّينِ، وَالْخَبَرِ عَنِ الْغُيُوبِ، لِتَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ، وَتَصْدِيقًا لَهُ فِي نُبُوَّتِهِ الَّتِي بَعَثْتَهُ بِهَا إِلَى قَوْمِهِ- فَإِنَّ مِنْ سُلْطَانِي وَقُدْرَتِي مَا لَمْ أُعْطِهِ‏:‏ تَمْلِيكُ الْمُلُوكِ، وَأَمْرُ النُّبُوَّةِ وَوَضْعُهَا حَيْثُ شِئْتُ، وَإِيلَاجُ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَالنَّهَارِ فِي اللَّيْلِ، وَإِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، وَرِزْقُ مَنْ شِئْتُ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏.‏ فَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ أُسَلِّطْ عِيسَى عَلَيْهِ، وَلَمْ أَمَلِّكْهُ إِيَّاهُ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ وَبَيِّنَةٌ‏:‏ أَنْ لَوْ كَانَ إِلَهًا، لَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي عِلْمِهِمْ يَهْرُبُ مِنَ الْمُلُوكِ، وَيَنْتَقِلُ مِنْهُمْ فِي الْبِلَادِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ‏!‏ ‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَانَهْيٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا الْكُفَّارَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا وَظُهُورًا، وَلِذَلِكَ كَسَرَ‏"‏يَتَّخِذِ‏)‏، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالنَّهْيِ، وَلَكِنَّهُ كَسَرَ ‏"‏الذَّالَ‏"‏ مِنْهُ، لِلسَّاكِنِ الَّذِي لَقِيَهُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ‏.‏

وَمَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ لَا تَتَّخِذُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، الْكُفَّارَ ظَهْرًا وَأَنْصَارًا تُوَالُونَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَتُظَاهِرُونَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَدُلُّونَهُمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ‏"‏فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ‏)‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ، بِارْتِدَادِهِ عَنْ دِينِهِ وَدُخُولِهِ فِي الْكُفْرِ ‏"‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏)‏، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا فِي سُلْطَانِهِمْ فَتَخَافُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَتُظْهِرُوا لَهُمُ الْوِلَايَةَ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَتُضْمِرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَلَا تُشَايِعُوهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَا تُعِينُوهُمْ عَلَى مُسْلِمٍ بِفِعْلٍ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّارَ أَوْ يَتَّخِذُوهُمْ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ ظَاهِرِينَ، فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ اللُّطْفَ، وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الدِّينِ‏.‏ وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَة قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو حَلِيفَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، وَقَيْسُ بْنُ زَيْدٍ، قَدْ بَطَنُوا بِنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ رَفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، لِأُولَئِكَ النَّفَرِ‏:‏ اِجْتَنِبُوا هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ، وَاحْذَرُوا لُزُومَهُمْ وَمُبَاطَنَتِهِمْ لَا يَفْتِنُوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ‏!‏ فَأَبَى أُولَئِكَ النَّفَرُ إِلَّا مُباطَنَتَهُمْ وَلُزُومَهُمْ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏"‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عِبَادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا يَتَّخِذُ الْمُؤْمِنُ كَافِرًا وَلِيًّا مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيُّ‏:‏ ‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏"‏ إِلَى ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏، أَمَّا‏"‏أَوْلِيَاءَ‏"‏ فَيُوَالِيهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَيُظْهِرُهُمْ عَلَى عَوْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَمِنْ فَعَلَ هَذَا فَهُوَ مُشْرِكٌ، فَقَدْ بَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَتَّقِي تُقَاةً، فَهُوَ يُظْهِرُ الْوِلَايَةَ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَالْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا قُبَيْصَةُ بْنُ عَقَبَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏، قَالَ‏:‏ التُّقَاةُ التَّكَلُّمُ بِاللِّسَانِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُكْمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏، قَالَ‏:‏ مَا لَمْ يُهْرَقْ دَمُ مُسْلِمٍ، وَمَا لَمْ يُسْتَحَلَّ مَالُهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، إِلَّا مُصَانَعَةً فِي الدُّنْيَا وَمُخَالَقَةً‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِالرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏ إِلَى ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏، قَالَ‏:‏ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ‏:‏ التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ وَلَيْسَ بِالْعَمَلِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏، قَالَ‏:‏ التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ‏.‏ مَنْ حُمِلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَهُوَ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ، فَتَكَلَّمَ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏، فَالتَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ‏.‏ مَنْ حُمِلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ، فَيَتَكَلَّمُ بِهِ مَخَافَةَ النَّاسِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ‏.‏ إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةً‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً‏}‏، نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُوَادُّوا الْكُفَّارَ أَوْ يَتَوَلَّوْهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏ وَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً‏}‏، الرَّحِمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ فِي دِينِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَصِلَ رَحِمًا لَهُ فِي الْمُشْرِكِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَا يَحْلُ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتَّخِذَ كَافِرًا وَلِيًّا فِي دِينِهِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏)‏، قَالَ‏:‏ أَنْ يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، فَتَصِلُهُ لِذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عِبَادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏، قَالَ‏:‏ صَاحِبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، الرَّحِمُ وَغَيْرُهُ‏.‏ فَأَمَّا فِي الدِّينِ فَلَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ تَأْوِيلٌ لَهُ وَجْهٌ، وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ‏:‏ إِلَّا أَنَّ تَتَّقُوا مِنَ الْكَافِرِينَ تُقَاةً فَالْأَغْلَبُ مِنْ مَعَانِي هَذَا الْكَلَامِ‏:‏ إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ مَخَافَةً‏.‏ فَالتَّقِيَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏ إِنَّمَا هِيَ تَقِيَّةٌ مِنَ الْكُفَّارِ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ‏.‏ وَوَجَّهَهُ قَتَادَةُ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُ‏:‏ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ مِنْ أَجْلِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ تُقَاةً، فَتَصِلُونَ رَحِمَهَا‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْغَالِبُ عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ‏.‏ وَالتَّأْوِيلِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْأَغْلَبِ الظَّاهِر مِنْ مَعْرُوفِ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِمْ‏.‏

