فصل: تفسير الآيات رقم (60 - 65)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏60 - 65‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا‏}‏

سبب قول موسى ‏[‏عليه السلام‏]‏ لفتاه -وهو يُشوع بن نُون- هذا الكلام‏:‏ أنه ذكر له أن عبدًا من عباد الله بمجمع البحرين، عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الذهاب إليه، وقال لفتاه ذلك‏:‏ ‏{‏لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ‏}‏ أي لا أزال سائرًا حتى أبلغ هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين، قال الفرزدق‏:‏

فَمَا بَرحُوا حَتَّى تَهَادَتْ نسَاؤهُم *** بِبَطْحَاء ذي قار عيابَ اللطَائم

قال قتادة وغير واحد‏:‏ وهما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب‏.‏

وقال محمد بن كعب القُرظي‏:‏ مجمع البحرين عند طنجة، يعني في أقصى بلاد المغرب، فالله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا‏}‏ أي‏:‏ ولو أني أسير حقبًا من الزمان‏.‏

قال ابن جرير، رحمه الله‏:‏ ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحُقُب في لغة قيس‏:‏ سنة‏.‏ ثم قد روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال‏:‏ الحُقُب ثمانون سنة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ سبعون خريفًا‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا‏}‏ قال‏:‏ دهرًا‏.‏ وقال قتادة، وابن زيد، مثل ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا‏}‏، وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه، وقيل له‏:‏ متى فقدتَ الحوت فهو ثَمّة‏.‏ فسارا حتى بلغا مجمع البحرين؛ وهناك عين يقال لها‏:‏ ‏"‏عين الحياة‏"‏، فناما هنالك، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب ، وكان في مكتل مع يوشع ‏[‏عليه السلام‏]‏، وطَفَر من المَكْتل إلى البحر، فاستيقظ يُوشع، عليه السلام، وسقط الحوت في البحر وجعل يسير فيه، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا‏}‏ أي‏:‏ مثل السَرَب في الأرض‏.‏

قال ابن جريح‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ صار أثره كأنه حَجَر‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ جعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة‏.‏

وقال محمد -‏[‏هو‏]‏ بن إسحاق- عن الزهري، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك‏:‏ ‏"‏ما انجاب ماء منذ كان الناس غيره ثبت مكان الحوت الذي فيه، فانجاب كالكُوّة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه‏"‏، فقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ‏}‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ سَرب من البر ، حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فيه فجعل لا يسلك فيه طريقًا إلا جعل ماء جامدًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاوَزَا‏}‏ أي‏:‏ المكان الذي نسيا الحوت فيه، ونُسب النسيان إليهما وإن كان يُوشَعهو الذي نسيه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏22‏]‏، وإنما يخرج من المالح في أحد القولين‏.‏

فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه مَرْحَلَةً ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى ‏{‏لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏[‏نَصَبًا‏]‏ أي‏:‏ الذي جاوزا فيه المكان ‏{‏نَصَبًا‏}‏ يعني‏:‏ تعبًا‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ‏}‏ قال قتادة‏:‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏[‏‏"‏وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان‏]‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ‏}‏ أي‏:‏ طريقه ‏{‏فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي نطلب ‏{‏فَارْتَدَّا‏}‏ أي‏:‏ رجعا ‏{‏عَلَى آثَارِهِمَا‏}‏ أي‏:‏ طريقهما ‏{‏قَصَصًا‏}‏ أي‏:‏ يقصان أثر مشيهما، ويقفوان أثرهما‏.‏

‏{‏فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا‏}‏ وهذا هو الخضر، عليه السلام، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

بذلك قال البخاري‏:‏ حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، أخبرني سعيد بن جبير قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ إن نوفًا البِكَالِيّ يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كذب عَدُوّ الله، حدثنا أبي بن كعب، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فَسُئل‏:‏ أي الناس أعلم‏؟‏ قال‏:‏ أنا‏.‏ فعتب الله عليه إذ لم يَرُدّ العلم إليه، فأوحى الله إليه‏:‏ إنّ لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك‏.‏ فقال موسى‏:‏ يا رب، وكيف لي به‏؟‏ قال‏:‏ تأخذ معك حوتًا، تجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم‏.‏ فأخذ حوتا، فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يُوشع بن نون عليهما السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جِريةَ الماء، فصار عليه مثل الطاق‏.‏ فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه‏:‏ ‏{‏آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا‏}‏ ولم يجد موسى النَّصَب حتى جاوَزَا المكان الذي أمره الله به‏.‏ قال له فتاه ‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏فكان للحوت سربًا ولموسى وفتاه عجبًا، فقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا‏}‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مُسجّى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخَضِر‏:‏ وَأنّى بأرضك السلام‏!‏‏.‏ قال‏:‏ أنا موسى‏.‏ قال‏:‏ موسى بني إسرائيل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، أتيتك لتعلمني مما عُلِّمت رشدا‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا‏}‏، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله عَلَّمَكَه الله لا أعلمه‏.‏ فقال موسى‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا‏}‏ قال له الخضر‏:‏ ‏{‏فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا‏}‏‏.‏

فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوه ، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى‏:‏ قد حملونا بغير نول، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها‏؟‏ لقد جئت شيئًا إمرًا‏.‏ ‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا‏}‏ قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كانت الأولى من موسى نسيانًا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وجاء عصفور فنزل على حرف السفينة فنقر في البحر نَقْرة، ‏[‏أو نقرتين‏]‏ فقال له الخضر‏:‏ ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر‏.‏ ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه ‏[‏بيده‏]‏ فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى‏:‏ ‏{‏أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا‏}‏‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ مائل‏.‏ فقال الخضر بيده‏:‏ ‏{‏فَأَقَامَهُ‏}‏، فقال موسى‏:‏ قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، ‏{‏لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما‏"‏‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ كان ابن عباس يقرأ‏:‏ ‏"‏وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا‏"‏ وكان يقرأ‏:‏ ‏"‏وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين‏"‏‏.‏

