فصل: تفسير الآيات رقم (38- 40)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ‏}‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رُومَان قال‏:‏ فلما رجعت إليها الرسل بما قال سليمان قالت‏:‏ قد- والله- عرفتُ، ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئًا‏.‏ وبعثت إليه‏:‏ إني قادمة عليك بملوك قومي، لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه من دينك‏.‏ ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه- وكان من ذهب مُفصَّص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ- فجعل في سبعة أبيات، بعضها في بعض، ثم أقفلت عليه الأبواب، ثم قالت لمن خَلفت على سلطانها‏:‏ احتفظ بما قبلك، وسرير ملكي، فلا يخلص إليه أحد من عباد الله، ولا يَرَينَّه أحد حتى آتيك‏.‏ ثم شَخَصَت إلى سليمان في اثني عشر ألف قَيْل من ملوك اليمن، تحت يدي كل قَيْل منهم ألوف كثيرة‏.‏ فجعل سليمان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دَنت جمع مَنْ عنده من الجن والإنس، مِمَّنْ تحت يديه، فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ لما بلغ سليمان أنها جائية، وكان قد ذكر له عرشها فأعجبه، وكان من ذهب، وقوائمه لؤلؤ وجوهر، وكان مسترًا بالديباج والحرير، وكانت عليه تسعة مغاليق، فكره أن يأخذه بعد إسلامهم‏.‏ وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم أموالهم مع دمائهم فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

وهكذا قال عطاء الخراساني، والسُّدِّي، وزُهير بن محمد‏:‏ ‏{‏قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ‏}‏ فتحرم علي أموالهم بإسلامهم‏.‏

‏{‏قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي مارد من الجن‏.‏

قال شُعَيب الجبائي‏:‏ وكان اسمه كوزن‏.‏ وكذا قال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان‏.‏ وكذا قال أيضا وهب بن منبه‏.‏

قال أبو صالح‏:‏ وكان كأنه جبل‏.‏

‏{‏أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ قبل أن تقوم من مجلسك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مقعدك، وقال السدي، وغيره‏:‏ كان يجلس للناس للقضاء والحكومات وللطعام من أول النهار إلى أن تَزول الشمس‏.‏

‏{‏وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ‏}‏‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ أي قوي على حمله، أمين على ما فيه من الجوهر‏.‏

فقال سليمان، عليه السلام‏:‏ أريد أعجل من ذلك‏.‏ ومن هاهنا يظهر أن النبي سليمان أراد بإحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهبه الله له من الملك، وسَخَّر له من الجنود، الذي لم يعطه أحد قبله، ولا يكون لأحد من بعده‏.‏ وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها؛ لأن هذا خارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يَقْدموا عليه‏.‏ هذا وقد حجبته بالأغلاق والأقفال والحفظة‏.‏ فلما قال سليمان‏:‏ أريد أعجل من ذلك، ‏{‏قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وهو آصف كاتب سليمان‏.‏ وكذا رَوَى محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان‏:‏ أنه آصف بن برخياء، وكان صدّيقا يعلم الاسم الأعظم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان مؤمنا من الإنس، واسمه آصف‏.‏ وكذا قال أبو صالح، والضحاك، وقتادة‏:‏ إنه كان من الإنس- زاد قتادة‏:‏ من بني إسرائيل‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كان اسمه أسطوم‏.‏

وقال قتادة- في رواية عنه- ‏:‏ كان اسمه بليخا‏.‏

وقال زهير بن محمد‏:‏ هو رجل من الأندلس يقال له‏:‏ ذو النور‏.‏

وزعم عبد الله بن لَهِيعة‏:‏ أنه الخضر‏.‏ وهو غريب جدًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ‏}‏ أي‏:‏ ارفع بصرك وانظر مُدّ بصرك مما تقدر عليه، فإنك لا يكل بصرك إلا وهو حاضر عندك‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ امدد بصرك، فلا يبلغ مداه حتى آتيك به‏.‏

فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب، ثم قام فتوضأ، ودعا الله عز وجل‏.‏

قال مجاهد‏:‏ قال‏:‏ يا ذا الجلال والإكرام‏.‏ وقال الزهري‏:‏ قال‏:‏ يا إلهنا وإله كل شيء، إلهًا واحدًا، لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها‏.‏ قال‏:‏ فتمثل له بين يديه‏.‏

قال مجاهد، وسعيد بن جبير، ومحمد بن إسحاق، وزهير بن محمد، وغيرهم‏:‏ لما دعا الله، عز وجل، وسأله أن يأتيه بعرش بلقيس- وكان في اليمن، وسليمان عليه السلام ببيت المقدس- غاب السرير، وغاص في الأرض، ثم نبع من بين يدي سليمان، عليه السلام‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، لم يشعر سليمان إلا وعرشها يحمل بين يديه‏.‏ قال‏:‏ وكان هذا الذي جاء به من عُبَّاد البحر، فلما عاين سليمان ومَلَؤه ذلك، ورآه مستقرًا عنده ‏{‏قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ هذا من نعم الله علي ‏{‏لِيَبْلُوَنِي‏}‏ أي‏:‏ ليختبرني، ‏{‏أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ‏}‏، كقوله ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏، وكقوله ‏{‏وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ هو غني عن العباد وعبادتهم، ‏{‏كَرِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ كريم في نفسه، وإن لم يعبده أحد، فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد، وهذا كما قال موسى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا‏.‏ يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا‏.‏ يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ‏[‏ثم أوفيكم إياها‏]‏ فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

لما جيء سليمان، عليه السلام، بعرش بلقيس قبل قدومها، أمر به أن يغير بعض صفاته، ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته، هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس به، فقال‏:‏ ‏{‏نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ نزع عنه فصوصه ومرافقه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ أمر به فغير ما كان أحمر جعل أصفر، وما كان أصفر جعل أحمر‏:‏ وما كان أخضر جعل أحمر، غَيَّر كل شيء عن حاله‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ زادوا فيه ونقصوا‏.‏

