فصل: تفسير الآيات رقم (160- 161)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 161‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ فَحَرَّمْنَا عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ نَقَضُوا مِيثَاقَهُمُ الَّذِي وَاثَقُوا رَبَّهُمْ، وَكَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ، وَقَالُوا الْبُهْتَانَ عَلَىمَرْيَمَ، وَفَعَلُوا مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ طَيِّبَاتٍ مِنَ الْمَآكِلِ وَغَيْرِهَا، كَانَتْ لَهُمْ حَلَّالًا عُقُوبَةً لَهُمْ بِظُلْمِهِمْ، الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏"‏ الْآيَةَ، عُوقِبَ الْقَوْمُ بِظُلْمٍ ظَلَمُوهُ وَبَغْيٍ بَغَوْهُ، حَرُّمَتْ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ بِبَغْيِهِمْ وَبِظُلْمِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ وَبِصَدِّهِمْ عِبَادَ اللَّهِ عَنْ دِينِهِ وَسُبُلِهِ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ، صَدًّا كَثِيرًا‏.‏ وَكَانَ صَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏:‏ بِقَوْلِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ، وَادِّعَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ، وَتَبْدِيلِهِمْ كِتَابِ اللَّهِ، وَتَحْرِيفِ مَعَانِيهِ عَنْ وُجُوهِهِ‏.‏ وَكَانَ مِنْ عَظِيمٍ ذَلِكَ‏:‏ جُحُودُهُمْ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرَكَهُمْ بَيَانَ مَا قَدْ عَلِمُوا مِنْ أَمْرِهِ لِمَنْ جَهِلَ أَمْرَهُ مِنَ النَّاسِ‏.‏

وَبِنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَنْفُسَهُمْ وَغَيْرَهُمْ عَنِ الْحَقِّ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَأَخْذِهُمُ الرِّبَا‏"‏، وَهُوَ أَخْذُهُمْ مَا أُفْضِلُوا عَلَى رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ، لِفَضْلِ تَأْخِيرٍ فِي الْأَجَلِ بَعْدَ مَحِلِّهَا، وَقَدْ بَيَّنَتُ مَعْنَى ‏"‏الرِّبَا‏"‏ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

‏"‏وَقَدْ نَهَوْا عَنْهُ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ عَنْأَخْذِ الرِّبَاحُكْمُهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْالرُّشَى عَلَى الْحُكْمِ، كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 62‏]‏‏.‏ وَكَانَ مِنْ أَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَثْمَانِ الْكُتُبِ الَّتِي كَانُوا يَكْتُبُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏"‏، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَآكِلِ الْخَسِيسَةِ الْخَبِيثَةِ‏.‏ فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، بِتَحْرِيمِهِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ حَلَالًا قَبْلَ ذَلِكَ‏.‏

وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ أَكَلُوا مَا أَكَلُوا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ كَذَلِكَ بِالْبَاطِلِ، لِأَنَّهُمْ أَكَلُوهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مِنْهُمْ بِغَيْرِ اسْتِيجَابٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ وَجَعَلْنَا لِلْكَافِرِينَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ، الْعَذَابَ الْأَلِيمَ وَهُوَ الْمُوجِعُ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ عِنْدَهُ، يَصْلَوْنَهَا فِي الْآخِرَةِ، إِذَا وَرَدُوا عَلَى رَبِّهِمْ، فَيُعَاقِبُهُمْ بِهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏162‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ هَذَا مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اسْتِثْنَاءٌ، اسْتَثْنَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي مَضَتْ، مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ‏"‏‏.‏

ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِعِبَادِهِ، مُبَيِّنًا لَهُمْ حُكْمَ مِنْ قَدْ هَدَاهُ لِدِينِهِ مِنْهُمْ وَوَفَّقَهُ لِرُشْدِهِ‏:‏ مَا كُلُ أَهْلِ الْكِتَابِ صِفَتُهُمُ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفْتُ لَكُمْ، ‏"‏ ‏{‏لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ‏}‏ ‏"‏، وَهُمُ الَّذِينَ قَدْ رَسَخُوا فِي الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا أَنْبِيَاؤُهُ، وَأَتْقَنُوا ذَلِكَ، وَعَرَفُوا حَقِيقَتَهُ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّامَعْنَى ‏"‏الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ‏"‏، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

‏"‏وَالْمُؤْمِنُونَ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، هُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، وَبِالْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى مَنْ قَبْلِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَلَا يَسْأَلُونَكَ كَمَا سَأَلَكِ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِنْهُمْ‏:‏ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِمَا قَرَءُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَأَتَتْهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، أَنَّكَ لِلَّهِ رَسُولٌ، وَاجِبٌ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُكَ، لَا يَسَعُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى أَنْ يَسْأَلُوكَ آيَةً مُعْجِزَةً وَلَا دَلَالَةً غَيْرَ الَّذِي قَدْ عَلِمُوا مِنْ أَمْرِكَ بِالْعِلْمِ الرَّاسِخِ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إِخْبَارِ أَنْبِيَائِهِمْ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، وَبِمَا أَعْطَيْتُكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ، فَهُمْ لِذَلِكَ مَنْ عِلْمِهِمْ وَرُسُوخِهِمْ فِيهِ، يُؤْمِنُونَ بِكَ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ، وَبِمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِكَ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ ‏"‏، اسْتَثْنَى اللَّهُ أُثْبِيَّةً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ، يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُصَدِّقُونَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ فِي ‏"‏المُقِيمِينَ الصَّلَاةَ‏"‏، أَهَمَّ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، أَمْ هُمْ غَيْرُهُمْ‏؟‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُمْ هُمْ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُو ذَلِكَ فِي سَبَبِ مُخَالَفَةِ إِعْرَابِهِمْ إِعْرَابَ ‏"‏الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏"‏ وَهُمَا مِنْ صِفَةِ نَوْعٍ مِنَ النَّاسِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ذَلِكَ غَلَطٌ مِنَ الْكَاتِبِ، وَإِنَّمَا هُوَ‏:‏ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ‏:‏ قُلْتُ لَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ‏:‏ مَا شَأْنُهَا كَتَبَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ‏"‏‏}‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْكَاتِبَ لَمَّا كَتَبَ‏:‏ ‏"‏لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ‏"‏، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَالَ‏:‏ مَا أَكْتُبُ‏؟‏ قِيلَ لَهُ‏:‏ اكْتُبْ‏:‏ ‏"‏وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ‏"‏، فَكَتَبَ مَا قِيلَ لَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ‏:‏ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَة عنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ‏}‏ ‏"‏، وَعَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ‏)‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 69‏]‏، وَعَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَانَ لَسَاحِرَانِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ طَهَ‏:‏ 63‏]‏، فَقَالَتْ‏:‏ يَا ابْنَ أُخْتِي، هَذَا عَمَلُ الْكَاتِبِ، أَخْطَئُوا فِي الْكِتَابِ‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ‏)‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ‏:‏ ‏"‏وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ‏"‏، مِنْ صِفَةِ ‏"‏الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ‏"‏، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ لَمَّا تَطَاوَلَ، وَاعْتَرَضَ بَيْنَ ‏"‏الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ‏"‏، ‏"‏وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ‏"‏ مَا اعْتُرِضَ مِنَ الْكَلَامِ فَطَالَ، نُصِبَ ‏"‏المُقِيمِينَ‏"‏ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صِفَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَنَعْتِهِ، إِذَا تَطَاوَلَتْ بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، خَالَفُوا بَيْنَ إِعْرَابِ أَوَّلِهِ وَأَوْسَطِهِ أَحْيَانًا، ثُمَّ رَجَعُوا بِآخِرِهِ إِلَى إِعْرَابِ أَوَّلِهِ‏.‏ وَرُبَّمَا أَجْرَوْا إِعْرَابَ آخِرَهُ عَلَى إِعْرَابِ أَوْسَطِهِ‏.‏ وَرُبَّمَا أَجْرَوْا ذَلِكَ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْإِعْرَابِ‏.‏ وَاسْتَشْهَدُوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 177‏]‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلِ ‏"‏المُقِيمُونَ الصَّلَاةَ‏"‏ مِنْ صِفَةِ غَيْرِ ‏"‏الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنْ كَانَ ‏"‏الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏"‏ مِنْ ‏"‏المُقِيمِينَ الصَّلَاةَ‏"‏‏.‏

وَقَالَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةَ جَمِيعًا‏:‏ مَوْضِعُ ‏"‏المُقِيمِينَ‏"‏ فِي الْإِعْرَابِ، خَفْضٌ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَوْضِعُهُ خَفْضٌ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى‏"‏مَا‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ ‏"‏، وَيُؤْمِنُونَ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ مُتَأَوِّلُو ذَلِكَ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ ‏"‏، وَبِإِقَامِ الصَّلَاةِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ ثُمَّ ارْتَفَعَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏"‏، عَطْفًا عَلَى مَا فِي‏"‏يُؤْمِنُونَ‏"‏ مِنْ ذِكْرِ ‏"‏المُؤْمِنِينَ‏"‏، كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، هُمْ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلِ ‏"‏المُقِيمُونَ الصَّلَاةَ‏"‏، الْمَلَائِكَةُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَإِقَامَتُهُمُ الصَّلَاةِ، تَسْبِيحُهُمْ رَبَّهُمْ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ ‏"‏، وَبِالْمَلَائِكَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ ‏"‏وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏"‏، وَيُؤْمِنُونَ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ، هُمْ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ التَّوْبَةِ‏:‏ 61‏]‏‏.‏

وَأَنْكَرَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنْ يَكُونَ‏:‏ ‏"‏الْمُقِيمِينَ‏"‏ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ إِنَّمَا تَنْصِبُ الْعَرَبُ عَلَى الْمَدْحِ مَنْ نَعَتٍ مَنْ ذَكَرَتْهُ بَعْدَ تَمَامِ خَبَرِهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَخَبَرُ ‏"‏الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ‏"‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَغَيْرُ جَائِزٍ نَصَبُ ‏"‏المُقِيمِينَ‏"‏ عَلَى الْمَدْحِ، وَهُوَ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ، وَلَمَّا يَتِمَّ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، وَمِنَ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ مَوْضِعُ ‏"‏المُقِيمِينَ‏"‏، خَفْضٌ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَإِلَى الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الْوَجْهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ، مُنْكِرٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَعْطِفُ بِظَاهِرٍ عَلَى مَكْنِيٍّ فِي حَالِ الْخَفْضِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ أَشْعَارِهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، أَنْ يَكُونَ ‏"‏المُقِيمِينَ‏"‏ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، نَسَقًا عَلَى‏"‏مَا‏"‏، الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏"‏ وَأَنْ يُوَجِّهَ مَعْنَى ‏"‏المُقِيمِينَ الصَّلَاةَ‏"‏، إِلَى الْمَلَائِكَةِ‏.‏

فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ ‏"‏وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏"‏، يَا مُحَمَّدُ، مِنَ الْكِتَابِ ‏"‏وَبِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏"‏، مِنْ كُتُبِي، وَبِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ‏.‏ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ ‏"‏الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ‏"‏، فَيَقُولُ‏:‏ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ بِالْكُتُبِ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏.‏

وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ ‏(‏وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ‏)‏، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِهِ، فِيمَا ذَكَرُوا‏.‏ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنَ الْكَاتِبِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ الْمَصَاحِفِ غَيْرَ مُصْحَفِنَا الَّذِي كَتَبَهُ لَنَا الْكَاتِبُ الَّذِي أَخْطَأَ فِي كِتَابِهِ بِخِلَافِ مَا هُوَ فِي مُصْحَفِنَا‏.‏ وَفِي اتِّفَاقِ مُصْحَفِنَا وَمُصْحَفِ أَبِيٍّ فِي ذَلِكَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي فِي مُصْحَفِنَا مِنْ ذَلِكَ صَوَابٌ غَيْرَ خَطَأٍ‏.‏ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ خَطَأً مِنْ جِهَةِ الْخَطِّ، لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ أُخِذَ عَنْهُمُ الْقُرْآنُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُونَ مَنْ عَلَّمُوا ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ اللَّحْنِ، وَلَأَصْلَحُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَقَّنُوهُ الْأُمَّةَ تَعْلِيمًا عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ‏.‏

وَفِي نَقْلِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا ذَلِكَ قِرَاءَةً، عَلَى مَا هُوَ بِهِ فِي الْخَطِّ مَرْسُومًا، أَدُلُّ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةٍ ذَلِكَ وَصَوَابِهِ، وَأَنْ لَا صُنْعَ فِي ذَلِكَ لِلْكَاتِبِ‏.‏

وَأَمَّا مِنْ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى النَّصْبِ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لِ ‏"‏الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ‏"‏، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، لِمَا قَدْ ذَكَرَتُ قَبْلُ مِنَ الْعِلَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْدِلُ عَنْ إِعْرَابِ الِاسْمِ الْمَنْعُوتِ بِنَعْتٍ فِي نَعْتِهِ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ خَبَرِهِ‏.‏ وَكَلَامُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَفْصَحُ الْكَلَامِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ تَوْجِيهُهُ إِلَّا إِلَى الَّذِي هُوَ ‏[‏أَوْلَى‏]‏ بِهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ‏.‏

وَأَمَّا تَوْجِيهُ مَنْ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى الْعَطْفِ بِهِ عَلَى ‏"‏الهَاءِ‏"‏ وَ ‏"‏المِيمِ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ‏"‏ أَوْ‏:‏ إِلَى الْعَطْفِ بِهِ عَلَى ‏"‏الكَافِ‏"‏ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏"‏ أَوْ‏:‏ إِلَى ‏"‏الكَافِ‏"‏ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏"‏، فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْفَصَاحَةِ مِنْ نَصْبِهِ عَلَى الْمَدْحِ، لِمَا قَدْ ذَكَرَتُ قَبْلُ مِنْ قُبْحِ رَدِ الظَّاهِرِ عَلَى الْمَكْنِيِّ فِي الْخَفْضِ‏.‏

وَأَمَّا تَوْجِيهُ مِنْ وَجَّهِ ‏"‏المُقِيمِينَ‏"‏ إِلَى ‏"‏الإِقَامَةِ‏"‏، فَإِنَّهُ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا مِنْ دَلَالَةِ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَلَا خَبَرٍ تَثْبُتُ حُجَّتُهُ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَقَلُ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إِلَى بَاطِنٍ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏"‏، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ بِهِ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ‏"‏، وَهُوَ مِنْ صِفَتِهِمْ‏.‏

وَتَأْوِيلُهُ‏:‏ وَالَّذِينَ يُعْطُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ مَنْ جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ وَصَرَفَهَا إِلَيْهِ‏"‏وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ وَالْمُصَدِّقُونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَأُلُوهَتِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ‏"‏أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صَفَّتْهُمْ‏"‏سَنُؤْتِيهِمْ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ سَنُعْطِيهِمْ‏"‏أَجْرًا عَظِيمًا‏"‏، يَعْنِي‏:‏ جَزَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَثَوَابًا عَظِيمًا، وَذَلِكَ الْجَنَّةُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏163‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ‏}‏ ‏"‏، إِنَّا أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، بِالنُّبُوَّةِ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى نُوحٍ، وَإِلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ سَمَّيْتُهُمْ لَكَ مِنْ بَعْدِهِ، وَالَّذِينَ لَمَّ أُسَمِّهِمْ لَكَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَوْحَى إِلَيْهِ كَمَا أَوْحَى إِلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِهِ‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ لَمَّا فَضَحَهُمُ اللَّهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ ‏"‏ فَتَلَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا‏:‏ ‏"‏مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى ‏"‏‏!‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ، تَكْذِيبًا لَهُمْ، وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنَّهُ قَدْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ مُوسَى وَعَلَى مَنْ سَمَّاهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَعَلَى آخَرِينَ لَمْ يُسَمِّهِمْ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ قَالَ سُكَيْنٌ وَعُدَيُّ بْنُ زَيْدٍ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، مَا نَعْلَمُ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى ‏!‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ ‏"‏ إِلَى آخَرَ الْآيَاتِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ قَالُوا لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ فِي ذِكْرِهِمْ‏:‏ ‏"‏مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا عَلَى مُوسَى، وَلَا عَلَى عِيسَى ‏"‏‏!‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 91‏]‏، وَلَا عَلَى مُوسَى وَلَا عَلَى عِيسَى‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعَّبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ‏:‏ أَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا‏}‏ ‏"‏، فَلَمَّا تَلَاهَا عَلَيْهِمْ يَعْنِي‏:‏ عَلَى الْيَهُودِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ، جَحَدُوا كُلَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَقَالُوا‏:‏ ‏"‏مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا عَلَى مُوسَى وَلَا عَلَى عِيسَى ‏!‏‏!‏ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيٍّ مِنْ شَيْءٍ‏"‏‏!‏ قَالَ‏:‏ فَحَلَّ حُبْوَتَهُ وَقَالَ‏:‏ وَلَا عَلَى أَحَدٍ‏!‏‏!‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 91‏]‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّ الْقَرَأَةَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ‏.‏

فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ، غَيْرَ نَفَرٍ مَنْ قَرَأَةِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا‏}‏، بِفَتْحِ ‏"‏الزَّايِ‏"‏ عَلَى التَّوْحِيدِ، بِمَعْنَى‏:‏ وَآتَيْنَا دَاوُدَ الْكِتَابَ الْمُسَمَّى‏"‏زَبُورًا‏"‏‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا دَاوُدَ زُبُورًا‏}‏، بِضَمّ ‏"‏الزَّايِ‏"‏ جَمْعٍ‏"‏زَبْرٍ‏"‏‏.‏

كَأَنَّهُمْ وَجَّهُوا تَأْوِيلَهُ‏:‏ وَآتَيْنَا دَاوُدَ كُتُبًا وَصُحُفًا مَزْبُورَةً‏.‏

مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏زَبَرْتُ الْكِتَابَ أَزْبُرُهُ زَبْرًا‏"‏ وَ‏"‏ذَبَرْتُهُ أذْبُرُهُ ذَبْرًا‏"‏، إِذَا كَتَبْتُهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدَنَا، قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا‏}‏، بِفَتْحِ ‏"‏الزَّايِ‏"‏، عَلَى أَنَّهُ اسْمُ الْكِتَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ دَاوُدُ، كَمًّا سَمَّى الْكِتَابَ الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى ‏"‏التَّوْرَاةَ‏"‏، وَالَّذِي أُوتِيَهُ عِيسَى ‏"‏الْإِنْجِيلَ‏"‏، وَالَّذِي أُوتِيَهُ مُحَمَّدٌ ‏"‏الْفَرْقَانَ‏"‏، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الِاسْمُ الْمَعْرُوفُ بِهِ مَا أُوتِيَ دَاوُدُ‏.‏ وَإِنَّمَا تَقُولُ الْعَرَبُ‏:‏ ‏"‏زَبُورُ دَاوُدَ ‏"‏، بِذَلِكَ تَعْرِفُ كِتَابَهُ سَائِرُ الْأُمَمِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَإِلَى رُسُلٍ قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ، وَرُسُلٍ لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ‏.‏

فَلَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ‏:‏ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، فَمَا بَالُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَرُسُلًا‏"‏ مَنْصُوبًا غَيْرَ مَخْفُوضٍ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ نَصَبَ ذَلِكَ إِذْ لَمْ تَعْدُ عَلَيْهِ‏"‏إِلَى‏"‏ الَّتِي خَفَضَتِ الْأَسْمَاءَ قَبْلَهُ، وَكَانَتِ الْأَسْمَاءُ قَبْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَخْفُوضَةً، فَإِنَّهَا فِي مَعْنَى النَّصْبِ‏.‏ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ رَسُولًا كَمَا أَرْسَلْنَا نُوحًا وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، فَعُطِفَتِ ‏"‏الرُّسُلُ‏"‏ عَلَى مَعْنَى الْأَسْمَاءِ قَبْلَهَا فِي الْإِعْرَابِ، لِانْقِطَاعِهَا عَنْهَا دُونَ أَلْفَاظِهَا، إِذْ لَمْ يَعْدُ عَلَيْهَا مَا خَفَضَهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏.‏

