فصل: تفسير الآيات رقم (17 - 30)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 30‏]‏

‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآَبًا لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاءً وِفَاقًا إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن يوم الفصل، وهو يوم القيامة، أنه مؤقت بأجل معدود، لا يزاد عليه ولا ينقص منه، ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله عز وجل، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏104‏]‏‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ زُمَرًا ‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ يعني تأتي كل أمة مع رسولها، كقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏31‏]‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا‏}‏ حدثنا محمد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما بين النفختين أربعون‏"‏‏.‏قالوا‏:‏ أربعون يومًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أبيتُ‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ أربعون شهرًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أبيت‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ أربعون سنة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أبيت‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ثم يُنزلُ الله من السماء ماء فينبتُونَ كما ينبتُ البقلُ، ليس من الإنسان شيءٌ إلا يَبلَى، إلا عظمًا واحدا، وهو عَجْبُ الذنَب، ومنه يُرَكَّبُ الخَلْقُ يومَ القيامة‏"‏‏.‏

‏{‏وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا‏}‏ أي‏:‏ طرقا ومسالك لنزول الملائكة، ‏{‏وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏88‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏5‏]‏‏.‏

وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏فَكَانَتْ سَرَابًا‏}‏ أي‏:‏ يخيل إلى الناظر أنها شيء، وليست بشيء، بعد هذا تَذهب بالكلية، فلا عين ولا أثر، كما قال‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏105 -107‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏47‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا‏}‏ أي‏:‏ مرصدة مُعَدّة، ‏{‏للِطَّاغِينَ‏}‏ وهم‏:‏ المَرَدة العصاة المخالفون للرسل، ‏{‏مَآبًا‏}‏ أي‏:‏ مرجعا ومنقلبا ومصيرا ونزلا‏.‏ وقال الحسن، وقتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا‏}‏ يعني‏:‏ أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار، فإن كان معه جواز نجا، وإلا احتبس‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ عليها ثلاث قناطر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا‏}‏ أي‏:‏ ماكثين فيها أحقابا، وهي جمع ‏"‏حقُب‏"‏، وهو‏:‏ المدة من الزمان‏.‏ وقد اختلفوا في مقداره‏.‏ فقال ابن جرير، عن ابن حميد، عن مِهْران، عن سفيان الثوري، عن عَمَّار الدّهنِي، عن سالم بن أبي الجعد قال‏:‏ قال علي بن أبي طالب لهلال الهَجَري‏:‏ ما تجدونَ الحُقْبَ في كتاب الله المنزل‏؟‏ قال‏:‏ نجده ثمانين سنة، كل سنة اثنا عشر شهرا، كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة‏.‏ وهكذا رُويَ عن أبي هُرَيرة، وعبد الله بن عَمرو، وابن عباس، وسعيد بن جُبَير، وعَمرو بن ميمون، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والضحاك‏.‏ وعن الحسن والسّدي أيضا‏:‏ سبعون سنة كذلك‏.‏ وعن عبد الله بن عمرو‏:‏ الحُقبُ أربعون سنة، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون‏.‏ رواهما ابن أبي حاتم‏.‏

وقال بُشَير بن كعب‏:‏ ذُكِر لي أن الحُقب الواحد ثلاثمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا ، كل يوم منها كألف سنة‏.‏ رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم‏.‏

ثم قال ابن أبي حاتم‏:‏ ذكر عن عُمَر بن علي بن أبي بكر الأسْفَذْنيّ‏:‏ حدثنا مروان بن معاوية الفَزَاري، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا‏}‏قال‏:‏ فالحقب ‏[‏ألف‏]‏ شهر، الشهر ثلاثون يوما، والسنة اثنا عشر شهرا، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون، فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة‏.‏ وهذا حديثٌ منكر جدًا، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك‏.‏

وقال البزار‏:‏ حدثنا محمد بن مِرْدَاس، حدثنا سليمان بن مسلم أبو المُعَلَّى قال‏:‏ سألت سليمان التيمي‏:‏ هل يخرج من النار أحد‏؟‏ فقال حدثني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ والحُقْب‏:‏ بضع وثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون‏.‏ ثم قال‏:‏ سليمان بن مسلم بصري مشهور‏.‏

وقال السّدي‏:‏ ‏{‏لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا‏}‏ سبعمائة حُقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا، كل يوم كألف سنة مما تعدون‏.‏ وقد قال مقاتل بن حَيّان‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا‏}‏

وقال خالد بن مَعْدان‏:‏ هذه الآية وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏107‏]‏ في أهل التوحيد‏.‏ رواهما ابن جرير‏.‏

