فصل: تفسير الآيات رقم (19 - 20)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 20‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذِهِ‏}‏ أي‏:‏ السورة ‏{‏تَذْكِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ يتذكر بها أولو الألباب؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ ممن شاء الله هدايته، كما قيده في السورة الأخرى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ‏}‏ أي‏:‏ تارة هكذا، وتارة هكذا، وذلك كله من غير قصد منكم، ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل؛ لأنه يشق عليكم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ‏}‏ أي‏:‏ تارة يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا، أو هذا من هذا، ‏{‏عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ‏}‏ أي‏:‏ الفرض الذي أوجبه عليكم ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ‏}‏ أي‏:‏ من غير تحديد بوقت، أي‏:‏ ولكن قوموا من الليل ما تيسر‏.‏ وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان‏:‏ ‏{‏وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ‏}‏ أي‏:‏ بقراءتك، ‏{‏وَلا تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة، رحمه الله، بهذه الآية، وهي قوله‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ‏}‏ على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية، أجزأه؛ واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين‏:‏ ‏"‏ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن‏"‏‏.‏ وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت، وهو في الصحيحين أيضا‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب‏"‏ وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خِدَاج، فهي خِدَاج، فهي خِدَاج، غير تمام‏"‏‏.‏ وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا‏:‏ ‏"‏لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل، من مرضى لا يستطيعون ذلك، ومسافرين في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر، وآخرين مشغولين بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله وهذه الآية -بل السورة كلها- مكية، ولم يكن القتال شُرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ قوموا بما تيسر عليكم منه‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رجاء محمد، قال‏:‏ قلت للحسن‏:‏ يا أبا سعيد، ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه، ولا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة‏؟‏ قال‏:‏ يتوسَّدُ القرآن، لعن الله ذاك، قال الله تعالى للعبد الصالح‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 68‏]‏‏{‏وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ‏}‏ قلت‏:‏ يا أبا سعيد، قال الله‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ولو خمس آيات‏.‏

وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري‏:‏ أنه كان يرى حقًا واجبًا على حَمَلة القرآن أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل؛ ولهذا جاء في الحديث‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل نام حتى أصبح، فقال‏:‏ ‏"‏ذاك رجل بال الشيطان في أذنه‏"‏‏.‏ فقيل معناه‏:‏ نام عن المكتوبة‏.‏ وقيل‏:‏ عن قيام الليل‏.‏ وفي السنن‏:‏ ‏"‏أوتِرُوا يا أهل القرآن‏.‏‏"‏ وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏من لم يوتر فليس منا‏"‏‏.‏

وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر عبد العزيز، من الحنابلة، من إيجابه قيام شهر رمضان، فالله أعلم‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن سعيد بن فرقد الجُدّي، حدثنا أبو ‏[‏حمة‏]‏ محمد بن يوسف الزبيدي، حدثنا عبد الرحمن، ‏[‏عن محمد بن عبد الله‏]‏ بن طاوس -من ولد طاوس- عن أبيه، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏مائة آية‏"‏‏.‏ وهذا حديث غريب جدًا لم أره إلا في معجم الطبراني، رحمه الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ أي‏:‏ أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة‏.‏ وهذا يدل لمن قال‏:‏ إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النّصب والمَخْرَج لم تُبَين إلا بالمدينة‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف‏:‏ إن هذه الآية نَسَخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل‏.‏ واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال كما تقدم‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل‏:‏ ‏"‏خمس صلوات في اليوم والليلة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ هل عليّ غيرها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا إلا أن تَطوّع‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ يعني‏:‏ من الصدقات، فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره، كما قال‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا‏}‏ أي‏:‏ جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو ‏[‏خير‏]‏ لكم حاصل، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا أبو خَيْثَمة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الحارث بن سُوَيد قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏اعلموا ما تقولون‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إنما مال أحدكم ما قَدّم ومال وارثه ما أخر‏"‏‏.‏

ورواه البخاري من حديث حفص بن غياث، والنسائي من حديث أبي معاوية، كلاهما عن الأعمش، به‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها؛ فإنه غفور رحيم لمن استغفره‏.‏

آخر تفسير سورة ‏"‏المزمل‏"‏ ولله الحمد‏.‏

تفسير سورة المدثر

وهي مكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 10‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏

ثبت في صحيح البخاري ‏[‏من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة‏]‏ عن جابر أنه كان يقول‏:‏ أول شيء نزل من القرآن‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ‏}‏

وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ كما سيأتي ‏[‏بيان‏]‏ ذلك هناك‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى، حدثنا وَكِيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال‏:‏ سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ‏}‏ قلت‏:‏ يقولون‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏‏؟‏ فقال أبو سلمة‏:‏ سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلتُ له مثل ما قلتَ لي، فقال جابر‏:‏ لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏جاورت بحرَاء، فلما قضيت جواري هبطتُ فنُوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا‏.‏ فرفعت رأسي فرأيت شيئًا، فأتيت خديجة فقلت‏:‏ دثروني‏.‏ وصبوا علي ماء باردا‏.‏ قال‏:‏ فدثروني وصبوا علي ماء باردا قال‏:‏ فنزلت ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏}‏

هكذا ساقه من هذا الوجه‏.‏ وقد رواه مسلم من طريق عُقَيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة قال‏:‏ أخبرني جابر بن عبد الله‏:‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي‏:‏ ‏"‏فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قبَلَ السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فَجَثَثْتُ‏}‏ منه حتى هَوَيتُ إلى الأرض، فجئت إلى أهلي، فقلت‏:‏ زملوني زملوني‏.‏ فزملوني، فأنزل الله ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏فَاهْجُرْ‏}‏ -قال أبو سلمة‏:‏ والرجز‏:‏ الأوثان -ثم حَميَ الوحيُ وتَتَابع‏"‏‏.‏