‏[‏وقال قتادة‏:‏ جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره، وزادوا فيه ونقصوا‏]‏‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ‏}‏ أي‏:‏ عرض عليها عرشها، وقد غير ونُكِّر، وزيد فيه ونقص منه، فكان فيها ثبات وعقل، ولها لُب ودهاء وحزم، فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها، ولا أنه غيره، لما رأت من آثاره وصفاته، وإن غير وبدل ونكر، فقالت‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُ هُوَ‏}‏ أي‏:‏ يشبهه ويقاربه‏.‏ وهذا غاية في الذكاء والحزم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ‏}‏‏:‏ قال مجاهد‏:‏ سليمان يقوله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ‏}‏‏:‏ هذا من تمام كلام سليمان، عليه السلام- في قول مجاهد، وسعيد بن جبير، رحمهما الله- أي‏:‏ قال سليمان‏:‏ ‏{‏وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ‏}‏، وهي كانت قد صدها، أي‏:‏ منعها من عبادة الله وحده‏.‏ ‏{‏مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ‏}‏‏.‏ وهذا الذي قاله مجاهد وسعيد حَسَنٌ‏}‏، وقاله ابن جرير أيضا‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ ويحتمل أن يكون في قوله‏:‏ ‏{‏وَصَدَّهَا‏}‏ ضمير يعود إلى سليمان، أو إلى الله، عز وجل، تقديره‏:‏ ومنعها ‏{‏مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ صدَّها عن عبادة غير الله ‏{‏إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيد قول مجاهد‏:‏ أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح، كما سيأتي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا‏}‏ وذلك أن سليمان، عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصرًا عظيما من قوارير، أي‏:‏ من زجاج، وأجرى تحته الماء، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه‏.‏ واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان، عليه السلام، إلى اتخاذه، فقيل‏:‏ إنه لما عزم على تزويجها واصطفائها لنفسه؛ ذكر له جمالها وحسنها، ولكن في ساقيها هُلْبٌ عظيم، ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة‏.‏ فساءه ذلك، فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا‏؟‏- هذا قول محمد بن كعب القُرَظي، وغيره- فلما دخلت وكشفت عن ساقيها، رأى أحسن الناس وأحسنه قدمًا، ولكن رأى على رجليها شعرًا؛ لأنها ملكة ليس لها بعل فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها‏:‏ الموسى‏؟‏ فقالت‏:‏ لا أستطيع ذلك‏.‏ وكره سليمان ذلك، وقال للجن‏:‏ اصنعوا شيئًا غير الموسى يذهب به هذا الشعر، فصنعوا له النُورَةَ‏.‏ وكان أول من اتخذت له النّورَة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، ومحمد بن كعب القرظي، والسدي، وابن جُرَيْج، وغيرهم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رُومان‏:‏ ثم قال لها‏:‏ ادخلي الصرح، ليريها مُلْكًا هو أعزّ من ملكها، وسلطانا هو أعظم من سلطانها‏.‏ فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، لا تشك أنه ماء تخوضه، فقيل لها‏:‏ إنه صرح مُمَرّد من قوارير‏.‏ فلما وقفت على سليمان، دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ لما رأت العلْجَةُ الصرح عرفت- والله- أن قد رأت ملكًا أعظم من ملكها‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال‏:‏ أمر سليمان بالصرح، وقد عملته له الشياطين من زجاج، كأنه الماء بياضا‏.‏ ثم أرسل الماء تحته، ثم وضع له فيه سريره، فجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، ثم قال‏:‏ ادخلي الصرح، ليريها ملكا هو أعز من ملكها، وسلطانا هو أعظم من سلطانها ‏{‏فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا‏}‏، لا تشك أنه ماء تخوضه، قيل لها‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ‏}‏، فلما وقفت على سليمان، دعاها إلى عبادة الله، عز وجل، وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله‏.‏ فقالت بقول الزنادقة، فوقع سليمان ساجدًا إعظاما لما قالت، وسجد معه الناس، فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع، فلما رفع سليمان رأسه قال‏:‏ ويحك‏!‏ ماذا قلت‏؟‏- قال‏:‏ وأنسيت ما قالت فقالت‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، فأسلمت وحسن إسلامها‏.‏

وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثرًا غريبا عن ابن عباس، قال‏:‏ حدثنا الحسين بن علي، عن زائدة، حدثني عطاء بن السائب، حدثنا مجاهد، ونحن في الأزد- قال‏:‏ حدثنا ابن عباس قال‏:‏ كان سليمان، عليه السلام، يجلس على سريره، ثم تُوضَعُ كراسي حوله، فيجلس عليها الإنس، ثم يجلس الجن، ثم الشياطين، ثم تأتي الريح فترفعهم، ثم تظلهم الطير، ثم يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهرًا ورواحها شهرًا، قال‏:‏ فبينما هو ذات يوم في مسير له، إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال‏:‏‏}‏ ‏{‏مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏، قال‏:‏ فكان عذابه إياه أن ينتفه، ثم يلقيه في الأرض، فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض‏.‏

قال عطاء‏:‏ وذكر سعيد بن جُبَير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد ‏{‏فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏- فقرأ حتى انتهى إلى قوله- ‏{‏قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا‏}‏ وكتب ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏، إلى بلقيس‏:‏ ‏{‏أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ‏}‏، فلما ألقى الهدهد بالكتاب إليها، ألقي في رُوعها‏:‏ إنه كتاب كريم، وإنه من سليمان، وأن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين‏.‏ قالوا‏:‏ نحن أولو قوة‏.‏ قالت‏:‏ إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وإني مرسلة إليهم بهدية‏.‏ فلما جاءت الهدية سليمان قال‏:‏ أتمدونني بمال، ارجع إليهم‏.‏ فلما نظر إلى الغبار- أخبرنا ابن عباس قال‏:‏ وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومَنْ معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة، قال عطاء‏:‏ ومجاهد حينئذ في الأزد- قال سليمان‏:‏ أيكم يأتيني بعرشها‏؟‏ قال‏:‏ وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين، ‏{‏قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ‏}‏‏.‏ قال‏:‏ وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس، كما يجلس الأمراء ثم يقوم- قال‏:‏ ‏{‏أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ‏}‏‏.‏ قال سليمان‏:‏ أريد أعجل من ذلك‏.‏ فقال الذي عنده علم من الكتاب‏:‏ أنا أنظر في كتاب ربي، ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك‏.‏ قال‏:‏ ‏[‏فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره‏]‏ ، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان، من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله، ثم يصعد إلى السرير‏.‏ قال‏:‏ فلما رأى سليمان عرشها ‏[‏مستقرًا عنده‏]‏ قال‏:‏ ‏{‏هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي‏}‏، ‏{‏قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا‏}‏، فلما جاءت قيل لها‏:‏ أهكذا عرشك‏؟‏ قالت‏:‏ كأنه هو‏.‏ قال‏:‏ فسألته عن أمرين، قالت لسليمان‏:‏ أريد ماء ‏[‏من زبد رواء‏]‏ ليس من أرض ولا من سماء- وكان سليمان إذا سئل عن شيء، سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين‏.‏ ‏[‏قال‏]‏ فقالت الشياطين‏:‏ هذا هين، أجْرِ الخيلَ ثم خذ عرقها، ثم املأ منه الآنية‏.‏ قال‏:‏ فأمر بالخيل فأجريت، ثم أخذ عرقها فملأ منه الآنية‏.‏ قال‏:‏ وسألت عن لون الله عز وجل‏.‏ قال‏:‏ فوثب سليمان عن سريره، فخر ساجدًا، فقال‏:‏ يا رب، لقد سألَتْني عن أمر إنه يتكايد ، أي‏:‏ يتعاظم في قلبي أن أذكره لك‏.‏ قال‏:‏ ارجع فقد كَفَيتكهم، قال‏:‏ فرجع إلى سريره فقال‏:‏ ما سألت عنه‏؟‏ قالت‏:‏ ما سألتك إلا عن الماء‏.‏ فقال لجنوده‏:‏ ما سألت عنه‏؟‏ فقالوا‏:‏ ما سألتك إلا عن الماء‏.‏ قال‏:‏ ونَسوه كلّهم‏.‏ قال‏:‏ وقالت الشياطين لسُلَيمان‏:‏ تُريدُ أن تتخذها لنفسك، فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد، لم ننفك من عبوديته‏.‏ قال‏:‏ فجعلوا صرحًا ممردًا من قوارير، فيه السمك‏.‏ قال‏:‏ فقيل لها‏:‏ ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة، وكشفت عن ساقيها، فإذا هي شَعْرَاء‏.‏ فقال سليمان‏:‏ هذا قبيح، ما يذهبه‏؟‏ فقالوا‏:‏ تذهبه المواسي‏.‏ فقال‏:‏ أثر الموسى قبيح‏!‏ قال‏:‏ فجعلت الشياطين النورَة‏.‏ قال‏:‏ فهو أول من جُعلت له النورة‏.‏

ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ ما أحسنه من حديث‏.‏

قلت‏:‏ بل هو منكر غريب جدًا، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم‏.‏ والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما يوجد في صحفهم، كروايات كعب ووهب- سامحهما الله تعالى- فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد والغرائب والعجائب، مما كان وما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ‏.‏ وقد أغنانا الله، سبحانه، عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ، ولله الحمد والمنة‏.‏

أصل الصرح في كلام العرب‏:‏ هو القصر، وكل بناء مرتفع، قال الله، سبحانه وتعالى، إخبارًا عن فرعون- لعنه الله- أنه قال لوزيره هامان ‏{‏ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى‏}‏ الآية ‏[‏غافر‏:‏36، 37‏]‏‏.‏ والصرح‏:‏ قصر في اليمن عالي البناء، والممرد أي‏:‏ المبنى بناء محكما أملس ‏{‏مِنْ قَوَارِيرَ‏}‏ أي‏:‏ زجاج‏.‏ وتمريد البناء تمليسه‏.‏ ومارد‏:‏ حصن بدومة الجندل‏.‏

والغرض أن سليمان، عليه السلام، اتخذ قصرا عظيما منيفا من زجاج لهذه الملكة؛ ليريها عظمة سلطانه وتمكنه، فلما رأت ما آتاه الله، تعالى، وجلالة ما هو فيه، وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله وعَرَفت أنه نبي كريم، وملك عظيم، فأسلمت لله، عز وجل، وقالت‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي‏}‏ أي‏:‏ بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها الشمس من دون الله، ‏{‏وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده، لا شريك له، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ‏}‏‏.‏

يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح، عليه السلام، حين بعثه الله إليهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ‏{‏فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ مؤمن وكافر- كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 75، 76‏]‏‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ‏}‏، أي‏:‏ لم تدعون بحضور العذاب، ولا تطلبون من الله رحمته‏؟‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ‏}‏ أي‏:‏ ما رأينا على وجهك ووجوه مَنْ اتبعك خيرا‏.‏ وذلك أنهم- لشقائهم- كان لا يصيب أحدًا منهم سوءٌ إلا قال‏:‏ هذا من قبل صالح وأصحابه‏.‏

قال مجاهد‏:‏ تشاءموا بهم‏.‏ وهذا كما قال تعالى إخبارًا عن قوم فرعون‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ أي‏:‏ بقضاء الله وقدره‏.‏ وقال مخبرًا عن أهل القرية إذ جاءها المرسلون‏:‏ ‏{‏قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏.‏ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 18، 19‏]‏‏.‏ وقال هؤلاء‏:‏ ‏{‏اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ الله يجازيكم على ذلك ‏{‏بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ تبتلون بالطاعة والمعصية‏.‏

والظاهر أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏تُفْتَنُونَ‏}‏ أي‏:‏ تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 53‏]‏

‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم، الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلالة والكفر وتكذيب صالح، وآل بهم الحال إلى أنهم عقروا الناقة، وهموا بقتل صالح أيضًا، بأن يبيتوه في أهله ليلا فيقتلوه غيْلَة، ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه‏:‏ إنهم ما علموا بشيء من أمره، وإنهم لصادقون فيما أخبروهم به، من أنهم لم يشاهدوا ذلك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ‏}‏ أي‏:‏ مدينة ثمود، ‏{‏تِسْعَةُ رَهْطٍ‏}‏ أي‏:‏ تسعة نفر، ‏{‏يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ‏}‏ وإنما غلب هؤلاء على أمر ثمود؛ لأنهم كانوا كبراء فيهم ورؤساءهم‏.‏

قال العَوْفي، عن ابن عباس‏:‏ هؤلاء هم الذين عقروا الناقة، أي‏:‏ الذي صدر ذلك عن آرائهم ومشورتهم- قبحهم الله ولعنهم- وقد فعل ذلك‏.‏

وقال السُّدِّي، عن أبي مالك، عن ابن عباس‏:‏ كان أسماء هؤلاء التسعة‏:‏ دعمى، ودعيم، وهرما، وهريم، وداب، وصواب، ورياب، ومسطع، وقدار بن سالف عاقر الناقة، أي‏:‏ الذي باشر ذلك بيده‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 29‏]‏، وقال تعالى ‏{‏إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا يحيى بن ربيعة الصنعاني، سمعت عطاء- هو ابن أبي رباح- يقول‏:‏ ‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ‏}‏ قال‏:‏ كانوا يقرضون الدراهم، يعني‏:‏ أنهم كانوا يأخذون منها، وكأنهم كانوا يتعاملون بها عددًا، كما كان العرب يتعاملون‏.‏

وقال الإمام مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ قَطْع الذهب والورق من الفساد في الأرض‏.‏