لَوْ جِئْتَ بِالْخُبْزِ لَهُ مُنَشَّرَا *** وَالْبَيْضَ مَطْبُوخًا مَعًا وَالسُّكَّرَا

لَمْ يُرْضِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْكَرَا ***

وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبَ ‏"‏الرُّسُلِ‏"‏، لِتَعَلُّقِ ‏"‏الوَاوِ‏"‏ بِالْفِعْلِ، بِمَعْنَى‏:‏ وَقَصَصْنَا رُسُلًا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْإِنْسَانِ‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أَبِيٍّ ‏{‏وَرُسُلٌ قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلٌ لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ‏}‏، فَرُفِعَ ذَلِكَ، إِذْ قُرِئَ كَذَلِكَ، بِعَائِدِ الذَّكَرِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَخَاطَبَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ مُوسَى خِطَابًا، وَقَدْ‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَسُئِلَ‏:‏ كَيْفَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مُشَافَهَةً‏.‏

وَقَدْ‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ ابْنِ مُبَارَكٍ، عَنْ مَعْمَرٍ وَيُونُسَ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي جَزْءُ بْنُ جَابِرٍ الْخَثْعَمِيُّ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ كَعْبًا يَقُولُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى، كَلَّمْهُ بِالْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا قَبْلَ كَلَامِهِ يَعْنِي‏:‏ كَلَامِ مُوسَى فَجَعَلَ يَقُولُ‏:‏ يَا رَبِّ، لَا أَفْهَمُ‏!‏ حَتَّى كَلَّمَهُ بِلِسَانِهِ آخِرَ الْأَلْسِنَةِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَبِّ هَكَذَا كَلَامُكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا وَلَوْ سَمِعْتَ كَلَامِي أَيْ‏:‏ عَلَى وَجْهِهِ لَمْ تَكْ شَيْئًا‏!‏

قَالَ ابْنُ وَكِيعٍ‏:‏ قَالَ أَبُو أُسَامَةَ ‏{‏‏}‏‏:‏ وَزَادَنِي أَبُو بَكْرٍ الصَّغَانِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى قَالَ‏:‏ يَا رَبِّ، هَلْ فِي خَلْقِكَ شَيْءٌ يُشْبِهُ كَلَامَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا وَأَقْرَبُ خَلْقِي شَبَهًا بِكَلَامِي، أَشَدُّ مَا تَسْمَعُ النَّاسُ مِنَ الصَّوَاعِقِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعَّبٍ الْقُرَظِيِّ يَقُولُ‏:‏ سُئِلَ مُوسَى‏:‏ مَا شَبَّهْتَ كَلَامَ رَبِّكَ مِمَّا خَلَقَ‏؟‏ فَقَالَ مُوسَى‏:‏ الرَّعْدُ السَّاكِبُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهَبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ‏:‏ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ جَزْءِ بْنِ جَابِرٍ الْخَثْعَمِيِّ قَالَ‏:‏ لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِالْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا قَبْلَ لِسَانِهِ، فَطَفِقَ يَقُولُ‏:‏ وَاللَّهُ يَا رَبِّ، مَا أَفْقَهُ هَذَا‏!‏‏!‏ حَتَّى كَلَّمَهُ بِلِسَانِهِ آخِرَ الْأَلْسِنَةِ بِمِثْلِ صَوْتِهِ، فَقَالَ مُوسَى‏:‏ يَا رَبِّ هَذَا كَلَامُكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا‏.‏ قَالَ‏:‏ هَلْ فِي خَلْقِكَ شَيْءٌ يُشْبِهُ كَلَامَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا ‏,‏ وَأَقْرَبُ خَلْقِي شَبَهًا بِكَلَامِي، أَشَدُّ مَا يَسْمَعُ النَّاسُ مِنَ الصَّوَاعِقِ‏.‏

حَدَّثَنِي أَبُو يُونُسَ الْمَكِّيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ‏:‏ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ جَزْءُ بْنُ جَابِرٍ الْخَثْعَمِيُّ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ ‏[‏كَعْبَ‏]‏ الْأَحْبَارِ يَقُولُ‏:‏ لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِالْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا قَبْلَ لِسَانِهِ، فَطَفِقَ مُوسَى يَقُولُ‏:‏ أَيْ رَبِّ، وَاللَّهِ مَا أَفْقَهُ هَذَا‏!‏‏!‏ حَتَّى كَلَّمَهُ آخِرَ الْأَلْسِنَةِ بِلِسَانِهِ بِمِثْلِ صَوْتِهِ، فَقَالَ مُوسَى‏:‏ أَيْ رَبِّ، أَهَكَذَا كَلَامُكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَوْ كَلَّمَتْكَ بِكَلَامِي لَمْ تَكُنْ شَيْئًا‏!‏ قَالَ‏:‏ أَيْ رَبِّ، هَلْ فِي خَلْقِكَ شَيْءٌ يُشْبِهُ كَلَامَكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا وَأَقْرَبُ خَلْقِي شَبَهًا بِكَلَامِي، أَشَدُّ مَا يُسْمَعُ مِنَ الصَّوَاعِقِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ جِزْءِ بْنِ جَابِرٍ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ كَعْبًا يَقُولُ‏:‏ لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِالْأَلْسِنَةِ قَبْلَ لِسَانِهِ، طَفِقَ مُوسَى يَقُولُ‏:‏ أَيْ رَبِّ، إِنِّي لَا أَفْقَهُ هَذَا‏!‏‏!‏ حَتَّى كَلَّمَهُ اللَّهُ آخِرَ الْأَلْسِنَةِ بِمِثْلِ لِسَانِهِ، فَقَالَ مُوسَى‏:‏ أَيْ رَبِّ، هَذَا كَلَامُكَ‏؟‏ قَالَ اللَّهُ‏:‏ لَوْ كَلَّمَتْكَ بِكَلَامِي لَمْ تَكُنْ شَيْئًا‏!‏ قَالَ‏:‏ يَا رَبِّ، فَهَلْ مَنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ يُشْبِهُ كَلَامَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا وَأَقْرَبُ خَلْقِي شَبَهًا بِكَلَامِي، أَشَدُّ مَا يُسْمَعُ مِنَ الصَّوَاعِقِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏165‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ‏:‏ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَمَنْ ذَكَرَ مِنَ الرُّسُلِ ‏"‏رُسُلًا‏"‏، فَنَصَبَ ‏"‏الرُّسُلَ‏"‏ عَلَى الْقَطْعِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَ أَسْمَاءَهُمْ ‏"‏مُبَشِّرِينَ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ أَرْسَلْتُهُمْ رُسُلًا إِلَى خَلْقِي وَعِبَادِي، مُبَشِّرِينَ بِثَوَابِي مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ أَمْرِي وَصَدَّقَ رُسُلِي، وَمُنْذِرِينَ عُقَابَيْ مَنْ عَصَانِي وَخَالَفَ أَمْرِي وَكَذَّبَ رُسُلِي‏"‏لِئَلَّا يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ أَرْسَلَتْ رُسُلِي إِلَى عِبَادِي مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَحْتَجَّ مَنْ كَفَرَ بِي وَعَبْدَ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِي، أَوْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِي بِأَنْ يَقُولَ إِنْ أَرَدْتُ عِقَابَهُ‏:‏ ‏{‏لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ وَنَخْزَى‏}‏ ‏[‏سُورَةُ طَهَ‏:‏ 134‏]‏‏.‏ فَقَطَعَ حُجَّةَ كُلِّ مُبْطِلٍ أَلْحَدَ فِي تَوْحِيدِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، بِجَمِيعِ مَعَانِي الْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ عُذْرَهُ، إِعْذَارًا مِنْهُ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ، لِتَكُونَ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏"‏، فَيَقُولُوا‏:‏ مَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رُسُلًا‏.‏

‏"‏وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ ذَا عِزَّةٍ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنِ انْتَقَمَ ‏[‏مِنْهُ‏]‏ مِنْ خَلْقِهِ، عَلَى كُفْرِهِ بِهِ، وَمَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ، بَعْدَ تَثْبِيتِهِ حُجَّتَهُ عَلَيْهِ بِرُسُلِهِ وَأَدِلَّتِهِ‏"‏حَكِيمًا‏"‏، فِي تَدْبِيرِهِ فِيهِمْ مَا دَبَّرَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏166‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ إِنْ يَكْفُرْ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، الْيَهُودُ الَّذِينَ سَأَلُوكَ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالُوا لَكَ‏:‏ ‏"‏مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ‏"‏ فَكَذَّبُوكَ، فَقَدْ كَذَّبُوا‏.‏ مَا الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا‏:‏ لَكِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ بِتَنْزِيلِهِ إِلَيْكَ مَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ وَوَحْيِهِ، أَنْزَلَ ذَلِكَ إِلَيْكَ بِعِلْمِ مِنْهُ بِأَنَّكَ خِيَرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَصَفِيُّهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَشْهَدُ لَكَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتُهُ، فَلَا يُحْزِنُكَ تَكْذِيبُ مَنْ كَذَّبَكَ، وَخِلَافُ مَنْ خَالَفَكَ‏"‏وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَحَسْبُكَ بِاللَّهِ شَاهِدًا عَلَى صِدْقِكَ دُونَ مَا سِوَاهُ مَنْ خَلَقَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا شَهِدَ لَكَ بِالصِّدْقِ رَبُّكَ، لَمْ يَضِرْكَ تَكْذِيبُ مَنْ كَذَّبَكَ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مَنَ الْيَهُودِ، دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ نُبُوَّتِهِ، فَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَأَنْكَرُوا مَعْرِفَتَهُ‏.‏