هذا لفظ البخاري وهذا السياق هو المحفوظ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا، لقوله‏:‏ ‏"‏فإذا الملك الذي جاءني بحراء‏"‏، وهو جبريل حين أتاه بقوله‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد هذا‏.‏ ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجاج، حدثنا لَيْث، حدثنا عُقَيل، عن ابن شهاب قال‏:‏ سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول‏:‏ أخبرني جابر بن عبد الله‏:‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي سمعتُ صوتًا من السماء، فرفعت بصري قِبَل السماء، فإذا الملك الذي جاءني ‏[‏بحراء الآن‏]‏ قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فَجُثت منه فَرَقًا، حتى هَوَيت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت لهم‏:‏ زملوني زملوني‏.‏ فزملوني، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ ثم حمي الوحي ‏[‏بعدُ‏]‏ وتتابع‏"‏‏.‏ أخرجاه من حديث الزهري، به‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار، حدثنا الحسن بن بشر البَجَلي، حدثنا المعافى بن عمران، عن إبراهيم بن يزيد، سمعت ابن أبي مُلَيْكة يقول‏:‏ سمعت ابن عباس يقول‏:‏ إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا‏.‏ قال‏:‏ ما تقولون في هذا الرجل‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ ساحر‏.‏ وقال بعضهم ليس بساحر‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كاهن‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ليس بكاهن‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ شاعر‏.‏ وقال بعضهم ليس بشاعر‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ‏[‏بل‏]‏ سحر يُؤثر‏.‏ فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر‏.‏ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزنَ وقَنعَ رأسه، وتَدَثَّر، فأنزل الله ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ‏}‏‏.‏

فقوله ‏{‏قُمْ فَأَنْذِرْ‏}‏ أي‏:‏ شمر عن ساق العزم، وأنذر الناس‏.‏ وبهذا حصل الإرسال، كما حصل بالأول النبوة‏.‏

‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏}‏ أي‏:‏ عظم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ قال الأجلح الكندي، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أنه أتاه رجل فسأله عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ قال‏:‏ لا تلبسها على معصية ولا على غَدْرَة‏.‏ ثم قال‏:‏ أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي‏:‏

فَإني بحمد الله لا ثوبَ فَاجر *** لبستُ ولا من غَدْرَة أتَقَنَّع

وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس ‏[‏في هذه الآية‏]‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ قال‏:‏ في كلام العرب‏:‏ نَقِي الثياب‏.‏ وفي رواية بهذا الإسناد‏:‏ فطهر من الذنوب‏.‏ وكذا قال إبراهيم، الشعبي، وعطاء‏.‏

وقال الثوري، عن رجل، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ قال‏:‏ من الإثم‏.‏ وكذا قال إبراهيم النخعي‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ قال‏:‏ نفسك، ليس ثيابه‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ عملك فأصلح، وكذا قال أبو رَزِين‏.‏ وقال في رواية أخرى‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ أي‏:‏ لست بكاهن ولا ساحر، فأعرض عما قالوا‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ أي‏:‏ طهرها من المعاصي، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله إنه لَمُدنَس الثياب‏.‏ وإذا وفى وأصلح‏:‏ إنه لمطهر الثياب‏.‏

وقال عكرمة، والضحاك‏:‏ لا تلبسها على معصية‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إذا المرءُ لم يَدْنَس منَ اللؤم عِرْضُه *** فَكُلّ ردَاء يَرْتَديه جَميل

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ ‏[‏يعني‏]‏ لا تك ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب، ويقال‏:‏ لا تلبس ثيابك على معصية‏.‏

وقال محمد بن سيرين‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ أي‏:‏ اغسلها بالماء‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر، وأن يطهر ثيابه‏.‏

وهذا القول اختاره ابن جرير، وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإن العرب تطلق الثياب عليه، كما قال امرؤ القيس‏:‏

أفاطمَ مَهلا بعض هَذا التَدَلُّل *** وَإن كُنت قَد أزْمَعْت هَجْري فأجْمِلي

وَإن تَكُ قَد سَ ـاءتك مني خَليقَةٌ *** فَسُلّي ثِيَابي مِن ثيابك تَنْسُل

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ وقلبك ونيتك فطهر‏.‏وقال محمد بن كعب القرظي، والحسن البصري‏:‏ وخُلقَك فَحسّن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَالرُّجْزَ‏}‏ وهو الأصنام، فاهجر‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والزهري، وابن زيد‏:‏ إنها الأوثان‏.‏

وقال إبراهيم، والضحاك‏:‏ ‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ أي‏:‏ اترك المعصية‏.‏

وعلى كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك، كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏‏{‏وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا تعط العطية تلتمس أكثر منها‏.‏ وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وأبو الأحوص، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه قرأ‏:‏ ‏"‏ولا تمنن أن تستكثر‏"‏‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ لا تمنن بعملك على ربك تستكثره‏.‏ وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير‏.‏ وقال خصيف، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ‏}‏ قال‏:‏ لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال تمنن في كلام العرب‏:‏ تضعف‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ لا تمنن بالنبوة على الناس، تستكثرهم بها، تأخذ عليه عوضا من الدنيا‏.‏

