فصل: تفسير الآيات رقم (28 - 29)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏28 - 29‏]‏

‏{‏لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ منافع الدنيا والآخرة؛ أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البُدْن والربح والتجارات‏.‏ وكذا قال مجاهد، وغير واحد‏:‏ إنها منافع الدنيا والآخرة، كقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ ‏[‏فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ‏]‏ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ‏}‏ قال شعبة ‏[‏وهُشَيْم‏]‏ عن ‏[‏أبي بشر عن سعيد‏]‏ عن ابن عباس‏:‏ الأيام المعلومات‏:‏ أيام العشر، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به‏.‏ ويروى مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النَّخعي‏.‏ وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن عَرْعَرَة، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما العمل في أيام أفضل منها في هذه‏"‏ قالوا‏:‏ ولا الجهاد في سبيل الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل، يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء‏"‏‏.‏

ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن غريب صحيح‏.‏ وفي الباب عن ابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقصيت هذه الطرق، وأفردت لها جزءًا على حدته ، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عَفَّان، أنبأنا أبو عَوَانة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العملُ فيهن، من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهم من التهليل والتكبير والتحميد‏"‏ وروي من وجه آخر، عن مجاهد، عن ابن عمر، بنحوه ‏.‏ وقال البخاري‏:‏ وكان ابن عمر، وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما‏.‏

وقد روى أحمد عن جابر مرفوعا‏:‏ أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله‏:‏ ‏{‏وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ إنه المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏‏.‏

وفي سنن أبي داود‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر‏.‏

وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة، فقال‏:‏ ‏"‏أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والآتية‏"‏‏.‏ ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله‏.‏

وبالجملة، فهذا العشر قد قيل‏:‏ إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، ففضله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك، من صيام وصلاة وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه‏.‏

وقيل‏:‏ ذاك أفضل لاشتماله على ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر‏.‏

وتوسط آخرون فقالوا‏:‏ أيام هذا أفضل، وليالي ذاك أفضل‏.‏ وبهذا يجتمع شمل الأدلة، والله أعلم‏.‏

قول ثان في الأيام المعلومات‏:‏ قال الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس‏:‏ الأيام المعلومات‏:‏ يوم النحر وثلاثة أيام بعده‏.‏ ويروى هذا عن ابن عمر، وإبراهيم النَّخَعي، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه‏.‏

قول ثالث‏:‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا علي بن المديني، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا ابن عَجْلان، حدثني نافع؛ أن ابن عمر كان يقول‏:‏ الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات ثلاثة أيام يوم النحر‏.‏

هذا إسناد صحيح إليه، وقاله السدي‏:‏ وهو مذهب الإمام مالك بن أنس، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ‏}‏ يعني به‏:‏ ذكر الله عند ذبحها‏.‏

قول رابع‏:‏ إنها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ حدثني ابن زيد بن أسلم، عن أبيه أنه قال‏:‏ المعلومات يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ‏}‏ يعني‏:‏ الإبل والبقر والغنم، كما فصلها تعالى في سورة الأنعام وأنها ‏{‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 143‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ‏}‏ استدل بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي وهو قول غريب، والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها‏.‏

وقال عبد الله بن وهب‏:‏ ‏[‏قال لي مالك‏:‏ أحب أن يأكل من أضحيته؛ لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا‏}‏‏:‏ قال ابن وهب‏]‏ وسألت الليث، فقال لي مثل ذلك‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا‏}‏ قال‏:‏ كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين، فمن شاء أكل، ومن شاء لم يأكل‏.‏ وروي عن مجاهد، وعطاء نحو ذلك‏.‏

قال هُشَيْم، عن حُصَين، عن مجاهد في قوله ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا‏}‏‏:‏ هي كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ‏}‏ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره، واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق منها بالنصف بقوله في هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ‏}‏، فجزأها نصفين‏:‏ نصف للمضحي، ونصف للفقراء‏.‏

والقول الآخر‏:‏ أنها تجزأ ثلاثة أجزاء‏:‏ ثلث له، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به؛ لقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ وسيأتي الكلام عليها عندها، إن شاء الله، وبه الثقة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الْبَائِسَ الْفَقِيرَ‏}‏، قال عكرمة‏:‏ هو المضطر الذي عليه البؤس، ‏[‏والفقير‏]‏ المتعفف‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هو الذي لا يبسط يده‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو الزّمِن‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ هو الضرير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ‏}‏‏:‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ هو وضع ‏[‏الإحرام‏]‏ من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار، ونحو ذلك‏.‏ وهكذا روى عطاء ومجاهد، عنه‏.‏ وكذا قال عكرمة، ومحمد بن كعب القُرَظي‏.‏

وقال عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ التفث‏:‏ المناسك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ‏}‏، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ نحر ما نذر من أمر البُدن‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ‏}‏‏:‏‏}‏ نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج‏.‏

وقال إبراهيم بن مَيْسَرَة، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ الذبائح‏.‏

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ‏}‏ كل نذر إلى أجل‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ‏}‏، قال‏:‏ ‏[‏حجهم‏.‏

وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان في قوله‏:‏ ‏{‏وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ‏}‏ قال‏:‏‏]‏ نذر الحج، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه‏:‏ الطواف بالبيت

