فصل: تفسير الآيات رقم (44 - 46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏44 - 46‏]‏

‏{‏فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن قيل الذين ظلموا أنفسهم، عند معاينة العذاب‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 9، 10‏]‏، وقال تعالى مخبرا عنهم في حال محشرهم‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 27، 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وقال تعالى رادا عليهم في قولهم هذا‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ‏}‏ أي‏:‏ أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحال‏:‏ أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء، فذوقوا هذا بذاك‏.‏

قال مجاهد وغيره‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ‏}‏ أي‏:‏ ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، كما أخبر عنهم تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 38‏]‏‏.‏

‏{‏وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ‏}‏ أي‏:‏ قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر، ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر لكم ‏{‏حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقد روى شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن ‏[‏بن دابيل‏]‏ أن عليا، رضي الله عنه، قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ‏}‏ قال‏:‏ أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين، فرباهما حتى استغلظا واستعلجا وشبا‏.‏

قال‏:‏ فأوثق رِجْل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت، وجوعهما، وقعد هو ورجل آخر في التابوت قال‏:‏- ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم -قال‏:‏ فطارا ‏[‏قال‏]‏ وجعل يقول لصاحبه‏:‏ انظر، ما ترى‏؟‏ قال‏:‏ أرى كذا وكذا، حتى قال‏:‏ أرى الدنيا كلها كأنها ذباب‏.‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ صوب العصا،فصوبها، فهبطا‏.‏ قال‏:‏ فهو قول الله، عز وجل‏:‏ ‏"‏وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال‏"‏‏.‏ قال أبو إسحاق‏:‏ وكذلك هي في قراءة عبد الله‏:‏ ‏"‏وإن كاد مكرهم‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وكذا رُوي عن أبي بن كعب، وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، أنهما قرآ‏:‏ ‏"‏وإن كاد‏"‏، كما قرأ علي‏.‏ وكذا رواه سفيان الثوري، وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أذنان عن علي، فذكر نحوه‏.‏

وكذا رُوي عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمرود ملك كنعان‏:‏ أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر، كما رام ذلك بعده فرعون ملك القبط في بناء الصرح، فعجزا وضعفا‏.‏ وهما أقل وأحقر، وأصغر وأدحر‏.‏

وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر، وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها، نودي أيها الطاغية‏:‏ أين تريد‏؟‏ فَفَرق، ثم سمع الصوت فوقه فصوب الرماح، فصَوبت النسور، ففزعت الجبال من هدتها، وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ‏}‏

ونقل ابن جُريج عن مجاهد أنه قرأها‏:‏ ‏"‏لَتَزُولُ منه الجبال‏"‏، بفتح اللام الأولى، وضم الثانية‏.‏

وروى العوفي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ‏}‏ يقول‏:‏ ما كان مكرهم لتزول منه الجبال‏.‏ وكذا قال الحسن البصري، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من كفرهم بالله وشركهم به، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها، وإنما عاد وبال ذلك على أنفسهم‏.‏

قلت‏:‏ ويشبه هذا إذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 37‏]‏‏.‏

والقول الثاني في تفسيرها‏:‏ ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ‏}‏ يقول شركهم، كقوله‏:‏ ‏{‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 90 -91‏]‏، وهكذا قال الضحاك وقتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47 - 48‏]‏

‏{‏فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏

يقول تعالى مقررًا لوعده ومؤكدًا‏:‏ ‏{‏فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ‏}‏ أي‏:‏ من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏.‏

ثم أخبر أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا يغالب، وذو انتقام ممن كفر به وجحده ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 11‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ‏}‏ أي‏:‏ وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة، كما جاء في الصحيحين، من حديث أبي حازم، عن سهل بن سعد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس فيها معلم لأحد‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة أنها قالت‏:‏ أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ قالت‏:‏ قلت‏:‏ أين الناس يومئذ يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏على الصراط‏"‏‏.‏ رواه مسلم منفردًا به دون البخاري، والترمذي، وابن ماجه، من حديث داود بن أبي هند، به وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ورواه أحمد أيضا، عن عفان، عن وهيب عن داود، عن الشعبي، عنها ولم يذكر مسروقًا‏.‏

وقال قتادة، عن حسان بن بلال المزني، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ‏}‏ قال‏:‏ قالت يا رسول الله، فأين الناس يومئذ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي، ذاك أن الناس على جسر جهنم ‏.‏

وروى الإمام أحمد، من حديث حبيب بن أبي عمرة، عن مجاهد، عن ابن عباس، حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏، فأين الناس يومئذ يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هم على متن جهنم‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا الحسن، حدثنا علي بن الجعد، أخبرني القاسم، سمعت الحسن قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ يا رسول الله، ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ‏}‏ فأين الناس يومئذ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إن هذا شيء ما سألني عنه أحد‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏على الصراط يا عائشة‏"‏‏.‏ ورواه أحمد، عن عفان عن القاسم بن الفضل، عن الحسن، به‏.‏

وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه‏:‏ حدثني الحسن بن علي الحلواني، حدثنا أبو تَوْبة الربيع بن نافع، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد -يعني‏:‏ أخاه -أنه سمع أبا سلام، حدثني أبو أسماء الرَّحَبِي؛ أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه قال‏:‏ كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه حَبر من أحبار اليهود، فقال‏:‏ السلام عليك يا محمد‏.‏ فدفعته دفعة كاد يُصرَع منها، فقال‏:‏ لم تدفعني‏؟‏ فقلت‏:‏ ألا تقول‏:‏ يا رسول الله‏؟‏‏!‏ فقال اليهودي‏:‏ إنما ندعوه باسمه الذي سَمّاه به أهله‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي‏"‏‏.‏ فقال اليهودي‏:‏ جئت أسألك‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أينفعك شيء إن حدثتك‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ أسمع بأذني‏.‏ فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه، فقال‏:‏ ‏"‏سل‏"‏‏.‏ فقال اليهودي‏:‏ أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هم في الظلمة دون الجسر‏"‏ قال‏:‏ فمن أول الناس إجازة‏؟‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏‏[‏فقراء‏]‏ المهاجرين‏"‏‏.‏ قال اليهودي‏:‏ فما تُحْفَتهُم حين يدخلون الجنة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏زيادة كبد النون‏"‏ قال‏:‏ فما غذاؤهم في أثرها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فما شرابهم عليه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏من عين فيها تسمى سلسبيلا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ صدقت‏.‏ قال‏:‏ وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أينفعك إن حدثتك‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ أسمع بأذني‏.‏ قال‏:‏ جئت أسألك عن الولد‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلا منيُّ الرجل منيَّ المرأة أذكرا بإذن الله -تعالى -وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنَّثا بإذن الله‏"‏ قال اليهودي‏:‏ لقد صدقت، وإنك لنبي‏.‏ ثم انصرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه، حتى أتاني الله به‏"‏‏.‏

‏[‏و‏]‏ قال أبو جعفر بن جرير الطبري‏:‏ حدثني ابن عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا ابن أبي

مريم، حدثنا سعيد بن ثوبان الكَلاعي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال‏:‏ أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَبْر من اليهود فقال‏:‏ أرأيت إذ يقول الله في كتابه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ‏}‏ فأين الخَلْق عند ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏أضياف الله، فلن يعجزهم ما لديه‏"‏‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم، من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، به‏.‏

وقال شعبة‏:‏ أخبرنا أبو إسحاق، سمعت عمرو بن ميمون -وربما قال‏:‏ قال عبد الله، وربما لم يقل -فقلت له‏:‏ عن عبد الله‏؟‏ فقال‏:‏ سمعت عمرو بن ميمون يقول‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ‏}‏ قال‏:‏ أرض كالفضة البيضاء نقية، لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، حفاةً عراة كما خلقوا‏.‏ قال‏:‏ أراه قال‏:‏ قياما حتى يُلجِمَهم العرق‏.‏

وروي من وجه آخر عن شعبة عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود، بنحوه‏.‏ وكذا رواه عاصم، عن زرّ، عن ابن مسعود، به‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، لم يخبر به‏.‏ أورد ذلك كله ابن جرير‏.‏

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن عُبَيد بن عَقِيل، حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب، حدثنا جرير بن أيوب، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏أرض بيضاء لم يسقط عليها دم ولم يعمل عليها خطيئة‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ لا نعلم رفعه إلا جرير بن أيوب، وليس بالقوي‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كريب، حدثا معاوية بن هشام، عن سنان عن جابر الجُعْفي، عن أبي جُبَيرة عن زيد قال‏:‏ أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال‏:‏ ‏"‏هل تدرون لم أرسلت إليهم‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ‏}‏ إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة‏"‏‏.‏ فلما جاءوا سألهم فقالوا‏:‏ تكون بيضاء مثل النَّقِي‏.‏

وهكذا رَوى عن علي، وابن عباس، وأنس بن مالك، ومجاهد بن جبير‏:‏ أنها تبدل يوم القيامة بأرض من فضة‏.‏

وعن علي، رضي الله عنه، أنه قال‏:‏ تصير الأرض فضة، والسموات ذهبا‏.‏

وقال الربيع‏:‏ عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال‏:‏ تصير السموات جنانا‏.‏

وقال أبو مِعْشر، عن محمد بن كعب القرظي، أو عن محمد بن قيس في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ‏}‏ قال‏:‏ ‏[‏تبدل‏]‏ خبزة يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم‏.‏

وكذا رَوَى وَكِيع، عن عمر بن بشير الهمداني، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ‏}‏ قال‏:‏ تبدل خبزة بيضاء، يأكل المؤمن من تحت قدميه‏.‏

وقال الأعمش، عن خَيْثَمة قال‏:‏ قال عبد الله -هو ابن مسعود-‏:‏ الأرض كلها يوم القيامة نار، والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها، ويُلجِمُ الناس العرقُ، أو يبلغ منهم العرق، ولم يبلغوا الحساب‏.‏

وقال الأعمش أيضًا، عن المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ الأرض كلها نار يوم القيامة، ‏[‏و‏]‏ الجنة من ورائها، ترى أكوابها وكواعبها، والذي نفس عبد الله بيده، إن الرجل ليفيض عرقا حتى ترسخ في الأرض قدمه، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسه الحساب‏.‏ قالوا مم ذاك يا أبا عبد الرحمن‏؟‏ قال‏:‏ مما يرى الناس يلقون‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ‏}‏ قال‏:‏ تصير السموات جنانا، ويصير مكان البحر نارًا، وتبدل الأرض غيرها‏.‏

وفي الحديث الذي رواه أبو داود‏:‏ ‏"‏لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر، فإن تحت البحر نارا -أو‏:‏ تحت النار بحرا‏"‏‏.‏

وفي حديث الصور المشهور المروي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏تبدل الأرض غير الأرض والسموات، فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ثم يزجر الله الخلق زجرة، فإذا هم في هذه المبدلة‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَبَرَزُوا لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله ‏{‏الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ أي‏:‏ الذي قهر كل شيء وغلبه، ودانت له الرقاب، وخضعت له الألباب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49 - 51‏]‏

‏{‏وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ‏}‏ وتبرز الخلائق لديَّانها، ترى يا محمد يومئذ المجرمين، وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم، ‏{‏مقرنين‏}‏ أي‏:‏ بعضهم إلى بعض، قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم، كل صنف إلى صنف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 13‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 37، 38‏]‏‏.‏

والأصفاد‏:‏ هي القيود، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، والأعمش، وعبد الرحمن بن زيد‏.‏ وهو مشهور في اللغة، قال عمرو بن كلثوم‏.‏

