فصل: تفسير سورة المؤمنون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير سورة المؤمنون

مكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 11‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرني يونس بن سُلَيْم قال‏:‏ أملى عليَّ يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، عن عُرْوَة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عَبْدٍ القاريّ قال‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يقول‏:‏ كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيُ، يسمع عند وجهه كدَوِيّ النحل فَمَكثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يديه، فقال‏:‏‏"‏اللهم، زدنا ولا تَنْقُصْنا، وأكرمنا ولا تُهِنَّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثِرْنا ولا تؤثر ‏[‏علينا، وارض عنا‏]‏ وأرضِنا‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏لقد أنزلت علي عشر آيات، من أقامهن دخل الجنة‏"‏، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ حتى ختم العَشْر‏.‏

وكذا روى الترمذي في تفسيره، والنسائي في الصلاة، من حديث عبد الرزاق، به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ منكر، لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم، ويونس لا نعرفه‏.‏

وقال النسائي في تفسيره‏:‏ أنبأنا قُتَيْبَةَ بن سعيد، حدثنا جعفر، عن أبي عمران عن يزيد بن بابَنُوس قال‏:‏ قلنا لعائشة‏:‏ يا أم المؤمنين، كيف كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فقرأت‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ حتى انتهت إلى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏، قالت‏:‏ هكذا كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد رُوي عن كعب الأحبار، ومجاهد، وأبي العالية، وغيرهم‏:‏ لَمَّا خلق الله جنة عدن،

وغرسها بيده، نظر إليها وقال لها‏.‏ تكلمي‏.‏ فقالت‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏، قال كعب الأحبار‏:‏ لِمَا أعدَّ لهم فيها من الكرامة‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ فأنزل الله ذلك في كتابه‏.‏

وقد رُوي ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، فقال أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن المُثَنَّى، حدثنا المغيرة بن سلمة، حدثنا وُهَيْب، عن الجُرَيْري، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد قال‏:‏ خلق الله الجنة، لَبِنَةً من ذهب ولبنة من فضة، وغرسها، وقال لها‏:‏ تكلمي‏.‏ فقالت‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏، فدخلتها الملائكة فقالت‏:‏ طوبى لك، منزلَ الملوك‏!‏‏.‏

ثم قال ‏:‏ وحدثنا بِشْر بن آدم، وحدثنا يونس بن عبيد الله العُمَري، حدثنا عَدِي بن الفضل، حدثنا الجُرَيْرِي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏خلق الله الجنة، لَبِنَةً من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك‏"‏‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ ورأيت في موضع آخر في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏حائط الجنة، لبنة ذهب ولبنة فضة، ومِلاطُها المسك‏.‏ فقال لها‏:‏ تكلمي‏.‏ فقالت‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ فقالت الملائكة‏:‏ طوبى لك، منزل الملوك‏!‏‏"‏‏.‏

ثم قال البزار‏:‏ لا نعلم أحدًا رفعه إلا عَدِيّ بن الفضل، وليس هو بالحافظ، وهو شيخ متقدم الموت‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن علي، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا بَقِيَّة، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لمّا خلق الله جنة عَدْن، خلق فيها ما لا عين رأت، ‏[‏ولا أذن سمعت‏]‏ ، ولا خطر على قلب بشر‏.‏ ثم قال لها‏:‏ تكلمي‏.‏ فقالت‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

بَقِيًّة‏:‏ عن الحجازيين ضعيف‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا مِنْجَابُ بن الحارث، حدثنا حماد ابن عيسى العبسي، عن إسماعيل السُّدِّيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس -يرفعه-‏:‏ ‏"‏لما خلق الله جنة عَدْن بيده، ودَلَّى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏ قال‏:‏ وعزتي لا يجاورني فيك بخيل‏"‏‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا محمد بن المثنى البَزَّار، حدثنا محمد بن زياد الكلبي، حدثنا يعيش بن حسين، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قَتادة، عن أنس، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خلق الله جنة عدن بيده، لبنة من دُرَّة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زَبَرْجَدَةَ خضراء، ملاطُها المسك، وحَصْباؤها اللؤلؤ، وحَشِيشها الزعفران، ثم قال لها‏:‏ انطقي‏.‏ قالت‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ فقال الله‏:‏ وعزتي، وجلالي لا يجاورني فيك بخيل‏"‏‏.‏ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ قد فازوا وسُعِدُوا وحَصَلوا على الفلاح، وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف‏.‏

‏{‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ ‏"‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏خَاشِعُونَ‏}‏‏:‏ خائفون ساكنون‏.‏ وكذا روي عن مجاهد، والحسن، وقتادة، والزهري‏.‏