وبين الصفا والمروة، وعرفة، والمزدلفة، ورمي الجمار، على ما أمروا به‏.‏ وروي عن مالك نحو هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏‏:‏ قال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ الطواف الواجب يوم النحر‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن أبي حمزة قال‏:‏ قال لي ابن عباس‏:‏ أتقرأ سورة الحج‏؟‏ يقول الله‏:‏ ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت‏.‏

قلت‏:‏ وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة، فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت‏.‏ وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏‏:‏ فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر؛ لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت، حين قصرت بهم النفقة؛ ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحِجْر، وأخبر أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم‏:‏

حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني، حدثنا سفيان، عن هشام بن حُجْر، عن رجل، عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه‏.‏

وقال قتادة، عن الحسن البصري في قوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏‏:‏ لأنه أول بيت وضع للناس‏.‏ وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

وعن عكرمة أنه قال‏:‏ إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح‏.‏

وقال خَصِيف‏:‏ إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح وليث عن مجاهد‏:‏ أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه‏.‏ وكذا قال قتادة‏.‏

وقال حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن بن مسلم، عن مجاهد‏:‏ لأنه لم يُرِده أحد بسوء إلا هلك‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن الزبير قال‏:‏ إنما سمي البيت العتيق؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد، حدثنا عبد الله بن صالح، أخبرني الليث، عن عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن محمد بن عروة، عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار‏"‏‏.‏

وكذا رواه ابن جرير، عن محمد بن سهل النجاري ، عن عبد الله بن صالح، به ‏.‏ وقال‏:‏ إن كان صحيحًا وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن غريب، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري، مرسلا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30 – 31‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك، وما لفاعلها من الثواب الجزيل‏.‏

‏{‏وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه، ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ‏}‏ أي‏:‏ فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر كبير، وكذلك على ترك المحرمات و‏[‏اجتناب‏]‏ المحظورات‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ‏}‏ قال‏:‏ الحرمة‏:‏ مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها‏.‏ وكذا قال ابن زيد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أحللنا لكم جميع الأنعام، وما جعل الله من بحيرة، ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من تحريم ‏{‏الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ‏[‏إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ‏]‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، قال ذلك ابن جرير، وحكاه عن قتادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ‏}‏‏:‏ ‏"‏من‏"‏ هاهنا لبيان الجنس، أي‏:‏ اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان‏.‏ وقرن الشرك بالله بقول الزور، كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، ومنه شهادة الزور‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا أنبئكم بأكبر الكبائر‏؟‏‏"‏ قلنا‏:‏ بلى، يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏الإشراك بالله وعقوق الوالدين -وكان متكئا فجلس، فقال‏:‏- ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور‏"‏‏.‏ فما زال يكررها، حتى قلنا‏:‏ ليته سكت‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، أنبأنا سفيان بن زياد، عن فاتك بن فضالة، عن أيمن بن خريم قال‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، عدلت شهادة الزور إشراكا بالله‏"‏ ثلاثا، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ‏}‏

وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية، به ثم قال‏:‏ ‏"‏غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد‏.‏ وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضا‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا سفيان العُصْفُرِيّ، عن أبيه، عن حبيب ابن النعمان الأسدي، عن خريم بن فاتك الأسدي قال‏:‏ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فلما انصرف قام قائما فقال‏:‏ ‏"‏عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عز وجل‏"‏، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن عاصم بن أبي النجود، عن وائل بن ربيعة، عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ تعدل شهادة الزور بالشرك بالله، ثم قرأ هذه الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حُنَفَاءَ لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل قصدا إلى الحق؛ ولهذا قال ‏{‏غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏

ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى فقال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ أي‏:‏ سقط منها، ‏{‏فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ‏}‏، أي‏:‏ تقطعه الطيور في الهواء، ‏{‏أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏ أي‏:‏ بعيد مهلك لمن هوى فيه؛ ولهذا جاء في حديث البراء‏:‏ ‏"‏إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت، وصعدوا بروحه إلى السماء، فلا تفتح له أبواب السماء، بل تطرح روحه طرحا من هناك‏"‏‏.‏ ثم قرأ هذه الآية، وقد تقدم الحديث في سورة ‏"‏إبراهيم‏"‏ بحروفه وألفاظه وطرقه‏.‏

وقد ضرب ‏[‏الله‏]‏ تعالى للمشرك مثلا آخر في سورة ‏"‏الأنعام‏"‏، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ‏[‏وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏]‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32 - 33‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ هذا ‏{‏وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ أوامره، ‏{‏فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ‏}‏ ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن، كما قال الحكم، عن مقْسَم، عن ابن عباس‏:‏ تعظيمها‏:‏ استسمانها واستحسانها‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشجّ، حدثنا حفص بن غياث، عن ابن أبي ليلى، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ‏}‏ قال‏:‏ الاستسمان والاستحسان والاستعظام‏.‏

وقال أبو أمامة بن سهل‏:‏ كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يُسمّنون‏.‏ رواه البخاري‏.‏

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏دم عفراءَ أحبّ إلى الله من دم سَوداوين‏"‏‏.‏ رواه أحمد، وابن ماجه‏.‏

