فصل: تفسير الآية رقم (44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ كيف يليق بكم -يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير- أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله‏؟‏ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رَقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم‏.‏ وهذا كما قال عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، وبالبر، ويخالفون، فَعَيّرهم الله، عز وجل‏.‏ وكذلك قال السدي‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ‏}‏ أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، وَيَدَعُونَ العملَ بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ تتركون أنفسكم ‏{‏وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعَهْد من التوراة، وتتركون أنفسكم، أي‏:‏ وأنتم تكفرون بما فيها من عَهْدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس في هذه الآية، يقول‏:‏ أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثني علي بن الحسن، حدثنا مُسلم الجَرْمي، حدثنا مَخْلَد بن الحسين، عن أيوب السختياني، عن أبي قِلابة في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ‏}‏ قال‏:‏ قال أبو الدرداء‏:‏ لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقُت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية‏:‏ هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل يسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏

والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف ‏[‏معروف‏]‏ وهو واجب على العالم، ولكن ‏[‏الواجب و‏]‏ الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏‏.‏ فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف‏.‏ وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية؛ فإنه لا حجة لهم فيها‏.‏ والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، ‏[‏قال مالك عن ربيعة‏:‏ سمعت سعيد بن جبير يقول له‏:‏ لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر‏.‏ وقال مالك‏:‏ وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء‏؟‏ قلت‏]‏ ولكنه -والحالة هذه- مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية، لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير‏:‏ حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي المعمري، قالا حدثنا هشام بن عمار، حدثنا علي بن سليمان الكلبي، حدثنا الأعمش، عن أبي تَميمة الهُجَيمي، عن جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب من هذا الوجه‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد هو ابن جدعان، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم تُقْرَض بمقاريض من نار‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ من هؤلاء‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون‏؟‏‏.‏

ورواه عبد بن حميد في مسنده، وتفسيره، عن الحسن بن موسى، عن حماد بن سلمة به‏.‏

ورواه ابن مردويه في تفسيره، من حديث يونس بن محمد المؤدب، والحجاج بن مِنْهَال، كلاهما عن حماد بن سلمة، به‏.‏ وكذا رواه يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة به‏.‏

ثم قال ابن مردويه‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا عمر بن قيس، عن علي بن زيد عن ثمامة، عن أنس، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار‏.‏ قلت‏:‏ من هؤلاء يا جبريل‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ هؤلاء خطباء أمتك، الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم‏.‏

وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه -أيضًا- من حديث هشام الدَّستَوائيّ، عن المغيرة -يعني ابن حبيب- ختن مالك بن دينار، عن مالك بن دينار، عن ثمامة، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم تُقْرض شفاههم، فقال‏:‏ ‏"‏يا جبريل، من هؤلاء‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم؛ أفلا يعقلون‏؟‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، قال‏:‏ قيل لأسامة -وأنا رديفه-‏:‏ ألا تكلم عثمان‏؟‏ فقال‏:‏ إنكم تُرَون أني لا أكلمه إلا أسمعكم‏.‏ إني لا أكلمه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا -لا أحب أن أكون أول من افتتحه، والله لا أقول لرجل إنك خير الناس‏.‏ وإن كان عليّ أميرًا -بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، قالوا‏:‏ وما سمعته يقول‏؟‏ قال‏:‏ سمعته يقول‏:‏ ‏"‏يُجَاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهلُ النار، فيقولون‏:‏ يا فلان ما أصابك‏؟‏ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر‏؟‏ فيقول‏:‏ كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه‏"‏‏.‏ ورواه البخاري ومسلم، من حديث سليمان بن مِهْرَان الأعمش، به نحوه‏.‏

‏[‏وقال أحمد‏:‏ حدثنا سيار بن حاتم، حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء‏"‏‏.‏ وقد ورد في بعض الآثار‏:‏ أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لا يعلم‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون‏:‏ بم دخلتم النار‏؟‏ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون‏:‏ إنا كنا نقول ولا نفعل‏"‏ رواه من حديث الطبراني عن أحمد بن يحيى بن حيان الرقي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الداهري عن عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره‏]‏‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ إنه جاءه رجل، فقال‏:‏ يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال‏:‏ أو بلغت ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أرجو‏.‏ قال‏:‏ إن لم تخش أن تفْتَضَح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل‏.‏ قال‏:‏ وما هن‏؟‏ قال‏:‏ قوله عز وجل ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ أحكمت هذه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فالحرف الثاني‏.‏ قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2، 3‏]‏ أحكمت هذه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فالحرفَ الثالث‏.‏ قال‏:‏ قول العبد الصالح شعيب، عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ أحكمت هذه الآية‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فابدأ بنفسك‏.‏ رواه ابن مردويه في تفسيره‏.‏

وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا زيد بن الحريش، حدثنا عبد الله بن خِرَاش، عن العوام بن حوشب، عن ‏[‏سعيد بن‏]‏ المسيب بن رافع، عن ابن عمر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال، أو دعا إليه‏"‏‏.‏ إسناده فيه ضعف، وقال إبراهيم النخعي‏:‏ إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ وقوله ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2، 3‏]‏ وقوله إخبارا عن شعيب‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏‏.‏

