فصل: تفسير الآية رقم (54)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ‏:‏ أَمْ يَحْسُدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ، قَالَ‏:‏ يَهُودُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ النَّاسَ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ عَنَى اللَّهُ بِهِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاصَّةً‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاصَّةً‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏‏:‏ يَعْنِي مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ النَّاسُ‏:‏ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عَنَى اللَّهُ بِهِ الْعَرَبَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏‏:‏ أُولَئِكَ الْيَهُودُ، حَسَدُوا هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَاتَبَ الْيَهُودَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَقَالَ لَهُمْ فِي قِيلِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إِنَّهُمْ أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ سَبِيلًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي قِيْلِهِمْ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ كَذَبَةٌ‏:‏ أَتَحْسُدُونَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏‏:‏ مَضَى بِذَمِّ الْقَائِلِينَ مِنَ الْيَهُودِ لِلَّذِينِ كَفَرُوا‏:‏ هَؤُلَاءِ أَهْدَىَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، فَإِلْحَاقُ قَوْلِهِ‏:‏ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بِذَمِّهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتَقْرِيظُ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ مَا قِيلَ أَشْبَهُ وَأَوْلَى، مَا لَمْ تَأْتِ دَلَالَةٌ عَلَى انْصِرَافِ مَعْنَاهُ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ الْفَضْلِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ آتَى الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ‏"‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ذَلِكَ الْفَضْلِ هُوَ النُّبُوَّةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏‏:‏ حَسَدُوا هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، بَعَثَ اللَّهُ مِنْهُمْ نَبِيًّا فَحَسَدُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، قَالَ‏:‏ النُّبُوَّةُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ ذَلِكَ الْفَضْلُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ آتَاهُمُوهُ، هُوَ إِبَاحَتُهُ مَا أَبَاحَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ النِّسَاءِ يَنْكِحُ مِنْهُنَّ مَا شَاءَ بِغَيْرِ عَدَدٍ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَإِنَّمَا يَعْنِي‏:‏ بـ ‏"‏ النَّاسِ ‏"‏، مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مَا ذَكَرْتُ قَبْلُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏"‏ الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَالُوا‏:‏ زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ أُوتِيَ مَا أُوتِيَ فِي تَوَاضُعٍ، وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ، لَيْسَ هَمُّهُ إِلَّا النِّكَاحُ ْفَأَيُّ مِلْكٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا‏؟‏ ‏!‏ فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏‏:‏ يَعْنِي‏:‏ مُحَمَّدًا، أَنْ يَنْكِحَ مَا شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏‏:‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا‏:‏ مَا شَأْنُ مُحَمَّدٍ أُعْطِيَ النُّبُوَّةَ كَمَا يَزْعُمُ، وَهُوَ جَائِعٌ عَارٍ، وَلَيْسَ لَهُ هَمٌّ إِلَّا نِكَاحُ النِّسَاءِ‏؟‏‏.‏ فَحَسَدُوهُ عَلَى تَزْوِيجِ الْأَزْوَاجِ، وَأَحَلَّ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ أَنْ يَنْكِحَ مِنْهُنَّ مَا شَاءَ أَنْ يَنْكِحَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، أَنَّ مَعْنَى الْفَضْلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ النُّبُوَّةُ الَّتِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا، وَشَرَّفَ بِهَا الْعَرَبَ، إِذْ آتَاهَا رَجُلًا مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَقْرِيظٌ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَصْحَابِهِ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ‏.‏ وَلَيْسَ النِّكَاحُ وَتَزْوِيجُ النِّسَاءِ- وَإِنْ كَانَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِي آتَاهُ عِبَادَهُ- بِتَقْرِيظٍ لَهُمْ وَمَدْحٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِقَوْلِهِ ‏{‏فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ أَمْ يَحْسُدُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْهُمْ‏؟‏ فَكَيْفَ لَا يَحْسُدُونَ آلَ إِبْرَاهِيمَ فَقَدْ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ فَقَدْ أَعْطَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي‏:‏ أَهْلَهُ وَأَتْبَاعَهُ عَلَى دِينِهِ ‏"‏الْكِتَاب‏"‏ يَعْنِي كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَالزَّبُورِ، وَسَائِرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْكُتُبِ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏الْحِكْمَة‏"‏ فَمَا أَوْحَى إِلَيْهِمْ مِمَّا لَمْ يَكُنْ كِتَابًا مَقْرُوءًا ‏"‏ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ‏"‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى ‏"‏الْمُلْكِ الْعَظِيم‏"‏ الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ النُّبُوَّةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ، قَالَ‏:‏ يَهُودُ ‏"‏ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ، وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا‏:‏ قَالَ‏:‏ النُّبُوَّةُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مُلْكًا‏:‏ النُّبُوَّةُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ ذَلِكَ تَحْلِيلُ النِّسَاءِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ‏:‏ ‏"‏ أَمْ يَحْسُدُونَ مُحَمَّدًا عَلَى مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ، فَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ مِثْلَ الَّذِي أَحَلَّهُ لَهُ مِنْهُنَّ، لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ لَمْ يَحْسُدُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَحَسَدُوا مُحَمَّدًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ-‏؟‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ ‏"‏‏:‏ سُلَيْمَانَ وَدَاوُد‏"‏ الْحِكْمَةَ‏:‏ يَعْنِي النُّبُوَّةَ، ‏"‏وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ‏"‏ فِي النِّسَاءِ، فَمَا بَالُهُ حَلَّ لِأُولَئِكَ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ‏:‏ أَنْ يَنْكِحَ دَاوُدُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ امْرَأَةً، وَيَنْكِحُ سُلَيْمَانُ مِئَةً، وَلَا يَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ أَنْ يَنْكِحَ كَمَا نَكَحُوا‏؟‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا‏"‏ الَّذِي آتَى سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا‏"‏ يَعْنِي مُلْكَ سُلَيْمَانَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ كَانُوا أُيِّدُوا بِالْمَلَائِكَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ‏:‏ ‏"‏وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا‏"‏ قَالَ‏:‏ أُيِّدُوا بِالْمَلَائِكَةِ وَالْجُنُودِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا‏"‏ الْقَوْلُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَعْنِي مُلْكَ سُلَيْمَانَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، دُونَ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ مُلْكُ النُّبُوَّةِ، وَدُونَ قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ تَحْلِيلُ النِّسَاءِ وَالْمِلْكُ عَلَيْهِنَّ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي خُوطِبَ بِهِ الْعَرَبُ غَيْرُ جَائِزٍ تَوْجِيهُهُ إِلَّا إِلَى الْمَعْرُوفِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِمْ مِنْ مَعَانِيهِ، إِلَّا أَنْ تَأْتِيَ دَلَالَةٌ أَوْ تَقُومَ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بِخِلَافِ ذَلِكَ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- فَمِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- ‏{‏‏:‏ ‏"‏آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا‏}‏‏"‏ ‏"‏ مَنْ آمَنَ بِهِ ‏"‏يَقُولُ‏:‏ مَنْ صَدَّقَ بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَى مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، ‏"‏ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ‏"‏ وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهِ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِه‏"‏ قَالَ‏:‏ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنْ يَهُودَ، ‏"‏ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ صَدُّوا عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا حَوَالَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّمَا رُفِعَ عَنْهُمْ وَعِيدُ اللَّهِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏"‏‏}‏ فِي الدُّنْيَا، وَأُخِّرَتْ عُقُوبَتُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِإِيمَانِ مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ، وَأَنَّ الْوَعِيدَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا كَانَ عَلَى مَقَامِ جَمِيعِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا آمَنَ بَعْضُهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدَهُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، وَأُخِّرَتْ عُقُوبَةُ الْمُقِيمِينَ عَلَى التَّكْذِيبِ إِلَى الْآخِرَةِ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ كَفَاكُمْ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا‏"‏ وَحَسْبَكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَى مُحَمَّدٍ نَبِيِّي وَرَسُولِي بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا يَعْنِي‏:‏ بِنَارِ جَهَنَّمَ تُسْعَرُ عَلَيْكُمْ أَيْ‏:‏ تُوقَدُ عَلَيْكُمْ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏"‏سَعِيرًا‏"‏ أَصْلُهُ ‏"‏مَسْعُورًا‏"‏ مَنْ ‏"‏سُعِرَت‏"‏ تُسْعَرُ فَهِيَ مَسْعُورَةٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ التَّكْوِيرِ‏:‏ 12‏]‏، وَلَكِنَّهَا صُرِفَتْ إِلَى ‏"‏فَعِيل‏"‏ كَمَا قِيلَ‏:‏ كَفٌّ خَضِيبٌ، وَلِحْيَةٌ دَهِينٌ، بِمَعْنَى‏:‏ مَخْضُوبَةٌ وَمَدْهُونَةٌ- وَالسَّعِيرُ‏:‏ الْوَقُودُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًاكُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لِلَّذِينِ أَقَامُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ وَبِرَسُولِهِ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ‏:‏ إِنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ آيَاتِي يَعْنِي‏:‏ مِنْ آيَاتِ تَنْزِيلِهِ، وَوَحْيِ كِتَابِهِ وَهِيَ دَلَالَاتُهُ وَحُجَجُهُ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ‏:‏ ‏"‏سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا‏"‏ يَقُولُ‏:‏ سَوْفَ نُنْضِجُهُمْ فِي نَارٍ يُصْلَوْنَ فِيهَا أَيْ يُشْوَوْنَ فِيهَا‏:‏ ‏"‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ‏"‏يَقُولُ‏:‏ كُلَّمَا انْشَوَتْ بِهَا جُلُودُهُمْ فَاحْتَرَقَت‏"‏ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ غَيْرَ الْجُلُودِ الَّتِي قَدْ نَضِجَتْ فَانْشَوَتْ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ إِذَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا بِيضًا أَمْثَالَ الْقَرَاطِيسِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏}‏‏:‏ يَقُولُ‏:‏ كُلَّمَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم‏"‏ قَالَ‏:‏ سَمِعْنَا أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ‏:‏ جِلْدُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَسِنُّهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَبَطْنُهُ لَوْ وُضِعَ فِيهِ جَبَلٌ وَسِعَهُ‏.‏ فَإِذَا أَكَلَتِ النَّارُ جُلُودَهُمْ بُدِّلُوا جُلُودًا غَيْرَهَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ نُنْضِجُهُمْ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَّدَادُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ تُنْضِجُ النَّارُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ أَلْفَ جِلْدٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَغِلَظُ جِلْدِ الْكَافِرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ ذِرَاعٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ فَقَالَ‏:‏ وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏؟‏ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبَدَّلُوا جُلُودًا غَيْرَ جُلُودِهِمُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيُعَذَّبُوا فِيهَا‏؟‏ فَإِنْ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَكَ فَأَجِزْ أَنْ يُبَدَّلُوا أَجْسَامًا وَأَرْوَاحًا غَيْرَ أَجْسَامِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَتُعَذَّبَ، وَإِنْ أَجَزْتَ ذَلِكَ لَزِمَكَ أَنْ يَكُونَ الْمُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ غَيْرَ الَّذِينَ أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ الْعِقَابَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ وَمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَأَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ

قِيلَ‏:‏ إِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الْعَذَابُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، وَإِنَّمَا يَحْرِقُ الْجِلْدَ لِيَصِلَ إِلَى الْإِنْسَانِ أَلَمُ الْعَذَابِ‏.‏ وَأَمَّا الْجِلْدُ وَاللَّحْمُ فَلَا يَأْلَمَانِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَسَوَاءٌ أُعِيدَ عَلَى الْكَافِرِ جِلْدُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ جِلْدٌ غَيْرُهُ؛ إِذْ كَانَتِ الْجُلُودُ غَيْرَ آلِمَةٍ وَلَا مُعَذَّبَةٍ، وَإِنَّمَا الْآلِمَةُ الْمُعَذَّبَةُ النَّفْسُ الَّتِي تُحِسُّ الْأَلَمَ، وَيَصِلُ إِلَيْهَا الْوَجَعُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يُخْلَقَ لِكُلِّ كَافِرٍ فِي النَّارِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَسَاعَةٍ مِنَ الْجُلُودِ مَا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ، وَيُحْرَقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِيَصِلَ إِلَى نَفْسِهِ أَلَمُ الْعَذَابِ إِذْ كَانَتِ الْجُلُودُ لَا تَأْلَمُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلِ الْجُلُودُ تَأْلَمُ وَاللَّحْمُ وَسَائِرُ أَجْزَاءِ جِسْمِ بَنِي آدَمَ‏.‏ وَإِذَا أُحْرِقَ جِلْدُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَجْزَاءِ جَسَدِهِ، وَصَلَ أَلَمُ ذَلِكَ إِلَى جَمِيعِهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏"‏ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَ مُحْتَرِقَةٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا تُعَادُ جَدِيدَةً، وَالْأُولَى كَانَتْ قَدِ احْتَرَقَتْ فَأُعِيدَتْ غَيْرَ مُحْتَرِقَةٍ، فَلِذَلِكَ قِيلَ‏:‏ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ الْجُلُودِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا الَّتِي عَصَوُا اللَّهَ وَهَى لَهُمْ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْعَرَبِ لِلصَّائِغِ إِذَا اسْتَصَغْتَهُ خَاتَمًا مِنْ خَاتَمٍ مَصُوغٍ بِتَحْوِيلِهِ عَنْ صِيَاغَتِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا إِلَى صِيَاغَةٍ أُخْرَى‏:‏ صُغْ لِي مِنْ هَذَا الْخَاتَمِ خَاتَمًا غَيْرَهُ، فَيَكْسِرُهُ وَيَصُوغُ لَهُ مِنْهُ خَاتَمًا غَيْرَهُ، وَالْخَاتَمُ الْمَصُوغِ بِالصِّيَاغَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ الْأَوَّلُ وَلَكِنَّهُ لَمَّا أُعِيدَ بَعْدَ كَسْرِهِ خَاتَمًا قِيلَ‏:‏ هُوَ غَيْرُهُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏}‏‏:‏ لَمَّا احْتَرَقَتِ الْجُلُودُ ثُمَّ أُعِيدَتْ جَدِيدَةً بَعْدَ الِاحْتِرَاقِ قِيلَ‏:‏ هِيَ غَيْرُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ‏:‏ سَرَابِيلُهُمْ، بَدَّلْنَاهُمْ سَرَابِيلَ مِنْ قَطِرَانٍ غَيْرَهَا‏.‏ فَجُعِلَتِ السَّرَابِيلُ مِنَ الْقَطِرَانِ لَهُمْ جُلُودًا كَمَا يُقَالُ لِلشَّيْءِ الْخَاصِّ بِالْإِنْسَانِ‏:‏ هُوَ جِلْدَةُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَوَجْهِهِ؛ لِخُصُوصِهِ بِهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَكَذَلِكَ سَرَابِيلُ الْقَطِرَانِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ‏:‏ ‏{‏سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 50‏]‏ لَمَّا صَارَتْ لَهُمْ لِبَاسًا لَا تُفَارِقُ أَجْسَامَهُمْ جُعِلَتْ لَهُمْ جُلُودًا فَقِيلَ‏:‏ كُلَّمَا اشْتَعَلَ الْقَطِرَانُ فِي أَجْسَامِهِمْ وَاحْتَرَقَ بُدِّلُوا سَرَابِيلَ مِنْ قَطِرَانٍ آخَرَ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَأَمَّا جُلُودُ أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَرِقُ؛ لِأَنَّ فِي احْتِرَاقِهَا إِلَى حَالِ إِعَادَتِهَا فَنَاءَهَا، وَفِي فَنَائِهَا رَاحَتُهَا‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَنْهَا‏:‏ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَجُلُودُ الْكُفَّارِ أَحَدُ أَجْسَامِهِمْ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَفْنَى ثُمَّ يُعَادُ بَعْدَ الْفَنَاءِ فِي النَّارِ جَازَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا‏.‏ وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا عَلَيْهِمِ الْفَنَاءُ، ثُمَّ الْإِعَادَةُ وَالْمَوْتُ، ثُمَّ الْإِحْيَاءُ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَفِي خَبَرِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ أَجْسَامِهِمْ، وَالْجُلُودُ أَحَدُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ‏.‏

وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لِيَذُوقُوا الْعَذَاب‏"‏ فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ لِيَجِدُوا أَلَمَ الْعَذَابِ وَكَرْبَهُ وَشِدَّتَهُ؛ بِمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُكَذِّبُونَ آيَاتِ اللَّهِ وَيَجْحَدُونَهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ ‏"‏عَزِيزًا‏"‏ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ انْتَقَمَ مِنْهُ مِنْ خَلْقِهِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ أَحَدٌ أَرَادَهُ بِضُرٍّ، وَلَا الِانْتِصَارِ مِنْهُ أَحَدٌ أَحَلَّ بِهِ عُقُوبَةً ‏"‏حَكِيمًا‏"‏ فِي تَدْبِيرِهِ وَقَضَائِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏:‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِجَزَاؤُهُمْ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَدَّقُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَائِرِ الْأُمَمِ غَيْرِهِمْ ‏"‏وَعَمِلُوا الصَّالِحَات‏"‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَدَّوْا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ، وَاجْتَنَبُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَاصِيهِ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّالِحُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ‏"‏ ‏{‏سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ سَوْفَ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَنَّاتٍ يَعْنِي بَسَاتِينَ ‏{‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏}‏‏:‏ يَقُولُ‏:‏ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ الْأَنْهَارُ ‏"‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏"‏ يَقُولُ‏:‏ بَاقِينَ فِيهَا أَبَدًا بِغَيْرِ نِهَايَةٍ وَلَا انْقِطَاعٍ، دَائِمًا ذَلِكَ لَهُمْ فِيهَا أَبَدًا ‏"‏لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج‏"‏ يَقُولُ‏:‏ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْجَنَّاتِ الَّتِي وَصَفَ صِفَتَهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ يَعْنِي‏:‏ بَرِيئَاتٌ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَالرَّيْبِ وَالْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْحَبَلِ وَالْبُصَاقِ، وَسَائِرِ مَا يَكُونُ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا‏.‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، وَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا‏"‏ فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا كَنِينًا، كَمَا قَالَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ ‏{‏وَظِلٍّ مَمْدُودٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْوَاقِعَةِ‏:‏ 30‏]‏ وَكَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَا جَمِيعًا‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا الضَّحَّاكِ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ‏:‏ «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِئَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا‏:‏ شَجَرَةُ الْخُلْد»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِهَا وُلَاةُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي مَكِينٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏‏:‏ فِي وُلَاةِ الْأَمْرِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ شَهْرٍ قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ فِي الْأُمَرَاءِ خَاصَّةً ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ قَالَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَلِمَاتٍ أَصَابَ فِيهِنَّ‏:‏ حَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَأَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْمَعُوا، وَأَنْ يُطِيعُوا، وَأَنْ يُجِيبُوا إِذَا دُعُوا‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ مَكْحُولٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏‏:‏ إِلَى آخَرَ الْآيَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ زَيْدٍ قَالَ‏:‏ قَالَ أَبِي‏:‏ هُمُ الْوُلَاةُ، أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ أَمْرُ السُّلْطَانِ بِذَلِكَ‏:‏ أَنْ يَعِظُوا النِّسَاءَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ يَعْنِي السُّلْطَانَ يَعِظُونَ النِّسَاءَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الَّذِي خُوطِبَ بِذَلِكَ- النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، أُمِرَ بِرَدِّهَا عَلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ «نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَبَضَ مِنْهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ، وَدَخَلَ بِهِ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمِفْتَاحَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ فِدَاهُ أَبِي وَأُمِّي، مَا سَمِعْتُهُ يَتْلُوهَا قَبْلَ ذَلِك»

