فصل: تفسير الآيات رقم (56 - 57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏56 - 57‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا‏}‏

وهذا ذكر إدريس، عليه السلام، بالثناء عليه، بأنه كان صديقًا نبيًّا، وأن الله رفعه مكانًا عليًّا‏.‏ وقد تقدم في الصحيح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة‏.‏

وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا، فقال‏:‏ حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن شَمِر بن عطية، عن هلال بن يساف قال‏:‏ سأل ابن عباس كعبًا، وأنا حاضر، فقال له‏:‏ ما قول الله -عز وجل- لإدريس‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا‏}‏ فقال كعب‏:‏ أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم، فأحب أن يزداد عملا فأتاه خليل له من الملائكة فقال‏:‏ إن الله أوحى إليّ كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت، فَلْيؤخرني حتى أزداد عملا فحمله بين جناحيه، حتى صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم مَلَك الموت منحدرًا، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال‏:‏ وأين إدريس‏؟‏ فقال‏:‏ هو ذا على ظهري‏.‏ قال ملك الموت‏:‏ فالعجب‏!‏ بعثت وقيل لي‏:‏ اقبض روح إدريس في السماء الرابعة‏"‏‏.‏ فجعلت أقول‏:‏ كيف أقبض روحه في السماء الرابعة، وهو في الأرض‏؟‏ فقبض روحه هناك، فذلك قول الله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا‏}‏‏.‏

هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة، والله أعلم‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن ابن عباس‏:‏ أنه سأل كعبًا، فذكر نحو ما تقدم، غير أنه قال لذلك الملك‏:‏ هل لك أن تسأله -يعني‏:‏ ملك الموت- كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل وذكر باقيه ، وفيه‏:‏ أنه لما سأله عما بقي من أجله، قال ‏:‏ لا أدري حتى أنظر، ثم نظر، قال‏:‏ إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك تحت جناحه إلى إدريس، فإذا هو قد قبض، عليه السلام، وهو لا يشعر به‏.‏

ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس‏:‏ أن إدريس كان خياطًا، فكان لا يغرز إبرة إلا قال‏:‏ ‏"‏سبحان الله‏"‏، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملا منه‏.‏ وذكر بقيته كالذي قبله، أو نحوه‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا‏}‏ قال‏:‏ إدريس رفع ولم يمت، كما رفع عيسى‏.‏

وقال سفيان، عن منصور، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا‏}‏ قال‏:‏ ‏[‏رفع إلى‏]‏ السماء الرابعة‏.‏

وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا‏}‏ قال‏:‏ رفع إلى السماء السادسة فمات بها‏.‏ وهكذا قال الضحاك بن مُزَاحم‏.‏

وقال الحسن، وغيره، في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا‏}‏ قال‏:‏ الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏}‏

يقول تعالى هؤلاء النبيون -وليس المراد ‏[‏هؤلاء‏]‏ المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس -‏{‏الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ‏}‏ الآية‏.‏

قال السدي وابن جرير، رحمه الله‏:‏ ‏[‏فالذي عنى به من ذرية آدم‏:‏ إدريس، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح‏:‏ إبراهيم‏]‏ والذي عنى به من ذرية إبراهيم‏:‏ إسحاق ويعقوب وإسماعيل، والذي عنى به من ذرية إسرائيل‏:‏ موسى، وهارون، وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ولذلك فرّق أنسابهم، وإن كان يجمع جميعهم آدم؛ لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة، وهو إدريس، فإنه جد نوح‏.‏

قلت‏:‏ هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح، عليهما السلام‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه من أنبياء بني إسرائيل، أخذًا من حديث الإسراء، حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مرحبا بالنبي الصالح، والأخ الصالح‏"‏، ولم يقل‏:‏ ‏"‏والولد الصالح‏"‏، كما قال آدم وإبراهيم، عليهما السلام‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن محمد أن إدريس أقدم من نوح بعثه الله إلى قومه، فأمرهم أن يقولوا‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏، ويعملوا ما شاءوا فأبوا، فأهلكهم الله عز وجل‏.‏

‏[‏ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنسُ الأنبياء، أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ‏]‏ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام 83-90‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْك ‏[‏غافر‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وفي صحيح البخاري، عن مجاهد‏:‏ أنه سأل ابن عباس‏:‏ أفي ‏"‏ص‏"‏ سجدة‏؟‏ قال نعم، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ‏}‏، فنبيكم ممن أُمِر أن يقتدي بهم، قال‏:‏ وهو منهم، يعني داود‏.‏

وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏}‏ أي‏:‏ إذا سمعوا كلام الله المتضمن حُجَجه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعًا واستكانة، وحمدًا وشكرًا على ما هم فيه من النعم العظيمة‏.‏

‏"‏والبُكِيّ‏"‏‏:‏ جمع باك، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا، اقتداء بهم، واتباعًا لمنوالهم

قال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي مَعْمَر قال‏:‏ قرأ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سورة مريم، فسجد وقال‏:‏ هذا السجود، فأين البكى‏؟‏ يريد البكاء‏.‏

رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وسَقَط من روايته ذكر ‏"‏أبي معمر‏"‏ فيما رأيت ، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59 - 60‏]‏

‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا‏}‏

لما ذكر تعالى حزْبَ السعداء، وهم الأنبياء، عليهم السلام، ومن اتبعهم، من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدين فرائض الله، التاركين لزواجره -ذكر أنه ‏{‏خَلَفَ مِنْ بَعْدِهم خَلْفٌ‏}‏ أي‏:‏ قرون أخر، ‏{‏أَضَاعُوا الصَّلاةَ‏}‏ -وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد- وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غيا، أي‏:‏ خَسَارًا يوم القيامة‏.‏

وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة هاهنا، فقال قائلون‏:‏ المراد بإضاعتها تَرْكُها بالكلية، قاله محمد بن كعب القُرَظي، وابن زيد بن أسلم، والسدي، واختاره ابن جرير‏.‏ ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد، وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة، للحديث ‏:‏ ‏"‏بين العبد وبين الشرك تَركُ الصلاة‏"‏ ، والحديث الآخر‏:‏ ‏"‏العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر‏"‏‏.‏ وليس هذا محل بسط هذه المسألة‏.‏

وقال الأوزاعي، عن موسى بن سليمان، عن القاسم بن مُخَيمرة في قوله‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ‏}‏، قال‏:‏ إنما أضاعوا المواقيت، ولو كان تركًا كان كفرًا‏.‏

وقال وكيع، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، والحسن بن سعد، عن ابن مسعود أنه قيل له‏:‏ إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ و‏{‏عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ و‏{‏عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏‏؟‏ قال ابن مسعود‏:‏ على مواقيتها‏.‏ قالوا‏:‏ ما كنا نرى ذلك إلا على الترك‏؟‏ قال‏:‏ ذاك الكفر‏.‏

‏[‏و‏]‏ قال مسروق‏:‏ لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس، فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة، وإفراطهن‏:‏ إضاعتهن عن وقتهن‏.‏

وقال الأوزاعي، عن إبراهيم بن يزيد ‏:‏ أن عمر بن عبد العزيز قرأ‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏، ثم قال‏:‏ لم تكن إضاعتهم تركها، ولكن أضاعوا الوقت‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ‏}‏ قال‏:‏ عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ينزو بعضهم على بعض في الأزقة، وكذا روى ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله‏.‏

وروى جابر الجُعْفي، عن مجاهد، وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح‏:‏ أنهم من هذه الأمة، يعنون في آخر الزمان‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني الحارث، حدثنا الحسن الأشيب، حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ‏}‏، قال‏:‏ هم في هذه الأمة، يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق، لا يخافون الله في السماء، ولا يستحيون الناس في الأرض‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا حيوة، حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني‏:‏ أن الوليد بن قيس حدثه، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏يكون خلف بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا‏.‏ ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم‏.‏ ويقرأ القرآن ثلاثة‏:‏ مؤمن، ومنافق، وفاجر‏"‏‏.‏ قال بشير‏:‏ قلت للوليد‏:‏ ما هؤلاء الثلاثة‏؟‏ قال‏:‏ المؤمن مؤمن به، والمنافق كافر به، والفاجر يأكل به‏.‏

وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن، المقرئ ، به

وقال ابن أبي حاتم أيضًا‏:‏ حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا عيسى بن يونس، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن مَوْهَب ، عن مالك، عن أبي الرجال، أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصُّفَّة، وتقول‏:‏ لا تعطوا منه بربريا ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏هم الخلف الذين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ‏}‏‏.‏ هذا حديث غريب‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك، حدثنا الوليد، حدثنا حَريز ، عن شيخ من أهل المدينة؛ أنه سمع محمد بن كعب القُرَظِي يقول في قوله ‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ الآية، قال‏:‏ هم أهل الغرب، يملكون وهم شر من ملك‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏"‏، وتعقبه الذهبي بقوله‏:‏ ‏"‏عبيد الله مختلف في توثيقه، ومالك لا أعرفه ثم هو منقطع‏"‏‏.‏

وقال كعب الأحبار‏:‏ والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل‏:‏ شرابين للقهوات تراكين للصلوات، لعابين بالكعبات، رقادين عن العتمات، مفرطين في الغدوات، تراكين للجمعات قال‏:‏ ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ عطلوا المساجد، ولزموا الضيعات‏.‏

وقال أبو الأشهب العُطَارِدي‏:‏ أوحى الله -تعالى- إلى داود‏:‏ يا داود، حَذّر وأنذر أصحابك أكل الشهوات؛ فإن القلوب المعَلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته على أن أحرمه طاعتي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا زيد بن الحباب حدثنا أبو ‏[‏السمح‏]‏ التميمي، عن أبي قبيل ، أنه سمع عقبة بن عامر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني أخاف على أمتي اثنتين‏:‏ القرآن ‏[‏واللبن، أما اللبن‏]‏ فيتبعون الرّيف، ويتبعون الشهوات ويتركون الصلوات، وأما القرآن فيتعلمه المنافقون، فيجادلون به المؤمنين‏"‏‏.‏

ورواه عن حسن بن موسى، عن ابن لهيعة، حدثنا أبو قبيل، عن عقبة، به مرفوعًا بنحوه تفرد به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ أي‏:‏ خسرانا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ شرًّا‏.‏