وفي الحديث- الذي رواه أبو داود وغيره- ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس‏.‏

والغرض أن هؤلاء الكفرة الفسقة، كان من صفاتهم الإفساد في الأرض بكل طريق يقدرون عليها، فمنها ما ذكره هؤلاء الأئمة وغير ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ‏}‏ أي‏:‏ تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح، عليه السلام، من لقيه ليلا غيلة‏.‏ فكادهم الله، وجعل الدائرة عليهم‏.‏

قال مجاهد‏:‏ تقاسموا وتحالفوا على هلاكه، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين‏.‏

وقال قتادة‏:‏ توافقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه، وذكر لنا أنهم بينما هم مَعَانيق إلى صالح ليفتكوا به، إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ هم الذين عقروا الناقة، قالوا حين عقروها‏:‏ نُبَيِّت صالحا ‏[‏وأهله‏]‏ وقومه فنقتلهم، ثم نقول لأولياء صالح‏:‏ ما شهدنا من هذا شيئا، وما لنا به من علم‏.‏ فدمرهم الله أجمعين‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ قال هؤلاء التسعة بعدما عقروا الناقة‏:‏ هَلُم فلنقتل صالحًا، فإن كان صادقًا عجلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا كنا قد ألحقناه بناقته‏!‏ فأتوه ليلا ليبيِّتوه في أهله، فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطؤوا على أصحابهم، أتوا مَنزل صالح، فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة، فقالوا لصالح‏:‏ أنت قتلتهم، ثم هموا به، فقامت عشيرته دونه، ولبسوا السلاح، وقالوا لهم‏:‏ والله لا تقتلونه أبدًا، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقًا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبًا، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون‏.‏ فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك‏.‏

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم‏:‏ لما عقروا الناقة وقال لهم صالح‏:‏ ‏{‏تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 65‏]‏، قالوا‏:‏ زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث‏.‏ وكان لصالح مسجد في الحجْر عند شعب هناك يصلي فيه، فخرجوا إلى كهف، أي‏:‏ غار هناك ليلا فقالوا‏:‏ إذا جاء يصلي قتلناه ، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله، ففرغنا منهم‏.‏ فبعث الله صخرة من الهضَب حيالهم، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار، فلا يدري قومهم أين هم، ولا يدرون ما فعل بقومهم‏.‏ فعذب الله هؤلاء هاهنا، وهؤلاء هاهنا، وأنجى الله صالحًا ومن معه، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً‏}‏ أي‏:‏ فارغة ليس فيها أحد ‏{‏بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏.‏ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 58‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ‏}‏‏.‏

يخبر تعالى عن عبده لوط عليه السلام، أنه أنذر قومه نقمة الله بهم، في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي إتيان الذكور دون الإناث، وذلك فاحشة عظيمة، استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء- قال ‏{‏أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يرى بعضكم بعضًا، وتأتون في ناديكم المنكر‏؟‏

‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تعرفون شيئًا لا طبعًا ولا شرعًا، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 165، 166‏]‏‏.‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتحرجون من فعل ما تفعلونه، ومن إقراركم على صنيعكم، فأخرجوهم من بين أظهركم فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم‏.‏ فعزموا على ذلك، فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ من الهالكين مع قومها؛ لأنها كانت ردءًا لهم على دينهم، وعلى طريقتهم في رضاها بأفعالهم القبيحة، فكانت تدل قومها على ضيفان لوط، ليأتوا إليهم، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبي الله صلى الله عليه وسلم لا كرامة لها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا‏}‏ أي‏:‏ حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ‏}‏ أي‏:‏ الذين قامت عليهم الحجة، ووصل إليهم الإنذار، فخالفوا الرسول وكذبوه، وَهمُّوا بإخراجه من بينهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ على نعَمه على عباده، من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وعلى ما اتصف به من الصفات العُلى والأسماء الحسنى، وأن يُسَلِّم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم، وهم رسله وأنبياؤه الكرام، عليهم من الله الصلاة والسلام، هكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره‏:‏ إن المراد بعباده الذين اصطفى‏:‏ هم الأنبياء، قال‏:‏ وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 180- 182‏]‏‏.‏

وقال الثوري، والسدي‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، رضي ‏[‏الله‏]‏ عنهم أجمعين، وروي نحوه عن ابن عباس‏.‏

ولا منافاة، فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى، فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى، والقصد أن الله تعالى أمر رسوله ومن اتبعه بعد ما ذكر لهم ما فعل بأوليائه من النجاة والنصر والتأييد، وما أحل بأعدائه من الخزي والنكال والقهر، أن يحمدوه على جميع أفعاله، وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار‏.‏

وقد قال أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن عمارة بن صَبِيح، حدثنا طَلْق بن غنام، حدثنا الحكم بن ظُهَيْر، عن السدي- إن شاء الله- عن أبي مالك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى‏}‏ قال‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه، رضي الله عنهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ‏}‏‏:‏ استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى‏.‏

ثم شرع تعالى يبين أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره، فقال‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ‏}‏ أي‏:‏ تلك السموات بارتفاعها وصفائها، وما جعل فيها من الكواكب النيرة والنجوم الزاهرة والأفلاك الدائرة، والأرض باستفالها وكثافتها، وما جعل فيها من الجبال والأوعار والسهول، والفيافي والقفار، والأشجار والزروع، والثمار والبحور والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وغير ذلك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً‏}‏ أي‏:‏ جعله رزقا للعباد، ‏{‏فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ‏}‏ أي‏:‏ بساتين ‏{‏ذَاتَ بَهْجَةٍ‏}‏ أي‏:‏ منظر حسن وشكل بهي، ‏{‏مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا‏}‏ أي‏:‏ لم تكونوا تقدرون على إنبات شجرها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق، المستقل بذلك المتفرد به، دون ما سواه من الأصنام والأنداد، كما يعترف به هؤلاء المشركون، كما قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏، ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 63‏]‏ أي‏:‏ هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق، وإنما يستحق أن يُفرَدَ بالعبادة مَن هو المتفرد بالخلق والرزق؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ أإله مع الله يعبد‏.‏ وقد تبين لكم، ولكل ذي لب مما يعرفون به أيضًا أنه الخالق الرازق‏.‏

