فصل: تفسير الآيات رقم (4- 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏‏.‏

يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا حسيا معروفا، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله‏:‏ أنت عَلَيَّ كظهر أمي أمًا له، كذلك لا يصير الدَّعيّ ولدًا للرجل إذا تبنَّاه فدعاه ابنا له، فقال‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا‏}‏‏.‏‏[‏المجادلة‏:‏3‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ‏}‏‏:‏ هذا هو المقصود بالنفي؛ فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة، وكان يقال له‏:‏ ‏"‏زيد بن محمد‏"‏ فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ‏}‏ كما قال في أثناء السورة‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏40‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر، فما يمكن أن يكون له أبوان، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏}‏‏:‏ قال سعيد بن جبير ‏{‏يَقُولُ الْحَقَّ‏}‏ أي‏:‏ العدل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏}‏ أي‏:‏ الصراط المستقيم‏.‏

وقد ذكر غير واحد‏:‏ أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش، كان يقال له‏:‏ ‏"‏ذو القلبين‏"‏، وأنه كان يزعم أن له قلبين، كل منهما بعقل وافر‏.‏ فأنزل الله هذه الآية ردا عليه‏.‏ هكذا روى العَوْفي عن ابن عباس‏.‏ قاله مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، واختاره ابن جرير‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، حدثنا زهير، عن قابوس- يعني ابن أبي ظِبْيَان- أن أباه حدثه قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ أرأيت قول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ‏}‏، ما عنى بذلك‏؟‏ قال‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي، فخَطَر خَطْرَة، فقال المنافقون الذين يصلون معه‏:‏ ألا ترون له قلبين، قلبا معكم وقلبا معهم‏؟‏ فأنزل الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ‏}‏‏.‏ وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن صاعد الحراني- وعن عبد بن حميد، عن أحمد بن يونس- كلاهما عن زهير، وهو ابن معاوية، به‏.‏ ثم قال‏:‏ وهذا حديث حسن‏.‏ وكذا رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث زهير، به‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، في قوله‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ‏}‏ قال‏:‏ بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة، ضُرب له مثل، يقول‏:‏ ليس ابن رجل آخر ابنك‏.‏

وكذا قال مجاهد، وقتادة، وابن زيد‏:‏ أنها نزلت في زيد بن حارثة‏.‏ وهذا يوافق ما قدَّمناه من التفسير، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏‏:‏ هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر ‏[‏الله‏]‏ تعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط‏.‏

قال البخاري، رحمه الله‏:‏ حدثنا مُعَلى بن أسد، حدثنا عبد العزيز بن المختار، حدثنا موسى بن عقبة قال‏:‏ حدثني سالم عن عبد الله بن عمر؛ أن زيدًا بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏‏.‏ وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي، من طرق، عن موسى بن عقبة، به‏.‏

وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك؛ ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة‏:‏ يا رسول الله، كنا ندعو سالما ابنا، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل عَلَيّ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أرضعيه تحرمي عليه‏"‏ الحديث‏.‏

ولهذا لما نسخ هذا الحكم، أباح تعالى زوجة الدعي، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة، وقال‏:‏ ‏{‏لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏37‏]‏، وقال في آية التحريم‏:‏ ‏{‏وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏23‏]‏، احترازا عن زوجة الدعيّ، فإنه ليس من الصلب، فأما الابن من الرضاعة، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا، بقوله عليه السلام في الصحيحين‏:‏ ‏"‏حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب‏"‏‏.‏ فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهى عنه في هذه الآية، بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي، من حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن الحسن العُرَني، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال‏:‏ قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حُمُرَات لنا من جَمْع، فجعل يَلْطَخ أفخاذنا ويقول‏:‏ ‏"‏أُبَيْنيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ‏"‏ ‏.‏ قال أبو عبيد وغيره‏:‏ ‏"‏أُبَيْنيّ‏"‏ تصغير بني ‏.‏ وهذا ظاهر الدلالة، فإن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر، وقوله‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ‏}‏ في شأن زيد بن حارثة، وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان، وأيضا ففي صحيح مسلم، من حديث أبي عَوَانة الوضاح بن عبد الله اليَشْكُري، عن الجَعْد أبي عثمان البصري، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا بُني‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود والترمذي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ‏}‏‏:‏ أمر ‏[‏الله‏]‏ تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم، إن عرفوا، فإن لم يعرفوا آباءهم، فهم إخوانهم في الدين ومواليهم، أي‏:‏ عوضًا عما فاتهم من النسب‏.‏ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عُمرة القضاء، وتبعتهم ابنة حمزة تنادي‏:‏ يا عم، يا عم‏.‏ فأخذها علي وقال لفاطمة‏:‏ دونَك ابنة عَمّك فاحتمليها ‏.‏ فاختصم فيها علي، وزيد، وجعفر في أيّهم يكفلها، فكل أدلى بحجة ؛ فقال علي‏:‏ أنا أحق بها وهي ابنة عميس- وقال زيد‏:‏ ابنة أخي‏.‏ وقال جعفر بن أبي طالب‏:‏ ابنة عمي، وخالتها تحتي- يعني أسماء بنت عميس‏.‏ فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال‏:‏ ‏"‏الخالة بمنزلة الأم‏"‏‏.‏ وقال لعلي‏:‏ ‏"‏أنت مني، وأنا منك‏"‏‏.‏ وقال لجعفر‏:‏ ‏"‏أشبهت خَلْقي وخُلُقي‏"‏‏.‏ وقال لزيد‏:‏ ‏"‏أنت أخونا ومولانا‏"‏‏.‏

ففي هذا الحديث أحكام كثيرة من أحسنها‏:‏ أنه، عليه الصلاة والسلام حكم بالحق، وأرضى كلا من المتنازعين، وقال لزيد‏:‏ ‏"‏أنت أخونا ومولانا‏"‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ‏}‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه قال‏:‏ قال أبو بَكْرَة‏:‏ قال الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ‏}‏، فأنا ممن لا يُعرَف أبوه، وأنا من إخوانكم في الدين‏.‏ قال أبي‏:‏ والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه‏.‏ وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏من ادعى لغير أبيه، وهو يعلمه، كفر ‏.‏ وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد، في التبري من النسب المعلوم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأ، بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع؛ فإن الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه، كما أرشد إليه في قوله آمرًا عباده أن يقولوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏ وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قال الله‏:‏ قد فعلت‏"‏ ‏.‏ وفي صحيح البخاري، عن عمرو بن العاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ، فله أجر‏"‏ ‏.‏ وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما يُكرَهُون عليه‏"‏‏.‏

وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ أي‏:‏ وإنما الإثم على مَنْ تعمد الباطل كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم‏}‏‏.‏ وفي الحديث المتقدم‏:‏ ‏"‏من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر‏"‏‏.‏ وفي القرآن المنسوخ‏:‏ ‏"‏فإن كفرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم‏"‏‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن عمر أنه قال‏:‏ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده‏.‏ ثم قال‏:‏ قد كنا نقرأ‏:‏ ‏"‏ولا ترغبوا عن آبائكم ‏[‏فإنه كفر بكم- أو‏:‏ إن كفرًا بكم- أن ترغبوا عن آبائكم‏]‏ ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تطروني ‏[‏كما أطري‏]‏ عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا‏:‏ عبده ورسوله‏"‏ ‏.‏ وربما قال مَعْمَر‏:‏ ‏"‏كما أطرت النصارى ابن مريم‏"‏‏.‏

ورواه في الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏ثلاث في الناس كفر‏:‏ الطَّعْن في النَّسبَ، والنيِّاحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا‏}‏‏.‏

قد علم الله تعالى شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته، ونصحَه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم مُقَدّمًا على اختيارهم لأنفسهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين‏"‏ ‏.‏ وفي الصحيح أيضا أن عمر، رضي الله عنه، قال‏:‏ يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏الآن يا عمر‏"‏‏.‏

ولهذا قال تعالى في هذه الآية‏:‏ ‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏‏.‏

وقال البخاري عندها‏:‏ حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا ‏[‏محمد بن‏]‏ فُلَيح، حدثنا أبي، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة‏.‏ اقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عَصَبَتُه مَن كانوا‏.‏ فإن ترك دَيْنًا أو ضَياعًا، فليأتني فأنا مولاه‏"‏‏.‏ تفرد به البخاري‏.‏

