فصل: تفسير سورة الرعد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير سورة الرعد

‏[‏وهي مكية‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏

أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقَدَّمنا أن كل سورة تَبتدأ بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن، وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ هذه آيات الكتاب، وهو القرآن، وقيل‏:‏ التوارة والإنجيل‏.‏ قاله مجاهد وقتادة، وفيه نظر بل هو بعيد‏.‏

ثم عطف على ذلك عطف صفات قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ يا محمد، ‏{‏مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ‏}‏ خبر تقدم مبتدؤه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ هذا هو الصحيح المطابق لتفسير مجاهد وقتادة‏.‏ واختار ابن جرير أن تكون الواو زائدة أو عاطفة صفة على صفة كما قدمنا، واستشهد بقول الشاعر‏:‏

إلى المَلك القَرْمِ وابن الهُمَام *** وَلَيث الكتيبة في المُزْدَحَمْ

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏ أي‏:‏ مع هذا البيان والجلاء والوضوح، لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق والعناد والنفاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ‏}‏

يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه‏:‏ أنه الذي بإذنه وأمره رَفَع السماوات بغير عمَد، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بُعدًا لا تنال ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطةبجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام‏.‏ ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وبينها وبينها من البعد مسيرة خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، ثم السماء الثالثة محيطة بالثانية، بما فيها، وبينها وبينها خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، وكذا الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، كما قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ما السماواتُ السبع وما فيهنّ وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فَلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة وفي رواية‏:‏ ‏"‏والعرش لا يقدر قدره إلا الله، عز وجل، وجاء عن بعض السلف أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة، وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، وهو من ياقوتة حمراء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ روي عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة‏:‏ أنهم‏:‏ قالوا‏:‏ لها عَمَد ولكن لا ترى‏.‏

وقال إياس بن معاوية‏:‏ السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد‏.‏ وكذا روي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق‏.‏ والظاهر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 65‏]‏ فعلى هذا يكون قوله‏:‏ ‏{‏ترونها‏}‏ تأكيدا لنفي ذلك، أي‏:‏ هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها‏.‏ هذا هو الأكمل في القدرة‏.‏ وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره وكفر قلبه، كما ورد في الحديث ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله ورضي عنه‏:‏

وأنتَ الذي مِنْ فَضْل مَنٍّ وَرَحْمَة *** بَعَثتَ إلى مُوسَى رَسُولا مُنَاديا

فقلت له‏:‏ فاذهَبْ وهارونَ فادعُوَا *** إلى الله فرْعَونَ الذي كانَ طَاغيا

وَقُولا له‏:‏ هَلْ أنتَ سَوّيت هَذه *** بلا ‏[‏وتَد حَتَّى اطمأنت كَمَا هيا

وقُولا له‏:‏ أأنتَ رَفَّعتَ هَذه *** بلا‏]‏ عَمَد أرْفِقْ إذَا بَِك بانيَا‏؟‏

وَقُولا لَه‏:‏ هَل أنتَ سَوَّيت وَسْطَهَا *** مُنيرًا إذا ما جَنَّك الليَّل هاديا

وقُولا له‏:‏ مَنْ يُرْسِلُ الشَّمس غُدوةً *** فيُصبحَ ما مَسَّتْ مِنَ الأرضِ ضَاحيا?

وَقُولا له‏:‏ مَن يُنْبِت الحَبَّ في الثَّرَى *** فيُصبحَ مِنْه العُشب يَهَْتُّز رَابيا?