وما أحسن ما قال مسلم بن عمرو‏:‏

ما أقبح التزهيد من واعظ *** يزهد الناس ولا يزهد

لو كان في تزهيده صادقا *** أضحى وأمسى بيته المسجد

إن رفض الناس فما باله *** يستفتح الناس ويسترقد

الرزق مقسوم على من ترى *** يسقى له الأبيض والأسود

وقال بعضهم‏:‏ جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على مجلس التذكير فأطال السكوت، ثم أنشأ يقول‏:‏

وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي والطبيب مريض

قال‏:‏ فضج الناس بالبكاء‏.‏

وقال أبو العتاهية الشاعر‏:‏

وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى *** وريح الخطايا من شأنك تقطع

وقال أبو الأسود الدؤلي‏:‏

لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى *** بالقول منك وينفع التعليم

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال‏:‏ دعوت الله أن يريني رفيقي في الجنة، فقيل لي في المنام‏:‏ هي امرأة في الكوفة يقال لها‏:‏ ميمونة السوداء، فقصدت الكوفة لأراها‏.‏ فقيل لي‏:‏ هي ترعى غنما بواد هناك، فجئت إليها فإذا هي قائمة تصلي والغنم ترعى حولها وبينهن الذئاب لا ينفرن منه، ولا يسطو الذئاب عليهن‏.‏ فلما سلمت قالت‏:‏ يا ابن زيد، ليس الموعد هنا إنما الموعد ثَمّ، فسألتها عن شأن الذئاب والغنم‏.‏ فقالت‏:‏ إني أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح ما بين الذئاب والغنم‏.‏ فقلت لها‏:‏ عظيني‏.‏ فقالت‏:‏ يا عجبا من واعظ يوعظ، ثم قالت‏:‏ يا ابن زيد، إنك لو وضعت موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها، يا ابن زيد، إنه بلغني ما من عبد أعطى من الدنيا شيئا فابتغى إليه تائبا إلا سلبه الله حب الخلوة وبدله بَعْدَ القرب البعد وبعد الأنس الوحشة ثم أنشأت تقول‏:‏

يا واعظًا قام لا حساب *** يزجر قوما عن الذنوب

تنه عنه وأنت السقيم حقا *** هذا من المنكر العجيب

تنه عن الغي والتمادي *** وأنت في النهي كالمريب

لو كنت أصلحت قبل هذا *** غيك أو تبت من قريب

كان لما قلت يا حبيبي *** موضع صدق من القلوب

تفسير الآيات رقم ‏[‏45 - 46‏]‏

‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏

يقول تعالى آمرًا عبيده، فيما يؤمّلون من خير الدنيا والآخرة، بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حَيَّان في تفسير هذه الآية‏:‏ استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض، والصلاة‏.‏ فأما الصبر فقيل‏:‏ إنه الصيام، نص عليه مجاهد‏.‏ ‏[‏قال القرطبي وغيره‏:‏ ولهذا سمي رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث‏]‏‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن جُرَيّ بن كُليب، عن رجل من بني سليم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الصوم نصف الصبر‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالصبر الكف عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها‏:‏ فعل الصلاة‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن حمزة بن إسماعيل، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سِنان، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال‏:‏ الصبر صبران‏:‏ صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله‏.‏ ‏[‏قال‏]‏ وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر‏.‏

وقال ابن المبارك عن ابن لَهِيعة عن مالك بن دينار، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب فيه، واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد، لا يرى منه إلا الصبر‏.‏

وقال أبو العالية في قوله‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ‏}‏ على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَالصَّلاةِ‏}‏ فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ الآية ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، قال‏:‏ قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال حذيفة، يعني ابن اليمان‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى‏.‏ ورواه أبو داود ‏[‏عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي‏]‏‏.‏

وقد رواه ابن جرير، من حديث ابن جُرَيج، عن عِكْرِمة بن عمار، عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة، عن عبد العزيز بن اليمان، عن حذيفة، قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة‏.‏

‏[‏ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة؛ ويقال‏:‏ أخي حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة‏:‏ حدثنا سهل بن عثمان أبو مسعود العسكري، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال‏:‏ قال عكرمة بن عمار‏:‏ قال محمد بن عبد الله الدؤلي‏:‏ قال عبد العزيز‏:‏ قال حذيفة‏:‏ رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى‏.‏ وحدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا يقول‏:‏ لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح‏]‏‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وروي عنه، عليه الصلاة والسلام، أنه مر بأبي هريرة، وهو منبطح على بطنه، فقال له‏:‏ ‏"‏اشكنب درد‏"‏ ‏[‏قال‏:‏ نعم‏]‏ قال‏:‏ ‏"‏قم فصل فإن الصلاة شفاء‏"‏ ‏[‏ومعناه‏:‏ أيوجعك بطنك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏]‏‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وقد حدثنا محمد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا عُيَينة بن عبد الرحمن، عن أبيه‏:‏ أن ابن عباس نُعي إليه أخوه قُثَم وهو في سفر، فاسترجع، ثم تنحَّى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏‏.‏