ثم قال‏:‏ ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا‏}‏ متعلقًا بقوله‏:‏ ‏{‏لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا‏}‏ ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ونوع آخر‏.‏ ثم قال‏:‏ والصحيح أنها لا انقضاء لها، كما قال قتادة والربيع بن أنس‏.‏ وقد قال قبل ذلك‏.‏

حدثني محمد بن عبد الرحيم البَرْقِي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير، عن سالم‏:‏ سمعت الحسن يسأل عن قوله‏:‏ ‏{‏لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا‏}‏ قال‏:‏ أما الأحقاب فليس لها عِدّة إلا الخلود في النار، ولكن ذكروا أن الحُقبَ سبعون سنة، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون‏.‏

وقال سعيد، عن قتادة‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا‏}‏ وهو‏:‏ ما لا انقطاع له، كلما مضى حُقب جاء حقب بعده، وذكر لنا أن الحُقْب ثمانون سنة‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا‏}‏ لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله، ولكن الحُقْب الواحد ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم كألف سنة مما تعدون‏.‏ رواهما أيضا ابن جرير‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا‏}‏ أي‏:‏ لا يجدون في جَهنَّم بردًا لقلوبهم، ولا شرابا طيبا يتغذون به‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ استثنى من البرد الحميم ومن الشراب الغساق‏.‏ وكذا قال الربيع بن أنس‏.‏ فأما الحميم‏:‏ فهو الحار الذي قد انتهى حره وحُموه‏.‏ والغَسَّاق‏:‏ هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم، فهو بارد لا يستطاع من برده، ولا يواجه من نتنه‏.‏ وقد قدمنا الكلام على الغساق في سورة ‏"‏ص‏"‏ بما أغنى عن إعادته، أجارنا الله من ذلك، بمنه وكرمه‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا‏}‏ يعني‏:‏ النوم، كما قال الكندي‏:‏

بَرَدت مَرَاشفها عَلَيّ فصدّني *** عنها وَعَنْ قُبُلاتها، البَرْد

يعني بالبرد‏:‏ النعاس والنوم هكذا ذكره ولم يَعزُه إلى أحد‏.‏ وقد رواه ابن أبي حاتم، من طريق السدي، عن مرة الطيب‏.‏ ونقله عن مجاهد أيضا‏.‏ وحكاه البغوي عن أبي عُبَيدة، والكسائي أيضا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏جَزَاءً وِفَاقًا‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وَفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا‏.‏ قاله مجاهد، وقتادة، وغير واحد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا‏}‏ أي‏:‏ لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارًا يجازون فيها ويحاسبون، ‏{‏وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا‏}‏ أي‏:‏ وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله، فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كِذَّابًا‏}‏ أي‏:‏ تكذيبا، وهو مصدر من غير الفعل‏.‏ قالوا‏:‏ وقد سُمع أعرابي يستفتي الفَرّاءَ على المروة‏:‏ الحلقُ أحبّ إليك أو القِصار‏؟‏ وأنشد بعضهم‏:‏

لَقَد طالَ ما ثَبَّطتنِي عَن صَحَابَتِي *** وعن حوج قضاؤها مِن شفَائيا

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا‏}‏ أي‏:‏ وقد عَلِمنا أعمالَ العباد كلهم، وكتبناهم عليهم، وسنجزيهم على ذلك، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا‏}‏ أي‏:‏ يقال لأهل النار‏:‏ ذوقوا ما أنتم فيه، فلن نزيدكم إلا عذابًا من جنسهِ، ‏{‏وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏58‏]‏‏.‏

قال قتادة‏:‏ عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه‏:‏ ‏{‏فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا‏}‏ قال‏:‏ فهم في مزيد من العذاب أبدا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري، حدثنا خالد بن عبد

الرحمن، حدثنا جَسر بن فَرقد، عن الحسن قال‏:‏ سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار‏.‏ قال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ‏:‏ ‏{‏فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏هلك القوم بمعاصيهم الله عَزّ وجل‏"‏‏.‏ جسرُ‏}‏ بن فَرقد‏:‏ ضعيف الحديث بالكلية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 36‏]‏