وَيُْخِرجُ منْه حَبَّه في رءوسه *** فَفِي ذَاكَ آياتٌ لِمنْ كَانَ وَاعيَا

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ تقدم تفسير ذلك في سورة ‏"‏الأعراف‏"‏ وأنه يُمَرَّر كما جاء من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل، تعالى الله علوا كبيرا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ قيل‏:‏ المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ المراد إلى مستقرهما، وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب الآخر، فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك، يكونون أبعد ما يكون عن العرش؛ لأنه على الصحيح الذي تقومُ عليه الأدلة، قبة مما يلي العالم من هذا الوجه، وليس بمحيط كسائر الأفلاك؛ لأنه له قوائم وحملة يحملونه‏.‏ ولا يتصوّر هذا في الفلك المستدير، وهذا واضح لمن تَدَبَّر ما وَرَدَتْ به الآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة‏.‏

وذكر الشمس والقمر؛ لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة، التي هي أشرف وأعظم‏.‏

من الثوابت، فإذا كان قد سخر هذه، فَلأن يدخل في التسخير سائرُ الكواكب بطريق الأولى والأحرى، كما نبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏ مع أنه قد صرح بذلك بقوله ‏{‏وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو، وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما ابتدأ خلقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3 - 4‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏

أي‏:‏ جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض، وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون لسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح، من كل زوجين اثنين، أي‏:‏ من كل شكل صنفان‏.‏

‏{‏يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ‏}‏ أي‏:‏ جعل كلا منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، فإذا ذهب هذا غَشيه هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر، فيتصرف أيضا في الزمان كما تصرف في المكان والسكان‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ في آلاء الله وحكمته ودلائله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ‏}‏ أي‏:‏ أراضٍ تجاور بعضها بعضا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سَبَخة مالحة لا تنبت شيئا‏.‏ هكذا روي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك، وغيرهم‏.‏

وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة وهذه سهلة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكل متجاورات‏.‏ فهذه بصفتها، وهذه بصفتها الأخرى، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار، لا إله إلا هو، ولا رب سواه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ‏}‏ يحتمل أن تكون عاطفة على ‏{‏جنات‏}‏ فيكون ‏{‏وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ‏}‏ مرفوعين‏.‏ ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب، فيكون مجرورا؛ ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ‏}‏ الصنوان‏:‏ هي الأصول المجتمعة في منبت واحد، كالرمان والتين وبعض النخيل، ونحو ذلك‏.‏ وغير الصنوان‏:‏ ما كان على أصل واحد، كسائر الأشجار، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه، كما جاء في الحديث الصحيح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر‏:‏ ‏"‏أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه‏؟‏‏"‏‏.‏

وقال سفيان الثوري، وشعبة، عن أبى إسحاق، عن البراء، رضي الله عنه‏:‏ الصنوان‏:‏ هي النخلات في أصل واحد، وغير الصنوان‏:‏ المتفرقات‏.‏ وقاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ‏}‏ قال الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏الدَّقَل والفارسي، والحُلْو والحامض‏"‏‏.‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حسن غريب‏.‏

أي‏:‏ هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع، في أشكالها وألوانها، وطعومها وروائحها، وأوراقها وأزهارها‏.‏

فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة وذا عَفِص، وهذا عذب وهذا جمع هذا وهذا، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى‏.‏ وهذا أصفر وهذا أحمر، وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق‏.‏ وكذلك الزهورات مع أن كلها يستمد من طبيعة واحدة، وهو الماء، مع هذا الاختلاف الكبير الذي لا ينحصر ولا ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعيا، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار، الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏

يقول تعالى لرسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ‏}‏ من تكذيب هؤلاء المشركين بأمر المعاد مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلالاته في خلقه على أنه القادر على ما يشاء، ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء، فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، ثم هم بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد العالمين خلقا جديدا، وقد اعترفوا وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به، فالعجب من قولهم‏:‏ ‏{‏أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وأن من بدأ الخلق فالإعادة سهلة عليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏

ثم نعت المكذبين بهذا فقال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يسحبون بها في النار، ‏{‏وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ ماكثون فيها أبدا، لا يحولون عنها ولا يزولون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء المكذبون ‏{‏بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ‏}‏ أي‏:‏ بالعقوبة، كما أخبر عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏6 -8‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 53، 54‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 18‏]‏‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏ أي‏:‏ حسابنا وعقابنا، كما قال مخبرا عنهم‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ فكانوا يطلبون من الرسول أن يأتيهم بعذاب الله، وذلك من شدة تكذيبهم وكفرهم وعنادهم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ‏}‏ أي‏:‏ قد أوقعنا نقمتنا بالأمم الخالية وجعلناهم مثلة وعبرة وعظة لمن اتعظ بهم‏.‏

ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه ‏[‏وغفره‏]‏ لعالجهم بالعقوبة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ إنه ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار‏.‏ ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب، ليعتدل الرجاء والخوف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 147‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 167‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏49، 50‏]‏ إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسَيَّب قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لولا عفوُ الله وتجاوُزه، ما هنأ أحدا العيش ولولا وعيده وعقابه، لاتكل كل أحد‏"‏‏.‏

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن عثمان أبي حسان الزيادي‏:‏ أنه رأى رب العزة في النوم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين يديه يشفع في رجل من أمته، فقال له‏:‏ ألم يكفك أني أنزلت عليك في سورة الرعد‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ ثم انتبهت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏

يقول تعالى إخبارًا عن المشركين أنهم يقولون كفرا وعنادا‏:‏ لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون، كما تعتنوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن يزيل عنهم الجبال، ويجعل مكانها مروجا وأنهارا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ‏}‏ أي‏:‏ إنما عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها، ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 272‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، أي‏:‏ ولكل قوم داع‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس في تفسيرهما‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ أنت يا محمد منذر، وأنا هادي كل قوم، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك‏.‏

وعن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ أي‏:‏ نبي‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 24‏]‏ وبه قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد‏.‏ وقال أبو صالح، ويحيى بن رافع‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ أي‏:‏ قائد‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ الهادي‏:‏ القائد، والقائد‏:‏ الإمام، والإمام‏:‏ العمل‏.‏

وعن عِكْرِمة، وأبي الضحى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ قالا هو محمد ‏[‏رسول الله‏]‏ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال مالك‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ من يدعوهم إلى الله، عز وجل‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثني أحمد بن يحيى الصوفي، حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري، حدثنا معاذ بن مسلم بياع الهروي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ قال‏:‏ وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره، وقال‏:‏ ‏"‏أنا المنذر، ولكل قوم هاد‏"‏‏.‏ وأومأ بيده إلى منكب علي، فقال‏:‏ ‏"‏أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون من بعدي‏"‏‏.‏

وهذا الحديث فيه نكارة شديدة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا المطلب بن زياد، عن السدي، عن عبد خير، عن علي‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ قال‏:‏ الهادي‏:‏ رجل من بني هاشم‏:‏ قال الجنيد هو علي بن أبي طالب، رضي الله عنه‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن ابن عباس، في إحدى الروايات، وعن أبي جعفر محمد بن علي، نحو ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8 - 9‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ‏}‏

يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏ أي‏:‏ ما حملت من ذكر أو أنثى، أو حسن أو قبيح، أو شقي أو سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏6‏]‏ أي‏:‏ خلقكم طورا من بعد طور، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏:‏ 14‏]‏ وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات‏:‏ يَكْتب رزقه، وعمره، وعمله، وشقي أو سعيد‏"‏‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏فيقول الملك‏:‏ أيْ رب، أذكر أم أنثى‏؟‏ أي رب، أشقي أم سعيد‏؟‏ فما الرزق‏؟‏ فما الأجل‏؟‏ فيقول الله، ويكتب الملك‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ‏}‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا مَعْن، حدثنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله‏:‏ لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله‏"‏‏.‏وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ‏}‏ يعني‏:‏ السَقْط ‏{‏وَمَا تَزْدَادُ‏}‏ يقول‏:‏ ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما‏.‏ وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تزيد في الحمل، ومنهن من تنقص، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى، وكل ذلك بعلمه تعالى‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ‏}‏ قال‏:‏ ما نقصت من تسعة وما زاد عليها‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين، وولدتني وقد نبتت ثنيَّتي‏.‏

