فصل: تفسير الآية رقم (23)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ‏}‏

يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر، وقد أوصاها زوجها به وبإكرامه ‏[‏‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا‏]‏ عَنْ نَفْسِهِ‏}‏ أي‏:‏ حاولته على نفسه، ودعته إليها، وذلك أنها أحبته حبًا شديدًا لجماله وحسنه وبهائه، فحملها ذلك على أن تجملت له، وغلقت عليه الأبواب، ودعته إلى نفسها، ‏{‏وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ‏}‏ فامتنع من ذلك أشد الامتناع، و‏{‏قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي ‏[‏أَحْسَنَ مَثْوَايَ‏]‏‏}‏ وكانوا يطلقون ‏"‏الرب‏"‏ على السيد والكبير، أي‏:‏ إن بعلك ربي أحسن مثواي أي‏:‏ منزلي وأحسن إلي، فلا أقابله بالفاحشة في أهله، ‏{‏إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ‏}‏ قال ذلك مجاهد، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم‏.‏

وقد اختلف القراء في قراءة‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ فقرأه كثيرون بفتح الهاء، وإسكان الياء، وفتح التاء‏.‏ وقال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد‏:‏ معناه‏:‏ أنها تدعوه إلى نفسها‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ تقول‏:‏ هلم لك‏.‏ وكذا قال زِرّ بن حبيش، وعِكْرِمة، والحسن وقتادة‏.‏

قال عمرو بن عبُيَد، عن الحسن‏:‏ وهي كلمة بالسريانية، أي‏:‏ عليك‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ أي‏:‏ هلم لك، وهي بالقبطية‏.‏

قال مجاهد‏:‏ هي لغة عربية تدعوه بها‏.‏

وقال البخاري‏:‏ وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ هَلُم لك بالحَوْرَانية‏.‏

وهكذا ذكره معلقًا، وقد أسنده الإمام أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثني أحمد بن سُهَيْل الواسطي، حدثنا قُرَّة بن قيسى، حدثنا النضر بن عربي الجَزَري، عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ قال‏:‏ هلم لك‏.‏ قال‏:‏ هي بالحورانية‏.‏

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ وكان الكسائي يحكي هذه القراءة -يعني‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ -ويقول‏:‏ هي لغة، لأهل حَوْران، وقعت إلى أهل الحجاز، معناها‏:‏ تعال‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ سألت شيخًا عالمًا من أهل حوران، فذكر أنها لغتهم يعرفها‏.‏واستشهد الإمام ابن جرير على هذه القراءة بقول الشاعر لعلي بن أبى طالب، رضي الله عنه‏:‏

أَبْلْغ أَمِيَر المؤمِنين *** أَخا العِراَقِ إذَا أَتَينَا

إنَّ العِراقَ وَأَهْلَهُ *** عُنُقٌ إليكَ فَهَيتَ هَيْتا

يقول‏:‏ فتعال واقترب

وقرأ ذلك آخرون‏:‏ ‏"‏هِئتُ لك‏"‏ بكسر الهاء والهمزة، وضم التاء، بمعنى‏:‏ تهيأت لك، من قول القائل‏:‏ هئت للأمر أهىِ هيْئَة وممن روي عنه هذه القراءة ابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو وائل، وعكرمة، وقتادة، وكلهم يفسرها بمعنى‏:‏ تهيأت لك‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وكان أبو عمرو والكسائي ينكران هذه القراءة‏.‏ وقرأ عبد الله بن إسحاق هيت‏"‏،‏"‏ بفتح الهاء وكسر التاء‏:‏ وهي غريبة‏.‏

وقرأ آخرون، منهم عامة أهل المدينة ‏"‏هَيْتُ‏"‏ بفتح الهاء، وضم التاء، وأنشد قول الشاعر‏:‏‏}‏

لَيسَ قَومِي بالأبْعَدِين إِذَا مَا *** قَالَ دَاعٍ منَ العَشِيرِةَ‏:‏ هَيت

قال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل قال‏:‏ قال ابن مسعود‏:‏ قد سمعت القَرَأة فسمعتهم متقاربين، فاقرءوا كما عُلِّمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف، فإنما هو كقول أحدكم‏:‏ ‏"‏هلم‏"‏ و‏"‏تعال‏"‏ ثم قرأ عبد الله‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، إن ناسا يقرءونها‏:‏ ‏"‏هَيْتُ ‏[‏لَك‏]‏‏"‏ ‏؟‏ فقال عبد الله‏:‏ إني أقرأها كما عُلِّمت، أحبّ إلي

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني ابن وَكِيع، حدثنا ابن عُيَيْنة، عن منصور، عن أبي وائل قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ فقال له مسروق‏:‏ إن ناسا يقرءونها‏:‏ ‏"‏هَيْتُ لَك‏"‏‏؟‏ فقال‏:‏ دعوني، فإني أقرأ كما أقْرِئتُ، أحب إلي

وقال أيضًا‏:‏ حدثني المثنى، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، عن شقيق، عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ بنصب الهاء والتاء ولا بهمز‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ‏"‏هِيْتُ لَك‏"‏، بكسر الهاء، وإسكان الياء، وضم التاء‏.‏

قال أبو عُبَيدة معمر بن المثنى‏:‏ ‏"‏هيت‏"‏ لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث، بل يخاطب الجميع بلفظ واحد، فيقال‏:‏ هيتَ لَك، وهيتَ لك،ِ وهيتَ لكما، وهيتَ لكم، وهيتَ لهن