وقال سُنَيد، عن حجاج، عن ابن جرير‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ‏}‏ قال‏:‏ إنهما مَعُونتان على رحمة الله‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا‏}‏ عائد إلى الصلاة، نص عليه مجاهد، واختاره ابن جرير‏.‏

ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام، وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 80‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34، 35‏]‏أي‏:‏ وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا‏}‏ أي‏:‏ يؤتاها ويلهمها ‏{‏إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏ وعلى كل تقدير، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين‏.‏ قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ يعني المصدّقين بما أنزل الله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المؤمنين حقا‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ إلا على الخاشعين الخائفين، وقال مقاتل بن حيان‏:‏ إلا على الخاشعين يعني به المتواضعين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سَطَواته، المصدقين بوعده ووعيده‏.‏

وهذا يشبه ما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ معنى الآية‏:‏ واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب، بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته‏.‏ هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم، ولغيرهم‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي‏:‏ وإن الصلاة أو الوَصَاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم، أي‏:‏ ‏[‏يعلمون أنهم‏]‏ محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه، وأنهم إليه راجعون، أي‏:‏ أمورهم راجعة إلى مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سَهُل عليهم فعلُ الطاعات وترك المنكرات‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ‏}‏ قال ابن جرير، رحمه الله‏:‏ العرب قد تسمي اليقين ظنا، والشك ظنًا، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة، والضياء سُدفة، والمغيث صارخا، والمستغيث صارخًا، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضدّه، كما قال دُرَيد بن الصِّمَّة‏:‏

فقلت لهم ظُنُّوا بألفي مُدَجَّجٍ *** سَرَاتُهُم في الفَارسِيِّ المُسَرَّدِ

يعني بذلك تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم، وقال عَمِيرة بن طارق‏:‏

بِأنْ يَعْتَزُوا قومي وأقعُدَ فيكم *** وأجعلَ مني الظنَّ غيبا مرجمّا

يعني‏:‏ وأجعل مني اليقين غيبا مرجما، قال‏:‏ والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين، أكثر من أن تحصر، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية، ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 53‏]‏‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد، قال‏:‏ كل ظن في القرآن يقين، أي‏:‏ ظننت وظَنوا‏.‏

وحدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا أبو داود الحَفَرِيّ، عن سفيان عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال‏:‏ كل ظن في القرآن فهو علم‏.‏ وهذا سند صحيح‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ‏}‏ قال‏:‏ الظن هاهنا يقين‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن مجاهد، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة نحو قول أبي العالية‏.‏

وقال سُنَيد، عن حجاج، عن ابن جريج‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ‏}‏ علموا أنهم ملاقو ربهم، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 20‏]‏ يقول‏:‏ علمت‏.‏ وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

قلت‏:‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة‏:‏ ألم أزوجك، ألم أكرمك، ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى‏.‏ فيقول الله تعالى‏:‏ أفظننت أنك ملاقي‏؟‏ فيقول‏:‏ لا‏.‏ فيقول الله‏:‏ اليوم أنساك كما نسيتني‏"‏‏.‏ وسيأتي مبسوطا عند قوله‏:‏ ‏{‏نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ إن شاء الله، والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏

يذكرهم تعالى سَالفَ نعمه على آبائهم وأسلافهم، وما كان فَضَّلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 32‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ قال‏:‏ بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان؛ فإن لكل زمان عالما‏.‏

ورُوي عن مجاهد، والربيع بن أنس، وقتادة، وإسماعيل بن أبي خالد نحوُ ذلك، ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنتم تُوفُونَ سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله‏"‏‏.‏ والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏

‏[‏وقيل‏:‏ المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس، ولا يلزم تفضيلهم مطلقًا، حكاه فخر الدين الرازي وفيه نظر‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبي في تفسيره، وفيه نظر؛ لأن ‏{‏الْعَالَمِينَ‏}‏ عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏

لما ذكرهم ‏[‏الله‏]‏ تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من حُلُول نقمه بهم يوم القيامة فقال‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة ‏{‏لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ لا يغني أحد عن أحد كما قال‏:‏ ‏{‏وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 37‏]‏، وقال ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 33‏]‏، فهذه أبلغ المقامات‏:‏ أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ‏}‏ يعني عن الكافرين، كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 48‏]‏، وكما قال عن أهل النار‏:‏ ‏{‏فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 110، 111‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 36‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 70‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ الآية ‏[‏الحديد‏:‏ 15‏]‏، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه، فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء، ولو بملء الأرض ذهبا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏، وقال ‏{‏لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏‏.‏

‏[‏وقال سنيد‏:‏ حدثني حجاج، حدثني ابن جريج، قال‏:‏ قال مجاهد‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ قال‏:‏ بدل، والبدل‏:‏ الفدية، وقال السدي‏:‏ أما عدل فيعدلها من العذاب يقول‏:‏ لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم،‏]‏‏.‏ وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ يعني‏:‏ فداء‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن أبي مالك، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، والربيع بن أنس، نحو ذلك‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن علي، رضي الله عنه، في حديث طويل، قال‏:‏ والصرف والعدل‏:‏ التطوع والفريضة‏.‏

