فصل: تفسير الآيات رقم (78 - 82)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏78 - 82‏]‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏}‏

يعني‏:‏ لا أعبد إلا الذي يفعل هذه الأشياء، ‏{‏الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ‏}‏ أي‏:‏ هو الخالق الذي قدر قدرًا، وهدى الخلائق إليه، فكل يجري على ‏[‏ما‏]‏ قدّر، وهو الذي يهدي من يشاء ويُضل من يشاء‏.‏

‏{‏وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ‏}‏ أي‏:‏ هو خالقي ورازقي، بما سخر ويَسَّر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المُزْنَ، وأنزل الماء، وأحيا به الأرض، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبًا زلالا لــ ‏{‏نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏49‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ أسند المرض إلى نفسه، وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلَقْه، ولكن أضافه إلى نفسه أدبا، كما قال تعالى آمرًا للمصلي أن يقول‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏.‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏6، 7‏]‏ فأسند الإنعام إلى الله، سبحانه وتعالى، والغضب حُذف فاعله أدبًا، وأسند الضلال إلى العبيد، كما قالت الجن‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏10‏]‏؛ ولهذا قال إبراهيم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ أي‏:‏ إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره، بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه‏.‏

‏{‏وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ‏}‏ أي‏:‏ هو الذي يحيي ويميت، لا يقدر على ذلك أحد سواه، فإنه هو الذي يبدئ ويعيد‏.‏

‏{‏وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ أي‏:‏ هو الذي لا يقدر على غَفْر الذنوب في الدنيا والآخرة، إلا هو، ومن يغفر الذنوب إلا الله، وهو الفعال لما يشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83 - 89‏]‏

‏{‏رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏

وهذا سؤال من إبراهيم، عليه السلام، أن يؤتيه ربه حُكْما‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ وهو العلم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هو اللب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو القرآن‏.‏ وقال السدي‏:‏ هو النبوة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ اجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار‏:‏ ‏"‏‏[‏اللهم الرفيق الأعلى‏"‏ قالها ثلاثا ‏.‏ وفي الحديث في الدعاء‏]‏ ‏:‏ اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدلين‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ واجعل لي ذكرًا جميلا بعدي أذكرَ به، ويقتدى بي في الخير، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ‏.‏ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏108-110‏]‏‏.‏

قال مجاهد، وقتادة‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الثناء الحسن‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏27‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏122‏]‏‏.‏

قال ليث بن أبي سليم‏:‏ كل ملة تحبه وتتولاه‏.‏ وكذا قال عكرمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ‏}‏ أي‏:‏ أنعم عَليَّ في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي، وفي الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏41‏]‏، وهذا مما رجَعَ عنه إبراهيم، عليه السلام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏114‏]‏‏.‏ وقد قطع ‏[‏الله‏]‏ تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه، فقال‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ‏}‏ أي‏:‏ أجرني من الخزي يوم القيامة و‏[‏يوم‏]‏ يبعث الخلائق أولهم وآخرهم‏.‏

قال البخاري في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ‏}‏ وقال إبراهيم بن طهمان، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغَبَرَةُ والقَتَرَةُ‏"‏‏.‏

حدثنا إسماعيل، حدثنا أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يلقى إبراهيم أباه، فيقول‏:‏ يا رب، إنك وعدتني أنك لا تخزيني يوم يبعثون‏.‏ فيقول الله‏:‏ إني حرمت الجنة على الكافرين‏"‏‏.‏

هكذا رواه عند هذه الآية ‏.‏ وفي أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفردا به، ولفظه‏:‏ يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قَتَرَةٌ وغَبَرة، فيقول له إبراهيم‏:‏ ألم أقل لك‏:‏ لا تعصني فيقول أبوه ‏:‏ فاليوم لا أعصيك‏.‏ فيقول إبراهيم‏:‏ يا رب، إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد‏؟‏ فيقول الله تعالى‏:‏ إني حرمت الجنة على الكافرين‏.‏ ثم يُقال‏:‏ يا إبراهيم، ما تحت رجليك‏؟‏ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار‏.‏

وقال أبو عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ‏}‏‏:‏ أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد الله، حدَّثني أبي، حدثني إبراهيم بن طَهْمَان، عن محمد بن عبد الرحمن، عن سعيد بن أبي سعيد المقبرِي، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغَبَرة والقَتَرة، وقال له‏:‏ قد نهيتك عن هذا فعصيتني‏.‏ قال‏:‏ لكني اليوم لا أعصيك واحدة‏.‏ قال‏:‏ يا رب، وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فإن أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد‏.‏ قال‏:‏ يا إبراهيم، إني حرمتها على الكافرين‏.‏ فأخذ منه، قال‏:‏ يا إبراهيم، أين أبوك‏؟‏ قال‏:‏ أنت أخذته مني‏.‏ قال‏:‏ انظر أسفل منك‏.‏ فنظر فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه، فأخذ بقوائمه فألقي في النار‏.‏ هذا إسناد غريب، وفيه نكارة‏.‏

