فصل: تفسير الآيات رقم (45 - 48)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏45 - 48‏]‏

‏{‏قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏

يقول تعالى إخبارًا عن موسى وهارون، عليهما السلام، أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى شاكيَيْنإليه‏:‏ ‏{‏إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى‏}‏ يعنيان أن يَبْدُر إليهما بعقوبة، أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك‏.‏

قال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ ‏{‏أَنْ يَفْرُطَ‏}‏ يعجل‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ يبسط علينا‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏أَوْ أَنْ يَطْغَى‏}‏‏:‏ يعتدي‏.‏

‏{‏قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ أي‏:‏ لا تخافا منه، فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى عليّ من أمركم شيء، واعلما أن ناصيته بيدي، فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال‏:‏ لما بعث اللهُ عزّ وجل موسى إلى فرعون قال‏:‏ رب، أيّ شيء أقول‏؟‏ قال قل‏:‏ هيا شراهيا‏.‏ قال الأعمش‏:‏ فَسَّرَ ذلك‏:‏ الحي قبل كل شيء، والحي بعد كل شيء‏.‏ إسناد جيد، وشيء غريب‏.‏

‏{‏فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ‏}‏، قد تقدم في حديث ‏"‏الفتون‏"‏ عن ابن عباس أنه قال‏:‏ مكثا على بابه حينًا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد‏.‏

وذكر محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ أن موسى وأخاه هارون خرجا، فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن عليه وهما يقولان‏:‏ إنا رسل رب العالمين، فآذنوا بنا هذا الرجل، فمكثا فيما بلغني سنتين يَغْدوان ويروحان، لا يعلم بهما ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما، حتى دخل عليه بَطَّال له يلاعبه ويُضْحكه، فقال له‏:‏ أيها الملك، إن على بابك رجلا يقول قولا عجيبًا، يزعم أن له إلهًا غيرك أرسله إليك‏.‏ قال‏:‏ ببابي‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ أدخلوه، فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه، فلما وقف على فرعون قال‏:‏ إني رسول رب العالمين‏.‏ فعرفه فرعون‏.‏

وذكر السّدّي أنه لما قدم بلاد مصر، ضاف أمّه وأخاه وهما لا يعرفانه، وكان طعامهما ليلتئذ الطعثلل وهو اللفت، ثم عرفاه وسلما عليه، فقال له موسى‏:‏ يا هارون، إن ربي قد أمرني أن آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله، وأمر أن تعاونني‏.‏ قال‏:‏ افعل ما أمرك ربك‏.‏ فذهبا، وكان ذلك ليلا فضرب موسى باب القصر بعصاه، فسمع فرعون فغضب وقال من يجترئ على هذا الصنيع‏؟‏ فأخبره السدنة والبوابون بأن هاهنا رجلا مجنونًا يقول‏:‏ إنه رسول الله‏.‏ فقال‏:‏ عليّ به‏.‏ فلما وقفا بين يديه قالا وقال لهما ما ذكر الله في كتابه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ أي‏:‏ بدلالة ومعجزة من ربك، ‏{‏وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى‏}‏ أي‏:‏ والسلام عليك إن اتبعت الهدى‏.‏

ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم ‏[‏كتابًا، كان أوله‏:‏ ‏"‏بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم‏]‏ سلام على من اتبع الهدى‏.‏ أما بعد، ‏[‏فإني أدعوك بدعاية الإسلام‏]‏ فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين‏"‏‏.‏

وكذلك لما كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا صُورَتُه‏:‏ ‏"‏من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك‏.‏ أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر مَعَكَ، فلك المدر ولي الوبر، ولكن قريش قوم يعتدون‏"‏‏.‏ فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏"‏‏.‏

ولهذا قال موسى وهارون، عليهما السلام، لفرعون‏:‏ ‏{‏وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ أي‏:‏ قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متحمض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 37 -39‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 14 -16‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 31، 32‏]‏‏.‏ أي‏:‏ كذب بقلبه وتولى بفعله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49 - 52‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن فرعون أنه قال لموسى منكرًا وجود الصانع الخالق، إله كل شيء وربه ومليكه، قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى‏}‏ أي‏:‏ الذي بعثك وأرسلك مَنْ هو‏؟‏ فإني لا أعرفه، وما علمت لكم من إله غيري، ‏{‏قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏‏.‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول‏:‏ خلق لكل شيء زَوْجة‏.‏

وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ جعل الإنسان إنسانًا، والحمار حمارًا، والشاة شاةً‏.‏

وقال ليث بن أبي سُلَيم، عن مجاهد‏:‏ أعطى كل شيء صورته‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ سَوّى خلق كل دابة‏.‏