ورواه أيضا في ‏"‏الاستقراض‏"‏ وابن جرير، وابن أبي حاتم، من طرق، عن فليح، به مثله ‏.‏ ورواه الإمام أحمد، من حديث أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فأيما رجل مات وترك دينا، فإلي‏.‏ ومَنْ ترك مالا فلورثته ‏"‏ ‏.‏ ورواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل، به نحوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ في الحرمة والاحترام، والإكرام والتوقير والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع، وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين، كما هو منصوص الشافعي في المختصر، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم‏.‏ وهل يقال لمعاوية وأمثاله‏:‏ خال المؤمنين‏؟‏ فيه قولان للعلماء‏.‏ ونص الشافعي على أنه يقال ذلك‏.‏ وهل يقال لهن‏:‏ أمهات المؤمنات، فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغليبا‏؟‏ فيه قولان‏:‏ صح عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت‏:‏ لا يقال ذلك‏.‏ وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي، رحمه الله‏.‏

وقد روي عن أُبي بن كعب، وابن عباس أنهما قرآ‏:‏ ‏"‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم‏"‏، وروي نحو هذا عن معاوية، ومجاهد، وعِكْرِمة، والحسن‏:‏ وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي‏.‏ حكاه البغوي وغيره، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود‏:‏

حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا ابن المبارك، عن محمد بن عَجْلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعَلِّمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه‏"‏، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة‏.‏

وأخرجه النسائي وابن ماجه، من حديث ابن عجلان‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أنه لا يقال ذلك، واحتجوا بقوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ‏}‏‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ في حكم الله ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار‏.‏ وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم، كما قال ابن عباس وغيره‏:‏ كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا قال سعيد بن جبير، وغير واحد من السلف والخلف‏.‏

وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثا عن الزبير بن العوام، رضي الله عنه، فقال‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي- من ساكني بغداد- عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام قال‏:‏ أنزل الله، عز وجل، فينا خاصة معشر قريش والأنصار‏:‏ ‏{‏وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ‏}‏، وذلك أنا معشر قريش لما قَدمنا المدينة، قَدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نِعْمَ الإخوانُ، فواخيناهم ووارثناهم‏.‏ فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخى عمر فلانا، وآخى عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلا من بني زُرَيق، سعد الزرقي، ويقول بعض الناس غيره‏.‏ قال الزبير‏:‏

وواخيت أنا كعب بن مالك، فجئته فابتعلته فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى، فوالله يا بني، لو مات يومئذ عن الدنيا، ما ورثه غيري، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة، فرجعنا إلى مواريثنا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا‏}‏ أي‏:‏ ذهب الميراث، وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا‏}‏ أي‏:‏ هذا الحكم، وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول، الذي لا يبدل، ولا يغير‏.‏ قاله مجاهد وغير واحد‏.‏ وإن كان قد يقال ‏:‏ قد شرع خلافه في وقت لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي، وقضائه القدري الشرعي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرا عن أولي العزم الخمسة، وبقية الأنبياء‏:‏ أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله، وإبلاغ رسالته، والتعاون والتناصر والاتفاق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم، وكذلك هذا‏.‏ ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة، وهم أولو العزم، وهو من باب عطف الخاص على العام، وقد صرَّح بذكرهم أيضا في هذه الآية، وفي قوله‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏، فذكر الطرفين والوسط، الفاتح والخاتم، ومن بينهما على ‏[‏هذا‏]‏ الترتيب‏.‏ فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها، كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ ‏[‏وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏]‏‏}‏ ، فبدأ في هذه الآية بالخاتم؛ لشرفه- صلوات الله ‏[‏وسلامه‏]‏ عليه- ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله ‏[‏وسلامه‏]‏ عليهم‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة الدمشقي، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا سعيد بن بشير، حدثني قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ‏}‏ الآية‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، ‏[‏فَبُدئ بي‏]‏ قبلهم‏"‏ سعيد بن بشير فيه ضعف‏.‏

وقد رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة مرسلا وهو أشبه، ورواه بعضهم عن قتادة موقوفا، والله أعلم‏.‏

وقال أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو أحمد، حدثنا حمزة الزيات، حدثنا علي بن ثابت، عن أبي حازم ، عن أبى هريرة قال‏:‏ خيار ولد آدم خمسة‏:‏ نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين ‏.‏ موقوف، وحمزة فيه ضعف‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذّر من صلب آدم، كما قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال‏:‏ ورفع أباهم آدم، فنظر إليهم- يعني‏:‏ ذريته- وأن فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة، ودون ذلك، فقال‏:‏ رب، لو سويتَ بين عبادك‏؟‏ فقال‏:‏ إني أحببت أن أشكر‏.‏ وأرى فيهم الأنبياء مثل السرج، عليهم كالنور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، فهو الذي يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح ‏[‏وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏]‏‏}‏ الآية‏.‏ وهذا قول مجاهد أيضا‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ الميثاق الغليظ‏:‏ العهد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ‏}‏، قال مجاهد‏:‏ المبلغين المؤدين عن الرسل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ من أممهم ‏{‏عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ أي‏:‏ موجعا، فنحن نشهد أن الرسل قد بَلَّغُوا رسالات ربهم، ونصحوا الأمم وأفصحوا لهم عن الحق المبين، الواضح الجلي، الذي لا لبس فيه، ولا شك، ولا امتراء، وإن كذبهم مَنْ كذبهم من الجهلة والمعاندين والمارقين والقاسطين، فما جاءت به الرسل هو الحق، ومَنْ خالفهم فهو على الضلال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرا عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين، في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا وذلك عام الخندق، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيحالمشهور‏.‏

وقال موسى بن عُقْبة وغيره كانت في سنة أربع‏.‏

وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفرًا من أشراف يهود بني النضير، الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، منهم‏:‏ سلام بن أبي الحُقَيْق، وسلام بن مِشْكَم، وكنانة بن الربيع، خرجوا إلى مكة واجتمعوا بأشراف قريش، وأَلّبوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة‏.‏ فأجابوهم إلى ذلك، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضا‏.‏ وخرجت قريش في أحابيشها، ومن تابعها، وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب، وعلى غطفان عُيَينة بن حصن بن بدر، والجميع قريب من عشرة آلاف، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق، وذلك بإشارة سلمان الفارسي، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا، ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وحفَر، وكان في حفره ذلك آيات بينات ودلائل واضحات‏.‏

وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريبا من أحد، ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ‏}‏، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المسلمين، وهم نحو ثلاثة آلاف، وقيل‏:‏ سبعمائة، وأسندوا ظهورهم إلى سَلْع ووجوههم إلى نحو العدو، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم يحجب الرجالة والخيالة أن تصل إليهم، وجعل النساء والذراري في آطام المدينة، وكانت بنو قريظة- وهم طائفة من اليهود- لهم حصن شرقي المدينة، ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة، وهم قريب من ثمانمائة مقاتل فذهب إليهم حُيَيّ بن أخطب النَّضَري ‏[‏اليهودي‏]‏، فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد، ومالؤوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَظُم الخَطْب واشتد الأمر، وضاق الحال، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا‏}‏‏.‏

ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريبًا من شهر، إلا أنهم لا يصلون إليهم، ولم يقع بينهم قتال، إلا أن عمرو بن عبد ودّ العامري- وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية- ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق، وخلصوا إلى ناحية المسلمين، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إليه، فلم يبرز إليه أحد، فأمر عليا فخرج إليه، فتجاولا ساعة، ثم قتله علي، رضي الله عنه، فكان علامة على النصر‏.‏

ثم أرسل الله عز، وجل، على الأحزاب ريحًا شديدة الهبوب قوية، حتى لم تبق لهم خيمة ولا شيء ولا تُوقَد لهم نار، ولا يقر لهم قرار حتى ارتحلوا خائبين خاسرين، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا‏}‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ وهي الصبا، ويؤيده الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن عِكْرمة قال‏:‏ قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب‏:‏ انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال‏:‏ إن الحرة لا تسري بالليل‏.‏ قال‏:‏ فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشَجّ، عن حفص بن غياث، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكره‏.‏