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏

اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام، وقد روي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة من السلف في ذلك ما ذكره ابن جرير وغيره، والله أعلم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ المراد بهمه بها هَمّ خَطَرات حديث النفس‏.‏ حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق، ثم أورد البغوي هاهنا حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ إذا هَمّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإنما تركها من جَرّائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها‏"‏‏.‏

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله ألفاظ كثيرة، هذا منها‏.‏

وقيل‏:‏ هم بضربها‏.‏ وقيل‏:‏ تمناها زوجة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏}‏ أي‏:‏ فلم يهم بها‏.‏

وفي هذا القول نظر من حيث العربية، ذكره ابن جرير وغيره‏.‏

وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال أيضا‏:‏ فعن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة، وأبي صالح، والضحاك، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم‏:‏ رأى صورة أبيه يعقوب، عليه السلام، عاضا على أصبعه بفمه‏.‏

وقيل عنه في رواية‏:‏ فضرب في صدر يوسف‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ رأى خيال الملك، يعني‏:‏ سيده، وكذا قال محمد بن إسحاق، فيما حكاه عن بعضهم‏:‏ إنما هو خيال إطفير سيده، حين دنا من الباب‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وكيع، عن أبي مودود سمعت من محمد بن كعب القُرَظي قال‏:‏ رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت، فإذا كتاب في حائط البيت‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏ وكذا رواه أبو مَعْشَر المدني، عن محمد بن كعب‏.‏

وقال عبد الله بن وهب، أخبرني نافع بن يزيد، عن أبي صخر قال‏:‏ سمعت القرظي يقول في‏:‏ ‏"‏البرهان‏"‏ الذي رأى يوسف‏:‏ ثلاث آيات من كتاب الله ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ‏}‏ الآية ‏[‏الانفطار‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ‏}‏ الآية‏:‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏قال نافع‏:‏ سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي، وزاد آية رابعة ‏{‏وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏ وقال الأوزاعي‏:‏ رأى آية من كتاب الله في الجدار تنهاه عن ذلك‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والصواب أن يقال‏:‏ إنه رأى من آيات الله ما زجره عما كان هم به، وجائز أن يكون صورة يعقوب، وجائز أن يكون ‏[‏صورة‏]‏ الملك، وجائز أن يكون ما رآه مكتوبا من الزجر عن ذلك‏.‏ ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك، فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ‏}‏ أي‏:‏ كما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره‏.‏

‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ أي‏:‏ من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار، صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25 - 29‏]‏

‏{‏وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ‏}‏

يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب، يوسف هارب، والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت، فلحقته في أثناء ذلك، فأمسكت بقميصه ‏[‏من ورائه‏]‏ فَقَدَّته قدًا فظيعا، يقال‏:‏ إنه سقط عنه، واستمر يوسف هاربا ذاهبا، وهي في إثره، فألفيا سيدها -وهو زوجها -عند الباب، فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها، وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها‏:‏ ‏{‏مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا‏}‏ أي‏:‏ فاحشة، ‏{‏إِلا أَنْ يُسْجَنَ‏}‏ أي‏:‏ يحبس، ‏{‏أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ يضرب ضربا شديدًا موجعا‏.‏ فعند ذلك انتصر يوسف، عليه السلام، بالحق، وتبرأ مما رمته به من الخيانة، وقال بارا صادقا ‏{‏هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي‏}‏ وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه، ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ‏}‏ أي‏:‏ من قدامه، ‏{‏فَصَدَقَتْ‏}‏ أي‏:‏ في قولها إنه أرادها على نفسها، لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره، فقدت قميصه، فيصح ما قالت‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ وذلك يكون كما وقع لما هرب منها، وتطلبته أمسكت بقميصه من ورائه لتردّه إليها، فقدت قميصه من ورائه‏.‏

وقد اختلفوا في هذا الشاهد‏:‏ هل هو صغير أو كبير، على قولين لعلماء السلف، فقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا‏}‏ قال‏:‏ ذو لحية‏.‏

وقال الثوري، عن جابر، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس‏:‏ كان من خاصة الملك‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، ومحمد بن إسحاق‏:‏ إنه كان رجلا‏.‏

وقال زيد بن أسلم، والسدي‏:‏ كان ابن عمها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان من خاصة الملك‏.‏

وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا‏}‏ قال‏:‏ كان صبيا في المهد‏.‏ وكذا رُوي عن أبي هريرة، وهلال بن يَسَاف، والحسن، وسعيد بن جبير والضحاك بن مُزاحم‏:‏ أنه كان صبيا في الدار‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏

وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير‏:‏ حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا عفان، حدثنا حماد -هو ابن سلمة -أخبرني عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تكلم أربعة وهم صغار‏"‏، فذكر فيهم شاهد يوسف‏.‏

ورواه غيره عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس؛ أنه قال‏:‏ تكلم أربعة وهم صغار‏:‏ ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جُرَيْج، وعيسى ابن مريم‏.‏

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد‏:‏ كان من أمر الله، ولم يكن إنسيا‏.‏ وهذا قول غريب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ‏}‏ أي‏:‏ فلما تحقق زوجها صدقَ يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به، ‏{‏قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ‏}‏ أي‏:‏ إن هذا البهت واللَّطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن، ‏{‏إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ‏}‏