وقال ابن جُرَيْج، عن جميلة بنت سعد، عن عائشة قالت‏:‏ لا يكون الحمل أكثر من سنتين، قدر ما يتحرك ظِل مغْزَل‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ‏}‏ قال‏:‏ ما ترى من الدم في حملها، وما تزداد على تسعة أشهر‏.‏ وبه قال عطية العوفي وقتادة، والحسن البصري، والضحاك‏.‏

وقال مجاهد أيضا‏:‏ إذا رأت المرأة الدم دون التسعة زاد على التسعة، مثل أيام الحيض‏.‏ وقاله عِكْرِمة، وسعيد بن جبير، وابن زيد‏.‏

وقال مجاهد أيضا‏:‏ ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ‏}‏ إراقة المرأة حتى يخس الولد ‏{‏وَمَا تَزْدَادُ‏}‏ إن لم تهرق المرأة تم الولد وعظم‏.‏

وقال مكحول‏:‏ الجنين في بطن أمه لا يطلب، ولا يحزن ولا يغتم، وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها فمن ثم لا تحيض الحامل‏.‏ فإذا وقع إلى الأرض استهل، واستهلاله استنكار لمكانه، فإذا قطعت سرته حول الله رزقه إلى ثديي أمه حتى لا يطلب ولا يحزن ولا يغتم، ثم يصير طفلا يتناول الشيء بكفه فيأكله، فإذا هو بلغ قال‏:‏ هو الموت أو القتل، أنَّى لي بالرزق‏؟‏ فيقول مكحول‏:‏ يا ويلك ‏!‏ غَذاك وأنت في بطن أمك، وأنت طفل صغير، حتى إذا اشتددت وعقلت قلت‏:‏ هو الموت أو القتل، أنى لي بالرزق‏؟‏ ثم قرأ مكحول‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ‏}‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ‏}‏ أي‏:‏ بأجل، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم، وجعل لذلك أجلا معلومًا‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ أن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إليه‏:‏ أن ابنا لها في الموت، وأنها تحب أن يحضره‏.‏ فبعث إليها يقول‏:‏ ‏"‏إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب‏"‏ الحديث بتمامه

وقوله‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ أي‏:‏ يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم، ولا يخفى عليه منه شيء‏.‏ ‏{‏الكبير‏}‏ الذي هو أكبر من كل شيء، ‏{‏المتعال‏}‏ أي‏:‏ على كل شيء، قد أحاط بكل شيء علما، وقهر كل شيء، فخضعت له الرقاب ودان له العباد، طوعا وكرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 11‏]‏

‏{‏سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ‏}‏

يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه، سواء منهم من أسر قوله أو جهر به، فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 7‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 25‏]‏ وقالت عائشة، رضي الله عنها‏:‏ سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في جنب البيت، وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ‏}‏ أي‏:‏ مختف في قعر بيته في ظلام الليل، ‏{‏وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ‏}‏ أي‏:‏ ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه، فإن كليهما في علم الله على السواء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 5‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حَرَس بالليل وحَرَس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين و‏[‏عن‏]‏ الشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحدا من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلا حافظان وكاتبان، كما جاء في الصحيح‏:‏ ‏"‏يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم‏:‏ كيف تركتم عبادي‏؟‏ فيقولون‏:‏ أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون‏"‏ وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم‏"‏‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ والمعقبات من أمر الله، وهي الملائكة‏.‏

وقال عِكْرِمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ قال‏:‏ ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خَلَّوا عنه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ما من عبد إلا له مَلَك موكل، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال الملك‏:‏ وراءك إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه‏.‏

وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ‏}‏ قال‏:‏ ذلك ملك من ملوك الدنيا، له حرس من دونه حرس‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ‏}‏ يعني‏:‏ ولي الشيطان، يكون عليه الحرس‏.‏ وقال عِكْرِمة في تفسيرها‏:‏ هؤلاء الأمراء‏:‏ المواكب من بين يديه ومن خلفه‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ قال‏:‏ هو السلطان المحترس من أمر الله، وهم أهل الشرك‏.‏