وَقَدِ اِخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِيقِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً

فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏، عَلَى تَقْدِيرِ‏"‏فُعَلَةٍ‏"‏ مِثْلُ‏:‏ ‏"‏تُخَمَةٍ، وَتُؤَدَةٍ وَتُكَأَةٍ‏)‏، مِنَ‏"‏اتَّقَيْتُ‏"‏‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ‏:‏ ‏{‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً‏}‏، عَلَى مِثَالِ ‏"‏فَعَيْلَةٍ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهَا‏:‏ ‏"‏إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏)‏، لِثُبُوتِ حُجَّةِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ، بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْهُ الْخَطَأُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏28‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ، وَيُخَوِّفُكُمْ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ تَرْكَبُوا مَعَاصِيهِ، أَوْ تُوَالُوا أَعْدَاءَهُ، فَإِنَّ لِلَّهِ مَرْجِعَكُمْ وَمَصِيرَكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ، وَيَوْمَ حَشْرِكُمْ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ مَتَى صِرْتُمْ إِلَيْهِ وَقَدْ خَالَفْتُمْ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَأَتَيْتُمْ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ اِتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، نَالَكُمْ مِنْ عِقَابِ رَبِّكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، يَقُولُ‏:‏ فَاتَّقُوهُ وَاحْذَرُوهُ أَنْ يَنَالَكُمْ ذَلِكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏29‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏قُلْ‏"‏ يَا مُحَمَّدُ، لِلَّذِينِ أَمَرْتُهُمْ أَنْ لَا يَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ‏"‏إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ‏"‏ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَفَّارِ فَتُسِرُّوهُ، أَوْ تُبْدُوا ذَلِكُمْ مِنْ نُفُوسِكُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ فَتُظْهِرُوهُ ‏"‏يَعْلَمْهُ اللَّهُ‏)‏، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَا تُضْمِرُوا لَهُمْ مَوَدَّةً وَلَا تُظْهِرُوا لَهُمْ مُوَالَاةً، فَيَنَالُكُمْ مِنْ عُقُوبَةِ رَبِّكُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَعَلَانِيَتَكُمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ مُحْصِيهِ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا، وَبِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيُّ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا أَسَرُّوا مِنْ ذَلِكَ وَمَا أَعْلَنُوا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ‏}‏‏.‏

وَأُمًّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ هُوَ فِي سَمَاءٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ حَيْثُ كَانَ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ- أَيُّهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مَنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ- مَا فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ، أَوْ مَا تُبْدُونَهُ لَهُمْ بِالْمَعُونَةِ فِعْلًا وَقَوْلًا‏.‏

وَأُمًّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَاللَّهُ قَدِيرٌ عَلَى مُعَاجَلَتِكُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مُوَالَاتِكُمْ إِيَّاهُمْ وُمُظَاهَرَتِكُمُوهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا، لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ طَلَبَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي يَوْمِ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا مُوَفَّرًا، ‏{‏وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا‏}‏ ‏"‏ يَعْنِي غَايَةً بَعِيدَةً، فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ يَوْمئِذٍ إِلَيْهِ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ‏.‏

وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏مُحْضَرًا‏)‏، مَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا‏)‏، يَقُولُ‏:‏ مُوَفَّرًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ زَعَمَ ‏[‏بَعْضُ‏]‏ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَاذْكُرْ يَوْمَ تَجِدُ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَ كَذَلِكَ، لِأَنَّالْقُرْآنَ إِنَّمَا نَـزَلَ لِلْأَمْرِ وَالذِّكْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ اُذْكُرُوا كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ‏:‏ ‏"‏وَاتَّقَوْا يَوْمَ كَذَا، وَحِينَ كَذَا‏"‏‏.‏

وَأَمًّا‏"‏مَا‏"‏ الَّتِي مَعَ‏"‏عَمِلَتْ‏)‏، فَبِمَعْنَى ‏"‏الذِي‏)‏، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَزَاءً، لِوُقُوعِ‏"‏تَجِدُ‏"‏ عَلَيْهِ‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ‏)‏، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏مَا‏"‏ الْأَوْلَى، و‏"‏عَمِلَتْ‏"‏ صِلَةٌ بِمَعْنَى الرَّفْعِ، لَمَّا قِيلَ‏:‏ ‏"‏تَوَدُّ‏"‏‏.‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ الَّذِي عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مَحْضَرًا، وَالَّذِي عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا

‏"‏وَالْأَمَدُ‏"‏ الْغَايَةُ الَّتِي يُنْتَهَى إِلَيْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الطِّرْمَاحُ‏:‏

كُـلُّ حَـيٍّ مُسْتَكْـمِلٌ عِدَّةَ الْـ *** عُمْـرِ، ومُـودٍ إِذَا انْقَضَـى أَمَـدُهْ

يَعْنِي‏:‏ غَايَةَ أَجَلِهِ‏.‏ وَقَدْ‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيُّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا‏)‏، مَكَانًا بَعِيدًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏"‏أَمَدًا بَعِيدًا‏)‏، قَالَ‏:‏ أَجَلًا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عِبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا‏}‏، قَالَ‏:‏ يَسُرُّ أَحَدَهُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلَهُ ذَاكَ أَبَدًا يَكُونُ ذَلِكَ مُنَاهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ كَانَتْ خَطِيئَةً يَسْتَلِذُّهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ‏}‏ ‏[‏30‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ‏:‏ أَنْ تُسْخِطُوهَا عَلَيْكُمْ بِرُكُوبِكُمْ مَا يُسْخِطُهُ عَلَيْكُمْ، فَتُوَافُونَهُ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، وَهُوَ عَلَيْكُمْ سَاخِطٌ، فَيَنَالُكُمْ مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ‏.‏ ثُمَّ أَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ رَءُوفٌ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ بِهِمْ، وَأَنَّ مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ‏:‏ تَحْذِيرُهُ إِيَّاهُمْ نَفْسَهُ، وَتَخْوِيفُهُمْ عُقُوبَتَهُ، وَنَهْيُهُ إِيَّاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعَاصِيهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ اِبْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ‏"‏‏}‏، قَالَ‏:‏ مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ أَنْ حَذَّرَهُمْ نَفْسَهُ‏.‏