فصل: تفسير الآيات رقم (16 - 21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 21‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا‏}‏

لما ذكر تعالى قصة زكريا، عليه السلام، وأنه أوجد منه، في حال كبره وعقم زوجته، ولدًا زكيًّا طاهرًا مباركًا -عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى، عليهما السلام، منها من غير أب، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة؛ ولهذا ذكرهما في آل عمران وهاهنا وفي سورة الأنبياء، يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء قادر ، فقال‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ‏}‏ وهي مريم بنت عمران، من سلالة داود، عليه السلام، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل‏.‏ وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمّها لها في ‏"‏آل عمران‏"‏، وأنها نذرتها محررة، أي‏:‏ تخدم مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك، ‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدءوب، وكانت في كفالة زوج أختها -وقيل‏:‏ خالتها- زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم، الذي يرجعون إليه في دينهم‏.‏ ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء، كما تقدم بيانه في ‏"‏آل عمران‏"‏‏.‏ فلما أراد الله تعالى -وله الحكمة والحجة البالغة- أن يُوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام، أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام، ‏{‏انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا‏}‏ أي‏:‏ اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس‏.‏

قال السدي‏:‏ لحيض أصابها‏.‏ وقيل لغير ذلك‏.‏ قال أبو كُدَيْنَة، عن قابوس بن أبي ظِبْيان، عن أبيه عن ابن عباس قال‏:‏ إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك‏:‏ ‏{‏انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا‏}‏ قال‏:‏ خرجت مريم مكانًا شرقيًّا، فصلوا قبل مطلع الشمس‏.‏ رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير‏.‏

وقال ابن جرير أيضًا‏:‏ حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس قال‏:‏ إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة؛ لقول الله تعالى ‏{‏انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا‏}‏ واتخذوا ميلاد عيسى قبلة

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏مَكَانًا شَرْقِيًّا‏}‏ شاسعًا متنحيًّا‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ذهبت بقلتها تستقي ‏[‏من‏]‏ الماء‏.‏

وقال نَوْف البِكَالي‏:‏ اتخذت لها منزلا تتعبد فيه‏.‏ فالله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا‏}‏ أي‏:‏ استترت منهم وتوارت، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام ‏{‏فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا‏}‏ أي‏:‏ على صورة إنسان تام كامل‏.‏

قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن جُرَيْج ووهب بن مُنَبِّه، والسُّدِّي، في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا‏}‏ يعني‏:‏ جبريل، عليه السلام‏.‏وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193، 194‏]‏‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال‏:‏ إن روح عيسى، عليه السلام، من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم، وهو الذي تمثل لها بشرا سويًّا، أي‏:‏ روح عيسى، فحملت الذي خاطبها وحل في فيها‏.‏

وهذا في غاية الغرابة والنكارة، وكأنه إسرائيلي‏.‏

‏{‏قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا‏}‏ أي‏:‏ لما تَبَدى لها الملك في صورة بشر، وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب، خافته وظنت أنه يريدها على نفسها، فقالت‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا‏}‏ أي‏:‏ إن كنت تخاف الله‏.‏ تذكير له بالله، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل، فخوفته أولا بالله، عز وجل‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثني أبو كُرَيْب، حدثنا أبو بكر، عن عاصم قال‏:‏ قال أبو وائل -وذكر قصة مريم- فقال‏:‏ قد علمت أن التقي ذو نُهْيَة حين قالت‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ‏}‏ أي‏:‏ فقال لها الملك مجيبًا لها ومزيلا ما حصل عندها من الخوف على نفسها‏:‏ لست مما تظنين، ولكني رسول ربك، أي‏:‏ بعثني إليك، ويقال‏:‏ إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا وعاد إلى هيئته وقال‏:‏ ‏"‏إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلامًا زكيا‏"‏‏.‏

‏[‏هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء‏.‏ وقرأ الآخرون‏:‏ ‏{‏لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا‏}‏‏]‏ وكلا القراءتين له وجه حسن، ومعنى صحيح، وكل تستلزم الأخرى‏.‏

‏{‏قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا‏}‏ أي‏:‏ فتعجبت مريم من هذا وقالت‏:‏ كيف يكون لي غلام‏؟‏ أي‏:‏ على أي صفة يوجد هذا الغلام مني، ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور؛ ولهذا قالت‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا‏}‏ والبغي‏:‏ هي الزانية؛ ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي‏.‏

‏{‏قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ‏}‏ أي‏:‏ فقال لها الملك مجيبًا لها عما سألت‏:‏ إن الله قد قال‏:‏ إنه سيوجد منك غلامًا، وإن لم يكن لك بعل ولا توجد منك فاحشة، فإنه على ما يشاء قادر ؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم، الذي نوع في خلقهم، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَةً مِنَّا‏}‏ أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله نبيًّا من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45، 46‏]‏ أي‏:‏ يدعو إلى عبادة الله ربه في مهده وكهولته‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم -دُحَيْم- حدثنا مروان، حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي، عن مجاهد قال‏:‏ قالت مريم، عليها السلام‏:‏ كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا‏}‏ يحتمل أن هذا من كلام جبريل لمريم، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته‏.‏ ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏ وقال ‏{‏وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا‏}‏ أي‏:‏ أن الله قد عزم على هذا، فليس منه بد، واختار هذا أيضًا ابن جرير في تفسيره، ولم يحك غيره، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22 - 23‏]‏