والذيخ ‏:‏ هو الذكر من الضباع، كأنه حول آزر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته، فيلقى في النار كذلك‏.‏

وقد رواه البزار من حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه غرابة‏.‏ ورواه أيضًا من حديث قتادة، عن جعفر بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يقي المرء من عذاب الله ماله، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا‏:‏ ‏{‏وَلا بَنُونَ‏}‏ ولو افتدى بِمَنْ في الأرض جميعا، ولا ينفعُ يومئذ إلا الإيمانُ بالله، وإخلاص الدين له، والتبري من الشرك؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ سالم من الدنس والشرك‏.‏

قال محمد بن سيرين‏:‏ القلب السليم أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَنْ في القبور‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ حَيِي يشهد أن لا إله إلا الله‏.‏

وقال مجاهد، والحسن، وغيرهما‏:‏ ‏{‏بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ من الشرك‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ القلب السليم‏:‏ هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن؛ لأن قلب ‏[‏الكافر و‏]‏ المنافق مريض، قال الله‏:‏ ‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏10‏]‏‏.‏

وقال أبو عثمان النيسابوري‏:‏ هو القلب الخالي من البدعة، المطمئن إلى السنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90 - 104‏]‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ‏}‏ أي‏:‏ قربت الجنة وأدنيت من أهلها يوم القيامة مزخرفة مزينة لناظريها، وهم المتقون الذين رغبوا فيها، وعملوا لها ‏[‏عملها‏]‏ في الدنيا‏.‏

‏{‏وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ‏}‏ أي‏:‏ أظهرت وكُشف عنها، وبدت منها عُنقٌ، فزفرت زفرة بلغت منها القلوب ‏[‏إلى‏]‏ الحناجر، وقيل لأهلها تقريعا وتوبيخا‏:‏ ‏{‏أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ‏.‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله، من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئًا، ولا تدفع عن أنفسها؛ فإنكم وإياها اليوم حَصَبُ جَهَنم أنتم لها واردون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ فَدُهْوِرُوا فيها‏.‏

وقال غيره‏:‏ كببوا فيها‏.‏ والكاف مكررة، كما يقال‏:‏ صرصر‏.‏ والمراد‏:‏ أنه ألقي بعضهم على بعض، من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك‏.‏

‏{‏وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ ألقوا فيها عن آخرهم‏.‏

‏{‏قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ يقول الضعفاء الذين استكبروا‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏47‏]‏‏.‏ ويقولون وقد عادوا على أنفسهم بالملامة‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ نجعل أمركم مطاعًا كما يطاع أمر رب العالمين، وعبدناكم مع ربِ العالمين‏.‏

‏{‏وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون‏.‏

‏{‏فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ يعني من الملائكة، كما يقولون‏:‏ ‏{‏فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏53‏]‏‏.‏ وكذا قالوا‏:‏ ‏{‏فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ‏.‏ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ قريب‏.‏

قال قتادة‏:‏ يعلمون -والله -أن الصديق إذا كان صالحًا نفع، وأن الحميم إذا كان صالحا شفع‏.‏

‏{‏فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وذلك أنهم يتمنون أنهم يردُّون إلى الدار الدنيا، ليعملوا بطاعة ربهم -فيما يزعمون -وهو، سبحانه وتعالى، يعلم أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون‏.‏ وقد أخبر تعالى عن تخاصم أهل النار في سورة ‏"‏ص‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏64‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامته الحجج عليهم في التوحيد لآية ودلالة واضحة جلية على أنه لا إله إلا الله ‏{‏وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ‏.‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105 - 110‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ‏}‏

هذا إخبار من الله، عز وجل، عن عبده ورسوله نوح، عليه السلام، وهو أول رسول بُعث

إلى الأرض بعدما عبدت الأصنام والأنداد، بعثه الله ناهيًا عن ذلك، ومحذرًا من وَبيل عقابه، فكذبه قومه واستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم، ويتنزل تكذيبهم له بمنزلة تكذيب جميع الرسل؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ ألا تخافون الله في عبادتكم غيره‏؟‏

‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ‏}‏ أي‏:‏ إني رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني به، أبلغكم رسالة الله لا أزيد فيها ولا أنقص منها‏.‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ‏[‏إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ‏]‏‏}‏ أي‏:‏ لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم، بل أدخر ثواب ذلك عند الله ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ‏}‏ فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني به وأتمنني عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111 - 115‏]‏

