فصل: تفسير الآيات رقم (68 - 71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏68 - 71‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقيق، عن عبد الله -هو ابن مسعود -قال‏:‏ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي‏:‏ الذنب أكبر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تَجعل لله ندًا وهو خلقك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعم معك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تزاني

حليلة جارك‏"‏‏.‏ قال عبد الله‏:‏ وأنزل الله تصديق ذلك‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا‏}‏‏.‏

وهكذا رواه النسائي عن هَنَّاد بن السري، عن أبي معاوية، به‏.‏

وقد أخرجه البخاري ومسلم، من حديث الأعمش ومنصور -زاد البخاري‏:‏ وواصل -ثلاثتهم عن أبي وائل، شقيق بن سلمة، عن أبي مَيْسَرة عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود، به، فالله أعلم، ولفظهما عن ابن مسعود قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الذنب أعظم‏؟‏ الحديث‏.‏

طريق غريب‏:‏ وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا عامر بن مُدْرِك، حدثنا السري -يعني ابن إسماعيل -حدثنا الشعبي، عن مسروق قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته، فجلس على نَشَز من الأرض، وقعدت أسفل منه، ووجهي حيال ركبتيه، واغتنمت خلوته وقلت ‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أي الذنوب أكبر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تدعو لله ندًا وهو خلقك‏"‏‏.‏قلت‏:‏ ثم مه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم مه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تزاني حليلة جارك‏"‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏‏.‏ ‏[‏إلى آخر‏]‏ الآية‏.‏

وقال النسائي‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يَسَاف، عن سلمة بن قيس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع‏:‏ ‏"‏ألا إنما هي أربع -فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم -‏:‏ لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن المديني، رحمه الله، حدثنا محمد بن فضيل بن غَزْوان، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري، سمعت أبا طيبة الكَلاعي، سمعت المقداد بن الأسود، رضي الله عنه، يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏"‏ما تقولون في الزنى‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ حَرّمه الله ورسوله، فهو حَرَام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏"‏لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ما تقولون في السرقة‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ حرمها الله ورسوله، فهي حرام‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره‏"‏‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا عمار بن نصر، حدثنا بَقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال‏:‏ ‏"‏ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نُطفة وضعها رجل في رَحِم لا يحل له‏"‏‏.‏ وقال ابن جُرَيج‏:‏ أخبرني يعلى، عن سعيد بن جبير أنه سمعه يحدث عن ابن عباس‏:‏ أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزَنَوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ‏}‏، ونزلت‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ‏[‏إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏]‏‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي فَاخِتة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل‏:‏ ‏"‏إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك، وينهاك أن تزني بحليلة جارك‏"‏‏.‏ قال سفيان‏:‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا‏}‏‏.‏ روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال‏:‏ ‏{‏أَثَامًا‏}‏ واد في جهنم‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏يَلْقَ أَثَامًا‏}‏ أودية في جهنم يعذب فيها الزناة‏.‏ وكذا رُوي عن سعيد بن جبير، ومجاهد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏يَلْقَ أَثَامًا‏}‏ نكالا كنا نحدث أنه واد في جهنم‏.‏

وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول‏:‏ يا بني، إياك والزنى، فإن أوله مخافة، وآخره ندامة‏.‏

وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره، عن أبي أمامة الباهلي -موقوفا ومرفوعا -أن ‏"‏غيا‏"‏ و‏"‏أثاما‏"‏ بئران في قعر جهنم أجارنا الله منها بمنه وكرمه‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏يَلْقَ أَثَامًا‏}‏‏:‏ جزاء‏.‏

وهذا أشبه بظاهر الآية؛ ولهذا فسره بما بعده مبدلا منه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ أي‏:‏ يكرر عليه ويغلظ، ‏{‏وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا‏}‏ أي‏:‏ حقيرا ذليلا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ ‏[‏عَمَلا‏]‏ صَالِحًا‏}‏ أي‏:‏ جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر ‏{‏إِلا مَنْ تَابَ‏}‏ في الدنيا إلى الله من جميع ذلك، فإن الله يتوب عليه‏.‏

وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل، ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏ فإن هذهوإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب، لأن هذه مقيدة بالتوبة، ثم قد قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48،116‏]‏‏.‏

وقد ثبتت السنة الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل، كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب، وقبل منه، وغير ذلك من الأحاديث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏‏:‏ في معنى قوله‏:‏ ‏{‏يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات‏.‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ‏}‏ قال‏:‏ هم المؤمنون، كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك فحوَّلهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات‏.‏

وروى مجاهد، عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية‏:‏

بُدّلْنَ بَعْدَ حَرِّهِ خَريفا *** وَبَعْدَ طُول النَّفَس الوَجيفَا

يعني‏:‏ تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها‏.‏

وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ هذا في الدنيا، يكون الرجل على هيئة قبيحة، ثم يبدله الله بها خيرا‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ أبدلهم بعبادة الأوثان عبادة الله، وأبدلهم بقتال المسلمين قتالا مع المسلمين للمشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصا، وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما‏.‏