وقال ابن جرير أيضا‏:‏ حدثنا يونس، حدثنا ابن وَهْب، حدثني عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ أرسلني خالي عثمان بن مَظْعون ليلة الخندق في برد شديد وريح إلى المدينة، فقال‏:‏ ائتنا بطعام ولحاف‏.‏ قال‏:‏ فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لي، وقال‏:‏ ‏"‏من أتيت من أصحابي فمرهم يرجعوا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فذهبت والريح تسفي كل شيء، فجعلت لا ألقى أحدا إلا أمرته بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فما يلوي أحد منهم عنقه‏.‏ قال‏:‏ وكان معي ترس لي، فكانت الريح تضربه عليّ، وكان فيه حديد، قال‏:‏ فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفي، فأنفدها إلى الأرض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا‏}‏ وهم الملائكة، زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقول‏:‏ يا بني فلان إليَّ‏.‏ فيجتمعون إليه فيقول‏:‏ النجاء، النجاء‏.‏ لما ألقى الله تعالى في قلوبهم من الرعب‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ قال‏:‏ قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان‏:‏ يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا ابن أخي‏.‏ قال‏:‏ وكيف كنتم تصنعون‏؟‏ قال‏:‏ والله لقد كنا نجهد‏.‏ قال الفتى‏:‏ والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا‏.‏ قال‏:‏ قال حذيفة‏:‏ يابن أخي، والله لو رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوِيّا من الليل، ثم التفت فقال‏:‏ ‏"‏مَنْ رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم‏؟‏- يشرط له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرجع- أدخله الله الجنة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فما قام رجل‏.‏ ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويًّا من الليل ثم التفت إلينا، فقال مثله، فما قام منا رجل‏.‏ ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُويًّا من الليل ثم التفت إلينا فقال‏:‏ ‏"‏من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع- يشترط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة- أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة‏"‏‏.‏ فما قام رجل من القوم؛ من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد‏.‏ فلما لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقال‏:‏ ‏"‏يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون، ولا تُحْدثَنّ شيئا حتى تأتينا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فذهبت فدخلت ‏[‏في القوم‏]‏ ، والريح وجنود الله، عز وجل، تفعل بهم ما تفعل، لا تُقِرّ لهم قِدْرًا ولا نارًا ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال‏:‏ يا معشر قريش، لينظر امرؤ مَنْ جليسه‏.‏ قال حذيفة‏:‏ فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي، فقلت‏:‏ مَنْ أنت‏؟‏ فقال‏:‏ أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان‏:‏ يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكُرَاع والخُفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبَلَغَنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح الذي ترون‏.‏ والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تَقُوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا، فإني مُرْتَحل، ثم قام إلى جَمَله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقَالَه إلا وهو قائم‏.‏ ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي‏:‏ ‏"‏ألا تحدث شيئا حتى تأتيني‏"‏ ثم شئتُ، لقتلته بسهم‏.‏

قال حذيفة‏:‏ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مِرْط لبعض نسائه مُرَحل، فلما رآني أدخلني بين رجليه، وطرح علي طرف المرْط، ثم ركع، وسجد وإني لفيه، فلما سَلَّم أخبرته الخبر، وسمعت غَطَفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم‏.‏

وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال‏:‏ كنا عند حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، فقال له رجل‏:‏ لو أدركتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلتُ معه وأبليتُ‏.‏ فقال له حذيفة‏:‏ أنت كنتَ تفعل ذلك‏؟‏ لقد رَأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقُرّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا رجل يأتي بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة‏؟‏‏"‏‏.‏ فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏يا حذيفة، قم فأتنا بخبر من القوم‏"‏‏.‏ فلم أجد بدَّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال‏:‏ ‏"‏ائتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم عَلَيّ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فمضيت كأنما أمشي في حَمام حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يَصْلَى ظهره بالنار، فوضعت سهما في كَبِِد قوسي، وأردت أن أرميَه، ثم ذكرتُ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تَذْعَرْهم عَلَيَّ‏"‏، ولو رَمَيْته لأصبته‏.‏ قال‏:‏ فرجعت كأنما أمشي في حَمّام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصابني البرد حين فَرَغتُ وقُررْتُ فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسني من فضل عَبَاءَة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قم يا نومان ‏.‏

ورواه يونس بن بُكَيْر، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم‏:‏ أن رجلا قال لحذيفة، رضي الله عنه‏:‏ نشكو إلى الله صحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنكم أدركتموه ولم ندركه، ورأيتموه ولم نره‏.‏ فقال حذيفة‏:‏ ونحن نشكو إلى الله إيمانكم به ولم تروه، والله لا تدري يا بن أخي لو أدركتَه كيف كنتَ تكون‏.‏ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مَطِيرة *** ثم ذكر نحو ما تقدم مطولا‏.‏

وروى بلال بن يحيى العَبْسي، عن حذيفة نحو ذلك أيضا‏.‏

وقد أخرج الحاكم والبيهقي في ‏"‏الدلائل‏"‏، من حديث عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال‏:‏ ذَكَر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالجلساؤه‏:‏ أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا‏.‏ فقال حذيفة‏:‏ لا تمنوا ذلك‏.‏ لقد رأيتُنا ليلة الأحزاب ونحن صافُّون قُعود، وأبو سفيان ومَنْ معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتَت علينا قطّ أشدّ ظلمةً ولا أشد ريحًا، في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون‏:‏ ‏"‏إن بيوتنا عورة وما هي بعورة‏"‏‏.‏ فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم فيتسللون، ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلا رجلا حتى أتى عَلَيّ وما عَلَيّ جُنَّة من العدو ولا من البرد إلا مِرْط لامرأتي، ما يجاوز ركبتي‏.‏ قال‏:‏ فأتاني صلى الله عليه وسلم وأنا جَاثٍ على ركبتي فقال‏:‏ ‏"‏مَنْ هذا‏؟‏‏"‏ فقلت‏:‏ حذيفة‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏حذيفة‏"‏‏.‏ فتقاصرت بالأرض فقلت‏:‏ بلى يا رسول الله، كراهية أن أقوم‏.‏ ‏[‏قال‏:‏قم‏]‏ ، فقمت، فقال‏:‏ ‏"‏إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم‏"‏- قال‏:‏ وأنا من أشد ‏[‏الناس‏]‏ افزعًا، وأشدهم قُرًّا- قال‏:‏ فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللهم، احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما خلق الله فزعا ولا قرّا في جوفي إلا خرج من جوفي، فما أجد فيه شيئا‏.‏ قال‏:‏ فلما وليت قال‏:‏‏"‏يا حذيفة، لا تُحدثَنّ في القوم شيئًا حتى تأتيني‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم تَوَقَّدُ، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته، ويقول‏:‏ الرحيلَ الرحيلَ، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كَبِِد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني‏"‏، ‏[‏فأمسكت‏]‏ ورددت سهمي إلى كنانتي، ثم إني شَجَّعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون‏:‏ يا آل عامر، الرحيلَ الرحيلَ، لا مُقام لكم‏.‏ وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وَفَرَسَتْهُمُ الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت في الطريق أو نحوا من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارسًا أو نحو ذلك مُعْتَمّين، فقالوا‏:‏ أخْبر صاحبك أن الله تعالى كفَاه القوم‏.‏ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت رَاجَعَني القُرُّ وجعلت أقَرْقفُ، فأومأ إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏بيده‏]‏ وهو يصلي، فدنوت منه، فأسبل علي شملته‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أني تركتهم يترحلون ، وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا‏}‏‏.‏

وأخرج أبو داود في سننه منه‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا حزبه أمر، من حديث عكرمة بن عمار، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ الأحزاب ‏{‏وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ‏}‏ تقدم عن حذيفة أنهم بنو قريظة، ‏{‏وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ‏}‏ أي‏:‏ من شدة الخوف والفزع، ‏{‏وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا‏}‏‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ظن بعض مَنْ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين، وأن الله سيفعل ذلك‏.‏

وقال محمد بن إسحاق في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا‏}‏‏:‏ ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق حتى قال مُعَتّب بن قشير- أخو بني عمرو بن عوف- ‏:‏ كان محمد يَعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط‏.‏

وقال الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ‏}‏‏:‏ ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري، حدثنا أبو عامر‏(‏ح‏)‏‏}‏ وحدثنا أبي، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا الزبير- يعني‏:‏ ابن عبد الله، مولى عثمان بن عفان- عن ُرَتْيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي سعيد قال‏:‏ قلنا يوم الخندق‏:‏ يا رسول الله، هل من شيء نقول، فقد بلغت القلوب الحناجر‏؟‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نعم، قولوا‏:‏ اللهم استر عوراتنا، وآمن رَوْعاتنا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فضرب وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم بالريح‏.‏

وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي عامر العقدي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرًا عن ذلك الحال، حين نزلت الأحزاب حول المدينة، والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم‏:‏ أنهم ابتُلوا واختُبروا وزلزلوا زلزالا شديدا، فحينئذ ظهر النفاق، وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم‏.‏

‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا‏}‏ أما المنافق، فنجم نفاقه، والذي في قلبه شبهة أو حَسِيْكَة، ضَعُف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه؛ لضعف إيمانه، وشدة ما هو فيه من ضيق الحال‏.‏

وقوم آخرون قالوا كما قال الله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ‏}‏ يعني‏:‏ المدينة، كما جاء في الصحيح‏:‏ ‏"‏أريت ‏[‏في المنام‏]‏ دارَ هجرتكُم، أرض بين حَرّتين فذهب وَهْلي أنها هَجَر، فإذا هي يثرب‏"‏،ش وفي لفظ‏:‏ ‏"‏المدينة‏"‏‏.‏

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إبراهيم بن مهدي، حدثنا صالح بن عمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من سَمَّى المدينة يثرب، فليستغفر الله، هي طابة، هي طابة‏"‏‏.‏

تفرد به الإمام أحمد، وفي إسناده ضعف، والله أعلم‏.‏

ويقال‏:‏ إنما كان أصل تسميتها ‏"‏يثرب‏"‏ برجل نزلها من العماليق، يقال له‏:‏ يثرب بن عبيل بن مهلابيل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح‏.‏ قاله السهيلي، قال‏:‏ وروي عن بعضهم أنه قال‏:‏ إن لها ‏[‏في التوراة‏]‏ أحد عشر اسما‏:‏ المدينة، وطابة، وطيبة،المسكينة، والجابرة، والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة، والمجبورة، والعذراء، والمرحومة‏.‏

وعن كعب الأحبار قال‏:‏ إنا نجد في التوراة يقول الله للمدينة‏:‏ يا طيبة، ويا طابة، ويا مسكينة ‏[‏لا تقلي الكنوز، أرفع أحاجرك على أحاجر القرى‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا مُقَامَ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ هاهنا، يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في مقام المرابطة، ‏{‏فَارْجِعُوا‏}‏ أي‏:‏ إلى بيوتكم ومنازلكم‏.‏ ‏{‏وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ‏}‏‏:‏ قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ هم بنو حارثة قالوا‏:‏ بيوتنا نخاف عليها السَّرَقَ‏.‏ وكذا قال غير واحد‏.‏

وذكر ابن إسحاق‏:‏ أن القائل لذلك هو أوس بن قَيظيّ، يعني‏:‏ اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عَورة، أي‏:‏ ليس دونها ما يحجبها عن العدو، فهم يخشون عليها منهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ‏}‏ أي‏:‏ ليست كما يزعمون، ‏{‏إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا‏}‏ أي‏:‏ هَرَبًا من الزحف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا‏}‏‏.‏

يخبر تعالى عن هؤلاء الذين ‏{‏يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا‏}‏‏:‏ أنهم لو دَخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة، وقُطر من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة، وهي الدخول في الكفر، لكفروا سريعًا، وهم لا يحافظون على الإيمان، ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع‏.‏

هكذا فسرها قتادة، وعبد الرحمن بن زيد، وابن جرير، وهذا ذم لهم في غاية الذم‏.‏

ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف، ألا يولوا الأدبار ولا يفروا من الزحف، ‏{‏وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا‏}‏ أي‏:‏ وإن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد، لا بد من ذلك‏.‏

ثم أخبرهم أن فرَارهم ذلك لا يؤخر آجالهم، ولا يطول أعمارهم، بل ربما كان ذلك سببًا في تعجيل أخذهم غرّة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا‏}‏ أي‏:‏ بعد هَرَبكم وفراركم، ‏{‏قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ يمنعكم، ‏{‏إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏}‏‏.‏

يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب، والقائلين لإخوانهم، أي‏:‏ أصحابهم وعُشَرائهمِ وخلطائهم ‏{‏هَلُمَّ إِلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار، وهم مع ذلك ‏{‏لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا‏.‏ أشحةً عليكم‏}‏ أي‏:‏ بخلاء بالمودة، والشفقة عليكم‏.‏

وقال السُّدي‏:‏ ‏{‏أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ في الغنائم‏.‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ أي‏:‏ من شدة خوفه وجزعه، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال ‏{‏فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ‏}‏ أي‏:‏ فإذا كان الأمن، تكلموا كلامًا بليغًا فصيحًا عاليًا، وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏سَلَقُوكُمْ أي‏:‏ استقبلوكم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أما عند الغنيمة فأشح قوم، وأسوأه مقاسمة‏:‏ أعطونا، أعطونا، قد شهدنا معكم‏.‏ وأما عند البأس فأجبن قوم، وأخذله للحق‏.‏

وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي‏:‏ ليس فيهم خير، قد جَمَعُوا الجبن والكذب وقلة الخير، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر‏:‏

أفي السّلم أعْيَارًا جَفَاءً وغلظَةً *** وَفي الحَربْ أمْثَالَ النِّسَاء العَوَارك

أي‏:‏ في حال المسالمة كأنهم الحمير‏.‏ والأعيار‏:‏ جمع عير، وهو الحمار، وفي الحرب كأنهم النساء الحُيَّض؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏}‏ أي‏:‏ سهلا هينا عنده‏.‏

‏{‏يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا‏.‏

وهذا أيضا من صفاتهم القبيحة في الجبن والخوف والخور، ‏{‏يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا‏}‏ بل هم قريب منهم، وإن لهم عودة إليهم ‏{‏وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ويَوَدّون إذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة بل في البادية، يسألون عن أخباركم، وما كان من أمركم مع عدوكم، ‏{‏وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا‏}‏ أي‏:‏ ولو كانوا بين أظهركم، لما قاتلوا معكم إلا قليلا؛ لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا‏}‏‏.‏

هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه، عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين؛ ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله‏؟‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى مخبرًا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم، وجَعْله العاقبةَ حاصلةً لهم فيالدنيا والآخرة، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏‏.‏

قال ابن عباس وقتادة‏:‏ يعنون قوله تعالى في ‏"‏سورة البقرة‏"‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏

أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا‏}‏‏:‏ دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم، كما قاله جمهور الأئمة‏:‏ إنه يزيد وينقص‏.‏ وقد قررنا ذلك في أول ‏"‏شرح البخاري‏"‏ ولله الحمد والمنة‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا زَادَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ذلك الحال والضيق والشدة ‏[‏ما زادهم‏]‏ ‏{‏إِلا إِيمَانًا‏}‏ بالله، ‏{‏وَتَسْلِيمًا‏}‏ أي‏:‏ انقيادا لأوامره، وطاعة لرسوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏‏.‏

لمَّا ذكر عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق و‏{‏صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ‏}‏، قال بعضهم‏:‏ أجله‏.‏

وقال البخاري‏:‏ عهده‏.‏ وهو يرجع إلى الأول‏.‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا‏}‏ أي‏:‏ وما غيروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدلوه‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال‏:‏ أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال‏:‏ لما نسخنا الصُّحُف، فَقَدْتُ آيةً من ‏"‏سورة الأحزاب‏"‏ كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري- الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين- ‏:‏ ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏‏.‏

انفرد به البخاري دون مسلم‏.‏ وأخرجه أحمد في مسنده، والترمذي والنسائي- في التفسير من سننيهما- من حديث الزهري، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ ‏"‏حسن صحيح‏"‏‏.‏

وقال البخاري أيضا‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثني أبي، عن ثُمَامَة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر‏:‏ ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏‏.‏

انفرد به البخاري من هذا الوجه، ولكن له شواهد من طرق أخر‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏

حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال‏:‏ قال أنس‏:‏ عمي أنس بن النضر سُميت به، لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فشق عليه وقال‏:‏ أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غُيِّبْتُ عنه، لئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَرَيَنَ الله ما أصنع‏.‏ قال‏:‏ فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏يوم‏]‏ أحد، فاستقبل سعدَ بن معاذ فقال له أنس يا أبا عمرو، أبِنْ‏.‏ واهًا لريح الجنة أجده دون أحد، قال‏:‏ فقاتلهم حتى قُتل قال‏:‏ فَوُجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته- عمتي الرُّبَيّع ابنة النضر- ‏:‏ فما عرفتُ أخي إلا ببنانه‏.‏ قال‏:‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا‏}‏‏.‏ قال‏:‏ فكانوا يُرَون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه‏.‏

ورواه مسلم والترمذي والنسائي، من حديث سليمان بن المغيرة، به ‏.‏ ورواه النسائي أيضا وابن جرير، من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، به نحوه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حميد، عن أنس أن عمه- يعني‏:‏ أنس بن النضر- غاب عن قتال بَدر، فقال‏:‏ غُيّبتُ عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن الله أشهدني قتالا للمشركين، لَيَرَيَنّ الله ما أصنع‏.‏ قال‏:‏ فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال‏:‏ اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني‏:‏ أصحابه- وأبرأ إليك مما جاء هؤلاء- يعني‏:‏ المشركين- ثم تقدم فلقيه سعد- يعني‏:‏ ابن معاذ- دون أحد، فقال‏:‏ أنا معك‏.‏ قال سعد‏:‏ فلم أستطع أن أصنع ما صنع‏.‏ قال‏:‏ فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف، وطَعنةَ رمح، ورمية سهم‏.‏ وكانوا يقولون‏:‏ فيه وفي أصحابه ‏[‏نزلت‏]‏‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ‏}‏‏.‏

وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد، والنسائي فيه أيضا، عن إسحاق بن إبراهيم، كلاهما، عن يزيد بن هارون، به، وقال الترمذي‏:‏ حسن‏.‏ وقد رواه البخاري في المغازي، عن حسان بن حسان، عن محمد بن طلحة بن مُصَرّف، عن حميد، عن أنس، به ، ولم يذكر نزول الآية‏.‏ ورواه بن جرير، من حديث المعتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس، به‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن الفضل العسقلاني، حدثنا سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي، عن جدي، عن موسى بن طلحة، عن أبيه طلحة قال‏:‏ لما أن رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وعَزّى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر، ثم قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏‏.‏ فقام إليه رجل من المسلمين فقال‏:‏ يا رسول الله، مَنْ هؤلاء‏؟‏ فأقبلت وَعَلَيّ ثوبان أخضران حَضْرَميَّان فقال‏:‏ ‏"‏أيها السائل، هذا منهم‏"‏‏.‏

وكذا رواه ابن جرير من حديث سليمان بن أيوب الطَّلْحي، به ‏.‏ وأخرجه الترمذي في التفسير والمناقب أيضا، وابن جرير، من حديث يونس بن بُكَيْر، عن طلحة بن يحيى، عن موسى وعيسى ابني طلحة، عن أبيهما، به‏.‏ وقال‏:‏ حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري، حدثنا أبو عامر- يعني‏:‏ العقدي- حدثني إسحاق- يعني‏:‏ ابن طلحة بن عبيد الله- عن موسى بن طلحة قال‏:‏ ‏[‏دخلت على معاوية، رضي الله عنه، فلما خرجت، دعاني فقال‏:‏ ألا أضع عندك يا بن أخي حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ أشهد لَسَمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏طلحة ممن قضى نحبه‏"‏‏.‏

ورواه ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الحميد الحِمَّاني، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة الطَّلْحي، عن موسى بن طلحة قال‏]‏ ‏:‏ قام معاوية بن أبي سفيان فقال‏:‏ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏طلحة ممن قضى نحبه‏"‏‏.‏

ولهذا قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ‏}‏ قال‏:‏ عهده، ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ‏}‏ قال‏:‏ يوما‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ‏}‏ يعني‏:‏ موته على الصدق والوفاء‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ‏}‏ الموت على مثل ذلك، ومنهم مَنْ لم يبدل تبديلا‏.‏ وكذا قال قتادة، وابن زيد‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏نَحْبَهُ‏}‏ نذره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا‏}‏ أي‏:‏ وما غيَّروا عهدهم، وبدَّلوا الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا‏}‏، ‏{‏وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل، وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم، حتى يعملوا بما يعلمه فيهم ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 31‏]‏، فهذا علم بالشيء بعد كونه، وإن كان العلم السابق حاصلا به قبل وجوده‏.‏ وكذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏‏.‏ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم عليه‏.‏ ‏{‏وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ‏}‏‏:‏ وهم الناقضون لعهد الله، المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه، ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا، إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه به فيعذبهم عليه، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الإيمان، وعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان‏.‏ ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة لغضبه قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا‏}‏‏.‏

يقول تعالى مخبرًا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة، بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين، لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم على عاد، ولكن قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ‏[‏وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏]‏‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏، فسلط عليهم هواء فرق شملهم، كما كان سبب اجتماعهم من الهَوَى، وهم أخلاط من قبائل شتى، أحزاب وآراء، فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرقجماعتهم، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحَنَقهم، لم ينالوا خيرًا لا في الدنيا، مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بالعداوة، وهمهم بقتله، واستئصال جيشه، ومَنْ هَمّ بشيء وصَدق هَمَّه بفعله، فهو في الحقيقة كفاعله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ‏}‏ أي‏:‏ لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم، بل كفى الله وحده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده‏"‏‏.‏ أخرجاه من حديث أبي هريرة‏.‏

وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوْفى قال‏:‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال‏:‏ ‏"‏اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب‏.‏ اللهم، اهزمهم وزلزلهم‏"‏‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ‏}‏‏:‏ إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش، وهكذا وقع بعدها، لم يغزهم المشركون، بل غزاهم المسلمون في بلادهم‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا‏:‏ ‏"‏لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم‏"‏ فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة‏.‏

وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق قال‏:‏ سمعت سليمان بن صُرَد يقول‏:‏‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب‏:‏ ‏"‏الآن نغزوهم ولا يغزونا‏"‏‏.‏

وهكذا رواه البخاري في صحيحه، من حديث الثوري وإسرائيل، عن أبي إسحاق، به‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا‏}‏ أي‏:‏ بحوله وقوته، ردهم خائبين، لم ينالوا خيرًا، وأعز الله الإسلام وأهله وصدق وعده، ونصر رسوله وعبده، فله الحمد والمنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا‏}‏‏.‏

قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب، ونزلوا على المدينة، نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، وكان ذلك بسفارة حُيَيّ بن أخطب النَّضَري- لعنه الله- دخل حصنهم، ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال‏:‏ ويحك، قد جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه‏.‏ فقال له كعب‏:‏ بل والله أتيتني بذُلِّ الدهر‏.‏ ويحك يا حيي، إنك مشؤوم، فدعنا منك‏.‏ فلم يزل يفتل في الذِّروة والغَارب حتى أجابه، واشترط له حُيي إن ذهب الأحزاب، ولم يكن من أمرهم شيء، أن يدخل معهم في الحصن، فيكون له أسوتهم‏.‏ فلما نَقَضت قريظةُ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ساءه، وَشَقَّ عليه وعلى المسلمين جدًّا، فلما أيد الله ونَصَر، وكبت الأعداء وردَّهم خائبين بأخسر صفقة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيدا منصورا، ووضع الناس السلاح‏.‏ فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة إذ تبدى له جبريل معتجرا بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها قطيفة ‏[‏من‏]‏ ديباج، فقال‏:‏ أوضَعت السلاح يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ لكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم‏.‏ ثم قال‏:‏ إن الله يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة‏.‏ وفي رواية فقال له‏:‏ عذيرَك من مقاتل، أوضعتم السلاح‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ لكنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهض إلى هؤلاء‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أين‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ بني قريظة، فإن الله أمرني أن أزلزل عليهم‏.‏ فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة، وكانت على أميال من المدينة، وذلك بعد صلاة الظهر، وقال‏:‏ ‏"‏لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة‏"‏‏.‏ فسار الناس، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق وقالوا‏:‏ لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل السير، وقال آخرون‏:‏ لا نصليها إلا في بني قريظة‏.‏ فلم يُعَنِّف واحدا من الفريقين‏.‏ وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب‏.‏ ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما طال عليهم الحال، نزلوا على حكم سعد بن معاذ- سيد الأوس- لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع، حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك، ولم يعلموا أن سعدا، رضي الله عنه، كان قد أصابه سهم في أكحَله أيام الخندق، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب‏.‏ وقال سعد فيما دعا به‏:‏ اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها‏.‏ وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ولا تمتني حتى تُقرّ عيني من بني قريظة‏.‏ فاستجاب الله دعاءه، وقَدّر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلبا من تلقاء أنفسهم، فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم، فلما أقبل وهو راكب ‏[‏على حمار‏]‏ قد وطَّؤوا له عليه، جعل الأوس يلوذون به ويقولون‏:‏ يا سعد، إنهم مواليك، فأحسن فيهم‏.‏ ويرققونه عليهم ويعطفونه، وهو ساكت لا يرد عليهم‏.‏ فلما أكثروا عليه قال‏:‏ لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم‏.‏ فعرفوا أنه غير مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قوموا إلى سيدكم‏"‏‏.‏ فقام إليه المسلمون، فأنزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم‏.‏ فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن هؤلاء- وأشار إليهم- قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وحكمي نافذ عليهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وعلى مَنْ في هذه الخيمة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وعلى مَنْ هاهنا‏.‏- وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا وإكرامًا وإعظامًا- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ إني أحكم أن تقتل مُقَاتلتهم، وتُسبْى ذريتهم وأموالهم‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة‏"‏ ‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏لقد حكمتَ بحكم المَلك‏"‏‏.‏ ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فَخُدّت في الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسبى مَنْ لم يُنبت منهم مع النساء وأموالهم ، وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة، الذي أفردناه موجزا ومقتصَّا‏.‏ ولله الحمد والمنة‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ يعني‏:‏ بني قريظة من اليهود، من بعض أسباط بني إسرائيل، كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديما، طَمَعًا في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏، فعليهم لعنة الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ صَيَاصِيهِم‏}‏ يعني‏:‏ حصونهم‏.‏ كذا قال مجاهد، وعِكْرِمة، وعطاء، وقتادة، والسُّدِّي، وغيرهم ومنه سميت صياصي البقر، وهي قرونها؛ لأنها أعلى شيء فيها‏.‏

‏{‏وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ‏}‏‏:‏ وهو الخوف؛ لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم، فأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا في الدنيا، فانعكسعليهم الحال، وانقلب الفال ، انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا ، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا‏}‏، فالذين قتلوا هم المقاتلة، والأسراء هم الأصاغر والنساء‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هُشَيْم بن بشير، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي قال‏:‏ عُرضتُ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا فيَّ، فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا‏:‏ هل أنبت بعد‏؟‏ فنظروا فلم يجدوني أنبت، فخلى عني وألحقني بالسبي‏.‏

وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق، عن عبد الملك بن عمير، به ‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ ‏"‏حسن صحيح‏"‏‏.‏ ورواه النسائي أيضا، من حديث ابن جُرَيْج، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن عطية، بنحوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ جعلها لكم من قتلكم لهم ‏{‏وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤوهَا‏}‏ قيل‏:‏ خيبر‏.‏ وقيل‏:‏ مكة‏.‏ رواه مالك، عن زيد بن أسلم‏.‏ وقيل‏:‏ فارس والروم‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ يجوز أن يكون الجميع مرادا‏.‏

‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا‏}‏‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص قال‏:‏ أخبرتني عائشة قالت‏:‏ خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجَنَّه، قالت‏:‏ فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه دِرْع من حديد قد خرجت منه أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت‏:‏ وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، فمر وهو يرتجز ويقول‏:‏

لَبَّثْ قليلا يَشْهدُ الهَيْجَا حَمَلْ *** مَا أحْسَنَ الموتَ إذا حَانَ الأجَل

قالت‏:‏ فقمت فاقتحمت حديقة، فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيها عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه تَسْبغَة له- تعني المغفر- فقال عمر‏:‏ ما جاء بك‏؟‏ لعمري والله إنك لجريئة ، وما يؤمنُك أن يكون بلاء أو يكون تَحَوّز‏.‏ قالت‏:‏ فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ، فدخلت فيها، فرفع الرجل التسبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال‏:‏ يا عمر، ويحك، إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التَحَوُّز أو الفرار إلا إلى الله تعالى‏؟‏ قالت‏:‏ ويرمي سعدًا رجل من قريش، يقال له ابن العَرقة بسهم ، وقال له‏:‏ خذها وأنا ابن العَرقة فأصابَ أكْحَلَه فقطعه، فدعا الله سعد فقال‏:‏ اللهم، لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة‏.‏ قالت‏:‏ وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت‏:‏ فرقأ كَلْمُه، وبعث الله الريح على المشركين، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويًّا عزيزًا‏.‏ فلحق أبو سفيان ومَنْ معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومَنْ معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد، قالت‏:‏ فجاءه جبريل، عليه السلام، وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال‏:‏ أو قد وضعت السلاح‏؟‏ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم‏.‏ قالت‏:‏ فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذّن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، ‏[‏فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏ فمر على بني غَنْم وهم جيران المسجد حوله فقال‏:‏ ومَنْ مر بكم‏؟‏ قالوا‏:‏ مر بنا دحية الكلبي- وكان دحية الكلبي تشبه لحيته، وسنه ووجهه جبريل، عليه الصلاة والسلام، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما اشتد حصارهم واشتد البلاء قيل لهم‏:‏ انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح‏.‏ قالوا‏:‏ ننزل على حكم سعد بن معاذ ‏[‏فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏انزلوا على حكم سعد بن معاذ‏"‏‏.‏ فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ‏]‏ فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف قد حُمِل عليه، وحَفّ به قومه، فقالوا‏:‏ يا أبا عمرو، حلفاؤك ومواليك وأهل النّكاية، ومَنْ قد علمت، قالت‏:‏ ولا يَرْجعُ إليهم شيئا، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال‏:‏ قد آن لي ألا أبالي في الله لومة لائم‏.‏ قال ‏:‏ قال أبو سعيد‏:‏ فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قوموا إلى سيدكم فأنزلوه‏"‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ سيدنا الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أنزلوه‏"‏‏.‏ فأنزلوه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏احكم فيهم‏"‏‏.‏ قال سعد‏:‏ فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله‏"‏‏.‏ ثم دعا سعد فقال‏:‏ اللهم، إن كنت أبقيتَ على نبيك من حرب قريش شيئًا، فأبقني لها‏.‏ وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم، فاقبضني إليك‏.‏ قال‏:‏ فانفجر كَلْمُه، وكان قد برئ منه إلا مثل الخُرْص، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فَحَضَره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر قالت‏:‏ فوالذي نفس محمد بيده، إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر، وأنا في حجرتي‏.‏ وكانوا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏رُحَمَاءُ بَيْنَهُم‏}‏‏.‏

قال علقمة‏:‏ فقلت‏:‏ أيْ أمّه، فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع‏؟‏ قالت‏:‏ كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته‏.‏

وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة نحوًا من هذا، ولكنه أخصر منه، وفيه دُعاء سعد، رضي الله عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏‏.‏

هذا أمر من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بأن يخَيّر نساءه بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يَحصُل لهن عنده الحياةُ الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن، رضي الله عنهن وأرضاهن، الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال‏:‏ أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة، رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك‏"‏، وقد عَلمَ أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه‏.‏ قالت‏:‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏وإن الله قال‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي قل لأزواجك‏}‏ إلى تمام الآيتين، فقلت له‏:‏ ففي أي هذا أستأمر أبوي‏؟‏ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏

وكذا رواه معلقا عن الليث‏:‏ حدثني يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، فذكره وزاد‏:‏ قالت‏:‏ ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت‏.‏