وقال سفيان الثوري، وشعبة، ومحمد بن إسحاق، عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ قال‏:‏ واد في جهنم، بعيد القعر، خبيث الطعم‏.‏

وقال الأعمش، عن زياد، عن أبي عياض في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ قال‏:‏ واد في جهنم من قيح ودم‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثني عباس بن أبي طالب، حدثنا محمد بن زياد بن زيان، حدثنا شرقي بن قطامي، عن لقمان بن عامر الخزاعي قال‏:‏ جئت أبا أمامة صُدَيّ بن عَجْلان الباهلي فقلت‏:‏ حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فدعا بطعام، ثم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم، ما بلغت قعرها خمسين خريفًا، ثم تنتهي إلى غي وآثام‏"‏‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ وما غي وآثام‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بئران في أسفل جهنم، يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللتان ذكر الله في كتابه‏:‏ ‏{‏أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ وقوله في الفرقان‏:‏ ‏{‏وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا‏}‏ هذا حديث غريب ورفعه منكر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا‏}‏، أي‏:‏ إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات، فإن الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويجعله من ورثة جنة النعيم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا‏}‏ وذلك؛ لأن التوبة تُجُبُّ ما قبلها، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏التائب من الذنب كمن لا ذنب له‏"‏ ؛ ولهذا لا يُنْقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئًا، ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها؛ لأن ذلك ذهب هَدَرًا وترك نسيا، وذهب مَجَّانا، من كرم الكريم، وحلم الحليم‏.‏

وهذا الاستثناء هاهنا كقوله في سورة الفرقان‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68 -70‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61 - 63‏]‏

‏{‏جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم، هي ‏{‏جَنَّاتِ عَدْنٍ‏}‏ أي‏:‏ إقامة ‏{‏الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ‏}‏ بظهر الغيب، أي‏:‏ هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه؛ وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا‏}‏ تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره؛ فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله، كقوله‏:‏ ‏{‏كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 18‏]‏ أي‏:‏ كائنا لا محالة‏.‏

وقوله هاهنا‏:‏ ‏{‏مَأْتِيًّا‏}‏ أي‏:‏ العباد صائرون إليه، وسيأتونه‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ ‏{‏مَأْتِيًّا‏}‏ بمعنى‏:‏ آتيا؛ لأن كل ما أتاك فقد أتيته، كما تقول العرب‏:‏ أتت عليّ خمسون سنة، وأتيت على خمسين سنة، كلاهما بمعنى ‏[‏واحد‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا‏}‏ أي‏:‏ هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له، كما قد يوجد في الدنيا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا سَلامًا‏}‏ استثناء منقطع، كقوله‏:‏ ‏{‏لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 25، 26‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏}‏ أي‏:‏ في مثل وقت البُكُرات ووقت العَشيّات، لا أن هناك ليلا أو نهارًا ولكنهم في أوقات تتعاقب، يعرفون مضيها بأضواء وأنوار، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معْمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أول زُمْرَة تلج الجنة صُورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصُقون فيها، ولا يتمخطون فيها، ولا يَتَغَوّطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألْوّة، ورَشْحُهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مُخّ ساقيهما من وراء اللحم؛ من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًّا‏"‏‏.‏

أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني الحارث بن فضيل الأنصاري، عن محمود بن لبيد الأنصاري، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا‏"‏ تفرد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏}‏ قال‏:‏ مقادير الليل والنهار‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا علي بن سهم، حدثنا الوليد بن مسلم قال‏:‏ سألت زهير بن محمد، عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏}‏ قال‏:‏ ليس في الجنة ليل، هم في نور أبدًا، ولهم مقدار الليل والنهار، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب، وبفتح الأبواب‏.‏

وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم، عن خُلَيْد، عن الحسن البصري، وذكر أبواب الجنة، فقال‏:‏ أبواب يُرى ظاهرها من باطنها، فتكلم وتكلم، فَتُهَمْهِم انفتحي انغلقي، فتفعل‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏}‏‏:‏ فيها ساعتان‏:‏ بكرة وعشي‏:‏ ليس ثم ليل ولا نهار، وإنما هو ضوء ونور‏.‏

وقال مجاهد ليس ‏[‏فيها‏]‏ بكرة ولا عشي، ولكن يُؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا‏.‏

وقال الحسن، وقتادة، وغيرهما‏:‏ كانت العرب، الأنْعَم فيهم، من يتغدّى ويتعشى، ونزل القرآن على ما في أنفسهم من النعيم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏}‏

وقال ابن مهدي، عن حماد بن زيد، عن هشام، عن الحسن‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏}‏ قال‏:‏ البكور يرد على العشي، والعشي يرد على البكور، ليس فيها ليل‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا سليم بن منصور بن عمار، حدثني أبي، حدثنا محمد بن زياد قاضي أهل شَمْشَاط عن عبد الله بن جرير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما من غداة من غدوات الجنة، وكل الجنة غدوات، إلا أنه يزف إلى ولي الله فيها زوجة من الحور العين، أدناهن التي خلقت من الزعفران‏"‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا حديث منكر‏.‏

‏[‏وقوله تعالى‏]‏ ‏{‏تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا‏}‏ أي‏:‏ هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة هي التي نورثها عبادنا المتقين، وهم المطيعون لله -عز وجل- في السراء والضراء، والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنين‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏.‏ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1-11‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64 – 65‏]‏

‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يَعْلى ووكيع قالا حدثنا عمر بن ذَرّ، عن أبيه، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل‏:‏ ‏"‏ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ فنزلت ‏{‏وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم، عن عمر بن ذر به‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير، من حديث عمر بن ذر به وعندهما زيادة في آخر الحديث، فكان

ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال العَوْفي عن ابن عباس‏:‏ احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحَزَن، فأتاه جبريل وقال‏:‏ يا محمد، ‏{‏وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ لبث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة، ويقولون ‏[‏قُلِيَ‏]‏ فلما جاءه قال‏:‏ يا جبريل لقد رِثْتَ عليّ حتى ظن المشركون كل ظن‏.‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ‏[‏لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ‏]‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا‏}‏ قال‏:‏ وهذه الآية كالتي في الضحى‏.‏

وكذلك قال الضحاك بن مُزَاحم، وقتادة، والسدي، وغير واحد‏:‏ إنها نزلت في احتباس جبريل‏.‏

وقال الحكم بن أبان، عن عكرمة قال‏:‏ أبطأ جبريل النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يومًا، ثم نزل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما نزلت حتى اشتقت إليك‏"‏ فقال له جبريل‏:‏ بل أنا كنت إليك أشوق، ولكني مأمور، فأوحِيَ إلى جبريل أن قل له‏:‏ ‏{‏وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ‏}‏ الآية‏.‏ رواه ابن أبي حاتم، رحمه الله، وهو غريب‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مجاهد قال‏:‏ أبطأت الرسلُ على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه جبريل فقال له‏:‏ ما حبسك يا جبريل‏؟‏ فقال له جبريل‏:‏ وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تُنْقُون براجمكم، ولا تأخذون شواربكم، ولا تستاكون‏؟‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

وقد قال الطبراني‏:‏ حدثنا أبو عامر النحوي، حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ‏[‏الدمشقي‏]‏ حدثنا إسماعيل بن عياش، أخبرني ثعلبة بن مسلم، عن أبي كعب مولى ابن عباس، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن جبريل أبطأ عليه، فذكر ذلك له فقال‏:‏ وكيف وأنتم لا تَسْتَنّون، ولا تُقَلّمُون أظفاركم، ولا تقصون شواربكم، ولا تُنْقُون رواجبكم‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد، عن أبي اليمان، عن إسماعيل بن عياش، به نحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سَيَّار، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا المغيرة بن حبيب -‏[‏ختن‏]‏ مالك بن دينار- حدثني شيخ من أهل المدينة، عن أم سلمة قالت‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أصلحي لنا المجلس، فإنه ينزل ملك إلى الأرض، لم ينزل إليها قط‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا‏}‏ قيل‏:‏ المراد ما بين أيدينا‏:‏ أمر الدنيا، وما خلفنا‏:‏ أمر الآخرة، ‏{‏وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ‏}‏ ما بين النفختين‏.‏ هذا قول أبي العالية، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير‏.‏ وقتادة، في رواية عنهما، والسدي، والربيع بن أنس‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏مَا بَيْنَ أَيْدِينَا‏}‏ ما نستقبل من أمر الآخرة، ‏{‏وَمَا خَلْفَنَا‏}‏ أي‏:‏ ما مضى من الدنيا، ‏{‏وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ ما بين الدنيا والآخرة‏.‏ يروى نحوه عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة، وابن جريج، والثوري‏.‏ واختاره ابن جرير أيضًا، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا‏}‏ قال مجاهد ‏[‏والسُّدِّيّ‏]‏ معناه‏:‏ ما نسيك ربك‏.‏

وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله‏:‏ ‏{‏وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 1-3‏]‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي، حدثنا محمد بن عثمان -يعني أبا الجماهر -حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبيه، عن أبي الدرداء يرفعه قال‏:‏ ‏"‏ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت ‏[‏عنه‏]‏ فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا‏"‏ ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ خالق ذلك ومدبره، والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه، ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ‏]‏ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏‏:‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ هل تعلم للرب مثلا أو شبها‏.‏

وكذلك قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج وغيرهم‏.‏

وقال عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى، وتقدس اسمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66 - 70‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا‏}‏

يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 5‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 77-79‏]‏، وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الإنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا‏}‏ يستدل، تعالى، بالبداءة على الإعادة، يعني أنه، تعالى ‏[‏قد‏]‏ خلق الإنسان ولم يك شيئًا، أفلا يعيده وقد صار شيئًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏، وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله‏:‏ لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من آخره، وأما أذاه إياي فقوله‏:‏ إن لي ولدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ‏}‏ أقسم الرب، تبارك وتعالى، بنفسه الكريمة، أنه لا بد أن يحشرهم جميعًا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله، ‏{‏ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا‏}‏‏.‏

قال العَوْفي، عن ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ قعودا كقوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وقال السدي في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ قيامًا، وروي عن مرة، عن ابن مسعود ‏[‏مثله‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ من كل أمة قاله مجاهد، ‏{‏أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا‏}‏‏.‏