ثم رواه البخاري عن قتيبة، عن سفيان بن عُيينة‏.‏‏.‏‏.‏ فذكر نحوه ، وفيه‏:‏ ‏"‏فخرج موسى ومعه فتاه يُوشع بن نون، ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة، فنزلا عندها -قال‏:‏ فوضع موسى رأسه فنام- قال سفيان‏:‏ وفي حديث غير عمرو قال‏:‏ وفي أصل الصخرة عين يقال لها‏:‏ الحياة، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي‏:‏ فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال، فتحرك وانسل من المكتل، فدخل البحر، فلما استيقظ قال موسى لفتاه‏:‏ ‏{‏آتِنَا غَدَاءَنَا‏}‏ كذا قال‏:‏ وساق الحديث‏.‏ ووقع عصفور على حرف السفينة، فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى‏:‏ ما علميوعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدارُ ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه‏.‏

وقال البخاري أيضًا‏:‏ حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف، أن ابن جُرَيج أخبرهم قال‏:‏ أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير -يزيد أحدهما على صاحبه- وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال‏:‏ إنا لعند ابن عباس في بيته، إذ قال‏:‏ سلوني‏.‏ فقلت‏:‏ أي أبا عباس، جعلني الله فداك، بالكوفة رجل قاص، يقال له‏:‏ ‏"‏نوف‏"‏ يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل -أما عمرو فقال لي‏:‏ قال ‏:‏ كذب عدو الله‏!‏ وأما يعلى فقال لي‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ حدثني أبي بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏موسى رسول الله، ذكَّر الناس يومًا، حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب، ولى فأدركه رجل فقال‏:‏ أي رسول الله، هل في الأرض أحد أعلم منك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل‏:‏ بلى قال‏:‏ أي رب، وأين‏؟‏ قال‏:‏ بمجمع البحرين‏.‏ قال‏:‏ أي رب، اجعل لي علمًا أعلم ذلك به‏"‏‏.‏ قال لي عمرو‏:‏ قال‏:‏ حيث يفارقك الحوت، وقال لي يعلى‏:‏ خذ حوتًا ميتًا حيث ينفخ فيه الروح‏.‏ فأخذ حوتًا فجعله في مكتل، فقال لفتاه‏:‏ لا أكلفك إلا أن تخبرني حيث يفارقك الحوت، قال ما كلفت كبيرًا‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ‏}‏ يوشع بن نون، ليست عند سعيد بن جبير، قال‏:‏ ‏"‏فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تَضَرَّب الحوت وموسى نائم فقال فتاه‏:‏ لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جَرْيَة الماء حتى كأن أثره في حجر‏"‏‏.‏ ‏[‏قال‏:‏ فقال لي عمرو‏:‏ هكذا كأن أثره في حجر‏]‏ ، وحلق بين إبهاميه والتي تليهما‏:‏ ‏{‏لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏وقد قطع الله عنك النصب‏"‏ ليست هذه عند سعيد -أخبره، فرجعا فوجدا خَضرًا‏.‏ قال‏:‏ قال عثمان بن أبي سليمان‏:‏ على طِنْفِسَة خضراء على كبِد البحر‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ مُسَجى بثوب، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال‏:‏ هل بأرض من سلام‏؟‏ من أنت‏؟‏ قال أنا موسى‏.‏ قال‏:‏ موسى بني إسرائيل‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فما شأنك‏؟‏ قال‏:‏ جئتك لتعلمني مما علمت رشدًا‏.‏ قال‏:‏ يكفيك التوراة بيدك، وأن الوحي يأتيك‏!‏‏.‏ يا موسى، إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه‏.‏ فأخذ طائر بمنقاره من البحر ‏[‏فقال‏:‏ والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر‏]‏ ، حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارًا تحمل أهل هذا الساحل إلى هذا الساحل الآخر عرفوه، فقالوا‏:‏ عبد الله الصالح‏؟‏‏.‏ قال فقلنا لسعيد‏:‏ خضر‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ لا نحمله بأجر‏.‏ فخرقها، وَوَتَدَ فيها وتدًا‏.‏ قال موسى‏:‏ ‏{‏أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا‏}‏‏.‏قال مجاهد‏:‏ منكرًا‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا‏}‏ كانت الأولى نسيانًا، والوسطى شرطًا، والثالثة عمدًا ‏{‏قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا‏.‏ فَانْطَلَقَا‏}‏‏.‏ حتى لقيا غلامًا فقتله‏.‏ قال يعلى‏:‏ قال سعيد، وجد غلمانًا يلعبون، فأخذ غلامًا كافرًا ظريفًا فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين، فقال‏:‏ ‏{‏أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً‏}‏ لم تعمل بالحنث ‏.‏ وابن عباس قرأها ‏{‏زَكِيَّةً‏}‏ -‏"‏ زَاكِيَة ‏"‏ مُسْلمَة، كقولك ‏:‏ غلامًا زكيا فانطلقا، فوجدا جدارًا يريد أن ينقض فأقامه، قال ‏[‏سعيد‏]‏ بيده هكذا، ورفع يده فاستقام -قال يعلى‏:‏ حسبت أن سعيدًا قال‏:‏ فمسحه بيده فاستقام -قال‏:‏ ‏{‏لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا‏}‏ قال سعيد‏:‏ أجرًا نأكله ‏{‏وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ‏}‏ وكان أمامهم، قرأها ابن عباس‏:‏ ‏"‏أمامهم ملك‏"‏ يزعمون عن غير سعيد أنه هُدَدُ بن بُدَدَ، والغلام المقتول اسمه -يزعمون- جيسُور ‏{‏مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا‏}‏ فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها، فإذا جاوزه أصلحوها فانتفعوا بها‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ سدوها بقارورة‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ بالقار‏.