قالوا‏:‏ والعفراء هي البيضاء بياضًا ليس بناصع، فالبيضاء أفضل من غيرها، وغيرها يجزئ أيضا؛ لما ثبت في صحيح البخاري، عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين‏.‏

وعن أبي سعيد‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن فَحيل يأكل في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد‏.‏ رواه أهل السنن، وصححه الترمذي ، أي‏:‏ بكبش أسود في هذه الأماكن‏.‏

وفي سنن ابن ماجه، عن أبي رافع‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين ‏.‏ قيل‏:‏ هما الخَصِيَان‏.‏ وقيل‏:‏ اللذان رُضَّ خُصْياهما، ولم يقطعهما، والله أعلم‏.‏

وكذا روى أبو داود وابن ماجه عن جابر‏:‏ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين ‏[‏والموجوءين قيل‏:‏ هما الخصيين‏]‏ ‏.‏

وعن علي رضي الله عنه، قال‏:‏ أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بمقابَلَة، ولا مدابَرَة، ولا شَرْقاء، ولا خَرْقاء‏.‏ رواه أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي‏.‏

ولهم عنه، قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُضحي بأعضب القرن والأذن‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ العضب‏:‏ النصْف فأكثر‏.‏

وقال بعض أهل اللغة‏:‏ إن كُسر قرنها الأعلى فهي قصماء، فأما العَضْب فهو كسر الأسفل، وعضب الأذن قطع بعضها‏.‏ وعند الشافعي أن التضحية بذلك مجزئة، لكن تكره‏.‏

وقال ‏[‏الإمام‏]‏ أحمد‏:‏ لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن؛ لهذا الحديث‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ، وإلا أجزأ، والله أعلم‏.‏

وأما المقابلة‏:‏ فهي التي قطع مقدم أذنها، والمدابرة‏:‏ من مؤخر أذنها‏.‏ والشرقاء‏:‏ هي التي قطعت أذنها طولا قاله الشافعي‏.‏ والخرقاء‏:‏ هي التي خَرَقت السّمَةُ أذنها خرقا مُدَوّرًا، والله أعلم‏.‏

وعن البراء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أربع لا تجوز في الأضاحي‏:‏ العوراء البيّن عَوَرها، والمريضة البين مَرَضها، والعرجاء البين ظَلَعها، والكسيرة التي لا تُنقِي‏"‏‏.‏

رواه أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي‏.‏

وهذه العيوب تنقص اللحم، لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي؛ لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى، فلهذا لا تجزئ التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة، كما هو ظاهر الحديث‏.‏

واختلف قول الشافعي في المريضة مرضًا يسيرًا، على قولين‏.‏

وروى أبو داود، عن عُتبة بن عبد السّلَمي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المُصْفَرَةِ، والمستأصَلَة، والبَخْقاء، والمشيَّعة، والكسراء ‏.‏

فالمصفرة قيل‏:‏ الهزيلة‏.‏ وقيل‏:‏ المستأصلة الأذنُ‏.‏ والمستأصلة‏:‏ المكسورة القرن‏.‏ والبخقاء‏:‏ هي العوراء‏.‏ والمشيعة‏:‏ هي التي لا تزال تُشَيَّع خَلفَ الغنم، ولا تَتْبَع لضعفها‏.‏ والكسراء‏:‏ العرجاء‏.‏

فهذه العيوب كلها مانعة ‏[‏من الإجزاء، فإن طرأ العيب‏]‏ بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عيبه عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة‏.‏

وقد روى الإمامُ أحمد، عن أبي سعيد قال‏:‏ اشتريت كبشا أضحي به، فعدا الذئب فأخذ الألية‏.‏ فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏ضَحِّ به‏"‏ ولهذا ‏[‏جاء‏]‏ في الحديث‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن‏.‏ أي‏:‏ أن تكون الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ أهدى عمر نَجيبًا، فأعطى بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، إني أهديت نجيبًا، فأعطِيتُ بها ثلاثمائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدْنًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا انحرها إياها‏"‏‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ البدن من شعائر الله‏.‏

وقال محمد بن أبي موسى‏:‏ الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والبدن والحلق‏:‏ من شعائر الله‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ أعظم الشعائر البيت‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ‏}‏ أي‏:‏ لكم في البدن منافع، من لبنها، وصوفها وأوبارها وأشعارها، وركوبها‏.‏

‏{‏إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏‏:‏ قال مِقْسَم، عن ابن عباس ‏[‏في قوله‏]‏‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ قال‏:‏ ما لم يسم بدنا‏.‏

وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏، قال‏:‏ الركوب واللبن والولد، فإذا سُمّيت بَدنَةً أو هَديًا، ذهب ذلك كله‏.‏ وكذا قال عطاء، والضحاك، وقتادة، ‏[‏ومقاتل‏]‏ وعطاء الخراساني، وغيرهم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل له أن ينتفع بها وإن كانت هديا، إذا احتاج إلى ذلك، كما ثبت في الصحيحين عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدَنَةً، قال‏:‏ ‏"‏اركبها‏"‏‏.‏ قال‏:‏ إنها بَدنَة‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏اركبها، ويحك‏"‏، في الثانية أو الثالثة‏.‏