فهذه أربعة أقوال، والأظهر القول الأول، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ‏}‏ أي‏:‏ اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل، قاله مجاهد‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ اصبر عطيتك لله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد والشعبي، وزيد بن أسلم، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، وابن زيد‏:‏ ‏{‏النَّاقُورِ‏}‏ الصور‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وهو كهيئة القرن‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أسباط بن محمد، عن مُطَرِّف، عن عطية العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ‏}‏ فقال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر فينفخ‏؟‏‏"‏ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فما تأمرنا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولوا‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا‏"‏‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد عن أسباط، به ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن ابن فضيل وأسباط، كلاهما عن مطرف، به‏.‏ ورواه من طريق أخرى، عن العوفي، عن ابن عباس، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ شديد‏.‏

‏{‏عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏ أي‏:‏ غير سهل عليهم‏.‏ كما قال تعالى ‏{‏يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقد روينا عن زُرَارة بن أوفى -قاضي البصرة-‏:‏ أنه صلى بهم الصبح، فقرأ هذه السورة، فلما وصل إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏ شَهِقَ شهقة، ثم خر ميتا، رحمه الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 30‏]‏

‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏

يقول تعالى متوعدا لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر‏.‏ وقد عدد الله عليه نعَمه حيث قال‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا‏}‏ أي‏:‏ خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد، ثم رزقه الله،

‏{‏مَالا مَمْدُودًا‏}‏ أي‏:‏ واسعًا كثيرًا قيل‏:‏ ألف دينار‏.‏ وقيل‏:‏ مائة ألف دينار‏.‏ وقيل‏:‏ أرضا يستغلها‏.‏ وقيل غير ذلك‏.‏

وجعل له ‏{‏وَبَنِينَ شُهُودًا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا يغيبون، أي‏:‏ حضورا عنده لا يسافرون في التجارات، بل مَواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم وهم قعود عند أبيهم، يتمتع بهم ويتَمَلَّى بهم‏.‏ وكانوا -فيما ذكره السدي، وأبو مالك، وعاصم بن عمر بن قتادة- ثلاثة عشر‏.‏ وقال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ كانوا عشرة‏.‏ وهذا أبلغ في النعمة ‏[‏وهو إقامتهم عنده‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا‏}‏ أي‏:‏ مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك، ‏{‏ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا‏}‏ أي‏:‏ معاندا، وهو الكفر على نعمه بعد العلم‏.‏

قال الله‏:‏ ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا‏}‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ويل‏:‏ واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره، والصَّعُود‏:‏ جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا، ثم يهوي به كذلك فيه أبدا‏"‏‏.‏ وقد رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيد، عن الحسن بن موسى الأشيب، به ثم قال‏:‏ غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن لَهِيعة عن دراج‏.‏ كذا قال‏.‏ وقد رواه ابن جرير، عن يونس، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج وفيه غرابة ونكارة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة وعلي بن عبد الرحمن -المعروف بعلان المصري -قال‏:‏ حدثنا مِنْجاب، أخبرنا شريك، عن عمار الدُّهَنِيّ، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده، فإذا وضع يده ذابت، وإذا رفعها عادت، فإذا وضع رجله ذابت، وإذا رفعها عادت‏"‏‏.‏

ورواه البزار وابن جرير، من حديث شريك، به‏.‏

وقال قتادة، عن ابن عباس‏:‏ صعود‏:‏ صخرة ‏[‏في جهنم‏]‏ عظيمة يسحب عليها الكافر على وجهه‏.‏

وقال السدي‏:‏ صعودا‏:‏ صخرة ملساء في جهنم، يكلف أن يصعدها‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا‏}‏ أي‏:‏ مشقة من العذاب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عذابا لا راحة فيه‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ‏}‏ أي‏:‏ إنما أرهقناه صعودا، أي‏:‏ قربناه من العذاب الشاق؛ لبعده عن الإيمان، لأنه فكر وقدر، أي‏:‏ تَرَوَّى ماذا يقول في القرآن حين سُئل عن القرآن، ففكر ماذا يختلق من المقال، ‏{‏وَقَدَّرَ‏}‏ أي‏:‏ تروى، ‏{‏فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏ دعاء عليه،

‏{‏ثُمَّ نَظَرَ‏}‏ أي‏:‏ أعاد النظرة والتروي‏.‏ ‏{‏ثُمَّ عَبَسَ‏}‏ أي‏:‏ قبض بين عينيه وقطب، ‏{‏وَبَسَرَ‏}‏ أي‏:‏ كلح وكره، ومنه قول توبة بن الحُمَير الشاعر‏:‏

وَقَد رَابَني منها صُدُودٌ رَأيتُه *** وَإعرَاضُها عَن حاجَتي وبُسُورُها

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ‏}‏ أي‏:‏ صُرف عن الحق، ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد للقرآن،

‏{‏فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ‏}‏ أي‏:‏ هذا سحر ينقله محمد عن غيره عمن قبله ويحكيه عنهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ أي‏:‏ ليس بكلام الله‏.‏

وهذا المذكور في هذا السياق هو‏:‏ الوليد بن المغيرة المخزومي، أحد رؤساء قريش -لعنه الله- وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي، عن ابن عباس قال‏:‏ دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال‏:‏ يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة‏.‏ فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذْي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله‏.‏ فلما سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا فقالوا‏:‏ والله لئن صبا الوليد لتصْبُوَنَّ قريش‏.‏ فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال‏:‏ أنا والله أكفيكم شأنه‏.‏ فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد‏:‏ ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة‏؟‏ فقال‏:‏ ألستُ أكثرهم مالا وولدا‏.‏ فقال له أبو جهل‏:‏ يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه‏.‏ فقال الوليد‏:‏ أقد تحدث به عشيرتي‏؟‏‏!‏ فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر‏.‏ فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ‏}‏