وعن علي بن أبي طالب، رَضِي الله عنه‏:‏ الخشوعُ‏:‏ خشوعُ القلبِ‏.‏ وكذا قال إبراهيم النخعي‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح‏.‏

وقال محمد بن سيرين‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏.‏ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم‏.‏

‏[‏و‏]‏ قال ابن سيرين‏:‏ وكانوا يقولون‏:‏ لا يجاوز بصره مُصَلاه، فإن كان قد اعتاد النظر فَلْيُغْمِضْ‏.‏ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم‏.‏

ثم رَوَى ابن جرير عنه، وعن عطاء بن أبي رَبَاح أيضًا مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، حتى نزلت هذه الآية‏.‏

والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فَرَّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقُرَّة عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏حُبِّبَ إليَّ الطِّيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا مِسْعَر، عن عمرو بن مُرَّة، عن سالم بن أبي الجَعْد،

عن رجل من أسلَم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يا بلال، أرحنا بالصلاة‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضًا؛ حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم ابن أبي الجعد، أن محمد بن الحنفية قال‏:‏ دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار، فحَضَرت الصلاة، فقال‏:‏ يا جارية، ائتني بوَضُوء لعلي أصلي فأستريح‏.‏ فرآنا أنكرنا عليه ذلك ، فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏قم يا بلال، فأرحنا بالصلاة‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ‏}‏ أي‏:‏ عن الباطل، وهو يشمل‏:‏ الشرك -كما قاله بعضهم- والمعاصي -كما قاله آخرون -وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 72‏]‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ أتاهم والله من أمر الله ما وقَذَهم عن ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ‏}‏‏:‏ الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال، مع أن هذه ‏[‏الآية‏]‏ مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة‏.‏ والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النَّصَب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبًا بمكة، كما قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية‏:‏ ‏{‏وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏‏.‏

وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا‏:‏ زكاة النفس من الشرك والدنس، كقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا‏.‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9، 10‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ‏.‏ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6، 7‏]‏، على أحد القولين في تفسيرها‏.‏

وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال؛ فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ‏.‏ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ‏}‏ أي‏:‏ والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، وما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ غير الأزواج والإماء، ‏{‏فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ‏}‏ أي‏:‏ المعتدون‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن امرأة

اتخذت مملوكها، وقالت‏:‏ تأَوّلْت آية من كتاب الله‏:‏ ‏{‏أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏ ‏:‏ فأُتي بها عمر ابن الخطاب، فقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ تأولت آية من كتاب الله على غير وجهها‏.‏ قال‏:‏ فَغرب العبد وجزّ رأسه‏:‏ وقال‏:‏ أنت بعده حرام على كل مسلم‏.‏ هذا أثر غريب منقطع، ذكره ابن جرير في أول تفسير سورة المائدة، وهو هاهنا أليق، وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها، والله أعلم‏.‏

وقد استدل الإمام الشافعي، رحمه الله، ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ‏.‏ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين، وقد قال‏:‏ ‏{‏فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ‏}‏ وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عَرَفَةَ في جزئه المشهور حيث قال‏:‏ حدثني علي بن ثابت الجَزَريّ، عن مسلمة بن جعفر، عن حسان بن حميد ، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يجمعهم مع العاملين، ويدخلهم النار أول الداخلين، إلا أن يتوبوا، فمن تاب تاب الله عليه‏:‏ ناكح يده ، والفاعل، والمفعول به، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب، وإسناده فيه من لا يعرف؛ لجهالته، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ‏}‏ أي‏:‏ إذا اؤتمنوا لم يخونوا، بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حَدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ أي‏:‏ يواظبون عليها في مواقيتها، كما قال ابن مسعود‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله، أيّ العمل أحب إلى الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الصلاة على وقتها‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أيّ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بِرُّ الوالدين‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الجهاد في سبيل الله‏"‏‏.‏

أخرجاه في الصحيحين ‏.‏ وفي مستدرك الحاكم قال‏:‏ ‏"‏الصلاة في أول وقتها‏"‏‏.‏

وقال ابن مسعود، ومسروق في قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ يعني‏:‏ مواقيت الصلاة‏.‏ وكذا قال أبو الضُّحَى، وعلقمة بن قيس، وسعيد بن جبير، وعكرمة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ على مواقيتها وركوعها وسجودها‏.‏

وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة، واختتمها بالصلاة، فدل على أفضليتها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن‏"‏‏.‏

ولَما وَصَفَهم ‏[‏الله‏]‏ تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏

وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما منكم من أحد إلا وله منزلان‏:‏ منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ‏}‏‏.‏