‏{‏قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏

يقولون‏:‏ أنؤمن لك ونتبعك، ونتساوى في ذلك بهؤلاء الأراذل الذين اتبعوك وصدقوك، وهم أراذلنا ؛ ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ‏.‏ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي، ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه لا يلزمني التنقيب عنه والبحث والفحص، إنما عليَّ أن أقبل منهم تصديقهم إياي، وأكل سرائرهم إلى الله، عز وجل‏.‏

‏{‏إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ليتابعوه، فأبى عليهم ذلك، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ إنما بعثت نذيرًا، فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وكنت منه، سواء كان شريفًا أو وضيعًا، أو جليلا أو حقيرًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116 - 122‏]‏

‏{‏قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا، وجهرًا وإسرارًا، وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ، والامتناع الشديد، وقالوا في الآخر‏:‏ ‏{‏لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ‏}‏ أي‏:‏ عن دعوتك إيانا إلى دينك يا نوح ‏{‏لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ‏}‏ أي‏:‏ لنرجمنَّك‏.‏ فعند ذلك دعا

عليهم دعوة استجاب الله منه، فقال ‏{‏رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ‏.‏ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ‏.‏ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ‏.‏ وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ‏.‏ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ‏.‏ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏10-14‏]‏‏.‏

وقال هاهنا ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏.‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ‏.‏‏}‏‏.‏ والمشحون‏:‏ هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيه من كل زوجين اثنين، أي‏:‏ نجيناه ومن معه كلهم، وأغرقنا مَنْ كذبه وخالف أمره كلهم، ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ‏.‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123 - 135‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏

وهذا إخبار من ‏[‏الله تعالى عن‏]‏ عبده ورسوله هود، عليه السلام، أنه دعا قومه عادًا، وكانوا قومًا يسكنون الأحقاف، وهي‏:‏ جبال الرمل قريبًا من بلاد حضرموت متاخمة لبلاد اليمن، وكان زمانهم بعد قوم نوح، ‏[‏كما قال في ‏"‏سورة الأعراف‏"‏‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ‏]‏ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏69‏]‏ وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب، والقوة والبطش الشديد، والطول المديد، والأرزاق الدارة، والأموال والجنات والعيون، والأبناء والزروع والثمار، وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه، فبعث الله إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرًا ونذيرًا، فدعاهم إلى الله وحده، وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته، فقال لهم كما قال نوح لقومه، إلى أن قال‏:‏ ‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ‏}‏، اختلف المفسرون في الريع بما حاصله‏:‏ أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة‏.‏ تبنون هناك بناء محكما باهرًا هائلا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً‏}‏ أي‏:‏ معلما بناء مشهورًا، تعبثون، وإنما تفعلون ذلك عبثًا لا للاحتياج إليه؛ بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة؛ ولهذا أنكر عليهم نبيهم، عليه السلام، ذلك؛ لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏المصانع‏:‏ البروج المشيدة، والبنيان المخلد‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ بروج الحمام‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هي مأخذ الماء‏.‏ قال قتادة‏:‏ وقرأ بعض القراء‏:‏ وتتخذون مصانع كأنكم خالدون‏"‏‏.‏

وفي القراءة المشهورة‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏ أي‏:‏ لكي تقيموا فيها أبدًا، وليس ذلك بحاصل لكم، بل زائل عنكم، كما زال عمن كان قبلكم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا الوليد، حدثنا ابن عَجْلان، حدثني عَوْن بن عبد الله بن عتبة، أن أبا الدرداء، رضي الله عنه، لما رأى ما أحدث المسلمون في الغُوطة من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى‏:‏ يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ ألا تستحيون‏!‏ ألا تستحيون‏!‏ تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه كانت قبلكم قرون، يجمعون فيرعون، ويبنون فيوثقون ، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورًا، وأصبح جمعهم بورًا، وأصبحت مساكنهم قبورًا، ألا إن عادًا ملكت ما بين عدن وعمان خيلا وركابًا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين‏؟‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ‏}‏ وصفهم بالقوة والغلظة والجبروت‏.‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ‏}‏ أي‏:‏ اعبدوا ربكم، وأطيعوا رسولكم‏.‏

ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم فقال‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ‏.‏ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ‏.‏ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ‏.‏ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ إن كذبتم وخالفتم، فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب، فما نفع فيهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136 - 140‏]‏

‏{‏قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن جواب قوم هود له، بعدما حذرهم وأنذرهم، وَرَغَّبَهُم ورهبهم، وبيَّن لهم الحق ووضحه‏:‏ ‏{‏قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا نرجع عما نحن فيه، ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏53‏]‏ وهكذا الأمر؛ فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏6‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏96، 97‏]‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ‏}‏‏:‏ قرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏إن هذا إلا خَلْق‏"‏ بفتح الخاء وتسكين