ذِكْرُ الْخَبَرِ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ يَهُودٍ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنِّي وَاللَّهِ أَعْلَمُ إِنَّكُمْ لِتَعْلَمُونِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ‏!‏ فَقَالُوا‏:‏ مَا نَعْلَمُ ذَلِكَ‏!‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنَزْلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعَلَمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏"‏‏.‏»

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِصَابَةٌ مِنْ الْيَهُودِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏"‏، شُهُودٌ وَاللَّهِ غَيْرُ مُتَّهَمَةٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏167‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ إِنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا، يَا مُحَمَّدُ، نُبُوَّتَكَ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهَا، مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ اقْتَصَصْتُ عَلَيْكَ قِصَّتَهُمْ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَوْحَى إِلَيْكَ كِتَابُهُ‏"‏وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ عَنِ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ إِلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ‏.‏ وَكَانَ صَدُّهُمْ عَنْهُ، قِيلُهُمْ لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ‏:‏ ‏"‏مَا نَجِدُ صِفَةَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِنَا‏!‏‏"‏، وَادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ عُهِدَ إِلَيْهِمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي وَلَدِ هَارُونَ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ دَاوُدَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِِ الَّتِي كَانُوا يُثَبِّطُونَ النَّاسَ بِهَا عَنِ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ قَدْ جَارُوا عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ جَوْرًا شَدِيدًا، وَزَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ‏.‏

وَإِنَّمَا يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِجَوْرِهِمْ عَنِ الْمَحَجَّةِ وَضَلَالِهِمْ عَنْهَا، إِخْطَاءَهُمْ دِينَ اللَّهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَابْتَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ مَنْ جَحَدَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدَّ عَمَّا بُعِثَ بِهِ مِنَ الْمِلَّةِ مَنْ قَبْلِ مِنْهُ، فَقَدْ ضَلَّ فَذَهَبَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي ابْتَعَثَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ، ضَلَالًا بَعِيدًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 169‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ إِنَّالَّذِينَ جَحَدُوا رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَفَرُوا بِاللَّهِ بِجُحُودٍ ذَلِكَ، وَظَلَمُوا بِمُقَامِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ، بِظُلْمِهِمْ عِبَادِ اللَّهِ، وَحَسَدًا لِلْعَرَبِ، وَبَغْيًا عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏"‏لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَعْفُوَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ بِتَرْكِهِ عُقُوبَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهُ يَفْضَحُهُمْ بِهَا بِعُقُوبَتِهِ إِيَّاهُمْ عَلَيْهَا ‏"‏وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِيَهْدِيَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا، الَّذِينَ وَصَفْنَا صِفَتَهُمْ، فَيُوَفِّقَهُمْ لِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا ثَوَابَ اللَّهِ، وَيَصِلُونَ بِلُزُومِهِمْ إِيَّاهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَكِنَّهُ يَخْذُلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَسْلُكُوا طَرِيقَ جَهَنَّمَ‏.‏ وَإِنَّمَا كَنَّى بِذِكْرِ ‏"‏الطَّرِيقِ‏"‏ عَنِ الدِّينِ‏.‏ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُوَفِّقَهُمْ لِلْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ يَخْذُلُهُمْ عَنْهُ إِلَى‏"‏طَرِيقِ جَهَنَّمَ‏"‏، وَهُوَ الْكُفْرُ، يَعْنِي‏:‏ حَتَّى يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَيَدْخُلُوا جَهَنَّمَ‏"‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مُقِيمِينَ فِيهَا أَبَدًا‏"‏وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَكَانَ تَخْلِيدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكُمْ صِفَتَهُمْ فِي جَهَنَّمَ، عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ بِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ، وَلَا لَهُ أَحَدٌ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَلَا يَسْتَصْعِبُ عَلَيْهِ مَا أَرَادَ فِعْلَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا، لِأَنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ، وَالْأَمْرَ أَمْرُهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏170‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ‏"‏، مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَسَائِرَ أَصْنَافِ الْكُفْرِ‏"‏قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ جَاءَكُمْ‏"‏بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ دِينًا، يَقُولُ‏:‏ ‏"‏مِنْ رَبِّكُمْ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ ‏"‏فَآمَنُوا خَيْرًا لَكُمْ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فَصَدِّقُوهُ وَصَدِّقُوا بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ مِنَ الدِّينِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ‏"‏وَإِنْ تَكْفُرُوا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَإِنْ تَجْحَدُوا رِسَالَتَهُ وَتُكَذِّبُوا بِهِ وَبِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ، فَإِنَّ جُحُودَكُمْ ذَلِكَ وَتَكْذِيبَكُمْ بِهِ، لَنْ يَضُرَّ غَيْرَكُمْ، وَإِنَّمَا مَكْرُوهُ ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَيْكُمْ، دُونَ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِالَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْكُمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، مُلْكًا وَخَلْقًا، لَا يَنْقُصُ كَفْرُكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِهِ، وَعِصْيَانُكُمْ إِيَّاهُ فِيمَا عَصَيْتُمُوهُ فِيهِ، مِنْ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ شَيْئًا ‏"‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ ‏"‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا‏"‏، بِمَا أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَمَعْصِيَتِهِ فِي ذَلِكَ، عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِذَلِكَ مِنْكُمْ، أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ ‏"‏حَكِيمًا‏"‏ يَعْنِي‏:‏ حَكِيمًا فِي أَمْرِهِ إِيَّاكُمْ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَفِي نَهْيِهِ إِيَّاكُمْ عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَدْبِيرِهِ فِيكُمْ وَفِي غَيْرِكُمْ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَصَبَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏خَيْرًا لَكُمْ‏"‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ‏:‏ نَصَبَ‏"‏خَيْرًا‏"‏ عَلَى الْخُرُوجِ مِمَّا قَبْلِهِ مِنَ الْكَلَامِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ قَدْ تَمَّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏فَآمَنُوا‏"‏‏.‏ وَقَالَ‏:‏ قَدْ سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ خَبَرٍ كَانَ تَامًّا، ثُمَّ اتَّصَلَ بِهِ كَلَامٌ بَعْدَ تَمَامِهِ، عَلَى نَحْوِ اتِّصَالِ‏"‏خَيْرٍ‏"‏ بِمَا قَبْلِهِ‏.‏ فَتَقُولُ‏:‏ ‏"‏لَتَقُومَنَّ خَيْرًا لَكَ‏"‏ وَ‏"‏لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ خَيْرًا لَكَ‏"‏، وَ‏"‏اتَّقِ اللَّهَ خَيْرًا لَكَ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ نَاقِصًا، فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالرَّفْعِ، كَقَوْلِكَ‏:‏ ‏"‏إِنْ تَتُقِ اللَّهَ خَيْرٌ لَكَ‏"‏، وَ ‏{‏وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ‏:‏ جَاءَ النَّصْبُ فِي‏"‏خَيْرٍ‏"‏، لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ‏:‏ فَآمَنُوا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَلَمَّا سَقَطَ‏"‏هُوَ‏"‏، الَّذِي ‏[‏هُوَ كِنَايَةٌ‏]‏ وَمَصْدَرٌ، اتَّصَلَ الْكَلَامُ بِمَا قَبْلَهُ، وَالَّذِي قَبْلَهُ مَعْرِفَةٌ، وَ‏"‏خَيْرٌ‏"‏ نَكِرَةٌ، فَانْتَصَبَ لِاتِّصَالِهِ بِالْمُعَرِّفَةِ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ مِنَ الْفِعْلِ‏"‏قُمْ فَالْقِيَامُ خَيْرٌ لَكَ‏"‏، وَ‏"‏لَا تَقُمْ فَتَرْكُ الْقِيَامِ خَيْرٌ لَكَ‏"‏‏.‏ فَلَمَّا سَقَطَ اتَّصَلَ بِالْأَوَّلِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ أَلَّا تَرَى أَنَّكَ تَرَى الْكِنَايَةَ عَنِ الْأَمْرِ تَصْلُحُ قَبْلَ الْخَبَرِ، فَتَقُولُ لِلرَّجُلِ‏:‏ ‏"‏اتَّقِ اللَّهَ هُوَ خَيْرٌ لَكَ‏"‏، أَيِ‏:‏ الِاتِّقَاءُ خَيْرٌ لَكَ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ لَيْسَ نَصْبُهُ عَلَى إِضْمَارِ‏"‏يَكُنْ‏"‏، لِأَنَّ ذَلِكَ يَأْتِي بِقِيَاسٍ يُبْطِلُ هَذَا‏.‏ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ‏:‏ ‏"‏اتَّقِ اللَّهَ تَكُنْ مُحَسِنًا‏"‏، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ‏:‏ ‏"‏اتَّقِ اللَّهَ مُحْسِنًا‏"‏، وَأَنْتَ تُضْمِرُ‏"‏كَانَ‏"‏، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَقُولَ‏:‏ ‏"‏انْصُرْنَا أَخَانَا‏"‏، وَأَنْتَ تُرِيدُ‏:‏ ‏"‏تَكُنْ أَخَانَا‏"‏‏؟‏ وَزَعْمٌ قَائِلٌ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي‏"‏أَفْعَلَ‏"‏ خَاصَّةً، فَتَقُولُ‏:‏ ‏"‏افْعَلْ هَذَا خَيْرًا لَكَ‏"‏، وَ‏"‏لَا تَفْعَلْ هَذَا خَيْرًا لَكَ‏"‏، وَ‏"‏أَفْضَلُ لَكَ‏"‏‏.‏، وَلَا تَقُولُ‏:‏ ‏"‏صَلَاحًا لََكَ‏"‏‏.‏ وَزَعَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ مَعَ‏"‏أَفْعَلَ‏"‏، لِأَنَّ‏"‏أَفْعَلَ‏"‏ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا أَصْلَحُ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ‏:‏ نُصِبَ‏"‏خَيْرًا‏"‏، لِأَنَّهُ حِينَ قَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏"‏آمِنُوا‏"‏، أَمَرَهُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ اعْمَلُوا خَيْرًا لَكُمْ، وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 171‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ خَاصَّةً، وَلَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ لَا تَقُولُ‏:‏ ‏"‏أَنْ أَنْتَهِيَ خَيْرًا لِي‏"‏‏؟‏ وَلَكِنْ يُرْفَعُ عَلَى كَلَامَيْنِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يُضْمَرُ فِيهِمَا فَكَأَنَّكَ أَخْرَجْتَهُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، لِأَنَّكَ حِينَ قُلْتَ لَهُ‏:‏ ‏"‏انْتَهِ‏"‏، كَأَنَّكَ قُلْتَ لَهُ‏:‏ ‏"‏اخْرُجْ مَنْ ذَا، وَادْخُلْ فِي آخَرَ‏"‏، وَاسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ‏:‏

فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مَالِكٍ *** أَوِ الرُّبَى بَيْنَهُمَا أَسْهَلَا

كَمَا تَقُولُ‏:‏ ‏"‏وَاعِدِيهِ خَيْرًا لَكِ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَدْ سَمِعْتُ نَصْبَ هَذَا فِي الْخَبَرِ، تَقُولُ الْعَرَبُ‏:‏ ‏"‏آتِي الْبَيْتَ خَيْرًا لِي، وَأَتْرُكُهُ خَيْرًا لِي‏"‏، وَهُوَ عَلَى مَا فَسَّرْتُ لَكَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ‏.‏

وَقَالَ آخِرُ مِنْهُمْ‏:‏ نَصَبَ‏"‏خَيْرًا‏"‏، بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَاكْتَفَى مِنْ ذَلِكَ الْمُضْمَرِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَا تَفْعَلُ هَذَا‏"‏ أَوْ‏"‏افْعَلِ الْخَيْرَ‏"‏، وَأَجَازَهُ فِي غَيْرِ‏"‏أَفْعَلَ‏"‏، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏لَا تَفْعَلْ ذَاكَ صَلَاحًا لَكَ‏"‏‏.‏

وَقَالَ آخِرُ مِنْهُمْ‏:‏ نَصَبَ‏"‏خَيْرًا‏"‏ عَلَى ضَمِيرِ جَوَابِ‏"‏يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ‏"‏‏.‏ وَقَالَ‏:‏ كَذَلِكَ كُلُّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ‏"‏، يَا أَهْلَ الْإِنْجِيلِ مَنَ النَّصَارَى ‏"‏لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تُجَاوِزُوا الْحَقَّ فِي دِينِكُمْ فَتُفَرِّطُوا فِيهِ، وَلَا تَقُولُوا فِي عِيسَى غَيْرَ الْحَقِّ، فَإِنَّ قَيْلَكُمْ فِي عِيسَى إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، قَوْلٌ مِنْكُمْ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ‏.‏ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا فَيَكُونُ عِيسَى أَوْ غَيْرُهُ مِنْ خَلْقِهِ لَهُ ابْنًا‏"‏وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ‏"‏‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏الغُلُوِّ‏"‏مَعْنَاهُ، فِي كُلِّ شَيْءٍ مُجَاوَزَةُ حَدِّهِ الَّذِي هُوَ حَدُّهُ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ فِي الدِّينِ‏:‏ ‏"‏قَدْ غَلَا فَهُوَ يَغْلُو غُلُوًّا‏"‏، وَ‏"‏غَلَا بِالْجَارِيَةِ عَظْمُهَا وَلَحْمُهَا‏"‏، إِذَا أَسْرَعَتِ الشَّبَابَ فَجَاوَزَتْ لِدَاتَهَا‏"‏يَغْلُو بِهَا غُلُوًّا، وَغَلَاءً‏"‏، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ‏:‏

خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشَّحُهَا *** رُؤْدُ الشَّبَابِ غَلَا بِهَا عَظْمُ

وَقَدْ‏:‏-

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ‏:‏ صَارُوا فَرِيقَيْنِ‏:‏ فَرِيقٌ غَلَوَا فِي الدِّينِ، فَكَانَ غُلُوُّهُمْ فِيهِ الشَّكُّ فِيهِ وَالرَّغْبَةُ عَنْهُ، وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ قَصَّرُوا عَنْهُ، فَفَسَقُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم» ‏"‏، مَا الْمَسِيحُ،- أَيُّهَا الْغَالُونَ فِي دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ- بِابْنِ اللَّهِ، كَمَا تَزْعُمُونَ، وَلَكِنَّهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْخَلْقِ، لَا نَسَبَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ‏.‏ ثُمَّ نَعَتَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِنَعْتِهِ وَوَصْفَهُ بِصِفَتِهِ فَقَالَ‏:‏ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ إِلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ مَنْ خَلْقِهِ‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏الْمَسِيحِأَيْ أَصْلُ مَعْنَى كَلِمَةِ الْمَسِيحِ ‏"‏، ‏"‏المَمْسُوحُ‏"‏، صُرِفَ مِنْ‏"‏مَفْعُولٍ‏"‏ إِلَى‏"‏فَعِيلٍ‏"‏‏.‏ وَسَمَّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِتَطْهِيرِهِ إِيَّاهُ مِنَ الذُّنُوبِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ مُسِحَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْأَدْنَاسِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْآدَمِيِّينَ، كَمَا يُمْسَحُ الشَّيْءُ مِنَ الْأَذَى الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، فَيَطْهْرُ مِنْهُ‏.‏ وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏الْمَسِيحُ‏"‏، الصِّدِّيقُ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِبْرَانِيَّةٌ أَوْ سُرْيَانِيَّةٌ ‏"‏مُشِيحًا‏"‏، فَعُرِّبَتْ فَقِيلَ‏:‏ ‏"‏الْمَسِيحُ‏"‏، كَمَا عُرِّبَ سَائِرَ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ‏:‏ ‏"‏إِسْمَاعِيلَ‏"‏ وَ‏"‏إِسْحَاقَ‏"‏ وَ‏"‏مُوسَى‏"‏ وَ‏"‏عِيسَى‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَلَيْسَ مَا مُثِّلَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ لِ ‏"‏المَسِيحِ‏"‏ بِنَظِيرٍ‏.‏ وَذَلِكَ أَنْ‏"‏إِسْمَاعِيلَ‏"‏ وَ‏"‏إِسْحَاقَ‏"‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَسْمَاءٌ لَا صِفَاتٍ، وَ ‏"‏المَسِيحُ‏"‏ صِفَةٌ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُخَاطِبَ الْعَرَبُ، وَغَيْرُهَا مِنْ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ، فِي صِفَةِ شَيْءٍ إِلَّا بِمِثْلِ مَا تَفْهَمُ عَمَّنْ خَاطَبَهَا‏.‏ وَلَوْ كَانَ ‏"‏المَسِيحُ‏"‏ مِنْ غَيْرِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَعْقِلُ مَعْنَاهُ، مَا خُوطِبَتْ بِهِ‏.‏ وَقَدْ أَتَيْنَا مِنَ الْبَيَانِ عَنْ نَظَائِرَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏المَسِيحُ الدَّجَّالُ‏"‏مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ أَيْضًا بِمَعْنَى‏:‏ الْمَمْسُوحُ الْعَيْنِ، صُرِّفَ مِنْ‏"‏مَفْعُولٍ‏"‏ إِلَى‏"‏فَعِيلٍ‏"‏‏.‏ فَمَعْنَى‏:‏ ‏"‏الْمَسِيحِ‏"‏ فِي عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الْمَمْسُوحُ الْبَدَنِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَالْآثَامِ وَمَعْنَى‏:‏ ‏"‏الْمَسِيحِ‏"‏ فِي الدَّجَّالِ‏:‏ الْمَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى، كَالَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ بِ ‏"‏الْكَلِمَةِ‏"‏، الرِّسَالَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ أَنْ تَأْتِيَمَرْيَمَبِهَا، بِشَارَةً مِنَ اللَّهِ لَهَا، الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 45‏]‏، يَعْنِي‏:‏ بِرِسَالَةٍ مِنْهُ، وَبِشَارَةٍ مِنْ عِنْدِهِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ فِي ذَلِكَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏كُنْ‏"‏، فَكَانَ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ أَعْلَمَهَا بِهَا وَأَخْبَرَهَا، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏أَلْقَيْتُ إِلَيْكَ كَلِمَةً حَسَنَةً‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَخْبَرَتْكَ بِهَا وَكَلَّمَتْكَ بِهَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِنْهُ‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَرُوحٌ مِنْهُ‏"‏، وَنَفْخَةٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ حَدَثَ عَنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دِرْعِ مَرْيَمَ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ، فَنُسِبَ إِلَى أَنَّهُ‏"‏رُوحٌ مِنَ اللَّهِ‏"‏، لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ كَانَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا سُمِّيَ النَّفْخُ‏"‏رُوحًا‏"‏، لِأَنَّهَا رِيحٌ تَخْرُجُ مِنَ الرُّوحِ، وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ فِي صِفَةِ نَارٍ نَعَتَهَا‏:‏

فَلَمَّا بَدَتْ كَفَّنْتُهَا، وَهْيَ طِفْلَةٌ *** بِطَلْسَاءَ لَمْ تَكْمُلْ ذِرَاعًا وَلَا شِبْرَا

وَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ، وَأَحْيِهَا *** بِرُوحِكَ، وَاقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا

وَظَاهِرْ لَهَا مِنْ يَابِسِ الشَّخْتِ، وَاسْتَعِنْ *** عَلَيْهَا الصَّبَا، وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لَهَا سِتْرَا

‏[‏وَلَمَّا تَنَمَّتْ تَأْكُلُ الرِّمَّ لَمْ تَدَعْ *** ذَوَابِلَ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَا خُضْرَا‏]‏

فَلَمَّا جَرَتْ فِي الْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ *** سَنَا البَرْقِ، أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرَا

وَقَالُوا‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَحْيِهَا بِرُوحِكَ‏"‏، أَيْ‏:‏ أَحْيِهَا بِنَفْخِكَ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَرُوحٌ مِنْهُ‏"‏ إِنَّهُ كَانَ إِنْسَانًا بِإِحْيَاءِ اللَّهِ لَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏كُنْ‏"‏‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَرُوحٌ مِنْهُ‏"‏، وَحَيَاةٌ مِنْهُ، بِمَعْنَى إِحْيَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِتَكْوِينِهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَرُوحٌ مِنْهُ‏"‏، وَرَحْمَةٌ مِنْهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمُجَادِلَةِ‏:‏ 22‏]‏‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَمَعْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ وَرَحْمَةُ مِنْهُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَجَعَلَ اللَّهُ عِيسَى رَحْمَةً مِنْهُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، لِأَنَّهُ هَدَاهُمْ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَرُوحٌ مِنَ اللَّهِ خَلَقَهَا فَصَوَّرَهَا، ثُمَّ أَرْسَلَهَا إِلَىمَرْيَمَفَدَخَلَتْ فِي فِيهَا، فَصَيَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى رُوحَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 172‏]‏، قَالَ‏:‏ أَخَذَهُمْ فَجَعَلَهُمْ أَرْوَاحًا، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ، ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ، فَكَانَ رُوحُ عِيسَى مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي أُخِذَ عَلَيْهَا الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، فَأَرْسَلَ ذَلِكَ الرُّوحَ إِلَىمَرْيَمَ، فَدَخْلَ فِي فِيهَا، فَحَمَلَتِ الَّذِي خَاطَبَهَا، وَهُوَ رُوحُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ‏"‏الرُّوحِ‏"‏ هَهُنَا، جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَكَلَّمَتْهُ أَلْقَاهَا إِلَىمَرْيَمَ، وَأَلْقَاهَا أَيْضًا إِلَيْهَا رُوحٌ مِنَ اللَّهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَ ‏"‏الرُّوحُ‏"‏ مَعْطُوفٌ بِهِ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَلْقَاهَا‏"‏ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، بِمَعْنَى‏:‏ أَنَّ إِلْقَاءَ الْكَلِمَةِ إِلَىمَرْيَمَكَانَ مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَلِكُلِّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَجْهٌ وَمَذْهَبٌ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ‏"‏، فَصَدِّقُوا، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ، وَصَدِّقُوا رُسُلَهُ فِيمَا جَاءُوكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَفِيمَا أَخْبَرَتْكُمْ بِهِ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، لَا وَلَدَ لَهُ ‏"‏وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ وَلَا تَقُولُوا‏:‏ الْأَرْبَابُ ثَلَاثَةٌ‏.‏

وَرُفِعَتِ ‏"‏الثَّلَاثَةُ‏"‏، بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَهُوَ‏"‏هُمْ‏"‏‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَلَا تَقُولُوا هُمْ ثَلَاثَةٌ‏.‏ وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّ ‏"‏القَوْلَ‏"‏ حِكَايَةٌ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْحِكَايَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْكَهْفِ‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا وَرَدَ مِنْ مَرْفُوعٍ بَعْدَ ‏"‏القَوْلِ‏"‏ لَا رَافِعَ مَعَهُ، فَفِيهِ إِضْمَارُ اسْمٍ رَافِعٍ لِذَلِكَ الِاسْمِ‏.‏

ثُمَّ قَالَ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ مُتَوَعِّدًا لَهُمْ فِي قَوْلِهِمُ الْعَظِيمِ الَّذِي قَالُوهُ فِي اللَّهِ‏:‏ ‏"‏انْتَهَوْا‏"‏، أَيُّهَا الْقَائِلُونَ‏:‏ اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، عَمَّا تَقُولُونَ مِنَ الزُّورِ وَالشِّرْكِ بِاللَّهِ، فَإِنَّ الِانْتِهَاءَ عَنْ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ قِيلِهِ، لِمَا لَكَمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ الْعَاجِلِ لَكُمْ عَلَى قِيلِكُمْ ذَلِكَ، إِنْ أَقَمْتُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ تُنِيبُوا إِلَى الْحَقِّ الَّذِي أَمَرَتْكُمْ بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ وَالْآجِلِ فِي مَعَادِكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏"‏، مَا اللَّهُ، أَيُّهَا الْقَائِلُونَ‏:‏ اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، كَمَا تَقُولُونَ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَلَيْسَ بِإِلَهٍ‏.‏ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ صَاحِبَةٌ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا مَعْبُودًا‏.‏ وَلَكِنَّ اللَّهَ الَّذِي لَهُ الْأُلُوهَةُ وَالْعِبَادَةُ، إِلَهٌ وَاحِدٌ مَعْبُودٌ، لَا وَلَدَ لَهُ، وَلَا وَالِدَ، وَلَا صَاحِبَةَ، وَلَا شَرِيكَ‏.‏

ثُمَّ نَزَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَفْسَهُ وَعَظَّمَهَا وَرَفَعَهَا عَمَّا قَالَ فِيهِ أَعْدَاؤُهُ الْكَفَرَةُ بِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ عَلَا اللَّهُ وَجَلَّ وَعَزَّ وَتَعَظَّمَ وَتَنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ صَاحِبَةٌ‏.‏

ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ‏:‏ أَنْ عِيسَى وَأُمَّهُ وَمِنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، عَبِيدُهُ وَإِمَاؤُهُ وَخَلْقُهُ، وَأَنَّهُ رَازِقُهُمْ وَخَالِقُهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ إِلَيْهِ احْتِجَاجًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ ابْنُهُ كَمَا قَالُوا، لَمْ يَكُنْ ذَا حَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلَا كَانَ لَهُ عَبْدًا مَمْلُوكًا، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلّهَا مُلْكًا وَخَلْقًا، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيَقُوتُهُمْ وَيُدَبِّرُهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَسِيحُ ابْنًا لِلَّهِ، وَهُوَ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ، غَيْرُ خَارِجٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ‏؟‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَحَسْبُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ بِاللَّهِ قَيِّمًا وَمُدَبِّرًا وَرَازِقًا، مِنَ الْحَاجَةِ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏172‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ‏"‏، لَنْ يَأْنَفَ وَلَنْ يَسْتَكْبِرَ الْمَسِيحُ ‏"‏أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ ‏"‏، لَنْ يَحْتَشِمَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَلَنْ يَسْتَنْكِفَ أَيْضًا مِنَ الْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْعُبُودَةِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِذَلِكَ، رُسُلُهُ ‏"‏المُقَرَّبُونَ‏"‏، الَّذِينَ قَرَّبَهُمُ اللَّهُ وَرَفَعَ مَنَازِلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مَنْ خَلَقَهُ‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ، مَا‏:‏-

حَدَّثَنِي بِهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُزُورِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَجْلَحِ قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِلضَّحَّاكِ‏:‏ مَا ‏"‏المُقَرَّبُونَ‏"‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَقْرَبُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏172‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَمَنْ يَتَعَظَّمْ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَأْنَفْ مِنَ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ لَهُ بِالطَّاعَةِ مِنَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَيَسْتَكْبِرْ عَنْ ذَلِكَ‏"‏فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فَسَيَبْعَثُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمِيعًا، فَيَجْمَعُهُمْ لِمَوْعِدِهِمْ عِنْدَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏173‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ‏:‏ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُقِرُّونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، الْخَاضِعُونَ لَهُ بِالطَّاعَةِ، الْمُتَذَلِّلُونَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَالْعَامِلُونَ الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ‏:‏ أَنْ يَرِدُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَدْ آمَنُوا بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَعَمِلُوا بِمَا أَتَاهُمْ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، مِنْ فِعْلٍ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا أَمَرَهُمْ بِاجْتِنَابِهِ‏"‏فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فَيُؤْتِيهِمْ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَافِيًا تَامًّا ‏"‏وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ‏"‏، يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَيَزِيدُهُمْ عَلَى مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالثَّوَابِ عَلَيْهَا، مِنَ الْفَضْلِ وَالزِّيَادَةِ مَا لَمْ يُعَرِّفْهُمْ مُبْلَغُهُ، وَلَمْ يُحِدَّ لَهُمْ مُنْتَهَاهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنْاللَّهَ وَعَدَ مَنْ جَاءَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهِا مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ‏.‏ فَذَلِكَ هُوَ أَجْرُ كُلِّ عَامِلٍ عَلَى عَمَلِهِ الصَّالِحِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ الْمَحْدُودِ مُبْلَغُهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ‏.‏ غَيْرَ أَنَّ الَّذِي وَعَدَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُوَفِّيَهُمْ فَلَا يَنْقُصُهُمْ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، هُوَ مَا حَدَّ مَبْلَغَهَ مِنَ الْعَشْرِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مَحْدُودٍ مَبْلَغُهَا، فَيَزِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى ذَلِكَ قَدْرُ مَا يَشَاءُ، لَا حَدَّ لِقَدْرِهِ يُوقَفُ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الزِّيَادَةُ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِلَى أَلْفَيْنِ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْتُ اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَأَمَّا الَّذِينَ تَعَظَّمُوا عَنِ الْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْعُبُودَةِ، وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ التَّذَلُّلِ لِأُلُوهَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَتَسْلِيمِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ‏"‏فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏"‏، يَعْنِي‏:‏ عَذَابًا مُوجِعًا‏"‏وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَا يُجْدِ الْمُسْتَنْكِفُونَ مِنْ عِبَادَتِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُونَ عَنْهَا، إِذَا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ الْأَلِيمَ مِنْ عَذَابِهِ، سِوَى اللَّهِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِيًّا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ وَيُنْقِذُهُمْ مِنْهُ‏"‏وَلَا نَصِيرًا‏"‏، يَعْنِي‏:‏ وَلَا نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ فَيَسْتَنْقِذُهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ بِقُوَّتِهِ مَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ، كَالَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَ بِهِمْ إِذَا أَرَادَهُمْ غَيْرُهُمْ مَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي الدُّنْيَا بِسُوءِ، مَنْ نَصْرَتِهِمْ وَالْمُدَافَعَةِ عَنْهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏174‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏، يَا أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمَلَلِ، يَهُودِهَا وَنَصَارَاهَا وَمُشْرِكِيهَا، الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَصَصَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ‏"‏قَدْ جَاءَكُمْ بِرِهَانٍ مِنْ رَبِّكُمْ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ قَدْ جَاءَتْكُمْ حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ تُبَرْهِنُ لَكُمْ بُطُولَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ أَدْيَانِكُمْ وَمَلَلِكُمْ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ حُجَّةً قَطَعَ بِهَا عُذْرَكُمْ، وَأَبْلَغَ إِلَيْكُمْ فِي الْمَعْذِرَةِ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْكُمْ، مَعَ تَعْرِيفِهِ إِيَّاكُمْ صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَتَحْقِيقِ رِسَالَتِهِ‏"‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ مَعَهُ‏"‏نُورًا مُبِينًا‏"‏، يَعْنِي‏:‏ يُبَيِّنُ لَكُمُ الْمَحَجَّةَ الْوَاضِحَةَ، وَالسُّبُلَ الْهَادِيَةَ إِلَى مَا فِيهِ لَكُمُ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، إِنْ سَلَكْتُمُوهَا وَاسْتَنَرْتُمْ بِضَوْئِهِ‏.‏