وفي رواية لمسلم، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏اركبها بالمعروف إذا ألجئتَ إليها‏"‏‏.‏

وقال شعبة، عن زهير بن أبي ثابت الأعمى، عن المغيرة بن حَذْف، عن علي؛ أنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها، فقال‏:‏ لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدَها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ أي‏:‏ مَحِل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق، وهو الكعبة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏، وقال ‏{‏وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقد تقدم الكلام على معنى ‏"‏البيت العتيق‏"‏ قريبا، ولله الحمد‏.‏

وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء‏:‏ كان ابن عباس يقول‏:‏ كل من طاف بالبيت، فقد حل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 35‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنه لم يَزَل ذبحُ المناسك وإراقةُ الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع الملل‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا‏}‏ قال‏:‏ عيدًا‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ ذبحا‏.‏ وقال زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا‏}‏، إنها مكة، لم يجعل الله لأمة قط منسكا غيرها‏.‏

‏[‏وقوله‏]‏ ‏:‏ ‏{‏لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ‏}‏، كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فسمَّى وكبر، ووضع رجله على صِفَاحهما‏.‏

وقال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا سَلام بن مسكين، عن عائذ الله المجاشعي، عن أبي داود -وهو نُفَيْع بن الحارث- عن زيد بن أرقم قال‏:‏ قلت -أو‏:‏ قالوا-‏:‏ يا رسول الله، ما هذه الأضاحي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏سنة أبيكم إبراهيم‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ما لنا منها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بكل شعرة حسنة‏"‏ قالوا‏:‏ فالصوف‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بكل شعرة من الصوف حسنة‏"‏‏.‏

وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه في سننه، من حديث سلام بن مسكين، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا‏}‏ أي‏:‏ معبودكم واحد، وإن تَنوّعَت شرائع الأنبياء ونَسخَ بعضها بعضًا، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَلَهُ أَسْلِمُوا‏}‏ أي‏:‏ أخلصوا واستسلموا لحُكْمه وطاعته‏.‏

‏{‏وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ‏}‏‏:‏ قال مجاهد‏:‏ المطمئنين، وقال الضحاك، وقتادة‏:‏ المتواضعين‏.‏ وقال السدي‏:‏ الوجلين‏.‏ وقال عمرو بن أوس ‏:‏ المخبتون‏:‏ الذين لا يَظلمون، وإذا ظُلموا لم ينتصروا‏.‏

وقال الثوري‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ‏}‏ قال‏:‏ المطمئنين الراضين بقضاء الله، المستسلمين له‏.‏

وأحسن ما يفسّر بما بعده وهو قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ خافت منه قلوبُهم، ‏{‏وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من المصائب‏.‏

قال الحسن البصري‏:‏ والله لتصبرنّ أو لتهلكنّ‏.‏

‏{‏وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ‏}‏‏:‏ قرأ الجمهور بالإضافة‏.‏ السبعةَ، وبقيةَ العشرة أيضا‏.‏ وقرأ ابن السَّمَيْقَع‏:‏ ‏"‏والمقيمينَ الصلاة‏"‏ بالنصب‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ‏}‏، وإنما حذفت النون هاهنا تخفيفا، ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصلاة، ولكن على سبيل التخفيف فنصبت‏.‏

أي‏:‏ المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه، ‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأرقائهم وقراباتهم، وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى خلق الله مع محافظتهم على حدود الله‏.‏ وهذه بخلاف صفات المنافقين، فإنهم بالعكس من هذا كله، كما تقدم تفسيره في سورة ‏"‏براءة‏"‏ ‏[‏فلله الحمد والمنة‏]‏ ‏.‏

‏{‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏

يقول تعالى ممتنا على عباده فيما خلق لهم من البدن، وجعلها من شعائره، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام، بل هي أفضل ما يهدى ‏[‏إلى بيته الحرام‏]‏ ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ ‏[‏وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا‏]‏ الآية‏:‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

قال ابن جُرَيج‏:‏ قال عطاء في قوله‏:‏ ‏{‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏، قال‏:‏ البقرة، والبعير‏.‏ وكذا رُوي عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إنما البدن من الإبل‏.‏

قلت‏:‏ أما إطلاق البَدَنة على البعير فمتفق عليه، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة، على قولين، أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا كما صح في الحديث‏.‏

ثم جمهور العلماء على أنه تُجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، كما ثبت به الحديث عند مسلم، من رواية جابر بن عبد الله ‏[‏وغيره‏]‏، قال‏:‏ أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشتركَ في الأضاحي،البدنةُ عن سبعة، والبقرة عن سبعة‏.‏

‏[‏وقال إسحاق بنُ رَاهَويه وغيره‏:‏ بل تُجزئ البقرة عن سبعة، والبعير عن عشرة‏]‏ ‏.‏ وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد، وسنن النسائي، وغيرهما، فالله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ‏}‏، أي‏:‏ ثواب في الدار الآخرة‏.‏