‏{‏فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال، أنها استسلمت لقضاء الله تعالى فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك -وهو جبريل عليه السلام- عند ذلك نفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بالولد بإذن الله تعالى‏.‏ فلما حملت به ضاقت ذرعًا به ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به، غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا‏.‏ وذلك أن زكريا عليه السلام، كان قد سأل الله الولد، فأجيب إلى ذلك، فحملت امرأته، فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها، وقالت‏:‏ أشعرت يا مريم أني حبلى‏؟‏ فقالت لها مريم‏:‏ وهل علمت أيضًا أني حبلى‏؟‏ وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها وكانوا بيت إيمان وتصديق، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في جوفها يسجد للذي في بطن مريم، أي‏:‏ يعظمه ويخضع له، فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعًا، كما سجد ليوسف أبواه وإخوته، وكما أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم، عليه السلام، ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين قال‏:‏ قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع، قال‏:‏ أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال‏:‏ قال مالك رحمه الله‏:‏ بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن

زكريا ابنا خالة، وكان حملهما جميعا معا، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم‏:‏ إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك‏.‏ قال مالك‏:‏ أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام؛ لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص‏.‏

ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ثمانية أشهر -قال‏:‏ ولهذا لا يعيش ولد لثمانية أشهر‏.‏

وقال ابن جُرَيْج‏:‏ أخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله الثقفي، سمع ابن عباس وسئل عن حَبَل مريم، قال‏:‏ لم يكن إلا أن حملت فوضعت‏.‏ وهذا غريب، وكأنه أخذه من ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ‏}‏ فالفاء وإن كانت للتعقيب، ولكن تعقيب كل شيء بحسبه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12 -14‏]‏ فهذه الفاء للتعقيب بحسبها‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين‏:‏ أن بين كل صفتين أربعين يومًا وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 63‏]‏ فالمشهور الظاهر -والله على كل شيء قدير- أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن؛ ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس، يقال له‏:‏ يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره، أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمّل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره، لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول، فقال‏:‏ يا مريم، إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليّ‏.‏ قالت‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ هل يكون قط شجر من غير حبّ‏؟‏ وهل يكون زرع من غير بذر‏؟‏ وهل يكون ولد من غير أب‏؟‏ فقالت‏:‏ نعم -فهمت ما أشار إليه- أما قولك‏:‏ ‏"‏هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر‏؟‏‏"‏ فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب، ولا بذر ‏"‏وهل خلق يكون من غير أب‏؟‏‏"‏ فإن الله قد خلق آدم من غير أب ولا أم‏.‏ فصدقها، وسلَّم لها حالها‏.‏

ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة، انتبذت منهم مكانًا قصيًّا، أي‏:‏ قاصيًا منهم بعيدًا عنهم؛ لئلا تراهم ولا يروها‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والترحم وتغير اللون، حتى فَطَرَ لسانها، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا، وشاع الحديث في بني إسرائيل، فقالوا‏:‏ ‏"‏إنما صاحبها يوسف‏"‏، ولم يكن معها في الكنيسة غيره، وتوارت من الناس، واتخذت من دونهم حجابًا، فلا يراها أحد ولا تراه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة‏]‏ وهي نخلة في المكان الذي تنحت إليه‏.‏

وقد اختلفوا فيه، فقال السدي‏:‏ كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس‏.‏

وقال وهب بن مُنَبِّه‏:‏ ذهبت هاربة، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر، ضربها الطلق‏.‏ وفي رواية عن وهب‏:‏ كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس، في قرية هناك يقال لها‏:‏ ‏"‏بيت لحم‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم في حديث الإسراء، من رواية النسائي عن أنس، رضي الله عنه، والبيهقي عن شدَّاد بن أوس، رضي الله عنه‏:‏ أن ذلك ببيت لحم، فالله أعلم، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم، وقد تلقاه الناس‏.‏ وقد ورد به الحديث إن صح‏.‏

وقوله تعالى إخبارًا عنها‏:‏ ‏{‏قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا‏}‏ فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا‏}‏ أي قبل هذا الحال، ‏{‏وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا‏}‏ أي لم أخلق ولم أك شيئًا‏.‏ قاله ابن عباس‏.‏

وقال السدي‏:‏ قالت وهي تطلق من الحبل -استحياء من الناس‏:‏ يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل ‏{‏وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا‏}‏ نُسِيَ فتُرِك طلبه، كخِرَق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر‏.‏ وكذلك كل شيء نُسِيَ وترك فهو نَسِيّ‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا‏}‏ أي‏:‏ شيئًا لا يعرف، ولا يذكر، ولا يدرى من أنا‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا‏}‏ وهو السقط‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ لم أكن شيئًا قط‏.‏

وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة، عند قوله‏:‏ ‏{‏تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 26‏]‏

‏{‏فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا‏}‏

قرأ بعضهم ‏{‏مَنْ تَحْتَهَا‏}‏ بمعنى الذي تحتها‏.‏ وقرأ آخرون‏:‏ ‏{‏مِنْ تَحْتِهَا‏}‏ على أنه حرف جر‏.‏

واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو‏؟‏ فقال العوفي وغيره، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا‏}‏ جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وكذا قال سعيد بن جبير، والضحاك، وعمرو بن ميمون، والسدي، وقتادة‏:‏ إنه الملك جبريل عليه الصلاة والسلام، أي‏:‏ ناداها من أسفل الوادي‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا‏}‏ قال‏:‏ عيسى ابن مريم، وكذا قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قال‏:‏ قال الحسن‏:‏ هو ابنها‏.‏ وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير‏:‏ أنه ابنها، قال‏:‏ أولم تسمع الله يقول‏:‏ ‏{‏فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 29‏]‏‏؟‏ واختاره ابن زيد، وابن جرير في تفسيره

وقوله‏:‏ ‏{‏أَلا تَحْزَنِي‏}‏ أي‏:‏ ناداها قائلا لا تحزني، ‏{‏قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا‏}‏ قال سفيان الثوري وشعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب‏:‏ ‏{‏قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا‏}‏ قال‏:‏ الجدول‏.‏ وكذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ السريّ‏:‏ النهر‏.‏ وبه قال عمرو بن ميمون‏:‏ نهر تشرب منه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هو النهر بالسريانية‏.‏

وقال سعيد بن جُبَيْر‏:‏ السري‏:‏ النهر الصغير بالنبطية‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ هو النهر الصغير بالسريانية‏.‏

وقال إبراهيم النَّخَعِي‏:‏ هو النهر الصغير‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هو الجدول بلغة أهل الحجاز‏.‏

وقال وهب بن مُنَبِّه‏:‏ السري‏:‏ هو ربيع الماء‏.‏

وقال السدي‏:‏ هو النهر، واختار هذا القول ابن جرير‏.‏ وقد ورد في ذلك حديث مرفوع، فقال الطبراني‏:‏ حدثنا أبو شعيب الحَرَّاني‏:‏ حدثنا يحيى بن عبد الله البَابلُتِّي حدثنا أيوب بن نَهِيك، سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول‏:‏ سمعت ابن عمر يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن السري الذي قال الله لمريم‏:‏ ‏{‏قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا‏}‏ نهر أخرجه الله لتشرب منه‏"‏ وهذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه‏.‏ وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي قال فيه أبو حاتم الرازي‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال أبو زُرْعَة‏:‏ منكر الحديث‏.‏ وقال أبو الفتح الأزدي‏:‏ متروك الحديث‏.‏

وقال آخرون‏:‏ المراد بالسري‏:‏ عيسى، عليه السلام، وبه قال الحسن، والربيع بن أنس، ومحمد بن عَبَّاد بن جعفر‏.‏ وهو إحدى الروايتين عن قتادة، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والقول الأول أظهر؛ ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ‏}‏ أي‏:‏ وخذي إليك بجذع النخلة‏.‏ قيل‏:‏ كانت يابسة، قاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ مثمرة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كانت عجوة‏.‏ وقال الثوري، عن أبي داود نُفَيْع الأعمى‏:‏ كانت صَرَفَانة

والظاهر أنها كانت شجرة، ولكن لم تكن في إبان ثمرها، قاله وهب بن منبه؛ ولهذا امتن عليها بذلك، أن جعل عندها طعامًا وشرابًا، فقال‏:‏ ‏{‏تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا‏}‏ أي‏:‏ طيبي نفسًا؛ ولهذا قال عمرو بن ميمون‏:‏ ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا شَيْبَان، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عُروة بن رُوَيْم، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام، وليس من الشجر شيء يُلَقَّح غيرها‏"‏‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أطعموا نساءكم الولدَ الرطَبَ، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجرة شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران‏"‏‏.‏ هذا حديث منكر جدًّا، ورواه أبو يعلى، عن شيبان، به

وقرأ بعضهم قوله‏:‏ ‏"‏تساقط‏"‏ بتشديد السين، وآخرون بتخفيفها، وقرأ أبو نَهِيك‏:‏ ‏{‏تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا‏}‏ وروى أبو إسحاق عن البراء‏:‏ أنه قرأها‏:‏ ‏"‏تساقط‏"‏ أي‏:‏ الجذع‏.‏ والكل متقارب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا‏}‏ أي‏:‏ مهما رأيت من أحد، ‏{‏فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا‏}‏ المراد بهذا القول‏:‏ الإشارة إليه بذلك‏.‏ لا أن المراد به القول اللفظي؛ لئلا ينافي‏:‏ ‏{‏فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا‏}‏

قال أنس بن مالك في قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا‏}‏ أي‏:‏ صمتًا وكذا قال ابن عباس، والضحاك‏.‏ وفي رواية عن أنس‏:‏ ‏"‏صومًا وصمتًا‏"‏، وكذا قال قتادة وغيرهما‏.‏

والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام، نص على ذلك السدي،

وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد‏.‏

وقال أبو إسحاق، عن حارثة قال‏:‏ كنت عند ابن مسعود، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، فقال‏:‏ ما شأنك‏؟‏ قال أصحابه‏:‏ حلف ألا يكلم الناس اليوم‏.‏ فقال عبد الله بن مسعود‏:‏ كلِّم الناس وسلم عليهم، فإنما تلك امرأة علمت أن أحدًا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج‏.‏ يعني بذلك مريم، عليها السلام؛ ليكون عذرًا لها إذا سئلت‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، رحمهما الله‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ لما قال عيسى لمريم‏:‏ ‏{‏أَلا تَحْزَنِي‏}‏ قالت‏:‏ وكيف لا أحزن وأنت معي‏؟‏‏!‏ لا ذاتُ زوج ولا مملوكة، أي شيء عذري عند الناس‏؟‏ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا، قال لها عيسى‏:‏ أنا أكفيك الكلام‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا‏}‏ قال‏:‏ هذا كله من كلام عيسى لأمه‏.‏ وكذا قال وهب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27 - 33‏]‏