فَآبُوا بالثياب وبالسّبايا وأُبْنَا بالمُلُوك مُصَفّدينا

وقوله‏:‏ ‏{‏سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ‏}‏ أي‏:‏ ثيابهم التي يلبسونها عليهم من قطران، وهو الذي تُهنأ به الإبل، أي‏:‏ تطلى، قاله قتادة‏.‏ وهو ألصق شيء بالنار‏.‏

ويقال فيه‏:‏ ‏"‏قَطِران‏"‏، بفتح القاف وكسر الطاء، وبفتح القاف وتسكين الطاء، وبكسر القاف وتسكين الطاء، ومنه قول أبي النجم‏.‏

كأنّ قِطْرانًا إذَا تَلاهَا *** تَرْمي به الرّيح إلى مَجْراها

وكان ابن عباس يقول‏:‏ القَطران هو‏:‏ النحاس المذاب، وربما قرأها‏:‏ ‏"‏سَرَابيلهم من قَطِران‏"‏ أي‏:‏ من نحاس حار قد انتهى حره‏.‏ وكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، والحسن، وقتادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 104‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد، رحمه الله‏:‏ حدثنا يحيى بن إسحاق، أنبأنا أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد، عن أبي سلام، عن أبي مالك الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أربع من أمر الجاهلية لا يُتْرَكن الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرْع من جَرَب‏"‏‏.‏ انفرد بإخراجه مسلم‏.‏

وفي حديث القاسم، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏النائحة إذا لم تتب، توقف في طريق بين الجنة والنار، وسرابيلها من قطران، وتغشى وجهها النار‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، كما قال‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 31‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ يحتمل أن يكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ‏}‏ ويحتمل أنه في حال محاسبته لعبده سريع النَّجاز؛ لأنه يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه خافية، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 28‏]‏، وهذا معنى قول مجاهد‏:‏ ‏{‏سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏إحصاء‏]‏‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنيان مرادين، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ هذا القرآن بلاغ للناس، كقوله‏:‏ ‏{‏لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، أي‏:‏ هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجان، كما قال في أول السورة‏:‏ ‏{‏الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ‏}‏

‏{‏وَلِيُنْذَرُوا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ ليتعظوا به، ‏{‏وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ أي‏:‏ يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو ‏{‏وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ‏}‏ أي‏:‏ ذوو العقول‏.‏

تفسير سورة الحجر

وهي مكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ‏}‏ إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا مع المسلمين في الدار الدنيا‏.‏

ونقل السُّدِّيّ في تفسيره بسنده المشهور عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما من الصحابة‏:‏ أن الكفار لما عُرضوا على النار، تمنوا أن لو كانوا مسلمين‏.‏

وقيل‏:‏ المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمنا‏.‏

وقيل‏:‏ هذا إخبار عن يوم القيامة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 27‏]‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ عن سلمة بن كُهَيْل، عن أبي الزعراء، عن عبد الله في قوله‏:‏ ‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ‏}‏ قال‏:‏ هذا في الجُهنَمين إذ رأوهم يخرجون من النار‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا المثنى، حدثنا مسلم، حدثنا القاسم، حدثنا ابن أبي فَرْوة العَبْدي؛ أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية‏:‏ ‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ‏}‏ يتأولانها‏:‏ يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار‏.‏ قال‏:‏ فيقول لهم المشركون‏:‏ ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا‏.‏ قال‏:‏ فيغضب الله لهم بفضل رحمته، فيخرجهم، فذلك حين يقول‏:‏ ‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ‏}‏ وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا الثوري، عن حماد، عن إبراهيم، عن خصيف، عن مجاهد قالا يقول أهل النار للموحدين‏:‏ ما أغنى عنكم إيمانكم‏؟‏ فإذا قالوا ذلك‏.‏ قال‏:‏ أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة‏.‏ قال‏:‏ فعند ذلك قوله‏:‏ ‏{‏‏[‏رُبَمَا‏]‏ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ‏}‏

وهكذا روي عن الضحاك، وقتادة، وأبي العالية، وغيرهم‏.‏ وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏.‏حدثنا محمد بن العباس، هو الأخرم، حدثنا محمد بن منصور الطوسي، حدثنا صالح بن إسحاق الجهبذ دلني عليه يحيى بن معين حدثنا مُعَرّف بن واصل، عن يعقوب بن أبي نباتة عن عبد الرحمن الأغر، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن ناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى‏:‏ ما أغنى عنكم قولكم‏:‏ لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار‏؟‏‏.‏ فيغضب الله لهم، فيخرجهم، فيلقيهم في نهر الحياة، فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه، فيدخلون الجنة، ويسمَّون فيها الجهنميين‏"‏ فقال رجل‏:‏ يا أنس، أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال أنس‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار‏"‏‏.‏ نعم، أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا‏.‏ ثم قال الطبراني‏:‏ تفرد به الجهبذ

الحديث الثاني‏:‏ وقال الطبراني أيضا‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبو الشعثاء علي بن حسن الواسطي، حدثنا خالد بن نافع الأشعري، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين‏:‏ ألم تكونوا مسلمين‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قالوا‏:‏ فما أغنى عنكم الإسلام‏!‏ فقد صرتم معنا في النار‏؟‏ قالوا‏:‏ كانت لنا ذنوب فأخذنا بها‏.‏ فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا‏:‏ يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ‏{‏الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِين رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ‏}‏

بسم الله الرحمن الرحيم - ورواه ابن أبي حاتم، من حديث خالد بن نافع، به، وزاد فيه‏:‏‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏‏}‏، عوض الاستعاذة‏.‏