وهذا قول أبي العالية، وقتادة، وجماعة آخرين‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار‏.‏ فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه لكنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته، كما ثبتت السنة بذلك، وصحت به الآثار المروية عن السلف، رحمهم الله تعالى -وهذا سياق الحديث -قال الإمام أحمد‏:‏

حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سُوَيْد، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار، وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة‏:‏ يؤتى برجل فيقول‏:‏ نَحّوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال‏:‏ فيقال له‏:‏ عملت يوم كذا وكذا كذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم -لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا - فيقال‏:‏ فإن لك بكل سيئة حسنة‏.‏ فيقول‏:‏ يا رب، عملت أشياء لا أراها هاهنا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه‏.‏ وانفرد به مسلم‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا هاشم بن يزيد، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زرعة، عن شُرَيْح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان‏:‏ أعطني صحيفتك‏.‏ فيعطيه إياها، فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان، وكتبهن حسنات، فإذا أراد أن ينام أحدكم فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكبيرة، ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة، ويسبح ثلاثًا وثلاثين تسبيحة، فتلك مائة‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة وعارم قالا حدثنا ثابت -يعني‏:‏ ابن يزيد أبو زيد -حدثنا عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان قال‏:‏ يعطى رجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها، فإذا سيئاته ، فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته، ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود، حدثنا أبو العَنْبَس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات، قيل‏:‏ مَنْ هم يا أبا هريرة‏؟‏ قال‏:‏ الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سَيَّار، حدثنا جعفر، حدثنا أبو حمزة، عن أبي الضيف -وكان من أصحاب معاذ بن جبل -قال‏:‏ يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف‏:‏ المتقين، ثم الشاكرين، ثم الخائفين، ثم أصحاب اليمين‏.‏ قلت‏:‏ لِمَ سموا أصحاب اليمين‏؟‏ قال‏:‏ لأنهم عملوا الحسنات والسيئات، فأعطوا كتبهم بأيمانهم، فقرؤوا سيئاتهم حرفا حرفا -قالوا‏:‏ يا ربنا، هذه سيئاتنا، فأين حسناتنا‏؟‏‏.‏ فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات، فعند ذلك قالوا‏:‏‏(‏هاؤم اقرؤوا كتابيه‏)‏‏}‏، فهم أكثر أهل الجنة‏.‏

وقال علي بن الحسين زين العابدين‏:‏ ‏{‏يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ‏}‏ قال‏:‏ في الآخرة‏.‏

وقال مكحول‏:‏ يغفرها لهم فيجعلها حسنات‏:‏ ‏[‏رواهما ابن أبي حاتم، وروى ابن جرير، عن سعيد بن المسيب مثله‏]‏‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم،

حدثنا أبو جابر، أنه سمع مكحولا يحدث قال‏:‏ جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه، فقال‏:‏ يا رسول الله، رجل غدر وفجر، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطعها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم، فهل له من توبة‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أسلمتَ‏؟‏‏"‏ قال ‏:‏ أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فإن الله غافر لك ما كنت كذلك، ومبدل سيئاتك حسنات‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، وغَدَراتي وفَجَراتي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏وغَدرَاتك وفَجَراتك‏"‏‏.‏ فَوَلّى الرجل يهلل ويكبر ‏.‏

وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة، عن صفوان بن عَمْرو ، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي فَرْوَةَ -شَطْب -أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها، ولم يترك حاجة ولا داجة، فهل له من توبة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏أسلمتَ‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏فافعل الخيرات، واترك السيئات، فيجعلها الله لك خيرات كلها‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وغَدرَاتي وفَجَراتي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قال فما زال يكبر حتى توارى‏.‏

ورواه الطبراني من طريق أبي فَروة الرهاوي، عن ياسين الزيات، عن أبي سلمة الحِمْصي، عن يحيى بن جابر، عن سلمة بن نفيل مرفوعًا‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان، عن فُلَيْح الشماس، عن عبيد بن أبي عبيد عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ جاءتني امرأة فقالت‏:‏ هل لي من توبة‏؟‏ إني زنيت وولدت وقتلته‏.‏ فقلت لا ولا نَعمت العين ولا كرامة‏.‏ فقامت وهي تدعو بالحسرة‏.‏ ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح، فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بئسما قلت‏!‏ أما كنت تقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ فقرأتها عليها‏.‏ فخرَّت ساجدة وقالت‏:‏ الحمد لله الذي جعل لي مخرجًا‏.‏

هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي رجاله مَنْ لا يُعرف والله أعلم‏.‏ وقد رواه ابن جرير من

حديث إبراهيم بن المنذر الحزَامي بسنده بنحوه، وعنده‏:‏ فخرجت تدعو بالحسرة وتقول‏:‏ يا حسرتا‏!‏ أخلق هذا الحسن للنار‏؟‏ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تَطَلَّبها في جميع دور المدينة فلم يجدها، فلما كان من الليلة المقبلة جاءته، فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرت ساجدة، وقالت‏:‏ الحمد لله الذي جعل لي مخرجًا وتوبة مما عملت‏.‏ وأعتقت جارية كانت معها وابنتها، وتابت إلى الله عز وجل