ثم قال آمرا ليوسف، عليه السلام، بكتمان ما وقع‏:‏ يا ‏{‏يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا‏}‏ أي‏:‏ اضرب عن هذا ‏[‏الأمر‏]‏ صفحا، فلا تذكره لأحد، ‏{‏وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ‏}‏ يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه، فقال لها‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ‏}‏ أي‏:‏ الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، ثم قَذْفه بما هو بريء منه، استغفري من هذا الذي وقع منك، ‏{‏إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30 - 34‏]‏

‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏

يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة، وهي مصر، حتى تحدث الناس به، ‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ‏}‏ مثل نساء الأمراء ‏[‏و‏]‏ الكبراء، ينكرن على امرأة العزيز، وهو الوزير، ويعبن ذلك عليها‏:‏ ‏{‏امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ‏}‏ أي‏:‏ تحاول غلامها عن نفسه، وتدعوه إلى نفسها، ‏{‏قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا‏}‏ أي قد‏:‏ وصل حبه إلى شغاف قلبها‏.‏ وهو غلافه‏.‏

قال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ الشَّغَف‏:‏ الحب القاتل، والشَّغَف دون ذلك، والشغاف‏:‏ حجاب القلب‏.‏

‏{‏إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ في صنيعها هذا من حبها فتاها، ومراودتها إياه عن نفسه‏.‏

‏{‏فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ بقولهن‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ بل بَلَغهُنَّ حُسْنُ يوسف، فأحببن أن يرينه، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته، فعند ذلك ‏{‏أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ دعتهن إلى منزلها لتضيفهن ‏{‏وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً‏}‏ قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، والسدي، وغيرهم‏:‏ هو المجلس المعد، فيه مفارش ومخاد وطعام، فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا‏}‏ وكان هذا مكيدة منها، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته، ‏{‏وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ‏}‏ وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر، ‏{‏فَلَمَّا‏}‏ خرج و‏{‏رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ‏}‏ أي‏:‏ أعظمن شأنه، وأجللن قدره؛ وجعلن يقطعن أيديهن دَهَشا برؤيته، وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج بالسكاكين، والمراد‏:‏ أنهن حززن أيديهن بها، قاله غير واحد‏.‏ وعن مجاهد، وقتادة‏:‏ قطعن أيديهن حتى ألقينها، فالله أعلم‏.‏

وقد ذكر عن زيد بن أسلم أنها قالت لهن بعدما أكلن وطابت أنفسهن، ثم وضعت بين أيديهن أترجا وآتت كل واحدة منهن سكينا‏:‏ هل لكن في النظر إلى يوسف‏؟‏ قلن‏:‏ نعم‏.‏ فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن، ثم أمرته أن يرجع فرجع ليرينه مقبلا ومدبرا، وهن يحززن في أيديهن، فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن، فقالت‏:‏ أنتن من نظرة واحدة فعلتن هكذا، فكيف ألام أنا‏؟‏ فقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم، ثم قلن لها‏:‏ وما نرى عليك من لوم بعد الذي رأينا، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريبا منه، فإنه، صلوات الله عليه وسلم كان قد أعطي شطر الحسن، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف، عليه السلام، في السماء الثالثة، قال‏:‏ ‏"‏فإذا هو قد أعطي شطر الحسن‏"‏ وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعطي يوسف وأمه شطرالحسن‏"‏ وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن‏.‏

وقال أبو إسحاق أيضا، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال‏:‏ كان وجه يوسف مثل البرق، وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به‏.‏

ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا، وأعطى الناس الثلثين -أو قال‏:‏ أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث‏"‏

وقال سفيان، عن منصور، عن مجاهد عن ربيعة الجُرَشي قال‏:‏ قسم الحسن نصفين، فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن‏.‏ والنصف الآخر بين سائر الخلق‏.‏

وقال الإمام أبو القاسم السهيلي‏:‏ معناه‏:‏ أن يوسف كان على النصف من حسن آدم، عليه السلام، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله، وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه‏.‏

فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته‏:‏ ‏{‏حَاشَ لِلَّهِ‏}‏ قال مجاهد وغير واحد‏:‏ معاذ الله، ‏{‏مَا هَذَا بَشَرًا‏}‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏ما هذا بِشِرىً‏"‏ أي‏:‏ بمشترى‏.‏

‏{‏إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ‏}‏ تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق بأن يحبّ لجماله وكماله‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ‏}‏ أي‏:‏ فامتنع‏.‏ قال بعضهم‏:‏ لما رأين جماله الظاهر، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن، وهي العفة مع هذا الجمال، ثم قالت تتوعد ‏{‏وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ‏}‏ فعند ذلك استعاذ يوسف، عليه السلام، من شرهن وكيدهن، وقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ من الفاحشة، ‏{‏وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي من نفسي قدرة، ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك، أنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي‏.‏

‏{‏أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ وذلك أن يوسف، عليه السلام، عَصَمه الله عصمة عظيمة، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال‏:‏ أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته، وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال، والرياسة ويمتنع من ذلك، ويختار السجن على ذلك، خوفا من الله ورجاء ثوابه‏.‏

ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله‏:‏ إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب، فقال‏:‏ إني أخاف الله‏"‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين، أي‏:‏ إلى مدة، وذلك بعدما عرفوا براءته، وظهرت الآيات -وهي الأدلة -على صدقه في عفته ونزاهته‏.‏ فكأنهم -والله أعلم -إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاما أن هذا راودها عن نفسها، وأنهم سجنوه على ذلك‏.‏ ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة، امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة، فلما تقرر ذلك خرج وهو نَقِيّ العرض، صلوات الله عليه وسلامه‏.‏