الحديث الثالث‏:‏ وقال الطبراني أيضا‏:‏ حدثنا موسى بن هارون، حدثنا إسحاق بن راهويه قال‏:‏ قلت لأبي أسامة‏:‏ أحدثكم أبو روق -واسمه عطية بن الحارث-‏:‏ حدثني صالح بن أبي طريف قال‏:‏ سألت أبا سعيد الخدري فقلت له‏:‏ هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية‏:‏ ‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم، سمعته يقول‏:‏ ‏"‏يُخرج الله ناسا من المؤمنين من النار بعد ما يأخذ نقمته منهم‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏لما أدخلهم الله النار مع المشركين قال لهم المشركون‏:‏ تزعمون أنكم أولياء الله في الدنيا، فما بالكم معنا في النار‏؟‏ فإذا سمع الله ذلك منهم، أذن في الشفاعة لهم فتشفع الملائكة والنبيون، ويشفع المؤمنون، حتى يخرجوا بإذن الله، فإذا رأى المشركون ذلك، قالوا‏:‏ يا ليتنا كنا مثلهم، فتدركنا الشفاعة، فنخرج معهم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فذلك قول الله‏:‏ ‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ‏}‏ فيسمون في الجنة الجُهَنَّمِيِّين من أجل سَواد في وجوههم، فيقولون‏:‏ يا رب، أذهب عنا هذا الاسم، فيأمرهم فيغتسلون في نهر الجنة، فيذهب ذلك الاسم عنهم‏"‏، فأقر به أبو أسامة، وقال‏:‏ نعم‏.‏

الحديث الرابع وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا العباس بن الوليد النرسي حدثنا مسكين أبو فاطمة، حدثني اليمان بن يزيد، عن محمد بن حِمْير عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى عنُقه، على قدر ذنوبهم وأعمالهم، ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها، وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى، فإذا أراد الله أن يخرجوا منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان والأوثان، لمن في النار من أهل التوحيد‏:‏ آمنتم بالله وكتبه ورسله، فنحن وأنتم اليوم في النار سواء، فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى، فيخرجهم إلى عين في الجنة، وهو قوله‏:‏ ‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا‏}‏ تهديد لهم شديد، ووعيد أكيد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 30‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 46‏]‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ‏}‏ أي‏:‏ عن التوبة والإنابة، ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ عاقبة أمرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 5‏]‏

‏{‏وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ إنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها، وإنه لا يؤخر أمة حان هلاكها عن ميقاتها ولا يتقدمون عن مدتهم‏.‏ وهذا تنبيه لأهل مكة، وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما

هم فيه من الشرك والعناد والإلحاد، الذي يستحقون به الهلاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 13‏]‏

‏{‏وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ‏}‏

يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم وعنادهم في قولهم‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ‏}‏ أي‏:‏ الذي يدعي ذلك ‏{‏إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ‏}‏ أي‏:‏ في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا‏.‏ ‏{‏لَوْ مَا‏}‏ أي‏:‏ هلا ‏{‏تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ‏}‏ أي‏:‏ يشهدون لك بصحة ما جئت به ‏{‏إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ كما قال فرعون‏:‏ ‏{‏فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 53‏]‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا‏}‏ ‏[‏الفلاقان‏:‏ 21، 22‏]‏ وكذا قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ‏}‏ وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ‏}‏ بالرسالة والعذاب‏.‏

ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل الذكر، وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل‏.‏

ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ على النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ والمعنى الأول أولى، وهو ظاهر السياق، ‏[‏والله أعلم‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ‏}‏

يقول تعالى مسليًا لرسوله في تكذيب من كذَّبه من كفار قريش‏:‏ إنه أرسل من قَبْله في الأمم الماضية، وإنه ما أتى أمة رسول إلا كذبوه واستهزؤوا به‏.‏

ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى‏.‏

قال أنس، والحسن البصري‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الشرك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ‏}‏ أي‏:‏ قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار، وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14 - 15‏]‏

‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ‏}‏

يخبر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق‏:‏ أنه لو فتح لهم بابًا من السماء، فجعلوا يصعدون فيه، لما صدّقوا بذلك، بل قالوا‏:‏ ‏{‏سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا‏}‏

قال مجاهد وابن كثير، والضحاك‏:‏ سدت أبصارنا‏.‏ وقال قتادة، عن ابن عباس‏:‏ أخذت أبصارنا‏.‏

وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ شُبه علينا، وإنما سحرنا‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ عَميت أبصارنا‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ ‏{‏سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا‏}‏ السكران الذي لا يعقل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 20‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ‏}‏

يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زَيَّنَها به من الكواكب الثواقب، لمن تأملها، وكرر النظر فيها، يرى فيها من العجائب والآيات الباهرات، ما يحار نظره فيه‏.‏ ولهذا قال مجاهد وقتادة‏:‏ البروج هاهنا هي‏:‏ الكواكب‏.‏

قلت‏:‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 61‏]‏ ومنهم من قال‏:‏ البروج هي‏:‏ منازل الشمس والقمر‏.‏

وقال عطية العوفي‏:‏ البروج هاهنا‏:‏ هي قصور الحرس

وجعل الشُهب حرسًا لها من مَرَدة الشياطين، لئلا يسمعوا إلى الملأ الأعلى، فمن تمرد منهم ‏[‏وتقدم‏]‏ لاستراق السمع، جاءه ‏{‏شِهَابٌ مُبِينٌ‏}‏ فأتلفه، فربما يكون قد ألقى الكلمة التي سمعها قبل أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه، فيأخذها الآخر، ويأتي بها إلى وليه، كما جاء مصرحا به في الصحيح، كما قال البخاري في تفسير هذه الآية‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان عن عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة، يبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صَفوان‏"‏‏.‏ قال علي، وقال غيره‏:‏ صفوان يَنفُذهم ذلك، فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الذي قال‏:‏ الحق، وهو العلي الكبير‏.‏ فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع، هكذا واحد فوق آخر -ووصف سفيان بيده فَفَرَّج بين أصابع يده اليمنى، نَصبَها بعضها فوق بعض -فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يَرْمي بها إلى صاحبه فيحرقَه، وربما لم يدركه ‏[‏حتى‏]‏ يَرْمي بها إلى الذي يليه، ‏[‏إلى الذي‏]‏ هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض -وربما قال سفيان‏:‏ حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على فم الساحر -أو‏:‏ الكاهن -فيكذب معها مائة كذبة فيقولون‏:‏ ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا، فوجدناه حقًّا‏؟‏ للكلمة التي سمعت من السماء‏"‏ ثم ذكر، تعالى، خلقه الأرض، ومده إياها وتوسيعها وبسطها، وما جعل فيها من الجبال الرواسي، والأودية والأراضي والرمال، وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ‏}‏ أي‏:‏ معلوم‏.‏ وكذا قال سعيد بن جبير، وعكرمة، وأبو مالك، ومجاهد، والحكم بن عُتَيبة والحسن بن محمد، وأبو صالح، وقتادة‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ مقدر بقدر‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ من كل شيء يُوزَن ويقدر بقدر‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ما تزنه ‏[‏أهل‏]‏ الأسواق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ‏}‏ يذكر، تعالى، أنه صرفهم في الأرض في صنوف ‏[‏من‏]‏ الأسباب والمعايش، وهي جمع معيشة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ وهي الدواب والأنعام‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ هم العبيد والإماء والدواب والأنعام‏.‏