وقال ابن جُرَيْج، عن لَيْث، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ‏}‏ قال‏:‏ ما من عبد إلا وله منزلان‏:‏ منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأما المؤمن فيُبنَى بيته الذي في الجنة، ويُهدّم بيته الذي في النار، وأما الكافر فيُهْدَم بيته الذي في الجنة، ويُبنى بيته الذي في النار‏.‏ وروي عن سعيد بن جُبَيْر نحو ذلك‏.‏

فالمؤمنون يرثون منازل الكفار؛ لأنهم ‏[‏كلهم‏]‏ خلقوا لعبادة الله تعالى، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة، وترَكَ أولئك ما أمرُوا به مما خُلقوا له -أحرزَ هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل، بل أبلغ من هذا أيضًا، وهو ما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي بُردَةَ ، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضَعُها على اليهود والنصارى‏"‏‏.‏

وفي لفظ له‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا كان يوم القيامة دَفَعَ الله لكل مسلم يهوديًّا أو نصرانيًّا، فيقال ‏:‏ هذا فَكَاكُكَ من النار‏"‏‏.‏ فاستحلف عُمر بن عبد العزيز أبا بُردَةَ بالله الذي لا إله إلا هو، ثلاث مرات، أن أباه حَدَّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فحلف له‏.‏ قلت‏:‏ وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 63‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 73‏]‏‏.‏ وقد قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر‏:‏ الجنة بالرومية هي الفردوس‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ لا يسمى البستان فردوسًا إلا إذا كان فيه عنب، فالله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 16‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم، عليه السلام، خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون‏.‏

وقال الأعمش، عن المِنْهال بن عمرو، عن أبي يحيى، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ‏}‏ قال‏:‏ صَفوةُ الماء‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏مِنْ سُلالَةٍ‏}‏ أي‏:‏ من منيّ آدم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وإنما سمي آدم طينًا لأنه مخلوق منه‏.‏

وقال قتادة‏:‏ استُلّ آدمُ من الطين‏.‏ وهذا أظهر في المعنى، وأقرب إلى السياق، فإن آدم، عليه السلام، خلق من طين لازب، وهو الصلصال من الحمأ المسنون، وذلك مخلوق من التراب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عَوْف، حدثنا قَسَامة بن زُهَيْر، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قَدْر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض، وبين ذلك، والخبيث والطيب، وبين ذلك‏"‏‏.‏

وقد رواه أبو داود والترمذي، من طرق، عن عوف الأعرابي، به نحوه‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً‏}‏‏:‏ هذا الضمير عائد على جنس الإنسان، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7، 8‏]‏ أي‏:‏ ضعيف، كما قال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ‏.‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ‏}‏ ، يعني‏:‏ الرحمُ مُعَد لذلك مهيأ له، ‏{‏إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 22، 23‏]‏، أي‏:‏ ‏[‏إلى‏]‏ مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنَقَّل من حال إلى حال، وصفة إلى صفة؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً‏}‏ أي‏:‏ ثم صَيَّرنا النطفة، وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل -وهو ظهره- وترائب المرأة- وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى الثندوة- فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة‏.‏ قال عكرمة‏:‏ وهي دم‏.‏

‏{‏فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً‏}‏‏:‏ وهي قطعة كالبَضعة من اللحم، لا شكل فيها ولا تخطيط، ‏{‏فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا‏}‏ يعني‏:‏ شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها‏.‏

وقرأ آخرون‏:‏ ‏{‏فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ وهو عظم الصلب‏.‏

وفي الصحيح، من حديث أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كل جسد ابن آدم يبلى إلا عَجْبُ الذَّنَب، منه خلق ومنه يركب‏"‏‏.‏

‏{‏فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا‏}‏ أي‏:‏ وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه، ‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ‏}‏ أي‏:‏ ثم نفخنا فيه الروح، فتحرك وصار ‏{‏خَلْقًا آخَرَ‏}‏ ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا جعفر بن مُسافر، حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا النضر -يعني‏:‏ ابن كثير، مولى بني هاشم- حدثنا زيد بن علي، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال‏:‏ إذا أتمت النطفة أربعة أشهر، بُعِث إليها مَلك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ‏}‏ يعني‏:‏ نفخنا فيه الروح‏.‏

ورُوي عن أبي سعيد الخدري أنه نَفْخُ الروح‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ‏}‏ يعني به‏:‏ الروح ‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والشعبي، والحسن، وأبو العالية، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، وابنُ زيد، واختاره ابنُ جرير‏.‏

وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ‏}‏ يعني‏:‏ ننقله من حال إلى حال، إلى أن خرج طفلا ثم نشأ صغيرًا، ثم احتلم، ثم صار شابًّا، ثم كهلا ثم شيخًا، ثم هرما‏.‏