اللام‏.‏

قال ابن مسعود، والعوفي عن عبد الله بن عباس، وعلقمة، ومجاهد‏:‏ يعنون ما هذا الذي جئتنا به إلا أخلاق الأولين‏.‏ كما قال المشركون من قريش‏:‏ ‏{‏وقالوا أساطير الأولين ‏[‏اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏5‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4، 5‏]‏، وقال ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏‏]‏ ‏[‏النحل‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وقرأ آخرون‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ‏}‏ -بضم الخاء واللام -يعنون‏:‏ دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأوائل من الآباء والأجداد‏.‏ ونحن تابعون لهم، سالكون وراءهم، نعيش كما عاشوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد؛ ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏‏.‏

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ‏}‏ يقول‏:‏ دين الأولين‏.‏ وقاله عكرمة، وعطاء الخراساني، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ فاستمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده، فأهلكهم الله، وقد بيَّن سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحًا صرصرًا عاتية، أي‏:‏ ريحًا شديدة الهبوب ذات برد شديد جدًا، فكان إهلاكهم من جنسهم، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة، كما قال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ‏[‏ذَاتِ الْعِمَادِ‏]‏‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏6، 7‏]‏ وهم عاد الأولى، كما قال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏50‏]‏، وهم من نسل إرم بن سام بن نوح‏.‏ ‏{‏ذَاتِ الْعِمَادِ‏}‏ أي‏:‏ الذين كانوا يسكنون العمد‏.‏ ومن زعم أن ‏"‏إرم‏"‏ مدينة، فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب، وليس لذلك أصل أصيل‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏8‏]‏، أي‏:‏ لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم، ولو كان المراد بذلك مدينة لقال‏:‏ التي لم يبن مثلها في البلاد، وقال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏15‏]‏‏.‏

وقد قَدَّمنا أن الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا بمقدار أنف الثور، عتت على الخزنة، فأذن الله لها في ذلك، وسلكت وحصبت بلادهم، فحصبت كل شيء لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الأحقاف‏:‏25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏6، 7‏]‏، أي‏:‏ كاملة ‏{‏فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 7‏]‏، أي‏:‏ بقوا أبدانًا بلا رؤوس؛ وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخ دماغه، وتكسر رأسه، وتلقيه، كأنهم أعجاز نخل منقعر‏.‏ وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم، فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئا، ‏{‏إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏4‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ‏.‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏141 - 145‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏

وهذا إخبار من الله، عز وجل، عن عبده ورسوله صالح، عليه السلام‏:‏ أنه بعثه إلى قوم ثمود، وكانوا عربًا يسكنون مدينة الحجْر، التي بين وادي القُرَى وبلاد الشام، ومساكنهم معروفة مشهورة‏.‏ وقد قدمنا في ‏"‏سورة الأعراف‏"‏ الأحاديث المروية في مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم حين أراد غَزْوَ الشام، فوصل إلى تَبُوك، ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك‏.‏ وقد كانوا بعد عاد وقبل الخليل، عليه السلام‏.‏ فدعاهم نبيهم صالح إلى الله، عز وجل، أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة، فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه‏.‏ فأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم، وإنما يطلب ثواب ذلك من الله، عز وجل، ثم ذكرهم آلاء الله عليهم فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146 - 152‏]‏

‏{‏أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ‏}‏

يقول لهم واعظًا لهم ومحذرًا إياهم نقم الله أن تحل بهم، ومذكرًا بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارّة، وجعلهم في أمن من المحذورات‏.‏ وأنبت لهم من الجنات، وأنبع لهم من العيون الجاريات، وأخرج لهم من الزروع والثمرات؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏‏.‏ قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ أينع وبَلَغ، فهو هضيم‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏ يقول‏:‏ مُعشبة‏.‏

‏[‏و‏]‏ قال إسماعيل بن أبي خالد، عن عمرو بن أبي عمرو -وقد أدرك الصحابة -عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ إذا رطُب واسترخى‏.‏ رواه ابن أبي حاتم، قال‏:‏ ورُوي عن أبي صالح نحو هذا‏.‏

وقال أبو إسحاق، عن أبي العلاء‏:‏ ‏{‏وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ هو المذنب من الرطب‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هو الذي إذا كُبس تهشم وتفتت وتناثر‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ سمعت عبد الكريم أبا أمية، سمعت مجاهدا يقول‏:‏ ‏{‏وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ حين يطلعُ تقبض عليه فتهضَمه، فهو من الرطب الهضيم، ومن اليابس الهشيم، تقبض عليه فتهشمه‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ وقتادة، الهضيم‏:‏ الرطب اللين‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ إذا كثر حمل الثمرة، وركب بعضه بعضًا، فهو هضيم‏.‏

وقال مرة‏:‏ هو الطَّلْعُ حين يتفرق ويخضر‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ هو الذي لا نوى له‏.‏