قال الثوري، عن ‏[‏علي بن الأقمر‏]‏ ، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال‏:‏ يحبس الأول على الآخر، حتى إذا تكاملت العدة، أتاهم جميعًا، ثم بدأ بالأكابر، فالأكابر جرما، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا‏}‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا‏}‏ قال‏:‏ ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ‏[‏ورؤساءهم‏]‏ في الشر‏.‏ وكذا قال ابن جريج، وغير واحد من السلف‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38، 39‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا‏}‏ ثم‏"‏ هاهنا لعطف الخبر على الخبر، والمراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلَّد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب، كما قال في الآية المتقدمة‏:‏ ‏{‏قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71 - 72‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا خالد بن سليمان، عن كثير بن زياد البُرْساني، عن أبي سُمَيَّة قال‏:‏ اختلفنا في الورود، فقال بعضنا‏:‏ لا يدخلها مؤمن‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يدخلونها جميعا، ثم ينجي الله الذين اتقوا‏.‏ فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له‏:‏ إنا اختلفنا في الورود، فقال‏:‏ يردونها جميعًا -وقال سليمان مَرَّةً يدخلونها جميعًا- وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه، وقال‏:‏ صُمّتا، إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجًا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثيًّا‏"‏ غريب ولم يخرجوه‏.‏

وقال الحسن بن عرفة‏:‏ حدثنا مروان بن معاوية، عن بكار بن أبي مروان، عن خالد بن مَعْدَان قال‏:‏ قال أهل الجنة بعدما دخلوا الجنة‏:‏ ألم يعدنا ربنا الورود على النار‏؟‏ قال‏:‏ قد مررتم عليها وهي خامدة‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ كان عبد الله بن رَوَاحة واضعًا رأسه في حِجْر امرأته، فبكى، فبكت امرأته فقال ما يبكيك‏؟‏ فقالت‏:‏ رأيتك تبكي فبكيت‏.‏ قال‏:‏ إني ذكرت قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا‏}‏، فلا أدري أنجو منها أم لا‏؟‏ وفي رواية‏:‏ وكان مريضًا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن يَمَان، عن مالك بن مِغْول، عن أبي إسحاق‏:‏ كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال‏:‏ يا ليت أمي لم تلدني ثم يبكي، فقيل‏:‏ ما يبكيك يا أبا ميسرة‏؟‏ فقال‏:‏ أخبرنا أنا واردوها، ولم نُخْبَرْ أنا صادرون عنها‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك، عن الحسن البصري قال‏:‏ قال رجل لأخيه‏:‏ هل أتاك أنك وارد النار‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فهل أتاك أنك صادر عنها‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ففيم الضحك‏؟‏ ‏[‏قال فما رُئي ضاحكًا حتى لحق بالله‏]‏‏.‏وقال عبد الرزاق أيضًا‏:‏ أخبرنا ابن عُيَيْنَة، عن عمرو، أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم نافع بن الأزرق، فقال ابن عباس‏:‏ الورود الدخول‏؟‏ فقال نافع‏:‏ لا فقرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ وردوا أم لا‏؟‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 98‏]‏ أورْدٌ هو أم لا‏؟‏ أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر هل نخرج منها أم لا‏؟‏ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك فضحك نافع‏.‏

وروى ابن جريج، عن عطاء قال‏:‏ قال أبو راشد الحَرُوري -وهو نافع بن الأزرق-‏:‏ ‏{‏لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 102‏]‏ فقال ابن عباس‏:‏ ويلك‏:‏ أمجنون أنت‏؟‏ أين قوله‏:‏ ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 98‏]‏، ‏{‏وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 86‏]‏، ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا‏}‏‏؟‏ والله إن كان دعاء من مضى‏:‏ اللهم أخرجني من النار سالمًا، وأدخلني الجنة غانمًا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا أسباط، عن عبد الملك، عن عبيد الله، عن مجاهد قال‏:‏ كنت عند ابن عباس، فأتاه رجل يقال له‏:‏ أبو راشد، وهو نافع بن الأزرق، فقال له‏:‏ يا ابن عباس، أرأيت قول الله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها، فانظر‏:‏ هل نصدر عنها أم لا‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ قال شعبة، أخبرني عبد الله بن السائب، عمن سمع ابن عباس يقرؤها ‏[‏كذلك‏]‏ ‏:‏ ‏"‏وإن منهم إلا واردها‏"‏ يعني‏:‏ الكفار

وهكذا روى عمرو بن الوليد الشَّنِّي، أنه سمع عكرمة يقرؤها كذلك‏:‏ ‏"‏وإن منهم إلا واردها‏"‏، قال‏:‏ وهم الظلمة‏.‏ كذلك كنا نقرؤها‏.‏ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا‏}‏ يعني‏:‏ البر والفاجر، ألا تسمع إلى قول الله لفرعون‏:‏ ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ‏}‏ ‏{‏وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا‏}‏، فسمى الورود في النار دخولا وليس بصادر‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن السدي، عن مُرَّة، عن عبد الله -هو ابن مسعود- ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يرد الناس ‏[‏النار‏]‏ كلهم، ثم يصدرون عنها بأعمالهم‏"‏‏.‏ ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي به ‏.‏ ورواه من طريق شعبة، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود موقوفا ‏.‏