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن السعداء وما أعد لهم تعالى من الكرامة والنعيم المقيم، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا‏}‏ قال ابن عباس والضحاك‏:‏ متنزها‏.‏ وقال مجاهد، وقتادة‏:‏ فازوا، فنجوا من النار‏.‏ الأظهر هاهنا قولُ بن عباس؛ لأنه قال بعده‏:‏ ‏{‏حَدَائِقَ‏}‏ وهي البساتين من النخيل وغيرها ‏{‏وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا‏}‏ أي‏:‏ وحورًا كواعب‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد، وغير واحد‏:‏ ‏{‏كواعب‏}‏ أي‏:‏ نواهد، يعنون أن ثُدُيَّهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكار عُرُب أتراب، أي‏:‏ في سن واحدة، كما تقدم بيانه في سورة ‏"‏الواقعة‏"‏‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن الدّشتكيّ، حدثني أبي، عن أبي سفيان عبد الرحمن بن عبد رب بن تيم اليشكرى، حدثنا عطية بن سليمان أبو الغيث، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن أبي القاسم الدمشقي، عن أبي أمامة‏:‏ أنه سمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن قُمُص أهل الجنة لتبدو من رضوان الله، وإن السحابة لتمر بهم فتناديهم‏:‏ يا أهل الجنة، ماذا تريدون أن أمطركم‏؟‏ حتى إنها لتمطرهم الكواعب الأتراب‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَأْسًا دِهَاقًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ مملوءة متتابعة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ صافية‏.‏ وقال مجاهد، والحسن وقتادة، وابن زيد‏:‏ ‏{‏دهاقا‏}‏ الملأى المترعة‏.‏ وقال مجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ هي المتتابعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 23‏]‏ أي‏:‏ ليس فيها كلام لاغٍ عَارٍ عن الفائدة، ولا إثم كذب، بل هي دار السلام، وكل ما فيها سالم من النقص‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به وأعطاهموه، بفضله ومَنِّه وإحسانه ورحمته؛ ‏{‏عَطَاءً حِسَابًا‏}‏ أي‏:‏ كافيًا وافرًا شاملا كثيرًا؛ تقول العرب‏:‏ ‏"‏أعطاني فأحسبني‏"‏ أي‏:‏ كفاني‏.‏ ومنه ‏"‏حسبي الله‏"‏، أي‏:‏ الله كافيّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37 - 40‏]‏

‏{‏رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا‏}‏

يخبر تعالى عن عظمته وجلاله، وأنه رب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا‏}‏ أي‏:‏ لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه، كقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ‏}‏ اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا، ما هو‏؟‏ على أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ رواه العوفي، عن ابن عباس‏:‏ أنهم أرواح بني آدم‏.‏

الثاني‏:‏ هم بنو آدم‏.‏ قاله الحسن، وقتادة، وقال قتادة‏:‏ هذا مما كان ابن عباس يكتمه‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم خَلق من خلق الله، على صُور بني آدم، وليسوا بملائكة ولا ببشر، وهم يأكلون ويشربون‏.‏ قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو صالح والأعمش‏.‏

الرابع‏:‏ هو جبريل‏.‏ قاله الشعبي، وسعيد بن جبير، والضحاك‏.‏ ويستشهد لهذا القول بقوله‏:‏ ‏{‏نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193، 194‏]‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ الروح‏:‏ أشرف الملائكة، وأقرب إلى الرب عز وجل، وصاحب الوحي‏.‏

والخامس‏:‏ أنه القرآن‏.‏ قاله ابن زيد، كقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏

والسادس‏:‏ أنه ملك من الملائكة بقدر جميع المخلوقات؛ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ‏}‏ قال‏:‏ هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقًا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا رَواد بن الجراح، عن أبيحمزة، عن الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود قال‏:‏ الروح‏:‏ في السماء الرابعة هو أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة، يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يخلق الله من كل تسبيحة مَلَكًا من الملائكة يجيء يوم القيامة صفًا وحده، وهذا قول غريب جدًا‏.‏

وقد قال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن عرْس المصري، حدثنا وهب ‏[‏الله بن رزق أبو هريرة، حدثنا بشر بن بكر‏]‏ ، حدثنا الأوزاعي، حدثني عطاء، عن عبد الله بن عباس‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن لله ملكا لو قيل له‏:‏ التقم السماوات السبع والأرضين بلقمة واحدة، لفعل، تسبيحه‏:‏ سبحانك حيث كنت‏"‏‏.‏

وهذا حديث غريب جدًا، وفي رفعه نظر، وقد يكون موقوفًا على ابن عباس، ويكون مما تلقاه من الإسرائيليات، والله أعلم‏.‏

وتَوَقَّفَ ابنُ جرير فلم يقطَع بواحد من هذه الأقوال كلها، والأشبه -والله أعلم- أنهم بنو آدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏‏.‏ وكما ثبت في الصحيح‏:‏ ‏"‏ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل‏"‏‏.‏