وقال سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ قال‏:‏ أعطى كل ذي خَلْق ما يصلحه من خَلْقه، ولم يجعل للإنسان من خَلْق الدابة، ولا للدابة من خلق الكلب، ولا للكلب من خلق الشاة، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح، وهيّأ كلّ شيء على ذلك، ليس شيء منها يشبه شيئًا من أفعاله في الخَلْق والرزق والنكاح‏.‏

وقال بعض المفسرين‏:‏ ‏{‏أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏ أي‏:‏ قدر قدرًا، وهدى الخلائق إليه، أي‏:‏ كَتَب الأعمال والآجال والأرزاق، ثم الخلائق ماشون على ذلك، لا يحيدون عنه، ولا يقدر أحد على الخروج منه‏.‏ يقول‏:‏ ربنا الذي خلق ‏[‏الخلق‏]‏ وقدر القَدَر، وجَبَل الخليقة على ما أراد‏.‏

‏{‏قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى‏}‏ أصح الأقوال في معنى ذلك‏:‏ أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي‏:‏ الذين لم يعبدوا الله، أي‏:‏ فما بالهم إذا كان الأمر كما تقول، لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره‏؟‏ فقال له موسى في جواب ذلك‏:‏ هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال، ‏{‏لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى‏}‏ أي‏:‏ لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته صغير ولا كبير، ولا ينسى شيئًا‏.‏ يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئًا، تبارك وتعالى وتقدس، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان أحدهما‏:‏ عدم الإحاطة بالشيء، والآخر نسيانه بعد علمه، فنزه نفسه عن ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53 - 56‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى‏}‏

هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه، عز وجل، حين سأله فرعون عنه، فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏، ثم اعترض الكلام بين ذلك، ثم قال‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مِهَادًا‏}‏

وفي قراءة بعضهم ‏"‏مهدا‏"‏ أي‏:‏ قرارا تستقرون عليها وتقومون وتنامون عليها وتسافرون على ظهرها، ‏{‏وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا‏}‏ أي‏:‏ جعل لكم طرقا تمشون في مناكبها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 31‏]‏‏.‏

‏{‏وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏من‏]‏ ألوان النباتات من زروع وثمار، ومن حامض وحلو، وسائر الأنواع‏.‏

‏{‏كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ‏}‏

أي‏:‏ شيء لطعامكم وفاكهتكم، وشيء لأنعامكم لأقواتها خضرا ويابسًا‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ لدلالات وحججا وبراهين ‏{‏لأولِي النُّهَى‏}‏ أي‏:‏ لذوي العقول السليمة المستقيمة، على أنه لا إله إلا الله، ولا رب سواه‏.‏

‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى‏}‏

أي‏:‏ من الأرض مبدؤكم، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض، ‏{‏وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ وإليها تصيرون إذا متم وبليتم، ومنها نخرجكم تارة أخرى‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وفي الحديث الذي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر ثم قال ‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ‏}‏ ثم ‏[‏أخذ‏]‏ أخرى وقال‏:‏ ‏{‏وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ‏}‏‏.‏ ثم أخذ أخرى وقال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى‏}‏‏.‏

وقوله ‏{‏وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى‏}‏، يعني‏:‏ فرعون، أنه قامت عليه الحجج والآيات والدلالات وعاين ذلك وأبصره، فكذب بها وأباها كفرا وعنادا وبغيا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57 - 59‏]‏

‏{‏قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى، وهي إلقاء عصاه فصارت ثعبانًا عظيما ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء فقال‏:‏ هذا سحر، جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس، فيتبعونك وتكاثرنا بهم، ولا يتم هذا معك، فإن عندنا سحرًا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه ‏{‏فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا‏}‏ أي‏:‏ يومًا نجتمع نحن وأنت فيه، فنعارض ما جئت به بما عندك من السحر في مكان معين ووقت معين فعند ذلك ‏{‏قال‏}‏ لَهُمْ مُوسَى ‏{‏مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ‏}‏ وهو يوم عيدهم ونَوروزُهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم؛ ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ‏}‏ أي‏:‏ جميعهم ‏{‏ضُحًى‏}‏ أي‏:‏ ضحوة من النهار ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء، كل أمرهم واضح، بيّن، ليس فيه خفاء ولا ترويج؛ ولهذا لم يقل ‏"‏ليلا‏"‏ ولكن نهارًا ضحى‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ وكان يوم الزينة يوم عاشوراء‏.‏

وقال السدي، وقتادة، وابن زيد‏:‏ كان يوم عيدهم‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ يوم سوقهم‏.‏

ولا منافاة‏.‏ قلت‏:‏ وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده، كما ثبت في الصحيح‏.‏