‏ ‏{‏فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ‏}‏ وكان كافرًا، ‏{‏فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا‏}‏‏.‏ أن يحملهما حُبّه على أن يتابعاه على دينه ‏{‏فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً‏}‏، ‏{‏وَأَقْرَبَ رُحْمًا‏}‏‏:‏ هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر‏.‏ وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية‏.‏ وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد‏:‏ إنها جارية‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال‏:‏ خطب موسى، عليه السلام، بني إسرائيل فقال‏:‏ ما أحد أعلم بالله وبأمره مني‏.‏ فَأمرَ أن يلقى هذا الرجل‏.‏ فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان، والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة ، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب فقال بعضهم‏:‏ يا أبا العباس، إن نوفًا ابن امرأة كعب، يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا‏؟‏ قال سعيد‏:‏ فقال ابن عباس‏:‏ أنوفٌ يقول هذا‏؟‏ قال سعيد‏:‏ فقلت له‏:‏ نعم، أنا سمعت نوفًا يقول ذلك‏.‏ قال‏:‏ أنت سمعته يا سعيد‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ كذب نوف‏.‏ ثم قال ابن عباس‏:‏ حدثني أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال‏:‏ أي رب، إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني، فدلني عليه‏.‏ فقال له‏:‏ نعم، في عبادي من هو أعلم منك‏.‏ ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه‏.‏ فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه حوت مليح، قد قيل له‏:‏ إذا حيي هذا الحوت في مكان، فصاحبك هنالك، وقد أدركت حاجتك‏.‏ فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه ذلك الحوت يحملانه، فسار حتى جهده السير، وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء، وذلك الماء ماء الحياة، من شرب منه خلد، ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي‏.‏ فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي ‏{‏فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا‏}‏ فانطلقا فلما جاوز مُنْقَلَبَه قال‏:‏ موسى لفتاه‏:‏ ‏{‏آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا‏}‏ قال الفتى -وذكر-‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فظهر موسى على الصخرة حتى إذا انتهيا إليها، فإذا رجل متلفف في كساء له، فسلم موسى،فردّ عليه العالم ثم قال له‏:‏ ما جاء بك إن كان لك في قومك لَشُغل‏؟‏‏.‏ قال له موسى‏:‏ جئتك لتعلمني مما علمت رشدًا ‏{‏قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا‏}‏ وكان رجلا يعلم علم الغيب قد عُلِّم ذلك -فقال موسى‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل، ولم تحط من علم الغيب بما أعلم‏.‏ ‏{‏قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا‏}‏ وإن رأيتُ ما يخالفني، قال‏:‏ ‏{‏فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏وإن أنكرته‏]‏ ‏{‏حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا‏}‏‏:‏ فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرّضان الناس، يلتمسان من يحملهما، حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة، لم يمرّ بهما من السفن أحسن ولا أكمل ولا أوثق منها‏.‏ فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما ، فلما اطمأنا فيها وَلجّجَت بهما مع أهلها، أخرج منقارًا له ومطرقة، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها‏.‏ ثم أخذ لوحًا فطبقه عليها، ثم جلس عليها يرقعها، فقال‏:‏ له موسى -ورأى أمرًا أفظع به-‏:‏ ‏{‏أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ‏}‏ أي‏:‏ بما تركت من عهدك، ‏{‏وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا‏}‏‏.‏ ثم خرجا أي‏:‏ قد أعْذرتَ في شأني‏.‏ ‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ‏}‏، فهدمه ثم قعد يبنيه، فضجر موسى مما يراه يصنع من التكليف، وما ليس عليه صبر، قال‏:‏ ‏{‏لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا‏}‏ أي‏:‏ قد استطعمناهم فلم يطعمونا، وضفناهم فلم يُضَيّفونا، ثم قعدت تعمل من غير صنيعة، ولو شئت لأعطيت عليه أجرًا في عمله‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا‏}‏ -وفي قراءة أبيّ بن كعب‏:‏ ‏"‏كل سفينة صالحة‏"‏ -وإنما عبتها لأرده عنها، فسلمت حين رأى العيب الذي صنعت بها‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي‏}‏ أي‏:‏ ما فعلته عن نفسي، ‏{‏ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا‏}‏

