فصل: تفسير الآية رقم (27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا وَصْفٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُضِلُّ بِالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لِأَهْلِ النِّفَاقِ غَيْرَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ وَمَا يُضِلُّ اللَّهُ بِالْمَثَلِ الَّذِي يَضْرِبُهُ- عَلَى مَا وَصَفَ قَبْلُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ- إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي مَعْنَى الْعَهْدِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ بِنَقْضِهِ‏:‏-

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ وَصِيَّةُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ، وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَنَهْيِهِ إِيَّاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، فِي كُتُبِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ، تَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي كَفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ، وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ‏}‏، وَبِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏‏.‏ فَكُلُّ مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَعَذْلٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ إِلَى انْقِضَاءِ قَصَصِهِمْ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَعَهْدُ اللَّهِ الَّذِي نَقَضُوهُ بَعْدَ مِيثَاقِهِ، هُوَ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ- مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا، وَاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بُعِثَ، وَالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ‏.‏ وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ، هُوَ جُحُودُهُمْ بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِيقَتِهِ، وَإِنْكَارِهِمْ ذَلِكَ، وَكِتْمَانِهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ النَّاسَ، بَعْدَ إِعْطَائِهِمُ اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْمِيثَاقَ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ‏.‏ فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ‏.‏ وَعَهْدُهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ فِي تَوْحِيدِهِ‏:‏ مَا وَضَعَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ‏.‏ وَعَهْدُهُ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ‏:‏ مَا احْتَجَّ بِهِ لِرُسُلِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرُهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا، الشَّاهِدَةِ لَهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ، تَرْكُهُمُ الْإِقْرَارَ بِمَا قَدْ تَبَيَّنَتْ لَهُمْ صِحَّتُهُ بِالْأَدِلَّةِ، وَتَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا أُتُوا بِهِ حَقٌّ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الْعَهْدُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ، هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، الَّذِي وَصَفَهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏]‏‏.‏ وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ، تَرَكَهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِنْ بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَنْ كَانَ عَلَى شِرْكِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ الَّذِينَ قَدْ بَيَّنَّا قِصَصَهُمْ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ‏}‏، وَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏، فِيهِمْ أُنْزِلَتْ، وَفِيمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ‏.‏ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ عِنْدِي، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِمْ نَزَلَتْ، فَإِنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى مَثَلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَمَعْنِيٌّ بِمَا وَافَقَ مِنْهَا صِفَةَ الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً، جَمِيعَ الْمُنَافِقِينَ، وَبِمَا وَافَقَ مِنْهَا صِفَةَ كُفَّارِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، جَمِيعَ مَنْ كَانَ لَهُمْ نَظِيرًا فِي كُفْرِهِمْ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَعُمُّ أَحْيَانًا جَمِيعَهُمْ بِالصِّفَةِ، لِتَقْدِيمِهِ ذِكْرَ جَمِيعِهِمْ فِي أَوَّلِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَتْ قَصَصَهُمْ، وَيَخُصُّ أَحْيَانًا بِالصِّفَةِ بَعْضَهُمْ، لِتَفْصِيلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَاتِ بَيْنَ فَرِيقَيْهِمْ، أَعْنِي‏:‏ فَرِيقَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَفَرِيقَ كَفَّارِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ‏.‏ فَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ، هُمُ التَّارِكُونَ مَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَبْيِينَ نُبُوَّتِهِ لِلنَّاسِ، الْكَاتِمُونَ بَيَانَ ذَلِكَ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَبِمَا قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 187‏]‏، وَنَبْذُهُمْ ذَلِكَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، هُوَ نَقْضُهُمُ الْعَهْدَ الَّذِي عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَتَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِهِ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْتُ‏:‏ إِنَّهُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَنْ قُلْتُ إِنَّهُ عَنَى بِهَا، لِأَنَّ الْآيَاتِ- مِنْ مُبْتَدَأِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ وَالسِّتِّ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ- فِيهِمْ نَزَلَتْ، إِلَى تَمَامِ قِصَصِهِمْ‏.‏ وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ الْخَبَرِ عَنْ خَلْقِ آدَمَ وَبَيَانِهِ فِي قَوْلِهِ‏.‏ ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وَخِطَابُهُ إِيَّاهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ بِالْوَفَاءِ فِي ذَلِكَ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْبَشَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏}‏ مَقْصُودٌ بِهِ كُفَّارُهُمْ وَمُنَافِقُوهُمْ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ عَلَى ضَلَالِهِمْ‏.‏ غَيْرَ أَنَّ الْخِطَابَ- وَإِنْ كَانَ لِمَنْ وَصَفْتُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ- فَدَاخِلٌ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَفِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ وَالذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ، كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِهِمْ وَمِنْهَاجِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَأَصْنَافِ الْأُمَمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ‏.‏

فَمَعْنَى الْآيَةِ إِذًا‏:‏ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا التَّارِكِينَ طَاعَةَ اللَّهِ، الْخَارِجِينَ عَنِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، النَّاكِثِينَ عُهُودَ اللَّهِ الَّتِي عَهِدَهَا إِلَيْهِمْ، فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا إِلَى رُسُلِهِ وَعَلَى أَلْسُنِ أَنْبِيَائِهِ، بِاتِّبَاعِ أَمْرِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَطَاعَةَ اللَّهِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ تَبْيِينِ أَمْرِهِ لِلنَّاسِ، وَإِخْبَارِهِمْ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُفْتَرَضَةٌ طَاعَتُهُ، وَتَرْكُ كِتْمَانِ ذَلِكَ لَهُمْ‏.‏ وَنَكْثُهُمْ ذَلِكَ وَنَقْضُهُمْ إِيَّاهُ، هُوَ مُخَالَفَتُهُمَ اللَّهَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِمْ- فِيمَا وَصَفْتُ أَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِمْ- بَعْدَ إِعْطَائِهِمْ رَبَّهُمُ الْمِيثَاقَ بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ‏.‏ كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَبُّنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ‏}‏‏.‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 169‏]‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ مِنْ بَعْدِ تَوَثُّقِ اللَّهِ فِيهِ، بِأَخْذِ عُهُودِهِ بِالْوَفَاءِ لَهُ، بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ‏.‏ غَيْرَ أَنَّ التَّوَثُّقَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ‏:‏ تَوَثَّقْتُ مِنْ فُلَانٍ تَوَثُّقًا، وَالْمِيثَاقُ اسْمٌ مِنْهُ‏.‏ وَالْهَاءُ فِي الْمِيثَاقِ عَائِدَةٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ‏.‏

وَقَدْ يَدْخُلُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مَنْ كَانَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ، فِي نَقْضِ الْعَهْدِ وَقَطْعِ الرَّحِمِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏}‏، فَإِيَّاكُمْ وَنَقْضَ هَذَا الْمِيثَاقِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَرِهَ نَقْضَهُ وَأَوْعَدَ فِيهِ، وَقَدَّمَ فِيهِ فِي آيِ الْقُرْآنِ حُجَّةً وَمَوْعِظَةً وَنَصِيحَةً، وَإِنَّا لَا نَعْلَمُ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَوْعَدَ فِي ذَنْبٍ مَا أَوْعَدَ فِي نَقْضِ الْمِيثَاقِ‏.‏ فَمَنْ أَعْطَى عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبِهِ فَلْيَفِ بِهِ لِلَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏، فَهِيَسِتُ خِلَالٍ فِي أَهْلِ النِّفَاقِ، إِذَا كَانَتْ لَهُمُ الظَّهَرَةُ، أَظْهَرُوا هَذِهِ الْخِلَالَ السِّتَّ جَمِيعًا‏:‏ إِذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا اؤْتُمِنُوا خَانُوا، وَنَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَقَطَعُوا مَا أَمْرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ‏.‏ وَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِمُ الظَّهَرَةُ، أَظْهَرُوا الْخِلَالَ الثَّلَاثَ إِذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا اؤْتُمِنُوا خَانُوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي رَغَّبَ اللَّهُ فِي وَصْلِهِ وَذَمَّ عَلَى قَطْعِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ الرَّحِمُ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ مُحَمَّدٍ‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وَإِنَّمَا عَنَى بِالرَّحِمِ، أَهْلَ الرَّحِمِ الَّذِينَ جَمَعَتْهُمْ وَإِيَّاهُ رَحِمٌ وَالِدَةٌ وَاحِدَةٌ‏.‏ وَقَطْعُ ذَلِكَ‏:‏ ظُلْمُهُ فِي تَرْكِ أَدَاءِ مَا أَلْزَمَ اللَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا، وَأَوْجَبَ مِنْ بِرِّهَا‏.‏ وَوَصْلُهَا‏:‏ أَدَاءُ الْوَاجِبِ لَهَا إِلَيْهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَ لَهَا، وَالتَّعَطُّفُ عَلَيْهَا بِمَا يَحِقُّ التَّعَطُّفُ بِهِ عَلَيْهَا‏.‏

‏"‏وَأَنْ‏"‏ الَّتِي مَع ‏"‏يُوصِلُ‏"‏ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ، بِمَعْنَى رَدِّهَا عَلَى مَوْضِعِ الْهَاءِ الَّتِي فِي ‏"‏بِهِ‏"‏‏:‏ فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَيَقْطَعُونَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ يُوصَلَ‏.‏ وَالْهَاءُ الَّتِي فِي ‏"‏ بِهِ ‏"‏، هِيَ كِنَايَةٌ عَنْ ذِكْرِ ‏{‏أَنْ يُوصَلَ‏}‏‏.‏ وَبِمَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ‏}‏، وَأَنَّهُ الرَّحِمُ، كَانَ قَتَادَةَ يَقُولُ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ‏}‏، فَقَطْعُ وَاللَّهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْقُرَابَةِ‏.‏

وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ ذَمَّهُمْ بِقَطْعِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَأَرْحَامَهُمْ‏.‏ وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَأَنْ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهَا بَعْضُ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَصَلَهُ دُونَ بَعْضٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا مَذْهَبٌ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَوَصَفَهُمْ بِقَطْعِ الْأَرْحَامِ‏.‏ فَهَذِهِ نَظِيرَةُ تِلْكَ، غَيْرَ أَنَّهَا- وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ- فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى ذَمِّ اللَّهِ كُلَّ قَاطِعٍ قَطْعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ، رَحِمًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَفَسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ‏:‏ هُوَ مَا تَقْدَمُ وَصَفْنَاهُ قَبْلُ مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ، وَكَفْرِهِمْ بِهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ، وَجَحْدِهِمْ نُبُوَّتَهُ، وَإِنْكَارِهِمْ مَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْخَاسِرُونَ جَمْعُ خَاسِرٍ، وَالْخَاسِرُونَ‏:‏ النَّاقِصُونَ أَنْفُسَهُمْ حُظُوظَهَا- بِمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ- مِنْ رَحِمَتِهِ، كَمَا يَخْسَرُ الرَّجُلُ فِي تِجَارَتِهِ، بِأَنْ يُوضَعَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فِي بَيْعِهِ‏.‏ فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، خَسِرَ بِحِرْمَانِ اللَّهِ إِيَّاهُ رَحْمَتَهُ الَّتِي خَلَقَهَا لِعِبَادِهِ فِي الْقِيَامَةِ، أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَى رَحْمَتِهِ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ خَسِرَ الرَّجُلُ يَخْسَرُ خَسْرًا وَخُسْرَانًا وَخَسَارًا، كَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ‏:‏

إِنَّ سَلِيطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهُ *** أَوْلَادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ فِي الْخَسَارِ ‏"‏، أَيْ فِيمَا يُوكَسُهُمْ حُظُوظَهُمْ مِنَ الشَّرَفِ وَالْكَرَمِ‏.‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏‏:‏ أُولَئِكَ هُمُ الْهَالِكُونَ‏.‏ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ أَرَادَ مَا قُلْنَا مِنْ هَلَاكِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بِحِرْمَانِ اللَّهِ إِيَّاهُ مَا حَرَمَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، بِمَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ وَكُفْرِهِ بِهِ‏.‏ فَحَمَلَ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ، دُونَ الْبَيَانِ عَنْ تَأْوِيلِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ رُبَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِعِلَلٍ كَثِيرَةٍ تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَا‏:‏ حُدِّثْتُ بِهِ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ كُلُّ شَيْءٍ نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنِ اسْمٍ مِثْلِ ‏"‏ خَاسِرٍ ‏"‏، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْكُفْرُ، وَمَا نَسَبَهُ إِلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الذَّنْبُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏:‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا فَخَلَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ غَافِرٍ‏:‏ 11‏]‏، قَالَ‏:‏ هِيَ كَالَّتِي فِي الْبَقَرَةِ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي أَبُو حَصِينٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حُصَّيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏، قَالَ‏:‏ خَلَقْتَنَا وَلَمْ نَكُنْ شَيْئًا، ثُمَّ أَمَتَّنَا، ثُمَّ أَحْيَيْتَنَا‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَّيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا أَمْوَاتًا فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا حِينَ خَلَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمَ الْمَوْتَةَ الْحَقَّ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏، مِثْلُهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ هُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبُو الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ حِينَ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ حِينَ خَلَقَهُمْ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ بَعْدَ الْحَيَاةِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏، قَالَ‏:‏ كُنْتُمْ تُرَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكُمْ، فَهَذِهِ مِيتَةٌ، ثُمَّ أَحْيَاكُمْ فَخَلَقَكُمْ، فَهَذِهِ إِحْيَاءَةٌ‏.‏ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فَتَرْجِعُونَ إِلَى الْقُبُورِ، فَهَذِهِ مِيتَةٌ أُخْرَى‏.‏ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهَذِهِ إِحْيَاءَةٌ‏.‏ فَهُمَا مَيْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ، فَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يُحْيِيكُمْ فِي الْقَبْرِ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا‏}‏ الْآيَةَ‏.‏ قَالَ‏:‏ كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ وَخَلَقَهُمْ، ثُمَّ أَمَاتَهُمَ الْمَوْتَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُمَا حَيَاتَانِ وَمَوْتَتَانِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ خَلَقَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ حِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ‏}‏، حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 173‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَكَسَبَهُمَ الْعَقْلَ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَانْتَزَعَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ الْقُصَيْرَى فَخَلَقَ مِنْهُ حَوَّاءَ ذَكَرَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 1‏]‏، قَالَ‏:‏ وَبَثَّ مِنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْحَامِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الزُّمَرِ‏:‏ 6‏]‏، قَالَ‏:‏ خُلِقَا بَعْدَ ذَلِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ خَلَقَهُمْ فِي الْأَرْحَامِ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا‏}‏، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَحْزَابِ‏:‏ 7‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ يَوْمَئِذٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَمَّنْ رَوَيْنَاهَا عَنْهُ، وَجْهٌ وَمَذْهَبٌ مِنَ التَّأْوِيلِ‏.‏

فَأَمَّا وَجْهُ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏، أَيْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى نَحْوِ قَوْلِ الْعَرَبِ لِلشَّيْءِ الدَّارِسِ وَالْأَمْرِ الْخَامِلِ الذِّكْرِ‏:‏ هَذَا شَيْءٌ مَيْتٌ، وَهَذَا أَمْرٌ مَيْتٌ- يُرَادُ بِوَصْفِهِ بِالْمَوْتِ‏:‏ خُمُولُ ذِكْرِهِ، وَدُرُوسُ أَثَرِهِ مِنَ النَّاسِ‏.‏ وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ وَخِلَافِهِ‏:‏ هَذَا أَمْرٌ حَيٌّ، وَذِكْرٌ حَيٌّ- يُرَادُ بِوَصْفِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ نَابِهٌ مُتَعَالِمٌ فِي النَّاسِ، كَمَا قَالَ أَبُو نُخَيْلَةَ السَّعْدِيُّ‏:‏

فَأَحْيَيْتَ لِي ذِكْرِي، وَمَا كُنْتُ خَامِلًا *** وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضِ

يُرِيدُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَأَحْيَيْتَ لِي ذِكْرِي‏"‏، أَيْ‏:‏ رِفَعْتَهُ وَشُهْرَتَهُ فِي النَّاسِ حَتَّى نَبَهَ فَصَارَ مَذْكُورًا حَيًّا، بَعْدَ أَنْ كَانَ خَامِلًا مَيْتًا‏.‏ فَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا‏}‏ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، أَيْ كُنْتُمْ خُمُولًا لَا ذِكْرَ لَكُمْ، وَذَلِكَ كَانَ مَوْتُكُمْ فَأَحْيَاكُمْ، فَجَعَلَكُمْ بَشَرًا أَحْيَاءً تُذْكُرُونَ وَتَعْرِفُونَ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بِقَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ وَإِعَادَتِكُمْ، كَالَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ أَنْ يُحْيِيَكُمْ، مِنْ دُرُوسِ ذِكْرِكُمْ، وَتَعَفِّي آثَارِكُمْ، وَخُمُولِ أُمُورِكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بِإِعَادَةِ أَجْسَامِكُمْ إِلَى هَيْئَاتِهَا، وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهَا، وَتَصْيِيرِكُمْ بَشَرًا كَالَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ الْإِمَاتَةِ، تَتَعَارَفُونَ فِي بَعْثِكُمْ وَعِنْدَ حَشْرِكُمْ‏.‏

وَأَمَّا وَجْهُ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُ الْإِمَاتَةُ الَّتِي هِيَ خُرُوجُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ بِقَوْلِهِ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا‏}‏، إِلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْقُبُورِ بَعْدَ إِحْيَائِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ‏.‏ وَذَلِكَ مَعْنًى بَعِيدٌ، لِأَنَّ التَّوْبِيخَ هُنَالِكَ إِنَّمَا هُوَ تَوْبِيخٌ عَلَى مَا سَلَفَ وَفَرْطٌ مِنْ إِجْرَامِهِمْ، لَا اسْتِعْتَابٌ وَاسْتِرْجَاعٌ‏.‏ وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا‏}‏، تَوْبِيخُ مُسْتَعْتِبٍ عِبَادَهُ، وَتَأْنِيبُ مُسْتَرْجِعٍ خَلْقَهُ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَى الطَّاعَةِ، وَمِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْإِنَابَةِ، وَلَا إِنَابَةَ فِي الْقُبُورِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَلَا تَوْبَةَ فِيهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ‏.‏

وَأَمَّا وَجْهُ تَأْوِيلِ قَوْلِ قَتَادَةَ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُمْ كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ‏.‏ فَإِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا نُطَفًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا، فَكَانَتْ بِمَعْنَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمَوَاتِ الَّتِي لَا أَرْوَاحَ فِيهَا‏.‏ وَإِحْيَاؤُهُ إِيَّاهَا تَعَالَى ذِكْرُهُ، نَفْخُهُ الْأَرْوَاحَ فِيهَا، وَإِمَاتَتُهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، قَبْضُهُ أَرْوَاحَهُمْ‏.‏ وَإِحْيَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، نَفْخُ الْأَرْوَاحِ فِي أَجْسَامِهِمْ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَيُبْعَثُ الْخَلْقُ لِلْمَوْعُودِ‏.‏