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الزِّنْجِيُّ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الزَّهْرِيِّ قَالَ‏:‏ دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ‏:‏ أَعِينُوهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ هُوَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ وُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَى مَنْ وَلُوا أَمْرَهُ فِي فَيْئِهِمْ وَحُقُوقِهِمْ، وَمَا ائْتُمِنُوا عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ، بِالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فِي الْقَضِيَّةِ، وَالْقَسْمِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ‏.‏ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَعَظَ بِهِ الرَّعِيَّةَ فِي‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏، فَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِمْ، وَأَوْصَى الرَّاعِيَ بِالرَّعِيَّةِ، وَأَوْصَى الرَّعِيَّةَ بِالطَّاعَةِ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَالَ أَبِي‏:‏ هُمُ السَّلَاطِينُ‏.‏ وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 26‏]‏، وَإِنَّمَا نَقُولُ‏:‏ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِي يُطِيفُونَ عَلَى السُّلْطَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَهُمْ فَبَدَأَ بِهِمْ بِالْوُلَاةِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏‏؟‏‏.‏ وَالْأَمَانَاتُ‏:‏ هِيَ الْفَيْءُ الَّذِي اسْتَأْمَنَهُمْ عَلَى جَمْعِهِ وَقَسْمِهِ، وَالصَّدَقَاتُ الَّتِي اسْتَأْمَنَهُمْ عَلَى جَمْعِهَا وَقِسْمِهَا‏.‏ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، الْآيَةَ كُلَّهَا‏.‏ فَأَمَرَ بِهَذَا الْوُلَاةَ‏.‏ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا نَحْنُ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا الَّذِي قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِيهِ، وَأُرِيدَ بِهِ كُلُّ مُؤْتَمَنٍ عَلَى أَمَانَةٍ، فَدَخَلَ فِيهِ وُلَاةُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّ مُؤْتَمَنٍ عَلَى أَمَانَةٍ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا‏.‏ وَلِذَلِكَ قَالَ مَنْ قَالَ‏:‏ عُنِيَ بِهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَرَدُّ حُقُوقِ النَّاسِ كَالَّذِي‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏‏:‏ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ لِمُوسِرٍ وَلَا مُعْسِرٍ أَنْ يُمْسِكَهَا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏‏:‏ عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ أَنَّ «نَبِيَّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ‏"‏»‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا- إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا- إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ يَا مَعْشَرَ وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تُؤَدُّوا مَا ائْتَمَنَتْكُمْ عَلَيْهِ رَعِيَّتُكُمْ مِنْ فَيْئِهِمْ وَحُقُوقِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَصَدَقَاتِهِمْ إِلَيْهِمْ عَلَى مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِأَدَاءِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَنْ هُوَ لَهُ، بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ فِي أَيْدِيكُمْ، لَا تَظْلِمُوهَا أَهْلَهَا، وَلَا تَسْتَأْثِرُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا تَضَعُوا شَيْئًا مِنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا تَأْخُذُوهَا إِلَّا مِمَّنْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُمْ بِأَخْذِهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ فِي أَيْدِيكُمْ، وَيَأْمُرُكُمْ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ رَعِيَّتِكُمْ أَنْ تَحْكُمُوا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ، وَبَيَّنَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، لَا تَعَدُّوا ذَلِكَ فَتَجُورُوا عَلَيْهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ يَا مَعْشَرَ وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ إِنَّ اللَّهَ نِعْمَ الشَّيْءِ يَعِظُكُمْ بِهِ، وَنِعْمَتِ الْعِظَةِ يَعِظُكُمْ بِهَا فِي أَمْرِهِ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَأَنْ تَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ

‏"‏ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا ‏"‏يَقُولُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ سَمِيعًا بِمَا تَقُولُونَ وَتَنْطِقُونَ، وَهُوَ سَمِيعٌ لِذَلِكَ مِنْكُمْ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِمَا تُحَاوِرُونَهُمْ بِه‏"‏ بَصِيرًا ‏"‏ بِمَا تَفْعَلُونَ فِيمَا ائْتَمَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ رَعِيَّتِكُمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَا تَقْضُونَ بِهِ بَيْنَهُمْ مِنْ أَحْكَامِكُمْ‏:‏ بِعَدْلٍ تَحْكُمُونَ أَوْ جَوْرٍ، لَا يُخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، حَافِظٌ ذَلِكَ كُلَّهُ، حَتَّى يُجَازِيَ مُحْسِنَكُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَمُسِيئَكُمْ بِإِسَاءَتِهِ، أَوْ يَعْفُوَ بِفَضْلِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَأَطِيعُوا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ فِي طَاعَتِكُمْ إِيَّاهُ لِرَبِّكُمْ طَاعَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّكُمْ تُطِيعُونَهُ لِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي»‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ذَلِكَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول‏"‏ قَالَ‏:‏ طَاعَةُ الرَّسُولِ اتِّبَاعُ سُنَّتِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ‏:‏ ‏"‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول‏"‏ قَالَ‏:‏ طَاعَةُ الرَّسُولِ‏:‏ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ذَلِكَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، إِنْ كَانَ حَيًّا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ هُوَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ فِي حَيَاتِهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَمَّ بِالْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يَخُصَّ ذَلِكَ مَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي‏:‏ ‏"‏أُولِي الْأَمْرِ ‏"‏ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِطَاعَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُمُ الْأُمَرَاءُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُمُ الْأُمَرَاءُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَاحِ الْبَزَّارُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏‏:‏ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ بَعَثَهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى سَرِيَّةٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسٍ السَّهْمِيِّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي السَّرِيَّةِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ لَيْثٍ قَالَ‏:‏ سَأَلَ مَسْلَمَةُ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَصْحَابُ السَّرَايَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ قَالَ‏.‏ قَالَ أَبِي‏:‏ هُمُ السَّلَاطِينُ‏.‏ قَالَ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، قَالَ أَبِي‏:‏ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الطَّاعَةَ الطَّاعَةَ، وَفِي الطَّاعَةِ بَلَاءٌ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الْأَنْبِيَاء» يَعْنِي‏:‏ لَقَدْ جَعَلْتُ ‏[‏الْأَمْرَ‏]‏ إِلَيْهِمْ-وَالْأَنْبِيَاءُ مَعَهُمْ- أَلَا تَرَى حِينَ حُكِّمُوا فِي قَتْلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا‏؟‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَفِيهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَسَارُوا قِبَلَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ، فَلَمَّا بَلَغُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ عَرَّسُوا، وَأَتَاهُمْ ذُو الْعُيَيْنَتَيْنِ فَأَخْبَرَهُمْ، فَأَصْبَحُوا قَدْ هَرَبُوا غَيْرَ رَجُلٍ أَمَرَ أَهْلَهُ فَجَمَعُوا مَتَاعَهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ حَتَّى أَتَى عَسْكَرَ خَالِدٍ، فَسَأَلَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمَّا سَمِعُوا بِكُمْ هَرَبُوا، وَإِنِّي بَقِيتُ، فَهَلْ إِسْلَامِي نَافِعِي غَدًا، وَإِلَّا هَرَبَتْ‏؟‏ قَالَ عَمَّارٌ‏:‏ بَلْ هُوَ يَنْفَعُكَ، فَأَقِمْ، فَأَقَامَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَغَارَ خَالِدٌ فِلَمْ يَجِدْ أَحَدًا غَيْرَ الرَّجُلِ، فَأَخَذَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ‏.‏ فَبَلَغَ عَمَّارًا الْخَبَرُ، فَأَتَى خَالِدًا فَقَالَ‏:‏ خَلِّ عَنِ الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ، وَهُوَ فِي أَمَانٍ مِنِّي‏.‏ فَقَالَ خَالِدٌ‏:‏ وَفِيمَ أَنْتَ تُجِيرُ‏؟‏ فَاسْتَبَّا وَارْتَفَعَا إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَجَازَ أَمَانَ عَمَّارٍ، وَنَهَاهُ أَنْ يُجِيرَ الثَّانِيَةَ عَلَى أَمِيرٍ‏.‏ فَاسْتَبَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ خَالِدٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَتْرُكُ هَذَا الْعَبْدَ الْأَجْدَعَ يَسُبُّنِي‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ يَا خَالِدُ لَا تَسُبَّ عَمَّارًا؛ فَإِنَّهُ مَنْ سَبَّ عَمَّارًا سَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَ عَمَّارًا أَبْغَضَهُ اللَّهُ، وَمَنْ لَعَنَ عَمَّارًا لَعَنَهُ اللَّهُ‏.‏ فَغَضِبَ عَمَّارٌ فَقَامَ، فَتَبِعَهُ خَالِدٌ حَتَّى أَخَذَ بِثَوْبِهِ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَرَضِيَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ – تَعَالَى- قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ‏"‏‏.‏»