وذكر السُّدِّي‏:‏ أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه، ويبرأ عرضه فيفضحها‏.‏

قال قتادة‏:‏ كان أحدهما ساقي الملك، والآخر خبازه‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ كان اسم الذي على الشراب ‏"‏نبوا‏"‏، والآخر ‏"‏مجلث‏"‏‏.‏

قال السدي‏:‏ وكان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالآ على سمه في طعامه وشرابه‏.‏

وكان يوسف، عليه السلام، قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة وصدق الحديث، وحسن السّمت وكثرة العبادة، صلوات الله عليه وسلامه، ومعرفة التعبير والإحسان إلى أهل السجن وعيادة مرضاهم والقيام بحقوقهم‏.‏ ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن، تآلفا به وأحباه حبا شديدا، وقالا له‏:‏ والله لقد أحببناك حبا زائدا‏.‏ قال بارك الله فيكما، إنه ما أحبني أحد إلا دخل عليّ من محبته ضرر، أحبتني عمتي فدخل علي الضرر بسببها، وأحبني أبي فأوذيت بسببه، وأحبتني امرأة العزيز فكذلك، فقالا والله ما نستطيع إلا ذلك، ثم إنهما رأيا مناما، فرأى الساقي أنه يعصر خمرا -يعني عنبا -وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود‏:‏ ‏"‏إني أراني أعصر عنبا‏"‏‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن سِنَان، عن يزيد بن هارون، عن شَرِيك، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود‏:‏ أنه قرأها‏:‏ ‏"‏أعصر عنبا‏"‏‏.‏

وقال الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا‏}‏ يعني‏:‏ عنبا‏.‏ قال‏:‏ وأهل عمان يسمُّون العنب خمرا‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ رأيت فيما يرى النائم أني غرست حَبَلة من عنب، فنبتت‏.‏ فخرج فيه عناقيد، فعصرتهن ثم سقيتهن الملك‏.‏ قال تمكث في السجن ثلاثة أيام، ثم تخرج فتسقيه خمرا‏.‏

وقال الآخر -وهو الخباز -‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه، وأنهما رأيا مناما وطلبا تعبيره‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن إبراهيم، عن عبد الله قال‏:‏ ما رأى صاحبا يوسف شيئا، إنما كانا تحالما ليجربا عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36 - 38‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ‏}‏

يخبرهما يوسف، عليه السلام، أنهما مهما رأيا في نومهما من حلم، فإنه عارف بتفسيره ويخبرهما بتأويله قبل وقوعه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا‏}‏

قال مجاهد‏:‏ يقول‏:‏ ‏{‏لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ‏}‏ ‏[‏في نومكما‏]‏ ‏{‏إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا‏}‏ وكذا قال السدي‏.‏

وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا محمد بن يزيد -شيخ له -حدثنا رشدين، عن الحسن بن ثوبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال‏:‏ ما أدري لعل يوسف، عليه السلام، كان يعتاف وهو كذلك، لأني أجد في كتاب الله حين قال للرجلين‏:‏ ‏{‏لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ قال‏:‏ إذا جاء الطعام حلوا أو مرا أعتاف عند ذلك‏.‏ ثم قال ابن عباس‏:‏ إنما علم فعلم‏.‏ وهذا أثر غريب‏.‏

ثم قال‏:‏ وهذا إنما هو من تعليم الله إياي؛ لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر، فلا يرجون ثوابا ولا عقابا في المعاد‏.‏ ‏{‏وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ‏}‏ يقول‏:‏ هجرت طريق الكفر والشرك، وسلكت طريق هؤلاء المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى، واتبع المرسلين، وأعرض عن طريق الظالمين فإنه يهدي قلبه ويعلّمه ما لم يكن يعلمه، ويجعله إماما يقتدى به في الخير، وداعيا إلى سبيل الرشاد‏.‏

‏{‏مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ‏}‏ هذا التوحيد -وهو الإقرار بأنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ‏{‏مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ أوحاه إلينا، وأمرنا به ‏{‏وَعَلَى النَّاسِ‏}‏ إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم، بل ‏{‏بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس؛ أنه كان يجعل الجد أبا، ويقول‏:‏ والله فمن شاء لاعناه عند الحجْر، ما ذكر الله جدا ولا جدة، قال الله تعالى -يعني إخبارا عن يوسف‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39 - 40‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏

ثم إن يوسف، عليه السلام، أقبل على الفتيين بالمخاطبة، والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له وَخَلْع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما، فقال‏:‏ ‏{‏أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ الذي وَلِى كل شيء بِعزّ جلاله، وعظمة سلطانه‏.‏

ثم بين لهما أنَّ التي يعبدونها ويسمّونها آلهة، إنما هو جَهْلُ‏}‏ منهم، وتسمية من تلقاء أنفسهم، تلقاها خَلَفهم عن سَلَفهم، وليس لذلك مستند من عند الله؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ‏}‏ أي‏:‏ حجة ولا برهان‏.‏

ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كلَّه لله، وقد أمر عباده قاطبة ألا يعبدوا إلا إياه، ثم قال‏:‏ ذلك الدين القيم أي‏:‏ هذا الذي أدعوكم إليه من تَوحيد الله، وإخلاص العمل له، هو الدين المستقيم، الذي أمر الله به وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه، ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ فلهذا كان أكثرهم مشركين‏.‏ ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وقد قال ابن جريج‏:‏ إنما عَدَلَ بهم يوسف عن تعبير الرؤيا إلى هذا، لأنه عَرَف أنها ضارّة لأحدهما، فأحب أن يشغلهما بغير ذلك، لئلا يعاودوه فيها، فعاودوه، فأعاد عليهم الموعظة‏.‏