وَأَمَّا ابْنُ زَيْدٍ، فَقَدْ أَبَانَ عَنْ نَفْسِهِ مَا قَصَدَ بِتَأْوِيلِهِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْإِمَاتَةَ الْأُولَى عِنْدَ إِعَادَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، بَعْدَ مَا أَخَذَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، وَأَنَّ الْإِحْيَاءَ الْآخَرَ هُوَ نَفْخُ الْأَرْوَاحِ فِيهِمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَأَنَّ الْإِمَاتَةَ الثَّانِيَةَ هِيَ قَبْضُ أَرْوَاحِهِمْ لِلْعَوْدِ إِلَى التُّرَابِ، وَالْمَصِيرِ فِي الْبَرْزَخِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَأَنَّ الْإِحْيَاءَ الثَّالِثَ هُوَ نَفْخُ الْأَرْوَاحِ فِيهِمْ لِبَعْثِ السَّاعَةِ وَنَشْرِ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَهَذَا تَأْوِيلٌ إِذَا تَدَبَّرَهُ الْمُتَدَبِّرُ وَجَدَهُ خِلَافًا لِظَاهِرِ قَوْلِ اللَّهِ الَّذِي زَعَمَ مُفَسِّرُهُ أَنَّ الَّذِي وَصَفْنَا مِنْ قَوْلِهِ تَفْسِيرُهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ- عَنِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ مِنْ خَلْقِهِ- أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏، وَزَعْمَ ابْنُ زَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ ثَلَاثَ إِحْيَاءَاتٍ، وَأَمَاتَهُمْ ثَلَاثَ إِمَاتَاتٍ‏.‏ وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا- وَإِنْ كَانَ فِيمَا وَصَفَ مِنِ اسْتِخْرَاجِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ مِنْ صُلْبِ آدَمَ ذَرِّيَّتَهُ، وَأَخْذِهِ مِيثَاقَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا وَصَفَ- فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ- أَعْنِي قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا‏}‏ الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏- فِي شَيْءٍ‏.‏ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَدَّعِ أَنَّ اللَّهَ أَمَاتَ مَنْ ذَرَأَ يَوْمَئِذٍ غَيْرَ الْإِمَاتَةِ الَّتِي صَارَ بِهَا فِي الْبَرْزَخِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَيَكُونُ جَائِزًا أَنْ يُوَجِّهَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ إِلَى مَا وَجَّهَهُ إِلَيْهِ ابْنُ زَيْدٍ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الْمَوْتَةُ الْأُولَى مُفَارَقَةُ نُطْفَةِ الرَّجُلِ جَسَدَهُ إِلَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ، فَهِيَ مَيْتَةٌ مِنْ لَدُنْ فِرَاقِهَا جَسَدَهُ إِلَى نَفْخِ الرُّوحِ فِيهَا‏.‏ ثُمَّ يُحْيِيهَا اللَّهُ بِنَفْخِ الرَّوْحِ فِيهَا فَيَجْعَلُهَا بَشَرًا سَوِيًّا بَعْدَ تَارَاتٍ تَأْتِي عَلَيْهَا‏.‏ ثُمَّ يُمِيتُهُ الْمَيْتَةَ الثَّانِيَةَ بِقَبْضِ الرُّوحِ مِنْهُ، فَهُوَ فِي الْبَرْزَخِ مَيْتٌ إِلَى يَوْمِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَيَرُدُّ فِي جَسَدِهِ رُوحَهُ، فَيَعُودُ حَيًّا سَوِيًّا لِبَعْثِ الْقِيَامَةِ‏.‏ فَذَلِكَ مَوْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ‏.‏ وَإِنَّمَا دَعَا هَؤُلَاءِ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ مَوْتُ ذِي الرُّوحِ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ إِيَّاهُ‏.‏ فَزَعَمُوا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنِ ابْنِ آدَمَ حَيٌّ مَا لَمْ يُفَارِقْ جَسَدَهُ الْحَيَّ ذَا الرُّوحِ‏.‏ فَكُلُّ مَا فَارَقَ جَسَدَهُ الْحَيَّ ذَا الرُّوحِ، فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ فَصَارَ مَيْتًا‏.‏ كَالْعُضْوِ مِنْ أَعْضَائِهِ- مِثْلُ الْيَدِ مِنْ يَدَيْهِ، وَالرِّجْلِ مِنْ رِجْلَيْهِ- لَوْ قُطِعَتْ فَأُبِينَتْ، وَالْمَقْطُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ حَيٌّ، كَانَ الَّذِي بَانَ مِنْ جَسَدِهِ مَيْتًا لَا رُوحَ فِيهِ بِفِرَاقِهِ سَائِرَ جَسَدِهِ الَّذِي فِيهِ الرُّوحُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَكَذَلِكَ نُطْفَتُهُ حَيَّةٌ بِحَيَاتِهِ مَا لَمْ تُفَارِقْ جَسَدَهُ ذَا الرُّوحِ، فَإِذَا فَارَقَتْهُ مُبَايَنَةً لَهُ صَارَتْ مَيْتَةً نَظِيرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْيَدِ وَالرَّجْلِ وَسَائِرِ أَعْضَائِهِ‏.‏ وَهَذَا قَوْلٌ وَوَجْهٌ مِنَ التَّأْوِيلِ، لَوْ كَانَ بِهِ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِ الْقُدْوَةِ الَّذِينَ يُرْتَضَى لِلْقُرْآنِ تَأْوِيلُهُمْ‏.‏

وَأَوْلَى مَا ذَكَرْنَا- مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي بَيَّنَّا- بِتَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏ الْآيَةَ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ مِنْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا‏}‏ أَمْوَاتَ الذِّكْرِ، خُمُولًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ نُطَفًا، لَا تِعْرِفُونَ وَلَا تَذْكُرُونَ‏:‏ فَأَحْيَاكُمْ بِإِنْشَائِكُمْ بَشَرًا سَوِيًّا حَتَّى ذَكَرْتُمْ وَعَرَفْتُمْ وَحَيِيتُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بِقَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ وَإِعَادَتِكُمْ رُفَاتًا لَا تَعْرِفُونَ وَلَا تَذْكُرُونَ فِي الْبَرْزَخِ إِلَى يَوْمِ تَبْعَثُونَ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَفْخِ الْأَرْوَاحِ فِيكُمْ لِبَعْثِ السَّاعَةِ وَصَيْحَةِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ إِلَى اللَّهِ تَرْجِعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُحْيِيهِمْ فِي قُبُورِهِمْ قَبْلَ حَشْرِهِمْ، ثُمَّ يَحْشُرُهُمْ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَعَارِجِ‏:‏ 43‏]‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ يس‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وَالْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا اخْتَرْنَا هَذَا التَّأْوِيلَ، مَا قَدْ قَدَّمَنَا ذِكْرَهُ لِلْقَائِلِينَ بِهِ، وَفَسَادُ مَا خَالَفَهُ بِمَا قَدْ أَوْضَحْنَاهُ قَبْلُ‏.‏

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْقَائِلِينَ‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏، الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَعَ قَيْلِهِمْ ذَلِكَ بِأَفْوَاهِهِمْ، غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِهِ‏.‏ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ خِدَاعًا لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَعَذَلَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏، وَوَبَّخَهُمْ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ- فِي نَكِيرِهِمْ مَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ وَجُحُودِهِمْ مَا جَحَدُوا بِقُلُوبِهِمُ الْمَرِيضَةِ- فَقَالَ‏:‏ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فَتَجْحَدُونَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِحْيَائِكُمْ بَعْدَ إِمَاتَتِكُمْ، ‏[‏لِبَعْثِ الْقِيَامَةِ، وَمُجَازَاةِ الْمُسِيءِ مِنْكُمْ بِالْإِسَاءَةِ وَالْمُحْسِنِ بِالْإِحْسَانِ، وَقَدْ كُنْتُمْ نُطَفًا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ، فَأَنْشَأَكُمْ خَلْقًا سَوِيًّا، وَجَعَلَكُمْ أَحْيَاءً، ثُمَّ أَمَاتَكُمْ بَعْدَ إِنْشَائِكُمْ‏.‏ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقُدْرَتِهِ، غَيْرُ مُعْجِزِهِ- بِالْقُدْرَةِ الَّتِي فَعَلَ ذَلِكَ بِكُمْ- إِحْيَاؤُكُمْ بَعْدَ إِمَاتَتِكُمْ‏]‏ وَإِعَادَتُكُمْ بَعْدَ إِفْنَائِكُمْ، وَحَشْرُكُمْ إِلَيْهِ لِمُجَازَاتِكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ‏.‏

ثُمَّ عَدَّدَ رَبُّنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ- الَّذِينَ جَمَعَ بَيْنَ قِصَصِهِمْ وَقِصَصِ الْمُنَافِقِينَ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي افْتَتَحَ الْخَبَرَ عَنْهُمْ فِيهَا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ نِعَمَهُ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى آبَائِهِمْ، الَّتِي عَظُمَتْ مِنْهُمْ مَوَاقِعُهَا‏.‏ ثُمَّ سَلَبَ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَثِيرًا مِنْهَا، بِمَا رَكِبُوا مِنَ الْآثَامِ، وَاجْتَرَمُوا مِنَ الْأَجْرَامِ، وَخَالَفُوا مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، مُحَذِّرَهُمْ بِذَلِكَ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ لَهُمْ، كَالَّتِي عَجَّلَهَا لِلْأَسْلَافِ وَالْأَفْرَاطِ قَبْلَهُمْ، وَمُخَوِّفَهُمْ حُلُولَ مَثُلَاتِهِ بِسَاحَتِهِمْ كَالَّذِي أَحَلَ بِأَوَّلِيهِمْ، وَمُعَرِّفَهُمْ مَا لَهُمْ مِنَ النَّجَاةِ فِي سُرْعَةِ الْأَوْبَةِ إِلَيْهِ، وَتَعْجِيلِ التَّوْبَةِ، مِنَ الْخَلَاصِ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ‏.‏