وقال أبو صخر‏:‏ ما رأيت الطلعَ حين يُشق عنه الكمّ، فترى الطلع قد لصق بعضه ببعض، فهو الهضيم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ‏}‏ قال ابن عباس، وغير واحد‏:‏ يعني‏:‏ حاذقين‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ شرهين أشرين ‏.‏ وهو اختيار مجاهد وجماعة‏.‏ ولا منافاة بينهما؛ فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرًا وبطرًا وعبثًا، من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ‏}‏ أي‏:‏ أقبلوا على عَمَل ما يعود نفُعه عليكم في الدنيا والآخرة، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتوحدوه وتعبدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا‏.‏

‏{‏وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ‏}‏ يعني‏:‏ رؤساءهم وكبراءهم، الدعاة لهم إلى الشرك والكفر، ومخالفة الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153 - 159‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن ثمود في جوابهم لنبيهم صالح، عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة ربهم ‏{‏قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ‏}‏‏.‏ قال مجاهد، وقتادة‏:‏ يعنون من المسحورين‏.‏

وروى أبو صالح، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مِنَ الْمُسَحَّرِينَ‏}‏ ‏:‏ يعني من المخلوقين، واستشهد بعضهم على هذا القول بما قال الشاعر‏:‏ فإن تسألينا‏:‏ فيم نحن ? فإننا

عصافير من هذا الأنام المسحريعني الذين لهم سُحور، والسَّحر‏:‏ هو الرئة‏.‏

والأظهر في هذا قول مجاهد وقتادة‏:‏ أنهم يقولون‏:‏ إنما أنت في قولك هذا مسحور لا عقل لك‏.‏

ثم قالوا‏:‏ ‏{‏مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا‏}‏ يعني‏:‏ فكيف أوحي إليك دوننا‏؟‏ كما قالوا في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أَؤُلْقِيَ‏}‏ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏

ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها، ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم فطلبوا منه -وقد اجتمع ملؤهم -أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة -وأشاروا إلى صخرة عندهم -ناقة عُشَراء من صفتها كذا وكذا‏.‏ فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق، لئن أجابهم إلى ما سألوا لَيُؤمنَنَ به، ‏[‏وليصدقنه‏]‏، وليتبعنه، فأنعموا بذلك‏.‏ فقام نبي الله صالح، عليه السلام، فصلى، ثم دعا الله، عز وجل، أن يجيبهم إلى سؤالهم، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عُشَراء، على الصفة التي وصفوها‏.‏ فآمن بعضهم وكفر أكثرهم، ‏{‏قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ‏}‏ يعني‏:‏ ترد ماءكم يوما، ويوما تردونه أنتم، ‏{‏وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حينًا من الدهر ترد الماء، وتأكل الورق والمرعى‏.‏ وينتفعون بلبنها، يحتلبون منها ما يكفيهم شربًا وريًا، فلما طال عليهم الأمد وحضر شقاؤهم، تمالؤوا على قتلها وعقرها‏.‏

‏{‏فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ‏}‏ وهو أن أرضهم زُلزلت زلزالا شديدًا، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب عن محالها، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160 - 164‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله لوط، عليه السلام، وهو‏:‏ لوط بن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل، وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم، وكانوا يسكنون ‏"‏سدوم‏"‏ وأعمالها التي أهلكها الله بها، وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة، وهي مشهورة ببلاد الغور، متاخمة لجبال البيت المقدس، بينها وبين بلاد الكَرَك والشَّوبَك، فدعاهم إلى الله، عز وجل، أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم، مما لم يسبقهم الخلائق إلى فعله، من إتيان الذكْران دون الإناث؛ ولهذا قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165 - 175‏]‏

‏{‏أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

لما نهاهم نبي الله عن إتيانهم الفواحش، وغشيانهم الذكور، وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهن الله لهم -ما كان جواب قومه له إلا قالوا‏:‏ ‏{‏لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ‏}‏ يعنونَ‏:‏ عما جئتنا به، ‏{‏لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ‏}‏ أي‏:‏ ننفيك من بين أظهرنا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏82‏]‏، فلما رأى أنَّهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرون على ضلالتهم، تبرأ منهم فقال‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ‏}‏ أي‏:‏ الُمبغضين، لا أحبه ولا أرضى به؛ فأنا بريء منكم‏.‏ ثم دعا الله عليهم قال‏:‏ ‏{‏رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قال الله تعالى ‏{‏فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي‏:‏ كلهم‏.‏