ومن المفسرين من يقول‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ أإله مع الله‏]‏ فعل هذا‏.‏ وهو يرجع إلى معنى الأول؛ لأن تقدير الجواب أنهم يقولون‏:‏ ليس ثَمَّ أحدٌ فعل هذا معه، بل هو المتفرد به‏.‏ فيقال‏:‏ فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقل المتفرد بالخلق والتدبير‏؟‏ كما قال‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقوله هاهنا‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ‏}‏‏:‏ ‏{‏أمن‏}‏ في هذه الآيات ‏[‏كلها‏]‏ تقديره‏:‏ أمن يفعل هذه الأشياء كَمَنْ لا يقدر على شيء منها‏؟‏ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الآخر؛ لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك، وقد قال‏:‏ ‏{‏آلله خير أما يشركون‏}‏‏.‏

ثم قال في آخر الآية‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يجعلون لله عدلا ونظيرًا‏.‏ وهكذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ أي‏:‏ أمن هو هكذا كَمَنْ ليس كذلك‏؟‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏، ‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22‏]‏، وقال ‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏ أي‏:‏ أمَنْ هو شهيد على أفعال الخلق، حركاتهم وسكناتهم، يعلم الغيب جليله وحقيره، كَمَنْ هو لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر من هذه الأصنام التي عبدوها‏؟‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏، وهكذا هذه الآيات الكريمات كلها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

يقول‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا‏}‏ أي‏:‏ قارة ساكنة ثابتة، لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بهم، فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة، بل جعلها من فضله ورحمته مهادًا بساطًا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 64‏]‏‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا‏}‏ أي‏:‏ جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة تشقها في خلالها، وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك، وسيرها شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالا بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم حيث ذرأهم في أرجاء الأرض، سَيَّرَ لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه، ‏{‏وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ‏}‏ أي‏:‏ جبالا شامخة ترسي الأرض وتثبتها؛ لئلا تميد بكم ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا‏}‏ أي‏:‏ جعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزًا، أي‏:‏ مانعًا يمنعها من الاختلاط، لئلا يفسد هذا بهذا وهذا بهذا، فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقاء كل منهما على صفته المقصودة منه، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس‏.‏ والمقصود منها‏:‏ أن تكون عذبة زلالا تسقى الحيوان والنبات والثمار منها‏.‏ والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب، والمقصود منها‏:‏ أن يكون ماؤها ملحًا أجاجًا، لئلا يفسد الهواء بريحها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 53‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ فعل هذا‏؟‏ أو يعبد على القول الأول والآخر‏؟‏ وكلاهما متلازم صحيح، ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ في عبادتهم غيره‏.‏

‏{‏أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ‏}‏‏:‏

ينبه تعالى أنه هو المدعُوّ عند الشدائد، المرجُوّ عند النوازل، كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ‏}‏ أي‏:‏ مَنْ هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا وُهَيْب، حدثنا خالد الحَذّاء، عن أبي تميمة الهُجَيْمي، عن رجل من بلهجيم قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، إلام تدعو‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أدعو إلى الله وحده، الذي إن مَسّك ضر فدعوته كشف عنك، والذي إن أضْلَلْت بأرض قَفْر فدعوتَه رَدّ عليك، والذي إن أصابتك سَنة فدعوتَه أنبتَ لك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ أوصني‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لا تَسُبَّنَّ أحدًا، ولا تَزْهَدنّ في المعروف، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، ولو أن تُفرغَ من دَلوك في إناء المستقي، واتزر إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين‏.‏ وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المخيلة، ‏[‏وإن الله- تبارك تعالى- لا يحب المخيلة‏]‏‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر، فذكر اسم الصحابي فقال‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا يونس- هو ابن عبيد- حدثنا عبيدة الهُجَيْمي عن أبي تَميمَةَ الهُجَيْمي، عن جابر بن سُلَيم الهُجَيمي قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ بِشَمْلَة، وقد وقع هُدْبها على قدميه، فقلت‏:‏ أيكم محمد- أو‏:‏ رسول الله‏؟‏- فأومأ بيده إلى نفسه، فقلت‏:‏ يا رسول الله، أنا من أهل البادية، وفِيَّ جفاؤهم، فأوصني‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا تحقرَنّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك مُنْبَسط، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، وإن امرؤ شَتَمك بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه، فإنه يكون لك أجره وعليه وزْرُه‏.‏ وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المَخيلَة، وإن الله لا يحب المخيلة، ولا تَسُبَّنّ أحدًا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فما سببت بعده أحدًا، ولا شاة ولا بعيرًا‏.‏

وقد روى أبو داود والنسائي لهذا الحديث طرقا، وعندهما طرف صالح منه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا علي بن هاشم حدثنا عبدَةَ بن نوح، عن عمر بن الحجاج، عن عبيد الله بن أبي صالح قال‏:‏ دخل عليَّ طاوس يعودني، فقلت له‏:‏ ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن‏.‏ فقال‏:‏ ادع لنفسك، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ قرأت في الكتاب الأول‏:‏ إن الله يقول‏:‏ بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن، والأرض بمن فيها، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجًا‏.‏ ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء، فأكله إلى نفسه‏.‏

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل- حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدّينَوَري، المعروف بالدّقّيِّ الصوفي- قال هذا الرجل ‏:‏ كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزّبَدَاني، فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق، على طريق غير مسلوكة، فقال لي‏:‏ خذ في هذه، فإنها أقرب‏.‏ فقلت‏:‏ لا خبرَةَ لي فيها، فقال‏:‏ بل هي أقرب‏.‏ فسلكناها فانتهينا إلى مكان وَعْر وواد عميق، وفيه قتلى كثير، فقال لي‏:‏ أمسك رأس البغل حتى أنزل‏.‏ فنزل وتشمر، وجمع عليه ثيابه، وسل سكينا معه وقصدني، ففررت من بين يديه وتبعني، فناشدته الله وقلت‏:‏ خذ البغل بما عليه‏.‏ فقال‏:‏ هو لي، وإنما أريد قتلك‏.‏ فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه وقلت‏:‏ إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين‏؟‏ فقال‏:‏ ‏[‏صل‏]‏ وعجل‏.‏ فقمت أصلي فَأرْتِجعليَّ القرآن فلم يَحضرني منه حرف واحد، فبقيت واقفًا متحيرًا وهو يقول‏:‏ هيه‏.‏ افرُغ‏.‏ فأجرى الله على لساني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ‏}‏، فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي، وبيده حربة، فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده، فخر صريعًا، فتعلقت بالفارس وقلت‏:‏ بالله مَنْ أنت‏؟‏ فقال‏:‏ أنا رسول‏[‏الله‏]‏ الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء‏.‏ قال‏:‏ فأخذت البغل والحمل ورجعت سالما‏.‏