والقصد أنه، تعالى، يمتن عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها والأنعام التي يأكلونها، والعبيد والإماء التي يستخدمونها، ورزْقهم على خالقهم لا عليهم فلهم هم المنفعة، والرزق على الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21 - 25‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ‏}‏

يخبر، تعالى، أنه مالك كل شيء، وأن كل شيء سهل عليه، يسير لديه، وأن عنده خزائن

الأشياء من جميع الصنوف، ‏{‏وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ‏}‏ كما يشاء وكما يريد، ولما لَهُ في ذلك من الحكمة البالغة، والرحمة بعباده، لا على ‏[‏وجه‏]‏ الوجوب، بل هو كتب على نفسه الرحمة‏.‏

قال يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة، عن عبد الله‏:‏ ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه حيث شاء عامًا هاهنا، وعامًا هاهنا‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ‏}‏ رواه ابن جرير

وقال أيضا‏:‏ حدثنا القاسم، حدثنا الحسن حدثنا هُشَيْم، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الحكم بن عُتَيْبَة في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ‏}‏ قال‏:‏ ما عام بأكثر مطرًا من عام ولا أقل، ولكنه يُمطر قوم ويحرم آخرون وربما كان في البحر‏.‏ قال‏:‏ وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم، يُحصُون كل قطرة حيث تقع وما تنبت

وقال البزار‏:‏ حدثنا داود -وهو ابن بكر التُّسْتُري -حدثنا حبَّان بن أغلب بن تميم، حدثني أبي، عن هشام، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خزائن الله الكلام، فإذا أراد شيئا قال له‏:‏ كن، فكان‏"‏

ثم قال‏:‏ لا يرويه إلا أغلب، ولم يكن بالقوي، وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين، ولم يروه عنه إلا ابنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ‏}‏ أي‏:‏ تلقح السحاب فتدر ماء، وتلقح الشجر فتتفتح عن أوراقها وأكمامها‏.‏

هذه ‏"‏الرياح‏"‏ ذكرها بصيغة الجمع، ليكون منها الإنتاج، بخلاف الريح العقيم فإنه أفردها، ووصفها بالعقيم، وهو عدم الإنتاج؛ لأنه لا يكون إلا من شيئين فصاعدا‏.‏

وقال الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ‏}‏ قال‏:‏ ترسل الرياح، فتحمل الماء من السماء، ثم تَمْرى السحاب، حتى تدر كما تَدر اللَّقحَة‏.‏ وكذا قال ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وقتادة‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ يبعثها الله على السحاب، فتُلقحه، فيمتلئ ماء‏.‏وقال عُبَيْد بن عُمَير الليثي‏:‏ يبعث الله المُبشرّة فتَقمُّ الأرض قَمًّا ثم بعث الله المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر، ثم تلا ‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ‏}‏ وقد روى ابن جرير، من حديث عُبَيْس بن ميمون، عن أبي المُهَزَّم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الريح الجنوب من الجنة، وهي ‏[‏الريح اللواقح، وهي التي‏]‏ ذكر الله في كتابه، وفيها منافع للناس‏"‏ وهذا إسناد ضعيف‏.‏

وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده‏:‏ حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، أخبرني يزيد بن جُعْدبة الليثي‏:‏ أنه سمع عبد الله بن مِخْراق، يحدث عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله خلق في الجنة ريحا بعد الريح بسبع سنين، وإن من دونها بابا مغلقا، وإنما يأتيكم الريح من ذلك الباب، ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء، وهي عند الله الأزَيبُ، وهي فيكم الجنوب‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ‏}‏ أي‏:‏ أنزلناه لكم عَذْبًا يُمكنكم أن تشربوا منه، ولو نشاء لجعلناه أجاجًا‏.‏ كما ينبه الله على ذلك في الآية الأخرى في سورة ‏"‏الواقعة‏"‏، وهو قوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 68-70‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 10‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ‏}‏ قال سفيان الثوري‏:‏ بمانعين‏.‏

ويحتمل أن المراد‏:‏ وما أنتم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم، ونجعله معينا وينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذبا، وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك‏.‏ ليبقى لهم في طول السنة، يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ‏}‏ إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته، وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم، ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع‏.‏

وأخبر أنه، تعالى، يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون‏.‏ ثم قال مخبرًا عن تمام علمه بهم، أولهم وآخرهم‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ‏}‏

قال ابن عباس، رضي الله عنهما المستقدمون‏:‏ كل من هلك من لدن آدم، عليه السلام، والمستأخرون‏:‏ من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة‏.‏

وروي نحوه عن عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، ومحمد بن كعب، والشعبي، وغيرهم‏.‏ وهو اختيار ابن جرير، رحمه الله

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن رجل عن مَرْوان بن الحكم أنه قال‏:‏ كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ‏}‏