وفي هذا الذي قاله نظر؛ لأنه قد وَعَدَهما أولا بتعبيرها ولكن جعل سؤالهما له على وجه التعظيم والاحترام وُصْلة وسببا إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام، لما رأى في سجيتهما من قبول الخير والإقبال عليه، والإنصات إليه، ولهذا لما فرغ من دعوتهما، شرع في تعبير رؤياهما، من غير تكرار سؤال فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ‏}‏

يقول لهما‏:‏ ‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا‏}‏ وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا، ولكنه لم يعينِّه لئلا يحزن ذاك، ولهذا أبهمه في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ‏}‏ وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا‏.‏

ثم أعلمهما أن هذا قد فُرغ منه، وهو واقع لا محالة؛ لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبر، فإذا عُبِّرَت وَقَعت‏.‏

وقال الثوري، عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم، عن عبد الله قال‏:‏ لما قالا ما قالا وأخبرهما، قالا ما رأينا شيئا‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ‏}‏ ورواه محمد بن فضيل عن عمارة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود به، وكذا فسره مجاهد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم‏.‏ وحاصله أن من تحلَّم بباطل وفَسّره، فإنه يُلزَم بتأويله، والله أعلم، وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن معاوية بن حَيْدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبر فإذا عُبِّرت وقعت‏"‏ وفي مسند أبي يَعْلَى، من طريق يزيد الرَّقاشي، عن أنس مرفوعا‏:‏ ‏"‏الرؤيا لأول عابر‏"‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ‏}‏

لما ظن يوسف، عليه السلام، نجاة أحِدهما -وهو الساقي -قال له يوسف خفية عن الآخر والله أعلم، لئلا يشعره أنه المصلوب قال له‏:‏ ‏{‏اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ‏}‏ يقول‏:‏ اذكر قصتي عند ربك -وهو الملك -فنسى ذلك الموصَى أن يُذَكِّر مولاه بذلك، وكان من جملة مكايد الشيطان، لئلا يطلع نبي الله من السجن‏.‏

هذا هو الصواب أن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ‏}‏ عائد على الناجي، كما قال مجاهد، ومحمد بن إسحاق وغير واحد‏.‏ ويقال‏:‏ إن الضمير عائد على يوسف، عليه السلام، رواه ابن جرير، عن ابن عباس، ومجاهد أيضا، وعِكْرِمة، وغيرهم‏.‏ وأسند ابن جرير هاهنا حديثا فقال‏:‏ حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا عَمْرو بن محمد، عن إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو لم يقل -يعني‏:‏ يوسف -الكلمة التي قال‏:‏ ما لبث في السجن طول ما لبث‏.‏ حيث يبتغي الفرج من عند غير الله‏"‏‏.‏

وهذا الحديث ضعيف جدا؛ لأن سفيان بن وَكِيع ضعيف، وإبراهيم بن يزيد -هو الخُوزي -أضعف منه أيضا‏.‏ وقد رُوي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما، وهذه المرسَلات هاهنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن، والله أعلم‏.‏

وأما ‏"‏البضع‏"‏، فقال مجاهد وقتادة‏:‏ هو ما بين الثلاث إلى التسع‏.‏ وقال وهب بن مُنَبَّه‏:‏ مكث

أيوب في البلاء سبعًا ويوسف في السجن سبعًا، وعذاب بختنصر سبعا‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس، رضي الله عنهما‏:‏ فلبث في السجن بضع سنين قال‏:‏ ثنتا عشرة سنة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أربع عشرة سنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43 - 49‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ‏}‏

هذه الرؤيا من مَلك مصر مما قَدّر الله تعالى أنها كانت سببا لخروج يوسفَ، عليه السلام، من السجن مُعزَّزًا مكرما، وذلك أن المَلك رأى هذه الرؤيا، فهالته وتَعجَّب من أمرها، وما يكون تفسيرها، فجمع الكهنة والحُزَاة وكبراء دولته وأمراءه وقَصَّ عليهم ما رأى، وسألهم عن تأويلها، فلم يعرفوا ذلك، واعتذروا إليه بأن هذه ‏{‏أَضْغَاثُ أَحْلامٍ‏}‏ أي‏:‏ أخلاط اقتضت رؤياك هذه ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ ولو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط، لما كان لنا معرفة بتأويلها، وهو تعبيرها‏.‏ فعند ذلك تَذَكَّرَ ذلك الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين كانا في السجن مع يوسف، وكان الشيطان قد أنساه ما وصّاه به يوسف، من ذكر أمره للملك، فعند ذلك تذكر ‏{‏بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ مدة -وقرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏بعد أَمِةٍ‏"‏ أي‏:‏ بعد نسيان، فقال للملك والذين جمعهم لذلك‏:‏ ‏{‏أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ أي‏:‏ بتأويل هذا المنام، ‏{‏فَأَرْسِلُونِ‏}‏ أي‏:‏ فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ فبعثوا فجاء‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا‏}‏ وذكر المنام الذي رآه الملك، فعند ذلك ذكر له يوسف، عليه السلام، تعبيرها من غير تعنيف لذلك الفتى في نسيانه ما وصاه به، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك، بل قال‏:‏ ‏{‏تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا‏}‏ أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات، ففسر البقر بالسنين؛ لأنها تثير الأرض التي تُسْتغل منها الثمرات والزروع، وهن السنبلات الخضر، ثم أرشدهم إلى ما يعتمدونه في تلك السنين فقال‏:‏ ‏{‏فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ‏}‏ أي‏:‏ مهما استغللتم في هذه السبع السنين الخصب فاخزنوه في سنبله، ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه، إلا المقدار الذي تأكلونه، وليكن قليلا قليلا لا تسرفوا فيه، لتنتفعوا في السبع الشداد، وهن السبع السنين المُحْل التي تعقب هذه السبع متواليات، وهن البقرات العجاف اللاتي يأكلن السِّمان؛ لأن سنى الجَدْب يؤكل فيها ما جَمَعَوه في سنى الخصب، وهن السنبلات اليابسات‏.‏

وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ‏}‏

ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك ‏{‏عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ‏}‏ أي‏:‏ يأتيهم الغيث، وهو المَطرُ، وتُغل البلاد، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم، من زيت ونحوه، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم‏:‏ يدخل فيه حلب اللبن أيضًا‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ‏{‏وَفِيهِ يَعْصِرُونَ‏}‏ يحلبون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50 - 53‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

يقول تعالى إخبارًا عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه، التي كان رآها، بما أعجبه وأينقه، فعرف فضل يوسف، عليه السلام، وعلمه ‏[‏وحسن اطلاعه على رؤياه‏]‏ وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه، فقال ‏{‏ائْتُونِي بِهِ‏}‏ أي‏:‏ أخرجوه من السجن وأحضروه‏.‏ فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته، ونزاهة عرضه، مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه، بل كان ظلما وعدوانا، قال‏:‏

‏{‏ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ‏}‏

وقد وردت السنة بمدحه على ذلك، والتنبيه على فضله وشرفه، وعُلُوّ قدره وصبره، صلوات الله وسلامه عليه، ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏ ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي‏"‏

وقال الإمام أحمد أيضا‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو كنت أنا لأسرعت الإجابة، وما ابتغيت العذر‏"‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا ابن عُيَيْنَة، عن عمرو بن دينار، عن عِكْرِمة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له، حين سُئل عن البقرات العِجاف والسِّمان، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني‏.‏ ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له، حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب،َ ولكنه أراد أن يكون له العذر‏"‏‏.‏ هذا حديث مرسل

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ‏}‏ إخبار عن الملك حين جمع النّسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز، فقال مخاطبا لهن كلهن -وهو يريد امرأة وزيره، وهو العزيز -‏:‏ ‏{‏مَا خَطْبُكُنَّ‏}‏ أي‏:‏ شأنكن وخبركن ‏{‏إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ‏}‏ يعني‏:‏ يوم الضيافة‏؟‏ ‏{‏قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ‏}‏ أي‏:‏ قالت النسوة جوابا للملك‏:‏ حاش لله أن يكون يوسف مُتَّهَمَا، والله ما علمنا عليه من سوء‏.‏ فعند ذلك ‏{‏قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ‏}‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد‏:‏ تقول الآن‏:‏ تبين الحق وظهر وبرز‏.‏

‏{‏أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي‏}‏ ‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ تقول‏:‏ إنما اعترفت بهذا على نفسي، ذلك ليعلم زوجي أن لم أخنه في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة، فامتنع؛ فلهذا اعترفتُ ليعلم أني بريئة، ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي‏}‏ تقول المرأة‏:‏ ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى؛ ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء، ‏{‏إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ إلا من عصمه الله تعالى، ‏{‏إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام‏.‏ وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تَيميَّة، رحمه الله، فأفرده بتصنيف على حدة وقد قيل‏:‏ إن ذلك من كلام يوسف، عليه السلام، من قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ‏}‏ في زوجته ‏{‏بِالْغَيْبِ‏}‏ الآيتين أي‏:‏ إنما رَدَدْتُ الرسول ليعلم الملك براءتي وليعلم العزيز ‏{‏أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ‏}‏ في زوجته ‏{‏بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ‏}‏ ‏[‏الآية‏]‏ وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لما جمع الملك النسوة فسألهن‏:‏ هل راودتن يوسف عن نفسه‏؟‏ ‏{‏قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ قَالَ يُوسُفُ ‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ‏[‏وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ‏]‏‏}‏ قال‏:‏ فقال له جبريل، عليه السلام‏:‏ ولا يوم هممت بما هممت به‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ‏}‏ وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وعكرمة، وابن أبي الهُذَيل، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسُّدي‏.‏ والقول الأول أقوى وأظهر؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف، عليه السلام، عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54 - 55‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏}‏

يقول تعالى إخبارًا عن الملك حين تحقق براءة يوسف، عليه السلام، ونزاهة عرْضه مما نسب إليه، قال‏:‏ ‏{‏ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي‏}‏ أي‏:‏ أجعله من خاصّتي وأهل مشورتي ‏{‏فَلَمَّا كَلَّمَهُ‏}‏ أي‏:‏ خاطبه الملك وعرفه، ورأى فضله وبراعته، وعلم ما هو عليه من خَلْق وخُلُق وكمال قال له الملك‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ‏}‏ أي‏:‏ إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة، فقال يوسف، عليه السلام‏:‏ ‏{‏اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏}‏ مدح نفسه، ويجوز للرجل ذلك إذا جُهِل أمره، للحاجة‏.‏ وذكر أنه ‏{‏حَفِيظٌ‏}‏ أي‏:‏ خازن أمين، ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ ذو علم وبصرَ بما يتولاه‏.‏