وقال وهب بن مُنَبِّه‏:‏ قال فرعون‏:‏ يا موسى، اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه‏.‏ قال موسى‏:‏ لم أومر بهذا، إنما أمرت بمناجزتك، إن أنت لم تخرج دخلت إليك‏.‏ فأوحى الله إلى موسى أن اجعل بينك وبينه أجلا وقل له أن يجعل هو‏.‏ قال فرعون‏:‏ اجعله إلى أربعين يومًا‏.‏ ففعل‏.‏

وقال مجاهد، وقتادة‏:‏ ‏{‏مَكَانًا سُوًى‏}‏ مَنْصَفًا‏.‏ وقال السدي‏:‏ عدلا‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏مَكَانًا سُوًى‏}‏ ‏[‏مستوى‏]‏ يتبين الناس ما فيه، لا يكون صَوَب ولا شيء يتغيب بعض ذلك عن بعض مستوٍ حتى يُرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60 - 64‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن فرعون أنه لما تواعد هو بموسى عليه السلام، إلى وقت ومكان معلومين، تولى، أي‏:‏ شرع في جمع السحرة من مدائن مملكته، كل من ينسب إلى سحر في ذلك الزمان‏.‏ وقد كان السحر فيهم كثيرًا نافقًا جدًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 79‏]‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَتَى‏}‏ أي‏:‏ اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته، واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة وأقبل موسى، عليه السلام، يتوكأ على عصاه، ومعه أخوه هارون، ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفًا، وهو يحرضهم ويحثهم، ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه، وهو يعدهم ويمنيهم، فيقولون‏:‏ ‏{‏أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُم لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا‏}‏ أي‏:‏ لا تُخَيّلُوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة، وليست مخلوقة، فتكونون قد كذبتم على الله، ‏{‏فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ‏}‏ أي‏:‏ يهلككم بعقوبة هلاكًا لا بقية له، ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ أنهم تشاجروا فيما بينهم فقائل يقول‏:‏ ليس هذا بكلام ساحر، إنما هذا كلام نبي‏.‏ وقائل يقول‏:‏ بل هو ساحر‏.‏ وقيل غير ذلك، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّوا النَّجْوَى‏}‏ أي‏:‏ تناجوا فيما بينهم، ‏{‏قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ‏}‏ هذه لغة لبعض العرب، جاءت هذه القراءة على إعرابها، ومنهم من قرأ‏:‏ ‏"‏إنْ هَذَينِ لَسَاحِرَانِ‏"‏ وهذه اللغة المشهورة، وقد توسع النحاة في الجواب عن القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه‏.‏

والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم‏:‏ تعلمون أن هذا الرجل وأخاه -يعنون‏:‏ موسى وهارون- ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس، وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده، فينتصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى‏}‏ أي‏:‏ ويستبدا بهذه الطريقة، وهي السحر، فإنهم كانوا معظَّمين بسببها، لهم أموال وأرزاق عليها، يقولون‏:‏‏}‏ إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض، وتفردا بذلك، وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم‏.‏

وقد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس ‏[‏قال‏]‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى‏}‏ يعني‏:‏ ملكهم الذي هم فيه والعيش‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا هُشَيْم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، سمع الشعبي يحدث عن علي في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى‏}‏ قال‏:‏ يصرفا وجوه الناس إليهما‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى‏}‏ قال‏:‏ أولي الشرف والعقل والأسنان‏.‏

وقال أبو صالح‏:‏ ‏{‏بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى‏}‏ أشرافكم وسرواتكم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ بخيركم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل، كانوا أكثر القوم عددا وأموالا فقال عدو الله‏:‏ يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ ‏{‏بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى‏}‏ بالذي أنتم عليه‏.‏

وقوله ‏{‏فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا‏}‏ أي اجتمعوا كلكم صفًّا واحدًا، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة، لتبهروا الأبصار، وتغلبوا هذا وأخاه، ‏{‏وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى‏}‏ أي‏:‏ منا ومنه، أما نحن فقد وعدنا هذا الملك العطاء الجزيل، وأما هو فينال الرياسة العظيمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65 - 70‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن السحرة حين توافقوا هم وموسى، عليه السلام، أنهم قالوا لموسى‏:‏ ‏{‏إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ‏}‏ أي‏:‏ أنت أولا ‏{‏إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا‏}‏ أي‏:‏ أنتم أولا ليُرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس جلية أمرهم، ‏{‏فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى‏}‏‏.‏ وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا ‏{‏وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 44‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 116‏]‏، وقال هاهنا ‏{‏فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى‏}‏‏.‏

وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد، بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وإنما كانت حيلة، وكانوا جمًّا غفيرًا وجمعًا كبيرًا فألقى كل منهم عصا وحبلا حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها بعضًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى‏}‏ أي خاف على الناس أن يَفْتَتِنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه، فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن ‏{‏وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ‏}‏ يعني‏:‏ عصاه، فإذا هي ‏{‏تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا‏}‏ وذلك أنها صارت تِنِّينًا عظيما هائلا ذا عيون وقوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئًا إلا تلقفته وابتلعته، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانًا جَهْرة، نهارًا ضحوة‏.‏ فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وبطل ما كانوا يعملون؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏}‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا محمد بن موسى الشيباني حدثنا حماد بن خالد، حدثنا ابن معاذ -أحسبه الصائغ- عن الحسن، عن جُنْدَب بن عبد الله البجلي قال‏:‏ قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم ‏"‏إذا أخذتم -يعني الساحر- فاقتلوه‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏لا يؤمن به حيث وجد‏"‏‏.‏ وقد روى أصله الترمذي موقوفًا ومرفوعًا‏.‏

فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه، ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه، علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه، ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون، فعند ذلك وقعوا سُجَّدًا لله وقالوا‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 47، 48‏]‏‏.‏

ولهذا قال ابن عباس، وعُبَيد بن عُمَير‏:‏كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة‏.‏

قال محمد بن كعب‏:‏ كانوا ثمانين ألفًا، وقال القاسم بن أبي بزَّة‏:‏ كانوا سبعين ألفًا‏.‏

وقال السدي‏:‏ بضعة وثلاثين ألفًا‏.‏

وقال الثوري‏:‏ عن عبد العزيز بن رُفَيْع، عن أبي ثمامة‏:‏ كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفًا‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كانوا خمسة عشر ألفًا‏.‏

وقال كعب الأحبار كانوا اثني عشر ألفًا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن علي بن حمزة، حدثنا علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كانت السحرة سبعين رجلا أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا المسيب بن واضح بمكة، حدثنا ابن المبارك قال‏:‏ قال الأوزاعي‏:‏ لما خرَّ السحرة سُجَّدًا رُفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها‏.‏

قال‏:‏ وذُكر عن سعيد بن سلام‏:‏ حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سليمان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قوله‏:‏ ‏{‏فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا‏}‏ قال‏:‏ رأوا منازلهم تبني لهم وهم في سجودهم‏.‏ وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بَزَّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71 - 73‏]‏

‏{‏قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل، حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم وغُلِب كل الغلب -شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة، فتهددهم وأوعدهم وقال ‏{‏آمَنْتُمْ لَهُ‏}‏ أي‏:‏ صدقتموه ‏{‏قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ وما أمرتكم بذلك، وافتتم عليّ في ذلك‏.‏ وقال قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بَهْت وكذب‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ‏}‏ أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه عليّ وعلى رعيتي، لتظهروه، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف 123‏]‏‏.‏

ثم أخذ يتهددهم فقال‏:‏ ‏{‏فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏}‏ أي‏:‏ لأجعلنكم مثلة ‏[‏ولأقتلنكم‏]‏ ولأشهرنكم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فكان أول من فعل ذلك‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى‏}‏ أي أنتم تقولون‏:‏ إني وقومي على ضلالة، وأنتم مع موسى وقومه على الهدى‏.‏ فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه‏.‏

فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل، و‏{‏قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ‏}‏ أي‏:‏ لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين‏.‏ ‏{‏وَالَّذِي فَطَرَنَا‏}‏ يحتمل أن يكون قسمًا، ويحتمل أن يكون معطوفًا على البينات‏.‏

يعنون‏:‏ لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، المبتدئ خلقنا من الطين، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت‏.‏

‏{‏فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ‏}‏ أي‏:‏ فافعل ما شئت وما وَصَلَت إليه يدك، ‏{‏إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ إنما لك تَسَلُّط في هذه الدار، وهي دار الزَّوال ونحن قد رغبنا في دار القرار‏.‏

‏{‏إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا‏}‏ أي‏:‏ ما كان منا من الآثام، خصوصًا ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ‏}‏ قال‏:‏ أخذ فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر بالفَرَمَا، وقال‏:‏ علموهم تعليمًا لا يعلمه أحد في الأرض‏.‏قال ابن عباس‏:‏ فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم من الذين قالوا‏:‏ ‏{‏‏[‏إِنَّا‏]‏ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ‏}‏‏.‏ وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ أي‏:‏ خير لنا منك ‏{‏وَأَبْقَى‏}‏ أي‏:‏ أدوم ثوابًا مما كنت وعدتنا ومنيتنا‏.‏ وهو رواية عن ابن إسحاق، رحمه الله‏.‏

وقال محمد بن كعب القُرَظِي‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَيْرُ‏}‏ أي‏:‏ لنا منك إن أطيع، ‏{‏وَأَبْقَى‏}‏ أي‏:‏ منك عذابًا إن عُصِيَ‏.‏

وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضًا‏:‏ والظاهر أن فرعون -لعنه الله- صمم على ذلك وفعله بهم، رحمهم الله؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف‏:‏ أصبحوا سحرة، وأمسَوْا شهداء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74 - 76‏]‏

‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى‏}‏

الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد، فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا‏}‏ أي‏:‏ يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم، ‏{‏فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 36‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 11-13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 77‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا إسماعيل، أخبرنا سعيد بن يزيد، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ‏[‏الناس‏]‏ تصيبهم النار بذنوبهم، فتميتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا، أذن في الشفاعة، جيء بهم ضبائر، ضبائر، فبُثُّوا على أنهار الجنة، فيقال‏:‏ يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل‏"‏فقال رجل من القوم‏:‏ كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية‏.‏

وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل، كلاهما عن أبي مَسْلَمة سعيد بن يزيد به‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال‏:‏ حدثنا أبي حدثنا حيان، سمعت سليمان التيمي، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ فأتى على هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا‏}‏، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما أهلها الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا من أهلها، فإن النار تمسهم، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فتجعل الضبائر، فيؤتى بهم نهرا يقال له‏:‏ الحياة -أو‏:‏ الحيوان- فينبتون كما ينبت القثَّاء في حميل السيل‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ‏}‏ أي‏:‏ ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب، قد صدق ضميره بقوله وعمله، ‏{‏فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا‏}‏ أي‏:‏ الجنة ذات الدرجات العاليات، والغرف الآمنات، والمساكن الطيبات‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، أنبأنا هَمَّام، حدثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس‏"‏‏.‏ ورواه الترمذي، من حديث يزيد بن هارون، عن همام، به‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال‏:‏ كان يقال‏:‏ الجنة مائة درجة، في كل درجة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فيهن الياقوت والحلي، في كل درجة أمير، يرون له الفضل والسؤدد‏.‏

وفي الصحيحين‏:‏ ‏"‏أن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين‏"‏‏.‏ وفي السنن‏:‏ ‏"‏وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي‏}‏ أي‏:‏ إقامة وهو بدل من الدرجات العلى، ‏{‏‏[‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ‏]‏ خَالِدِينَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ ماكثين أبدا، ‏{‏وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى‏}‏ أي‏:‏ طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا شريك له، وصدق المرسلين فيما جاءوا به من خَبَر وطلب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77 - 79‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى‏}‏

يقول تعالى مخبرًا أنه أمر موسى، عليه السلام، حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، أن يسري بهم في الليل، ويذهب بهم من قبضة فرعون‏.‏ وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة‏.‏ وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب، فغضب فرعون غضبًا شديدًا وأرسل في المدائن حاشرين، أي من يجمعون له الجند من بلدانه ورَسَاتيقه، يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 54، 55‏]‏ ثم لما جمع جنده واستوثق له جيشه، ساق في طلبهم ‏{‏فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 60‏]‏ أي‏:‏ عند طلوع الشمس ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ‏}‏ أي‏:‏ نظر كل من الفريقين إلى الآخر ‏{‏قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 61، 62‏]‏، ووقف موسى ببني إسرائيل، البحر أمامهم، وفرعون وراءهم، فعند ذلك أوحى الله إليه أن ‏{‏اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا‏}‏ فضرب البحر بعصاه، وقال‏:‏ ‏"‏انفلق بإذن الله‏"‏ ‏{‏فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏ أي‏:‏ الجبل العظيم‏.‏ فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يابسا كوجه الأرض؛ فلهذا قال‏:‏ ‏{‏فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا‏}‏ أي‏:‏ من فرعون، ‏{‏وَلا تَخْشَى‏}‏ يعني‏:‏ من البحر أن يغرق قومك‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ‏}‏ أي‏:‏ البحر ‏{‏مَا غَشِيَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ الذي هو معروف ومشهور‏.‏ وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 53، 54‏]‏، وكما قال الشاعر‏:‏

أنَا أبُو النَّجْم وشِعْري شِعْري

أي‏:‏ الذي يعرف، وهو مشهور‏.‏

وكما تقدمهم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد، كذلك ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 98‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80 - 82‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى‏}‏

يذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام، ومننه الجسام، حيث نَجَّاهم من عدوهم فرعون، وأقر أعينهم منه، وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما قال ‏[‏تعالى‏]‏‏:‏‏}‏ ‏{‏وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا رَوْح بن عبادة، حدثنا شعبة، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم عاشوراء، فسألهم فقالوا‏:‏ هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون، فقال‏:‏ ‏"‏نحن أولى بموسى فصوموه ‏"‏ رواه مسلم أيضًا في صحيحه‏.‏

ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن، وهو الذي كلمه تعالى عليه، وسأل فيه الرؤية، وأعطاه التوراة هناك‏.‏ وفي غُضُون ذلك عَبَدَ بنو إسرائيل العجل، كما يقصه تعالى قريبا‏.‏

وأما المن والسلوى، فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ وغيرها‏.‏ فالمن‏:‏ حلوى كانت تنزل عليه من السماء‏.‏ والسّلوى‏:‏ طائر يسقط عليهم، فيأخذون من كل، قدر الحاجة إلى الغد، لطفًا من الله ورحمة بهم، وإحسانًا إليهم؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي‏}‏ أي‏:‏ كلوا من هذا ‏[‏الرزق‏]‏ الذي رزقتكم، ولا تطغوا في رزقي، فتأخذوه من غير حاجة، وتخالفوا ما آمركم به، ‏{‏فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي‏}‏ أي‏:‏ أغضب عليكم ‏{‏وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى‏}‏ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ أي‏:‏ فقد شقي‏.‏

وقال شُفَيّ بن ماتع‏:‏ إن في جهنم قصرًا يُرمى الكافر من أعلاه، فيهوي في جهنم أربعين خريفًا قبل أن يبلغ الصلصال، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى‏}‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا‏}‏ أي‏:‏ كل من تاب إليّ تبتُ عليه من أي ذنب كان، حتى إنه تعالى تاب على من عبد العجل من بني إسرائيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَابَ‏}‏ أي‏:‏ رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو نفاق أو معصية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَآمَنَ‏}‏ أي‏:‏ بقلبه ‏{‏وَعَمِلَ صَالِحًا‏}‏ أي‏:‏ بجوارحه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اهْتَدَى‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ أي ثم لم يشكك‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اهْتَدَى‏}‏ أي‏:‏ استقام على السنة والجماعة‏.‏ ورُوي نحوه عن مجاهد، والضحاك، وغير واحد من السلف‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اهْتَدَى‏}‏ أي‏:‏ لزم الإسلام حتى يموت‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اهْتَدَى‏}‏ أي‏:‏ علم أن لهذا ثوابًا‏.‏

وثم هاهنا لترتيب الخبر على الخبر، كقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 17‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83 - 89‏]‏

‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا‏}‏

لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، وافوا ‏{‏عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138، 139‏]‏ وواعده ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها أي‏:‏ قادمون ينزلون قريبًا من الطور، ‏{‏وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى‏}‏ أي‏:‏ لتزداد عني رضا، ‏{‏قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ‏}‏ أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل، وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري‏.‏ وفي الكتب الإسرائيلية‏:‏ أنه كان اسمه هارون أيضًا، وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏ أي‏:‏ عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا‏}‏ أي‏:‏ بعد ما أخبره تعالى بذلك، في غاية الغضب والحَنَق عليهم، هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم، وتَسَلّم التوراة التي فيها شريعتهم، وفيها شرف لهم‏.‏ وهم قوم قد عبدوا غير الله ما يَعْلَمُ كل عاقل له لب ‏[‏وحزم‏]‏ بطلان ‏[‏ما هم فيه‏]‏ وسخافة عقولهم وأذهانهم؛ ولهذا رجع إليهم غضبان أسفًا، والأسف‏:‏ شدة الغضب‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏غَضْبَانَ أَسِفًا‏}‏ أي‏:‏ جزعًا‏.‏ وقال قتادة، والسدي‏:‏ ‏{‏أَسِفًا‏}‏ أي‏:‏ حزينًا على ما صنع قومه من بعده‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا‏}‏ أي‏:‏ أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة، وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم، وإظهاركم عليه، وغير ذلك من أياديه عندكم‏؟‏ ‏{‏أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ‏}‏ أي‏:‏ في انتظار ما وعدكم الله‏.‏ ونسيان ما سلف من نعمه، وما بالعهد من قدم‏.‏ ‏{‏أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏"‏أم‏"‏ هاهنا بمعنى ‏"‏بل‏"‏ وهي للإضراب عن الكلام الأول، وعدول إلى الثاني، كأنه يقول‏:‏ بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم ‏{‏فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا‏}‏ أي‏:‏ بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم‏:‏ ‏{‏مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا‏}‏ أي‏:‏ عن قدرتنا واختيارنا‏.‏

ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حُلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم، حين خرجوا من مصر، ‏{‏فَقَذَفْنَاهَا‏}‏ أي‏:‏ ألقيناها عنا‏.‏ وقد تقدم في حديث ‏"‏الفتون‏"‏ أن هارون عليه السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار‏.‏