والظاهر، والله أعلم، أن مُرَاد ابن عباس وعِكْرِمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبيد يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم‏.‏ وقد روى الإمام أبو جعفر ابن جرير هاهنا حديثًا غريبا جدا فقال‏:‏ حدثني المثنى، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري، حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي قال‏:‏ دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، أخبرني عن العبد، كم معه من ملك ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ملك على يمينك على حسناتك، وهو آمر على الذي على الشمال، إذا عملت حسنة كتبت عشرا، فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين‏:‏ اكتب‏؟‏ قال‏:‏ لا لعله يستغفر الله ويتوب‏.‏ فإذا قال ثلاثا قال‏:‏ نعم، اكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين‏.‏ ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منا‏"‏‏.‏ يقول الله‏:‏ ‏{‏مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏ وملكان من بين يديك ومن خلفك، يقول الله‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك، ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم، وملك قائم على فيك لا يَدَع الحية أن تدخل في فيك، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار؛ لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار، فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل‏"‏‏.‏

قال الإمام أحمد، رحمه الله‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، حدثنا سفيان، حدثني منصور، عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه، عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ وإياك يا رسول الله، قال‏:‏ ‏"‏وإياي، ولكن أعانني الله عليه فلا يأمرني إلا بخير‏"‏‏.‏ انفرد بإخراجه مسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ قيل‏:‏ المراد حفظُهم له من أمر الله‏.‏ رواه علي بن أبي طلحة، وغيره، عن ابن عباس‏.‏ وإليه ذهب مجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعي، وغيرهم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ قال‏:‏ وفي بعض القراءات‏:‏ ‏"‏يحفظونه بأمر الله‏"‏‏.‏

وقال كعب الأحبار‏:‏ لو تجلَّى لابن آدم كل سهل وحزن، لرأى كل شيء من ذلك شياطين لولا أن الله وكَّل بكم ملائكة عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم، إذا لتُخُطّفتم‏.‏ وقال أبو أمامة ما من آدمي إلا ومعه ملك يَذُود عنه، حتى يسلمه للذي قدر له‏.‏

وقال أبو مِجْلَز‏:‏ جاء رجل من مُرَاد إلى علي، رضي الله عنه، وهو يصلي، فقال‏:‏ احترس، فإن ناسًا من مراد يريدون قتلك‏.‏ فقال‏:‏ إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدّر، فإذا جاء القَدَرُ خَليا بينه وبينه، وإن الأجل جنة حَصِينة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ بأمر الله، كما جاء في الحديث أنهم قالوا‏:‏ يا رسول الله، أرأيت رُقَى نسترقي بها، هل ترد من قَدَر الله شيئا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏هي من قَدَر الله‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن جَهْم، عن إبراهيم قال‏:‏ أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل‏:‏ أن قل لقومك‏:‏ إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون، ثم قال‏:‏ إن مصداق ذلك في كتاب الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ‏}‏

وقد ورد هذا في حديث مرفوع، فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه ‏"‏صفة العرش‏"‏‏:‏ حدثنا الحسن بن علي، حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي، حدثنا أبو حنيفة اليمامي الأنصاري، عن عمير بن عبد الله قال‏:‏ خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة، قال‏:‏ كنت إذا سكتُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني، وإذا سألته عن الخبر أنبأني، وإنه حدثني عن ربه، عز وجل، قال‏:‏ ‏"‏قال الرب‏:‏ وعزتي وجلالي، وارتفاعي فوق عرشي، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهتُ من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي‏"‏‏.‏

وهذا غريب، وفي إسناده من لا أعرفه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 13‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ‏}‏

يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق، وهو ما يرى من النور اللامع ساطعا من خلل السحاب‏.‏