قال شيبة بن نعامة‏:‏ حفيظ لما استودعتني، عليم بِسِني الجَدْب‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه، ولما في ذلك من المصالح للناس وإنما سأل أن يُجْعَل على خزائن الأرض، وهي الأهرام التي يجمع فيها الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، ليتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد، فأجيب إلى ذلك رغبةً فيه، وتكرِمَةً له؛ ولهذا قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56 - 57‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ أرض مصر، ‏{‏يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ‏}‏

قال السُّدِّي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ يتصرف فيها كيف يشاء‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ يتخذ منها منزلا حيث يشاء بعد الضيق والحبس والإسار‏.‏ ‏{‏نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز؛ فلهذا أعقبه الله عز وجل السلامة والنصر والتأييد، ‏{‏وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏ يخبر تعالى أن ما ادخره الله لنبيه يوسف، عليه السلام، في الدار الآخرة أعظم وأكثر وأجل، مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا كما قال تعالى في حق سليمان، عليه السلام‏:‏ ‏{‏هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 39، 40‏]‏‏.‏

والغرض أن يوسف، عليه السلام، ولاه مَلك مصر الريانُ بن الوليد الوزارة في بلاد مصر، مكان الذي اشتراه من مصر زوج التي راودته، وأسلم الملك على يدي يوسف، عليه السلام‏.‏

قاله مجاهد‏.‏ وقال محمد بن إسحاق لما قال يوسف للملك‏:‏ ‏{‏اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏}‏ قال الملك‏:‏ قد فعلت‏.‏ فولاه فيما ذكروا عمل إطفير وعزل إطفير عما كان عليه، يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ فذكر لي -والله أعلم -أن إطفير هَلك في تلك الليالي، وأن الملك الريان بن الوليد زوَّج يوسف امرأة إطفير راعيل، وأنها حين دخلت عليه قال‏:‏ أليس هذا خيرا مما كنت تريدين‏؟‏ قال‏:‏ فيزعمون أنها قالت‏:‏ أيها الصديق، لا تلمني، فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جميلة، ناعمة في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك على ما رأيت، فيزعمون أنه وجدها عذراء، فأصابها فولدت له رجلين أفرائيم بن يوسف، وميشا بن يوسف وولد لأفرائيم نون، والد يوشع بن نون، ورحمة امرأة أيوب، عليه السلام‏.‏

وقال الفضيل بن عياض‏:‏ وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق، حتى مَرّ يوسف، فقالت‏:‏ الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58 - 62‏]‏

‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏

ذكر السُّدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهما من المفسرين‏:‏ أن السبب الذي أقدم إخوة يوسف بلاد مصر، أن يوسف، عليه السلام، لما باشر الوزارة بمصر، ومضت السبع السنين المخصبة، ثم تلتها سنينُ الجدب، وعمّ القحط بلاد مصر بكمالها، ووصل إلى بلاد كنعان، وهي التي فيها يعقوب، عليه السلام، وأولاده‏.‏ وحينئذ احتاط يوسف، عليه السلام، للناس في غلاتهم، وجمعها أحسن جمع، فحصل من ذلك مبلغ عظيم، وأهراءَ متعددة هائلة، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات، يمتارون لأنفسهم وعيالهم، فكان لا يعطى الرجل أكثر من حمل بعير في السنة‏.‏ وكان، عليه السلام، لا يشبع نفسه ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار، حتى يتكفى الناس بما في أيديهم مدة السبع سنين‏.‏ وكان رحمة من الله على أهل مصر‏.‏

وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة الأولى بالأموال، وفي الثانية بالمتاع، وفي الثالثة بكذا، وفي الرابعة بكذا، حتى باعهم بأنفسهم وأولادهم بعدما تَمَلَّك عليهم جميع ما يملكون، ثم أعتقهم وردّ عليهم أموالهم كلها، الله أعلم بصحة ذلك، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب‏.‏

والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوةُ يوسف، عن أمر أبيهم لهم في ذلك، فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه، فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها طعاما، وركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب، عليه السلام، عنده بنيامين شقيق يوسف، عليهما السلام، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف‏.‏ فلما دخلوا على يوسف، وهو جالس في أبهته ورياسته وسيادته، عرفهم حين نظر إليهم، ‏{‏وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يعرفونه؛ لأنهم فارقوه وهو صغير حدث فباعوه للسيارة، ولم يدروا أين يذهبون به، ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، فلهذا لم يعرفوه، وأما هو فعرفهم‏.‏

فذكر السدي وغيره‏:‏ أنه شرع يخاطبهم، فقال لهم كالمنكر عليهم‏:‏ ما أقدمكم بلادي‏؟‏ قالوا‏:‏ أيها العزيز، إنا قدمنا للميرة‏.‏ قال‏:‏ فلعلكم عيون‏؟‏ قالوا‏:‏ معاذ الله‏.‏ قال‏:‏ فمن أين أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ من بلاد كنعان، وأبونا يعقوب نبي الله‏.‏ قال‏:‏ وله أولاد غيركم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، كنا اثني عشر، فذهب أصغرنا، هلك في البَرِيَّة، وكان أحبنا إلى أبيه، وبقي شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه‏.‏ فأمر بإنزالهم وإكرامهم‏.‏