فَبَدَأَ بَعْدَ تَعْدِيدِهِ عَلَيْهِمْ مَا عَدَّدَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي هُمْ فِيهَا مُقِيمُونَ، بِذِكْرِ أَبِينَا وَأَبِيهِمْ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ كَرَامَتِهِ إِلَيْهِ، وَآلَائِهِ لَدَيْهِ، وَمَا أُحِلَّ بِهِ وَبِعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ مِنْ عَاجَلِ عُقُوبَتِهِ بِمَعْصِيَتِهِمَا الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمَا، وَمُخَالَفَتِهِمَا أَمْرَهُ الَّذِي أَمَرَهُمَا بِهِ‏.‏ وَمَا كَانَ مِنْ تَغَمُّدِهِ آدَمَ بِرَحْمَتِهِ إِذْ تَابَ وَأَنَابَ إِلَيْهِ‏.‏ وَمَا كَانَ مِنْ إِحْلَالِهِ بِإِبْلِيسَ مِنْ لَعْنَتِهِ فِي الْعَاجِلِ، وَإِعْدَادِهِ لَهُ مَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ فِي الْآجِلِ، إِذِ اسْتَكْبَرَ وَأَبَى التَّوْبَةَ إِلَيْهِ وَالْإِنَابَةَ، مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى حُكْمِهِ فِي الْمُنِيبِينَ إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ، وَقَضَائِهِ فِي الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنِ الْإِنَابَةِ، إِعْذَارًا مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَإِنْذَارًا لَهُمْ، لِيَتَدَبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ مِنْهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ‏.‏ وَخَاصًّا أَهْلَ الْكِتَابِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ قِصَصِ آدَمَ وَسَائِرِ الْقِصَصِ الَّتِي ذَكَرَهَا مَعَهَا وَبَعَدَهَا، مِمَّا عَلِمَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَجَهِلَتْهُ الْأُمَّةُ الْأُمِّيَّةُ مِنْ مُشْرِكِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ- بِالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ- دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْأُمَمِ، الَّذِينَ لَا عِلْمَ عِنْدِهِمْ بِذَلِكَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَعْلَمُوا بِإِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ مَبْعُوثٌ، وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ فَمِنْ عِنْدِهِ، إِذْ كَانَ مَا اقْتَصَّ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ، مِنْ مَكْنُونِ عُلُومِهِمْ، وَمَصُونِ مَا فِي كُتُبِهِمْ، وَخَفِيِّ أُمُورِهِمَ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَدَّعِي مَعْرِفَةَ عِلْمِهَا غَيْرُهُمْ وَغَيْرُ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ وَقَرَأَ كُتُبَهُمْ‏.‏

وَكَانَ مَعْلُومًا مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ كَاتِبًا، وَلَا لِأَسْفَارِهِمْ تَالِيًا، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مُصَاحِبًا وَلَا مُجَالِسًا، فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمْ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ- فِي تَعْدِيدِهِ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مُقِيمُونَ مِنْ نِعَمِهِ، مَعَ كُفْرِهِمْ بِهِ، وَتَرْكِهِمْ شُكْرَهُ عَلَيْهَا بِمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ- ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 29‏]‏‏.‏ فَأَخْبَرَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، لِأَنَّالْأَرَضَ وَجَمِيعَ مَا فِيهَا لِبَنِي آدَمَ مَنَافِعُ‏.‏ أَمَّا فِي الدِّينِ، فَدَلِيلٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَعَاشٌ وَبَلَاغٌ لَهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَأَدَاءُ فَرَائِضِهِ‏.‏

فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏هُو‏"‏ مَكْنِيٌّ مِنِ اسْمِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ عَائِدٌ عَلَى اسْمِهِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ‏}‏‏.‏ وَمَعْنَى خَلْقِهِ مَا خَلَقَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، إِنْشَاؤُهُ عَيْنَهُ، وَإِخْرَاجُهُ مِنْ حَالِ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ‏.‏ وَ‏"‏ مَا ‏"‏بِمَعْنَى‏"‏ الَّذِي ‏"‏‏.‏

فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا‏:‏ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ نُطَفًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ فَجَعَلَكُمْ بَشَرًا أَحْيَاءً، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ هُوَ مُحْيِيكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَاعِثِكُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهُوَ الْمُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِمَا خَلَقَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَعَايِشِكُمْ وَأَدِلَّتِكُمْ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ رَبِّكُمْ‏.‏

وَ ‏"‏كَيْف‏"‏ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالتَّوْبِيخِ، لَا بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَيْحَكُمْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ التَّكْوِيرِ‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وَحَلَّ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏ مَحَلَّ الْحَالِ‏.‏ وَفِيهِ ضَمِير‏"‏ قَدْ ‏"‏، وَلَكِنَّهَا حُذِفَتْ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا‏.‏ وَذَلِكَ أَنْ ‏"‏فِعْل‏"‏ إِذَا حَلَّتْ مَحَلَّ الْحَالِ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهَا مُقْتَضِيَةً ‏"‏ قَدْ ‏"‏، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 90‏]‏، بِمَعْنَى‏:‏ قَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏.‏ وَكَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ‏:‏ أَصْبَحْتَ كَثُرَتْ مَاشِيَتُكَ، تُرِيدُ‏:‏ قَدْ كَثُرَتْ مَاشِيَتُكَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا‏}‏، كَانَ قَتَادَةَ يَقُولُ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا‏}‏، نَعَمْ وَاللَّهِ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، أَقْبَلَ عَلَيْهَا، كَمَا تَقُولُ‏:‏ كَانَ فُلَانٌ مُقْبِلًا عَلَى فُلَانٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيَّ يُشَاتِمُنِي- وَاسْتَوَى إِلَيَّ يُشَاتِمُنِي‏.‏ بِمَعْنَى‏:‏ أَقْبَلَ عَلَيَّ وَإِلَيَّ يُشَاتِمُنِي‏.‏ وَاسْتُشْهِدَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ بِمَعْنَى الْإِقْبَالِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

أَقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنَا شَرَوْرَى *** سَوَامِدَ، وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ

فَزَعَمَ أَنَّهُ عَنَى بِهِ أَنَّهُنَّ خَرَجْنَ مِنَ الضُّجُوعِ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَعْنَى‏:‏ أَقْبَلْنَ‏.‏ وَهَذَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي هَذَا الْبَيْتِ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَاسْتَوِيَنَ مِنَ الضُّجُوعِ ‏"‏، اسْتَوِيَنَ عَلَى الطَّرِيقِ مِنَ الضُّجُوعِ خَارِجَاتٍ، بِمَعْنَى اسْتَقَمْنَ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِتَحَوُّلٍ، وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَى فِعْلِهِ، كَمَا تَقُولُ‏:‏ كَانَ الْخَلِيفَةُ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ يُوَالِيهِمْ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الشَّامِ‏.‏ إِنَّمَا يُرِيدُ‏:‏ تَحَوُّلَ فِعْلِهِ‏.‏ ‏[‏وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏ يَعْنِي بِهِ‏:‏ اسْتَوَتْ‏]‏‏.‏ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي تُرَابِهِ *** عَلَى أَيِّ دِينٍ قَتَّلَ النَّاسَ مُصْعَبُ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏، عَمَدَ لَهَا‏.‏ وَقَالَ‏:‏ بَلْ كُلُّ تَارِكٍ عَمَلًا كَانَ فِيهِ إِلَى آخَرَ، فَهُوَ مُسْتَوٍ لِمَا عَمَدَ لَهُ، وَمُسْتَوٍ إِلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الِاسْتِوَاءُ هُوَ الْعُلُوُّ، وَالْعُلُوُّ هُوَ الِارْتِفَاعُ‏.‏ وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ‏.‏

حُدِّثْتُ بِذَلِكَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏‏.‏ يَقُولُ‏:‏ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ مُتَأَوِّلُو الِاسْتِوَاءِ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ، فِي الَّذِي اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الَّذِي اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَعَلَا عَلَيْهَا، هُوَ خَالِقُهَا وَمُنْشِئُهَا‏.‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ بَلِ الْعَالِي عَلَيْهَا‏:‏ الدُّخَانُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْأَرْضِ سَمَاءً‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ الِاسْتِوَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُنْصَرِفٌ عَلَى وُجُوهٍ‏:‏ مِنْهَا انْتِهَاءُ شَبَابِ الرَّجُلِ وَقُوَّتِهِ، فَيُقَالُ، إِذَا صَارَ كَذَلِكَ‏:‏ قَدِ اسْتَوَى الرَّجُلُ‏.‏ وَمِنْهَا اسْتِقَامَةُ مَا كَانَ فِيهِ أَوَدٌ مِنَ الْأُمُورِ وَالْأَسْبَابِ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ اسْتَوَى لِفُلَانٍ أَمْرُهُ‏.‏ إِذَا اسْتَقَامَ بَعْدَ أَوَدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الطِّرِمَّاحِ بْنِ حَكِيمٍ‏:‏

طَالَ عَلَى رَسْمٍ مَهْدَدٍ أَبَدُهْ *** وَعَفَا وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ

يَعْنِي‏:‏ اسْتَقَامَ بِهِ‏.‏ وَمِنْهَا‏:‏ الْإِقْبَالُ عَلَى الشَّيْءِ يُقَالُ اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ بِمَا يَكْرَهُهُ وَيَسُوءُهُ بَعْدَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ‏.‏ وَمِنْهَا‏.‏ الِاحْتِيَازُ وَالِاسْتِيلَاءُ، كَقَوْلِهِمْ‏:‏ اسْتَوَى فَلَانٌ عَلَى الْمَمْلَكَةِ‏.‏ بِمَعْنَى احْتَوَى عَلَيْهَا وَحَازَهَا‏.‏ وَمِنْهَا‏:‏ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ، اسْتَوَى فَلَانٌ عَلَى سَرِيرِهِ‏.‏ يَعْنِي بِهِ عُلُوَّهُ عَلَيْهِ‏.‏

وَأَوْلَى الْمَعَانِي بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ‏}‏، عَلَا عَلَيْهِنَّ وَارْتَفَعَ، فَدَبَّرَهُنَّ بِقُدْرَتِهِ، وَخَلَقَهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏.‏