وكذا قال الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي العاتكة، عن عمير بن هانئ‏.‏ وهذا القول غريب هنا، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية، وقد ورد حديث يقويه، وهو ما قال ابن جرير‏:‏ حدثني نَجِيح بن إبراهيم، حدثنا علي بن حكيم، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عَمْرو بن قيس الملائي، عن رجل من بني أمية -من أهل الشام أحسن عليه الثناء -قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، ما العدل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏العدل الفدية‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ولا يقبل منهم فداء‏.‏ هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم، ولا من غيرهم، كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 10‏]‏ أي‏:‏ إنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فِدْيَة ولا شفاعة، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ، ولا يجيره منه أحد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 88‏]‏‏.‏ وقال ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 25 26‏]‏، وقال ‏{‏مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 25، 26‏]‏، وقال ‏{‏فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الأحقاف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ‏}‏ ما لكم اليوم لا تمانعون منا‏؟‏ هيهات ليس ذلك لكم اليوم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وتأويل قوله‏:‏ ‏{‏وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بَطَلت هنالك المحاباة واضمحلت الرَّشى والشفاعات، وارتفع من القوم التعاون والتناصر، وصار الحكم إلى عدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 24-26‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49 - 50‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏

يقول تعالى واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم ‏"‏إِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ‏"‏ أي‏:‏ خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى، عليه السلام، وقد كانوا يسومونكم، أي‏:‏ يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب‏.‏ وذلك أن فرعون -لعنه الله- كان قد رأى رؤيا هالته، رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر، إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال‏:‏ بل تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم، يكون لهم به دولة ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفُتُون، كما سيأتي في موضعه ‏[‏في سورة طه‏]‏ إن شاء الله، فعند ذلك أمر فرعون -لعنه الله- بقتل كل ‏[‏ذي‏]‏ ذَكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل، وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأراذلها‏.‏

وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه، كما قال‏:‏ ‏{‏يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏]‏ وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة والمعونة والتأييد‏.‏

ومعنى ‏{‏يَسُومُونَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو بن كلثوم‏:‏

إذا ما الملك سام الناس خسفا *** أبينا أن نقر الخسف فينا

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ يديمون عذابكم، كما يقال‏:‏ سائمة الغنم من إدامتها الرعي، نقله القرطبي، وإنما قال هاهنا‏:‏ ‏{‏يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏ ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ثم فسره بهذا لقوله هاهنا ‏{‏اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏ وأما في سورة إبراهيم فلما قال‏:‏ ‏{‏وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏5‏]‏، أي‏:‏ بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك‏:‏ ‏{‏يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏ فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي‏.‏

وفرعون علم على كل مَنْ مَلَكَ مصر، كافرًا من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرًا، وكسرى لكل من ملك الفرس، وتُبَّع لمن ملك اليمن كافرا ‏[‏والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند‏]‏ ويقال‏:‏ كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى، عليه السلام، الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل‏:‏ مصعب بن الريان، أيا ما كان فعليه لعنة الله، ‏[‏وكان من سلالة عمليق بن داود بن إرم بن سام بن نوح، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من استخر‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم‏.‏ أي‏:‏ نعمة عظيمة عليكم في ذلك‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ‏[‏في‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ نعمة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ نعمة من ربكم عظيمة‏.‏ وكذا قال أبو العالية، وأبو مالك، والسدي، وغيرهم‏.‏

وأصل البلاء‏:‏ الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وأكثر ما يقال في الشر‏:‏ بلوته أبلوه بَلاءً، وفي الخير‏:‏ أبليه إبلاء وبلاء، قال زهير بن أبي سلمى‏:‏

جزى الله بالإحسان ما فَعَلا بكُم *** وأبلاهما خَيْرَ البلاءِ الذي يَبْلُو

قال‏:‏ فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يَخْتَبر بها عباده‏.‏

‏[‏وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ‏}‏ إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء؛ قال القرطبي‏:‏ وهذا قول الجمهور ولفظه بعدما حكى القول الأول، ثم قال‏:‏ وقال الجمهور‏:‏ الإشارة إلى الذبح ونحوه، والبلاء هاهنا في الشر، والمعنى في الذبح مكروه وامتحان‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏ معناه‏:‏ وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون، وخرجتم مع موسى، عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها في سورة الشعراء إن شاء الله‏.‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خلصناكم منهم، وحجزنا بينكم وبينهم، وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا مَعْمر، عن أبي إسحاق الهَمْداني، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏ قال‏:‏ لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون فقال‏:‏ لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا؛ فدعا بشاة فَذُبحت، ثم قال‏:‏ لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليَّ ستمائة ألف من القبط‏.‏ فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار، فلما أتى موسى البحر، قال له رجل من أصحابه، يقال له‏:‏ يوشع بن نون‏:‏ أين أمَرَ ربك‏؟‏ قال‏:‏ أمامك، يشير إلى البحر‏.‏ فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ الغَمْرَ، فذهب به الغمر، ثم رجع‏.‏ فقال‏:‏ أين أمَرَ ربك يا موسى‏؟‏ فوالله ما كذبت ولا كُذبت‏.‏ فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله إلى موسى‏:‏ ‏{‏أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ‏}‏ فضربه ‏{‏فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏، يقول‏:‏ مثل الجبل‏.‏ ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال‏:‏ ‏{‏وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏‏.‏