وروى ابن جرير أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن البرق، فقال‏:‏ البرق‏:‏ الماء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خَوْفًا وَطَمَعًا‏}‏ قال قتادة‏:‏ خوفا للمسافر، يخاف أذاه ومشقته، وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته، ويطمع في رزق الله‏.‏

‏{‏وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ‏}‏ أي‏:‏ ويخلقها منشأة جديدة، وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض‏.‏

قال مجاهد‏:‏ والسحاب الثقال‏:‏ الذي فيه الماء‏.‏

‏{‏وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا إبراهيم بن سعد، أخبرني أبي قال‏:‏ كنت جالسًا إلى جنب حُمَيْد بن عبد الرحمن في المسجد، فمر شيخ من بني غفار، فأرسل إليه حميد، فلما أقبل قال‏:‏ يا ابن أخي، وسع له فيما بيني وبينك، فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه، فقال له حميد‏:‏ ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال الشيخ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الله ينشئ السحاب، فينطق أحسن النطق، ويضحك أحسن الضحك‏"‏‏.‏ والمراد -والله أعلم -أن نطقَها الرعدُ، وضحكها البرقُ‏.‏

وقال موسى بن عبيدة، عن سعد بن إبراهيم قال‏:‏ يبعث الله الغيث، فلا أحسن منه مضحكا، ولا آنس منه منطقا، فضحكه البرق، ومنطقه الرعد‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي، عن محمد بن مسلم قال‏:‏ بلغنا أن البرق مَلكٌ له أربعة وجوه‏:‏ وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مَصَع بذنبه فذاك البرق‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الحجاج، حدثني أبو مطر، عن سالم، عن أبيه قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سَمع الرعْد والصواعق قال‏:‏ ‏"‏اللهم، لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي، والبخاري في كتاب الأدب، والنسائي في اليوم والليلة، والحاكم في مستدركه، من حديث الحجاج بن أرطاة، عن أبي مطر -ولم يسم به‏.‏

وقال ‏[‏الإمام‏]‏ أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا إسرائيل، عن أبيه عن رجل، عن أبي هريرة، رفع الحديث قال‏:‏ إنه كان إذا سمع الرعد قال‏:‏ ‏"‏سبحان من يُسبّح الرعْد بحمده‏"‏‏.‏

وروي عن علي، رضي الله عنه، أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال‏:‏ سبحان من سَبَّحت له‏.‏وكذا روي عن ابن عباس، والأسود بن يزيد، وطاوس‏:‏ أنهم كانوا يقولون كذلك‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ كان ابن أبي زكريا يقول‏:‏ من قال حين يسمع الرعد‏:‏ سبحان الله وبحمده، لم تصبه صاعقة‏.‏

وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال‏:‏ سبحان الذي يسبّح الرعدُ بحمده والملائكة من خيفته، ويقول‏:‏ إن هذا لوعيد شديدٌ لأهل الأرض‏.‏ رواه مالك في الموطأ، والبخاري في كتاب الأدب‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن داود الطيالسي، حدثنا صَدَقة بن موسى، حدثنا محمد بن واسع، عن شتيز بن نهار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قال ربكم عز وجل‏:‏ لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولما أسمعتهم صوت الرعد‏"‏‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا أبو كامل الجَحْدري، حدثنا يحيى بن كثير أبو النضر، حدثنا عبد الكريم، حدثنا عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله؛ فإنه لا يصيب ذاكرا‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ يرسلها نقمَةً ينتقم بها ممن يشاء، ولهذا تكثر في آخر الزمان، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا عمارة عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة، حتى يأتي الرجل القوم فيقول‏:‏ من صعق تلكم الغداة‏؟‏ فيقولون صعِق فلان وفلان وفلان‏"‏‏.‏ وقد روي في سبب نزولها ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا إسحاق، حدثنا علي بن أبي سارة الشَّيباني، حدثنا ثابت، عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا مرة إلى رجل من فراعنة العرب فقال‏:‏ ‏"‏اذهب فادعه لي‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فذهب إليه فقال‏:‏ يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال له‏:‏ من رسول الله‏؟‏ وما الله‏؟‏ أمِن ذهب هو‏؟‏ أم من فضة هو‏؟‏ أم من نحاس هو‏؟‏ قال‏:‏ فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال‏:‏ يا رسول الله، قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك،قال لي كذا وكذا‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ارجع إليه الثانية‏"‏‏.‏ أراه، فذهب فقال له مثلها‏.‏ فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ارجع إليه فادعه‏"‏‏.‏ فرجع إليه الثالثة‏.‏ قال‏:‏ فأعاد عليه ذلك الكلام‏.‏ فبينا هو يكلمه، إذ بعث الله، عز وجل، سحابة حيال رأسه، فرعدت، فوقعت منها صاعقة، فذهب بقحف رأسه فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ‏}‏ ورواه ابن جرير، من حديث علي بن أبي سارة، به ورواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عبدة بن عبد الله، عن يزيد بن هارون، عن ديلم بن غَزْوان، عن ثابت، عن أنس، فذكر نحوه‏.‏

وقال‏:‏ حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا عفان، حدثنا أبان بن يزيد، حدثنا أبو عمران الجوقي، عن عبد الرحمن بن صُحَار العبدي‏:‏ أنه بلغه أن نبي الله بعثه إلى جَبَّار يدعوه، فقال‏:‏ أرأيتم ربكم، أذهب هو‏؟‏ أو فضة هو‏؟‏ ألؤلؤ هو‏؟‏ قال‏:‏ فبينا هو يجادلهم، إذ بعث الله سحابة فرعدت فأرسل عليه صاعقة فذهبت بقحف رأسه، ونزلت هذه الآية‏.‏

وقال أبو بكر بن عياش، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال‏:‏ جاء يهودي فقال‏:‏ يا محمد، أخبرني عن ربك، ‏[‏من أي شيء هو‏]‏ من نحاس هو‏؟‏ من لؤلؤ‏؟‏ أو ياقوت‏؟‏ قال‏:‏ فجاءت صاعقة فأخذته، وأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ‏}‏ وقال قتادة‏:‏ ذُكر لنا أنَّ رجلا أنكر القرآن، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله صاعقة فأهلكته وأنزل‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ‏}‏ الآية‏.‏

وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عامر بن الطفيل -لعنه الله‏:‏ أما والله لأملأنَّهَا عليك خيلا جَرْدا ورجالا مردا‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يأبى الله عليك ذلك وأبناء قَيْلة يعني‏:‏ الأنصار، ثم إنهما هما بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل أحدهما يخاطبه، والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه، فحماه الله منهما وعصمه، فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب، يجمعان الناس لحربه، عليه السلام فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته‏.‏ وأما عامر بن الطفيل فأرسل الله عليه الطاعون، فخرجت فيه غُدّة عظيمة، فجعل يقول‏:‏ يا آل عامر، غُدَّة كغدَّة البكر، وموت في بيت سَلُولية ‏؟‏ حتى ماتا لعنهما الله، وأنزل الله في مثل ذلك‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ‏}‏ وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة، أخو أربد يرثيه‏:‏