ثم قال تعالى مخبرًا عن عموم رحمته بعباده وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان، جليل أو حقير، كبير أو صغير‏:‏ فقال ‏{‏وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا‏}‏ أي‏:‏ فإن الله يقبل توبته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏، وقال ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 104‏]‏، وقال ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏،أي‏:‏ لمن تاب إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72 - 74‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا‏}‏

وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن، أنهم‏:‏ ‏{‏لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ‏}‏ قيل‏:‏ هو الشرك وعبادة الأصنام‏.‏ وقيل‏:‏ الكذب، والفسق، واللغو، والباطل‏.‏

وقال محمد بن الحنفية‏:‏ ‏[‏هو‏]‏ اللهو والغناء‏.‏

وقال أبو العالية، وطاوس، ومحمد بن سيرين، والضحاك، والربيع بن أنس، وغيرهم‏:‏ هي أعياد المشركين‏.‏

وقال عمرو بن قيس‏:‏ هي مجالس السوء والخنا‏.‏

وقال مالك، عن الزهري‏:‏ ‏[‏شرب الخمر‏]‏ لا يحضرونه ولا يرغبون فيه، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ‏}‏ أي‏:‏ شهادة الزور، وهي الكذب متعمدا على غيره، كما ‏[‏ثبت‏]‏ في الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا أنبئكم بأكْبر الكبائر‏"‏ ثلاثا، قلنا‏:‏ بلى، يا رسول الله، قال‏:‏ ‏"‏الشرك بالله، وعقوق الوالدين‏"‏‏.‏ وكان متكئًا فجلس، فقال‏:‏ ‏"‏ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور ‏[‏ألا وقول الزور وشهادة الزور‏]‏‏.‏ فما زال يكررها، حتى قلنا‏:‏ ليته سكت‏.‏

والأظهر من السياق أن المراد‏:‏ لا يشهدون الزور، أي‏:‏ لا يحضرونه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا‏}‏ أي‏:‏ لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مرُّوا، ولم يتدنسوا منه بشيء؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مَرُّوا كِرَامًا‏}‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو الحسين العجلي، عن محمد بن مسلم، أخبرني إبراهيم بن مَيْسَرة، أن ابن مسعود مر بلهو معرضًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لقد أصبح ابن مسعود، وأمسى كريمًا‏"‏‏.‏

وحدثنا الحسن بن محمد بن سلمة النحوي، حدثنا حبان، أنا عبد الله، أنا محمد بن مسلم، أخبرني ابن ميسرة قال‏:‏ بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما‏"‏ ‏.‏ ثم تلا إبراهيم بن ميسرة‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏}‏ ‏[‏و‏]‏ هذه من صفات المؤمنين ‏{‏الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2‏]‏، بخلاف الكافر، فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يُقْصر عما كان عليه، بل يبقى مستمرا على كفره وطغيانه وجهله وضلاله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏.‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124 -125‏]‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏}‏ أي‏:‏ بخلاف الكافر الذي ذكر بآيات ربه، فاستمر على حاله، كأن لم يسمعها أصم أعمى‏.‏

قال مجاهد‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏}‏ لم يسمعوا‏:‏ ولم يبصروا، ولم يفقهوا شيئًا‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى‏.‏وقال قتادة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏}‏ يقول‏:‏ لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه، فهم -والله -قوم عقلوا عن الله وانتفعوا بما سمعوا من كتابه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا عبد الله بن حُمْران، حدثنا ابن عَوْن قال‏:‏ سألت الشعبي قلت‏:‏ الرجل يرى القوم سجودا ولم يسمع ما سجدوا، أيسجد معهم‏؟‏ قال‏:‏ فتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏}‏ يعني‏:‏ أنه لا يسجد معهم لأنه لم يتدبر آية السجدة فلا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة، بل يكون على بصيرة من أمره، ويقين واضح بَيِّن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ‏}‏ يعني‏:‏ الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يعنون من يعمل بالطاعة، فتقرُّ به أعينهم في الدنيا والآخرة‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالا ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين‏.‏

وقال الحسن البصري -وسئل عن هذه الآية -فقال‏:‏ أن يُري الله العبد المسلم من زوجته، ومن أخيه، ومن حميمه طاعة الله‏.‏ لا والله ما شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا، أو ولد ولد، أو أخا، أو حميما مطيعا لله عز وجل‏.‏