وكذلك قال غير واحد من السلف، كما سيأتي بيانه في موضعه‏.‏ وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عبد الله بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، قال‏:‏ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال‏:‏ ‏"‏ما هذا اليوم الذي تصومون‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنا أحق بموسى منكم‏"‏‏.‏ فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصومه‏.‏

وروى هذا الحديث البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه من طرق، عن أيوب السختياني، به نحو ما تقدم‏.‏

وقال أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا أبو الربيع، حدثنا سلام -يعني ابن سليم- عن زيد العَمِّيّ عن يزيد الرقاشي عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء‏"‏‏.‏

وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا العَمِّيّ فيه ضعف، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 52‏]‏

‏{‏وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لَمَّا عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه، عند انقضاء أمَد المواعدة، وكانت أربعين يومًا، وهي المذكورة في الأعراف، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ قيل‏:‏ إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ‏}‏ يعني‏:‏ التوراة ‏{‏وَالْفُرْقَانَ‏}‏ وهو ما يَفْرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ وكان ذلك -أيضا- بعد خروجهم من البحر، كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف‏.‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ الواو زائدة، والمعنى‏:‏ ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان وهذا غريب، وقيل‏:‏ عطف عليه وإن كان المعنى واحدًا، كما في قول الشاعر‏:‏

وقدمت الأديم لراقشيه *** فألفى قولها كذبًا ومينا

وقال الآخر‏:‏

ألا حبذا هند وأرض بها هند *** وهند أتى من دونها النأي والبعد

فالكذب هو المين، والنأي‏:‏ هو البعد‏.‏ وقال عنترة‏:‏

حييت من طلل تقادم عهده *** أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصري، رحمه الله، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ‏}‏ فقال‏:‏ ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 149‏]‏‏.‏ قال‏:‏ فذلك حين يقول موسى‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ‏}‏ وقال أبو العالية، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ‏}‏ أي إلى خالقكم‏.‏

قلت‏:‏ وفي قوله هاهنا‏:‏ ‏{‏إِلَى بَارِئِكُمْ‏}‏ تنبيه على عظم جرمهم، أي‏:‏ فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره‏.‏ وروى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث يزيد بن هارون، عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم كل من لقي من ولد ووالد فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن‏.‏ فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله من ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به فغفر الله تعالى للقاتل والمقتول‏.‏ وهذا قطعة من حديث الفُتُون، وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله، إن شاء الله‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار، حدثنا سفيان بن عيينة، قال‏:‏ قال أبو سعيد‏:‏ عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال موسى لقومه‏:‏ ‏{‏فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ قال‏:‏ أمر موسى قومه -من أمر ربه عز وجل -أن يقتلوا أنفسهم قال‏:‏ واحتبى الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل، فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظُلَّة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلَّة عنهم، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة‏.‏

وقال ابن جُرَيْج‏:‏ أخبرني القاسم بن أبي بَزَّة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدًا يقولان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ قالا قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضًا، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى ألوى موسى بثوبه، فطرحوا ما بأيديهم، فكُشِفَ عن سبعين ألف قتيل‏.‏ وإن الله أوحى إلى موسى‏:‏ أن حَسْبي، فقد اكتفيت، فذلك حين ألوى موسى بثوبه، ‏[‏وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك‏]‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أمر القوم بشديد من الأمر، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك عنهم القتل، فجعل لحيهم توبة، وللمقتول شهادة‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ أصابتهم ظلمة حنْدس، فقتل بعضهم بعضا ‏[‏نقمة‏]‏ ثم انكشف عنهم، فجعل توبتهم في ذلك‏.‏

وقال السدي في قوله‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا، حتى كثر القتل، حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل بينهم سبعون ألفًا، وحتى دعا موسى وهارون‏:‏ ربنا أهلكت بني إسرائيل، ربنا البقيةَ البقيةَ، فأمرهم أن يضعوا السلاح وتاب عليهم، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدًا، ومن بقي مُكَفّرا عنه؛ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ وقال الزهري‏:‏ لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا ومعهم موسى، فاضطربوا بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه، حتى إذا أفنوا بعضهم، قالوا‏:‏ يا نبي الله، ادع الله لنا‏.‏ وأخذوا بعضُديه يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم، بعضهم عن بعض، فألقوا السلاح، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله، جل ثناؤه، إلى موسى‏:‏ ما يحزنك‏؟‏ أما من قتل منكم فحي عندي يرزقون، وأما من بقي فقد قبلت توبته‏.‏ فسُرّ بذلك موسى، وبنو إسرائيل‏.‏

رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ لما رجع موسى إلى قومه، وأحرق العجل وذَرّاه في اليم، خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بُعثوا، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل‏.‏ فقال‏:‏ لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قال‏:‏ فبلغني أنهم قالوا لموسى‏:‏ نَصبر لأمر الله‏.‏ فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يَقْتُل من عبده‏.‏ فجلسوا بالأفنية وأصْلَتَ عليهم القومُ السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى، وَبَهَش إليه النساء والصبيان، يطلبون العفو عنهم، فتاب الله عليهم، وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ لما رجع موسى إلى قومه، وكان سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه‏.‏ فقال لهم موسى‏:‏ انطلقوا إلى موعد ربكم‏.‏ فقالوا‏:‏ يا موسى، ما من توبة‏؟‏ قال‏:‏ بلى، ‏{‏فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ الآية، فاخترطوا السيوف والجرزَة والخناجر والسكاكين‏.‏ قال‏:‏ وبعث عليهم ضبابة‏.‏ قال‏:‏ فجعلوا يتلامسون بالأيدي، ويقتل بعضهم بعضًا‏.‏ قال‏:‏ ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري‏.‏ قال‏:‏ ويتنادون ‏[‏فيها‏]‏‏:‏ رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه، قال‏:‏ فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55 - 56‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانًا، مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريج، قال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏ قال‏:‏ علانية‏.‏ وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق، عن أبي الحويرث، عن ابن عباس، أنه قال في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏ أي علانية، أي حتى نرى الله‏.‏ وقال قتادة، والربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏ أي عيانا‏.‏

وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس‏:‏ هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه‏.‏ قال‏:‏ فسمعوا كلاما، فقالوا‏:‏ ‏{‏لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏ قال‏:‏ فسمعوا صوتًا فصعقوا، يقول‏:‏ ماتوا‏.‏ وقال مروان بن الحكم، فيما خطب به على منبر مكة‏:‏ الصاعقة‏:‏ صيحة من السماء‏.‏

وقال السدي في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ‏}‏ الصاعقة‏:‏ نار‏.‏

وقال عروة بن رويم في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏ قال‏:‏ فصعق بعضهم وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ‏}‏ فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله، ويقول‏:‏ رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ‏{‏لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏‏.‏ فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجلٌ رجلٌ، ينظر بعضهم إلى بعض‏:‏ كيف يحيون‏؟‏ قال‏:‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم‏.‏ وكذا قال قتادة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال‏:‏ لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحَرّق العجل وذَرّاه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلا الخَيِّرَ فالخير، وقال‏:‏ انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم‏.‏ فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقَّتَه له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعِلْم، فقال له السبعون، فيما ذكر لي، حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله، قالوا‏:‏ يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال‏:‏ أفعل‏.‏ فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم‏:‏ ادنوا‏.‏ وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه‏:‏ افعل ولا تفعل‏.‏ فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى‏:‏ ‏{‏لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏ فأخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعًا‏.‏ وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول‏:‏ ‏{‏رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ ‏[‏وَإِيَّايَ‏]‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏ قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا‏؟‏ أي‏:‏ إن هذا لهم هلاك‏.‏ اخترتُ منهم سبعين رجلا الخَيِّر فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد‏!‏ فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا‏؟‏ ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل، ويطلب إليه حتى ردّ إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال‏:‏ لا؛ إلا أن يقتلوا أنفسهم‏.‏ هذا سياق محمد بن إسحاق‏.‏

وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير‏:‏ لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موسى، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عَينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا‏.‏ وساق البقية‏.‏

‏[‏وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏ والمراد السبعون المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب فخر الدين الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين‏:‏ أنهم بعد إحيائهم قالوا‏:‏ يا موسى، إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك، فادعه أن يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته، وهذا غريب جدا، إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد غلط أهل الكتاب أيضًا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم، عليه السلام، قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون‏؟‏

القول الثاني في الآية قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية‏:‏ قال لهم موسى -لما رجع من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال‏:‏ إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه‏.‏ فقالوا‏:‏ ومن يأخذه بقولك أنت‏؟‏ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا فيقول‏:‏ هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى‏!‏ وقرأ قول الله‏:‏ ‏{‏لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏ قال‏:‏ فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون‏.‏ قال‏:‏ ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ فقال لهم موسى‏:‏ خذوا كتاب الله‏.‏ فقالوا‏:‏ لا فقال‏:‏ أي شيء أصابكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ أصابنا أنا متنا ثم حَيِينا‏.‏ قال‏:‏ خذوا كتاب الله‏.‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم‏.‏

‏[‏وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا‏.‏ وقد حكى الماوردي في ذلك قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق؛ والثاني‏:‏ أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف، قال القرطبي‏:‏ وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح، والله أعلم‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏

لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكرهم -أيضا- بما أسبغ عليهم من النعم، فقال‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ‏}‏ وهو جمع غمامة، سمي بذلك لأنه يَغُمّ السماء، أي‏:‏ يواريها ويسترها‏.‏ وهو السحاب الأبيض، ظُلِّلوا به في التيه ليقيهم حر الشمس‏.‏ كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفُتُون، قال‏:‏ ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن ابن عمر، والربيع بن أنس، وأبي مجلز، والضحاك، والسدي، نحو قول ابن عباس‏.‏