وفي رواية السُّدِّيّ، عن أبي مالك، عن ابن عباس‏:‏ إنما أراد هارون أن يجتمع الحُلي كله في تلك الحفيرة ويجعل حجرًا واحدًا‏.‏ حتى إذا رجع موسى يرى فيه ما يشاء‏.‏ ثم جاء ‏[‏بعد‏]‏ ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول، وسأل هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته، فدعا له هارون -وهو لا يعلم ما يريد -فأجيب له فقال السامري عند ذلك‏:‏ أسأل الله أن يكون عجلا‏.‏ فكان عجلا له خُوار، أي‏:‏ صوت، استدراجًا وإمهالا ومحنة واختبارًا؛ ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ‏}‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عبادة بن البَخْتَريّ حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حَمَّادعن سماك، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ أن هارون مَرَّ بالسامري وهو ينحت العجل، فقال له‏:‏ ما تصنع‏؟‏ فقال‏:‏ أصنع ما يضر ولا ينفع فقال هارون‏:‏ اللهم اعطه ما سأل على ما في نفسه ومضى هارون، فقال السامري‏:‏ اللهم إني أسألك أن يَخُور فَخَار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رؤوسهم‏.‏

ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال‏:‏ ‏[‏أعمل‏]‏ ما ينفع ولا يضر‏.‏ وقال السدي‏:‏ كان يخور ويمشي‏.‏

فقالوا -أي‏:‏ الضُّلال منهم، الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه -‏:‏ ‏{‏هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ‏}‏ أي‏:‏ نسيه هاهنا، وذهب يتطلبه‏.‏ كذا تقدم في حديث ‏"‏الفتون‏"‏ عن ابن عباس‏.‏ وبه قال مجاهد‏.‏

وقال سِماك عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَنَسِيَ‏}‏ أي‏:‏ نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فقالوا‏:‏ ‏{‏هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى‏}‏ قال‏:‏ فعكفوا عليه وأحبوه حبًّا لم يحبوا شيئًا قط يعني مثله، يقول الله‏:‏ ‏{‏فَنَسِيَ‏}‏ أي‏:‏ ترك ما كان عليه من الإسلام يعني‏:‏ السامري‏.‏

قال الله تعالى ردًّا عليهم، وتقريعًا لهم، وبيانًا لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا‏}‏ أي‏:‏ العجل ‏{‏أَفَلا يَرَوْنَ‏}‏ أنه لا يجيبهم إذا سألوه، ولا إذا خاطبوه، ‏{‏وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا‏}‏ أي‏:‏ في دنياهم ولا في أخراهم‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنه لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج فيه، فيسمع له صوت‏.‏

وقد تقدم في متون الحديث عن الحسن البصري‏:‏ أن هذا العجل اسمه بهموت‏.‏

وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط، فألقوها عنهم، وعبدوا العجل‏.‏ فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر‏:‏ أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب -يعني‏:‏ هل يصلي فيه أم لا‏؟‏ -فقال ابن عمر، رضي الله عنه‏:‏ انظروا إلى أهل العراق، قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني‏:‏ الحسين -وهم يسألون عن دم البعوض‏؟‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90 - 91‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى‏}‏

يخبر تعالى عما كان من نَهْي هارون، عليه السلام، لهم عن عبادة العجل، وإخباره إياهم‏:‏ إنما هذا فتنة لكم ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ‏}‏ الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا، ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد ‏{‏فَاتَّبِعُونِي‏}‏ أي‏:‏ فيما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه‏.‏

‏{‏قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى‏}‏ أي‏:‏ لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه‏.‏ وخالفوا هارون في ذلك وحاربوه وكادوا أن يقتلوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92 - 94‏]‏

‏{‏قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي‏}‏

يقول مخبرًا عن موسى، عليه السلام، حين رجع إلى قومه، فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غيظًا، وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وقد قدمنا في ‏"‏الأعراف‏"‏ بسط ذلك، وذكرنا هناك حديث ‏"‏ليس الخبر كالمعاينة‏"‏‏.‏

وشرع يلوم أخاه هارون فقال‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِ‏}‏ أي‏:‏ فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع ‏{‏أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي‏}‏ أي‏:‏ فيما كنت تقدمت إليك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏يَا ابْنَ أُمَّ‏}‏ ترفق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هاهنا أرق وأبلغ، أي‏:‏ في الحنو والعطف؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي‏}‏‏.‏

هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه، حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم قال ‏{‏إِنِّي خَشِيتُ‏}‏ أن أتبعك فأخبرك بهذا، فتقول لي‏:‏ لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم ‏{‏وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي‏}‏ أي‏:‏ وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ وكان هارون هائبًا له مطيعًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95 - 98‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا‏}‏

يقول موسى، عليه السلام، للسامري‏:‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت‏؟‏