وكان ابن عباس يقول‏:‏ ما كان الكنز إلا علمًا‏.‏ وقال العوفي، عن ابن عباس قال‏:‏ لما ظهر موسى وقومه على مصر، أنزل قومه ، فلما استقرت بهم الدار، أنزل الله‏:‏ أن ذكرهم بأيام الله فخطب قومه، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة، وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون، وذكرهم هلاك عدوهم، وما استخلفهم الله في الأرض، وقال‏:‏ كلم الله نبيكم تكليمًا، واصطفاني لنفسه، وأنزل عليّ محبة منه، وآتاكم الله من كل ما سألتموه؛ فنبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرؤون التوراة، فلم يترك نعمة أنعمها عليهم إلا وعرفهم إياها‏.‏ فقال له رجل من بني إسرائيل‏:‏ هم كذلك يا نبي الله، قد عرفنا الذي تقول، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ فبعث الله جبرائيل إلى موسى، عليهما السلام ، فقال‏:‏ إن الله ‏[‏عز وجل‏]‏ يقول‏:‏ وما يدريك أين أضع علمي‏؟‏ بلى ‏.‏ إن على شط البحر رجلا هو أعلم منك -قال ابن عباس‏:‏ هو الخضر- فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى إليه‏:‏ أن ائت البحر، فإنك تجد على شط البحر حوتًا، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثم الزم شط البحر، فإذا نسيت الحوت وهلك منك، فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب‏.‏ فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه، سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ‏}‏ لك، قال الفتى‏:‏ لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سربًا فأعجب ذلك موسى، فرجع حتى أتى الصخرة، فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس، حتى يكون صخرة ، فجعل نبي الله يعجب من ذلك، حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر بها فسلم عليه، فقال الخضر‏:‏ وعليك السلام، وأنى يكون السلام بهذه الأرض‏؟‏ ومن أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا موسى‏.‏ فقال الخضر‏:‏ أصاحب بني إسرائيل‏؟‏ ‏[‏قال‏:‏ نعم‏]‏ فرحب به وقال‏:‏ ما جاء بك‏؟‏ قال جئتك ‏{‏عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا‏}‏ يقول‏:‏ لا تطيق ذلك‏.‏ قال موسى ‏{‏سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا‏}‏ قال‏:‏ فانطلق به، وقال له‏:‏ لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا‏}‏

وقال الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن ابن عباس‏:‏ أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس‏:‏ هو خضر‏.‏ فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال‏:‏ إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لُقيه، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه‏؟‏ قال‏:‏ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال‏:‏ تعلم مكان رجل أعلم منك‏؟‏ قال‏:‏ لا؛ فأوحى الله إلى موسى بلى عبدنا خضر‏.‏ فسأل موسى السبيل إلى لُقيّه فجعل الله له الحوت آية وقيل له‏:‏ إذا فَقَدت الحوت ‏[‏فهو ثمة‏]‏ فارجع، فإنك ستلقاه‏.‏ فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر‏.‏ فقال فتى موسى لموسى‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ‏}‏ قَالَ مُوسَى ‏{‏ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا‏}‏ فوجدا عبدنا خضرًا فكان من شأنهما ما قص في الله كتابه

تفسير الآيات رقم ‏[‏66 - 70‏]‏

‏{‏قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا‏}‏

يخبر تعالى عن قيل موسى، عليه السلام لذلك ‏[‏الرجل‏]‏ العالم، وهو الخضر، الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر، ‏{‏قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ‏}‏ سؤال بتلطف، لا على وجه الإلزام والإجبار‏.‏ وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَتَّبِعُكَ‏}‏ أي‏:‏ أصحبك وأرافقك، ‏{‏عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا‏}‏ أي‏:‏ مما علمك الله شيئًا، أسترشد به في أمري، من علم نافع وعمل صالح‏.‏

فعندها ‏{‏قَالَ‏}‏ الخضر لموسى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا‏}‏ أي‏:‏ أنت لا تقدرأن تصاحبني لما ترى ‏[‏منِّي‏]‏ من الأفعال التي تخالف شريعتك؛ لأني على علم من علم الله، ما علمكه الله، وأنت على علم من علم الله، ما علمنيه الله، فكل منا مكلف بأمور‏.‏ من الله دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي‏.‏

‏{‏وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا‏}‏ فأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه، ولكنْ ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ له موسى‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا‏}‏ أي‏:‏ على ما أرى من أمورك، ‏{‏وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا‏}‏ أي‏:‏ ولا أخالفك في شيء‏.‏ فعند ذلك شارطه الخضر ‏{‏قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ‏}‏ أي‏:‏ ابتداءً ‏{‏حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا‏}‏ أي‏:‏ حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس قال‏:‏ سأل موسى ربه، عز وجل، فقال ‏:‏ رب، أي عبادك أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ الذي يذكرني ولا ينساني‏.‏ قال فأي عبادك أقضى‏؟‏ قال‏:‏ الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى‏.‏ قال أي رب، أي عبادك أعلم‏؟‏ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى‏.‏ قال‏:‏ أي رب هل في أرضك أحد أعلم مني‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فمن هو‏؟‏ قال الخضر‏.‏ قال‏:‏ فأين أطلبه‏؟‏ قال على الساحل عند الصخرة، التي ينفلت عندها الحوت‏.‏ قال‏:‏ فخرج موسى يطلبه، حتى كان ما ذكر الله، وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلم كل واحد منهما على صاحبه‏.‏ فقال له موسى‏:‏ إني أريد أن تصحبني قال إنك لن تطيق صحبتي‏.‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فإن صحبتني ‏{‏فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا‏}‏ قال‏:‏ فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور ، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه‏.‏ قال‏:‏ وبعث الله الخطاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى‏:‏ كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء‏؟‏ قال‏:‏ ما أقل ما رزأ‏!‏ قال‏:‏ يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقَدْر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء‏.‏ وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه، أو تكلم به، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر‏.‏ وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71 - 73‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن موسى وصاحبه، وهو الخضر، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه ألا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة‏.‏ وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة، وأنهم عرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول -يعني بغير أجرة- تكرمة للخضر‏.‏ فلما استقلت بهم السفينة في البحر، ولججت أي‏:‏ دخلت اللجة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحًا من ألواحها ثم رقعها‏.‏ فلم يملك موسى، عليه السلام، نفسه أن قال منكرًا عليه‏:‏ ‏{‏أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا‏}‏‏.‏ وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل، كما قال الشاعر لدُوا للْمَوت وابْنُوا للخَرَاب