وذكر في ترجمة ‏"‏فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية‏"‏ قالت‏:‏ هزم الكفار يوما المسلمين في غزاة، فوقف جَوَاد جَيّد بصاحبه، وكان من ذوي اليسار ومن الصلحاء، فقال للجواد‏:‏ ما لك‏؟‏ ويلك‏.‏ إنما كنت أعدّك لمثل هذا اليوم‏.‏ فقال له الجواد‏:‏ وما لي لا أقصّر وأنت تَكلُ علوفتي إلى السّواس فيظلمونني ولا يطعمونني إلا القليل‏؟‏ فقال‏:‏ لك عليَّ عهد الله أني لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في حِجْري‏.‏ فجرى الجواد عند ذلك، ونجَّى صاحبه، وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حِجْره، واشتهر أمره بين الناس، وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك، وبلغ ملك الروم أمرُه، فقال‏:‏ ما تُضَام بلدة يكون هذا الرجل فيها‏.‏ واحتال ليحصّله في بلده، فبعث إليه رجلا من المرتدين عنده، فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حَسُنت نيته في الإسلام وقومه، حتى استوثق، ثم خرجا يوما يمشيان على جنب الساحل، وقد واعد شخصا آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره، فلما اكتنفاه ليأخذاه رَفَع طرفه إلى السماء وقال‏:‏ اللهم، إنه إنما خَدَعني بك فاكفنيهما بما شئت، قال‏:‏ فخرج سبعان إليهما فأخذاهما، ورجع الرجل سالما‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ يُخْلفُ قَرنا لقرن قبلهم وخَلَفًا لسلف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 133‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 165‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، أي‏:‏ قومًا يخلف بعضهم بعضا كما قدمنا تقريره‏.‏ وهكذا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ أمة بعد أمة، وجيلا بعد جيل، وقومًا بعد قوم‏.‏ ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد، ولم يجعل بعضَهم من ذرية بعض، بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين، كما خلق آدم من تراب‏.‏ ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض ولكن لا يميت أحدا حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد، فكانت تضيق عليهم الأرض وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم، ويتضرر بعضهم ببعض‏.‏ ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن يخلقهم من نفس واحدة، ثم يكثرهم غاية الكثرة، ويذرأهم في الأرض، ويجعلهم قرونا بعد قرون، وأمما بعد أمم، حتى ينقضي الأجل وتفرغ البَرية، كما قدر ذلك تبارك وتعالى، وكما أحصاهم وعَدّهم عَدًا، ثم يقيم القيامة، ويُوفي كلّ عامل عمله إذا بلغ الكتاب أجله؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ يقدر على ذلك، أو إله مع الله يُعْبد، وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك ‏{‏قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق، ويهديهم إلى الصراط المستقيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

يقول‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ أي‏:‏ بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية، كما قال‏:‏ ‏{‏وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 97‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ بين يدي السحاب الذي فيه مطر، يغيث به عباده المجدبين الأزلين القنطين، ‏{‏أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ هو الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق ثم يعيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12، 13‏]‏، وقال ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ بما ينزل من مطر السماء، وينبت من بركات الأرض، كما قال‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ‏.‏ وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 11، 12‏]‏، وقال ‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏، فهو، تبارك وتعالى، ينزل من السماء ماء مباركًا فيسكنه في الأرض، ثم يخرج به ‏[‏منها‏]‏ أنواع الزروع والثمار والأزاهير، وغير ذلك من ألوان شتى، ‏{‏كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 54‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ فعل هذا‏.‏ وعلى القول الآخر‏:‏ يعبد‏؟‏ ‏{‏قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ‏}‏ على صحة ما تدعونه من عبادة آلهة أخرى، ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ في ذلك، وقد علم أنه لا حجة لهم ولا برهان، كما قال ‏[‏الله‏]‏‏:‏‏}‏ ‏{‏وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 117‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلمًا لجميع الخلق‏:‏ أنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا اللَّهَ‏}‏ استثناء منقطع، أي‏:‏ لا يعلم أحد ذلك إلا الله، عز وجل، فإنه المنفرد بذلك وحده، لا شريك له، كما قال‏:‏ ‏{‏وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏، والآيات في هذا كثيرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ أي‏:‏ وما يشعر الخلائق الساكنون في السموات والأرض بوقت الساعة، كما قال‏:‏ ‏{‏ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏، أي‏:‏ ثقل علمها على أهل السموات والأرض‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا علي بن الجَعْد، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ مَنْ زعم أنه يعلم- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفِرْية؛ لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ‏}‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصلات ‏:‏ جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجومًا ‏[‏للشياطين‏]‏ ، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه وتكلَّف ما لا علم له به‏.‏ وإن ناسًا جَهَلَة بأمر الله، قد أحدثوا من هذه النجوم كهانة‏:‏ من أعْرَس بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا‏.‏ ومَنْ سافر بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا‏.‏ ومَنْ ولد بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا‏.‏ ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود، والقصير والطويل، والحسن والدميم، وما علْمُ هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب‏!‏ وقضى الله‏:‏ أنه لا يعلم مَنْ في السموات والأرض الغيب إلا الله، وما يشعرون أيان يبعثون‏.‏

رواه ابن أبي حاتم عنه بحروفه، وهو كلام جليل متين صحيح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلِ ادَّارَكَ‏}‏ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها‏.‏

وقرأ آخرون‏:‏ ‏"‏بل أدرك علمهم‏"‏، أي‏:‏ تساوى علمهم في ذلك، كما في الصحيح لمسلم‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل- وقد سأله عن وقت الساعة- ما المسؤول عنها بأعلم من السائل أي‏:‏ تساوى في العجز عن دَرْك ذلك علم المسؤول والسائل‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَة‏}‏ أي‏:‏ غاب‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ‏}‏ يعني‏:‏ يُجَهِّلهم ربهم، يقول‏:‏ لم ينفذ لهم إلى الآخرة علم، هذا قول‏.‏

وقال ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏بل أدرك علمهم في الآخرة‏"‏ حين لم ينفع العلم، وبه قال عطاء الخراساني، والسدي‏:‏ أن علمهم إنما يُدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وقال سفيان، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن أنه كان يقرأ‏:‏ ‏"‏بل أدرك علمهم‏"‏ قال‏:‏ اضمحل علمهم في الدنيا، حين عاينوا الآخرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا‏}‏ عائد على الجنس، والمراد الكافرون، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 48‏]‏ أي‏:‏ الكافرون منكم‏.‏ وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ شاكُّون في وجودها ووقوعها، ‏{‏بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ في عمَاية وجهل كبير في أمرها وشأنها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 70‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرًا عن منكري البعث من المشركين‏:‏ أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظامًا ورفاتًا وترابًا، ثم قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا، ولا نرى له حقيقة ولا وقوعًا‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏‏:‏ يعنون‏:‏ ما هذا الوعد بإعادة الأبدان، ‏{‏إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏ أي‏:‏ أخذه قوم عَمَّن قبلهم، مَنْ قبلهم يتلقاه بعض عن بعض، وليس له حقيقة‏.‏