وقد حكى البخاري أن مَعْمَرًا اضطرب، فتارة رواه عن الزهري، عن أبي سلمة، وتارة رواه عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أحمد بن عبَدة الضَّبِّي، حدثنا أبو عَوَانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ لما نزل الخيار قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني أريد أن أذكر لك أمرا، فلا تقضي فيه شيئا حتى تستأمري أبويك‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ قلت‏:‏ وما هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ فردّه عليها‏.‏ فقالت‏:‏ فما هو يا رسول الله‏؟‏ قالت‏:‏ فقرأ عليها‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ قالت‏:‏ فقلت‏:‏ بل نختار الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏ قالت‏:‏ ففرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وحدثنا ابن وَكِيع، حدثنا محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ لما نزلت آية التخيير، بدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏يا عائشة، إني عارض عليك أمرًا، فلا تُفتياني فيه ‏[‏بشيء‏]‏ حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، وما هو‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا‏.‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏‏.‏قالت‏:‏ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأم رومان، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقرأ الحُجَر فقال‏:‏ ‏"‏إن عائشة قالت كذا وكذا‏"‏‏.‏ فقلن‏:‏ ونحن نقول مثل ما قالت عائشة، رضي الله عنهن كلهن‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشَجِّ، عن أبي أسامة، عن محمد بن عمرو، به‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عَمرة، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى نسائه أمر أن يخيرهن، فدخل عَليَّ فقال‏:‏ ‏"‏سأذكر لك أمرا فلا تعجلي حتى تستشيري أباك‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ وما هو يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إني أمرت أن أخيركن‏"‏، وتلا عليها آية التخيير، إلى آخر الآيتين‏.‏ قالت‏:‏ فقلت‏:‏ وما الذي تقول لا تعجلي حتى تستشيري أباك‏؟‏ فإني اختار الله ورسوله، فَسُرّ بذلك، وعَرَض على نسائه فتتابعن كُلّهن، فاخترنَ الله ورسوله‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يزيد بن سنان البصري، حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عُقَيل، عن الزهري، أخبرنَي عُبيد الله بن عبد الله بن أبي ثَور، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال‏:‏ قالت عائشة، رضي الله عنها‏:‏ أنزلت آية التخيير فبدأ بي أَوَّلَ امرأة من نسائه، فقال‏:‏ ‏"‏إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ قد عَلِم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه‏.‏ قالت‏:‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏إن الله قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ‏}‏ الآيتين‏.‏ قالت عائشة‏:‏ فقلت‏:‏ أفي هذا أستأمر أبويّ‏؟‏ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏ ثم خير نساءه كلهن، فقلن مثل ما قالت عائشة، رضي الله عنهن‏.‏

وأخرجه البخاري ومسلم جميعا، عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مثله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم بن صَبِِيح، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم يعدها علينا شيئا‏.‏ أخرجاه من حديث الأعمش‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ أقبل أبو بكر، رضي الله عنه، يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس‏:‏ فلم يؤذن له‏.‏ ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له‏.‏ ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه، وهو ساكت، فقال عمر‏:‏ لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد- امرأة عمر- سألتني النفقة آنفا، فوجأت عنقها‏.‏ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه وقال‏:‏ ‏"‏هن حولي يسألنني النفقة‏"‏‏.‏ فقام أبو بكر، رضي الله عنه، إلى عائشة ليضربها، وقام عمر، رضي الله عنه، إلى حفصة، كلاهما يقولان‏:‏ تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده‏.‏ فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن نساؤه‏:‏ والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده‏.‏ قال‏:‏ وأنزل الله، عز وجل، الخيار، فبدأ بعائشة فقال‏:‏ ‏"‏إني أذكر لك أمرًا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ فتلا عليها‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ‏}‏ الآية، قالت عائشة، رضي الله عنها‏:‏ أفيك أستأمر أبوي‏؟‏ بل أختار الله ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى لم يبعثني معنفًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتُها‏"‏‏.‏

انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، فرواه هو والنسائي، من حديث زكريا بن إسحاق المكي، به‏.‏

وقال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سُرَيْج بن يونس، حدثنا علي بن هاشم بن البريد، عن محمد بن عبيد ‏[‏الله بن علي‏]‏ بن أبي رافع، عن عثمان بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي، رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيَّر نساءه الدنيا والآخرة، ولم يخيرهن الطلاق‏.‏

وهذا منقطع، وقد رُوي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك‏.‏ وهو خلاف الظاهر من الآية، فإنه قال‏:‏ ‏{‏فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا‏}‏ أي‏:‏ أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن‏.‏

وقد اختلف العلماء في جواز تزويج غيره لهن لو طلقهن، على قولين، وأصحهما نعم لو وقع، ليحصل المقصود من السراح، والله أعلم‏.‏

قال عكرمة‏:‏ وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش‏:‏ عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حُيَيّ النَّضَريَّة، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنهن وأرضاهن‏.‏

‏[‏ولم يتزوج واحدة منهن، إلا بعد أن توفيت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت معه إلى أن أكرمه الله برسالته فآمنت به ونصرته، وكانت له وزير صدق، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، رضي الله عنها، في الأصح، ولها خصائص منها‏:‏ أنه لم يتزوج عليها غيرها، ومنها أن أولاده كلهم منها، إلا إبراهيم، فإنه من سريته مارية، ومنها أنها خير نساء الأمة‏.‏

واختلف في تفضيلها على عائشة على ثلاثة أقوال، ثالثها الوقف‏.‏

وسئل شيخنا أبو العباس بن تيمية عنهما فقال‏:‏ اختصت كل واحدة منهما بخاصية، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تُسلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبته، وتسكنه، وتبذل دونه مالها، فأدركت غُرة الإسلام، واحتملت الأذى في الله وفي رسوله وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة، فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها‏.‏ وعائشة تأثيرها في آخر الإسلام، فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة، وانتفاع بنيها بما أدَّت إليهم من العلم، ما ليس لغيرها‏.‏ هذا معنى كلامه، رضي الله عنه‏.‏

ومن خصائصها‏:‏ أن الله، سبحانه، بعث إليها السلام مع جبريل، فبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك‏.‏ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ أتى جبريل، عليه السلام، النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، هذه خديجة، قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فأقرأها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة، من قَصَب، لا صَخَب فيه ولا نَصَب وهذه لعَمْر الله خاصة، لم تكن لسواها‏.‏ وأما عائشة، رضي الله عنها، فإن جبريل سلَّم عليها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فروى البخاري بإسناده أن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا‏:‏ ‏"‏يا عائشة، هذا جبريل يقرئك السلام‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومن خواص خديجة، رضي الله عنها‏:‏ أنه لم تسوءه قط، ولم تغاضبه، ولم ينلها منه إيلاءً، ولا عتب قط، ولا هجر، وكفى بهذه منقبة وفضيلة‏.‏

ومن خواصها‏:‏ أنها أول امرأة آمنت بالله ورسوله من هذه الأمة‏.‏

فصل‏[‏في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم‏]‏‏:‏

فلمَّا توفاها الله تزوج بعدها سودة بنت زمعة، رضي الله عنها، وهي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن جبل بن عامر بن لؤي، وكبرت عنده، وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة، فأمسكها‏.‏ وهذا من خواصها‏:‏ أنها آثرت بيومها حب النبي صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبا له، وإيثارا لمقامها معه، فكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة، ويقسم لنسائه، ولا يقسم لها وهي راضية بذلك مؤثرة، لترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وتزوج الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر، رضي الله عنهما، وهي بنت ست سنين قبل الهجرة بسنتين، وقيل‏:‏ بثلاث، وبنى بها بالمدينة أول مقدمه في السنة الأولى، وهي بنت تسع، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة، وتوفيت بالمدينة، ودفنت بالبقيع، وأوصت أن يصلي عليها أبو هريرة سنة ثمان وخمسين، ومن خصائصها‏:‏ أنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، كما ثبت ذلك عنه في البخاري وغيره، أنه سئل أي الناس أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏عائشة‏"‏‏.‏ قيل‏:‏ فمن الرجال‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أبوها‏"‏‏.‏

ومن خصائصها أيضا‏:‏ أنه لم يتزوج بكرا غيرها، ومن خصائصها‏:‏ أنه كان ينزل عليه الوحي وهو في لحافها دون غيرها‏.‏

ومن خصائصها‏:‏ أن الله، عز وجل، لما أنزل عليه آية التخيير بدأ بها فخيرها، فقال‏:‏ ‏"‏ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك‏"‏‏.‏ فقالت‏:‏ أفي هذا أستأمر أبويَّ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏ فاستن بها بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم، وقلن كما قالت‏.‏