هكذا وقع هذا الحديث هاهنا مرفوعًا‏.‏ وقد رواه أسباط، عن السدي، عن مُرّة عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ يرد الناس جميعًا الصراط، وورودهم قيامهم حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق ، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مرًّا رجل نوره على موضعي إبهامي قدميه، يمر يتكفأ به الصراط، والصراط دَحْضُ مَزَلّة، عليه حَسَك كَحَسك القَتَاد، حافتاه ملائكة، معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس‏.‏ وذكر تمام الحديث‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا خلاد بن أسلم، حدثنا النضر، حدثنا إسرائيل، أخبرنا أبو إسحاق، عن أبي الأحوص عن عبد الله‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا‏}‏ قال‏:‏ الصراط على جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون‏:‏ اللهم سَلّم سَلّم‏.‏

ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما، من رواية أنس، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة عن الجُرَيري، عن ‏[‏أبي السليل‏]‏ عن غُنَيْم بن قيس قال‏:‏ ذكروا ورود النار، فقال كعب‏:‏ تمسك النار للناس كأنها مَتْن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق، برهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد‏:‏ أن امسكي أصحابك، ودعي أصحابي، قال‏:‏ فتخسف بكل ولي لها، ولهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم‏.‏ قال كعب‏:‏ ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة، مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين ، يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان ، عن جابر، عن أم مُبَشِّر، عن حفصة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني لأرجو ألا يدخل النار -إن شاء الله- أحد شهد بدرًا والحديبية‏"‏ قالت فقلت‏:‏ أليس الله يقول ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا‏}‏‏؟‏ قالت ‏:‏ فسمعته يقول‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا‏}‏‏.‏

وقال ‏[‏الإمام‏]‏ أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا ابن إدريس، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان ، عن جابر، عن أم مبشر -امرأة زيد بن حارثة- قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فقال‏:‏ ‏"‏لا يدخل النار أحد شهد بدرًا والحديبية‏"‏ قالت حفصة‏:‏ أليس الله يقول‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا‏}‏‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا‏}‏‏.‏

وفي الصحيحين، من حديث الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار، إلا تَحِلَّة القسم‏"‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ قال معمر‏:‏ أخبرني الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلة القسم‏"‏ يعني الورود‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا زَمْعَة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد، تمسه النار إلا تحلة القسم‏"‏‏.‏ قال الزهري‏:‏ كأنه يريد هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا‏}‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه وعِكًا، وأنا معه، ثم قال‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى يقول‏:‏ هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن؛ لتكون حظه من النار في الآخرة‏"‏ غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه‏.‏

وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال‏:‏ الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ‏:‏ ‏"‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا زَبَّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من قرأ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ حتى يختمها عشر مرات، بنى الله له قصرًا في الجنة‏"‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ إذا نستكثر يا رسول الله، فقال رسول الله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لله‏]‏ أكثر وأطيب‏"‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من قرأ ألف آية في سبيل الله، كُتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، إن شاء الله‏.‏ ومن حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعًا لا بأجرة سلطان، لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا‏}‏ وإن الذكر في سبيل ‏[‏الله‏]‏ يُضْعفُ فوق النفقة بسبعمائة ضعف‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏بسبعمائة ألف ضعف‏"‏ وروى أبو داود، عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب ‏[‏وسعيد بن أبي أيوب‏]‏ كلاهما عن زبان ، عن سهل، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الصلاة والصيام والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف‏"‏‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا‏}‏ قال‏:‏ هو الممر عليها

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا‏}‏، قال‏:‏ ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها، وورود المشركين‏:‏ أن يدخلوها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الزالون والزالات يومئذ كثير، وقد أحاط بالجسر يومئذ سِمَاطان من الملائكة، دعاؤهم‏:‏ يا ألله سلم سلم‏"‏‏.‏

وقال السدي، عن مرة، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا‏}‏ قال‏:‏ قسمًا واجبًا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏[‏حتمًا‏]‏ ، قال‏:‏ قضاء‏.‏ وكذا قال ابن جريج

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا‏}‏ أي‏:‏ إذا مرّ الخلائق كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي، بحسبهم، نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم‏.‏ فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون ، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أكلتهم النار، إلا دارات وجوههم -وهي مواضع السجود- وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيخرجون أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ‏[‏ثم الذي يليه‏]‏ حتى يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ثم يخرج الله من النار من قال يومًا من الدهر‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ وإن لم يعمل خيرًا قط، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73 - 74‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا‏}‏

يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان‏:‏ أنهم يصدون عن ذلك، ويعرضون ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم‏:‏ ‏{‏خَيْرٌ مَقَامًا وأَحْسَنُ نَدِيًّا‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ أحسن منازل وأرفع دورًا وأحسن نديا‏]‏ ، وهو مجمع الرجال للحديث، أي‏:‏ ناديهم أعمر وأكثر واردًا وطارقًا، يعنون‏:‏ فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك ‏[‏الذين هم‏]‏ مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق‏؟‏ كما قال تعالى مخبرًا عنهم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال قوم نوح‏:‏ ‏{‏أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 111‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 53‏]‏؛ ولهذا قال تعالى رادًّا عليهم شبهتهم‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ‏}‏ أي‏:‏ وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم، ‏{‏هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا‏}‏ أي‏:‏ كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأمتعة ومناظر وأشكالا‏.‏