وقال ابن جُرَيْج في قوله‏:‏ ‏{‏هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ‏}‏ قال‏:‏ يعبدونك ويحسنون عبادتك، ولا يجرون علينا الجرائر‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ يعني‏:‏ يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يَعْمَر بن بشر حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال‏:‏ جلسنا إلى المقداد بن الأسود يومًا، فمر به رجل فقال‏:‏ طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏!‏ لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت‏.‏ فاستغضب، فجعلت أعجبُ، ما قال إلا خيرًا‏!‏ ثم أقبل إليه فقال‏:‏ ما يحمل الرجل على أن يتمنى مَحْضَرًا غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه‏؟‏ والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبَّهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين لما جاء به نبيكم، قد كُفيتم البلاء بغيركم‏؟‏ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبيًا من الأنبياء في فترة من جاهلية، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان‏.‏ فجاء بفُرقان فَرَقَ به بين الحق والباطل، وفَرَقَ بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده، أو أخاه كافرًا، وقد فتح الله قُفْل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها التي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ‏}‏‏.‏ وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا‏}‏ قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس‏:‏ أئمة يقتدى بنا في الخير‏.‏

وقال غيرهم‏:‏ هداة مهتدين ‏[‏ودعاة‏]‏ إلى الخير، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم وأن يكون هداهم متعديًا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابًا، وأحسن مآبًا؛ ولهذا ورد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75 - 77‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا‏}‏

لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من ‏[‏هذه‏]‏ الصفات الجميلة، والأفعال والأقوال الجليلة -قال بعد ذلك كله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِك‏}‏ أي‏:‏ المتصفون بهذه ‏{‏يُجْزَوْن‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ‏{‏الْغُرْفَةَ‏}‏ وهي الجنة‏.‏

قال أبو جعفر الباقر، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسُّدِّيّ‏:‏ سميت بذلك لارتفاعها‏.‏

‏{‏بِمَا صَبَرُوا‏}‏ أي‏:‏ على القيام بذلك ‏{‏وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في الجنة ‏{‏تَحِيَّةً وَسَلامًا‏}‏ أي‏:‏ يُبْتَدرُون فيها بالتحية والإكرام، ويلقون ‏[‏فيها‏]‏ التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ مقيمين، لا يظعنون ولا يَحُولون ولا يموتون، ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا‏}‏ أي‏:‏ حسنت منظرا وطابت مَقيلا ومنزلا‏.‏ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا‏.‏

وقال مجاهد، وعمرو بن شعيب‏:‏ ‏{‏مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي‏}‏ يقول‏:‏ ما يفعل بكم ربي‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ لولا إيمانكم، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ أيها الكافرون ‏{‏فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا‏}‏ أي‏:‏ فسوف يكون تكذيبكم لزامًا لكم، يعني‏:‏ مقتضيا لهلاككم وعذابكم ودماركم في الدنيا والآخرة، ويدخل في ذلك يوم بدر، كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة‏.‏ ولا منافاة بينهما‏.‏ والله أعلم‏.‏

سورة الشعراء

وهي مكية‏.‏ وَوَقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتُها‏:‏ سورة الجامعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 9‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ‏}‏ أي‏:‏ هذه آيات القرآن المبين، أي‏:‏ البين الواضح، الذي يفصل بين الحق والباطل، والغي والرشاد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ‏}‏ أي‏:‏ مهلك ‏{‏نفسك‏}‏ أي‏:‏ مما تحرص ‏[‏عليهم‏]‏ وتحزن عليهم ‏{‏أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏، وهذه تسلية من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، في عدم إيمان مَنْ لم يؤمن به من الكفار، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏8‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏6‏]‏‏.‏

قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وعطية، والضحاك‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ‏}‏ أي‏:‏ قاتل نفسك‏.‏ قال الشاعر

ألا أيّهذاَ البَاخعُ الحُزنُ نفسَه *** لشيء نَحَتْهُ عَنْ يَدَيه الَمقَادِر

ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ‏}‏ أي‏:‏ لو شئنا لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، ولكَّنا لا نفعل ذلك؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري؛ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏99‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏.‏ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118، 119‏]‏، فنَفَذ قَدَرُه، ومضت حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ‏}‏ أي‏:‏ كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏103‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏30‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 44‏]‏؛ ولهذا قال تعالى هاهنا‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ أي‏:‏ فقد كذبوا بما جاءهم من الحق، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين، ‏{‏وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 227‏]‏‏.‏

ثم نبه تعالى على عظمته في سلطانه وجلالة قدره وشأنه، الذين اجترؤوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه، وهو القاهر العظيم القادر، الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل زوج كريم، من زروع وثمار وحيوان‏.‏

قال سفيان الثوري، عن رجل، عن الشعبي‏:‏ الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ أي‏:‏ دلالة على قدرة الخالق للأشياء، الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء، ومع هذا ما آمن أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله وكتبه، وخالفوا أمره وارتكبوا زواجره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ‏}‏ أي‏:‏ الذي عَزّ كلَّ شيء وقهره وغلبه، ‏{‏الرحيم‏}‏ أي‏:‏ بخلقه، فلا يعجل على مَنْ عصاه، بل ينظره ويؤجله ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر‏.‏