وقد ورد في هذا حديث غريب جدا، فقال ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن موسى الحَرَشِي، حدثنا نوح بن قيس، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال‏:‏ كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة -قال ابن عباس‏:‏ لا والله ما إنْ رأيت مثلها قط، وكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا يعني‏:‏ لئلا يراها -وبعض يستأخرون، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم‏!‏‏!‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ‏}‏ وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره، والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما وابن ماجة من طرق عن نوح بن قيس الحُداني وقد وثقه أحمد وأبو داود وغيرهما، وحكي عن ابن معين تضعيفه، وأخرج له مسلم وأهل السنن‏.‏

وهذا الحديث فيه نكارة شديدة، وقد رواه عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك وهو النكري أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ‏}‏ في الصفوف في الصلاة ‏{‏وَالْمُسْتَأْخِرِينَ‏}‏ فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط، ليس فيه لابن عباس ذكر وقد قال الترمذي‏:‏ هذا أشبه من رواية نوح بن قيس والله أعلم‏.‏

وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر، عن أبيه‏:‏ أنه سمع عون بن عبد الله يُذاكر محمد بن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ‏}‏ وأنها في صفوف الصلاة، فقال محمد بن كعب‏:‏ ليس هكذا، ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ‏}‏ الميت والمقتول و‏{‏الْمُسْتَأْخِرِينَ‏}‏ من يُخلقُ بَعْدُ، ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ‏}‏ فقال عون بن عبد الله‏:‏ وفقك الله وجزاك خيرًا

تفسير الآيات رقم ‏[‏26 - 27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ‏}‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏:‏ المراد بالصلصال هاهنا‏:‏ التراب اليابس‏.‏

والظاهر أنه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مَن مَّارِجٍ مِّنْ نَّارٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 14-15‏]‏ وعن مجاهد أيضا‏:‏ الصلصال‏:‏ المنتن‏.‏ وتفسير الآية بالآية أولى

وقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ‏}‏ أي‏:‏ الصلصال من حمأ، وهو‏:‏ الطين‏.‏ والمسنون‏:‏ الأملس، كما قال الشاعر‏:‏

ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء *** تمشي في مرمر مسنون

أي‏:‏ أملس صقيل‏.‏

ولهذا روي عن ابن عباس‏:‏ أنه قال‏:‏ هو التراب الرطب‏.‏ وعن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك أيضا‏:‏ أن الحمأ المسنون هو المنتن‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالمسنون هاهنا‏:‏ المصبوب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل الإنسان ‏{‏مِنْ نَارِ السَّمُومِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هي السموم التي تقتل‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ السموم بالليل والنهار‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ السموم بالليل، والحرور بالنهار‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال‏:‏ دخلت على عَمْرو الأصم أعوده، فقال‏:‏ ألا أحدّثك حديثا سمعته من عبد الله بن مسعود، يقول‏:‏ هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ‏}‏

وعن ابن عباس‏:‏ أن الجان خُلق من لهب النار، وفي رواية‏:‏ من أحسن النار‏.‏

وعن عمرو بن دينار‏:‏ من نار الشمس، وقد ورد في الصحيح‏:‏ ‏"‏خُلقت الملائكة من نور، وخُلقت الجان من مارج من نار، وخُلق بنو آدم مما وصِف لكم‏"‏ ومقصود الآية‏:‏ التنبيه على شرف آدم، عليه السلام، وطيب عنصره، وطهارة مَحْتده

تفسير الآيات رقم ‏[‏28 - 33‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ‏}‏

يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه له، وتشريفه إياه بأمره الملائكة بالسجود له‏.‏ ويذكر تخلف إبليس عدوّه عن السجود له من بين سائر الملائكة، حَسَدًا وكفرًا، وعنادًا واستكبارًا، وافتخارًا بالباطل، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ‏}‏ كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ وقوله‏:‏‏}‏ ‏{‏أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏

وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا، من حديث شبيب بن بشر، عن عِكْرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لما خلق الله الملائكة قال‏:‏ إني خالق بشرًا من طين، فإذا سويته فاسجدوا له‏.‏ قالوا‏:‏ لا نفعل‏.‏ فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة فقال لهم مثل ذلك، ‏[‏فقالوا‏:‏ لا نفعل‏.‏ فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم‏.‏ ثم خلق ملائكة أخرى فقال‏:‏ إني خالق بشرًا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم‏.‏ ثم خلق ملائكة فقال‏:‏ إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له‏]‏ قالوا سمعنا وأطعنا، إلا إبليس كان من الكافرين الأولين وفي ثبوت هذا عنه بعد، والظاهر أنه إسرائيلي، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 38‏]‏

‏{‏قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ‏}‏

يقول آمرًا لإبليس أمرًا كونيًّا لا يخالف ولا يمانع، بالخروج من المنزلة التي كان فيها من الملأ الأعلى، وإنه ‏{‏رَجِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ مرجوم‏.‏ وإنه قد أتبعه لعنةً لا تزال متصلة به، لاحقةً له، متواترة عليه إلى يوم القيامة‏.‏

وعن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ لما لعن الله إبليس، تغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورن رنةً، فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وإنه لما تحقق الغضب الذي لا مَرَدَّ له، سأل من تمام حسده لآدم وذريته النظرة إلى يوم القيامة، وهو يوم البعث وأنه أجيب إلى ذلك استدراجًا له وإمهالا فلما تحقق النظرة قبحه الله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39 - 44‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب‏:‏ ‏{‏بِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏ قال بعضهم‏:‏ أقسم بإغواء الله له‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أنه بسبب ما أغويتني وأضللتني ‏{‏لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لذرية آدم، عليه السلام ‏{‏فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ أحبب إليهم المعاصي وأرغّبهم فيها، وأؤزّهم إليها، وأزعجهم إزعاجًا، ‏{‏وَلأغْوِيَنَّهُمْ‏}‏ أي‏:‏ كما أغويتني ونَدَّرت على ذلك، ‏{‏أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ كَمَا قَالَ ‏{‏أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏ قال الله تعالى له متهددًا ومتوعدًا ‏{‏هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ مرجعكم كلكم إلي، فأجازيكم بأعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 14‏]‏ وقيل‏:‏ طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى، وإليه تنتهي‏.‏ قاله مجاهد، والحسن، وقتادة كما قال‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 9‏]‏