وَذَلِكَ ‏"‏النُّورُ الْمُبِيُنُ‏"‏، هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ حُجَّةٌ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏"‏، أَيْ‏:‏ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏"‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا‏"‏، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ حُجَّةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏"‏بُرْهَانٌ‏"‏، قَالَ‏:‏ بَيِّنَةٌ‏"‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ الْقُرْآنُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏175‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ فَأَمَّا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَأَقَرُّوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَمَا بَعَثَ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ‏"‏وَاعْتَصَمُوا بِهِ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَتَمَسَّكُوا بِالنُّورِ الْمُبِينِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيِّهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاعْتَصَمُوا بِهِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ بِالْقُرْآنِ‏.‏

‏"‏فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فَسَوْفَ تَنَالُهُمْ رَحْمَتُهُ الَّتِي تُنْجِيهِمْ مِنْ عِقَابِهِ، وَتُوجِبُ لَهُمْ ثَوَابَهُ وَرَحْمَتَهُ وَجَنَّتَهُ، وَيَلْحَقُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مَا لَحِقَ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرُسُلِهِ ‏"‏وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَيُوَفِّقُهُمْ لِإِصَابَةِ فَضْلِهِ الَّذِي تَفَضِّلَ بِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيُسَدِّدُهُمْ لِسُلُوكِ مَنْهَجِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ، وَلِاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ وَاتِّبَاعِ دِينِهِمْ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ ‏"‏الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ‏"‏، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ‏.‏

وَنَصَبَ ‏"‏الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏"‏ عَلَى الْقَطْعِ مِنْ ‏"‏الهَاءِ‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏إِلَيْهِ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏يَسْتَفْتُونَكَ‏"‏، يَسْأَلُونَكَ، يَا مُحَمَّدُ، أَنْ تُفْتِيَهُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّامَعْنَى‏:‏ ‏"‏الْكَلَالَةَ‏"‏فِيمَا مَضَى بِالشَّوَاهِدِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ، وَبَيَّنَا أَنَّ ‏"‏الكَلَالَةَ‏"‏ عِنْدَنَا‏:‏ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ‏.‏

‏"‏ ‏{‏إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏إِنَّ امْرُؤٌ هَلَكَ‏"‏، إِنَّ إِنْسَانً مِنَ النَّاسِ مَاتَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مَاتَ‏.‏

‏"‏لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ‏"‏ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى‏"‏وَلَهُ أُخْتٌ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ وَلِلْمَيِّتِ أُخْتٌ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، أَوْ لِأَبِيهِ‏"‏فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فَلِأُخْتِهِ الَّتِي تَرَكَهَا بَعْدَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْنَا، نِصْفُ تَرِكَتِهِ مِيرَاثًا عَنْهُ، دُونَ سَائِرِ عَصَبَتِهِ‏.‏ وَمَا بَقِيَ فَلِعَصَبَتِهِ‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّهُمْ شَأْنُ الْكَلَالَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهَا هَذِهِ الْآيَةَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏}‏ ‏"‏، فَسَأَلُوا عَنْهَا نَبِيَ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ ‏"‏، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاللَّهُ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ‏:‏ أَلَّا إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ‏"‏سُورَةِ النِّسَاءِ‏"‏ فِي شَأْنِ الْفَرَائِضِ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ‏.‏ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَنْزَلَهَا فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ‏.‏ وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا‏"‏سُورَةَ النِّسَاءِ‏"‏، أَنْزَلَهَا فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ‏.‏ وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا‏"‏سُورَةَ الْأَنْفَالِ‏"‏، أَنْزَلَهَا فِي أُولِي الْأَرْحَامِ، بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِمَّا جَرَّتِ الرَّحِمُ مِنَ الْعَصَبَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ‏:‏ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ‏:‏ أَلَيْسَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

«حَدَّثَنَا مُؤَمِّلُ بْنُ هِشَامٍ أَبُو هِشَامٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ الدُّسْتُوَائِيِّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، » عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ اشْتَكَيْتُ وَعِنْدِي تِسْعُ أَخَوَاتٍ لِي أَوْ‏:‏ سَبْعٌ، أَنَا أَشُكُّ فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَخَ فِي وَجْهِي، فَأَفَقْتُ وَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أُوصِيَ لِأَخَوَاتِي بِالثُّلُثَيْنِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَحْسَنُ‏!‏ قُلْتُ‏:‏ الشَّطْرُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَحْسَنُ‏!‏ ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَنِي، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ‏:‏ يَا جَابِرُ، إِنِّي لَا أُرَاكَ مَيِّتًا مِنْ وَجَعِكَ هَذَا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِي الَّذِي لِأَخَوَاتِكَ فَجَعَلَ لَهُنَّ الثُّلْثَيْنِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ‏:‏ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامٍ يَعْنِي الدُّسْتُوَائِيِّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّىُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ مَرِضَتُ، فَأَتَانِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَهْمًا مَاشِيَانِ، فَوَجَدُونِي قَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضَوْئِهِ، فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِيَ أَوْ‏:‏ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي‏؟‏ وَكَانَ لَهُ تِسْعُ أَخَوَاتٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَلَمْ يُجِبْنِي شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏}‏ ‏"‏ إِلَى آخَرِ السُّورَةِ قَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ‏:‏ قَالَ جَابِرٌ‏:‏ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَآخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ بْنُ وَاقَدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ‏:‏ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغُولٍ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ‏:‏ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ‏:‏ آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً ‏"‏بَرَاءَةٌ‏"‏، وَآخَرُ آيَةٍ، نَزَلَتْ خَاتِمَةً‏"‏سُورَةَ النِّسَاءِ‏"‏‏:‏ ‏"‏يَسْتَفْتُونَكَ ‏{‏قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏}‏ ‏"‏‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ‏.‏

فَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ‏.‏ وَقَدْ ذَكَرْتُ الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ فِيمَا مَضَى، بَعْضُهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ فَاتِحَةِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَبَعْضُهَا فِي مُبْتَدَإِ الْأَخْبَارِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ أُنْزِلَتْ فِي مَسَيرٍ كَانَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏}‏ ‏"‏، وَالنَّبِيُّ فِي مَسَيرٍ لَهُ، وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فَبَلَّغَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ، وَبَلَّغَهَا حُذَيْفَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ‏.‏ فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ سَأَلَ عَنْهَا حُذَيْفَةَ، وَرَجَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ تَفْسِيرُهَا، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ‏:‏ وَاللَّهِ إِنَّكَ لِعَاجِزٌ إِنْ ظَنَنْتَ أَنَّ إِمَارَتَكَ تُحَمِلُنِي أَنْ أُحَدِّثَكَ فِيهَا بِمَا لَمْ أُحَدِّثْكَ يَوْمَئِذٍ‏!‏ فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ لَمْ أَرِدْ هَذَا، رَحِمَكَ اللَّهُ ‏!‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِيْنَ بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ‏:‏ وَاللَّهِ إِنَّكَ لِأَحْمَقُ إِنْ ظَنَنْتَ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ‏:‏ كَانُوا فِي مَسِيرٍ، وَرَأْسُ رَاحِلَةِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ رِدْفِ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْسُ رَاحِلَةِ عُمَرَ عِنْدَ رِدْفِ رَاحِلَةِ حُذَيْفَةَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَنَزَلَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏}‏ ‏"‏، فَلَقَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ، فَلَقَّاهَا حُذَيْفَةُ عُمَرَ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، سَأَلَ عُمَرُ عَنْهَا حُذَيْفَةَ فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهُ إِنَّكَ لِأَحْمَقُ إِنْ كُنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ فَلَقَّيْتُكَهَا كَمَا لَقَّانِيهَا، وَاللَّهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا‏!‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ مَنْ كُنْتَ بَيِّنَتَهَا لَهُ، فَإِنَّهَا لَمْ تُبَيَّنْ لِي»‏.‏

وَاخْتُلِفَ عَنْ عُمَرَ فِي الْكَلَالَةِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا عِنْدَ وَفَاتِهِ‏:‏ ‏"‏هُوَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ‏"‏‏.‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِذَلِكَ فِيمَا مَضَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي آيَةِ الْمِيرَاثِ‏.‏

وَرَوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ وَفَاتِهِ‏:‏ هُوَ مَا خَلَا الْأَبُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ قَالَ‏:‏ «قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏:‏ مَا أَغْلَظَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ‏:‏ مَا نَازَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا نَازَعْتُهُ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ، حَتَّى ضَرَبَ صَدْرِي وَقَالَ‏:‏ يَكْفِيكَ مِنْهَا آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ‏"‏سُورَةِ النِّسَاءِ‏"‏‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ‏}‏ ‏"‏، وَسَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءٍ يَعْلَمْهُ مَنْ يَقْرَأُ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ، هُوَ مَا خَلَا الْأَب» كَذَا أَحْسَبُ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ قَالَ شَبَابَةُ‏:‏ الشَّكُّ مِنْ شُعْبَةَ‏.‏

وَرَوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏إِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ أُخَالِفَ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ ‏"‏، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏هُوَ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ‏"‏‏.‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ فِيمَا مَضَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ

وَرَوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ وَفَاتِهِ‏:‏ ‏"‏قَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي الْكَلَالَةِ كِتَابًا، وَكُنْتُ أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَتْرُكَكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ‏"‏، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى فِي حَيَاتِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِهَا عِلْمٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْمَعْمَرِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ‏:‏ أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ فِي الْجِدِّ وَالْكَلَالَةِ كِتَابًا، فَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ‏"‏، حَتَّى إِذَا طُعِنَ، دَعَا بِكِتَابٍ فَمُحِيَ، فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا كَتَبَ فِيهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏إِنِّي كُنْتُ كَتَبْتُ فِي الْجِدِّ وَالْكَلَالَةِ كِتَابًا، وَكُنْتُ أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ، فَرَأَيْتُ أَنْ أَتْرُكَكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرَّةَ، عَنْ مَرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ‏:‏ قَالَ عُمَرُ‏:‏ ثَلَاثٌ لِأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهُنَّ لَنَا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا‏:‏ الْكَلَالَةُ، وَالْخِلَافَةُ، وَأَبْوَابُ الرِّبَا‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَثَّامٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَ، وَلَا أَرَى إِبْرَاهِيمَ إِلَّا فِيهِمْ، عَنْ عُمَرَ قَالَ‏:‏ لِأَنْ أَكُونَ أَعْلَمُ الْكَلَالَةَ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ جِزْيَةِ قُصُورِ الرُّومِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَثَّامٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ‏:‏ أَخَذَ عُمَرُ كَتِفًا وَجَمْعَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ لِأَقْضِيَنَ فِي الْكَلَالَةِ قَضَاءً تُحَدِّثُ بِهِ النِّسَاءُ فِي خُدُورِهِنَّ‏!‏ فَخَرَجَتْ حِينَئِذٍ حَيَّةٌ مِنَ الْبَيْتِ، فَتَفَرَّقُوا، فَقَالَ‏:‏ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُتِمَّ هَذَا الْأَمْرَ لَأَتَمَّهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الشَّعْبِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ‏:‏ أَيُّهَا النَّاسُ، ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا يُنْتَهَى إِلَيْهِ‏:‏ الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابُ الرِّبَا‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ‏:‏ «أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ‏:‏ مَا سَأَلَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُ عَنِ الْكَلَالَةِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ‏:‏ تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ‏"‏سُورَةِ النِّسَاءِ‏"‏‏.‏»

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيِّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ السَّهْمِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ، «عَنْ عُمَرَ قَالَ‏:‏ لَنْ أَدَعَ شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنْ أَمْرِ الْكَلَالَةِ، فَمَا أَغْلَظَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهَا، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي أَوْ قَالَ‏:‏ فِي جَنْبِي فَقَالَ‏:‏ تَكْفِيكَ الْآيَةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ ‏"‏النِّسَاءِ‏"‏‏.‏»

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ‏:‏ «أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ‏:‏ إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا هُوَ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِ الْكَلَالَةِ، وَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهَا، حَتَّى طَعَنَ فِي نَحْرِي وَقَالَ‏:‏ ‏"‏تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ‏"‏، وَإِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا أَحَدٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ‏.‏»

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، «عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ عُمَرَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَنْ ذِي قَرَابَةٍِ لِي وَرِثَ كَلَالَةً، فَقَالَ‏:‏ الْكَلَالَةُ، الْكَلَالَةُ، الْكَلَالَةُ‏!‏‏!‏ وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَاللَّهُ لَأَنْ أَعْلَمَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ أَلَمْ تَسْمَعِ الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي الصَّيْفِ‏؟‏ فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّات»‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ‏:‏ أَلَمْ تَسْمَعِ الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي الصَّيْفِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً‏}‏ إِلَى آخَرَ الْآيَةِ‏؟‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ‏:‏ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُقْبَةَ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ‏:‏ أَلَّا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا‏؟‏ يَسْأَلُنِي عَنِ الْكَلَالَةِ، وَمَا أَعْضَلَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ مَا أَعْضَلَتْ بِهِمُ الْكَلَالَةُ‏!‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِنَّ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ‏}‏ ‏"‏، وَلَقَدْ عَلِمْتَ اتِّفَاقَ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مَا خَلَا ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا عَلَى أَنْالْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ ابْنَةً وَأُخْتًا، أَنَّ لِابْنَتِهِ النِّصْفَ، وَمَا بَقِيَ فَلِأُخْتِهِ، إِذَا كَانَتْ أُخْتَهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، أَوْ لِأَبِيهِ‏؟‏ وَأَيْنَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ‏}‏ ‏"‏، وَقَدْ وَرَّثُوهَا النِّصْفَ مَعَ الْوَلَدِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافٍ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ‏.‏ إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ‏}‏ ‏"‏، إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى، وَكَانَ مَوْرُوثًا كَلَالَةً، النِّصْفُ مِنْ تَرِكَتِهِ فَرِيضَةً لَهَا مُسَمَّاةً‏.‏ فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أُنْثَى، فَهِيَ مَعَهَا عَصَبَةٌ، يَصِيرُ لَهَا مَا كَانَ يَصِيرُ لِلْعَصَبَةِ غَيْرِهَا، لَوْ لَمْ تَكُنْ‏.‏ وَذَلِكَ غَيْرُ مَحْدُودٍ بِحَدٍّ، وَلَا مَفْرُوضٍ لَهَا فَرْضَ سِهَامِ أَهْلِ الْمِيرَاثِ بِمِيرَاثِهِمْ عَنْ مَيِّتِهِمْ‏.‏ وَلَمْ يُقِلِ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ‏:‏ ‏"‏فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَلَا شَيْءَ لِأُخْتِهِ مَعَهُ‏"‏، فَيَكُونُ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ‏.‏ وَإِنَّمَا بَيَّنَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، مَبْلَغَ حَقِّهَا إِذَا وُرِّثَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً، وَتَرَكَ بَيَانَ مَا لَهَا مِنْ حَقٍّ إِذَا لَمَّ يُوَرَّثْ كَلَالَةً فِي كِتَابِهِ، وَبَيَّنَهُ بِوَحْيِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَهَا عُصْبَةً مَعَ إِنَاثِ وَلَدِ الْمَيِّتِ‏.‏ وَذَلِكَ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنَى وِرَاثَتِهَا الْمَيِّتِ، إِذَا كَانَ مَوْرُوثًا كَلَالَةً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَأَخُو الْمَرْأَةِ يَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ، إِذَا وُرِثَتْ كَلَالَةً، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الْأُنْثَيَيْنِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ‏"‏، فَإِنْ كَانَتِ الْمَتْرُوكَةُ مِنَ الْأَخَوَاتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ لِأَبِيهِ‏"‏اثْنَتَيْنِ‏"‏ فَلَهُمَا ثُلْثَا مَا تَرَكَ أَخُوهُمَا الْمَيِّتُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، وَوَرِثَ كَلَالَةً ‏"‏وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً‏"‏، يَعْنِي‏:‏ وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُونَ مِنْ إِخْوَتِهِ‏"‏رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذِّكَرِ‏"‏ مِنْهُمْ بِمِيرَاثِهِمْ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ‏"‏مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ مِثْلَ نَصِيبِ اثْنَتَيْنِ مِنْ أَخَوَاتِهِ‏.‏ وَذَلِكَ إِذَا وَرِثَ كَلَالَةً، وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، أَوْ‏:‏ لِأَبِيهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ قِسْمَةَ مَوَارِيثِكُمْ، وَحُكْمَ الْكَلَالَةِ، وَكَيْفَ فَرَائِضُهُمْ‏"‏أَنْ تَضِلُّوا‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ لِئَلَّا تَضِلُّوا فِي أَمْرِ الْمَوَارِيثِ وَقِسْمَتِهَا، أَيْ‏:‏ لِئَلَّا تَجُورُوا عَنِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ وَتُخْطِئُوا الْحُكْمَ فِيهِ، فَتَضِلُّوا عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فِي شَأْنِ الْمَوَارِيثِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْمَعْمُرِيُّ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَا جَمِيعًا، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ‏:‏ كَانَ عُمَرُ إِذَا قَرَأَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا‏}‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ مَنْ بُيِّنْتَ لَهُ الْكَلَالَةَ، فَلَمْ تُبَيَّنْ لِي‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَمَوْضِعُ ‏"‏أَنْ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا‏"‏، نَصْبٌ، فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، لِاتِّصَالِهَا بِالْفِعْلِ‏.‏

وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ‏:‏ خَفْضٌ، بِمَعْنَى‏:‏ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ بِأَنْ لَا تَضِلُّوا، وَلِئَلَّا تَضِلُّوا وَأَسْقَطَتْ‏"‏لَا‏"‏ مِنَ اللَّفْظِ وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ فِي الْمَعْنَى، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا‏.‏ وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ، تَقُولُ‏:‏ ‏"‏جِئْتُكَ أَنْ تَلُومَنِي‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ جِئْتُكَ أَنْ لَا تَلُومَنِي، كَمَا قَالَ الْقَطَامِيُّ فِي صِفَةِ نَاقَةٍ‏:‏

رَأَيْنَا مَا يَرَى البُصَرَاءُ فِيهَا *** فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أَنْ تُبَاعَا

بِمَعْنَى‏:‏ أَنْ لَا تُبَاعَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ‏"‏ مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي قِسْمَةِ مَوَارِيثِهِمْ وَغَيْرِهَا، وَجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ‏"‏عَلِيمٌ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ هُوَ بِذَلِكَ كُلِّهِ ذُو عِلْمٍ‏.‏ ‏(‏آخَرُ تَفْسِيرُ سُورَةِ النِّسَاءِ‏)‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