قال أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس، و‏[‏محمد‏]‏ بن إسحاق‏:‏ العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ الرحيم بِمَنْ تاب إليه وأناب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 22‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران، صلوات الله وسلامه عليه، حين ناداه من جانب الطور الأيمن، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ‏}‏ هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه، كما قال في سورة طه‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏25-36‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ‏}‏ أي‏:‏ بسبب ما كان ‏[‏من‏]‏ قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر‏.‏

‏{‏قَالَ كَلا‏}‏ أي‏:‏ قال الله له‏:‏ لا تخف من شيء من ذلك كما قال‏:‏ ‏{‏قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا‏}‏ أي‏:‏ برهانا ‏{‏فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏35‏]‏‏.‏

‏{‏فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏46‏]‏ أي‏:‏ إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي‏.‏

‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏47‏]‏ أي‏:‏ كل منا رسول الله إليك، ‏{‏أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ أي‏:‏ أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك، فإنهم عباد الله المؤمنون، وحزبه المخلصون، وهم معك في العذاب المهين‏.‏ فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون عما هنالك بالكلية، ونظر بعين الازدراء والغمص فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ‏.‏‏[‏وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏]‏‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ أما أنت الذي ربيناه فينا ‏]‏، وفي بيتنا وعلى فراشنا ‏[‏وغذيناه‏]‏، وأنعمنا عليه مدة من السنين، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة، أن قتلت منا رجلا وجحدت نعمتنا عليك؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ الجاحدين‏.‏ قاله ابن عباس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير‏.‏

‏{‏قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا‏}‏ أي‏:‏ في تلك الحال، ‏{‏وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏}‏ أي‏:‏ قبل أن يوحى إليّ وينعم الله عليَّ بالرسالة والنبوة‏.‏

قال ابن عباس، رضي الله عنهما، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وغيرهم‏:‏ ‏{‏وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏}‏ أي‏:‏ الجاهلين‏.‏

قال ابن جُرَيْج‏:‏ وهي كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏.‏

‏{‏فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ أي‏:‏ الحال الأول انفصل

وجاء أمر آخر، فقد أرسلني الله إليك، فإن أطعته سَلمت، وإن خالفته عَطبت‏.‏

ثم قال موسى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ أي‏:‏ وما أحسنت إلي وربَّيْتني مقابل ما أسأتَ إلى بني إسرائيل، فجعلتهم عبيدا وخدما، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، أفَيَفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأتَ إلى مجموعهم‏؟‏ أي‏:‏ ليس ما ذكرتَه شيئا بالنسبة إلى ما فعلتَ بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23 - 28‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن كفر فرعون، وتمرده وطغيانه وجحوده، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏؟‏ وذلك أنه كان يقول لقومه‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏38‏]‏، ‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏54‏]‏، وكانوا يجحدون الصانع -تعالى -ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون، فلما قال له موسى‏:‏ ‏{‏إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏46‏]‏، قال له‏:‏ ومَنْ هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري‏؟‏ هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف، حتى قال السدي‏:‏ هذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏49، 50‏]‏‏.‏

ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم؛ أن هذا سؤال عن الماهية، فقد غلط؛ فإنه لم يكن مقرًا بالصانع حتى يسأل عن الماهية ، بل كان جاحدًا له بالكلية فيما يظهر، وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه، فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ أي‏:‏ خالق جميع ذلك ومالكه، والمتصرف فيه وإلهه، لا شريك له، هو الله الذي خلق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار، وجبال وأشجار، وحيوان ونبات وثمار، وما بين ذلك من الهواء والطيور، وما يحتوي عليه الجو، الجميع عبيد له خاضعون ذليلون‏.‏

‏{‏إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة‏.‏ فعند ذلك التفت فرعون إلى مَنْ حوله من مَلَئه ورؤساء دولته قائلا لهم، على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله‏:‏ ‏{‏أَلا تَسْتَمِعُونَ‏}‏ أي‏:‏ ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه‏:‏ أن لكم إلها غيري‏؟‏ فقال لهم موسى‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ‏}‏ أي‏:‏ خالقكم وخالق آبائكم الأولين، الذي كانوا قبل فرعون وزمانه‏.‏

‏{‏قال‏}‏ أي‏:‏ فرعون لقومه‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ أي‏:‏ ليس له عقل في دعواه أن ثمّ ربا غيري‏.‏

‏{‏قال‏}‏ أي‏:‏ موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبهة، فأجاب موسى بقوله‏:‏ ‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ هو الذي جعل المشرق مشرقًا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربًا تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع هذا النظام الذي سَخّرها فيه وقدّرها، فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقًا فليعكس الأمر، وليجعل المشرق مغربًا، والمغرب مشرقًا، كما أخبر تعالى عن ‏{‏الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏258‏]‏؛ ولهذا لما غُلب فرعون وانقطعت حجته، عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى، عليه السلام، فقال ما أخبر الله تعالى عنه‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29 - 37‏]‏

‏{‏قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ‏}‏

لما قامت على فرعون الحجة بالبيان والعقل، عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه، وظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال فقال‏:‏ ‏{‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏}‏‏.‏ فعند ذلك قال موسى‏:‏ ‏{‏أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ ببرهان قاطع واضح‏.‏