وقال الحسن وقتادة‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏ كان هذا في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس‏.‏ وقال ابن جرير قال آخرون‏:‏ وهو غمام أبرد من هذا، وأطيب‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ‏}‏ قال‏:‏ ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، ولم يكن إلا لهم‏.‏

وهكذا رواه ابن جرير، عن المثنى بن إبراهيم، عن أبي حذيفة‏.‏ وكذا رواه الثوري، وغيره، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وكأنه يريد، والله أعلم، أنه ليس من زِيّ هذا السحاب، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا، كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ‏}‏ قال‏:‏ غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله فيه في قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏ وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وكان معهم في التيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ‏}‏ اختلفت عبارات المفسرين في المن‏:‏ ما هو‏؟‏ فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ كان المن ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ المن‏:‏ صمغة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ المن‏:‏ شيء أنزله الله عليهم مثل الطل، شبه الرِّبِ الغليظ‏.‏ وقال السدي‏:‏ قالوا‏:‏ يا موسى، كيف لنا بما هاهنا‏؟‏ أين الطعام‏؟‏ فأنزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجر الزنجبيل‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان المن ينزل عليهم في محلتهم سقوط الثلج، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك؛ فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه، ليوم جمعته، أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه‏.‏

وقال وهب بن منبه -وسئل عن المن- فقال‏:‏ خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النَقيِّ‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر وهو الشعبي، قال‏:‏ عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن‏.‏ وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ إنه العسل‏.‏

ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت، حيث قال‏:‏

فرأى الله أنهم بمضيع *** لا بذي مزرع ولا مثمورا

فسناها عليهم غاديات *** وترى مزنهم خلايا وخورا

عسلا ناطفا وماء فراتا *** وحليبا ذا بهجة مرمورا

فالناطف‏:‏ هو السائل، والحليب المرمور‏:‏ الصافي منه‏.‏

والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر، والله أعلم، أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب، وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد، فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا، وإن ركب مع غيره صار نوعا آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده؛ والدليل على ذلك قول البخاري‏:‏ حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن عبد الملك، عن عمر بن حريث عن سعيد بن زيد، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين‏"‏‏.‏

وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك، وهو ابن عمير، به‏.‏

وأخرجه الجماعة في كتبهم، إلا أبا داود، من طرق عن عبد الملك، وهو ابن عمير، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح، ورواه البخاري ومسلم والنسائي من رواية الحكم، عن الحسن العُرَني، عن عمرو بن حريث، به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غَيْلان، قالا حدثنا سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين‏"‏‏.‏

تفرد بإخراجه الترمذي، ثم قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن عمرو، وإلا من حديث سعيد بن عامر، عنه، وفي الباب عن سعيد بن زيد، وأبي سعيد وجابر‏.‏

كذا قال، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره، من طريق آخر، عن أبي هريرة، فقال‏:‏ حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري، حدثنا أسلم بن سهل، حدثنا القاسم بن عيسى، حدثنا طلحة بن عبد الرحمن، عن قتادة عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين‏"‏‏.‏

وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وطلحة بن عبد الرحمن هذا سلمي واسطي، يكنى بأبي محمد، وقيل‏:‏ أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي‏:‏ روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها‏.‏

ثم قال ‏[‏الترمذي‏]‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة‏:‏ أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ الكمأة جدري الأرض، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم‏"‏‏.‏

وهذا الحديث قد رواه النسائي، عن محمد بن بشار، به‏.‏ وعنه، عن غندر، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، به‏.‏ وعن محمد بن بشار، عن عبد الأعلى، عن خالد الحذاء، عن شهر بن حوشب‏.‏ بقصة الكمأة فقط‏.‏

وروى النسائي -أيضا- وابن ماجه من حديث محمد بن بشار، عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد، عن مطر الوراق، عن شهر‏:‏ بقصة العجوة عند النسائي، وبالقصتين عند ابن ماجه‏.‏

وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمعه منه، بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه، عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي هريرة، قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول جدري الأرض، فقال‏:‏ ‏"‏الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين‏"‏‏.‏

وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري، قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم‏"‏‏.‏

قال النسائي في الوليمة أيضا‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد وجابر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين‏"‏‏.‏ ثم رواه -أيضا-، وابن ماجه من طرق، عن الأعمش، عن أبي بشر، عن شهر، عنهما، به‏.‏

وقد رويا -أعني النسائي وابن ماجه- من حديث سعيد بن مسلم كلاهما عن الأعمش، عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، زاد النسائي‏:‏ ‏[‏وحديث‏]‏ جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين‏"‏‏.‏

ورواه ابن مردويه، عن أحمد بن عثمان، عن عباس الدوري، عن لاحق بن صواب عن عمار بن رزيق عن الأعمش، كابن ماجه‏.‏

وقال ابن مردويه أيضا‏:‏ حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا عباس الدوري، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي سعيد الخدري، قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت، فقال‏:‏ ‏"‏الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين‏"‏‏.‏

وأخرجه النسائي، عن عمرو بن منصور، عن الحسن بن الربيع ثم ‏[‏رواه‏]‏ ابن مردويه‏.‏ رواه أيضا عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام، عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان عن الأعمش به، وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن عبيد الله بن موسى ‏[‏به‏]‏‏.‏