‏{‏فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك، وألا تكلم أحدًا من البشر فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها فسلمت لأمر الله، عز وجل، واستسلمت لقضائه، وأخذت ولدها ‏{‏فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ‏}‏ فلما رأوها كذلك، أعظموا أمرها واستنكروه جدًّا، وقالوا‏:‏ ‏{‏يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا‏}‏ أي‏:‏ أمرًا عظيمًا‏.‏ قاله مجاهد، وقتادة والسدي، وغير واحد‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سَيَّار حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا أبو عمران الجَوْني، عن نوف البِكَاليّ قال‏:‏ وخرج قومها في طلبها، وكانت من أهل بيت نبوة وشرف‏.‏ فلم يحسوا منها شيئًا، فرأوا راعي بقر فقالوا‏:‏ رأيت فتاة كذا وكذا نَعْتُها‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط‏.‏ قالوا‏:‏ وما رأيت‏؟‏ قال‏:‏ رأيتها سُجَّدا نحو هذا الوادي‏.‏ قال عبد الله بن أبي زياد‏:‏ وأحفظ عن سيار أنه قال‏:‏ رأيت نورًا ساطعًا‏.‏ فتوجهوا حيث قال لهم، فاستقبلتهم مريم، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها، فجاءوا حتى قاموا عليها، ‏{‏قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا‏}‏ أمرًا عظيمًا‏.‏ ‏{‏يَا أُخْتَ هَارُونَ‏}‏ أي‏:‏ يا شبيهة هارون في العبادة ‏{‏مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا‏}‏ أي‏:‏ أنت من بيت طيب طاهر، معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك‏؟‏

قال علي بن أبي طلحة ، والسدي‏:‏ قيل لها‏:‏ ‏{‏يَا أُخْتَ هَارُونَ‏}‏ أي‏:‏ أخي موسى، وكانت من نسله كما يقال للتميمي‏:‏ يا أخا تميم، وللمضري‏:‏ يا أخا مضر‏.‏

وقيل‏:‏ نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون، فكانت تقاس به في العبادة، والزهادة‏.‏

وحكى ابن جرير عن بعضهم‏:‏ أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم‏.‏ يقال له‏:‏ هارون‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير‏.‏ وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم‏.‏

حدثنا علي بن الحسين الهِسِنْجَاني حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا المفضل بن فَضَالة، حدثنا أبو صخر، عن القُرَظي في قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أُخْتَ هَارُونَ‏}‏ قال‏:‏ هي أخت هارون لأبيه وأمه، وهي أخت موسى أخي هارون التي قَصَّت أثر موسى، ‏{‏فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 11‏]‏

وهذا القول خطأ محض، فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفَّى بعيسى بعد الرسل، فدل على أنه آخر الأنبياء بعثًا وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا ثبت في الصحيح عند البخاري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏أنا أولى الناس بابن مريم؛ إلا أنه ليس بيني وبينه نبي‏"‏ ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي، لم يكن متأخرًا عن الرسل سوى محمد‏.‏ ولكان قبل سليمان و داود؛ فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى، عليهما السلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسِيتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَالَنَا أَلا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 246‏]‏ فذكر القصة إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 251‏]‏، والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر، وإغراق فرعون وقومه، قال‏:‏ وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين، تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل، فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى‏.‏ وهي هفوة وغلطة شديدة، بل هي باسم هذه، وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن إدريس، سمعت أبي يذكره عن سِمَاك، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا‏:‏ أرأيت ما تقرءون‏:‏ ‏{‏يَا أُخْتَ هَارُونَ‏}‏، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا‏؟‏ قال‏:‏ فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ألا أخبرتهم أنهم كانوا يَتَسَمّون بالأنبياء والصالحين قبلهم‏؟‏‏"‏‏.‏

انفرد بإخراجه مسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن سماك، به، وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سعيد بن أبي صدقة، عن محمد بن سيرين قال نُبِّئت أن كعبًا قال‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏يَا أُخْتَ هَارُونَ‏}‏‏:‏ ليس بهارون أخي موسى‏.‏ قال‏:‏ فقالت له عائشة‏:‏ كذبت، قال يا أم المؤمنين، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله، فهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة‏.‏ قال‏:‏ فسكتت وفي هذا التاريخ نظر‏.‏

وقال ابن جرير أيضًا‏:‏ حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله‏:‏ ‏{‏يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا‏}‏ قال‏:‏ كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح، ولا يعرفون بالفساد، ‏[‏ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يعرفون بالفساد‏]‏ ويتوالدون به‏.‏ وكان هارون مصلحًا محببًا، في عشيرته، وليس بهارون أخي موسى، ولكنه هارون آخر، قال‏:‏ وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفًا، كلهم يسمى هارون، من بني إسرائيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا‏}‏ أي‏:‏ إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرْية، وقد كانت يومها ذلك صائمة، صامتة فأحالت الكلام عليه، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه، فقالوا متهكمين بها، ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم‏:‏ ‏{‏كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا‏}‏‏؟‏