‏[‏و‏]‏ قال الأعمش، عن أبي ظَبْيَان، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا‏}‏ قال‏:‏ المقام‏:‏ المنزل، والندي‏:‏ المجلس، والأثاث‏:‏ المتاع، والرئي‏:‏ المنظر‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ المقام‏:‏ المسكن، والندي‏:‏ المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن‏:‏ ‏{‏كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 25، 26‏]‏، فالمقام‏:‏ المسكن والنعيم، والندي‏:‏ المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه، وقال ‏[‏الله‏]‏ فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط‏:‏ ‏{‏وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 29‏]‏، والعرب تسمي المجلس‏:‏ النادي‏.‏

وقال قتادة‏:‏ لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة، وفيهم قشافة، تَعَرّض أهل الشرك بما تسمعون‏:‏ ‏{‏أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا‏}‏ وكذا قال مجاهد، والضحاك‏.‏

ومنهم من قال في الأثاث‏:‏ هو المال‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ المتاع‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ الثياب، والرئي‏:‏ المنظر كما قال ابن عباس، ومجاهد وغير واحد‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ يعني الصور، وكذا قال مالك‏:‏ ‏{‏أَثَاثًا وَرِئْيًا‏}‏‏:‏ أكثر أموالا وأحسن صورًا‏.‏ والكل متقارب صحيح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد، لهؤلاء المشركين بربهم المدعين، أنهم على الحق وأنكم على الباطل‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ‏}‏ أي‏:‏ منا ومنكم، ‏{‏فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا‏}‏ أي‏:‏ فأمهله الرحمن فيما هو فيه، حتى يلقى ربه وينقضي أجله، ‏{‏إِمَّا الْعَذَابَ‏}‏ يصيبه، ‏{‏وَإِمَّا السَّاعَةَ‏}‏ بغتة تأتيه، ‏{‏فَسَيَعْلَمُونَ‏}‏ حينئذ ‏{‏مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي‏.‏

قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا‏}‏ فليدعه الله في طغيانه‏.‏ هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير، رحمه الله‏.‏

وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه ، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ ادعوا على المبطل منا ومنكم بالموت إن كنتم تدعون أنكم على الحق، فإنه لا يضركم الدعاء، فنكلوا عن ذلك، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ مبسوطا، ولله الحمد‏.‏ وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة ‏"‏آل عمران‏"‏ حين صمموا على الكفر، واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله، وقد ذكر الله حُجَجه وبراهينه على عبودية عيسى، وأنه مخلوق كآدم، قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏ فنكلوا أيضًا عن ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا‏}‏

لما ذكر ‏[‏الله‏]‏ تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه، أخبر بزيادة المهتدين هُدى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124، 125‏]‏‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ قد تقدم تفسيرها، والكلام عليها، وإيراد الأحاديث المتعلقة بها في سورة ‏"‏الكهف‏"‏‏.‏

‏{‏خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا‏}‏ أي‏:‏ جزاء ‏{‏وَخَيْرٌ مَرَدًّا‏}‏ أي‏:‏ عاقبة ومردا على صاحبها‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا عمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال‏:‏ جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأخذ عودًا يابسًا فَحَطَّ ورقة ثم قال‏:‏ ‏"‏إن قول‏:‏ لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح ، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، هن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة‏"‏ قال أبو سلمة‏:‏ فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال‏:‏ لأهللنّ الله، ولأكبرن الله، ولأسبحن الله، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون

وهذا ظاهره أنه مرسل، ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة، عن أبي الدرداء، والله أعلم‏.‏ وهكذا وقع في سنن ابن ماجه، من حديث أبي معاوية، عن عُمر بن راشد، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي الدرداء، فذكر نحوه

تفسير الآيات رقم ‏[‏77 - 80‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا‏}‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن خباب بن الأرت قال‏:‏ كنت رجلا قينًا، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه‏.‏ فقال‏:‏ لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ‏[‏فقلت‏:‏ لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم‏]‏ حتى تموت ثم تبعث‏.‏ قال‏:‏ فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد، فأعطيتك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَيَأْتِينَا فَرْدًا‏}‏‏.‏

أخرجه صاحبا الصحيح وغيرهما، من غير وجه، عن الأعمش به، وفي لفظ البخاري‏:‏ كنت قينًا بمكة، فعملت للعاص بن وائل سيفًا، فجئت أتقاضاه‏.‏ فذكر الحديث وقال‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا‏}‏ قال‏:‏ موثقًا‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق قال‏:‏ قال خَبَّاب

بن الأرت، كنت قينًا بمكة، فكنت أعمل للعاص بن وائل، قال‏:‏ فاجتمعت لي عليه دراهم، فجئت لأتقاضاه ، فقال لي‏:‏ لا أقضيك حتى تكفر بمحمد‏.‏ فقلت‏:‏ لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث‏.‏ قال‏:‏ فإذا بعثت كان لي مال وولد‏.‏ قال‏:‏ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَيَأْتِينَا فَرْدًا‏}‏‏.‏

وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس‏:‏ إن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين، فأتوه يتقاضونه، فقال‏:‏ ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة وحريرًا، ومن كل الثمرات‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأوتين مالا وولدًا، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به‏.‏ فضرب الله مثله في القرآن فقال ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَيَأْتِينَا فَرْدًا‏}‏