ومن خصائصها‏:‏ أن الله، سبحانه، برأها مما رماها به أهل الإفك، وأنزل في عذرها، وبراءتها، وحيا يتلى في محاريب المسلمين، وصلواتهم إلى يوم القيامة، وشهد لها أنها من الطيبات، ووعدها المغفرة والرزق الكريم، وأخبر سبحانه، أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرًا لها، ولم يكن بذلك الذي قيل فيها شر لها، ولا عيب لها، ولا خافض من شأنها، بل رفعها الله بذلك، وأعلى قدرها وعظم شأنها، وأصار لها ذكرًا بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء، فيا لها من منقبة ما أجلها‏.‏ وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها، حيث قالت‏:‏ ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها، فهذه صديقة الأمة، وأم المؤمنين، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة، وأن قاذفيها ظالمون مفترون عليها، قد بلغ أذاهم إلى أبويها، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لشأنها، فما ظنك بمن قد صام يوما أو يومين، أو شهرا أو شهرين، قد قام ليلة أو ليلتين، فظهر عليه شيء من الأحوال، ولاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات، وأنهم ممن يتبرك بلقائهم، ويُغتنم بصالح دعائهم، وأنهم يجب على الناس احترامهم وتعظيمهم وتعزيزهم وتوقيرهم، فيتمسح بأثوابهم، ويقبل ثرى أعتابهم، وأنهم من الله بالمكانة التي تنتقم لهم لأجلها من تنقصهم في الحال، وأن يؤخذ من أساء الأدب عليهم من غير إمهال، وإن إساءة الأدب عليهم ذنب لا يكفره شيء إلا رضاهم‏.‏

ولو كان هذا من وراء كفاية لهان، ولكن من وراء تخلف، وهذه الحماقات والرعونات نتاج الجهل الصميم، والعقل غير المستقيم، فإن ذلك إنما يصدر من جاهل معجب بنفسه، غافل عن جرمه وعيوبه وذنوبه، مغتر بإمهال الله له عن أخذه بما هو فيه من الكبر والازدراء على من لعله عند الله خير منه‏.‏ نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة‏.‏ وينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه عظيما، وهو عند الله حقير، ومن خصائص عائشة، رضي الله عنها‏:‏ أن الأكابر من الصحابة، رضي الله عنهم، كان إذا أشكل الأمر عليهم من الدين، استفتوها فيجدون علمه عندها‏.‏

ومن خصائصها‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها‏.‏ ومن خصائصها‏:‏ أن الملك أرى صورتها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها في خرقة حرير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن يكن هذا من عند الله يمضه‏"‏‏.‏ ومن خصائصها‏:‏ أن الناس كانوا يتحرون هداياهم يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيتحفونه بما يحب في منزل أحب نسائه إليه، رضي الله عنهم أجمعين، وتكنى أم عبد الله، وروي أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطًا، ولا يثبت ذلك‏.‏

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله عند حبيش بن حذافة، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن شهد بدرا، توفيت سنة سبع، وقيل‏:‏ ثمان وعشرين، ومن خواصها‏:‏ ما ذكره الحافظ أبو محمد المقدسي في مختصره في السيرة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، فأتاه جبريل فقال‏:‏ إن الله يأمرك أن تراجع حفصة، فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة‏.‏

وقال الطبراني في المعجم الكبير‏:‏ حدثنا أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى، حدثنا جدي حرملة، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمرو بن صالح الحضرمي، عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فوضع التراب على رأسه، وقال‏:‏ ما يعبأ الله بابن الخطاب بعد هذا‏.‏ فنزل جبريل، عليه السلام، على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر‏.‏

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها رملة بنت صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، هاجرت مع زوجها عبد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتنصر بالحبشة، وأتم الله لها الإسلام، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة، وأصدقها عند النجاشي أربعمائة دينار، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري بها إلى أرض الحبشة، وولى نكاحها عثمان بن عفان، وقيل‏:‏ خالد بن سعيد بن العاص، وهي التي أكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس عليه أبوها لما قدم أبو سفيان المدينة، وقالت له‏:‏ إنك مشرك، ومنعته الجلوس عليه‏.‏

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد، توفيت سنة اثنتين وستين، ودفنت بالبقيع، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موتًا، وقيل‏:‏ بل ميمونة، ومن خصائصها‏:‏ أن جبريل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي عنده فرأته في صورة دحية الكلبي‏.‏ ففي صحيح مسلم عن أبي عثمان قال‏:‏ أنبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أم سلمة، فقال‏:‏ فجعل يتحدث، ثم قام فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة‏:‏ ‏"‏من هذا‏؟‏‏"‏ أو كما قال‏.‏ قالت‏:‏ هذا دحية الكلبي‏.‏ قالت‏:‏ وايم الله، ما حسبته إلا إياه، حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر أنه جبريل، أو كما قال، قال سليمان التيمي‏:‏ فقلت لأبي عثمان‏:‏ ممن سمعت هذا الحديث‏؟‏ قال‏:‏ من أسامة بن زيد وزوَّجها ابنها- عمر- من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردت طائفة ذلك بأن ابنها لم يكن له من السن حينئذ ما يعقد التزويج، ورد الإمام أحمد ذلك، وأنكر على من قاله، ويدل على صحة قول أحمد ما رواه مسلم في صحيحه أن عمر بن أبي سلمة- ابنها- سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏سل هذه‏"‏ يعني‏:‏ أم سلمة فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، فقال‏:‏ لسنا كرسول الله صلى الله عليه وسلم، يحل الله لرسوله ما شاء‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني أتقاكم لله وأعلمكم به‏"‏ أو كما قال‏.‏ ومثل هذا لا يقال لصغير جدا، وعمر ولد بأرض الحبشة قبل الهجرة‏.‏ وقال البيهقي‏:‏ وقول من زعم أنه كان صغيرا، دعوى ولم يثبت صغره بإسناد صحيح‏.‏

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من بني خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، وكانت قبل عند مولاه زيد بن حارثة، فطلقها فزوجه الله إياها من فوق سبع سموات، وأنزل عليه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا‏}‏ فقام فدخل عليها بلا استئذان، وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول‏:‏ زوَّجكن أهاليكن وزوَّجني الله من فوق سبع سمواته، وهذا من خصائصها‏.‏ توفيت بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع‏.‏

وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية، وكانت تحت عبد الله بن جحش، تزوجها سنة ثلاث من الهجرة، وكانت تسمى أم المساكين، ولم تلبث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا، شهرين أو ثلاثة، وتوفيت، رضي الله عنها‏.‏

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وكانت سبيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها سنة ست من الهجرة، وتوفيت سنة ست وخمسين، وهي التي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيت من الرقيق، وقالوا‏:‏ أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك من بركتها على قومها‏.‏

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي، من ولد هارون بن عمران أخي موسى، سنة سبع، فإنها سبيت من خيبر، وكانت قبله تحت كنانة بن أبي الحقيق، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفيت سنة ست وثلاثين، وقيل‏:‏ سنة خمسين‏.‏ ومن خصائصها‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها‏.‏ قال أنس‏:‏ أمهرها نفسها، وصار ذلك سنة للأمة إلى يوم القيامة، ويجوز للرجل أن يجعل عتق جاريته صداقها، وتصير زوجته على منصوص الإمام أحمد، رحمه الله‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حدثنا إسحاق بن منصور، وعبد بن حميد، قالا حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ بلغ صفية أن حفصة قالت‏:‏ صفية بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال‏:‏ ‏"‏ما يبكيك‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ قالت لي حفصة‏:‏ إني ابنة يهودي‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، فبما تفخر عليك‏؟‏‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏اتق الله يا حفصة‏"‏‏.‏ قال الترمذى‏:‏ هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه‏.‏ وهذا من خصائصها، رضي الله عنها‏.‏

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها بسَرَف وهو على تسعة أميال من مكة، وهي آخر من تزوج من أمهات المؤمنين، توفيت سنه ثلاث وستين، وهي خالة خالد بن الوليد، وخالة ابن عباس، فإن أمه أم الفضل بنت الحارث وهي التي اختلف في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لها‏.‏ هل نكحها حلالا أو مُحرمًا‏؟‏ والصحيح إنما تزوجها حلالا كما قال أبو رافع الشفير في نكاحها‏.‏

قال الحافظ أبو محمد المقدسي وغيره‏:‏ وعقد على سبع ولم يدخل بهن، فالصلاة على أزواجه تابعة لاحترامهن وتحريمهن على الأمة، وأنهن نساؤه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن فارقها في حياتها ولم يدخل، لا يثبت لها أحكام زوجاته اللاتي دخل بهن صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وذريته وسلم تسليما‏]‏‏.‏