وعن قتادة، والضحاك نحو ذلك‏.‏ ولا منافاة، فإنه من ابتداء نفخ الروح ‏[‏فيه‏]‏ شَرَع في هذه التنقلات والأحوال‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال الإمام أحمد في مسنده‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله -هو ابن مسعود- قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق‏:‏ ‏"‏إن أحدكم ليُجمع خَلقُه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات‏:‏ رزقه، وأجله، وعمله، وهل هو شقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها‏"‏‏.‏ أخرجاه من حديث سليمانَ بن مِهْرَان الأعمش‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن خَيْثَمَة قال‏:‏ قال عبد الله -يعني‏:‏ ابن مسعود- إن النطفة إذا وقعت في الرحم، طارت في كل شعر وظفر، فتمكث أربعين يوما، ثم تتحدّر في الرحم فتكون علقة‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا حسين بن الحسن، حدثنا أبو كُدَيْنة، عن عطاء بن السائب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله قال‏:‏ مَرَّ يهوديّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه، فقالت قريش‏:‏ يا يهودي، إن هذا يَزعمُ أنه نبي‏.‏ فقال‏:‏ لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي‏.‏ قال‏:‏ فجاءه حتى جلس، فقال‏:‏ يا محمد، مِمَّ يخلق الإنسان‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا يهودي، من كلٍّ يُخْلَقُ، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعَصَب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم‏"‏ فقام اليهودي فقال‏:‏ هكذا كان يقول من قبلك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان عن عمرو، عن أبي الطُّفَيْل، حُذَيْفَة بن أُسَيْد الغفاري قال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏يدخل المَلك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة، فيقول‏:‏ يا رب، ماذا‏؟‏ أشقي أم سعيد‏؟‏ أذكر أم أنثى‏؟‏ فيقول الله، فيكتبان‏.‏ فيقولان‏:‏ ماذا‏؟‏ أذكر أم أنثى‏؟‏ فيقول الله عز وجل، فيكتبان ويُكْتَبُ عمله، وأثره، ومصيبته، ورزقه، ثم تطوى الصحيفة، فلا يُزاد على ما فيها ولا ينقص‏"‏‏.‏

وقد رواه مسلم في صحيحه، من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو -وهو ابن دينار- به نحوه‏.‏ ومن طُرَق أخرَى، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة الغفاري بنحوه، والله أعلم‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله وكّل بالرحم مَلكًا فيقول‏:‏ أي رب، نطفة‏.‏ أيْ رب، علقة أي رب، مضغة‏.‏ فإذا أراد الله خلقها قال‏:‏ يا رب، ذكر أو أنثى‏؟‏ شقي أو سعيد‏؟‏ فما الرزق والأجل‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏فذلك يكتب في بطن أمه‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏ يعني‏:‏ حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال، وشكل إلى شكل، حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السَّوِيّ الكامل الخلق، قال‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا علي بن زيد، عن أنس، قال‏:‏ قال عمر -يعني‏:‏ ابن الخطاب رضي الله عنه-‏:‏ وافقت ربي ووافقني في أربع‏:‏ نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ‏}‏ الآية، قلت أنا‏:‏ فتبارك الله أحسن الخالقين‏.‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏ وقال أيضًا‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شَيْبَان، عن جابر الجُعْفِي، عن عامر الشعبي، عن زيد بن ثابت الأنصاري قال‏:‏ أملى عليَّ رسولُ الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏خَلْقًا آخَرَ‏}‏، فقال معاذ‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال له معاذ‏:‏ مم ضحكت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بها ختمت ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏‏.‏

جابر بن يزيد الجُعْفِي ضعيف جدًّا، وفي خبره هذا نَكَارة شَديدة، وذلك أن هذه السورة مكية، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة، وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضًا، فالله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بعد هذه النشأة الأولى من العدم تَصيرون إلى الموت، ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ‏}‏ يعني‏:‏ النشأة الآخرة، ‏{‏ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏20‏]‏ يعني‏:‏ يوم المعاد، وقيام الأرواح والأجساد، فيحاسب الخلائق، ويوفي كل عامل عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ‏}‏

لما ذكر تعالى خَلْق الإنسان، عطف بذكر خلق السموات السبع، وكثيرًا ما يذكر تعالى خلق السموات والأرض مع خلق الإنسان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏57‏]‏‏.‏ وهكذا في أول ‏{‏الم‏}‏ السجدة، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ‏[‏في‏]‏ صبيحة يوم الجمعة، في أولها خَلْقُ السموات والأرض، ثم بيان خلق الإنسان من سلالة من طين، وفيها أمر المعاد والجزاء، وغير ذلك من المقاصد‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏سَبْعَ طَرَائِقَ‏}‏‏:‏ قال مجاهد‏:‏ يعني السموات السبع، وهذه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏، ‏{‏أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏15‏]‏، ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏12‏]‏‏.‏ وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرُج فيها، وهو معكم أينما كنتم، والله بما تعملون بصير‏.‏ وهو -سبحانه- لا يَحجبُ عنه سماء سماء، ولا أرض أرضًا، ولا جبل إلا يعلم ما في وَعْره، ولا بحر إلا يعلم ما في قَعْره، يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال، والبحار والقفار والأشجار، ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18 - 22‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ‏}‏