وقرأ قيس بن عُبَاد، ومحمد بن سيرين، وقتادة‏:‏ ‏"‏هذا صراط علي مستقيم‏"‏، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 4‏]‏ أي‏:‏ رفيع‏.‏ والمشهور القراءة الأولى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ أي‏:‏ الذين قدرت لهم الهداية، فلا سبيل لك عليهم، ولا وصول لك إليهم، ‏{‏إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ استثناء منقطع‏.‏

وقد أورد ابن جَرير هاهنا من حديث عبد الله بن المبارك، عن عبد الله بن موهب حدثنا يزيد بن قُسَيْط قال‏:‏ كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجةً من قراهم، فإذا أراد النبي أن يستنبئ ربه عن شيء، خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله له، ثم سأل ما بدا له، فبينا نبي في مسجده إذ جاء عدو الله -يعني‏:‏ إبليس -حتى جلس بينه وبين القبلة، فقال النبي‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‏.‏ ‏[‏فقال عدو الله‏:‏ أرأيت الذي تَعَوّذ منه‏؟‏ فهو هو‏.‏ فقال النبي‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‏]‏ قال‏:‏ فَردّد ذلك ثلاث مرات، فقال عدو الله‏:‏ أخبرني بأي شيء تنجو مني‏؟‏ فقال النبي‏:‏ بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم‏؟‏ مرتين، فأخذ كل ‏[‏واحد‏]‏ منهما على صاحبه، فقال النبي‏:‏ إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ قال عدو الله‏:‏ قد سمعت هذا قبل أن تولد‏.‏ قال النبي‏:‏ ويقول الله‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 200‏]‏ وإني والله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك‏.‏ قال عدو الله‏:‏ صدقت، بهذا تنجو مني‏.‏ فقال النبي‏:‏ ‏"‏أخبرني بأي شيء تغلبُ ابن آدم‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ آخذه عند الغضب والهوى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي‏:‏ جهنم موعد جميع من اتبع إبليس، كما قال عن القرآن‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏ ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ‏}‏ أي‏:‏ قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه، لا محيد لهم عنه -أجارنا الله منها- وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في دَرَك بقدر فعله‏.‏

قال إسماعيل بن عُلَيَّة وشعبة كلاهما، عن أبي هارون الغَنَويّ، عن حطان بن عبد الله أنه قال‏:‏ سمعت علي بن أبي طالب وهو يخطب قال‏:‏ إن أبواب جهنم هكذا -قال أبو هارون‏:‏ أطباقًا بعضها فوق بعض وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هُبَيْرة بن يريم عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تُمْلأ كلها‏.‏ وقال عِكْرمة‏:‏ ‏{‏سَبْعَةُ أَبْوَابٍ‏}‏ سبعة أطباق‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ ‏{‏سَبْعَةُ أَبْوَابٍ‏}‏ أولها جهنم، ثم لظَى، ثم الحُطَمَة، ثم سعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية‏.‏

وروى الضحاك عن ابن عباس، نحوه‏.‏ وكذا ‏[‏روي‏]‏ عن الأعمش بنحوه أيضًا‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ‏}‏ وهي والله منازل بأعمالهم‏.‏ رواهن ابن جرير‏.‏

وقال جويبر، عن الضحاك‏:‏ ‏{‏لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ‏}‏ قال‏:‏ باب لليهود، وباب للنصارى، وباب للصابئين، وباب للمجوس، وباب للذين أشركوا -وهم كفار العرب -وباب للمنافقين، وباب لأهل التوحيد، فأهل التوحيد يُرجى لهم ولا يُرجى لأولئك أبدًا‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حدثنا عبد بن حُمَيْد، حدثنا عثمان بن عمر، عن مالك بن مِغْوَل، عن جُنَيْد عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لجهنم سبعة أبواب‏:‏ باب منها لمن سلَّ السيف على أمتي -أو قال‏:‏ على أمة محمد‏.‏ ثم قال‏:‏ لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مِغْوَل

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا، عباس بن الوليد الخلال، حدثنا زيد -يعني‏:‏ ابن يحيى -حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن سَمُرَة بن جُنْدَب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه، وإن منهم من تأخذه النار إلى حُجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه، منازل بأعمالهم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45 - 50‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ‏}‏

لما ذكر تعالى حال أهل النار، عطف على ذكر أهل الجنة، وأنهم في جنات وعيون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ‏}‏ أي‏:‏ سالمين من الآفات، مسلمًا عليكم، ‏{‏آمِنِينَ‏}‏ من كل خوف وفزع، ولا تخشوا من إخراج، ولا انقطاع، ولا فناء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ‏}‏ روى القاسم، عن أبي أمامة قال‏:‏ يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ‏}‏ هكذا في هذه الرواية، والقاسم بن عبد الرحمن -في روايته عن أبي أمامة -ضعيف‏.‏

وقد روى سُنَيْد في تفسيره‏:‏ حدثنا ابن فضالة، عن لقمان، عن أبي أمامة قال‏:‏ لا يدخل مؤمن الجنة حتى ينزع الله ما في صدرهم من غل، حتى ينزع منه مثل السبع الضاري وهذا موافق لما في الصحيح، من رواية قتادة، حدثنا أبو المتوكل الناجي‏:‏ أن أبا سعيد الخدري حدثهم‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يَخْلُص المؤمنون من النار، فيُحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم من بعضهم، مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا، أذن لهم في دخول الجنة‏"‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا الحسن، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا هشام، عن محمد -هو ابن سيرين -قال‏:‏ استأذن الأشتر على عليٍّ، رضي الله عنه، وعنده ابن لطلحة، فحبسه ثم أذن له‏.‏ فلما دخل قال‏:‏ إني لأراك إنما احتبستني لهذا‏؟‏ قال‏:‏ أجل‏.‏ قال‏:‏ إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني‏؟‏ قال‏:‏ أجل إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ‏[‏إِخْوَانًا‏]‏عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ‏}‏