وهكذا قال مجاهد، وقتادة، وغيرهم‏:‏ إنها نزلت في العاص بن وائل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا‏}‏ قرأ بعضهم بفتح ‏"‏الواو‏"‏ من ‏"‏ولدا‏"‏ وقرأ آخرون بضمها، وهو بمعناه، قال رؤبة‏:‏

الحمْدُ للهِ العزيز فَرْدًا *** لَمْ يتخذ مِنْ وُلْد شيء وُلْدا

وقال الحارث بن حلزة‏:‏

وَلَقَد رأيتُ معَاشرًا *** قد تمرُوا مالا وَولْدا

وقال الشاعر‏:‏

فَلَيت فُلانًا كانَ في بَطْن أمه *** وَليتَ فُلانًا كان وُلْد حِمَار

وقيل‏:‏ إن ‏"‏الوُلْد‏"‏ بالضم جمع، ‏"‏والوَلَد‏"‏ بالفتح مفرد، وهي لغة قيس، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَطَّلَعَ الْغَيْبَ‏}‏‏:‏ إنكار على هذا القائل، ‏{‏لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة، أي‏:‏ أعلم ما له في الآخرة حتى تَألى وحلف على ذلك، ‏{‏أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا‏}‏‏:‏ أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك‏؟‏ وقد تقدم عند البخاري‏:‏ أنه الموثق‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا‏}‏ قال‏:‏ لا إله إلا الله، فيرجو بها ‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا‏}‏ قال‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَلا‏}‏‏:‏ هي حرف رَدْع لما قبلها وتأكيد لما بعدها، ‏{‏سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ‏}‏ أي‏:‏ من طلبه ذلك وحُكْمه لنفسه بما تمناه، وكفره بالله العظيم ‏{‏وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا‏}‏ أي‏:‏ في الدار الآخرة، على قوله ذلك، وكفره ‏[‏بالله‏]‏ في الدنيا‏.‏

‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ‏}‏ أي‏:‏ من مال وولد، نسلبه منه، عكس ما قال‏:‏ إنه يُؤْتى في الدار الآخرة مالا وولدا، زيادة على الذي له في الدنيا؛ بل في الآخرة يُسلَب من الذي كان له في الدنيا، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَيَأْتِينَا فَرْدًا‏}‏ أي‏:‏ من المال والولد‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ‏}‏، ‏[‏قال‏:‏ نرثه‏]‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ‏}‏‏:‏ ماله وولده، وذلك الذي قال العاص بن وائل‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مُعْمَر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ‏}‏ قال‏:‏ ما عنده، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا‏}‏ وفي حرف ابن مسعود‏:‏ ‏"‏ونرثه ما عنده‏"‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَيَأْتِينَا فَرْدًا‏}‏‏:‏ لا مال له، ولا ولد‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ‏}‏ قال‏:‏ ما جمع من الدنيا، وما عمل فيها، قال‏:‏ ‏{‏وَيَأْتِينَا فَرْدًا‏}‏ قال‏:‏ فردًا من ذلك، لا يتبعه قليل ولا كثير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81 - 84‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا‏}‏

يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم‏:‏ أنهم اتخذوا من دونه آلهة، لتكون تلك الآلهة ‏{‏عِزًّا‏}‏ يعتزون بها ويستنصرونها‏.‏

ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا، ولا يكون ما طمعوا، فقال‏:‏ ‏{‏كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ‏{‏وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ أي‏:‏ بخلاف ما ظنوا فيهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ‏.‏ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 5، 6‏]‏

وقرأ أبو نَهِيك‏:‏ ‏"‏كلّ سيكفرون بعبادتهم‏"‏‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بعبادة الأوثان‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ أي‏:‏ بخلاف ما رَجَوا منهم‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ قال‏:‏ أعوانًا‏.‏

قال مجاهد‏:‏ عونًا عليهم، تُخَاصِمُهم وتُكَذّبهم‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ قال‏:‏ قرناء‏.‏

وقال قتادة‏:‏ قرناء في النار، يلعن بعضهم بعضًا، ويكفر بعضهم ببعض‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ قال‏:‏ الخصماء الأشداء في الخصومة‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ قال‏:‏ أعداء‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ الضد‏:‏ البلاء‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ الضد‏:‏ الحسرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ تغويهم إغواء‏.‏

وقال العوفي عنه‏:‏ تحرضهم على محمد وأصحابه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ تُشليهم إشلاء‏.‏

وقال قتادة‏:‏ تزعجهم إزعاجا إلى معاصي الله‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ تغريهم إغراء وتستعجلهم استعجالا‏.‏

وقال السدي‏:‏ تطغيهم طغيانا‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ هذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا‏}‏ أي‏:‏ لا تعجل يا محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم، ‏{‏إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا‏}‏ أي‏:‏ إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله، ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏، ‏{‏فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 17‏]‏‏{‏إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 178‏]‏، ‏{‏نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 24‏]‏، ‏{‏قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 30‏]‏‏.‏

قال السدي‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا‏}‏ السنين، والشهور، والأيام، والساعات‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا‏}‏ قال‏:‏ نعد أنفاسهم في الدنيا‏.‏