وعن سليمان بن يزيد الكعبي، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما عَمِل ابن آدم يوم النحر عملا أحبّ إلى الله من هِرَاقه دم، وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان، قبل أن يقع على الأرض، فطِيبُوا بها نفسا‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه، والترمذي وحَسنه‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ كان أبو حاتم يستدين ويسوق البُدْن، فقيل له‏:‏ تستدين وتسوق البدن‏؟‏ فقال‏:‏ إني سمعت الله يقول‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ‏}‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما أنفقت الوَرقَ في شيء أفضلَ من نحيرة في يوم عيد‏"‏‏.‏ رواه الدارقطني في سننه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ‏}‏ قال‏:‏ أجر ومنافع‏.‏

وقال إبراهيم النَّخَعِيّ‏:‏ يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ‏}‏ وعن ‏[‏المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن‏]‏ جابر ابن عبد الله قال‏:‏ صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدَ الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه، فقال‏:‏ ‏"‏بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يُضَحِّ من أمتي‏"‏‏.‏ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن عباس، عن جابر قال‏:‏ ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد، فقال حين وجههما‏:‏ ‏"‏وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا مسلمًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين‏.‏ لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين، اللهم منك ولك، وعن محمد وأمته‏"‏‏.‏ ثم سمى الله وكبر وذبح‏.‏

وعن علي بن الحسين، عن أبي رافع؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ، ثم يقول‏:‏ ‏"‏اللهم هذا عن أمتي جميعها، مَنْ شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ‏"‏‏.‏ ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه، ثم يقول‏:‏ ‏"‏هذا عن محمد وآل محمد‏"‏ فيُطعمها جميعًا المساكين، ‏[‏ويأكل‏]‏ هو وأهله منهما‏.‏ رواه أحمد، وابن ماجه‏.‏

وقال الأعمش، عن أبي ظِبْيَان، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ‏}‏، قال‏:‏ قيام على ثلاث قوائم، معقولة يدُها اليسرى، يقول‏:‏ ‏"‏بسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك‏"‏‏.‏ وكذلك روى مجاهد، وعلي بن أبي طلحة، والعَوْفي، عن ابن عباس، نحو هذا‏.‏

وقال ليث‏.‏ عن مجاهد‏:‏ إذا عُقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث‏.‏ ورَوَى ابن أبي نَجِيح، عنه، نحوه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ تُعقل رجل واحدة فتكون على ثلاث‏.‏

وفي الصحيحين عن ابن عمر‏:‏ أنه أتى على رجل قد أناخ بَدَنته وهو ينحرها، فقال‏:‏ ابعثها قيامًا مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعن جابر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه كانوا ينحَرون البُدْن معقولةَ اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها‏.‏ رواه أبو داود‏.‏

وقال ابن لَهِيعة‏:‏ حدثني عطاء بن دينار، أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد الملك‏:‏ قفْ من شقها الأيمن، وانْحَر من شقها الأيسر‏.‏

وفي صحيح مسلم، عن جابر، في صفة حجة الوَدَاع، قال فيه‏:‏ فنحر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثًا وستين بَدَنة، جعل يَطعَنُها بحَربة في يده‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة قال‏:‏ في حرف ابن مسعود‏:‏ ‏"‏صوافن‏"‏، أي‏:‏ مُعقَّلة قياما‏.‏وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد‏:‏ مَن قرأها ‏"‏صوافن‏"‏ قال‏:‏ معقولة‏.‏ ومن قرأها ‏{‏صَوَافَّ‏}‏ قال‏:‏ تصف بين يديها‏.‏

وقال طاوس، والحسن، وغيرهما‏:‏ ‏"‏فاذكروا اسم الله عليها صوافي‏"‏ يعني‏:‏ خالصة لله عز وجل‏.‏ وكذا رواه مالك، عن الزهري‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ ‏"‏صوافيَ‏"‏‏:‏ ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا‏}‏ قال‏:‏ ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ سقطت إلى الأرض‏.‏

وهو رواية عن ابن عباس، وكذا قال مقاتل بن حيان‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا‏}‏ يعني‏:‏ نحرت‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا‏}‏ يعني‏:‏ ماتت‏.‏

وهذا القول هو مُرَادُ ابن عباس ومجاهد، فإنه لا يجوز الأكل من البَدَنة إذا نُحرت حتى تموت وتَبْرد حركتها‏.‏ وقد جاء في حديث مرفوع‏:‏ ‏"‏ولا تُعجِلُوا النفوسَ أن تَزْهَق‏"‏ ‏.‏ وقد رواه الثوري في جامعه، عن أيوب، عن يحيى ابن أبي كثير، عن فَرافصَة الحنفي، عن عمر بن الخطاب؛ أنه قال ذلك ويؤيده حديث شَدّاد بن أوس في صحيح مسلم‏:‏ ‏"‏إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ولْيُحدَّ أحدكم شَفْرَته، ولْيُرِحْ ذَبِيحته‏"‏‏.‏

وعن أبي واقد الليثي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما قُطع من البهيمة وهي حية، فهو ميتة‏"‏‏.‏ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ‏}‏ قال بعض السلف‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا‏}‏ أمر إباحة‏.‏