‏{‏لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ منكرًا‏.‏ وقال قتادة عجبًا‏.‏ فعندها قال له الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا‏}‏ يعني وهذا الصنيع فعلته قصدًا، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبرًا، ولها داخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي موسى‏:‏ ‏{‏لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا‏}‏ أي‏:‏ لا تضيق عليّ وتُشدد علىّ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏كانت الأولى من موسى نسيانًا‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74 - 76‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فَانْطَلَقَا‏}‏ أي‏:‏ بعد ذلك، ‏{‏حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ‏}‏ وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى، وأنه عمد إليه من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم وأوضأهم فقتله، فروي أنه احتز رأسه، وقيل‏:‏ رضخه بحجر‏.‏ وفي رواية‏:‏ اقتطفه بيده‏.‏ والله أعلم‏.‏

فلما شاهد موسى، عليه السلام، هذا أنكره أشد من الأول، وبادر فقال‏:‏ ‏{‏أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً‏}‏ أي صغيرة لم تعمل الحنث، ولا حملت إثمًا بعد، فقتلته‏؟‏‏!‏ ‏{‏بِغَيْرِ نَفْسٍ‏}‏ أي‏:‏ بغير مستند لقتله ‏{‏لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا‏}‏ أي‏:‏ ظاهر النكارة‏.‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا‏}‏ فأكد أيضًا في التذكار بالشرط الأول؛ فلهذا قال له موسى‏:‏ ‏{‏إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا‏}‏ أي‏:‏ إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة ‏{‏فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا‏}‏ أي‏:‏ قد أعذرت إليّ مرة بعد مرة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا عبد الله بن زياد، حدثنا حجاج بن محمد، عن حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدًا فدعا له، بدأ بنفسه، فقال ذات يوم‏:‏ ‏"‏رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ولكنه قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا‏"‏ ‏[‏مثقلة‏]‏ ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77 - 78‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا‏}‏

يقول تعالى مخبرا عنهما‏:‏ إنهما انطلقا بعد المرتين الأوليين ‏{‏حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ‏}‏ روى

ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة وفي الحديث‏:‏ ‏"‏حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما‏"‏ أي‏:‏ بخلاء ‏{‏فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ‏}‏ إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل‏.‏ والانقضاض هو‏:‏ السقوط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَقَامَهُ‏}‏ أي‏:‏ فردّه إلى حالة الاستقامة وقد تقدم في الحديث أنه ردّه بيديه، ودعمه حتى رد ميله‏.‏ وهذا خارق فعند ذلك قال موسى له ‏{‏لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا‏}‏ أي‏:‏ لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانًا

‏{‏قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك‏]‏، ‏{‏، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ‏}‏ أي‏:‏ بتفسير ‏{‏مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا‏}‏

هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى، عليه السلام، وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر الله الخضر، عليه السلام، على باطنة فقال إن‏:‏ السفينة إنما خرقتها لأعيبها؛ ‏[‏لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة ‏{‏يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ‏}‏ صالحة، أي‏:‏ جيدة ‏{‏غَصْبًا‏}‏ فأردت أن أعيبها‏]‏ لأرده عنها لعيبها ، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنهم أيتام‏.‏ و‏[‏قد‏]‏ روى ابن جريج عن وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي؛ أن اسم ذلك الملك هُدَدَ بن بُدَدَ، وقد تقدم أيضًا في رواية البخاري، وهو مذكور في التوراة في ذرية ‏"‏العيص بن إسحاق‏"‏ وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوراة، والله أعلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏80 – 81‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا‏}‏

قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جَيْسُور‏.‏ وفي الحديث عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا‏"‏‏.‏ رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق، عن سعيد، عن ابن عباس، به؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا‏}‏

أي‏:‏ يحملهما حبه على متابعته على الكفر‏.‏

قال قتادة‏:‏ قد فرح به أبواه حين ولد،وحزنا عليه حين قتل،ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب‏.‏

وصح في الحديث‏:‏ ‏"‏لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له‏"‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏216‏]‏‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا‏}‏ أي‏:‏ ولدًا أزكى من هذا، وهما أرحم به منه، قاله ابن جريج‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أبر بوالديه‏.‏

وقد تقدم أنهما بدلا جارية‏.‏ وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملا بغلام مسلم‏.‏ قاله ابن جريح

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا‏}‏

في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة؛ لأنه قال أولا ‏{‏حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏77‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏13‏]‏، ‏{‏وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏31‏]‏ يعني‏:‏ مكة والطائف‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ أن هذا الجدار إنما أصلحه لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما‏.‏

قال عكرمة، وقتادة، وغير واحد‏:‏ كان تحته مال مدفون لهما‏.‏ وهذا ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير، رحمه الله‏.‏

وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ كان تحته كنز علم‏.‏ وكذا قال سعيد بن جبير، وقال مجاهد‏:‏ صحف فيها علم، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك، قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور‏:‏ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحارث بن عبد الله الْيَحْصَبيّ عن عياش بن عباس القتباني عن ابن حُجَيرة، عن أبي ذر رضي الله عنه، ‏[‏رفعه‏]‏ قال‏:‏ ‏"‏إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه‏:‏ لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه‏:‏ عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب ‏؟‏ وعجبت لمن ذكر النار لم ضَحِك ‏؟‏ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل‏؟‏ لا إله إلا الله، محمد رسول الله‏"‏‏.‏

بشر بن المنذر هذا يقال له‏:‏ قاضي المصيصة‏.‏ قال الحافظ أبو جعفر العقيلي‏:‏ في حديثه وهم‏.‏