وقد روى من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه كما قال ابن مردويه‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا حمدون بن أحمد، حدثنا حوثرة بن أشرس، حدثنا حماد، عن شعيب بن الحبحاب عن أنس‏:‏ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدارؤوا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فقال بعضهم‏:‏ نحسبه الكمأة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم‏"‏‏.‏ وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة‏.‏ وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئاً من هذا، والله أعلم‏.‏

‏[‏وقد‏]‏ روي عن شهر، عن ابن عباس، كما رواه النسائي -أيضًا- في الوليمة، عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد، عن عبد الله بن عون الخَرّاز، عن أبي عبيدة الحداد، عن عبد الجليل بن عطية، عن شهر، عن عبد الله بن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين‏"‏‏.‏

فقد اختلف -كما ترى فيه- على شهر بن حوشب، ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها، وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم، فإن الأسانيد إليه جيدة، وهو لا يتعمد الكذب، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم من رواية سعيد بن زيد‏.‏

وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ السلوى طائر شبيه بالسُّمَّانى، كانوا يأكلون منه‏.‏

وقال السدي في خَبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة‏:‏ السلوى‏:‏ طائر يشبه السُّمَّانَى‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا قرّة بن خالد، عن جهضم، عن ابن عباس، قال‏:‏ السلوى‏:‏ هو السمَّانى‏.‏

وكذا قال مجاهد، والشعبي، والضحاك، والحسن، وعكرمة، والربيع بن أنس، رحمهم الله‏.‏

وعن عكرمة‏:‏ أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور، أو نحو ذلك‏.‏

وقال قتادة‏:‏ السلوى من طير إلى الحمرة، تحشُرها عليهم الريحُ الجنَوبُ‏.‏ وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ السلوى‏:‏ طير سمين مثل الحمام، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت‏.‏ وفي رواية عن وهب، قال‏:‏ سألَتْ بنو إسرائيل موسى عليه السلام، اللحم، فقال الله‏:‏ لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض، فأرسل عليهم ريحًا، فأذرت عند مساكنهم السلوى، وهو السمانى مثل ميل في ميل قيدَ رمح إلى السماء فخبَّؤوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبز‏.‏ وقال السدي‏:‏ لما دخل بنو إسرائيل التيه، قالوا لموسى، عليه السلام‏:‏ كيف لنا بما هاهنا‏؟‏ أين الطعام‏؟‏ فأنزل الله عليهم الَمنّ فكان يسقط على الشجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا‏:‏ هذا الطعام فأين الشراب‏؟‏ فَأُمِر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، فشرب كل سبط من عين، فقالوا‏:‏ هذا الشراب، فأين الظل‏؟‏ فَظَلَّل عليهم الغمام‏.‏ فقالوا‏:‏ هذا الظل، فأين اللباس‏؟‏ فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يَنْخرق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى‏}‏ وقوله ‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏60‏]‏‏.‏ وروي عن وهب بن منبه، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي‏.‏

وقال سُنَيْد، عن حجاج، عن ابن جُرَيْج، قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ خُلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن، قال ابن جريج‏:‏ فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدًا‏.‏

‏[‏قال ابن عطية‏:‏ السلوى‏:‏ طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي في قوله‏:‏ إنه العسل، وأنشد في ذلك مستشهدًا‏:‏

وقاسمها بالله جهدًا لأنتم *** ألذ من السلوى إذا ما أشورها

قال‏:‏ فظن أن السلوى عسلا قال القرطبي‏:‏ دعوى الإجماع لا تصح؛ لأن المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير قال‏:‏ إنه العسل، واستدل ببيت الهذلي هذا، وذكر أنه كذلك في لغة كنانة؛ لأنه يسلى به ومنه عين سلوان، وقال الجوهري‏:‏ السلوى العسل، واستشهد ببيت الهذلي -أيضا-، والسلوانة بالضم خرزة، كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا قال الشاعر‏:‏

مُفَرِّح - شربت على سلوانة ماء مزنة *** فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو

واسم ذلك الماء السلوان، وقال بعضهم‏:‏ السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو والأطباء يسمونه‏(‏مُفَرِّح‏)‏‏}‏، قالوا‏:‏ والسلوى جمع بلفظ -الواحد- أيضًا، كما يقال‏:‏ سمانى للمفرد والجمع ودِفْلَى كذلك، وقال الخليل واحده سلواة، وأنشد‏:‏

وإني لتعروني لذكراك هزة *** كما انتفض السلواة من بلل القطر

وقال الكسائي‏:‏ السلوى واحدة وجمعه سلاوي، نقله كله القرطبي‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ أمر إباحة وإرشاد وامتنان‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏57‏]‏، أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا، كما قال‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏15‏]‏ فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات، ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم، كما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك، في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد، لم يسألوا خرق عادة، ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلا على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم، فجاء قدر مَبْرك الشاة، فدعا ‏[‏الله‏]‏ فيه، وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى، فجاءت سحابة فأمطرتهم، فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم‏.‏ ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر‏.‏ فهذا هو الأكمل في الاتباع‏:‏ المشي مع قدر الله، مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