وقال قتادة‏:‏ زعموا أنه قال‏:‏ والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏ الآية، ‏{‏ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ‏}‏ قبض ما بين عينيه وكلح‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن عبد الأعلى، أخبرنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، عن عَبَّاد بن منصور، عن عكرمة‏:‏ أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له‏.‏ فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام، فأتاه فقال‏:‏ أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا‏.‏ قال‏:‏ لم‏؟‏ قال‏:‏ يعطونكه، فإنك أتيت محمدًا تَتَعَرض لما قبله‏.‏ قال‏:‏ قد علمت قريش أني أكثرها مالا‏.‏ قال‏:‏ فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له‏.‏ قال‏:‏ فماذا أقول فيه‏؟‏ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من ذلك‏.‏ والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى‏.‏ وقال‏:‏ والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه‏.‏ قال‏:‏ فدعني حتى أفكر فيه‏.‏ فلما فكر قال‏:‏ إن هذا سحر يأثره عن غيره‏.‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا‏}‏ ‏[‏قال قتادة‏:‏ خرج من بطن أمه وحيدا‏]‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد نحوا من هذا‏.‏ وقد زعم السدي أنهم لما اجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه، قبل أن يقدم عليهم وفودُ العرب للحج ليصدّوهُم عنه، فقال قائلون‏:‏ شاعر‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ساحر‏.‏ وقال آخرون‏:‏ كاهن‏.‏ وقال آخرون‏:‏ مجنون‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 48‏]‏ كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه، ففكر وقدر، ونظر وعبس وبسر، فقال‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏سَأُصْلِيهِ سَقَرَ‏}‏ أي‏:‏ سأغمره فيها من جميع جهاته‏.‏ ثم قال ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ‏}‏‏؟‏ وهذا تهويل لأمرها وتفخيم‏.‏ ثم فسر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ‏}‏ أي‏:‏ تأكل لحومهم وعروقهم وعَصَبهم وجلودهم، ثم تبدل غير ذلك، وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون، قاله ابن بريدة وأبو سنان وغيرهما‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي للجلد، وقال أبو رَزين‏:‏ تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ تلوح أجسادهم عليها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ‏}‏ أي‏:‏ حراقة للجلد‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تحرق بشرة الإنسان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏ أي‏:‏ من مقدمي الزبانية، عظيم خلقهم، غليظ خلقهم‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زرعة، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا ابن أبي زائدة، أخبرني حريث، عن عامر، عن البراء في قوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏ قال إن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم‏.‏ فقال‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ فجاء رجل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ‏:‏ ‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏ فأخبر أصحابه وقال‏:‏ ‏"‏ادعهم، أما إني سائلهم عن تُربَة الجنة إن أتوني، أما إنها دَرْمكة بيضاء‏"‏‏.‏ فجاؤوه فسألوه عن خزنة جهنم، فأهوى بأصابع كفيه مرتين وأمسك الإبهام في الثانية، ثم قال‏:‏ ‏"‏أخبروني عن تربة الجنة‏"‏‏.‏ فقالوا‏:‏ أخبرهم يا ابن سلام‏.‏ فقال‏:‏ كأنها خُبزَة بيضاء‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما إن الخبز إنما يكون من الدّرمَك‏"‏‏.‏

هكذا وقع عند ابن أبي حاتم عن البراء، والمشهور عن جابر بن عبد الله، كما قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا منده، حدثنا أحمد بن عَبدَة، أخبرنا سفيان ويحيى بن حكيم، حدثنا سفيان، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد، غلبَ أصحابك اليوم‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏بأي شيء‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ سألتهم يَهُود هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار‏؟‏ قالوا‏:‏ لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أفغلب قوم سُئلوا عما لا يدرون فقالوا‏:‏ لا ندرى حتى نسأل نبينا‏؟‏ عليَّ بأعداء الله، لكن سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة‏"‏‏.‏ فأرسل إليهم فدعاهم‏.‏ قالوا‏:‏ يا أبا القاسم، كم عدد خزنة أهل النار‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هكذا‏"‏، وطبق كفيه، ثم طبق كفيه، مرتين، وعقد واحدة، وقال لأصحابه‏:‏ ‏"‏إن سئلتم عن تربة الجنة فهي الدَّرمك‏"‏‏.‏ فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما تربة الجنة‏؟‏‏"‏ فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا‏:‏ خبزة يا أبا القاسم‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏الخبز من الدَّرمك‏"‏‏.‏

وهكذا رواه الترمذي عند هذه الآية عن ابن أبي عمر، عن سفيان، به وقال هو والبزار‏:‏ لا نعرفه إلا من حديث مجالد‏.‏ وقد رواه الإمام أحمد، عن علي بن المديني، عن سفيان، فقص الدرمك فقط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 37‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ‏}‏ أي‏:‏ خُزَّانها، ‏{‏إِلا مَلائِكَةً‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏زبانية‏]‏ غلاظا شدادا‏.‏ وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل‏:‏ يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم ‏؟‏ فقال الله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً‏}‏ أي‏:‏ شديدي الخَلْق لا يقاومون ولا يغالبون‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن أبا الأشدين -واسمه‏:‏ كَلَدَة بن أسيد بن خلف- قال‏:‏ يا معشر قريش، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر، إعجابا منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه‏.‏ قال السهيلي‏:‏ وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصارعته وقال‏:‏ إن صرعتني آمنت بك، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم مرارا، فلم يؤمن‏.‏ قال‏:‏ وقد نَسَب ابنُ إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب‏.‏ قلت‏:‏ ولا منافاة بين ما ذكراه، والله أعلم‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي‏:‏ إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعةَ عشرَ اختبارًا منَّا للناس، ‏{‏لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ أي‏:‏ يعلمون أن هذا الرسول حق؛ فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله‏.‏