قال الله تعالى مجيبًا لهم عما ظنوه من الكفر وعدم المعاد‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏- يا محمد- لهؤلاء‏:‏ ‏{‏سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ المكذِّبين بالرسل وما جاءوهم به من أمر المعاد وغيره، كيف حلت بهم نقَمُ الله وعذابه ونكاله، ونجَّى الله من بينهم رسله الكرام وَمَنْ اتبعهم من المؤمنين، فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته‏.‏

ثم قال تعالى مسليًا لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏{‏وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ المكذبين بما جئت به، ولا تأسف عليهم وتذهب نفسك عليهم حسرات، ‏{‏وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ في كيدك ورَدّ ما جئت به، فإن الله مؤيدك وناصرك، ومظهرٌ دينك على مَنْ خالفه وعانده في المشارق والمغارب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 75‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرًا عن المشركين، في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ قال الله مجيبًا لهم‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏قال ابن عباس أن يكون قرب- أو‏:‏ أن يقرب- لكم بعض الذي تستعجلون‏]‏ ‏.‏ وهكذا قال مجاهد، والضحاك، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسدي‏.‏

وهذا هو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏، وقال تعالى ‏{‏يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وإنما دخلت ‏"‏اللام‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏رَدِفَ لَكُمْ‏}‏؛ لأنه ضُمن معنى ‏"‏عَجِل لكم‏"‏ كما قال مجاهد في رواية عنه‏:‏ ‏{‏عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ‏}‏‏:‏ عجل لكم‏.‏

ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ في إسباغه نعمَه عليهم مع ظلمهم لأنفسهم، وهم مع ذلك لا يشكرونه على ذلك إلا القليل منهم، ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعلم السرائر والضمائر، كما يعلم الظواهر، ‏{‏سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 10‏]‏، ‏{‏يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 7‏]‏، ‏{‏أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السموات والأرض، وأنه عالم الغيب والشهادة- وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه- فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ وما من شيء، ‏{‏فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 70‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76- 82‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، وما اشتمل عليه من الهدى والبينات والفرقان ‏:‏ إنه يقص على بني إسرائيل- وهم حملة التوراة والإنجيل- ‏{‏أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏، كاختلافهم في عيسى وتباينهم فيه، فاليهود افتروا، والنصارى غَلَوا، فجاء ‏[‏إليهم‏]‏ القرآن بالقول الوسط الحق العدل‏:‏ أنه عبد من عباد الله وأنبيائه ورسله الكرام، عليه ‏[‏أفضل‏]‏ الصلاة والسلام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ هدى لقلوب المؤمنين، ورحمة لهم في العمليات‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، ‏{‏بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ‏}‏ في انتقامه، ‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ بأفعال عباده وأقوالهم‏.‏

‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ في أمورك، وبَلّغ رسالة ربك، ‏{‏إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ‏}‏ أي‏:‏ أنت على الحق المبين وإن خالفك مَنْ خالفك، مِمَّنْ كتبت عليه الشقاوة وحَقَّت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى‏}‏ أي‏:‏ لا تسمعهم شيئًا ينفعهم، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة، وفي آذانهم وَقْر الكفر؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ إنما يستجيب لك مَنْ هو سميع بصير، السمع والبصر النافعُ في القلب والبصيرة الخاضع لله، ولما جاء عنه على ألسنة الرسل، عليهم السلام‏.‏

‏{‏وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتَرْكِهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق، يخرج الله لهم دابة من الأرض- قيل‏:‏ من مكة‏.‏ وقيل‏:‏ من غيرها‏.‏ كما سيأتي تفصيله- فَتُكَلِّم الناس على ذلك‏.‏

قال ابن عباس، والحسن، وقتادة- ورُوي عن علي رضي الله عنه- ‏:‏ تكلمهم كلاما أي‏:‏ تخاطبهم مخاطبة‏.‏

وقال عطاء الخراساني‏:‏ تكلمهم فتقول لهم‏:‏ إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏.‏ ويروى هذا عن علي، واختاره ابن جرير‏.‏ وفي هذا ‏[‏القول‏]‏ نظر لا يخفى، والله أعلم‏.‏ وقال ابن عباس- في رواية- تجرحهم‏.‏ وعنه رواية، قال‏:‏ كلا تفعل يعني هذا وهذا، وهو قولٌ حسن، ولا منافاة، والله أعلم‏.‏

وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث وآثار كثيرة، فلنذكر ما تيسر منها، والله المستعان‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، عن فُرَات، عن أبي الطفيل، عن حُذَيفة بن أسيد الغفاري قال‏:‏ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال‏:‏ لا تقوم الساعة حتى تَرَوا عشر آيات‏:‏ طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف‏:‏ خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قَعر عدن تسوق- أو‏:‏ تحشر- الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا‏"‏‏.‏

وهكذا رواه مسلم وأهل السنن، من طرق، عن فُرَات القزاز، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن حُذَيفة موقوفا ‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح ‏.‏ ورواه مسلم أيضًا من حديث عبد العزيز بن رُفَيْع، عن أبي الطفيل، عنه مرفوعًا ‏.‏ والله أعلم‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال أبو داود الطيالسي، عن طلحة بن عمرو، وجرير بن حازم، فأما طلحة فقال‏:‏ أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن عمَير الليثي‏:‏ أن أبا الطفيل حدثه، عن حذَيفة بن أسيد الغفاري أبي سَريحَةَ، وأما جرير فقال‏:‏ عن عبد الله بن عُبيد، عن رجل من آل عبد الله بن مسعود- وحديث طلحة أتم وأحسن- قال‏:‏ ذَكَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال‏:‏ ‏"‏لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج خَرجة من أقصى البادية، ولا يدخل ذكرها القرية- يعني‏:‏ مكة- ثم تكمن زمانًا طويلا ثم تخرج خَرْجة أخرى دون تلك، فيعلو ذكرها في أهل البادية، ويدخل ذكرها القرية‏"‏ يعني‏:‏ مكة‏.‏- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها‏:‏ المسجد الحرام، لم يَرُعْهم إلا وهي تَرْغو بين الركن والمقام، تنفض عن رأسها التراب‏.‏ فارفض الناس عنها شتَّى ومعًا، وبقيت عصابة من المؤمنين، وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فبدأت بهم فجَلَت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدرّي، وولت في الأرض لا يدركها طالب، ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه فتقول‏:‏ يا فلان، الآن تصلي‏؟‏