قال ميمون بن مِهْران‏:‏ ‏{‏فَأَشَارَتْ ‏[‏إِلَيْهِ‏]‏‏}‏، قالت‏:‏ كلموه‏.‏ فقالوا‏:‏ على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبيا‏!‏

وقال السدي‏:‏ لما أشارت إليه غضبوا، وقالوا‏:‏ لَسُخْريَتُها بنا حين تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها‏.‏

‏{‏قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا‏}‏ أي‏:‏ من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره، كيف يتكلم‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ‏}‏ أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأ الله عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا‏}‏‏:‏ تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة‏.‏قال نوف البكالي‏:‏ لما قالوا لأمه ما قالوا، كان يرتضع ثديه، فنزع الثدي من فمه، واتكأ على جنبه الأيسر، وقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَا دُمْتُ حَيًّا‏}‏

وقال حماد بن سلمة، عن ثابت البُنَاني‏:‏ رفع إصبعه السبابة فوق منكبه، وهو يقول‏:‏ ‏{‏إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا‏}‏ الآية‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏آتَانِيَ الْكِتَابَ‏}‏ أي‏:‏ قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد العزيز بن زياد، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال‏:‏ كان عيسى ابن مريم قد درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه فذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا‏}‏‏.‏

يحيى بن سعيد العطار الحمصي‏:‏ متروك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ‏}‏ قال مجاهد، وعمرو بن قيس، والثوري‏:‏ وجعلني معلمًا للخير‏.‏ وفي رواية عن مجاهد‏:‏ نَفَّاعًا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني سليمان بن عبد الجبار، حدثنا محمد بن يزيد بن خُنَيْس المخزومي، سمعت وُهَيْب بن الورد مولى بني مخزوم قال‏:‏ لقي عالم عالمًا هو فوقه في العلم، فقال له‏:‏ يرحمك الله، ما الذي أعلن من عملي‏؟‏ قال‏:‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده، وقد أجمع الفقهاء على قول الله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ‏}‏، وقيل‏:‏ ما بركته‏؟‏ قال‏:‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أينما كان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا‏}‏ كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 99‏]‏‏.‏

وقال عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك بن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا‏}‏ قال‏:‏ أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت، ما أثبتها لأهل القدر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَبَرًّا بِوَالِدَتِي‏}‏ أي‏:‏ وأمرني ببر والدتي، ذكره بعد طاعة الله ربه؛ لأن الله تعالى كثيرًا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ وقال ‏{‏أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا‏}‏ أي‏:‏ ولم يجعلني جبارًا مستكبرًا عن عبادته وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك‏.‏

قال سفيان الثوري‏:‏ الجبار الشقي‏:‏ الذي يقبل على الغضب‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ لا تجد أحدًا عاقًّا لوالديه إلا وجدته جبارًا شقيًّا، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا‏}‏، قال‏:‏ ولا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورًا، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏

وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، في آيات سلطه الله عليهن، وأذن له فيهن، فقالت‏:‏ طوبى للبطن الذي حملك وللثدي الذي أرضعت به، فقال نبي الله عيسى، عليه السلام، يجيبها‏:‏ طوبى لمن تلا كلام الله، فاتبع ما فيه ولم يكن جبارًا شقيًّا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا‏}‏‏:‏ إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق من خلق الله يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد، ‏[‏صلوات الله وسلامه عليه‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 37‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏

يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ عليه ذلك الذي قصصنا عليك من خبر عيسى، ‏{‏قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به؛ ولهذا قرأ الأكثرون‏:‏ ‏"‏قول الحق‏"‏ برفع قول‏.‏ وقرأ عاصم، وعبد الله بن عامر‏:‏ ‏{‏قَوْلَ الْحَقِّ‏}‏‏.‏

وعن ابن مسعود أنه قرأ‏:‏ ‏"‏ذلك عيسى ابن مريم قَالُ الحق‏"‏، والرفع أظهر إعرابًا، ويشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59، 60‏]‏‏.‏

ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبدًا نبيًّا، نزه نفسه المقدسة فقال‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ‏}‏ أي‏:‏ عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علوًّا كبيرًا، ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ أي‏:‏ إذا أراد شيئًا فإنما يأمر به، فيصير كما يشاء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59، 60‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ ومما أمر عيسى به قومه وهو في مهده، أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربهم وربه، وأمرهم بعبادته، فقال‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏أي‏:‏ هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم، أي‏:‏ قويم، من اتبعه رشد وهدي، ومن خالفه ضل وغوى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ اختلفت أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله، وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فصَمَّمَت طائفة -وهم جمهور اليهود، عليهم لعائن الله -على أنه ولد زنْيَة، وقالوا‏:‏ كلامه هذا سحر‏.‏ وقالت طائفة أخرى‏:‏ إنما تكلم الله‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هو ابن الله، وقال آخرون‏:‏ ثالث ثلاثة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل هو عبد الله ورسوله‏.‏ وهذا هو قول الحق، الذي أرشد الله إليه المؤمنين‏.‏ وقد روي ‏[‏نحو هذا‏]‏ عن عمرو بن ميمون، وابن جريج، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ‏}‏، قال‏:‏ اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم‏:‏ هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء -وهم اليعقوبية‏.‏ فقال الثلاثة‏:‏ كذبت‏.‏ ثم قال اثنان منهم للثالث‏:‏ قل أنت فيه، قال‏:‏ هو ابن الله -وهم النسطورية‏.‏ فقال الاثنان‏:‏ كذبت‏.‏ ثم قال أحد الاثنين للآخر‏:‏ قل فيه‏.‏ قال‏:‏ هو ثالث ثلاثة‏:‏ الله إله، وهو إله، وأمه إله -وهم الإسرائيلية ملوك النصارى، عليهم لعائن الله‏.‏ قال الرابع‏:‏ كذبت، بل هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته، وهم المسلمون‏.‏ فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا، فاقتتلوا فظُهِرَ على المسلمين، وذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏ وقال قتادة‏:‏ وهم الذين قال الله‏:‏ ‏{‏فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ اختلفوا فيه فصاروا أحزابًا‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، وعن عروة بن الزبير، وعن بعض أهل العلم، قريبًا من ذلك‏.‏ وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم‏:‏ أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم، فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفًا، فاختلفوا في عيسى ابن مريم، عليه السلام، اختلافًا متباينًا، فقالت كل شرذمة فيه قولا فمائة تقول فيه قولا وسبعون تقول فيه قولا آخر، وخمسون تقول فيه شيئًا آخر، ومائة وستون تقول شيئًا، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم، اتفقوا على قول وصَمَّموا عليه ومال إليهم الملك، وكان فيلسوفًا، فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم، فوضعوا له الأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة العظيمة، ووضعوا له كتب القوانين، وشرَّعوا له أشياء وابتدعوا بدعًا كثيرة، وحَرَّفوا دين المسيح، وغيروه، فابتنى حينئذ لهم الكنائس الكبار في مملكته كلها‏:‏ بلاد الشام، والجزيرة، والروم، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة ألف كنيسة، وبنت أمه هيلانة قُمَامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي تزعم اليهود والنصارى أنه المسيح، وقد كذبوا، بل رفعه الله إلى السماء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله، وافترى، وزعم أن له ولدا‏.‏ ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة وأجلهم حلمًا وثقة بقدرته عليهم؛ فإنه الذي لا يعجل على من عصاه، كما جاء في الصحيحين‏:‏ ‏"‏إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏"‏ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏ وفي الصحيحين أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم‏"‏ ‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 48‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته، عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ‏[‏ورسوله‏]‏ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38 - 40‏]‏

‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن الكفار ‏[‏يوم القيامة‏]‏ أنهم أسْمَعُ شيء وأبْصَرُه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏12‏]‏ أي‏:‏ يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئًا، ولو كان هذا قبل معاينة العذاب، لكان نافعًا لهم ومنقذًا من عذاب الله، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ‏}‏ أي‏:‏ ما أسمعهم وأبصرهم ‏{‏يَوْمَ يَأْتُونَنَا‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة ‏{‏لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا ‏{‏فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ‏}‏ أي‏:‏ أنذر الخلائق يوم الحسرة، ‏{‏إِذْ قُضِيَ الأمْرُ‏}‏ أي‏:‏ فصل بين أهل الجنة وأهل النار، ودَخل كل إلى ما صار إليه مخلدًا فيه، ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ اليوم ‏{‏فِي غَفْلَةٍ‏}‏ عما أنذروا به ‏{‏وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يُصَدقون به‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد ‏[‏الخدري‏]‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال‏:‏ يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فيشرئبون ‏[‏فينظرون‏]‏ ويقولون‏:‏ نعم هذا الموت‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فيقال‏:‏ يا أهل النار، هل تعرفون هذا‏؟‏ قال‏:‏ فيشرئبون فينظرون ويقولون‏:‏ نعم، هذا الموت‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏فيؤمر به فيذبح‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ويقال‏:‏ يا أهل الجنة، خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت‏"‏ قال‏:‏ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ‏}‏ وأشار بيده قال‏:‏ ‏"‏أهل الدنيا في غفلة الدنيا‏"‏‏.‏

هكذا رواه الإمام أحمد وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث الأعمش، به ‏.‏ ولفظهما قريب من ذلك‏.‏ وقد روى هذا الحديث الحسن بن عرفة‏:‏ حدثني أسباط بن محمد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا، مثله‏.‏ وفي سنن ابن ماجه وغيره، من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بنحوه وهو في الصحيحين عن ابن عمر ‏.‏ ورواه ابن جُرَيْج قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ فذكر من قبله نحوه ‏.‏ ورواه أيضًا عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير يقول في قصصه‏:‏ يؤتى بالموت كأنه دابة، فيذبح والناس ينظرون وقال سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيل، حدثنا أبو الزعراء، عن عبد الله -هو ابن مسعود- في قصة ذكرها، قال‏:‏ فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار، وهو يوم الحسرة‏.‏ ‏[‏فيرى أهل النار البيت الذي الذي كان قد أعده الله لهم لو آمنوا، فيقال لهم‏:‏ لو آمنتم وعملتم صالحا، كان لكم هذا الذي ترونه في الجنة، فتأخذهم الحسرة‏]‏ قال‏:‏ ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال‏:‏ لولا أن مَنَّ الله عليكم‏.‏‏.‏‏.‏