‏{‏قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح والعظمة، ذات قوائم وفم كبير، وشكل هائل مزعج‏.‏

‏{‏وَنزعَ يَدَهُ‏}‏ أي‏:‏ من جيبه ‏{‏فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ تتلألأ كقطعة من القمر‏.‏ فبادر فرعون -بشقائه -إلى التكذيب والعناد، فقال للملأ حوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ فاضل بارع في السحر‏.‏ فَرَوَّج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة، ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته، والكفر به‏.‏ فقال ‏{‏يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا، فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم، فأشيروا عليَّ فيه ماذا أصنع به‏؟‏

‏{‏قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ أخِّره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحَّار عليم‏]‏ يقابلونه، ويأتون بنظير ما جاء به، فتغلبه أنت وتكون لك النصرة والتأييد‏.‏ فأجابهم إلى ذلك‏.‏ وكان هذا من تسخير الله تعالى

لهم في ذلك؛ ليجتمع الناس في صعيد واحد، ولتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38 - 48‏]‏

‏{‏فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏

ذكر ‏[‏الله‏]‏ تعالى هذه المناظرة الفعلية بين موسى والقبط في ‏"‏سورة الأعراف‏"‏ وفي ‏"‏سورة طه‏"‏ وفي هذه السورة‏:‏ وذلك أن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون‏.‏ وهذا شأن الكفر والإيمان، ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان، ‏{‏بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏18‏]‏، ‏{‏وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏81‏]‏، ولهذا لما جاء السحرة، وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر، وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك، وكان السحرة جمعًا كثيرًا، وجمًا غفيرًا، قيل‏:‏ كانوا اثني عشر ألفًا‏.‏ وقيل‏:‏ خمسة عشر ألفًا‏.‏ وقيل‏:‏ سبعة عشر ألفًا وقيل‏:‏ تسعة عشر ألفًا‏.‏ وقيل‏:‏ بضعة وثلاثين ألفًا‏.‏ وقيل‏:‏ ثمانين ألفًا‏.‏ وقيل غير ذلك، والله أعلم بعدتهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان أمرهم راجعًا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم‏:‏ وهم‏:‏ ساتور وعازور وحطحط ويصقى‏.‏

واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم، وقال قائلهم‏:‏ ‏{‏لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏[‏قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏]‏‏}‏ ، ولم يقولوا‏:‏ نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ‏}‏ أي‏:‏ إلى مجلس فرعون وقد ضرب له وطاقا، وجمع حشمه وخدمه ‏[‏وأمراءه‏]‏ ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته، فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا، أي‏:‏ هذا الذي جمعتنا من أجله، فقالوا‏:‏ ‏{‏أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏}‏ أي‏:‏ وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي‏.‏ فعادوا إلى مقام المناظرة ‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 65، 66‏]‏، وقد اختصر هذا هاهنا فقال لهم موسى‏:‏ ‏{‏أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ‏}‏، وهذا كما يقوله الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئا‏:‏ هذا بثواب فلان‏.‏ وقد ذكر الله في سورة الأعراف‏:‏ أنهم ‏{‏سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏116‏]‏، وقال في ‏"‏سورة طه‏"‏‏:‏ ‏{‏فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏66، 69‏]‏‏.‏

وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ أي‏:‏ تختطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئا‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ‏.‏ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ‏.‏ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏118-122‏]‏ وكان هذا أمرا عظيما جدًا، وبرهانًا قاطعًا للعذر وحجة دامغة، وذلك أن الذين استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا، قد غلبوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة، وسجدوا لله رب العالمين، الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة، فَغُلِبَ فرعون غَلبًا لم يشاهد العالم مثله، وكان وقحًا جريئًا عليه لعنة الله، فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل، فشرع يتهددهم ويتوعدهم، ويقول‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏71‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏123‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49 - 51‏]‏

‏{‏قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏

تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم، وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما‏.‏ وذلك أنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر، وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم، من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر، إلا أن يكون الله قد أيده به، وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه؛ ولهذا لما قال لهم فرعون‏:‏ ‏{‏آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم، ولا تفتاتوا عليَّ في ذلك، فإن أذنت لكم فعلتم، وإن منعتكم امتنعتم، فإني أنا الحاكم المطاع؛ ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ‏}‏‏.‏ وهذه مكابرة يعلم كل أحد بُطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر‏؟‏ هذا لا يقوله عاقل‏.‏

ثم توعَّدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب، فقالوا‏:‏ ‏{‏لا ضَيْرَ‏}‏ أي‏:‏ لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به ‏{‏إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ المرجع إلى الله، وهو لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء؛ ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا‏}‏ أي‏:‏ ما قارفناه من الذنوب، وما أكرهتنا عليه من السحر، ‏{‏أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان‏.‏ فقتلهم كلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52 - 59‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏‏.‏