يذكر تعالى نعمه على عبيده التي لا تعدّ ولا تحصى، في إنزاله القَطْر من السماء ‏{‏بِقَدَرٍ‏}‏ أي‏:‏ بحسب الحاجة، لا كثيرًا فيفسد الأرض والعمران، ولا قليلا فلا يكفي الزروع والثمار، بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيرًا لزرعها ولا تحتمل دِمْنتها إنزال المطر عليها، يسوق إليها الماء من بلاد أخرى، كما في أرض مصر، ويقال لها‏:‏ ‏"‏الأرض الجرُز‏"‏، يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها، فيأتي الماء يحمل طينًا أحمر، فيسقي أرض مصر، ويقر الطين على أرضهم ليزدرعوا فيه، لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال، فسبحان اللطيف الخبير الرحيم الغفور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض، وجعلنا في الأرض قابليَّة له، تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لو شئنا ألا تمطر لفعلنا، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري ‏[‏والبحار‏]‏ والقفار لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه أجاجًا لا ينتفع به لشُرب ولا لسقي لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض، بل ينجَرّ على وجهها لفعلنا‏.‏ ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلى مَدَى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا‏.‏ ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم الماء من السحاب عذبًا فراتًا زلالا فيسكنه في الأرض ويَسْلُكُه ينابيع في الأرض، فيفتح العيون والأنهار، فيسقي به الزروع والثمار، وتشربون منه ودوابكم وأنعامكم، وتغتسلون منه وتتطهرون وتتنظفون، فله الحمد والمنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ‏}‏ يعني‏:‏ فأخرجنا لكم بما أنزلنا من الماء ‏{‏جَنَّاتٍ‏}‏ أي‏:‏ بساتين وحدائق ذات بهجة، أي‏:‏ ذات منظر حسن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ‏}‏ أي‏:‏ فيها نخيل وأعناب‏.‏ وهذا ما كان يألف أهل الحجاز، ولا فرق بين الشيء وبين نظيره، وكذلك في حق كل أهل إقليم، عندهم من الثمار من نعمة الله عليهم ما يَعْجِزُون عن القيام بشكره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ من جميع الثمار، كما قال‏:‏ ‏{‏يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ كأنه معطوف على شيء مقدر، تقديره‏:‏ تنظرون إلى حسنه ونضجه، ومنه تأكلون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ‏}‏ يعني‏:‏ الزيتونة‏.‏ والطور‏:‏ هو الجبل‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر، فإن عَرى عنها سمي جَبَلا لا طورًا، والله أعلم‏.‏ وطور سيناء‏:‏ هو طور سينين، وهو الجبل الذي كَلَّم ‏[‏الله‏]‏ عليه موسى بن عمران، عليه السلام، وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ‏}‏‏:‏ قال بعضهم‏:‏ الباء زائدة، وتقديره‏:‏ تنبت الدهن، كما في قول العرب‏:‏ ألقى فلان بيده، أي‏:‏ يده‏.‏ وأما على قول من يُضَمِّن الفعل فتقديره‏:‏ تخرج بالدهن، أو تأتي بالدهن؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَصِبْغٍ‏}‏ أي‏:‏ أدْم، قاله قتادة‏.‏ ‏{‏لِلآكِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، عن عبد الله بن عيسى، عن عطاء الشامي، عن أبي أسَيْد -واسمه مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري- قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كلوا الزيت وادهنوا به ؛ فإنه من شجرة مباركة‏"‏‏.‏

وقال عبد بن حُمَيد في مسنده وتفسيره‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ائتدموا بالزيت وادهنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي وابن ماجه من غير وجه، عن عبد الرزاق‏.‏ قال الترمذي‏:‏ ولا يعرف إلا من

حديثه، وكان يضطرب فيه، فربما ذكر فيه عمر وربما لم يذكره‏.‏

قال أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثني الصَّعْب بن حكيم بن شريك بن نملة، عن أبيه عن جده، قال‏:‏ ضِفْت عمرَ بن الخطاب ليلة عاشوراء ، فأطعمني من رأس بعير بارد، وأطعمنا زيتًا، وقال‏:‏ هذا الزيت المبارك الذي قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ‏}‏‏:‏ يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرْث ودم، ويأكلون من حملانها، ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ويركبون ظهورها ويحملونها الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏.‏ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ‏.‏ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71-73‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23 - 25‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ‏}‏