أخشَى عَلَى أَرْبَدَ الحُتُوفَ وَلا *** أرْهَب نَوء السّماك والأسَد

فَجَعني الرّعْدُ والصّواعِقُ بال *** فارس يَوم الكريهَة النَّجُد

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا مَسْعَدة بن سعد العطار، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني عبد العزيز بن عمران، حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم، عن أبيهما، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن أربد بن قيس بن جَزْء بن جليد بن جعفر بن كلاب، وعامر بن الطفيل بن مالك، قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهيا إليه وهو جالس، فجلسا بين يديه، فقال عامر بن الطفيل‏:‏ يا محمد، ما تجعل لي إن أسلمتُ‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم‏"‏‏.‏ قال عامر بن الطفيل‏:‏ أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس ذلك لك ولا لقومك، ولكن لك أعنَّة الخيل‏"‏‏.‏ قال‏:‏ أنا الآن في أعنَّة خيل نجد، اجعل لي الوبَرَ ولك المدَرَ‏.‏ قال رسول الله‏:‏ ‏"‏لا‏"‏‏.‏ فلما قفلا من عنده قال عامر‏:‏ أما والله لأملأنَّهَا عليك خيلا ورجالا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يمنعك الله‏"‏‏.‏ فلما خرج أربد وعامر، قال عامر‏:‏ يا أربد، أنا أشغل عنك محمدا صلى الله عليه وسلم بالحديث، فاضربه بالسيف، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يَرضَوا بالدية، ويكرهوا الحرب، فنعطيهم الدية‏.‏ قال أربد‏:‏ أفعل‏.‏ فأقبلا راجعين إليه، فقال عامر‏:‏ يا محمد، قم معي أكلمك‏.‏ فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلسا إلى الجدار، ووقف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه، وسَلّ أربدُ السيف، فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف، فلم يستطع سل السيف، فأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد، وما يصنع، فانصرف عنهما‏.‏ فلما خرج عامر وأربد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحَرّة، حَرّة واقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسَيد بن حضير فقالا اشخصا يا عدوّي الله، لعنكما الله‏.‏ فقال عامر‏:‏ من هذا يا سعد‏؟‏ قال‏:‏ هذا أسَيد بن حُضَير الكتائب فخرجا حتى إذا كانا بالرَّقم، أرسل الله على أربدَ صاعقة فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم، أرسل الله قرحة فأخذته فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول‏:‏ غدة كغدة الجمل في بيت سَلُولية ترغب أن يموت في بيتها‏!‏ ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعا، فأنزل الله فيهما‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 8 -11‏]‏ -قال‏:‏ المعقبات من أمر الله يحفظون محمدًا صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أربد وما قتله به، فقال‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ‏}‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ يَشُكّون في عظمته، وأنه لا إله إلا هو، ‏{‏وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ‏}‏

قال ابن جرير‏:‏ شديدة مماحَلَته في عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى في كفره‏.‏

وهذه الآية شبيهة بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 50، 51‏]‏‏.‏

وعن علي، رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ‏}‏ أي‏:‏ شديد الأخذ‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ شديد القوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ‏}‏

قال علي بن أبى طالب، رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ‏}‏ قال‏:‏ التوحيد‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال ابن عباس، وقتادة، ومالك عن محمد بن المنْكَدِر‏:‏ ‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏ لا إله إلا الله‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ أي‏:‏ ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله‏.‏ ‏{‏كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ‏}‏ قال علي بن أبي طالب‏:‏ كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده، وهو لا يناله أبدا بيده، فكيف يبلغ فاه‏؟‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ‏}‏ يدعو الماء بلسانه، ويشير إليه ‏[‏بيده‏]‏ فلا يأتيه أبدا‏.‏

وقيل‏:‏ المراد كقابض يده على الماء، فإنه لا يحكم منه على شيء، كما قال الشاعر‏:‏‏}‏

فَإنّي وَإيَّاكُمْ وَشَوْقًا إليكمُ *** كَقَابض مَاء لَم تَسْقه أناملُه

وقال الآخر‏:‏‏}‏

فأصْبَحتُ ممَّا كانَ بَيْنِي وَبَيْنَها *** مِن الوُدّ مِثْلَ القابضِ المَاءَ بِاليَد

ومعنى الكلام‏:‏ أن هذا الذي يبسط يده إلى الماء، إما قابضا وإما متناولا له من بُعد، كما أنه لا

ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه، الذي جعله محلا للشرب، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها غيره، لا ينتفعون بهم أبدا في الدنيا ولا في الآخرة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ‏}‏