لما طال مُقام موسى، عليه السلام، ببلاد مصر، وأقام بها حُجَج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله موسى، عليه السلام، أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤُمَر، ففعل موسى، عليه السلام، ما أمره به ربه عز وجل‏.‏ خرج بهم بعدما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا، وكان خروجه بهم، فيما ذكر غير واحد من المفسرين، وقت طلوع القمر‏.‏ وذكر مجاهد، رحمه الله، أنه كُسِف القمر تلك الليلة، فالله أعلم، وأن موسى، عليه السلام، سأل عن قبر يوسف، عليه السلام، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم، ويقال‏:‏ إنه هو الذي حمله بنفسه، عليهما السلام، وكان يوسف قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم، وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم، رحمه الله، فقال‏:‏ حدَّثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح، حدثنا ابن فضيل عن عبد الله بن أبي إسحاق، عن ابن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال‏:‏ نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تعاهدنا‏.‏ فأتاه الأعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما حاجتك‏؟‏‏"‏ قال ناقة برحلها وأعنز يحتلبها أهلي، فقال‏:‏ ‏"‏أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل‏؟‏‏"‏ فقال له أصحابه‏:‏ وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق، فقال لبني إسرائيل‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال له علماء بني إسرائيل‏:‏ نحن نحِّدثك أن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى‏:‏ فأيكم يدري أين قبر يوسف‏؟‏ قالوا‏:‏ ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل‏.‏ فأرسل إليها فقال لها‏:‏ دليني على قبر يوسف‏.‏ فقالت‏:‏ والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي‏.‏ قال لها‏:‏ وما حكمك‏؟‏ قالت ‏:‏ حكمي أن أكون معك في الجنة‏.‏ فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له‏:‏ أعطها حكمها‏.‏ قال‏:‏ فانطلقت معهم إلى بحيرة -مستنقع ماء -فقالت لهم‏:‏ أنضبوا هذا الماء‏.‏ فلما أنضبوه قالت‏:‏ احتفروا، فلما احتفروا استخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب جدًا، والأقرب أنه موقوف، والله أعلم‏.‏

فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب، غاظ ذلك فرعون واشتد غضبه على بني إسرائيل؛ لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعا في بلاده حاشرين، أي‏:‏ مَنْ يحشر الجندَ ويجمعه، كالنّقباء والحُجَّاب، ونادى فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلاءِ‏}‏ -يعني‏:‏ بني إسرائيل -‏{‏لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏ أي‏:‏ لطائفة قليلة‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ‏}‏ أي‏:‏ كل وقت يصل لنا منهم ما يغيظنا‏.‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وإني أريد أن أستأصل شأفتهم، وأبيد خضراءهم‏.‏ فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏137‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏5، 6‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60 - 68‏]‏

‏{‏فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏

ذكر غير واحد من المفسرين‏:‏ أن فرعون خرج في جحفل عظيم وجمع كبير، وهو عبارة عن مملكة الديار المصرية في زمانه، أولي الحل والعقد والدول، من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود، فأمَّا ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات، من أنه خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس، منها مائة ألف على خيل دُهْم، وقال كعب الأحبار‏:‏ فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم، ففي ذلك نظر‏.‏ والظاهر أنه من مجازفات بني إسرائيل، والله، سبحانه وتعالى، أعلم‏.‏ والذي أخبر به هو النافع، ولم يعين عدتهم؛ إذ لا فائدة تحته، إلا أنهم خرجوا بأجمعهم‏.‏

‏{‏فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ وصلوا إليهم عند شروق الشمس، وهو طلوعها‏.‏

‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ‏}‏ أي‏:‏ رأى كل من الفريقين صاحبه، فعند ذلك ‏{‏قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏}‏، وذلك أنه انتهى بهم السير إلى سيف البحر، وهو بحر القلزم، فصار أمامهم البحر، وفرعون قد أدركهم بجنوده، فلهذا قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ أي‏:‏ لا يصل إليكم

شيء مما تحذرون، فإن الله، سبحانه، هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم، وهو لا يخلف الميعاد‏.‏

وكان هارون، عليه السلام، في المقدمة، ومعه يوشع بن نون، ‏[‏ومؤمن آل فرعون وموسى، عليه السلام، في الساقة، وقد ذكر غير واحد من المفسرين‏:‏ أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون، وجعل يوشع بن نون‏]‏، أو مؤمن آل فرعون يقول لموسى، عليه السلام‏:‏ يا نبي الله، هاهنا أمرك الله أن تسير‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم، واقترب فرعون وجنوده، ولم يبق إلا القليل، فعند ذلك أمر الله نبيه موسى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه، وقال‏:‏ انفلق بإذن الله‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد، حدثنا محمد بن حمزة ‏[‏بن محمد‏]‏ بن يوسف بن عبد الله بن سلام‏:‏ أن موسى، عليه السلام، لما انتهى إلى البحر قال‏:‏ يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء، والكائن قبل كل شيء، اجعل لنا مخرجًا‏.‏ فأوحى الله إليه‏:‏ ‏{‏أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ‏}‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أوحى الله تلك الليلة إلى البحر‏:‏ أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له وأطع، فبات البحر تلك الليلة، وله اضطراب، ولا يدري من أيّ جانب يضربه موسى، فلما انتهى إليه موسى قال له فتاه يوشع بن نون‏:‏ يا نبي الله، أين أمرك ربك‏؟‏ قال‏:‏ أمرني أن أضرب البحر‏.‏ قال‏:‏ فاضربه‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ أوحى الله -فيما ذكر لي -إلى البحر‏:‏ أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له‏.‏ قال‏:‏ فبات البحر يضرب بعضه بعضًا، فرقا من الله تعالى، وانتظارًا لما أمره الله، وأوحى الله إلى موسى‏:‏ ‏{‏أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ‏}‏، فضربه بها وفيها، سلطان الله الذي أعطاه، فانفلق‏.‏