‏{‏وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا‏}‏ أي‏:‏ إلى إيمانهم‏.‏ بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ أي‏:‏ من المنافقين ‏{‏وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ يقولون‏:‏ ما الحكمة في ذكر هذا هاهنا‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام، ويتزلزل عند آخرين، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ‏}‏ أي‏:‏ ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط، كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة ومن الفلاسفة اليونانيين‏.‏ ومن تابعهم من الملتين الذين سمعوا هذه الآية، فأرادوا تنزيلها على العقول العشرة والنفوس التسعة، التي اخترعوا دعواها وعجزوا عن إقامة الدلالة على مقتضاها، فأفهموا صدر هذه الآية وقد كفروا بآخرها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ‏}‏

وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما‏.‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة‏:‏ ‏"‏فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليهم‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن مورق، عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحُقَّ لها أن تَئط، ما فيها موضع أصابع إلا عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا، ولا تَلَذّذتم بالنساء على الفُرُشات، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل‏"‏‏.‏ فقال أبو ذر‏:‏ والله لوددتُ أني شجرة تُعضد‏.‏

ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث إسرائيل وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب، ويروى عن أبي ذر موقوفًا‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا خير بن عرفة المصري، حدثنا عُرْوَة بن مروان الرقي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم، أو ملك ساجد، أو ملك راكع، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا‏:‏ سبحانك‏!‏ ما عبدناك حَقَّ عبادتك، إلا أنا لم نشرك بك شيئًا‏"‏‏.‏‏.‏

وقال محمد بن نصر المروزي في ‏"‏كتاب الصلاة‏"‏‏:‏ حدثنا عمرو بن زرارة، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز، عن حكيم بن حزام قال‏:‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم‏:‏ ‏"‏هل تسمعون ما أسمع‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ ما نسمع من شيء‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أسمع أطيط السماء وما تلام أن تَئطّ، ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد‏"‏‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ حدثنا أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي، سمعت الضحاك بن مزاحم، يحدث عن مسروق بن الأجدع، عن عائشة أنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما في السماء الدنيا موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم، وذلك قول الملائكة‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ‏}‏ ‏[‏الصاقات‏:‏ 164-166‏]‏‏.‏ وهذا مرفوع غريب جدا ثم رواه عن محمود بن آدم، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ إن من السماوات سماءً ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائما، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ حدثنا أحمد بن سيار‏:‏ حدثنا أبو جعفر محمد بن خالد الدمشقي المعروف بابن أمه، حدثنا المغيرة بن عثمان بن عطية من بني عمرو بن عوف، حدثني سليمان بن أيوب ‏[‏من بني‏]‏ سالم بن عوف‏.‏ حدثني عطاء بن زيد بن مسعود من بني الحبلي، حدثني سليمان بن عمرو بن الربيع، من بني سالم، حدثني عبد الرحمن بن العلاء، من بني ساعدة، عن أبيه العلاء بن سعد -وقد شهد الفتح وما بعده- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه‏:‏ ‏"‏هل تسمعون ما أسمع‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ وما تسمع يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أطَّتِ السماء وحقّ لها أن تَئط، إنه ليس فيها موضع قَدَم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد، وقالَ الملائكة‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ‏}‏ وهذا إسناد غريب جدا‏.‏

ثم قال‏:‏ حدثنا ‏[‏محمد بن يحيى، حدثنا‏]‏ إسحاق بن محمد بن إسماعيل الفَروي، حدثنا عبد الملك بن قدامة، عن عبد الرحمن عن عبد الله بن ديناره، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر‏:‏ أن عمر جاء والصلاة قائمة، ونفر ثلاثة جلوس، أحدهم أبو جحش الليثي، فقال‏:‏ قوموا فصلوا مع رسول الله‏.‏ فقام اثنان وأبى أبو جحش أن يقوم، وقال‏:‏ لا أقوم حتى يأتي رجل هو أقوى مني ذراعين، وأشد مني بطشًا فيصرعني، ثم يَدس وجهي في التراب‏.‏ قال عمر‏:‏ فصرعته ودسست وجهه في التراب، فأتى عثمان بن عفان فحجزني عنه، فخرج عمر مغضبا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ما رَأيَكَ يا أبا حفص‏؟‏‏"‏‏.‏ فذكر له ما كان منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن رضىعمر رحمةٌ، والله لوددْتُ أنك جئتني برأس الخبيث‏"‏، فقام عمر يُوجّهُ نحوه، فلما أبعد ناداه فقال‏:‏ ‏"‏اجلس حتى أخبرك بغنى الرب عز وجل عن صلاة أبي جحش، إن لله في السماء الدنيا ملائكة خشوعًا لا يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة‏.‏ فإذا قامت رفعوا رءوسهم ثم قالوا‏:‏ ربنا، ما عبدناك حق عبادتك، وإن لله في السماء الثانية ملائكة سجودًا لا يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة فإذا قامت الساعة رفعوا رءوسهم، وقالوا‏:‏ سبحانك‏!‏ ما عبدناك حق عبادتك‏"‏ فقال له عمر‏:‏ وما يقولون يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏أما أهل السماء الدنيا فيقولون‏:‏ سبحان ذي الملك والملكوت‏.‏ وأما أهل السماء الثانية فيقولون‏:‏ سبحان ذي العزة والجبروت‏.‏ وأما أهل السماء الثالثة فيقولون‏:‏ سبحان الحي الذي لا يموت‏.‏ فقلها يا عمر في صلاتك‏"‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، فكيف بالذي كنت علمتني وأمرتني أن أقوله في صلاتي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏قل هذا مرة وهذا مرة‏"‏‏.‏ وكان الذي أمره به أن يقول‏:‏ ‏"‏أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخَطك، وأعوذ بك منك، جل وجهك‏"‏ وهذا حديث غريب جدا، بل منكر نكارة شديدة، وإسحاق الفروي روى عنه البخاري، وذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه أبو داود والنسائي والعقيلي والدارقطني‏.‏ وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ كان صدوقا إلا أنه ذهب بصره فرُبما لقن، وكتبه صحيحة‏.‏ وقال مرة‏:‏ هو مضطرب، وشيخه عبد الملك بن قدامة أبو قتادة الجمحي‏:‏ تكلم فيه أيضا‏.‏ والعجب من الإمام محمد بن نصر كيف رواه ولم يتكلم عليه، ولا عَرَّف بحاله، ولا تعرض لضعف بعض رجاله‏؟‏‏!‏ غير أنه رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلا بنحوه‏.‏ ومن طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلا قريبًا منه، ثم قال محمد بن نصر‏:‏

حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ، أخبرنا النضر، أخبرنا عباد بن منصور قال‏:‏ سمعت عدي بن أرطاة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال‏:‏ سمعت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن لله تعالى ملائكة تُرعَد فرائصهم من خيفته، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي، وإن منهم ملائكة سجودًا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رءوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وإن منهم ملائكة ركوعًا لم يرفعوا رءوسهم منذ خلق الله السماوات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رءوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل، قالوا‏:‏ سبحانك‏!‏ ما عبدناك حق عبادتك‏"‏‏.‏

وهذا إسناد لا بأس به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ‏}‏ قال مجاهد وغير واحد‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ‏}‏ أي‏:‏ النار التي وصفت، ‏{‏إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ‏}‏ أي‏:‏ ولى، ‏{‏وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ‏}‏ أي‏:‏ أشرق، ‏{‏إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ‏}‏ أي‏:‏ العظائم، يعني‏:‏ النار، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وغير واحد من السلف‏.‏ ‏{‏نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ‏}‏ أي‏:‏ لمن شاء أن يقبل النّذارة ويهتدي للحق، أو يتأخر عنها ويولي ويردها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38 - 56‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا أن‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ‏}‏ أي‏:‏ معتقلة بعملها يوم القيامة، قاله ابن عباس وغيره‏:‏ ‏{‏إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ‏}‏ فإنهم ‏{‏فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ يسألون المجرمين وهم في الغرفات وأولئك في الدركات قائلين لهم‏:‏ ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ‏}‏ أي‏:‏ ما عبدنا ربنا ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا، ‏{‏وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ‏}‏ أي‏:‏ نتكلم فيما لا نعلم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كلما غوي غاو غوينا معه،

‏{‏وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ‏}‏ يعني‏:‏ الموت‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 99‏]‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما هو -يعني عثمان بن مظعون- فقد جاءه اليقين من ربه‏"‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏}‏ أي‏:‏ من كان متصفا بهذه الصفات فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه؛ لأن الشفاعة إنما تنجع إذا كان المحل قابلا فأما من وافى الله كافرا يوم القيامة فإنه له النار لا محالة، خالدا فيها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ‏}‏ أي‏:‏ فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك مما تدعوهم إليه وتذكرهم به معرضين، ‏{‏كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ‏}‏ أي‏:‏ كأنهم في نفارهم عن الحق، وإعراضهم عنه حُمُر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد، قاله أبو هريرة، وابن عباس -في رواية- عنه وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن‏.‏ أو‏:‏ رام، وهو رواية عن ابن عباس، وهو قول الجمهور‏.‏

وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران عن ابن عباس‏:‏ الأسد، بالعربية، ويقال له بالحبشية‏:‏ قسورة، وبالفارسية‏:‏ شير وبالنبطية‏:‏ أويا‏.‏

‏{‏بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً‏}‏ أي‏:‏ بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتابًا كما أنزل على النبي‏.‏ قاله مجاهد وغيره، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏، وفي رواية عن قتادة‏:‏ يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ‏}‏ أي‏:‏ إنما أفسدهم عدم إيمانهم بها، وتكذيبهم بوقوعها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ حقا إن القرآن تذكرة، ‏{‏فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّه‏}‏ كقوله ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ هو أهل أن يُخاف منه، وهو أهل أن يَغفر ذنب من تاب إليه وأناب‏.‏ قاله قتادة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا زيد بن الحباب، أخبرني سهيل -أخو حزم -حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏ وقال‏:‏ ‏"‏قال ربكم‏:‏ أنا أهل أن أتقى، فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له‏"‏‏.‏ ورواه الترمذي، وابن ماجه من حديث زيد بن الحباب، والنسائي من حديث المعافي بن عمران كلاهما عن سُهَيل بن عبد الله القطعي، به وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن هُدْبَة بن خالد، عن سُهَيل، به‏.‏ وهكذا رواه أبو يعلى، والبَزار، والبَغَوي، وغيرهم، من حديث سُهَيل القُطَعي، به‏.‏

آخر تفسير سوره ‏"‏المدثر‏"‏ ولله الحمد والمنة ‏[‏وحسبنا الله ونعم الوكيل‏]‏

تفسير سورة القيامة

وهي مكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 15‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ‏}‏

قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفيًا، جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي‏.‏ والمقسوم عليه هاهنا هو إثبات الميعاد، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بَعث الأجساد؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ‏}‏ قال الحسن‏:‏ أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بل أقسم بهما جميعًا‏.‏ هكذا حكاه ابن أبي حاتم‏.‏ وقد حكى ابن جرير، عن الحسن والأعرج أنهما قرآ‏:‏ ‏"‏لأقسم ‏[‏بيوم القيامة‏]‏ ‏"‏، وهذا يوجه قول الحسن؛ لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة‏.‏ والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قاله قتادة رحمه الله، وهو المروي عن ابن عباس، وسعيد بن جُبَير، واختاره ابن جرير‏.‏