‏{‏إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ‏}‏، وهي امرأته، وكانت عجوز سوء بقيت فهلكت مع مَنْ بقي من قومها، وذلك كما أخبر الله تعالى عنهم في ‏"‏سورة الأعراف‏"‏ و‏"‏هود‏"‏، وكذا في ‏"‏الحِجْر‏"‏ حين أمره الله أن يسري بأهله إلا امرأته، وأنهم لا يلتفتون إذا سمعوا الصيحة حين تنزل على قومه، فصبروا لأمر الله واستمروا، وأنزل الله على أولئك العذاب الذي عمّ جميعهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ‏.‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ‏.‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ‏.‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176 - 180‏]‏

‏{‏كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏

هؤلاء -أعني أصحاب الأيكة -هم أهل مدين على الصحيح‏.‏ وكان نبي الله شعيب من أنفسهم، وإنما لم يقل هنا أخوهم شعيب؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، وهي شجرة‏.‏ وقيل‏:‏ شجر ملتف كالغَيضة، كانوا يعبدونها؛ فلهذا لما قال‏:‏ كذب أصحاب الأيكة المرسلين، لم يقل‏:‏ ‏"‏إذ قال لهم أخوهم شعيب‏"‏، وإنما قال‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ‏}‏، فقطع نسبة الأخوة بينهم؛ للمعنى الذي نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسبا‏.‏ ومن الناس مَنْ لم يتفطن لهذه النكتة، فظن أن أصحاب الأيكة غير

أهل مدين، فزعم أن شعيبًا عليه السلام، بعثه الله إلى أمتين، ومنهم مَنْ قال‏:‏ ثلاث أمم‏.‏

وقد روى إسحاق بن بشر الكاهلي -وهو ضعيف -حدثني ابن السدي، عن أبيه -وزكريا بن عمر، عن خَصِيف، عن عِكْرِمة قالا ما بعث الله نبيًا مرتين إلا شعيبًا، مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظُّلَّةِ‏.‏

وروى أبو القاسم البغوي، عن هُدْبَة، عن هَمَّام، عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَصْحَابَ الرَّسِّ‏}‏‏.‏‏[‏ق‏:‏12‏]‏ قوم شعيب، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ‏}‏‏.‏ ‏[‏ق‏:‏14‏]‏ قوم شعيب‏.‏

قال إسحاق بن بشر‏:‏ وقال غير جُوَيْبر‏:‏ أصحاب الأيكة ومدين هما واحد‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة ‏"‏شعيب‏"‏، من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن أبيه، عن معاوية بن هشام، عن هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان، بعث الله إليهما شعيبًا النبي، عليه السلام‏"‏‏.‏

وهذا غريب، وفي رفعه نظر، والأشبه أن يكون موقوفا‏.‏ والصحيح أنهم أمة واحدة، وصفوا في كل مقام بشيء؛ ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء ، فدل ذلك على أنهم أمة واحدة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181 - 184‏]‏

‏{‏أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ‏}‏

يأمرهم تعالى بإيفاء المكيال والميزان، وينهاهم عن التطفيف فيهما، فقال‏:‏ ‏{‏أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ إذا دفعتم إلى الناس فكملوا الكيل لهم، ولا تخسروا الكيل فتعطوه ناقصا، وتأخذوه -إذا كان لكم -تامًا وافيًا، ولكن خذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون‏.‏

‏{‏وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ‏}‏‏:‏ والقسطاس هو‏:‏ الميزان، وقيل‏:‏ القَبَّانُ‏.‏ قال بعضهم‏:‏ هو معرب من الرومية‏.‏

قال‏:‏ مجاهد‏:‏ القسطاس المستقيم‏:‏ العدل -بالرومية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ القسطاس‏:‏ العدل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ تَنْقُصوهم أموالهم، ‏{‏وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏

‏:‏ يعني‏:‏ قطع الطريق، كما في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ‏[‏وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ‏]‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏86‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ‏}‏‏:‏ يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل، كما قال موسى، عليه السلام‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏126‏]‏‏.‏ قال ابن عباس، ومجاهد، والسُّدَّي، وسفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ‏}‏ يقول‏:‏ خلق الأولين‏.‏ وقرأ ابن زيد‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏62‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185 - 191‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏

يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها -تشابهت قلوبهم -حيث قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ‏}‏ يعنون‏:‏ من المسحورين، كما تقدم‏.‏

‏{‏وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ‏}‏ أي‏:‏ تتعمد الكذب فيما تقوله، لا أن الله أرسلك إلينا‏.‏

‏{‏فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ‏}‏‏:‏ قال الضحاك‏:‏ جانبا من السماء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قطعا من السماء‏.‏ وقال السدي‏:‏ عذابًا من السماء‏.‏ وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا‏}‏، إلى أن قالوا‏:‏ ‏{‏أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏90-92‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏32‏]‏، وهكذا قال هؤلاء الكفرة الجهلة‏:‏ ‏{‏فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ يقول‏:‏ الله أعلم بكم، فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به غير ظالم لكم، وكذلك وقع بهم كما سألوا، جزاءً وفاقًا؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ وهذا من جنس ما سألوا، من إسقاط الكسف عليهم، فإن الله، سبحانه وتعالى، جعل عقوبتهم أن أصابهم حر شديد جدا مدة سبعة أيام لا يَكُنُّهم منه شيء، ثم