وذكر غير واحد أنه كناه فقال‏:‏ انفلق عليّ أبا خالد بحول الله‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏}‏ أي‏:‏ كالجبل الكبير‏.‏ قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومحمد بن كعب، والضحاك، وقتادة، وغيرهم‏.‏

وقال عطاء الخراساني‏:‏ هو الفَجّ بين الجبلين‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ صار البحر اثني عشر طريقًا، لكل سبط طريق -وزاد السدي‏:‏ وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض، وقام الماء على حيله كالحيطان، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته، فصار يَبَسا كوجه الأرض، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏77‏]‏‏.‏ وقال في هذه القصة‏:‏ ‏{‏وأزلفنا‏}‏ أي‏:‏ هنالك ‏{‏الآخرين‏}‏‏.‏

قال ابن عباس، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسدي‏:‏ ‏{‏وأزلفنا‏}‏ أي‏:‏ قربنا فرعون وجنوده من البحر وأدنيناهم إليه‏.‏

‏{‏وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ‏}‏ أي‏:‏ أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن معهم على دينهم فلم يهلك منهم أحد، وأغرق فرعون وجنوده، فلم يبق منهم رجل إلا هلك‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا شبابة، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله -هو ابن مسعود -أن موسى، عليه السلام، حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون ذلك، فأمر بشاة فذبحت، ثم قال‏:‏ لا والله لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط‏.‏ فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر، فقال له‏:‏ انفرق‏.‏ فقال البحر‏:‏ لقد استكبرت يا موسى، وهل انفرقت لأحد من ولد آدم فأنفرق لك‏؟‏ قال‏:‏ ومع موسى رجل على حصان له، فقال له ذلك الرجل‏:‏ أين أمرتَ يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ ما أمرت إلا بهذا الوجه ‏[‏يعني‏:‏ البحر، فأقحم فرسه، فسبح به فخرج، فقال‏:‏ أين أمرت يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ ما أمرت إلا بهذا الوجه‏]‏ ‏.‏ قال‏:‏ والله ما كَذَبت ولا كُذبت‏.‏ ثم اقتحم الثانية فسبح، ثم خرج فقال‏:‏ أين أمرت يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ ما أمرت إلا بهذا الوجه‏؟‏ قال‏:‏ والله ما كَذَبت ولا كُذبت‏.‏ قال‏:‏ فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه موسى بعصاه، فانفلق، فكان فيه اثنا عشر طريقًا، لكل سبط طريق يتراءون، فلما خرج أصحاب موسى وتَتَامّ أصحابُ فرعون، التقى البحر عليهم فأغرقهم‏.‏

وفي رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله قال‏:‏ فلما خَرَج آخر أصحاب موسى، وتكامل أصحاب فرعون، اضطم عليهم البحر، فما رُئِيَ سواد أكثر من يومئذ، وغرق فرعون لعنه الله‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ أي‏:‏ في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين؛ لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة، ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ تقدم تفسيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69 - 77‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏

هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء، أمر الله رسوله محمدا، صلوات الله وسلامه عليه، أن يتلوه على أمته، ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل، وعبادة الله وحده لا شريك له، والتبرؤ من الشرك وأهله؛ فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من قبل، أي‏:‏ من صغره إلى كبره، فإنه من وقت نَشَأ وشَب، أنكر على قومه عبادة الأصنام مع الله، عز وجل، فقال‏:‏ ‏{‏لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏‏؟‏

أي‏:‏ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون‏؟‏

‏{‏قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ‏}‏ أي‏:‏ مقيمين على عبادتها ودعائها‏.‏

‏{‏قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك، وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون، فهم على آثارهم يُهرعون‏.‏ فعند ذلك قال لهم إبراهيم‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير، فَلْتَخْلُص إلي بالمساءة، فإني عدو لها لا أباليها ولا أفكر فيها‏.‏ وهذا كما قال تعالى مخبرًا عن نوح، عليه السلام‏:‏ ‏{‏فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏71‏]‏ وقال هود، عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ‏.‏ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏54-56‏]‏ وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم وقال‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏81‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏26-28‏]‏ يعني‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