وقال مالك‏:‏ يستحب ذلك‏.‏ وقال غيره‏:‏ يَجِبُ‏.‏ وهو وَجْه لبعض الشافعية‏.‏ واختلف في المراد بالقانع والمعتر، فقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ القانع‏:‏ المستغني بما أعطيته، وهو في بيته‏.‏ والمعترّ‏:‏ الذي يتعرض لك، ويُلمّ بك أن تعطيه من اللحم، ولا يسأل‏.‏ وكذا قال مجاهد، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ القانع‏:‏ المتعفف‏.‏ والمعتر‏:‏ السائل‏.‏ وهذا قولُ قتادة، وإبراهيم النَّخَعي، ومجاهد في رواية عنه‏.‏

وقال ابن عباس، وزيد بن أسلم وعِكْرِمَة، والحسن البصري، وابن الكلبي، ومُقَاتِل بن حَيَّان، ومالك بن أنس‏:‏ القانع‏:‏ هو الذي يَقْنع إليك ويسألك‏.‏ والمعتر‏:‏ الذي يعتريك، يتضرع ولا يسألك‏.‏ وهذا لفظ الحسن‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ القانع‏:‏ هو السائل، ثم قال‏:‏ أما سمعت قول الشَّمَّاخ‏.‏

لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فَيُغْني *** مَفَاقِرَه ، أَعَفُّ مِنَ القُنُوع

قال‏:‏ يعني من السؤال، وبه قال ابن زيد‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ القانع‏:‏ المسكين الذي يطوف‏.‏ والمعتر‏:‏ الصديق والضعيف الذي يزور‏.‏ وهو رواية عن عبد الله بن زيد أيضا‏.‏

وعن مجاهد أيضا‏:‏ القانع‏:‏ جارك الغني ‏[‏الذي يبصر ما يدخل بيتك‏]‏ والمعتر‏:‏ الذي يعتريك من الناس‏.‏

وعنه‏:‏ أن القانع‏:‏ هو الطامع‏.‏ والمعتر‏:‏ هو الذي يَعْتَر بالبُدْن من غني أو فقير‏.‏

وعن عكرمة نحوه، وعنه القانع‏:‏ أهل مكة‏.‏

واختار ابنُ جرير أنّ القانع‏:‏ هو السائل؛ لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال، والمعتر من الاعترار، وهو‏:‏ الذي يتعرض لأكل اللحم‏.‏

وقد احتج بهذه الآية الكريمة مَن ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تُجزَّأ ثلاثة أجزاء‏:‏ فثلث لصاحبها يأكله ‏[‏منها‏]‏ ، وثلث يهديه لأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء؛ لأنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ‏}‏‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس‏:‏ ‏"‏إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا ما بدا لكم‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏فكلوا وادخروا وتصدقوا‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏فكلوا وأطعموا وتصدقوا‏"‏‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف، لقوله في الآية المتقدمة‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏، ولقوله في الحديث‏:‏ ‏"‏فكلوا وادخروا وتصدقوا‏"‏‏.‏

فإن أكل الكل فقيل‏:‏ لا يضمن شيئا‏.‏ وبه قال ابن سُرَيج من الشافعية‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها‏.‏ وقيل‏:‏ يضمن نصفها‏.‏ وقيل‏:‏ ثلثها‏.‏ وقيل‏:‏ أدنى جزء منها‏.‏ وهو المشهور من مذهب الشافعي‏.‏

وأما الجلود، ففي مسند أحمد عن قتادة ابن النعمان في حديث الأضاحي‏:‏ ‏"‏فكلوا وتصدقوا، واستمتعوا بجلودها، ولا تبيعوها‏"‏‏.‏

ومن العلماء من رخص ‏[‏في ذلك‏]‏، ومنهم من قال‏:‏ يقاسم الفقراء ثمنها، والله أعلم‏.‏

‏[‏مسألة‏]‏‏:‏

عن البراء بن عازب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر‏.‏ فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم ‏[‏عجله‏]‏ لأهله، ليس من النسك في شيء‏"‏ أخرجاه‏.‏

فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء‏:‏ إن أول وقت الأضحى إذا طلعت الشمس يوم النحر، ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين‏.‏ زاد أحمد‏:‏ وأن يذبح الإمام بعد ذلك، لما جاء في صحيح مسلم‏:‏ وألا تذبحوا حتى يذبح الإمام‏"‏‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ أما أهل السواد من القرى ونحوهم ، فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر، إذ لا صلاة عيد عنده لهم‏.‏ وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام، والله أعلم‏.‏

ثم قيل‏:‏ لا يشرع الذبح إلا يوم النحر وحده‏.‏ وقيل‏:‏ يوم النحر لأهل الأمصار، لتيسر الأضاحي عندهم، وأما أهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده، وبه قال سعيد بن جبير‏.‏ وقيل‏:‏ يوم النحر، ويوم بعده للجميع‏.‏ وقيل‏:‏ ويومان بعده، وبه قال أحمد‏.‏ وقيل‏:‏ يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده، وبه قال الشافعي؛ لحديث جبير بن مطعم‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏وأيام التشريق كلها ذبح‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن حبان‏.‏

وقيل‏:‏ إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة، وبه قال إبراهيم النَّخَعِيّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن‏.‏ وهو قول غريب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏‏:‏ يقول تعالى‏:‏ من أجل هذا ‏{‏سَخَّرْنَاهَا لَكُم‏}‏ أي‏:‏ ذللناها لكم، أي‏:‏ جعلناها منقادة لكم خاضعة، إن شئتم ركبتم، وإن شئتم حلبتم، وإن شئتم ذبحتم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏.‏ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ‏.‏ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71 -73‏]‏،

وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا، لتذكروه عند ذبحها، فإنه الخالق الرازق لا أنه يناله شيء من لحومها ولا دمائها، فإنه تعالى هو الغني عما سواه‏.‏

وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابتنهم، ونضحوا عليها من دمائها، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا‏}‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن أبي حماد، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج قال‏:‏ كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فنحن أحق أن ننضح، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يتقبل ذلك ويجزي عليه‏.‏

كما جاء في الصحيح‏:‏ ‏"‏إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم‏"‏ وما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض‏"‏ كما تقدم الحديث‏.‏ رواه ابن ماجه، والترمذي وحَسّنه عن عائشة مرفوعا‏.‏ فمعناه‏:‏ أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله، وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا، والله أعلم‏.‏

وقال وَكِيع، عن ‏[‏يحيى‏]‏ بن مسلم أبي الضحاك‏:‏ سألت عامرًا الشعبي عن جلود الأضاحي، فقال‏:‏ ‏{‏لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا‏}‏، إن شئت فبع، وإن شئت فأمسك، وإن شئت فتصدق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من أجل ذلك سخر لكم البُدن، ‏{‏لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه، وما يرضاه، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ وبشر يا محمد المحسنين، أي‏:‏ في عملهم، القائمين بحدود الله، المتبعين ما شَرَع لهم، المصدقين الرسولَ فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز وجل‏.‏

‏[‏مسألة‏]‏‏:‏

وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصابا، وزاد

أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضًا‏.‏ واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات، عن أبي هريرة مرفوعا‏:‏ ‏"‏من وجد سَعَة فلم يُضَحِّ، فلا يقربن مُصَلانا‏"‏ على أن فيه غرابة، واستنكره أحمد بن حنبل‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي‏.‏ رواه الترمذي‏.‏

وقال الشافعي، وأحمد‏:‏ لا تجب الأضحية، بل هي مستحبة؛ لما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ليس في المال حق سوى الزكاة‏"‏ ‏.‏ وقد تقدم أنه، عليه السلام ضحى عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم‏.‏

وقال أبو سَريحةَ‏:‏ كنت جارًا لأبي بكر وعمر، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ الأضحية سنة كفاية، إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة، سقطت عن الباقين؛ لأن المقصود إظهار الشعار‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، وأهل السنن -وحسنه الترمذي- عن مِخْنَف بن سليم؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات‏:‏ ‏"‏على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعَتِيرة، هل تدرون ما العتيرة‏؟‏ هي التي تدعونها الرَّجبية‏"‏‏.‏ وقد تكلم في إسناده‏.‏

وقال أبو أيوب‏:‏ كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، يأكلون ويطعمون ‏[‏حتى تباهي‏]‏ الناس فصار كما ترى‏.‏ رواه الترمذي وصححه، وابن ماجه‏.‏

وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله‏.‏ رواه البخاري‏.‏

وأما مقدار سِنّ الأضحية، فقد روى مسلم عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تذبحوا إلا مُسِنَّة، إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن‏"‏‏.‏

ويمكن أن يجاب بأن هذا الحديث لا يدل على الوجوب، كما في حديث‏:‏ ‏"‏من أكل الثوم فلا يقربن مصلانا‏"‏ ذكر ذلك ابن الجوزي وهناك لا يلزم استنكاره‏.‏

ومن هاهنا ذهب الزهري إلى أن الجذَعَ لا يجزئ‏.‏ وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجَذَع يجزئ من كل جنس، وهما غريبان‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ إنما يجزئ الثَّني من الإبل والبقر والمعز، والجذع من الضأن، فأما الثني من الإبل‏:‏ فهو الذي له خمس سنين، ودخل في السادسة‏.‏ ومن البقر‏:‏ ما له ‏[‏سنتان‏]‏ ودخل في ‏[‏الثالثة‏]‏ ، وقيل‏:‏ ‏[‏ما له‏]‏ ثلاث ‏[‏ودخل في‏]‏ الرابعة‏.‏ ومن المعز‏:‏ ما له سنتان‏.‏ وأما الجذع من الضأن فقيل‏:‏ ما له سنة، وقيل‏:‏ عشرة أشهر، وقيل‏:‏ ثمانية أشهر، وقيل‏:‏ ستة أشهر، وهو أقل ما قيل في سِنِّه، وما دونه فهو حَمَل، والفرق بينهما‏:‏ أن الحمل شعر ظهره قائم، والجذَع شعر ظهره نائم، قد انعدل صدْعين، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ‏}‏

يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 36‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يحب من عباده من اتصف بهذا، وهو الخيانة في العهود والمواثيق، لا يفي بما قال‏.‏ والكفر‏:‏ الجحد للنعم، فلا يعترف بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39 - 40‏]‏

‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏

قال العَوفي، عن ابن عباس‏:‏ نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة‏.‏