أقبلت إليهم سحابة أظلتهم، فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر، فلما اجتمعوا ‏[‏كلهم‏]‏ تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شررًا من نار، ولهبا ووهجًا عظيمًا، ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

وقد ذكر الله تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق، ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين؛ وذلك لأنهم قالوا‏:‏ ‏{‏لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏88‏]‏، فأرجفوا بنبي الله ومن اتبعه، فأخذتهم الرجفة‏.‏ وفي سورة هود قال‏:‏ ‏{‏وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏94‏]‏؛ وذلك لأنهم استهزؤوا بنبي الله في قولهم‏:‏ ‏{‏أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏87‏]‏‏.‏ قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء، فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ‏}‏ وهاهنا قالوا‏:‏ ‏{‏فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ على وجه التعنت والعناد، فناسب أن يحق عليهم ما استبعدوا وقوعه‏.‏ ‏{‏فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

قال قتادة‏:‏ قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه‏:‏ إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء، ثم إن الله أنشأ لهم سحابة، فانطلق إليها أحدهم واستظل بها، فأصاب تحتها بردًا وراحة، فأعلم بذلك قومه، فأتوها جميعا، فاستظلوا تحتها، فأجَّجتْ عليهم نارًا‏.‏

وهكذا روي عن عِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَير، والحسن، وقتادة، وغيرهم‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، بعث الله إليهم الظلة، حتى إذا اجتمعوا كلهم، كشف الله عنهم الظلة، وأحمى عليهم الشمس، فاحترقوا كما يحترق الجراد في الَمقْلَى‏.‏

وقال محمد بن كعب القُرَظيّ‏:‏ إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب‏:‏ أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها، فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد، فَفَرقُوا أن يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم، فأرسل الله عليهم الظلة، فدخل تحتها رجل فقال‏:‏ ما رأيت كاليوم ظلا أطيب ولا أبرد من هذا‏.‏ هلموا أيها الناس‏.‏ فدخلوا جميعًا تحت الظلة، فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا جميعًا‏.‏ ثم تلا محمد بن كعب‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني الحارث، حدثني الحسن، حدثني سعيد بن زيد -أخو حماد بن زيد -حدثني حاتم بن أبي صغيرة حدثني يزيد الباهلي‏:‏ سألت ابن عباس، عن هذه الآية ‏{‏فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ بعث الله عليهم وَمَدَةً وحرا شديدا، فأخذ بأنفاسهم ‏[‏فدخلوا البيوت، فدخل عليهم أجواف البيوت، فأخذ بأنفاسهم‏]‏ فخرجوا من البيوت هرابًا إلى البرية، فبعث الله سحابة فأظلتهم من الشمس، فوجدوا لها بردًا ولذة، فنادى بعضهم بعضا، حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسلها الله عليهم نارا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فذلك عذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ‏.‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ العزيز في انتقامه من الكافرين، الرحيم بعباده المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏192 - 195‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏{‏وإنه‏}‏ أي‏:‏ القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ‏}‏ ‏[‏الآية‏]‏‏.‏ ‏{‏لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ أنزله الله عليك وأوحاه إليك‏.‏

‏{‏نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ‏}‏‏:‏ وهو جبريل، عليه السلام، قاله غير واحد من السلف‏:‏ ابن عباس، ومحمد بن كعب، وقتادة، وعطية العوفي، والسدي، والضحاك، والزهري، وابن جريج‏.‏ وهذا ما لا نزاع فيه‏.‏

قال الزهري‏:‏ وهذه كقوله ‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏97‏]‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من كلمه الروح الأمين لا تأكله الأرض‏.‏