وحدثنا الحسن‏:‏ حدثنا أبو معاوية الضرير، حدثنا أبو مالك الأشجعي، عن أبي حبيبة -مولى لطلحة -قال‏:‏ دخل عمران بن طلحة على عليٍّ، رضي الله عنه، بعدما فرغ من أصحاب الجمل، فرحب به وقال‏:‏ إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله‏:‏ ‏{‏وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ‏}‏ -قال‏:‏ ورجلان جالسان على ناحية البساط، فقالا الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس، وتكونون إخوانا‏!‏ فقال علي، رضي الله عنه‏:‏ قُوما أبعد أرض وأسحقها‏!‏ فمن هو إذا إن لم أكن أنا وطلحة، وذكر أبو معاوية الحديث بطوله

وروى وَكِيع، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن نُعَيْم بن أبي هند، عن رِبْعِي بن خِرَاش، عن علي، نحوه، وقال فيه‏:‏ فقام رجل من هَمْدان فقال‏:‏ الله أعدل من ذاك يا أمير المؤمنين‏.‏ قال‏:‏ فصاح به علي صيحة، فظننت أن القصر تَدهدَه لها، ثم قال‏:‏ إذا لم نكن نحن فمن هو‏؟‏

وقال سعيد بن مسروق، عن أبي طلحة -وذكره- فيه‏:‏ فقال الحارث الأعور ذلك، فقام إليه علي، رضي الله عنه، فضربه بشيء كان في يده في رأسه، وقال‏:‏ فمن هم يا أعور إذا لم نكن نحن‏؟‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ عن منصور، عن إبراهيم قال‏:‏ جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على عليٍّ، رضي الله عنه فحجبه طويلا ثم أذن له، فقال له‏:‏ أما أهل البلاء فتجفوهم‏.‏ فقال علي‏:‏ بفيك التراب، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير، ممن قال الله‏:‏ ‏{‏وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ‏}‏ وكذا روى الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي، بنحوه‏.‏

وقال سفيان بن عُيَيْنة، عن إسرائيل، عن أبي موسى، سمع الحسن البصري يقول‏:‏ قال علي‏:‏ فينا والله -أهل بدر -نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ‏}‏ وقال كثير النَّواء‏:‏ دخلت على أبي جعفر محمد بن علي فقلت‏:‏ وليي وليكم، وسلمي سلمكم، وعدوي عدوكم، وحربي حربكم‏.‏ إني أسألك بالله‏:‏ أتبرأ من أبي بكر وعمر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 56‏]‏ تولهما يا كثير، فما أدركك فهو في رقبتي هذه، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ‏}‏ قال‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعلي، رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

وقال الثوري، عن رجل، عن أبي صالح في قوله‏:‏ ‏{‏إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ‏}‏ قال‏:‏ هم عشرة‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مُتَقَابِلِينَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا ينظر بعضهم في قفا بعض‏.‏ وفيه حديث مرفوع، قال ابن أبي حاتم‏.‏

حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا حسان بن حسان، حدثنا إبراهيم بن بشر حدثنا يحيى بن معين، عن إبراهيم القرشي، عن سعيد بن شرحبيل، عن زيد بن أبي أوفى قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ‏}‏ في الله، ينظر بعضهم إلى بعض

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ‏}‏ يعني‏:‏ المشقة والأذى، كما جاء في الصحيحين‏:‏ ‏"‏إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصَب، لا صخب فيه ولا نصب‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ‏}‏ كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏يقال يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا‏"‏، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 108‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ‏}‏ أي‏:‏ أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عقاب أليم‏.‏

وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة، وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف، وذكر في سبب

نزولها ما رواه موسى بن عبيدة عن مصعب بن ثابت قال‏:‏ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس من أصحابه يضحكون، فقال‏:‏ ‏"‏اذكروا الجنة، واذكروا النار‏"‏‏.‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ‏}‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏ وهو مرسل

وقال ابن جرير، حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، أخبرنا ابن المكي، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا مصعب بن ثابت، حدثنا عاصم بن عبيد الله، عن ابن أبي رباح، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، فقال‏:‏ ‏"‏ألا أراكم تضحكون‏؟‏‏"‏ ثم أدبر، حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى، فقال‏:‏ ‏"‏إني لما خرجت جاء جبريل، عليه السلام، فقال‏:‏ يا محمد، إن الله يقول لم تقنط عبادي‏؟‏ ‏{‏نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ‏}‏ وقال سعيد، عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ قال‏:‏ بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عقابه لبخع نفسه‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 56‏]‏

‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ وخبرهم يا محمد عن قصة ‏{‏ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ والضيف‏:‏ يطلق على الواحد والجمع، كالزور والسُّفْر -وكيف ‏{‏دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ خائفون‏.‏

وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه لهم ضيافة، وهو العجل السمين الحنيذ‏.‏

‏{‏قَالُوا لا تَوْجَلْ‏}‏ أي‏:‏ لا تخف، ‏{‏وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 28‏]‏ وهو إسحاق، عليه السلام، كما تقدم في سورة هود‏.‏

ثم قال متعجبًا من كبره وكبر زوجته ومتحققًا للوعد‏:‏ ‏{‏أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون‏}‏ فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقًا وبشارة بعد بشارة، ‏{‏قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ‏}‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏القنطين‏"‏ -فأجابهم بأنه ليس يقنط، ولكن يرجو من الله الولد، وإن كان قد كبر وأسنَّت امرأته، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك‏.‏