وقال غير واحد من السلف هذه أول آية نزلت في الجهاد، واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية، وقاله مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغير واحد‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يحيى بن داود الواسطي‏:‏ حدثنا إسحاق بن يوسف، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم -هو البَطِين- عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال‏:‏ لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر‏:‏ أخرجوا نبيهم‏.‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكُن‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ‏}‏، قال أبو بكر، رضي الله تعالى عنه‏:‏ فعرفت أنه سيكون قتال‏.‏ ورواه الإمام أحمد، عن إسحاق بن يوسف الأزرق، به وزاد‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ وهي أول آية نزلت في القتال‏.‏

ورواه الترمذي، والنسائي في التفسير من سننيهما، وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف -زاد الترمذي‏:‏ ووَكِيع، كلاهما عن سفيان الثوري، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن، وقد رواه غير واحد، عن الثوري، وليس فيه ابن عباس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكن هو يريد من عباده أن يبلوا جهدهم في طاعته، كما قال‏:‏ ‏{‏فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ‏.‏ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4 -6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ‏.‏ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14، 15‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 16‏]‏، ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ‏[‏اللَّهُ‏]‏ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 142‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 31‏]‏‏.‏

والآيات في هذا كثيرة؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ‏}‏ وقد فعل‏.‏

وإنما شرع ‏[‏الله‏]‏ تعالى الجهاد في الوقت الأليق به؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددًا، فلو أمرَ المسلمين، وهم أقل من العشر، بقتال الباقين لشَقَّ عليهم؛ ولهذا لما بايع أهلُ يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا نيفا وثمانين، قالوا‏:‏ يا رسول الله، ألا نميل على أهل الوادي -يعنون أهل مِنَى- ليالي مِنى فنقتلهم‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إني لم أومر بهذا‏"‏‏.‏ فلما بَغَى المشركون، وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وهموا بقتله، وشردوا أصحابه شَذرَ مَذَر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة‏.‏ فلما استقروا بالمدينة، ووافاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومَعْقلا يلجؤون إليه -شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ‏.‏ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ‏}‏ قال العَوْفي، عن ابن عباس‏:‏ أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق، يعني‏:‏ محمدًا وأصحابه‏.‏

‏{‏إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ ما كان لهم إلى قومهم إساءة، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له‏.‏ وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وأما عند المشركين فهو أكبر الذنوب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود‏:‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 8‏]‏‏.‏ ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق، ويقولون‏:‏ لا هُمّ لَولا أنتَ ما اهتَدَينا *** وَلا تَصَدّقَْنا وَلا صَلَّينَا

فَأنزلَنْ سَكينَةً عَلَينَا *** وَثَبّت الأقْدَامَ إنْ لاقَينَا

إنّ الألَى قد بَغَوا عَلَينَا *** إذَا أرَادوا فتْنَةً أبَيْنَا

فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول معهم آخر كل قافية، فإذا قالوا‏:‏ ‏"‏إذا أرادوا فتنة أبينا‏"‏، يقول‏:‏ ‏"‏أبينا‏"‏، يمد بها صوته‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ لولا أنه يدفع عن قوم بقوم، ويكشفُ شَرّ أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف‏.‏

‏{‏لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ‏}‏ وهي المعابد الصغار للرهبان، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والضحاك، وغيرهم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هي معابد الصابئين‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ صوامع المجوس‏.‏

وقال مقاتل بن حَيَّان‏:‏ هي البيوت التي على الطرق‏.‏

‏{‏وَبِيَعٌ‏}‏‏:‏ وهي أوسع منها، وأكثر عابدين فيها‏.‏ وهي للنصارى أيضًا‏.‏ قاله أبو العالية، وقتادة، والضحاك، وابن صخر، ومقاتل بن حيان، وخُصَيف، وغيرهم‏.‏

وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره‏:‏ أنها كنائس اليهود‏.‏ وحكى السدي، عمن حَدّثه، عن ابن عباس‏:‏ أنها كنائس اليهود، ومجاهد إنما قال‏:‏ هي الكنائس، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَصَلَوَاتٌ‏}‏‏:‏ قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ الصلوات‏:‏ الكنائس‏.‏ وكذا قال عكرمة، والضحاك، وقتادة‏:‏ إنها كنائس اليهود‏.‏ وهم يسمونها صَلُوتا‏.‏

وحكى السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس‏:‏ أنها كنائس النصارى‏.‏

وقال أبو العالية، وغيره‏:‏ الصلوات‏:‏ معابد الصابئين‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ الصلوات‏:‏ مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق‏.‏ وأما المساجد فهي للمسلمين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا‏}‏ فقد قيل‏:‏ الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يُذْكَرَ فِيهَا‏}‏ عائد إلى المساجد؛ لأنها أقرب المذكورات‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ الصوابُ‏:‏ لهدمت صوامع الرهبان وبِيعُ النصارى وصلوات اليهود، وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ هذا تَرَقٍّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد، وهي أكثر عُمَّارا وأكثر عبادا، وهم ذوو القصد الصحيح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ‏.‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ وَصَف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا، وبعزته لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، بل كل شيء ذليل لديه، فقير إليه‏.‏ ومن كان القويّ العزيز ناصرَه فهو المنصور، وعدوه هو المقهور، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ‏.‏ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ‏.‏ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171 -173‏]‏ وقال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏‏.‏