يخبر تعالى عن نوح، عليه السلام، حين بعثه إلى قومه، لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد، وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله، ‏{‏فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ ألا تخافون من الله في إشراككم به‏؟‏‏!‏

فقال الملأ -وهم السادة والأكابر منهم-‏:‏ ‏{‏مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعنون‏:‏ يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى النبوة، وهو بشر مثلكم‏.‏ فكيف أوحي إليه دونكم‏؟‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً‏}‏ أي‏:‏ لو أراد أن يبعث نبيًّا، لبعث مَلَكًا من عنده ولم يكن بشرًا‏!‏ ‏{‏مَا سَمِعْنَا بِهَذَا‏}‏ أي‏:‏ ببعثة البشر في آبائنا الأولين‏.‏ يعنون بهذا أسلافهم وأجدادهم والأمم الماضية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ مجنون فيما يزعمه، من أن الله أرسله إليكم، واختصه من بينكم بالوحي ‏{‏فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ‏}‏ أي‏:‏ انتظروا به ريب المنون، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26 - 30‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن نوح، عليه السلام، أنه دعا ربه يستنصره على قومه، كما قال تعالى مخبرا ‏[‏عنه‏]‏ في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 10‏]‏، وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏‏[‏قَالَ‏]‏ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ‏}‏ فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، أي‏:‏ ذكرًا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار، وغير ذلك، وأن يحمل فيها أهله ‏{‏إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ‏}‏ أي‏:‏ سبق فيه القول من الله بالهلاك، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله، كابنه وزوجته، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ‏}‏ أي‏:‏ عند معاينة إنزال المطر العظيم، لا تأخذنك رأفة بقومك، وشفقة عليهم، وطَمَع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان‏.‏ وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة ‏"‏هود‏"‏ بما يغني عن إعادة ذلك هاهنا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ‏.‏ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ‏.‏ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 12-14‏]‏‏.‏ وقد امتثل نوح، عليه السلام، هذا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏41‏]‏‏.‏ فذَكَر اللهَ تعالى عند ابتداء سيره وعند انتهائه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ إن في هذا الصنيع -وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين-

‏{‏لآيَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ لحججًا ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى، وأنه تعالى فاعل لما يشاء، وقادر على كل شيء، عليم بكل شيء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ‏}‏ أي‏:‏ لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 41‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏

يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرنًا آخرين -قيل‏:‏ المراد بهم عاد، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهؤلاء ثمود؛ لقوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ‏}‏ -وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له‏.‏ فكذبوه وخالفوه، وأبوا من اتباعه لكونه بشرًا مثلهم، واستنكفوا عن اتباع رسول بشري، فكذبوا بلقاء الله في القيامة، وأنكروا المعاد الجثماني، وقالوا ‏{‏أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ‏.‏ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ بعيد بعيد ذلك‏.‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا‏}‏ أي‏:‏ فيما جاءكم به من الرسالة والنذارة والإخبار بالمعاد‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ‏.‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ‏}‏ أي‏:‏ استفتح عليهم الرسول واستنصَرَ ربَّه عليهم، فأجاب دعاءه، ‏{‏قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به،

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ وكانوا يستحقون ذلك من الله لكفرهم وطغيانهم‏.‏

والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصَّرْصر العاصف القويّ الباردة، ‏{‏تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً‏}‏ أي‏:‏ صرعى هَلْكى كغثاء السيل، وهو الشيء الحقير التافه الهالك الذي

لا ينتفع بشيء منه‏.‏ ‏{‏فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏76‏]‏ أي‏:‏ بكفرهم وعنادهم ومخالفة رسول الله، فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42 - 44‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ‏}‏ أي‏:‏ أمما وخلائق، ‏{‏مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ‏}‏ يعني ‏:‏ بل يُؤْخَذون حَسَب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ وعلمه قبل كونهم، أمة بعد أمة، وقرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، وخَلفًا بعد سلف‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى‏}‏‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني يتبع بعضهم بعضًا‏.‏ وهذه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ‏}‏ يعني‏:‏ جمهورهم وأكثرهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏30‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا‏}‏ أي‏:‏ أهلكناهم، كقوله‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 17‏]‏‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ‏}‏ أي‏:‏ أخبارًا وأحاديث للناس، كقوله‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ‏}‏ ‏[‏الآية‏]‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 19‏]‏ ‏[‏‏{‏فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45 - 49‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى، عليه السلام، وأخاه هارون إلى فرعون وملئه، بالآيات والحجج الدامغات، والبراهين القاطعات، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما، والانقياد لأمرهما، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، تشابهت قلوبهم، فأهلك الله فرعون وملأه، وأغرقهم في يوم واحد أجمعين، وأنزل على موسى الكتاب -وهو التوراة- فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد ما قصم الله فرعون والقبط، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 43‏]‏‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم، عليهما السلام، أنه جعلهما آية للناس‏:‏ أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ‏}‏ قال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ الربوة‏:‏ المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذَاتِ قَرَارٍ‏}‏ يقول‏:‏ ذات خصب ‏{‏وَمَعِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ ماء ظاهرًا‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ربوة مستوية‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ‏}‏‏:‏ استوى الماء فيها‏.‏ وقال مجاهد، وقتادة‏:‏ ‏{‏وَمَعِينٍ‏}‏‏:‏ الماء الجاري‏.‏

ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة في أيّ أرض ‏[‏الله‏]‏ هي‏؟‏ فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ليس الربى إلا بمصر‏.‏ والماء حين يرسل يكون الربى عليها القرى، ولولا الربى غرقت القرى‏.‏ وروي عن وهب بن مُنَبِّه نحو هذا، وهو بعيد جدًّا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ‏}‏، قال‏:‏ هي دمشق‏.‏

قال‏:‏ ورُوي عن عبد الله بن سلام، والحسن، وزيد بن أسلم، وخالد بن مَعْدان نحو ذلك‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ‏}‏ قال‏:‏ أنهار دمشق‏.‏

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ‏[‏ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ‏]‏، قال‏:‏ عيسى ابن مريم وأمه، حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن بشر بن رافع، عن أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة، قال‏:‏ سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏‏:‏ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ‏}‏ قال‏:‏ هي الرملة من فلسطين‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفرْيابي، حدثنا رَوّاد بن الجراح، حدثنا عباد بن عباد الخواص أبو عتبة، حدثنا السيباني ، عن ابن وَعْلَة، عن كُرَيْب السَّحولي، عن مُرَّة البَهْزِي قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لرجل‏:‏ ‏"‏إنك ميت بالربوة‏"‏ فمات بالرملة‏.‏ وهذا حديث غريب جدًّا‏.‏

وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العَوْفِيّ، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ‏}‏، قال‏:‏ المعين الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وكذا قال الضحاك، وقتادة‏:‏ ‏{‏إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ‏}‏‏:‏ هو بيت المقدس‏.‏ فهذا والله أعلم هو الأظهر؛ لأنه المذكور في الآية الأخرى‏.‏ والقرآن يفسر بعضه بعضا‏.‏ وهو أولى ما يفسر به، ثم الأحاديث الصحيحة، ثم الآثار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 56‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏

يأمر تعالى عباده المرسلين، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، بالأكل من الحلال، والقيام بالصالح من الأعمال، فدل هذا على أن الحلال عَون على العمل الصالح، فقام الأنبياء، عليهم السلام، بهذا أتم القيام‏.‏ وجمعوا بين كل خير، قولا وعملا ودلالة ونصحًا، فجزاهم الله عن العباد خيرًا‏.‏

قال الحسن البصري في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ قال‏:‏ أما والله ما أُمِرُوا بأصفركم ولا أحمركم، ولا حلوكم ولا حامضكم، ولكن قال‏:‏ انتهوا إلى الحلال منه‏.‏

وقال سعيد بن جبير، والضحاك‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ يعني‏:‏ الحلال‏.‏

وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن أبي مَيْسَرَةَ بن شُرَحْبِيل‏:‏ كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏ما من نبي إلا رعى الغنم‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ وأنت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة‏"‏‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ أن داود، عليه السلام، كان يأكل من كسب يده‏.‏