‏{‏وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ وَفَّاهم كيلهم، وحمل لهم أحمالهم قال‏:‏ ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم، لأعلم صدقكم فيما ذكرتم، ‏{‏أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ‏}‏ يرغبهم في الرجوع إليه، ثم رَهَّبَهم فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ‏}‏ أي‏:‏ إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية، فليس لكم عندي ميرة، ‏{‏وَلا تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ولا نبقي مجهودا لتعلم صدقنا فيما قلناه‏.‏

وذكر السدي‏:‏ أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم‏.‏ وفي هذا نظر؛ لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا، وهذا لحرصه على رجوعهم‏.‏

‏{‏وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ‏}‏ أي‏:‏ غلمانه ‏{‏اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ‏}‏ وهي التي قدموا بها ليمتاروا عوضا عنها ‏{‏فِي رِحَالِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ في أمتعتهم من حيث لا يشعرون، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ بها‏.‏

قيل‏:‏ خشي يوسف، عليه السلام، ألا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها‏.‏ وقيل‏:‏ تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجًا وتورعًا لأنه يعلم ذلك منهم والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63 – 64‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏

يخبر تعالى عنهم إنهم رجعوا إلى أبيهم ‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ‏}‏ يعنون بعد هذه المرة، إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين، فأرسله معنا نكتل‏.‏

وقرأ بعضهم‏:‏ ‏[‏يكتل‏]‏ بالياء، أي يكتل هو، ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تخف عليه فإنه سيرجع إليك‏.‏ وهذا كما قالوا له في يوسف‏:‏ ‏{‏أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏؛ ولهذا قال لهم‏:‏ ‏{‏هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل، تغيبونه عني، وتحولون بيني وبينه‏؟‏ ‏{‏فَاللَّهُ خَيْرٌ حفظًا‏}‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏حَافِظًا‏"‏

‏{‏وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ هو أرحم الراحمين بي، وسيرحم كبري وضعفي ووجدي بولدي، وأرجو من الله أن يرده علي، ويجمع شملي به، إنه أرحم الراحمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65 - 66‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ

يقول تعالى‏:‏ ولما فتح إخوة يوسف متاعهم، وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم، وهي التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم، فلما وجدوها في متاعهم ‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ ماذا نريد‏؟‏ ‏{‏هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا‏}‏ كما قال قتادة‏.‏ ما نبغي وراء هذا‏؟‏ إن بضاعتنا ردت إلينا وقد أوفي لنا الكيل‏.‏

‏{‏وَنَمِيرُ أَهْلَنَا‏}‏ أي‏:‏ إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا، ‏{‏وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ‏}‏ وذلك أن يوسف، عليه السلام، كان يعطي كل رجل حمل بعير‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ حمل حمار‏.‏ وقد يسمى في بعض اللغات بعيرا، كذا قال‏.‏

‏{‏ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ‏}‏ هذا من تمام الكلام وتحسينه، أي‏:‏ إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا‏.‏

‏{‏قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ تحلفون بالعهود والمواثيق، ‏{‏لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ‏}‏ إلا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه‏.‏

‏{‏فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ‏}‏ أكده عليهم فقال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ‏}‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وإنما فعل ذلك؛ لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة، التي لا غنى لهم عنها، فبعثه معهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67 - 68‏]‏

‏{‏وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى، إخبارا عن يعقوب، عليه السلام‏:‏ إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر، ألا يدخلوا كلهم من باب واحد، وليدخلوا من أبواب متفرقة، فإنه كما قال ابن عباس، ومحمد بن كعب، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي‏:‏ إنه خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة، ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم؛ فإن العين حق، تستنزل الفارس عن فرسه‏.‏

وروى ابن أبي حاتم، عن إبراهيم النَّخّعي في قوله‏:‏ ‏{‏وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ‏}‏ قال‏:‏ علم أنه سيلقى إخوته في بعض الأبواب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ أي‏:‏ هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه ؛ فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع ‏{‏إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا‏}‏ قالوا‏:‏ هي دفع إصابة العين لهم، ‏{‏وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ‏}‏ قال قتادة والثوري‏:‏ لذو عمل بعلمه‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ لذو علم لتعليمنا إياه، ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏

يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه شقيقه بنيامين، فأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته، وأفاض عليهم الصلة والإلطاف والإحسان، واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه، وما جرى له، وعَرّفه أنه أخوه، وقال له‏:‏ ‏"‏لا تبتئس‏"‏ أي‏:‏ لا تأسف على ما صنعوا بي، وأمره بكتمان ذلك عنهم، وألا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه، وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده، مُعزّزًا مكرما معظما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70 - 72‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ‏}‏

لما جهزهم وحَمَّل لهم أبعرتهم طعاما، أمر بعض فتيانه أن يضع ‏"‏السقاية‏"‏، وهي‏:‏ إناء من فضة في قول الأكثرين‏.‏ وقيل‏:‏ من ذهب -قاله ابن زيد -كان يشرب فيه، ويكيل للناس به من عزَّة الطعام إذ ذاك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد‏.‏

وقال شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏صُوَاعَ الْمَلِكِ‏}‏ قال‏:‏ كان من

فضة يشربون فيه، وكان مثل المكوك، وكان للعباس مثلُه في الجاهلية، فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد، ثم نادى مناد بينهم‏:‏ ‏{‏أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ‏}‏ فالتفتوا إلى المنادي وقالوا‏:‏ ‏{‏مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ‏}‏ أي‏:‏ صاعه الذي يكيل به، ‏{‏وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ‏}‏ وهذا من باب الجُعَالة، ‏{‏وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ‏}‏ وهذا من باب الضمان والكفالة‏.‏