وَالْعَجَبُ مِمَّنْ أَنْكَرَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏، الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ، هَرَبًا عِنْدَ نَفْسِهِ مِنْ أَنْ يُلْزِمَهُ بِزَعْمِهِ- إِذَا تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَاهُ الْمُفْهِمِ كَذَلِكَ- أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا عَلَا وَارْتَفَعَ بَعْدَ أَنْ كَانَ تَحْتَهَا- إِلَى أَنْ تَأَوَّلَهُ بِالْمَجْهُولِ مِنْ تَأْوِيلِهِ الْمُسْتَنْكَرِ‏.‏ ثُمَّ لَمَّ يَنْجُ مِمَّا هَرَبَ مِنْهُ‏!‏ فَيُقَالُ لَهُ‏:‏ زَعَمْتَ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ ‏"‏اسْتَوَى‏"‏ أَقْبَلَ، أَفَكَانَ مُدْبِرًا عَنِ السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ إِلَيْهَا‏؟‏ فَإِنَّ زَعْمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِقْبَالِ فِعْلٍ، وَلَكِنَّهُ إِقْبَالُ تَدْبِيرٍ، قِيلَ لَهُ‏:‏ فَكَذَلِكَ فَقُلْ‏:‏ عَلَا عَلَيْهَا عُلُوَّ مُلْكٍ وَسُلْطَانٍ، لَا عُلُوَّ انْتِقَالٍ وَزَوَالٍ‏.‏ ثُمَّ لَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أَلْزَمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ‏.‏ وَلَوْلَا أَنَّا كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، لَأَنْبَأْنَا عَنْ فَسَادِ قَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ قَالَ فِي ذَلِكَ قَوْلًا لِقَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ فِيهِ مُخَالِفًا‏.‏ وَفِيمَا بَيَّنَّا مِنْهُ مَا يُشْرِفُ بِذِي الْفَهْمِ عَلَى مَا فِيهِ لَهُ الْكِفَايَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ أَخْبَرَنَا عَنِ اسْتِوَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى السَّمَاءِ، كَانَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ أَمْ بَعْدَهُ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ بَعْدَهُ، وَقَبْلَ أَنْ يُسَوِّيَهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ فُصِّلَتْ‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وَالِاسْتِوَاءُ كَانَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا دُخَانًا، وَقَبْلَ أَنْ يُسَوِّيَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏، وَلَا سَمَاءَ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِآخَرَ‏:‏ ‏"‏اعْمَلْ هَذَا الثَّوْبَ‏"‏، وَإِنَّمَا مَعَهُ غَزْلٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏"‏فَسَوَّاهُن‏"‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي هَيَّأَهُنَّ وَخَلَقَهُنَّ وَدَبَّرَهُنَّ وَقَوَّمَهُنَّ‏.‏ وَالتَّسْوِيَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، التَّقْوِيمُ وَالْإِصْلَاحُ وَالتَّوْطِئَةُ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ سَوَّى فَلَانٌ لِفُلَانٍ هَذَا الْأَمْرَ‏.‏ إِذَا قَوَّمَهُ وَأَصْلَحَهُ وَوَطَّأَهُ لَهُ‏.‏ فَكَذَلِكَ تَسْوِيَةُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ سَمَاوَاتِهِ‏:‏ تَقْوِيمُهُ إِيَّاهُنَّ عَلَى مَشِيئَتِهِ، وَتَدْبِيرِهِ لَهُنَّ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَتَفْتِيقِهِنَّ بَعْدَ ارْتِتَاقِهِنَّ‏.‏

كَمَا‏:‏ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ‏:‏ ‏{‏فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ سَوَّى خَلْقَهُنَّ، ‏"‏ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏.‏

وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏"‏فَسَوَّاهُنَّ ‏"‏، فَأَخْرَجَ مَكْنِيَّهُنَّ مُخْرَجَ مَكْنِيِّ الْجَمِيعِ، وَقَدْ قَالَ قَبْلُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏ فَأَخْرَجَهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْوَاحِدِ‏.‏ وَإِنَّمَا أَخْرَجَ مَكْنِيَّهُنَّ مُخْرَجَ مَكْنِيِّ الْجَمْعِ، لِأَنَّ السَّمَاءَ جَمْعٌ وَاحِدُهَا سَمَاوَةٌ، فَتَقْدِيرُ وَاحِدَتِهَا وَجَمِيعِهَا إِذًا تَقْدِيرُ بَقَرَةٍ وَبَقَرٍ وَنَخْلَةٍ وَنَخْلٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏ وَلِذَلِكَ أُنِّثَتْ مَرَّةً فَقِيلَ‏:‏ هَذِهِ سَمَاءٌ، وَذُكِّرَتْ أُخْرَى فَقِيلَ‏:‏ ‏{‏السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ‏:‏ 18‏]‏، كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِالْجَمْعِ الَّذِي لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ غَيْرَ دُخُولِ الْهَاءِ وَخُرُوجِهَا، فَيُقَالُ‏:‏ هَذَا بَقْرٌ وَهَذِهِ بَقْرٌ، وَهَذَا نَخْلٌ وَهَذِهِ نَخْلٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ السَّمَاءَ وَاحِدَةٌ، غَيْرَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى السَّمَاوَاتِ، فَقِيلَ‏:‏ ‏"‏فَسَوَّاهُنَّ ‏"‏، يُرَادُ بِذَلِكَ الَّتِي ذُكِرَتْ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ السَّمَاوَاتِ الَّتِي لَمَّ تُذْكَرْ مَعَهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا تُذَكَّرُ إِذَا ذُكِّرَتْ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، فَيُقَالُ‏:‏ ‏"‏ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ‏"‏، كَمَا يُذَكَّرُ الْمُؤَنَّثُ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَلَا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا *** وَلَا أَرْضٌ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا

وَكَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ‏:‏

فَإِمَّا تَرَيْ لِمَّتِي بُدِّلَتْ *** فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَزْرَى بِهَا

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ السَّمَاءُ وَإِنْ كَانَتْ سَمَاءً فَوْقَ سَمَاءٍ وَأَرْضًا فَوْقَ أَرْضٍ، فَهِيَ فِي التَّأْوِيلِ وَاحِدَةٌ إِنْ شِئْتَ، ثُمَّ تَكُونُ تِلْكَ الْوَاحِدَةُ جِمَاعًا، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ثَوْبٌ أَخْلَاقٌ وَأَسْمَالٌ، وَبُرْمَةٌ أَعْشَارٌ، لِلْمُتَكَسِّرَةِ، وَبُرْمَةٌ أَكْسَارٌ وَأَجْبَارٌ‏.‏ وَأَخْلَاقٌ، أَيْ أَنَّ نَوَاحِيَهُ أَخْلَاقٌ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ فَإِنَّكَ قَدْ قُلْتَ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ قَبْلَ أَنْ يُسَوِّيَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ سِوَّاهَا سَبْعًا بَعْدَ اسْتِوَائِهِ إِلَيْهَا، فَكَيْفَ زَعَمَتْ أَنَّهَا جِمَاعٌ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّهُنَّ كُنَّ سَبْعًا غَيْرَ مُسْتَوِيَاتٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعًا‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ كَانَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا، فَجَعَلَ الظُّلْمَةَ لَيْلًا أَسْوَدَ مُظْلِمًا، وَجَعَلَ النُّورَ نَهَارًا مُضِيئًا مُبْصِرًا، ثُمَّ سَمَكَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ مِنْ دُخَانٍ- يُقَالُ، وَاللَّهُِ أَعْلَمُ، مِنْ دُخَانِ الْمَاءِ- حَتَّى اسْتَقْلَلْنَ وَلَمْ يَحْبُكْهُنَّ‏.‏ وَقَدْ أَغْطَشَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَهَا، وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، فَجَرَى فِيهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ وَلَا نُجُومٌ‏.‏ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ وَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ، وَقَدَّرَ فِيهَا الْأَقْوَاتَ، وَبَثَّ فِيهَا مَا أَرَادَ مِنَ الْخَلْقِ، فَفَرَغَ مِنَ الْأَرْضِ وَمَا قُدِّرَ فِيهَا مِنْ أَقْوَاتِهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ‏.‏ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَّانٌ كَمَا قَالَ فَحَبْكَهُنَّ، وَجَعَلَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا، وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا، فَأَكْمَلَ خَلْقَهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ، فَفَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏.‏ ثُمَّ اسْتَوَى فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏:‏ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لِمَا أَرَدْتُ بِكُمَا، فَاطْمَئِنَّا عَلَيْهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، قَالَتَا‏:‏ أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏.‏

فَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ- بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا- وَهُنَّ سَبْعٌ مِنْ دُخَّانٍ، فَسَوَّاهُنَّ كَمَا وَصَفَ‏.‏ وَإِنَّمَا اسْتَشْهَدْنَا لِقَوْلِنَا الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ، لِأَنَّهُ أَوْضَحُ بَيَانًا عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، أَنَّهُنَّ كُنَّ سَبْعًا مِنْ دُخَّانٍ قَبْلَ اسْتِوَاءِ رَبِّنَا إِلَيْهَا لِتَسْوِيَتِهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَحْسَنُ شَرْحًا لِمَا أَرَدْنَا الِاسْتِدْلَالَ بِهِ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى السَّمَاءِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِيهَا‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، عَلَى مَا وَصَفْنَا‏.‏ وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏فَسَوَّاهُنَّ‏"‏، إِذْ كَانَتِ السَّمَاءُ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ فَمَا صِفَةُ تَسْوِيَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ السَّمَاوَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ ‏"‏فَسَوَّاهُنَّ‏"‏، إِذْ كُنَّ قَدْ خُلِقْنَ سَبْعًا قَبْلَ تَسْوِيَتِهِ إِيَّاهُنَّ‏؟‏ وَمَا وَجْهُ ذِكْرِ خَلْقِهِنَّ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ‏؟‏ أَلِأَنَّهَا خُلِقَتْ قَبْلَهَا، أَمْ بِمَعْنًى غَيْرِ ذَلِكَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ قَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَنُؤَكِّدُ ذَلِكَ تَأْكِيدًا بِمَا نَضُمُّ إِلَيْهِ مِنْ أَخْبَارِ بَعْضِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَقْوَالِهِمْ‏.‏

فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ‏.‏ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، أَخْرَجَ مِنَ الْمَاءِ دُخَّانًا، فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ فَسَمَا عَلَيْهِ، فَسَمَّاهُ سَمَاءً‏.‏ ثُمَّ أَيْبَسَ الْمَاءَ فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَ سَبْعَ أَرْضِينَ فِي يَوْمَيْنِ- فِي الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، فَخَلَقَ الْأَرْضَ عَلَى حُوتٍ، وَالْحُوتُ هُوَ النُّونُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ‏:‏ ‏{‏ن وَالْقَلَمِ‏}‏، وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى ظَهْرِ صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ فِي الرِّيحِ- وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَ لُقْمَانُ- لَيْسَتْ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ‏:‏ فَتَحَرَّكَ الْحُوتُ فَاضْطَرَبَ، فَتَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ، فَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَ فَقَرَّتْ، فَالْجِبَالُ تَخِرُّ عَلَى الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النَّحْلِ‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا، وَأَقْوَاتَ أَهْلِهَا وَشَجَرَهَا وَمَا يَنْبَغِي لَهَا فِي يَوْمَيْنِ، فِي الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَنْبَتَ شَجَرَهَا ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَقْوَاتُهَا لِأَهْلِهَا ‏{‏فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ قُلْ لِمَنْ يَسْأَلُكَ‏:‏ هَكَذَا الْأَمْرُ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ فُصِّلَتْ‏:‏ 11‏]‏، وَكَانَ ذَلِكَ الدُّخَّانُ مِنْ تَنَفُّسِ الْمَاءِ حِينَ تَنَفَّسَ، فَجَعَلَهَا سَمَاءً وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ- فِي الْخَمِيسِ وَالْجُمْعَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ- ‏{‏وَأَوْحَى فِي كُلِ سَمَاءٍ أَمْرَهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَلْقِ الَّذِي فِيهَا، مِنَ الْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرَدِ وَمَا لَا يُعْلَمُ، ثُمَّ زَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِالْكَوَاكِبِ، فَجَعَلَهَا زِينَةً وَحِفْظًا، تُحْفَظُ مِنَ الشَّيَاطِينِ‏.‏ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ، اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏.‏ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وَيَقُولُ‏:‏ ‏{‏كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ خَلَقَ الْأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ، فَلَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ ثَارَ مِنْهَا دُخَّانٌ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ، وَسَبْعَ أَرْضِينَ، بَعْضُهُنَّ تَحْتَ بَعْضٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ، بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسُمَئَةِ عَامٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏- حَيْثُ ذَكَرَ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّمَاءَ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْضَ بِأَقْوَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْحُوَهَا قَبْلَ السَّمَاءِ- ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏}‏، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النَّازِعَاتِ‏:‏ 30‏]‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ بَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْأَحَدِ، فَخَلَقَ الْأَرَضِينَ فِي الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْأَقْوَاتَ وَالرَّوَاسِيَ فِي الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ فِي الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ عَلَى عَجَلٍ‏.‏ فَتِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا السَّاعَةُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا‏:‏ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ، فَخَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَسَخَّرَهُ لَكُمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ، لِيُكَوَّنَ لَكُمْ بَلَاغًا فِي دُنْيَاكُمْ وَمَتَاعًا إِلَى مُوَافَاةِ آجَالِكُمْ، وَدَلِيلًا لَكُمْ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ رَبِّكُمْ‏.‏ ثُمَّ عَلَا إِلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَهِيَ دُخَّانٌ، فَسَوَّاهُنَّ وَحَبَكَهُنَّ، وَأَجْرَى فِي بَعْضِهِنَّ شَمْسَهُ وَقَمَرَهُ وَنُجُومَهُ، وَقَدَّرَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَا قَدَّرَ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ‏:‏ ‏"‏وَهُو‏"‏ نَفْسَهُ، وَبِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ أَنَّ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَخَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَسَوَّى السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ بِمَا فِيهِنَّ فَأَحْكَمَهُنَّ مِنْ دُخَّانِ الْمَاءِ، وَأَتْقَنَ صُنْعَهُنَّ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ- أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ وَالْمُلْحِدُونَ الْكَافِرُونَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ- مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَبْدَى مُنَافِقُوكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ قَوْلَهُمْ‏:‏ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ مُنْطَوُونَ‏.‏ وَكَذَّبَتْ أَحْبَارُكُمْ بِمَا أَتَاهُمْ بِهِ رَسُولِي مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ، وَهُمْ بِصِحَّتِهِ عَارِفُونَ‏.‏ وَجَحَدُوهُ وَكَتَمُوا مَا قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْهِمْ- بِبَيَانِهِ لِخَلْقِي مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ وَنُبُوَّتِهِ- الْمَوَاثِيقَ وَهُمْ بِهِ عَالِمُونَ‏.‏ بَلْ أَنَا عَالِمٌ بِذَلِكَ مَنْ أَمْرِكُمْ وَغَيْرِهِ مِنْ أُمُورِكُمْ وَأُمُورِ غَيْرِكُمْ، إِنِّي بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏عَلِيم‏"‏ بِمَعْنَى عَالَمٍ‏.‏ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ هُوَ الَّذِي قَدْ كَمَلَ فِي عِلْمِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ الْعَالَمُ الَّذِي قَدْ كَمَلَ فِي عِلْمِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ زَعْمَ بَعْضُ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى الْعِلْمِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ‏:‏ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ‏}‏، وَقَالَ رَبُّكَ، وَأَنَّ ‏"‏إِذ‏"‏ مِنْ الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ، وَأَنَّ مَعْنَاهَا الْحَذْفُ‏.‏ وَاعْتَلَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي وَصَفْنَا عَنْهُ فِي ذَلِكَ بِبَيْتِ الْأُسُودِ بْنِ يَعْفُرَ‏:‏

فَإِذَا وَذَلِكَ لَا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ *** وَالدَّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحًا بِفَسَادِ

ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَمَعْنَاهَا‏:‏ وَذَلِكَ لَا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ- وَبِبَيْتِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ رِبْعٍ الْهُذَلِيِّ‏:‏

حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ *** شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا

وَقَالَ‏:‏ مَعْنَاهُ، حَتَّى أَسْلَكُوهُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَالَ‏:‏ وَذَلِكَ أَنْ ‏"‏إِذ‏"‏ حَرْفٌ يَأْتِي بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَجْهُولٍ مِنَ الْوَقْتِ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزِ إِبْطَالُ حَرْفٍ كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَعْنًى فِي الْكَلَامِ‏.‏ إِذْ سَوَاءٌ قِيلُ قَائِلٍ‏:‏ هُوَ بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ، وَهُوَ فِي الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى مَعْنًى مَفْهُومٍ- وَقِيلُ آخَرَ، فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ دَلِيلًا عَلَى مَا أُرِيدَ بِهِ‏:‏ وَهُوَ بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ‏.‏

وَلَيْسَ لِمَا ادَّعَى الَّذِي وَصَفْنَا قَوْلَهُ- فِي بَيْتِ الْأُسُودِ بْنِ يُعَفِّرَ‏:‏ أَنَّ ‏"‏إِذَا‏"‏ بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ- وَجْهٌ مَفْهُومٌ، بَلْ ذَلِكَ لَوْ حُذِفَ مِنَ الْكَلَامِ لَبَطَلَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الْأُسُودُ بْنُ يُعَفِّرَ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏

فَإِذَا وَذَلِكَ لَا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ

وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ‏:‏ فَإِذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَمَا مَضَى مِنْ عَيْشِنَا‏.‏ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ ‏"‏ذَلِك‏"‏ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ مِنْ عَيْشِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ- ‏"‏مَهَاهٌ لِذِكْرِه‏"‏ يَعْنِي لَا طَعْمَ لَهُ وَلَا فَضْلَ، لِإِعْقَابِ الدَّهْرِ صَالِحَ ذَلِكَ بِفَسَادٍ‏.‏ وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ رِبْعٍ‏:‏

حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ *** شَلًّا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

لَوْ أُسْقِطَ مِنْهُ ‏"‏إِذَا‏"‏ بَطَلَ مَعْنَى الْكَلَامِ، لَأَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدَةٍ سَلَكُوا شَلًّا فَدَلَّ قَوْلُهُ‏.‏ ‏"‏أَسْلَكُوهُمْ شَلًّا‏"‏ عَلَى مَعْنَى الْمَحْذُوفِ، فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ بِدَلَالَةِ ‏"‏إِذَا‏"‏ عَلَيْهِ، فَحَذَفَ‏.‏ كَمَا دَلَّ- مَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا- عَلَى مَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ‏.‏ وَكَمَا قَالَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ‏:‏

فَإِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا *** فَسَوْفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا

وَهُوَ يُرِيدُ‏:‏ أَيْنَمَا ذَهَبَ‏.‏ وَكَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ‏:‏ ‏"‏أَتَيْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ‏"‏‏.‏ تُرِيدُ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏.‏ فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي‏"‏ إِذَا ‏"‏كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ‏:‏ ‏"‏ إِذَا أَكْرَمَكَ أَخُوكَ فَأَكْرِمْهُ، وَإِذَا لَا فَلَا ‏"‏‏.‏ يُرِيدُ‏:‏ وَإِذَا لَمْ يُكْرِمْكَ فَلَا تُكْرِمْهُ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ‏:‏