وقد روي في هذا آثار عن السلف، فقال ابن جرير في تفسيره‏:‏ حدثني يعقوب، حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة حدثنا سلمة ، عن نعيم العنبري -وكان من جلساء الحسن- قال‏:‏ سمعت الحسن -يعني البصري- يقول في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا‏}‏ قال‏:‏ لوح من ذهب مكتوب فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن‏؟‏ وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح‏؟‏ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها‏؟‏ لا إله إلا الله، محمد رسول الله‏.‏

وحدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن عياش عن عُمَر مولى غُفْرَة قال‏:‏ إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف‏:‏ ‏{‏وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا‏}‏ قال‏:‏ كان لوحًا من ذهب مُصْمَت مكتوبا فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، عجبٌ لمن عرف النار ثم ضحك‏!‏ عجبٌ‏}‏ لمن أيقن بالقدر ثم نصب‏!‏ عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن‏!‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‏.‏

وحدثني أحمد بن حازم الغفاري، حدثنا هَنَّادَة بنت مالك الشيبانية قالت‏:‏ سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول‏:‏ سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى ‏{‏وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا‏}‏ قال‏:‏ سطران ونصف لم يتم الثالث‏:‏ عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبت للموقن بالحساب كيف يغفل‏؟‏ وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح‏؟‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏47‏]‏ قالت‏:‏ وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجًا‏.‏

وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة، وورد به الحديث المتقدم وإن صح، لا ينافي قول عكرمة‏:‏ أنه كان مالا لأنهم ذكروا أنه كان لوحًا من ذهب، وفيه مال جزيل، أكثر ما زادوا أنه كان مودعًا فيه علم، وهو حكم ومواعظ، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا‏}‏ فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به ‏.‏ قال سعيد بن جبير عن ابن عباس‏:‏ حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح، وتقدم أنه كان الأب السابع‏.‏ ‏[‏فالله أعلم‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا‏}‏‏:‏ هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى؛ لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله؛ وقال في الغلام‏:‏ ‏{‏فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ‏}‏ وقال في السفينة‏:‏ ‏{‏فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا‏}‏، فالله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة، إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، وولدي الرجل الصالح، ‏{‏وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي‏}‏ لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر، عليه السلام، مع ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا‏}‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ كان رسولا‏.‏ وقيل بل كان ملكًا‏.‏ نقله الماوردي في تفسيره‏.‏

وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيًا‏.‏ بل كان وليًا‏.‏ فالله أعلم‏.‏

وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بَلْيَا بن مَلْكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، عليه السلام

قالوا‏:‏ وكان يكنى أبا العباس، ويلقب بالخضر، وكان من أبناء الملوك، ذكره النووي في تهذيب الأسماء، وحكى هو وغيره في كونه باقيًا إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكايات وآثارًا عن السلف وغيرهم وجاء ذكره في بعض الأحاديث‏.‏ ولا يصح شيء من ذلك، وأشهرها أحاديث التعزية وإسناده ضعيف‏.‏

ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏34‏]‏ وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر‏:‏ ‏"‏اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض‏"‏ ، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏ولا حضر عنده، ولا قاتل معه‏.‏ ولو كان حيا لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم‏]‏ وأصحابه؛ لأنه عليه السلام كان مبعوثًا إلى جميع الثقلين‏:‏ الجنّ والإنس، وقد قال‏:‏ ‏"‏لو كان موسى وعيسى حَيَّيْن ما وسعهما إلا اتباعي‏"‏ وأخبر قبل موته بقليل‏:‏ أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تَطْرفُ، إلى غير ذلك من الدلائل‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏في الخَضر قال‏]‏ إنما سمي ‏"‏خضرًا‏"‏؛ لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تحته ‏[‏تهتز‏]‏ خضراء‏"‏‏.‏

ورواه أيضًا عن عبد الرزاق‏.‏ وقد ثبت أيضًا في صحيح البخاري، عن همام، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنما سمي الخضِر؛ لأنه جلس على فَرْوَة، فإذا هي تهتز ‏[‏من خلفه‏]‏ خضراء‏"‏

والمراد بالفروة هاهنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، قاله عبد الرزاق‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بذلك وجه الأرض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا‏}‏ أي‏:‏ هذا تفسير ما ضقت به ذرعًا، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال‏:‏ ‏{‏‏[‏مَا لَمْ‏]‏ تَسْطِعْ‏}‏ وقبل ذلك كان الإشكال قويًا ثقيلا فقال‏:‏ ‏{‏سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا‏}‏ فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ‏}‏ وهو الصعود إلى أعلاه، ‏{‏وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏97‏]‏، وهو أشق من ذلك، فقابل كلا بما يناسبه لفظًا ومعنى والله أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون، وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى، عليهما السلام‏.‏ وهذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة ، حدثني ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن أبيه، عن عكرمة قال‏:‏ قيل لابن عباس‏:‏ لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث وقد كان معه‏؟‏ فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال‏:‏ شرب الفتى من الماء ‏[‏فخلد، فأخذه‏]‏ العالم، فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر، فإنها تموج به إلى يوم القيامة؛ وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب إسناد ضعيف، والحسن متروك، وأبوه غير معروف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83 – 84‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا‏}‏

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ‏}‏ يا محمد ‏{‏عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ عن خبره‏.‏ وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف‏.‏