وقال السدي، عن زياد، عن زِرِّ بن حُبَيْش، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ‏}‏ قال‏:‏ إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، أتي بالموت في صورة كبش أملح، حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد‏:‏ يا أهل الجنة، هذا الموت الذي كان يُميتُ الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه، ثم ينادى‏:‏ يا أهل النار، هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم، إلا نظر إليه، ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادى‏:‏ يا أهل الجنة، هو الخلود أبد الآبدين، ويا أهل النار، هو الخلود أبد الآبدين، فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتًا من فرح ماتوا، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتًا من شهقة ماتوا فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ‏}‏ يقول‏:‏ إذا ذبح الموت‏.‏ رواه ابن أبي حاتم في تفسيره‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ‏}‏ من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ‏}‏ قال‏:‏ يوم القيامة، وقرأ‏:‏ ‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 56‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف، وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو، تعالى وتقدس ولا أحد يَدّعي مُلْكا ولا تصرفًا، بل هو الوارث لجميع خلقه، الباقي بعدهم، الحاكم فيهم، فلا تظلم نفس شيئًا ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ ذكر هدبة بن خالد القيسي‏:‏ حدثنا حزم بن أبي حزم القُطَعي قال‏:‏ كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن صاحب الكوفة‏:‏ أما بعد، فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت، فجعل مصيرهم إليه، وقال فيما أنزل من كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه، وأشهد ملائكته على خلقه‏:‏ أنه يرث الأرض ومن عليها، وإليه يرجعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41 - 45‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا‏}‏

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ‏:‏ واذكر في الكتاب إبراهيم واتلُه على قومك، هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته، ويدعون أنهم على ملته، وهو كان صديقًا نبيًّا -مع أبيه- كيف نهاه عن عبادة الأصنام فقال، ‏{‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ لا ينفعك ولا يدفع عنك ضررًا‏.‏

‏{‏يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ‏}‏‏:‏ يقول‏:‏ فإن كنت من صلبك وترى أني أصغر منك، لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك بعد، ‏{‏فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا‏}‏ أي‏:‏ طريقًا مستقيمًا موصلا إلى نيل المطلوب، والنجاة من المرهوب‏.‏

‏{‏يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ‏}‏ أي‏:‏ لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام، فإنه هو الداعي إلى ذلك، والراضي به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 60‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 117‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا‏}‏ أي‏:‏ مخالفًا مستكبرًا عن طاعة ربه، فطرده وأبعده، فلا تتبعه تصر مثله‏.‏

‏{‏يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ‏}‏ أي‏:‏ على شركك وعصيانك لما آمرك به، ‏{‏فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا‏}‏ يعني‏:‏ فلا يكون لك مولى ولا ناصرًا ولا مغيثًا إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 63‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46 - 48‏]‏

‏{‏قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن جواب أبي إبراهيم ‏[‏لولده إبراهيم‏]‏ فيما دعاه إليه أنه قال‏:‏ ‏{‏أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ‏}‏ يعني‏:‏ ‏[‏إن كنت لا‏]‏ تريد عبادتها ولا ترضاها، فانته عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصتُ منك وشتمتك وسببتك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لأرْجُمَنَّكَ‏}‏، قاله ابن عباس، والسدي، وابن جريج، والضحاك، وغيرهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا‏}‏‏:‏ قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن إسحاق‏:‏ يعني دهرًا‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ زمانًا طويلا‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا‏}‏ قال‏:‏ أبدًا‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا‏}‏ قال‏:‏ سويًّا سالمًا، قبل أن تصيبك مني عقوبة‏.‏ وكذا قال الضحاك، وقتادة وعطية الجَدَلي و‏[‏أبو‏]‏ مالك، وغيرهم، واختاره ابن جرير‏.‏

فعندها قال إبراهيم لأبيه‏:‏ ‏{‏سَلامٌ عَلَيْكَ‏}‏ كما قال تعالى في صفة المؤمنين‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 55‏]‏‏.‏

ومعنى قول إبراهيم لأبيه‏:‏ ‏{‏سَلامٌ عَلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، وذلك لحرمة الأبوة، ‏{‏سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ ولكن سأسال الله تعالى فيك أن يهديك ويغفر ذنبك، ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ لطيفًا، أي‏:‏ في أن هداني لعبادته والإخلاص له‏.‏ وقال مجاهد وقتادة، وغيرهما‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا‏}‏ قال ‏:‏ ‏[‏و‏]‏ عَوّدَه الإجابة‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏"‏الحفي‏"‏‏:‏ الذي يَهْتَم بأمره‏.‏

وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق، عليهما السلام، في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به‏.‏ ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك، ورجع عنه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113، 114‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها ‏[‏من دون الله‏]‏، ‏{‏وَأَدْعُو رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ وأعبد ربي وحده لا شريك له، ‏{‏عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا‏}‏ و‏"‏عسى‏"‏ هذه موجبة لا محالة، فإنه عليه السلام، سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه سلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49 - 50‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا‏}‏

يقول‏:‏ فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله، أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 72‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏‏.‏

ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب، وهو نص القرآن في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏‏.‏ ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب، أي‏:‏ جعلنا له نسلا وعقبا أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا‏}‏، فلو لم يكن يعقوب قد نُبئ في حياة إبراهيم، لما اقتصر عليه، ولذكر ولده يوسف، فإنه نبي أيضًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته، حين سئل عن خير الناس، فقال‏:‏ ‏"‏يوسف نبي الله، ابن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله‏"‏ وفي اللفظ الآخر‏:‏ ‏"‏إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم‏:‏ يوسفُ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا‏}‏‏:‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ يعني الثناء الحسن‏.‏ وكذا قال السدي، ومالك بن أنس‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏{‏عَلِيًّا‏}‏؛ لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 53‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا‏}‏

لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه، عطف بذكر الكليم، فقال‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا‏}‏ قرأ بعضهم بكسر اللام، من الإخلاص في العبادة‏.‏

قال الثوري ، عن عبد العزيز بن رُفَيع ، عن أبي لبابة قال‏:‏ قال الحواريون‏:‏ يا روح الله، أخبرنا عن المخلص لله‏.‏ قال‏:‏ الذي يعمل لله، لا يحب أن يحمده الناس‏.‏

وقرأ الآخرون بفتحها، بمعنى أنه كان مصطفى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏‏.‏

‏{‏وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا‏}‏، جُمِع له بين الوصفين، فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة، وهم‏:‏ نوح وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ‏}‏ أي‏:‏ الجبل ‏{‏الأيْمَنِ‏}‏ أي‏:‏ من جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة، رآها تلوح فقصدها، فوجدها في جانب الطور الأيمن منه ، عند شاطئ الوادي‏.‏ فكلمه الله تعالى، ناداه وقربه وناجاه ‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى -هو القطان- حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ قال‏:‏ أدني حتى سمع صريف القلم‏.‏ وهكذا قال مجاهد، وأبو العالية، وغيرهم‏.‏ يعنون صريف القلم بكتابة التوراة‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ قال‏:‏ أدخل في السماء فكلم، وعن مجاهد نحوه‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ قال‏:‏ نجا بصدقه

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا عبد الجبار بن عاصم، حدثنا محمد بن سلمة الحراني، عن أبي الوصل، عن شهر بن حَوْشَب، عن عمرو بن معد يكرب قال‏:‏ لما قرب الله موسى نجيًا بطور سيناء، قال‏:‏ يا موسى، إذا خلقت لك قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة تعين على الخير، فلم أخزن عنك من الخير شيئًا، ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا‏}‏ أي‏:‏ وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه، فجعلناه نبيًّا، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 34‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 36‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ‏.‏ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 13، 14‏]‏؛ ولهذا قال بعض السلف‏:‏ ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيًّا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا‏}‏‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن داود، عن عكرمة قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا‏}‏، قال‏:‏ كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد‏:‏ وهب له نبوته‏.‏

وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقًا، عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدورقي، به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54 - 55‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا‏}‏

هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه ‏{‏كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ‏}‏ قال ابن جريج‏:‏ لم يَعدْ ربه عدة إلا أنجزها، يعني‏:‏ ما التزم قط عبادة بنذر إلا قام بها، ووفاها حقها‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن سهل بن عقيل حدثه، أن إسماعيل النبي، عليه السلام، وعد رجلا مكانًا أن يأتيه، فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد، فقال‏:‏ ما برحت من هاهنا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إني نسيت‏.‏ قال‏:‏ لم أكن لأبرح حتى تأتيني‏.‏ فلذلك ‏{‏كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ‏}‏‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ بلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولا حتى جاءه‏.‏

وقال ابن شَوْذَب‏:‏ بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع سكنًا‏.‏

وقد روى أبو داود في سننه، وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه ‏"‏مكارم الأخلاق‏"‏ من طريق إبراهيم بن طَهْمَان، عن عبد الله بن مَيْسَرة، عن عبد الكريم -يعني‏:‏ ابن عبد الله بن شَقيق- عن أبيه، عن عبد الله بن أبي الحمساء قال‏:‏ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فبقيت له عليّ بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، قال‏:‏ فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك، فقال لي‏:‏ ‏"‏يا فتى، لقد شققت علي، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك‏"‏ لفظ الخرائطي، وساق آثارًا حسنة في ذلك‏.‏

ورواه ابن مَنْده أبو عبد الله في كتاب ‏"‏معرفة الصحابة‏"‏، بإسناده عن إبراهيم بن طَهْمَان، عن بُدَيْل بن ميسرة، عن عبد الكريم، به‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنما قيل له‏:‏ ‏{‏صَادِقَ الْوَعْدِ‏}‏؛ لأنه قال لأبيه‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏، فصدق في ذلك‏.‏

فصدق الوعد من الصفات الحميدة، كما أن خُلْفَه من الصفات الذميمة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2، 3‏]‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان‏"‏ ولما كانت هذه صفات المنافقين، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضًا، لا يعد أحدًا شيئًا إلا وفّى له به، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب، فقال‏:‏ ‏"‏حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي‏"‏ ‏.‏ ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق‏:‏ من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَةٌ أو دَيْن فليأتني أنجز له، فجاءه جابر بن عبد الله، فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قال‏:‏ ‏"‏لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا‏"‏، يعني‏:‏ ملء كفيه، فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابرًا، فغرف بيديه من المال، ثم أمره بِعَدّه، فإذا هو خمسمائة درهم، فأعطاه مثليها معها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا‏}‏ في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق؛ لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة‏.‏ وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ وذكر تمام الحديث، فدل على صحة ما قلناه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا‏}‏‏:‏ هذا أيضًا من الثناء الجميل، والصفة الحميدة، والخلة السديدة ، حيث كان مثابرًا على طاعة ربه آمرًا بها لأهله ، كما قال تعالى لرسوله‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ‏}‏ الآية ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة، وقد جاء في الحديث، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نَضَح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء‏"‏ أخرجه أبو داود، وابن ماجه‏.‏

وعن أبي سعيد، وأبي هريرة، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات‏"‏‏.‏ رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، واللفظ له‏.‏