فَإِذَا وَذَلِكَ لَا يَضُرُّكَ ضُرُّهُ *** فِي يَوْمِ أَسْأَلُ نَائِلًا أَوْ أَنْكَدُ

نَظِيرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى فِي بَيْتِ الْأُسُودِ بْنِ يَعْفُرَ‏.‏ وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ‏}‏، لَوْ أُبْطِلَتْ ‏"‏إِذ‏"‏ وَحُذِفَتْ مِنَ الْكَلَامِ، لَاسْتَحَالَ عَنْ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ بِهِ، وَفِيهِ ‏"‏ إِذْ ‏"‏‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ‏؟‏ وَمَا الْجَالِبُ لِ ‏"‏ إِذْ ‏"‏، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ قَبْلَهُ مَا يُعْطَفُ بِهِ عَلَيْهِ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى‏:‏ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَاطَبَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏، بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَالَّتِي بَعْدَهَا، مُوَبِّخَهُمْ مُقَبِّحًا إِلَيْهِمْ سُوءَ فَعَالَهُمْ وَمَقَامَهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ، مَعَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَسْلَافِهِمْ، وَمُذَكِّرَهُمْ- بِتَعْدِيدِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَسْلَافِهِمْ- بَأْسَهُ، أَنْ يَسْلُكُوا سَبِيلَ مَنْ هَلَكَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ فِي مَعْصِيَتِهِ، فَيَسْلُكُ بِهِمْ سَبِيلَهُمْ فِي عُقُوبَتِهِ، وَمُعَرِّفَهُمْ مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ تَعَطُّفِهِ عَلَى التَّائِبِ مِنْهُمُ اسْتِعْتَابًا مِنْهُ لَهُمْ‏.‏ فَكَانَ مِمَّا عَدَّدَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَسَخَّرَ لَهُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا وَنُجُومِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهَا الَّتِي جَعَلَهَا لَهُمْ وَلِسَائِرِ بَنِي آدَمَ مَعَهُمْ مَنَافِعَ‏.‏ فَكَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ذِكْرُهُ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏، مَعْنَى‏:‏ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، إِذْ خَلَقْتُكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، وَخَلَقْتُ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَسَوَّيْتُ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاءِ‏.‏ ثُمَّ عَطَفَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ‏}‏ عَلَى الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ‏}‏، إِذْ كَانَ مُقْتَضِيًا مَا وَصَفْتُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إِذْ فَعَلْتُ بِكُمْ وَفَعَلْتُ، وَاذْكُرُوا فِعْلِي بِأَبِيكُمْ آدَمَ إِذْ قُلْتُ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ نَظِيرٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَعْلَمُ بِهِ صِحَّةَ مَا قُلْتَ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ نَعَمْ، أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ *** وَلَا بَيْدَانَ نَاجِيةً ذَمُولَا

وَلَا مُتَدَارِكٍ وَالشَّمْسُ طِفْلٌ *** بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الْوَادِي حُمُولَا

فَقَالَ‏:‏ ‏"‏وَلَا مُتَدَارِكٍ ‏"‏، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ فِعْلٌ بِلَفْظٍ يَعْطِفُهُ عَلَيْهِ، وَلَا حَرْفٌ مُعْرَبٌ إِعْرَابَهُ، فَيَرُد‏"‏ مُتَدَارِكٍ ‏"‏عَلَيْهِ فِي إِعْرَابِهِ‏.‏ وَلَكِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَهُ فِعْلٌ مَجْحُودٌ ب‏"‏ لَنْ ‏"‏ يَدُلَّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ فِي الْكَلَامِ مِنَ الْمَحْذُوفِ، اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنْهُ عَنْ إِظْهَارِ مَا حُذِفَ، وَعَامَلَ الْكَلَامَ فِي الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ مُعَامَلَتَهُ أَنْ لَوْ كَانَ مَا هُوَ مَحْذُوفٌ مِنْهُ ظَاهِرًا‏.‏ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏

أَجَدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ ***

بِمَعْنَى‏:‏ ‏"‏أَجِدَّكَ لَسْتَ بِرَاءٍ‏"‏، فَرَد‏"‏ مُتَدَارِكًا ‏"‏عَلَى مَوْضِع‏"‏ تَرَى ‏"‏، كَأَنَّ ‏"‏لَسْت‏"‏ وَ‏"‏ الْبَاءَ ‏"‏مَوْجُودَتَانِ فِي الْكَلَامِ‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ‏}‏، لَمَّا سَلَفَ قَبْلَهُ تَذْكِيرُ اللَّهِ الْمُخَاطِبِينَ بِهِ مَا سَلَفَ قِبَلَهُمْ وَقَبْلَ آبَائِهِمْ مِنْ أَيَادِيهِ وَآلَائِهِ، وَكَانَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ‏}‏ مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَهَا عَلَيْهِمْ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى مَوَاقِعِهَا- رَدَّ ‏"‏إِذ‏"‏ عَلَى مَوْضِعِ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏‏.‏ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ اذْكُرُوا هَذِهِ مِنْ نِعَمِي، وَهَذِهِ الَّتِي قُلْتُ فِيهَا لِلْمَلَائِكَةِ‏.‏ فَلَمَّا كَانَتَ الْأُولَى مُقْتَضِيَةً ‏"‏إِذْ ‏"‏، عَطْفَ ب‏"‏ إِذْ ‏"‏عَلَى مَوْضِعِهَا فِي الْأُولَى، كَمَا وَصَفْنَا مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ فِي‏"‏ وَلَا مُتَدَارِكٍ ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِلْمَلَائِكَةِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْمَلَائِكَةُ جَمْعُ مَلْأَكٍ، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ، بِغَيْرِ الْهَمْزَةِ أُكْثِرُ وَأَشْهَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْهُ بِالْهَمْزِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي وَاحِدِهِمْ‏:‏ مَلَكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَيَحْذِفُونَ الْهَمْزَ مِنْهُ، وَيُحَرِّكُونَ اللَّامَ الَّتِي كَانَتْ مُسَكِّنَةً لَوْ هُمِزَ الِاسْمُ‏.‏ وَإِنَّمَا يُحَرِّكُونَهَا بِالْفَتْحِ، لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ الَّتِي فِيهِ بِسُقُوطِهَا إِلَى الْحَرْفِ السَّاكِنِ قَبْلَهَا‏:‏ فَإِذَا جَمَعُوا وَاحِدَهُمْ، رَدُّوا الْجَمْعَ إِلَى الْأَصْلِ وَهَمَزُوا، فَقَالُوا‏:‏ مَلَائِكَةٌ‏.‏

وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ نَحْوَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهَا، فَتَتْرُكُ الْهَمْزَ فِي الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ مَهْمُوزَةٌ، فَيَجْرِي كَلَامُهُمْ بِتَرْكِ هَمْزَهَا فِي حَالٍ، وَبِهَمْزِهَا فِي أُخْرَى، كَقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏رَأَيْتُ فَلَانًا‏"‏ فَجَرَى كَلَامُهُمْ بِهَمْزِ ‏"‏رَأَيْت‏"‏ ثُمَّ قَالُوا‏:‏ ‏"‏نَرَى وَتَرَى وَيَرَى ‏"‏، فَجَرَى كَلَامُهُمْ فِي‏"‏ يَفْعَلُ ‏"‏وَنَظَائِرِهَا بِتَرْكِ الْهَمْزِ، حَتَّى صَارَ الْهَمْزُ مَعَهَا شَاذًّا، مَعَ كَوْنِ الْهَمْزُ فِيهَا أَصْلًا‏.‏ فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي‏"‏ مَلَكٌ وَمَلَائِكَةٌ ‏"‏، جَرَى كَلَامُهُمْ بِتَرْكِ الْهَمْزِ مِنْ وَاحِدِهِمْ، وَبِالْهَمْزِ فِي جَمِيعِهِمْ‏.‏ وَرُبَّمَا جَاءَ الْوَاحِدُ مَهْمُوزًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَلَسْتَ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ *** تَحَدَّرَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يُصَوِّبُ

وَقَدْ يُقَالُ فِي وَاحِدِهِمْ، مَأْلَكٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ‏:‏ جَبَذَ وَجَذَبَ، وَشَأْمَلَ وَشَمْأَلَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَقْلُوبَةِ‏.‏ غَيْرَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ إِذَا سُمِّيَ وَاحِدُهُمْ

‏"‏مَأْلَكٌ‏"‏ أَنْ يُجْمَعَ إِذَا جُمِعَ عَلَى ذَلِك‏"‏ مَآلِكُ ‏"‏، وَلَسْتُ أَحْفَظُ جَمْعَهُمْ كَذَلِكَ سَمَاعًا، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يُجْمَعُونَ‏:‏ مَلَائِكَ وَمَلَائِكَةَ، كَمَا يُجْمَعُ أَشْعَثٌ‏:‏ أَشَاعِثُ وَأَشَاعِثَةٌ، وَمِسْمَعٌ‏:‏ مَسَامِعُ وَمَسَامِعَةٌ، قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي جَمْعِهِمْ كَذَلِكَ‏:‏

وَفِيهِمَا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَوْمٌ *** مَلَائِكُ ذُلِّلُوا وَهُمُ صِعَابُ

وَأَصْلُ الْمَلْأَكُ‏:‏ الرِّسَالَةُ، كَمَا قَالَ عُدَيُّ بْنُ زَيْدٍ الْعِبَادِيُّ‏:‏

أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَلْأَكًا *** إِنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي

وَقَدْ يَنْشُدُ‏:‏ مَأْلَكًا، عَلَى اللُّغَةِ الْأُخْرَى‏.‏ فَمَنْ قَالَ‏:‏ مَلْأَكًا فَهُوَ مَفْعَلٌ، مَنْ لَأَكَ إِلَيْهِ يَلْأَكُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ رِسَالَةَ مَلْأَكَةٍ، وَمَنْ قَالَ‏:‏ مَأْلَكًا فَهُوَ مَفْعَلٌ مِنْ أَلَكْتُ إِلَيْهِ آلَكُ‏:‏ إِذَا أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ مَأَلَكَةً وَأُلُوكًا، كَمَا قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ‏:‏

وَغُلَامٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ *** بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ

فَهَذَا مِنْ ‏"‏ أَلَكْتَ ‏"‏، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ‏:‏

أَلِكْنِي يَا عُيَيْنُ إِلَيْكَ قَوْلًا *** سَأَهْدِيهِ، إِلَيْكَ إِلَيْكَ عَنِّي

وَقَالَ عَبْدُ بُنِيَ الْحَسْحَاسِ‏:‏

أَلِكْنِي إِلَيْهَا عَمْرُكَ اللَّهُ يَا فَتَى *** بِآيَةِ مَا جَاءَتْ إِلَيْنَا تَهَادِيَا

يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ أُبَلِّغُهَا رِسَالَتِي‏.‏ فُسُمِّيَتِ الْمَلَائِكَةُ مَلَائِكَةً بِالرِّسَالَةِ، لِأَنَّهَا رُسُلُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، وَمَنْ أُرْسِلَتْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ‏}‏‏.‏

اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ‏}‏، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنِّي فَاعِلٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَمُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي بَكْرٍ- يَعْنِي الْهُذَلِيَّ- عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةُ، قَالُوا‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمَلَائِكَتِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ قَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنِّي فَاعِلٌ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنِّي خَالِقٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، قَالَ‏:‏ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ ‏"‏ جَعَلَ ‏"‏، فَهُوَ خَلْقٌ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏‏:‏ أَيْ مُسْتَخْلَفٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، وَمُصَيِّرٌ فِيهَا خَلَفًا‏.‏ وَذَلِكَ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ ‏"‏ مَكَّةُ ‏"‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ سِابِطٍ‏:‏ ‏(‏أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ مَكَّةَ، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَهِيَ أَوَّلُ مَنْ طَافَ بِهِ، وَهِيَ ‏"‏الْأَرْض‏"‏ الَّتِي قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏، وَكَانَ النَّبِيُّ إِذَا هَلَكَ قَوْمُهُ، وَنَجَا هُوَ وَالصَّالِحُونَ، أَتَاهَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فَعَبَّدُوا اللَّهَ بِهَا حَتَّى يَمُوتُوا‏.‏ فَإِنَّ قَبْرَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ، بَيِّنَ زَمْزَمَ وَالرُّكْنِ وَالْمَقَامِ‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خَلِيفَةً‏}‏‏.‏

وَالْخَلِيفَةُ الْفَعِيلَةُ مِنْ قَوْلِكَ‏:‏ خَلَفَ فُلَانٌ فُلَانًا فِي هَذَا الْأَمْرِ، إِذَا قَامَ مَقَامَهُ فِيهِ بَعْدَهُ‏.‏ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ يُونُسَ‏:‏ 14‏]‏ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ أَبْدَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْهُمْ، فَجَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ بِعَدَهُمْ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلسُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ‏:‏ خَلِيفَةً، لِأَنَّهُ خَلَفَ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مَقَامَهُ، فَكَانَ مِنْهُ خَلَفًا‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ خَلَفَ الْخَلِيفَةُ، يَخْلُفُ خِلَافَةً وَخِلِّيفَى‏.‏

وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ بِمَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏، يَقُولُ‏:‏ سَاكِنًا وَعَامِرًا يَسْكُنُهَا وَيَعْمُرُهَا خَلَفًا، لَيْسَ مِنْكُمْ‏.‏

وَلَيْسَ الَّذِي قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي مَعْنَى الْخَلِيفَةِ بِتَأْوِيلِهَا- وَإِنْ كَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ مَلَائِكَتَهُ أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يَسْكُنُهَا- وَلَكِنَّ مَعْنَاهَا مَا وَصَفْتُ قَبْلُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَمَا الَّذِي كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ بَنِي آدَمَ لَهَا عَامِرًا، فَكَانَ بَنُو آدَمَ مِنْهُ بَدَلًا وَفِيهَا مِنْهُ خَلَفًا‏؟‏

قِيلَ‏:‏ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ‏.‏

فَحَدَّثْنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ أَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ الْجِنُّ فَأَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا فِيهَا الدِّمَاءَ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏.‏ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَأَطْرَافِ الْجِبَالِ‏.‏ ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ فَأَسْكَنَهُ إِيَّاهَا، فَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏‏.‏

فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏، مِنَ الْجِنِّ، يُخَلِّفُونَهُمْ فِيهَا فَيَسْكُنُونَهَا وَيُعَمِّرُونَهَا‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏، الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَخَلْقَ الْجِنَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلْقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَكَفَرَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ، فَكَانَتَ الْمَلَائِكَةُ تَهْبِطُ إِلَيْهِمْ فِي الْأَرْضِ فَتُقَاتِلُهُمْ، فَكَانَتِ الدِّمَاءُ، وَكَانَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏، أَيْ خَلَفًا يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُمْ وَلَدُ آدَمَ الَّذِينَ يَخْلُفُونَ أَبَاهُمْ آدَمَ، وَيَخْلُفُ كُلَّ قَرْنٍ مِنْهُمُ الْقَرْنَ الَّذِي سَلَفَ قَبْلَهُ‏.‏ وَهَذَا قَوْلٌ حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ‏.‏

وَنَظِيرٌ لَهُ مَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَعْنُونَ بِهِ بُنِيَ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْلُقَ فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَأَجْعَلَ فِيهَا خَلِيفَةً‏.‏ وَلَيْسَ لِلَّهِ يَوْمَئِذٍ خَلْقٌ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ، وَالْأَرْضُ لَيْسَ فِيهَا خَلْقٌ‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ يَحْتَمِلُ مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ ابْنُ زَيْدٍ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً لَهُ يَحْكُمُ فِيهَا بَيْنَ خَلْقِهِ بِحُكْمِهِ، نَظِيرَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏‏.‏ قَالُوا‏:‏ رَبُّنَا وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏.‏ فَكَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مِنِّي يَخْلُفْنِي فِي الْحُكْمِ بَيْنَ خَلْقِي‏.‏ وَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ هُوَ آدَمُ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ خَلْقِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْإِفْسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، فَمِنْ غَيْرِ خُلَفَائِهِ، وَمِنْ غَيْرِ آدَمَ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ فِي عِبَادِ اللَّهِ- لِأَنَّهُمَا أَخْبَرَا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ لِمَلَائِكَتِهِ- إِذْ سَأَلُوهُ‏:‏ مَا ذَاكَ الْخَلِيفَةُ‏؟‏‏:‏ إِنَّهُ خَلِيفَةٌ يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏.‏ فَأَضَافَ الْإِفْسَادَ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَى ذُرِّيَّةِ خَلِيفَتِهِ دُونَهُ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ خَلِيفَتَهُ‏.‏

وَهَذَا التَّأْوِيلُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي مَعْنَى الْخَلِيفَةِ مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ مِنْ وَجْهٍ، فَمُوَافِقٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ‏.‏ فَأَمَّا مُوَافَقَتُهُ إِيَّاهُ، فَصَرْفُ مُتَأَوِّلِيهِ إِضَافَةَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ فِيهَا إِلَى غَيْرِ الْخَلِيفَةِ‏.‏ وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ إِيَّاهُ، فَإِضَافَتُهُمَا الْخِلَافَةَ إِلَى آدَمَ بِمَعْنَى اسْتِخْلَافِ اللَّهِ إِيَّاهُ فِيهَا‏.‏ وَإِضَافَةُ الْحَسَنِ الْخِلَافَةَ إِلَى وَلَدِهِ، بِمَعْنَى خِلَافَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَقِيَامِ قَرْنٍ مِنْهُمْ مَقَامَ قَرْنٍ قَبْلَهُمْ، وَإِضَافَةُ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ إِلَى الْخَلِيفَةِ‏.‏

وَالَّذِي دَعَا الْمُتَأَوِّلِينَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏- فِي التَّأْوِيلِ الَّذِي ذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ- إِلَى مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ، أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا قَالَتْ لِرَبِّهَا- إِذْ قَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏، إِخْبَارًا مِنْهَا بِذَلِكَ عَنِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ جَاعِلُهُ فِي الْأَرْضِ لَا عَنْ غَيْرِهِ‏.‏ لِأَنَّ الْمُحَاوَرَةَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ رَبِّهَا عَنْهُ جَرَتْ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ- وَكَانَ اللَّهُ قَدْ بَرَّأَ آدَمَ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَطَهَّرَهُ مِنْ ذَلِكَ- عُلِمَ أَنَّ الَّذِي عَنَى بِهِ غَيْرَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ‏.‏ فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الَّذِي يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ هُوَ غَيْرُ آدَمَ، وَأَنَّهُمْ وَلَدُهُ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَأَنَّ مَعْنَى الْخِلَافَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ إِنَّمَا هِيَ خِلَافَةُ قَرْنٍ مِنْهُمْ قَرْنًا غَيْرَهُمْ لِمَا وَصَفْنَا‏.‏

وَأَغْفَلَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَمُتَأَوَّلُو الْآيَةِ هَذَا التَّأْوِيلَ، سَبِيلَ التَّأْوِيلِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذْ قَالَ لَهَا رَبُّهَا‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏، لَمْ تُضِفْ الْإِفْسَادَ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ فِي جَوَابِهَا رَبِّهَا إِلَى خَلِيفَتِهِ فِي أَرْضِهِ، بَلْ قَالَتْ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏‏؟‏ وَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ رَبُّهَا أَعْلَمَهَا أَنَّهُ يَكُونُ لِخَلِيفَتِهِ ذَلِكَ ذَرِّيَّةٌ يَكُونُ مِنْهُمُ الْإِفْسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَبَّنَا ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ‏}‏‏.‏ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَنْ حَكَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