وقد أورد ابن جرير هاهنا، والأموي في مغازيه، حديثا أسنده وهو ضعيف، عن عقبة بن عامر، أن نفرًا من اليهود جاؤوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء، فكان فيما أخبرهم به‏:‏ ‏"‏أنه كان شابا من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السد، ورأى أقوامًا وجوههم مثل وجوه الكلاب‏"‏‏.‏ وفيه طول ونكارة، ورفعه لا يصح، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل‏.‏ والعجب أن أبا زُرْعَة الرازي، مع جلالة قدره، ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة، وذلك غريب منه، وفيه من النكارة أنه من الروم، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني ابن فيليبس المقدوني، الذي تؤرخ به الروم، فأما الأول فقد ذكره الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل، عليه السلام، أول ما بناه وآمن به واتبعه، وكان معه الخضر، عليه السلام، وأما الثاني فهو، إسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف المشهور، والله أعلم‏.‏ وهو الذي تؤرخ به من مملكته ملة الروم‏.‏ وقد كان قبل المسيح، عليه السلام، بنحو من ثلثمائة سنة، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل، كما ذكره الأزرقي وغيره، وأنه طاف مع الخليل بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم، عليه السلام، وقرب إلى الله قربانًا، وقد ذكرنا طرفًا من أخباره في كتاب ‏"‏البداية والنهاية‏"‏، بما فيه كفاية ولله الحمد‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ كان ملكًا، وإنما سمي ذا القرنين لأن؛ صفحتي رأسه كانتا من نحاس، قال‏:‏ وقال بعض أهل الكتاب‏:‏ لأنه ملك الروم وفارس‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كان في رأسه شبه القرنين، وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل قال‏:‏ سئل علي، رضي الله عنه، عن ذي القرنين، فقال‏:‏ كان عبدًا ناصحَ الله فناصَحَه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين‏.‏

وكذا رواه شعبة، عن القاسم بن أبي بَزَّة عن أبي الطفيل، سمع عليًا يقول ذلك‏.‏

ويقال‏:‏ إنه إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ المشارق والمغارب، من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب‏.‏

وقوله ‏{‏إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ أعطيناه ملكًا عظيمًا متمكنًا، فيه له من جميع ما يؤتى الملوك، من التمكين والجنود، وآلات الحرب والحصارات؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم، من العرب والعجم؛ ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا‏}‏‏:‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والسدي، وقتادة، والضحاك، وغيرهم‏:‏ يعني علمًا‏.‏

وقال قتادة أيضًا في قوله‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا‏}‏ قال‏:‏ منازل الأرض وأعلامها‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا‏}‏ قال‏:‏ تعليم الألسنة، كان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم‏.‏

وقال ابن لَهيعة‏:‏ حدثني سالم بن غَيْلان، عن سعيد بن أبي هلال؛ أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار‏:‏ أنت تقول‏:‏ إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا‏؟‏ فقال له كعب‏:‏ إن كنت قلت ذلك، فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا‏}‏‏.‏

وهذا الذي أنكره معاوية، رضي الله عنه، على كعب الأحبار هو الصواب ، والحق مع معاوية في الإنكار؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب‏:‏ ‏"‏إن كنا لنبلو عليه الكذب‏"‏ يعني‏:‏ فيما ينقله، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحيفته ، ولكن الشأن في صحيفته ، أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق ولا حاجة لنا مع خبر الله ورسول الله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ إلى شيء منها بالكلية، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض‏.‏ وتأويل كعب قول الله‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا‏}‏ واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحيفته من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك، ولا إلى الترقي في أسباب السموات‏.‏ وقد قال الله في حق بلقيس‏:‏ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 23‏]‏ أي‏:‏ مما يؤتى مثلها من الملوك، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب، أي‏:‏ الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرَّسَاتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك‏.‏ قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببًا، والله أعلم‏.‏

وفي ‏"‏المختارة‏"‏ للحافظ الضياء المقدسي، من طريق قتيبة، عن أبي عوانة عن سماك بن حرب، عن حبيب بن حماز قال‏:‏ كنت عند علي، رضي الله عنه، وسأله رجل عن ذي القرنين‏:‏ كيف بلغ المشارق والمغارب‏؟‏ فقال سبحان الله سخر له السحاب، وقَدَّر له الأسباب، وبسط له اليد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85 - 88‏]‏

‏{‏فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعَ سَبَبًا‏}‏ يعني‏:‏ بالسبب المنزل‏]‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعَ سَبَبًا‏}‏‏:‏ منزلا وطريقًا ما بين المشرق والمغرب‏.‏

وفي رواية عن مجاهد‏:‏ ‏{‏سَبَبًا‏}‏ قال‏:‏ طريقا في الأرض‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أي أتبع منازل الأرض ومعالمها‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعَ سَبَبًا‏}‏ أي‏:‏ المنازل‏.‏

وقال سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعَ سَبَبًا‏}‏ قال‏:‏ علمًا‏.‏ وهكذا قال عكرمة وعبيد بن يعلى، والسدي‏.‏

وقال مطر‏:‏ معالم وآثار كانت قبل ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ‏}‏ أي‏:‏ فسلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض‏.‏ وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدّة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له‏.‏ وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب، واختلاق زنادقتهم وكذبهم

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ‏}‏ أي‏:‏ رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه‏.‏

والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من ‏"‏الحمأة‏"‏ وهو الطين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 28‏]‏ أي‏:‏ طين أملس‏.‏ وقد تقدم بيانه‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب حدثنى نافع بن أبي نعيم، سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول‏:‏ كان ابن عباس يقول ‏{‏فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ‏}‏ ثم فسرها‏:‏ ذات حمأة‏.‏ قال نافع‏:‏ وسئل عنها كعب الأحبار فقال‏:‏ أنتم أعلم بالقرآن مني، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء‏.‏ وكذا روى غير واحد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وغير واحد‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا محمد بن دينار، عن سعد بن أوس، عن مِصْدَع، عن ابن