قال محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان السامري رجلا من أهل بَاجَرْمَا، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حُبُّ عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل‏.‏ وكان اسم السامري‏:‏ موسى بن ظفر‏.‏

وفي رواية عن ابن عباس‏:‏ ‏[‏إنه‏]‏ كان من كرمان‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان من قرية اسمها سامرا‏.‏

‏{‏قال بصرت بما لم يبصروا به‏}‏ أي‏:‏ رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون، ‏{‏فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ‏}‏ أي‏:‏ من أثر فرسه‏.‏ وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، أخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي بن عمارة، عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ إن جبريل، عليه السلام، لما نزل فصعد بموسى إلى السماء، بصر به السامري من بين الناس، فقبض قبضة من أثر الفرس قال‏:‏ وحمل جبريل موسى خلفه، حتى إذا دنا من باب السماء، صعد وكتب الله الألواح وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح‏.‏ فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده قال‏:‏ نزل موسى، فأخذ العجل فأحرقه‏.‏ غريب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ‏}‏ قال‏:‏ من تحت حافر فرس جبريل، قال‏:‏ والقبضة ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع‏.‏

قال مجاهد‏:‏ نبذ السامري، أي‏:‏ ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلا جسدًا له خُوار حفيف الريح فيه، فهو خواره‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن يحيى، أخبرنا علي بن المديني، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا عمارة، حدثنا عكرمة؛ أن السامري رأى الرسول، فألقي في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء، فقلت له‏:‏ ‏"‏كن فكان‏"‏ فقبض قبضة من أثر الرسول، فيبست أصابعه على القبضة، فلما ذهب موسى للميقات وكان بنو إسرائيل استعاروا حلي آل فرعون، فقال لهم السامري‏:‏ إنما أصابكم من أجل هذا الحلي، فاجمعوه‏.‏ فجمعوه، فأوقدوا عليه، فذاب، فرآه السامري فألقي في روعه أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت‏:‏ ‏"‏كن‏"‏ كان‏.‏ فقذف القبضة وقال‏:‏ ‏"‏كن‏"‏، فكان عجلا له خوار، فقال‏:‏ ‏{‏هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى‏}‏‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَنَبَذْتُهَا‏}‏ أي‏:‏ ألقيتها مع من ألقى، ‏{‏وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي‏}‏ أي‏:‏ حَسَّنَتْهُ وأعجبها إذ ذاك‏.‏

‏{‏قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ‏}‏ أي‏:‏ كما أخذت ومَسَسْتَ ما لم

يكن أخذه ومسه من أثر الرسول، فعقوبتك في الدنيا أن تقول‏:‏ ‏"‏لا مساس‏"‏ أي‏:‏ لا تماسّ الناس ولا يمسونك‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، ‏{‏لَنْ تُخْلَفَهُ‏}‏ أي‏:‏ لا محيد لك عنه‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ‏}‏ قال‏:‏ عقوبة لهم، وبقاياهم اليوم يقولون‏:‏ لا مساس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ‏}‏ قال الحسن، وقتادة، وأبو نَهِيك‏:‏ لن تغيب عنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ‏}‏ أي‏:‏ معبودك، ‏{‏الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا‏}‏ أي‏:‏ أقمت على عبادته، يعني‏:‏ العجل ‏{‏لنحرقنه‏}‏ قال الضحاك عن ابن عباس، والسدي‏:‏ سَحَله بالمبارد، وألقاه على النار‏.‏

وقال قتادة‏:‏ استحال العجل من الذهب لحمًا ودمًا، فحرقه بالنار، ثم ألقاه، أي‏:‏ رماده في البحر؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا‏}‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ إن موسى لما تعجل إلى ربه، عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل، ثم صوره عجلا قال‏:‏ فعمد موسى إلى العجل، فوضع عليه المبارد، فبرّده بها، وهو على شط نهر، فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب‏.‏ فقالوا لموسى‏:‏ ما توبتنا‏؟‏ قال‏:‏ يقتل بعضكم بعضًا‏.‏

وهكذا قال السدي‏:‏ وقد تقدم في تفسير سورة ‏"‏البقرة‏"‏ ثم في حديث ‏"‏الفتون‏"‏ بسط ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ ‏[‏وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا‏}‏ يقول لهم موسى، عليه السلام‏:‏ ليس هذا إلهكم، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو‏]‏ أي‏:‏ لا يستحق ذلك على العباد إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له، فإن كل شيء فقير إليه، عبد لربه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا‏}‏ نصب على التمييز، أي‏:‏ هو عالم بكل شيء، ‏{‏أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏، ‏{‏وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 28‏]‏، فلا ‏{‏يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏، ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏، ‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏ والآيات في هذا كثيرة جدًّا‏.‏