فيقبل عليها فَتَسِمُهُ في وجهه، ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار، يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن المؤمن ليقول‏:‏ يا كافر، اقضني حقي‏.‏ وحتى إن الكافر ليقول‏:‏ يا مؤمن، اقضني حقي‏"‏‏.‏

ورواه ابن جرير من طريقين، عن حذيفة بن أُسَيْد موقوفًا فالله أعلم‏.‏ ورواه من رواية حذيفة بن اليمان مرفوعًا، وأن ذلك في زمان عيسى بن مريم، وهو يطوف بالبيت، ولكن إسناده لا يصح‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال مسلم بن الحجاج‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر، عن أبي حَيَّان، عن أبي زُرْعَة، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ حَفظْتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا لم أنسه بعد‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضُحى، وأيتهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثرها قريبًا‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ روى مسلم في صحيحه من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب- مولى الحُرَقَة- عن أبيه‏:‏ عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏بادروا بالأعمال ستا ‏:‏ طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة‏"‏ ‏.‏ وله من حديث قتادة، عن الحسن، عن زياد بن رباح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏بادروا بالأعمال ستا‏:‏ الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة وخُويّصة أحدكم‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال ابن ماجه‏:‏ حدثنا حَرْمَلَة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عَمْرُو بن الحارث وابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سِنَان بن سعد، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏بادروا بالأعمال ستًا‏:‏ طلوع الشمس من مغربها، والدخان، ودابة الأرض، والدجال، وخُوَيّصة أحدكم، وأمر العامة‏"‏‏.‏ تفرد به‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أبو داود الطيالسي أيضا‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أوس بن خالد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تخرج دابة الأرض، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، عليهما السلام، فتخطم أنف الكافر بالعصا، وتُجلي وجه المؤمنبالخاتم، حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر‏"‏‏.‏

ورواه الإمام أحمد، عن بَهْز وعفان ويزيد بن هارون، ثلاثتهم عن حماد بن سلمة، به‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏فتخطم أنف الكافر بالخاتم، وتجلو وجه المؤمن بالعصا، حتى إن أهل الخوان الواحد ليجتمعون فيقول هذا‏:‏ يا مؤمن، ويقول هذا‏:‏ يا كافر‏"‏‏.‏

ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يونس بن محمد المؤدب، عن حماد بن سلمة، به‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال ابن ماجه‏:‏ حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو، حدثنا أبو تُمَيْلة، حدثنا خالد بن عُبَيْد، حدثنا عبد الله بن بُرَيدة، عن أبيه قال‏:‏ ذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع بالبادية، قريب من مكة، فإذا أرض يابسة حولها رمل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تخرج الدابة من هذا الموضع‏.‏ فإذا فِتْر في شبر‏"‏‏.‏

قال ابن بُرَيدة‏:‏ فحججت بعد ذلك بسنين، فأرانا عصًا له، فإذا هو بعَصاي هذه ، كذا وكذا‏.‏

وقال عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن قتادة؛ أن ابن عباس قال‏:‏ هي دابةٌ ذات زَغَب، لها أربع قوائم، تخرج من بعض أودية تهامة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رَجَاء، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ تخرج الدابة من صِدْع من الصفا كجَرْي الفرس ثلاثة أيام، لم يخرج ثلثها‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح قال‏:‏ سئل عبد الله بن عمرو عن الدابة، فقال‏:‏ الدابة تخرج من تحت صخرة بجياد، والله لو كنت معهم- أو لو شئت بعصاي الصخرة التي تخرج الدابة من تحتها‏.‏ قيل‏:‏ فتصنعُ ماذا يا عبد الله بن عمرو‏؟‏ قال‏:‏ تستقبل المشرق فتصرخ صرخة تنفُذُه، ثم تستقبل الشام فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل اليمن فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تروح من مكة فتصبح بعسفان‏.‏ قيل‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ لا أعلم‏.‏

وعن عبد الله بن عمر، أنه قال‏:‏ تخرج الدابة ليلة جَمْع‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم‏.‏ وفي إسناده ابن البيلمان‏.‏

وعن وهب بن منبه‏:‏ أنه حكى من كلام عُزَير، عليه السلام، أنه قال‏:‏ وتخرج من تحت سدوم دابة تكلم الناس كل يسمعها، وتضع الحبالى قبل التمام، ويعود الماء العذب أجاجًا، ويتعادى الأخلاء، وتُحرَقُ الحكمة، ويُرفَعُ العلم، وتكلم الأرض التي تليها‏.‏ وفي ذلك الزمان يرجو الناس ما لا يبلغون، ويتعبون فيما لا ينالون، ويعملون فيما لا يأكلون‏.‏ رواه ابن أبي حاتم، عنه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح- كاتب الليث- حدثني معاوية بن صالح، عن أبي مريم‏:‏ أنه سمع أبا هريرة، رضي الله عنه، يقول‏:‏ إن الدابة فيها من كل لون، ما بين قرنيها فرسخ للراكب‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ هي مثل الحربة الضخمة‏.‏

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال‏:‏ إنها دابة لها ريش وزغب وحافر، وما لها ذنب، ولها لحية، وإنها لتخرج حُضْر الفرس الجواد ثلاثا، وما خرج ثلثها‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن جُرَيْج، عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال‏:‏ رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيَّل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نَمر، وخاصرتها خاصرة هِرّ، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا ‏[‏عشر‏]‏ ذراعًا، تخرج معها عصا موسى، وخاتم سليمان، فلا يبقى مؤمن إلا نَكتَت في وجهه بعصا موسى نكتة بيضاء، فتفشو تلك النكتة حتى يبيضّ لها وجهه، ولا يبقى كافر إلا نَكَتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان، فتفشو تلك النكتة حتى يسود لها وجهه، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق‏:‏ بكم ذا يا مؤمن، بكم ذا يا كافر‏؟‏ وحتى إنّ أهل البيت يجلسون على مائدتهم، فيعرفون مؤمنهم من كافرهم، ثم تقول لهم الدابة‏:‏ يا فلان، أبشر، أنت من أهل الجنة، ويا فلان، أنت من أهل النار‏.‏ فذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