عباس، عن أبيّ بن كعب؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه ‏{‏حَمِئَةٍ‏}‏

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏وجدها تغرب في عين حامية‏"‏ يعني‏:‏ حارة‏.‏ وكذا قال الحسن البصري‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ والصواب أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب‏.‏

قلت‏:‏ ولا منافاة بين معنييهما، إذ قد تكون حارة لمجاورتها وَهْج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل و‏{‏حَمِئَةٍ‏}‏ في ماء وطين أسود، كما قال كعب الأحبار وغيره‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام، حدثني مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله قال‏:‏ نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت، فقال‏:‏ ‏"‏في نار الله الحامية ‏[‏في نار الله الحامية‏]‏، لولا ما يزعها من أمر الله، لأحرقت ما على الأرض‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ورواه الإمام أحمد، عن يزيد بن هارون‏.‏ وفي صحة رفع هذا الحديث نظر، ولعله من كلام عبد الله بن عمرو، من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك، والله أعلم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا محمد -يعني ابن بشر- حدثنا عمرو بن ميمون، أنبأنا ابن حاضر، أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف ‏"‏تغرب في عين حامية‏"‏ قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها إلا ‏{‏حَمِئَةٍ‏}‏ فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها‏:‏ فقال عبد الله‏:‏ كما قرأتها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فقلت لمعاوية‏:‏ في بيتي نزل القرآن‏؟‏ فأرسل إلى كعب فقال له‏:‏ أين تجد الشمس تغرب في التوراة‏؟‏ ‏[‏فقال له كعب‏:‏ سل أهل العربية، فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة‏]‏ في ماء وطين‏.‏ وأشار بيده إلى المغرب‏.‏ قال ابن حاضر‏:‏ لو أني عندكما أفدتك بكلام تزداد فيه بصيرة في حمئة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وإذًا ما هو‏؟‏ قلت‏:‏ فيما يؤثر من قول تُبَّع، فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه‏:‏

بَلَغَ المشَارقَ والمغَارِبَ يَبْتَغِي *** أسْبَابَ أمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِد

فَرَأى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبها *** فِي عَيْنِ ذِي خُلب وَثأط حَرْمَدِ

قال ابن عباس‏:‏ ما الخُلَب‏؟‏ قلت‏:‏ الطين بكلامهم‏.‏ ‏[‏يعنى بكلام حمير‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ما الثاط‏؟‏

قلت‏:‏ الحمأة‏.‏ قال‏:‏ فما الحرْمَد‏؟‏ قلت‏:‏ الأسود‏.‏ قال‏:‏ فدعا ابن عباس رجلا أو غلامًا فقال‏:‏ اكتب ما يقول هذا الرجل‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ‏:‏ ‏{‏وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ‏}‏ فقال كعب‏:‏ والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدًا يقرؤها كما أنزلت في التوراة غير ابن عباس، فإنا نجدها في التوراة‏:‏ تغرب في مدرة سوداء‏.‏

وقال أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا هشام بن يوسف قال‏:‏ في تفسير ابن جريج ‏{‏وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا‏}‏ قال‏:‏ مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا أصوات أهلها لسمع الناس وُجُوب الشمس حين تجب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا‏}‏ أي‏:‏ أمة من الأمم، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا‏}‏ معنى هذا‏:‏ أن الله تعالى مكنه منهم وحكمه فيهم، وأظفره بهم وخيره‏:‏ إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ أو فدى ‏.‏ فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه

في قوله‏:‏ ‏{‏أَمَّا مَنْ ظَلَمَ‏}‏ أي‏:‏ من استمر على كفره وشركه بربه ‏{‏فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ‏}‏ قال قتادة‏:‏ بالقتل‏:‏ وقال السدي‏:‏ كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ كان يسلط الظلمة، فتدخل أفوافهم وبيوتهم، وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا‏}‏ أي‏:‏ شديدًا بليغًا وجيعًا أليمًا‏.‏ وفيه إثبات المعاد والجزاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ آمَنَ‏}‏ أي‏:‏ تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ‏{‏فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى‏}‏ أي‏:‏ في الدار الآخرة عند الله، عز وجل، ‏{‏وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ معروفًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89 - 91‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا‏}‏

يقول‏:‏ ثم سلك طريقًا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها ، وكان كلما مرّ بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم، واستباح أموالهم، وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما يستعين به مع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم لهم‏.‏ وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب‏.‏ ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ‏}‏ أي‏:‏ أمة ‏{‏لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا‏}‏ أي‏:‏ ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ كانوا حُمرًا قصارًا، مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا سهل بن أبي الصلت، سمعت الحسن وسئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا‏}‏ قال‏:‏ إن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم‏.‏ قال الحسن‏:‏ هذا حديث سمرة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئًا، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم‏.‏

وعن سلمة بن كُهَيْل أنه قال‏:‏ ليس لهم أكنان، إذا طلعت الشمس طلعت عليهم، فلأحدهم أذنان يفترش إحداهما ويلبس الأخرى‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا‏}‏ قال‏:‏ هم الزنج‏.‏

وقال ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا‏}‏ قال‏:‏ لم يبنوا فيها بناء قط، ولم يبن عليهم فيها بناء قط، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابًا لهم حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل، جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها‏:‏ لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها‏.‏ قالوا‏:‏ لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام‏؟‏ قالوا‏:‏ هذه جيفُ جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا‏.‏ قال‏:‏ فذهبوا هاربين في الأرض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا‏}‏ قال مجاهد، والسدي‏:‏ علمًا، أي‏:‏ نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه، لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض، فإنه تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 5‏]‏