وفي الصحيحين‏:‏ ‏"‏إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب القيام إلى الله قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه وينام سُدسَه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يَفر إذا لاقى‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن ضَمْرَة بن حبيب، أن أم عبد الله، أخت شداد بن أوس بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم، وذلك في أول النهار وشدة الحر، فرد إليها رسولها‏:‏ أنَّى كانت لك الشاة‏؟‏ فقالت‏:‏ اشتريتها من مالي، فشرب منه، فلما كان الغد أتته أم عبد الله أخت شداد فقالت‏:‏ يا رسول الله ، بعثتُ إليك بلبن مَرثيةً لك من طول النهار وشدة الحر، فرددت إليَّ الرسول فيه‏؟‏‏.‏ فقال لها‏:‏ ‏"‏بذلك أمرت الرسل، ألا تأكل إلا طيبا، ولا تعمل إلا صالحا‏"‏‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم، وجامع الترمذي، ومسند الإمام أحمد -واللفظ له- من حديث فُضَيْل بن مرزوق، عن عَدِيّ بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، إنَّ الله طَيِّبٌ لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]‏‏.‏ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أَشْعَثَ أَغْبَرَ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، يمد يديه إلى السماء‏:‏ يا رب، يا رب، فأنَّى يستجاب لذلك‏"‏‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث فُضيل بن مرزوق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ أي‏:‏ دينكم -يا معشر الأنبياء- دين واحد، وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏}‏، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة ‏"‏الأنبياء‏"‏، وأن قوله‏:‏ ‏{‏أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ منصوب على الحال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا‏}‏ أي‏:‏ الأمم الذين بُعث إليهم الأنبياء، ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ يفرحون بما هم فيه من الضلال؛ لأنهم يحسبون أنهم مهتدون؛ ولهذا قال متهددًا لهم ومتواعدًا‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ في غيهم وضلالهم ‏{‏حَتَّى حِينٍ‏}‏ أي‏:‏ إلى حين حينهم وهلاكهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا‏؟‏‏!‏ كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏35‏]‏، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاء؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏بَل لا يَشْعُرُونَ‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 55‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 178‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 44، 45‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11-16‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 37‏]‏ والآيات في هذا كثيرة‏.‏

قال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ‏}‏ قال‏:‏ مُكِرَ والله بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد ‏[‏بن عُبَيْد، حدثنا أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد، عن مرة الهمداني، حدثنا عبد الله‏]‏ بن مسعود رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله قَسَم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يُعطي الدنيا من يُحِبّ ومن لا يحب، ولا يعطي الدِّين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه- قالوا‏:‏ وما بوائقه يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ غشمه وظلمه- ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57 - 61‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح، مشفقون من الله خائفون منه، وجلون من مكره بهم، كما قال الحسن البصري‏:‏ إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمنًا‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ يؤمنون بآياته الكونية والشرعية، كقوله تعالى إخبارًا عن مريم، عليها السلام‏:‏ ‏{‏وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏، أي‏:‏ أيقنت أن ما كان فإنما هو عن قدر الله وقضائه، وما شرعه الله فهو إن كان أمرًا فمما يحبه ويرضاه، وإن كان نهيًا فهو مما يكرهه ويأباه، وإن كان خيرًا فهو حق، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحدًا صمدًا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأنه لا نظير له ولا كفء له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعطون العطاء وهم خائفون ألا يتقبل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء‏.‏ وهذا من باب الإشفاق والاحتياط، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا مالك بن مِغْوَل، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب، عن عائشة؛ أنها قالت‏:‏ يا رسول الله، ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏، هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا يا بنت أبي بكر، يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل‏"‏‏.‏

وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم، من حديث مالك بن مِغْوَل، به بنحوه‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم، ‏{‏أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ‏}‏ قال الترمذي‏:‏ ورُوي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا‏.‏

وهكذا قال ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي، والحسن البصري في تفسير هذه الآية‏.‏

وقد قرأ آخرون هذه الآية‏:‏ ‏"‏والذين يأتون ما أتوا وقلوبهم وجلة‏"‏ أي‏:‏ يفعلون ما يفعلون وهم خائفون، وروي هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ كذلك‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا صخر بن جُوَيْرِية، حدثنا إسماعيل المكي، حدثني أبو خلف مولى بني جُمَح‏:‏ أنه دخل مع عُبَيد بن عُمَيْر على عائشة، رضي الله عنها، فقالت‏:‏ مرحبًا بأبي عاصم، ما يمنعك أن تزورنا -أو‏:‏ تُلِمّ بنا‏؟‏ -فقال‏:‏ أخشى أن أمُلَّك‏.‏ فقالت‏:‏ ما كنت لتفعل‏؟‏ قال‏:‏ جئت لأسأل عن آية في كتاب الله عز وجل، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها‏؟‏ قالت‏:‏ أيَّة آية‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا‏}‏ أو ‏{‏الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا‏}‏‏؟‏ فقالت‏:‏ أيتهما أحب إليك‏؟‏ فقلت‏:‏ والذي نفسي بيده، لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعًا -أو‏:‏ الدنيا وما فيها- قالت‏:‏ وما هي‏؟‏ فقلت‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا‏}‏ فقالت‏:‏ أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها، وكذلك أنزلت، ولكن الهجاء حرف‏.‏ إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف‏.‏

والمعنى على القراءة الأولى -وهي قراءة الجمهور‏:‏ السبعة وغيرهم- أظهر؛ لأنه قال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ‏}‏، فجعلهم من السابقين‏.‏ ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك ألا يكونوا من السابقين، بل من المقتصدين أو المقصرين، والله تعالى أعلم‏.‏