‏{‏عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ نزل به ملك كريم أمين، ذو مكانة عند الله، مطاع في الملأ الأعلى، ‏{‏عَلَى قَلْبِكَ‏}‏ يا محمد، سالمًا من الدنس والزيادة والنقص؛ ‏{‏لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ‏}‏‏]‏ أي‏:‏ لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه، وتبشر به المؤمنين المتبعين له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ هذا القرآن الذي أنزلناه إليك ‏[‏أنزلناه‏]‏ بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بَيِّنًا واضحًا ظاهرًا، قاطعًا للعذر، مقيمًا للحجة، دليلا إلى المحجة‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي بكر العَتَكيّ، حدثنا عباد بن عباد الُمهَلَّبي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال‏:‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في يوم دَجْن إذ قال لهم‏:‏ ‏"‏كيف ترون بواسقها‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ما أحسنها وأشد تراكمها‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فكيف ترون قواعدها‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ما أحسنها وأشد تمكنها‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فكيف ترون جَوْنَها ‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ما أحسنه وأشد سواده‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فكيف ترون رحاها استدارت‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ما أحسنها وأشد استدارتها‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فكيف ترون برقها، أومَيض أم خَفْو أم يَشُق شَقّا ‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ بل يشق شقًا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏الحياء الحياء إن شاء الله‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، بأبي وأمي ما أفصحك، ما رأيت الذي هو أعربُ منك‏.‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏حق لي، وإنما أنزل القرآن بلساني، والله يقول‏:‏ ‏{‏بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ لم ينزل وحي إلا بالعربية، ثم تَرْجم كل نبي لقومه، واللسان يوم القيامة بالسريانية، فَمَنْ دخل الجنة تكلم بالعربية‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196 - 199‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ وإنَّ ذِكْر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم، الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك، حتى قام آخرهم خطيبًا في ملئه بالبشارة بأحمد‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 6‏]‏، والزبر هاهنا هي الكتب وهي جمع زَبُور، وكذلك الزبور، وهو كتاب داود‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏52‏]‏ أي‏:‏ مكتوب عليهم في صحف الملائكة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ أي‏:‏ أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك‏:‏ أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها‏؟‏ والمراد‏:‏ العدول منهم، الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته، كما أخبر بذلك مَنْ آمن منهم كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، عَمَّنْ أدركه منهم ومَنْ شاكلهم‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏157‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى مخبرًا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن؛ أنه لو أنزله على رجل من الأعاجم، مِمَّنْ لا يدري من العربية كلمة، وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته، لا يؤمنون به؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ‏.‏ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ‏}‏، كما أخبر عنهم في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ‏.‏ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏14، 15‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏111‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ‏.‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏96، 97‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏200 - 209‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد، أي‏:‏ أدخلناه في قلوب المجرمين‏.‏

‏{‏لا يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بالحق ‏{‏حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ‏}‏ أي‏:‏ حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار‏.‏

‏{‏فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً‏}‏ أي‏:‏ عذاب الله بغتة، ‏{‏وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏.‏ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلا ليعملوا ‏[‏من فزعهم‏]‏ بطاعة الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏44‏]‏، فكل ظالم وفاجر وكافر إذا شاهد عقوبته، ندم ندمًا شديدًا هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ‏[‏فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ‏]‏‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏88، 89‏]‏، فأثرت هذه الدعوة في فرعون، فما آمن حتى رأى العذاب الأليم، ‏{‏حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏90، 91‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 84، 85‏]‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ‏}‏‏:‏ إنكار عليهم، وتهديد لهم؛ فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيبًا واستبعادًا‏:‏ ‏{‏ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 29‏]‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ‏}‏ الآية‏.‏‏[‏العنكبوت‏:‏ 53‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ‏}‏ أي‏:‏ لو أخرناهم وأنظرناهم، وأملينا لهم برهة من الزمان وحينًا من الدهر وإن طال، ثم جاءهم أمر الله، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعم، ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏46‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏96‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏11‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ‏}‏‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له‏:‏ هل رأيت خيرًا قط‏؟‏ هل رأيت نعيمًا قط‏؟‏ فيقول‏:‏ لا ‏[‏والله يا رب‏]‏ ‏.‏ ويؤتى بأشد الناس بؤسًا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له‏:‏ هل رأيت بؤسًا قط‏؟‏ فيقول‏:‏ لا والله يا رب‏"‏ أي‏:‏ ما كأن شيئًا كان؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت‏:‏

كأنَّك لَمْ تُوتِر من الدّهْر لَيْلَةً *** إذا أنْتَ أدْرَكْتَ الذي كنتَ تَطْلُب

ثم قال الله تعالى مخبرًا عن عدله في خلقه‏:‏ أنَّه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم، والإنذار لهم وبعثة الرسل إليهم وقيام الحجج عليهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ‏.‏ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏15‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ‏[‏وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا‏]‏ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏59‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏210 - 212‏]‏

‏{‏وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد‏:‏ أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله، ‏{‏وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ‏}‏‏.‏ ثم ذكر أنه يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه، أحدها‏:‏ أنه ما ينبغي لهم، أي‏:‏ ليس هو من بُغْيتهم ولا من طلبتهم؛ لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونور وهدى وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏21‏]‏‏.‏

ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته، لما وصلوا إلى ذلك؛ لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله؛ لأن السماء ملئت حرسًا شديدًا وشهبا في مُدّة إنزال القرآن على رسوله، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا يشتبه الأمر‏.‏ وهذا من رحمة الله بعباده، وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ‏}‏، كما قال تعالى مخبرًا عن الجن‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏8-10‏]‏‏.‏