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، قَالَ‏:‏ أُولِي الْفِقْهِ مِنْكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، قَالَ‏:‏ أُولِي الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ‏:‏ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، قَالَ‏:‏ أُولِي الْفِقْهِ فِي الدِّينِ وَالْعَقْلِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏‏:‏ يَعْنِي أَهْلَ الْفِقْهِ وَالدِّينِ‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، قَالَ‏:‏ أَهْلُ الْعِلْمِ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ أُولِي الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ‏:‏ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، قَالَ‏:‏ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، قَالَ‏:‏ هُمُ الْعُلَمَاءُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ‏:‏ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، قَالَ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، قَالَ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 83‏]‏‏؟‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ‏:‏ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ وَرُبَّمَا قَالَ‏:‏ أُولِي الْعَقْلِ وَالْفِقْهِ وَدِينِ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ لِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْأَمْرِ بِطَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فِيمَا كَانَ ‏[‏لِلَّهِ‏]‏ طَاعَةً، وَلِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةً، كَالَّذِي‏:‏-

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ‏:‏ «سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلَاةٌ، فَيَلِيكُمُ الْبَرُّ بِبِرِّهِ وَالْفَاجِرُ بِفُجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَصَلُّوا وَرَاءَهُمْ، فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِم»‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ‏:‏ «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ الطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَمَنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا طَاعَة»‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي خَالِدٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَهُ‏.‏

فَإِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا طَاعَةَ وَاجِبَةً لِأَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ إِمَامٍ عَادِلٍ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ ‏"‏ بِطَاعَةِ ذَوِي أَمْرِنَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الَّذِينَ أَمَرَ بِطَاعَتِهِمْ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مِنْ ذَوِي أَمْرِنَا هُمُ الْأَئِمَّةُ وَمَنْ وَلَّوْهُ الْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ فَرْضًا الْقَبُولُ مِنْ كُلِّ مَنْ أَمَرَ بِتَرْكِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَدَعَا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا طَاعَةَ تَجِبُ لِأَحَدٍ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى فِيمَا لَمْ تَقُمْ حُجَّةُ وُجُوبِهِ إِلَّا لِلْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَلْزَمَ اللَّهُ عِبَادَهُ طَاعَتَهُمْ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ رَعِيَّتَهُمْ مِمَّا هُوَ مَصْلَحَةٌ لِعَامَّةِ الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ عَلَى مَنْ أَمَرُوهُ بِذَلِكَ طَاعَتَهُمْ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ مَعْصِيَةً‏.‏

وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ صِحَّةُ مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ دُونَ غَيْرِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ- أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ أَنْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، أَوْ أَنْتُمْ وَوُلَاةُ أَمْرِكُمْ، فَاشْتَجَرْتُمْ فِيهِ ‏"‏فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه‏"‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ فَارْتَادُوا مَعْرِفَةَ حُكْمِ ذَلِكَ الَّذِي اشْتَجَرْتُمْ أَنْتُمْ بَيْنَكُمْ، أَوْ أَنْتُمْ وَأُولُو أَمْرِكُمْ فِيهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَاتَّبِعُوا مَا وَجَدْتُمْ‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَالرَّسُول‏"‏ فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا إِلَى عِلْمٍ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ سَبِيلًا فَارْتَادُوا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ – أَيْضًا- مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَمِنْ سُنَّتِهِ، ‏"‏إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر‏"‏ يَقُولُ‏:‏ افْعَلُوا ذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يَعْنِي‏:‏ بِالْمَعَادِ الَّذِي فِيهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَكُمْ مِنَ اللَّهِ الْجَزِيلُ مِنَ الثَّوَابِ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَلَكُمُ الْأَلِيمُ مِنَ الْعِقَابِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَإِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ رُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏.‏ قَالَ يَقُولُ‏:‏ فَرُدُّوهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ‏.‏

ثُمَّ قَرَأَ مُجَاهِدٌ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 83‏]‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، قَالَ‏:‏ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، قَالَ‏:‏ ‏"‏إِلَى اللَّهِ ‏"‏‏:‏ إِلَى كِتَابِهِ، وَإِلَى‏"‏ الرَّسُولِ ‏"‏‏:‏ إِلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ لَيْثٍ، قَالَ‏:‏ سَأَلَ مَسْلَمَةُ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ قَالَ‏:‏ اللَّهُ‏:‏ كِتَابُهُ، وَرَسُولُهُ‏:‏ سُنَّتُهُ، فَكَأَنَّمَا أَلْقَمَهُ حَجَرًا‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مَرْوَانَ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى رَسُولِهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، فَإِنْ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَالرَّدُّ إِلَى السُّنَّةِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ رُدُّوهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏‏:‏ إِنْ كَانَ الرَّسُولُ حَيًّا، وَإِلَى اللَّهِ قَالَ‏:‏ إِلَى كِتَابِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ ذَلِكَ، فَرَدُّ مَا تَنَازَعْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي مَعَادِكُمْ، وَأَصْلُحُ لَكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْعُوكُمْ إِلَى الْأُلْفَةِ وَتَرْكِ التَّنَازُعِ وَالْفُرْقَةِ ‏"‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏"‏ يَعْنِي‏:‏ وَأَحْمَدُ مَوْئِلًا وَمَغَبَّةً، وَأَجْمَلُ عَاقِبَةً‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ ‏"‏التَّأْوِيلَ ‏"‏‏:‏ ‏"‏ التَّفْعِيلُ ‏"‏مِنْ تَأَوَّلَ، وَأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏ تَأَوَّلَ ‏"‏ تَفَعَّل‏"‏ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ آلَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَى كَذَا أَيْ‏:‏ رَجَعَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، قَالَ‏:‏ أَحْسَنُ جَزَاءً‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، يَقُولُ‏:‏ ذَلِكَ أَحْسَنُ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عَاقِبَةً‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا قَالَ‏:‏ عَاقِبَةً‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، قَالَ‏:‏ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالتَّأْوِيلُ‏:‏ التَّصْدِيقُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ أَلَمْ تَرَ يَا مُحَمَّدُ بِقَلْبِكَ فَتَعْلَمَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ صَدَّقُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ، وَإِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَلْبِكَ مِنَ الْكُتُبِيُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا فِي خُصُومَتِهِمْ إِلَى الطَّاغُوتِحُكْمُهُمْ يَعْنِي إِلَى‏:‏ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ، وَيَصْدُرُونَ عَنْ قَوْلِهِ، وَيَرْضَوْنَ بِحُكْمِهِ مَنْ دُونِ حُكْمِ اللَّهِ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، يَقُولُ‏:‏ وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُكَذِّبُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ الطَّاغُوتُ الَّذِي يَتَحَاكَوْنَ إِلَيْهِ، فَتَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ الشَّيْطَانِ‏.‏ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا، يَعْنِي‏:‏ أَنَّ الشَّيْطَانَ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى الطَّاغُوتِ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَالْهُدَى فَيُضِلَّهُمْ عَنْهَا ضَلَالًا بَعِيدًا يَعْنِي‏:‏ فَيَجُورُ بِهِمْ عَنْهَا جَوْرًا شَدِيدًا‏.‏

وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ دَعَا رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ فِي خُصُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا إِلَى بَعْضِ الْكُهَّانِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ وَرَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ خُصُومَةٌ فَكَانَ الْمُنَافِقُ يَدْعُو إِلَى الْيَهُودِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ الرِّشْوَةَ، وَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَدْعُو إِلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ الرِّشْوَةَ‏.‏ فَاصْطَلَحَا أَنْ يَتَحَاكَمَا إِلَى كَاهِنٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏‏"‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ‏"‏حَتَّى بَلَغ‏"‏ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏"‏‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏‏:‏ فَذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏ وَزَادَ فِيهِ‏:‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْك‏"‏ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ ‏"‏وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك‏"‏ يَعْنِي الْيَهُودَ ‏"‏يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت‏"‏ يَقُولُ‏:‏ إِلَى الْكَاهِنِ ‏"‏وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِه‏"‏ أُمِرَ هَذَا فِي كِتَابِهِ، وَأُمِرَ هَذَا فِي كِتَابِهِ أَنْ يَكْفُرَ بِالْكَاهِنِ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ‏:‏ كَانَتْ بَيْنَ رَجُلٍ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ خُصُومَةٌ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ‏:‏ أُحَاكِمُكَ إِلَى أَهْلِ دِينِكَ أَوْ قَالَ‏:‏ إِلَى النَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ، فَاخْتَلَفَا، فَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْتِيَا كَاهِنًا فِي جُهَيْنَةَ قَالَ‏:‏ فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ‏"‏‏}‏ يَعْنِي‏:‏ الَّذِي مِنَ الْأَنْصَارِ، ‏"‏وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك‏"‏ يَعْنِي‏:‏ الْيَهُودِيُّ ‏"‏يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ‏"‏‏:‏ إِلَى الْكَاهِن‏"‏ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ‏"‏يَعْنِي‏:‏ أُمِرَ هَذَا فِي كِتَابِهِ، وَأُمِرَ هَذَا فِي كِتَابِهِ‏.‏ وَتَلَا ‏"‏ ‏{‏وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا‏}‏ ‏"‏‏.‏ وَقَرَأَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏‏"‏ إِلَى ‏"‏ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ زَعَمَ حَضْرَمِيٌّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، فَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ مُدَارَأَةٌ فِي حَقٍّ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ لَهُ‏:‏ انْطَلِقْ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ سَيَقْضِي عَلَيْهِ، قَالَ‏:‏ فَأَبَى، فَانْطَلَقَا إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْكُهَّانِ فَتَحَاكَمَا إِلَيْهِ‏.‏ قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏‏:‏ الْآيَةَ حَتَّى بَلَغَ ‏"‏ضَلَالًا بَعِيدًا ‏"‏، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ‏:‏ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ بِشَرٌ، وَفِي رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ فِي مُدَارَأَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا فِي حَقٍّ، فَتَدَارَءَا بَيْنَهُمَا، فَتَنَافَرَا إِلَى كَاهِنٍ بِالْمَدِينَةِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا، وَتَرَكَا نَبِيَّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَعَابَ اللَّهُ-عَزَّ وَجَلَّ – ذَلِكَ‏.‏ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْيَهُودِيَّ كَانَ يَدْعُوهُ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَنْ يَجُورَ عَلَيْهِ‏.‏ فَجَعَلَ الْأَنْصَارِيُّ يَأْبَى عَلَيْهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الْكَاهِنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا تَسْمَعُونَ، فَعَابَ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَعَلَى الْيَهُودِيِّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ‏"‏‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ صُدُودًا ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ‏"‏‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ أَسْلَمُوا وَنَافَقَ بَعْضُهُمْ، وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ قَتَلَتْهُ بَنُو قُرَيْظَةَ، قَتَلُوا بِهِ مِنْهُمْ‏.‏ فَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَتَلَتْهُ النَّضِيرُ أَعْطَوْا دِيَتَهُ سِتِّينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ‏.‏ «فَلَمَّا أَسْلَمَ نَاسٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَتَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ النَّضِيرِيُّ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نُعْطِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الدِّيَةَ فَنَحْنُ نُعْطِيهِمُ الْيَوْمَ ذَلِكَ‏.‏ فَقَالَتْ قُرَيْظَةُ‏:‏ لَا وَلَكِنَّا إِخْوَانُكُمْ فِي النَّسَبِ وَالدِّينِ، وَدِمَاؤُنَا مِثْلُ دِمَائِكُمْ، وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يُعَيِّرُهُمْ بِمَا فَعَلُوا فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 54‏]‏، فَعَيَّرَهُمْ، » ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ النَّضِيرِيُّ‏:‏ كُنَّا نُعْطِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ وَسْقًا، وَنَقْتُلُ مِنْهُمْ وَلَا يَقْتُلُونَا، فَقَالَ ‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وَأَخَذَ النَّضِيرِيُّ فَقَتَلَهُ بِصَاحِبِهِ، فَتَفَاخَرَتْ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ، فَقَالَتِ النَّضِيرُ‏:‏ نَحْنُ أَكْرَمُ مِنْكُمْ، وَقَالَتْ قُرَيْظَةُ‏:‏ نَحْنُ أَكْرَمُ مِنْكُمْ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ إِلَى أَبِي بُرْدَةَ الْكَاهِنِ الْأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ الْمُنَافِقُ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ‏:‏ انْطَلِقُوا إِلَى أَبِي بُرْدَةَ يُنَفِّرُ بَيْنَنَا‏.‏ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ‏:‏ لَا بَلِ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنَفِّرُ بَيْنَنَا، فَتَعَالَوْا إِلَيْهِ، فَأَبَى الْمُنَافِقُونَ، وَانْطَلَقُوا إِلَى أَبِي بُرْدَةَ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ‏:‏ أَعْظِمُوا اللُّقْمَةَ يَقُولُ‏:‏ أَعْظِمُوا الْخَطَرَ، فَقَالُوا‏:‏ لَكَ عَشَرَةُ أَوَسَاقٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ لَا بَلْ مِئَةُ وَسْقٍ دِيَّتِي، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ أُنَفِّرَ النَّضِيرَ فَتَقْتُلُنِي قُرَيْظَةُ، أَوْ أُنَفِّرُ قُرَيْظَةَ فَتَقْتُلُنِي النَّضِيرُ، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَوَسَاقٍ، وَأَبَى أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ-‏:‏ ‏"‏يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت‏"‏ وَهُوَ أَبُو بُرْدَةَ ‏"‏وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِه‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏"‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الطَّاغُوتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ‏}‏‏:‏ وَالطَّاغُوتُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ كَانَ يُقَالُ لَهُ‏:‏ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانُوا إِذَا مَا دُعَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ قَالُوا‏:‏ بَلْ نُحَاكِمُكُمْ إِلَى كَعْبٍ فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت‏"‏ الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبِلَكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ تَنَازَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُ‏:‏ اذْهَبْ بِنَا إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَقَالَ الْيَهُودِيُّ‏:‏ اذْهَبْ بِنَا إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ اللَّهُ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى-‏:‏ ‏"‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُون‏"‏ الْآيَةَ، وَالَّتِي تَلِيهَا فِيهِمْ أَيْضًا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ‏"‏، فَذَكَرَ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَقَالَ الْيَهُودِيُّ‏:‏ اذْهَبْ بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ‏"‏‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ضَلَالًا بَعِيدًا‏"‏ قَالَ‏:‏ كَانَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ أَحَدُهُمْ مُؤْمِنٌ وَالْآخَرُ مُنَافِقٌ، فَدَعَاهُ الْمُؤْمِنُ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَعَاهُ الْمُنَافِقُ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ‏}‏ قَالَ‏:‏ تَنَازَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ‏:‏ اذْهَبْ بِنَا إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَقَالَ الْمُؤْمِنُ‏:‏ اذْهَبْ بِنَا إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ صُدُودًا‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، قَالَ‏:‏ الْقُرْآنُ‏.‏ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، قَالَ‏:‏ التَّوْرَاةُ‏.‏ قَالَ‏:‏ يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُنَافِقِ الْحَقُّ، فَيَدْعُوهُ الْمُسْلِمُ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُحَاكِمَهُ إِلَيْهِ، فَيَأْبَى الْمُنَافِقُ وَيَدْعُوهُ إِلَى الطَّاغُوتِ‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ الطَّاغُوتُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ‏"‏‏:‏ هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الطَّاغُوتِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ أَلَمْ تَرَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَإِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا هَلُمُّوا إِلَى حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ، وَإِلَى الرَّسُولِ لِيَحْكُمَ بَيْنَنَا رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ يَمْتَنِعُونَ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْكَ لِتَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَيَمْنَعُونَ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْكَ كَذَلِكَ غَيْرَهُمْ ‏"‏ صُدُودًا ‏"‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي ذَلِكَ بِمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ‏}‏ قَالَ‏:‏ دَعَا الْمُسْلِمُ الْمُنَافِقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَحْكُمَ، قَالَ‏:‏ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا‏.‏

وَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الدَّاعِيَ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْيَهُودِيَّ، وَالْمَدْعُوَّ إِلَيْهِ الْمُنَافِقَ عَلَى مَا ذَكَرْتُ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ فَإِنَّهُ عَلَى مَا بَيَّنْتُ قَبْلُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ‏"‏إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَة‏"‏ يَعْنِي‏:‏ إِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ نِقْمَةٌ مِنَ اللَّهِ ‏"‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم‏"‏ يَعْنِي‏:‏ بِذُنُوبِهِمُ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ، ‏"‏ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كَذِبًا وَزُورًا‏"‏ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏"‏‏.‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ لَا يَرْدَعُهُمْ عَنِ النِّفَاقِ الْعِبَرُ وَالنِّقَمُ، وَأَنَّهُمْ إِنْ تَأْتِهِمْ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى تَحَاكُمِهِمْ إِلَى الطَّاغُوتِ لَمْ يُنِيبُوا وَلَمْ يَتُوبُوا، وَلَكِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كَذِبًا وَجُرْأَةً عَلَى اللَّهِ مَا أَرَدْنَا بِاحْتِكَامِنَا إِلَيْهِ إِلَّا الْإِحْسَانَ مِنْ بَعْضِنَا إِلَى بَعْضٍ، وَالصَّوَابَ فِيمَا احْتَكَمْنَا فِيهِ إِلَيْهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ أُولَئِكَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ صِفَتَهُمْ ‏"‏يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِم‏"‏ فِي احْتِكَامِهِمْ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَتَرْكِهِمُ الِاحْتِكَامَ إِلَيْكَ، وَصُدُودِهِمْ عَنْكَ مِنَ النِّفَاقِ وَالزَّيْغِ، وَإِنْ حَلَفُوا بِاللَّهِ مَا أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏"‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فَدَعْهُمْ فَلَا تُعَاقِبْهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ بِتَخْوِيفِكَ إِيَّاهُمْ بَأْسَ اللَّهِ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ، وَعُقُوبَتَهُ أَنْ تَنْزِلَ بِدَارِهِمْ، وَحَذِّرْهُمْ مِنْ مَكْرُوهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّكِّ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ‏.‏‏"‏ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مُرْهُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ وَلَمْ نُرْسِلْ يَا مُحَمَّدُ رَسُولًا إِلَّا فَرَضْتُ طَاعَتَهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْهِ‏.‏ يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-‏:‏ فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ فَرَضْتُ طَاعَتَهُمْ عَلَى مَنْ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْهِ‏.‏

وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ اللَّهِ تَوْبِيخٌ لِلْمُحْتَكِمِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا اخْتَصَمُوا فِيهِ إِلَى الطَّاغُوتِ صُدُودًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏.‏ يَقُولُ لَهُمْ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-‏:‏ مَا أَرْسَلْتُ رَسُولًا إِلَّا فَرَضْتُ طَاعَتَهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْهِ فَمُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أُولَئِكَ الرُّسُلِ، فَمَنْ تَرَكَ طَاعَتَهُ وَالرِّضَى بِحُكْمِهِ وَاحْتَكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرِي، وَضَيَّعَ فَرْضِي‏.‏

ثُمَّ أَخْبَرَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّ مَنْ أَطَاعَ رُسُلَهُ فَإِنَّمَا يُطِيعُهُمْ بِإِذْنِهِ، يَعْنِي بِتَقْدِيرِهِ ذَلِكَ وَقَضَائِهِ السَّابِقِ فِي عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه‏"‏ وَاجِبٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا يُطِيعَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنَّمَا هَذَا تَعْرِيضٌ مِنَ اللَّهِ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ تَرْكَهُمْ طَاعَةَ اللَّهِ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ وَالرِّضَى بِحُكْمِهِ إِنَّمَا هُوَ لِلسَّابِقِ لَهُمْ مِنْ خِذْلَانِهِ وَغَلَبَةِ الشَّقَاءِ عَلَيْهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا مِمَّنْ أَذِنَ لَهُ فِي الرِّضَى بِحُكْمِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى طَاعَتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-‏:‏ وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، الَّذِينَ إِذَا دُعَوْا إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ صَدُّوا صُدُودًا ‏"‏إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم‏"‏ بِاكْتِسَابِهِمْ إِيَّاهَا الْعَظِيمَ مِنَ الْإِثْمِ فِي احْتِكَامِهِمْ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَصُدُودِهِمْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ إِذَا دُعَوْا إِلَيْهَا ‏"‏جَاءُوك‏"‏ يَا مُحَمَّدُ، حِينَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ مَصِيرِهِمْ إِلَى الطَّاغُوتِ رَاضِينَ بِحُكْمِهِ دُونَ حُكْمِكَ جَاءُوكَ تَائِبِينَ مُنِيبِينَ، فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَصْفَحَ لَهُمْ عَنْ عُقُوبَةِ ذَنْبِهِمْ بِتَغْطِيَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَسَأَلَ لَهُمُ اللَّهَ رَسُولُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا‏"‏ فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ لَوْ كَانُوا فَعَلُوا ذَلِكَ فَتَابُوا مِنْ ذَنْبِهِمْ ‏"‏لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا‏"‏ يَقُولُ‏:‏ رَاجِعًا لَهُمْ مِمَّا يَكْرَهُونَ إِلَى مَا يُحِبُّونَ ‏"‏رَحِيمًا‏"‏ بِهِمْ فِي تَرْكِهِ عُقُوبَتَهُمْ عَلَى ذَنْبِهِمُ الَّذِي تَابُوا مِنْهُ‏.‏

وَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ عُنِيَ بِذَلِكَ الْيَهُودِيُّ وَالْمُسْلِمُ اللَّذَانِ تَحَاكَمَا إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ ‏"‏وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏"‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ هَذَا فِي الرَّجُلِ الْيَهُودِيِّ وَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ اللَّذَيْنِ تَحَاكَمَا إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَلَا‏"‏ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَهُمْ يَتَحَاكَمُونَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَيَصُدُّونَ عَنْكَ إِذَا دُعَوْا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ وَاسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ- جُلَّ ذِكْرُهُ- فَقَالَ‏:‏ ‏"‏وَرَبِّك‏"‏ يَا مُحَمَّدُ ‏"‏لَا يُؤْمِنُون‏"‏ أَيْ‏:‏ لَا يُصَدِّقُونَ بِي وَبِكَ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ‏"‏حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم‏"‏ يَقُولُ‏:‏ حَتَّى يَجْعَلُوكَ حَكَمًا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَطَ بَيْنَهُمْ مِنْ أُمُورِهِمْ، فَالْتَبَسَ عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ‏.‏ يُقَالُ‏:‏ شَجَرَ يَشْجُرُ شُجُورًا وَشَجْرًا، وَتَشَاجَرَ الْقَوْمُ‏:‏ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الْكَلَامِ وَالْأَمْرِ مُشَاجَرَةً وَشِجَارًا‏.‏

‏"‏ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ضِيقًا مِمَّا قَضَيْتَ‏.‏ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ‏:‏ ثُمَّ لَا تُحْرَجُ أَنْفُسُهُمْ مِمَّا قَضَيْتَ أَيْ‏:‏ لَا تَأْثَمُ بِإِنْكَارِهَا مَا قَضَيْتَ، وَشَكِّهَا فِي طَاعَتِكَ، وَأَنَّ الَّذِي قَضَيْتَ بِهِ بَيْنَهُمْ حَقٌّ لَا يَجُوزُ لَهُمْ خِلَافُهُ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏"‏حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت‏"‏ قَالَ‏:‏ شَكًّا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت‏"‏ يَقُولُ‏:‏ شَكًّا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ‏}‏ قَالَ‏:‏ إِثْمًا ‏"‏وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏"‏ يَقُولُ‏:‏ وَيُسَلِّمُوا لِقَضَائِكَ وَحُكْمِكَ إِذْعَانًا مِنْهُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِقْرَارًا لَكَ بِالنُّبُوَّةِ تَسْلِيمًا‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيمَنْ نَزَلَتْ‏؟‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ نَزَلَتْ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَخَصْمٍ لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ الْأُمُورِ‏.‏

ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي يُونُسُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ‏:‏ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، «عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ‏:‏ أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شِرَاجٍ مِنَ الْحَرَّةِ كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كَلَأَهُمَا النَّخْلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ‏:‏ سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرَّ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ‏؟‏ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ‏:‏ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ‏.‏ وَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ‏.‏» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ اسْتَوْعَبَ‏.‏ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ أَرَادَ فِيهِ الشَّفَقَةَ لَهُ وَلِلْأَنْصَارِيِّ‏.‏ فَلَمَّا أَحْفَظَ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْأَنْصَارِيُّ اسْتَوْعَبَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ، قَالَ فَقَالَ الزُّبَيْرُ‏:‏ مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِلَّا فِي ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزَّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ‏:‏ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شَرْجٍ مِنْ شِرَاجِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ يَا زُبَيْرُ، أَشْرِبْ، ثُمَّ خَلِّ سَبِيلَ الْمَاءِ، فَقَالَ الَّذِي مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ‏:‏ اعْدِلْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، قَالَ‏:‏ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى عَرَفَ أَنْ قَدْ سَاءَهُ مَا قَالَ‏:‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا زُبَيْرُ، احْبِسِ الْمَاءَ إِلَى الْجَدْرِ أَوْ‏:‏ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ خَلِّ سَبِيلَ الْمَاءِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ الرَّازِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِأُمِّ سَلَمَةَ، «عَنْأُمِّ سَلَمَةَ‏:‏ أَنَّ الزُّبَيْرَ خَاصَمَ رَجُلًا إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَضَى النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلزُّبَيْرِ، فَقَالَ الرَّجُلُ لَمَّا قَضَى لِلزُّبَيْرِ‏:‏ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ ‏"‏‏.‏»

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِ وَالْيَهُودِيِّ اللَّذَيْنِ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ قَالَ‏:‏ هَذَا الرَّجُلُ الْيَهُودِيُّ وَالرَّجُلُ الْمُسْلِمُ اللَّذَانِ تَحَاكَمَا إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِلَى الْكَاهِنِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الْقَوْلُ- أَعْنِي قَوْلَ مَنْ قَالَ عُنِيَ بِهِ الْمُحْتَكِمَانِ إِلَى الطَّاغُوتِ اللَّذَانِ وَصَفَ اللَّهَ شَأْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِكَ‏}‏ ‏"‏- أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ‏"‏ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ الَّذِينَ ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏‏:‏ وَلَا دَلَالَةَ تَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ قِصَّتِهِمْ، فَإِلْحَاقُ بَعْضِ ذَلِكَ بِبَعْضٍ، مَا لَمْ تَأْتِ دَلَالَةٌ عَلَى انْقِطَاعِهِ أُولَى‏.‏

فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ فِي الَّذِي رُوِيَ عَنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ قِصَّتِهِ وَقِصَّةِ الْأَنْصَارِيِّ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي خَبَرِهِمَا‏:‏ فَنَزَلَتْ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏ مَا يُنْبِئُ عَنِ انْقِطَاعِ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقِصَّتِهَا مِنْ قِصَّةِ الْآيَاتِ قَبْلَهَا، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الْمُحْتَكِمِينَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَيَكُونُ فِيهَا بَيَانُ مَا احْتَكَمَ فِيهِ الزُّبَيْرُ وَصَاحِبُهُ الْأَنْصَارِيُّ إِذْ كَانَتِ الْآيَةُ دَلَالَةً دَالَّةً وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ كَانَ إِلْحَاقُ مَعْنَى بَعْضِ ذَلِكَ بِبَعْضٍ أَوْلَى مَا دَامَ الْكَلَامُ مُتَّسِقَةٌ مَعَانِيهِ عَلَى سِيَاقٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنْ تَأْتِيَ دَلَالَةٌ عَلَى انْقِطَاعِ بَعْضِ ذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ، فَيُعْدَلُ بِهِ عَنْ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَيُسَلِّمُوا‏"‏ فَإِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ‏"‏‏}‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِم‏"‏ نُصِبَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ‏"‏‏.‏