فأما يوم القيامة فمعروف، وأما النفس اللوامة، فقال قرة بن خالد، عن الحسن البصري في هذه الآية‏:‏ إن المؤمن -والله- ما نراه إلا يلوم نفسه‏:‏ ما أردت بكلمتي‏؟‏ ما أردت بأكلتي‏؟‏ ما أردت بحديث نفسي‏؟‏ وإن الفاجر يمضي قُدُما ما يعاتب نفسه‏.‏

وقال جُوَيْبر‏:‏ بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ‏}‏ قال‏:‏ ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم، عن إسرائيل، عن سِماك‏:‏ أنه سأل عِكْرِمة عن قوله‏:‏ ‏{‏وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ‏}‏ قال‏:‏ يلوم على الخير والشر‏:‏ لو فعلت كذا وكذا‏.‏ ورواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن وَكِيع عن إسرائيل‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن ابن جُرَيج، عن الحسن بن مسلم، عن سعيد بن جُبَير في‏:‏ ‏{‏وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ‏}‏ قال‏:‏ تلوم على الخير والشر‏.‏

ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك‏:‏ فقال‏:‏ هي النفس اللؤوم‏.‏

وقال علي ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏:‏ تندم على ما فات وتلوم عليه‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ اللوامة‏:‏ المذمومة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏اللَّوَّامَةِ‏}‏ الفاجرة‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى، الأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة‏؟‏ ‏{‏بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏ قال سعيد بن جُبَير والعَوفي، عن ابن عباس‏:‏ أن نجعله خُفّا أو حافرًا‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، وابن جرير‏.‏ ووجَّهه ابنُ جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا‏.‏

والظاهر من الآية أن قوله‏:‏ ‏{‏قَادِرِينَ‏}‏ حال من قوله‏:‏ ‏{‏نَجْمَعَ‏}‏ أي‏:‏ أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه‏؟‏ بلى سنجمعها قادرين على أن نُسَوِّي بنانه، أي‏:‏ قدرتنا صالحة لجمعها، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان، فتجعل بنانه -وهي أطراف أصابعه- مستوية‏.‏ وهذا معنى قول ابن قتيبة، والزجاج‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ‏}‏ قال سعيد، عن ابن عباس‏:‏ يعني يمضي قدما‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ‏}‏ يعني‏:‏ الأمل، يقول الإنسان‏:‏ أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة، ويقال‏:‏ هو الكفر بالحق بين يدي القيامة‏.‏

وقال مجاهد ‏{‏لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ‏}‏ ليمضي أمامه راكبا رأسه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لا يلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدما قدما، إلا من عصمه الله‏.‏

ورُوي عن عكرِمة، وسعيد بن جُبَير، والضحاك، والسدي، وغير واحد من السلف‏:‏ هو الذي يَعجَل الذنوبَ ويُسوّف التوبة‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ هو الكافر يكذب بيوم الحساب‏.‏ وكذا قال ابن زيد، وهذا هو الأظهر من المراد؛ ولهذا قال بعده ‏{‏يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ يقول متى يكون يوم

القيامة‏؟‏ وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه، وتكذيب لوجوده، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 29، 30‏]‏‏.‏ وقال تعالى ها هنا‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ‏}‏ قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ ‏{‏بَرِقَ‏}‏ بكسر الراء، أي‏:‏ حار‏.‏ وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 43‏]‏، بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا، لا يستقر لهم بصر على شيء؛ من شدة الرعب‏.‏

وقرأ آخرون‏:‏ ‏"‏بَرَقَ‏"‏ بالفتح، وهو قريب في المعنى من الأول‏.‏ والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَخَسَفَ الْقَمَرُ‏}‏ أي‏:‏ ذهب ضوءه‏.‏

‏{‏وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ كُوّرا‏.‏ وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 1، 2‏]‏ ورُوي عن ابن مسعود أنه قرأ‏:‏ ‏"‏وجُمع بين الشمس والقمر‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ‏}‏ أي‏:‏ إذا عاين ابنُ آدم هذه الأهوال يوم القيامة، حينئذ يريد أن يفر ويقول‏:‏ أين المفر‏؟‏ أي‏:‏ هل من ملجأ أو موئل‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ‏}‏ قال ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جُبَير، وغير واحد من السلف‏:‏ أي لا نجاة‏.‏

وهذه كقوله‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 47‏]‏ أي‏:‏ ليس لكم مكان تتنكرون فيه، وكذا قال هاهنا ‏{‏لا وَزَرَ‏}‏ أي‏:‏ ليس لكم مكان تعتصمون فيه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ‏}‏ أي‏:‏ المرجع والمصير‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ أي‏:‏ يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏ وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ أي‏:‏ هو شهيد على نفسه، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ‏}‏ يقول‏:‏ سمعُه وبصرُه ويداه ورجلاه وجوارحُه‏.‏

وقال قتادة‏:‏ شاهد على نفسه‏.‏ وفي رواية قال‏:‏ إذا شئت -والله- رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه، وكان يقال‏:‏ إن في الإنجيل مكتوبا‏:‏ يا ابن آدم، تُبصر القَذَاة في عين أخيك، وتترك الجِذْل في عينك لا تبصره‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ ولو جادل عنها فهو بصير عليها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ حجته‏.‏ وكذا قال ابن زيد، والحسن البصري، وغيرهم‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏

وقال قتادة، عن زرارة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ يقول‏:‏ لو ألقى ثيابه‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ولو أرخى ستوره، وأهل اليمن يسمون الستر‏:‏ المعذار‏.‏

والصحيح قول مجاهد وأصحابه، كقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏وكقوله ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال‏:‏ ‏{‏لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 52‏]‏ وقال ‏{‏وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 87‏]‏‏{‏فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 28‏]‏ وقولهم ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 25‏]‏

‏{‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ‏}‏

‏{‏كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ‏}‏

هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه‏.‏ فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بالقرآن، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ‏}‏ أي‏:‏ في صدرك، ‏{‏وَقُرْآنَهُ‏}‏ أي‏:‏ أن تقرأه، ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ‏}‏ أي‏:‏ إذا تلاه عليك الملك عن الله عز وجل، ‏{‏فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ أي‏:‏ فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك، ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ أي‏:‏ بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن، عن أبي عَوَانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه -قال‏:‏ فقال لي ابن عباس‏:‏ أنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه‏.‏ وقاللي سيعد‏:‏ وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه- فأنزل الله عز وجل ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏}‏ قال‏:‏ جمعه في صدرك، ثم تقرأه، ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ فاستمع له وأنصت، ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه‏.‏ وقد رواه البخاري ومسلم، من غير وجه، عن موسى بن أبي عائشة، به ولفظ البخاري‏:‏ فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى التيمي، حدثنا موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏}‏

وهكذا قال الشعبي، والحسن البصري، وقتادة، ومجاهد، والضحاك، وغير واحد‏:‏ إن هذه الآية نزلت في ذلك‏.‏

وقد روى ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه، فقال الله‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا‏}‏ أن نجمعه لك ‏{‏وَقُرْآنَهُ‏}‏ أن نقرئك فلا تنسى‏.‏

وقال ابن عباس وعطية العوفي‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ تبيين حلاله وحرامه‏.‏ وكذا قال قتادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ‏}‏ أي‏:‏ إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة ومخالفة ما أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم‏:‏ إنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة، وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ‏}‏ من النضارة، أي حسنة بَهِيَّة مشرقة مسرورة، ‏{‏إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ تراه عيانا، كما رواه البخاري، رحمه الله، في صحيحه‏:‏ ‏"‏إنكم سترون ربكم عَيَانا‏"‏‏.‏ وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة -وما في الصحيحين-‏:‏ أن ناسا قالوا‏:‏ يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏هل تُضَارُّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سَحَاب‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإنكم تَرَون ربكم كذلك‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عن جرير قال‏:‏ نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال‏:‏ ‏"‏إنكم تَرَون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا‏"‏ وفي الصحيحين عن أبي موسى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏جَنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فِضَّة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن‏"‏‏.‏ وفي أفراد مسلم، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا دخل أهلُ الجنة الجنة‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ تريدون شيئا أزيدكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ ألم تُبَيض وجوهنا‏؟‏ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة‏"‏‏.‏ ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وفي أفراد مسلم، عن جابر في حديثه‏:‏ ‏"‏إن الله يَتَجلَّى للمؤمنين يضحك‏"‏ -يعني في عرصات القيامة- ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عز وجل في العرصات، وفي روضات الجنات‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الملك بن أبجر، حدثنا ثُوَير بن أبي فاختة، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر إلى أزواجه وخدمه‏.‏ وإن أفضلهم منزلة لينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين‏"‏‏.‏ ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن شَبابة، عن إسرائيل، عن ثُوَير قال‏:‏ ‏"‏سمعت ابن عمر‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏ فذكره، قال‏:‏ ‏"‏ورواه عبد الملك بن أبجر، عن ثُوَير، عن مجاهد، عن ابن عمر، قوله‏"‏‏.‏ وكذلك رواه الثوري، عن ثُوَير، عن مجاهد، عن ابن عمر، لم يرفعه ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مَواضِعَ من هذا التفسير، وبالله التوفيق‏.‏ وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام‏.‏ وهُدَاة الأنام‏.‏

ومن تأول ذلك بأن المراد بــ ‏{‏إِلَى‏}‏ مفرد الآلاء، وهي النعم، كما قال الثوري، عن منصور، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ فقال تنتظر الثواب من ربها‏.‏ رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد‏.‏ وكذا قال أبو صالح أيضا -فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه‏.‏ وأين هو من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ‏}‏‏؟‏‏[‏المطففين‏:‏ 15‏]‏، قال الشافعي، رحمه الله‏:‏ ما حَجَب الفجار إلا وقد عَلم أن الأبرار يرونه عز وجل‏.‏ ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة، وهي قوله‏:‏ ‏{‏إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا آدم، حدثنا المبارك عن الحسن‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ حسنة، ‏{‏إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ قال تنظر إلى الخالق، وحُقّ لها أن تَنضُر وهي تنظر إلى الخالق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ‏}‏ هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة‏.‏ قال قتادة‏:‏ كالحة‏.‏ وقال السدي‏:‏ تغير ألوانها‏.‏ وقال ابن زيد ‏{‏بَاسِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ عابسة‏.‏

‏{‏تَظُنُّ‏}‏ أي‏:‏ تستيقن، ‏{‏أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ داهية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ شر‏.‏ وقال السدي‏:‏ تستيقن أنها هالكة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ تظن أن ستدخل النار‏.‏

وهذا المقام كقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ ‏[‏أل عمران‏:‏ 106‏]‏ وكقوله ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 38 -42‏]‏ وكقوله ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2 -10‏]‏ في أشباه ذلك من الآيات والسياقات‏.‏