وقوله ‏{‏وَقَالَ صَوَابًا‏}‏ أي‏:‏ حقا، ومن الحق‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏، كما قاله أبو صالح، وعكرمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ‏}‏ أي‏:‏ الكائن لا محالة، ‏{‏فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا‏}‏ أي‏:‏ مرجعا وطريقا يهتدي إليه ومنهجا يمر به عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة لتأكد وقوعه صار قريبا، لأن كل ما هو آت آت‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ أي‏:‏ يعرض عليه جميع أعماله، خيرها وشرها، قديمها وحديثها، كقوله‏:‏ ‏{‏وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏‏.‏

‏{‏وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا‏}‏ أي‏:‏ يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا ترابا، ولم يكن خُلِقَ، ولا خرج إلى الوجود‏.‏ وذلك حين عاين عذاب الله، ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سُطَّرت عليه بأيدي الملائكة السَّفَرة الكرام البَرَرة، وقيل‏:‏ إنما يود ذلك حين يحكم الله بينالحيوانات التي كانت في الدنيا، فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور، حتى إنه ليقتص للشاة الجمَّاء من القرناء‏.‏ فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها‏:‏ كوني ترابا، فتصير ترابا‏.‏ فعند ذلك يقول الكافر‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا‏}‏ أي‏:‏ كنت حيوانا فأرجع إلى التراب‏.‏ وقد ورد معنى هذا في حديث الصّور المشهور وورد فيه آثار عن أبي هُرَيرة، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما‏.‏

‏[‏آخر تفسير سورة ‏"‏عم‏"‏ ‏]‏

تفسير سورة النازعات

وهي مكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 14‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ‏}‏

قال ابن مسعود وابن عباس، ومسروق، وسعيد بن جبير، وأبو صالح، وأبو الضحى، والسُّدي‏:‏ ‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا‏}‏ الملائكة، يعنون حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعُنف فَتُغرق في نزعها، و‏[‏منهم‏]‏ من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حَلَّته من نشاط، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا‏}‏ قاله ابن عباس‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏والنازعات‏}‏ هي أنفس الكفار، تُنزع ثم تُنشَط، ثم تغرق في النار‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا‏}‏ الموت‏.‏وقال الحسن، وقتادة‏:‏ ‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا‏}‏ هي النجوم‏.‏

وقال عَطَاءُ بنُ أبي رَباح في قوله‏:‏ ‏{‏والنازعات‏}‏ و‏{‏الناشطات‏}‏ هي القسيّ في القتال‏.‏ والصحيح الأول، وعليه الأكثرون‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا‏}‏ فقال ابن مسعود‏:‏ هي الملائكة‏.‏ ورُوي عن علي، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وأبي صالح مثلُ ذلك‏.‏

وعن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا‏}‏ الموت‏.‏وقال قتادة‏:‏ هي النجوم‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ هي السفن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا‏}‏ رُوي عن علي، ومسروق، ومجاهد، وأبي صالح، والحسن البصري‏:‏ يعني الملائكة؛ قال الحسن‏:‏ سبقت إلى الإيمان والتصديق به‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ الموت‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هي النجوم وقال عطاء‏:‏ هي الخيل في سبيل الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا‏}‏ قال علي، ومجاهد، وعطاء، وأبو صالح، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي‏:‏ هي الملائكة- زاد الحسن‏:‏ تدبر الأمر من السماء إلى الأرض‏.‏ يعني‏:‏ بأمر ربها عز وجل‏.‏ ولم يختلفوا في هذا، ولم يقطع ابن جرير بالمراد في شيء من ذلك، إلا أنه حكى في ‏{‏فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا‏}‏ أنها الملائكة، ولا أثبت ولا نفى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ‏}‏ قال ابن عباس هما النفختان الأولى والثانية‏.‏ وهكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغير واحد‏.‏

وعن مجاهد‏:‏ أما الأولى- وهي قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ‏}‏ -فكقوله جلت عظمته‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 14‏]‏، والثانية- وهي الرادفة- فهي كقوله‏:‏ ‏{‏وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقد قال الإمام أحمد حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه‏"‏‏.‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إذًا يكفيك الله ما أهَمَّك من دنياك وآخرتك‏"‏‏.‏

وقد رواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث سفيان الثوري، بإسناده مثله ولفظ الترمذي وابن أبي حاتم‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني خائفة‏.‏ وكذا قال مجاهد، وقتادة‏.‏

‏{‏أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ‏}‏ أي‏:‏ أبصار أصحابها‏.‏ وإنما أضيف إليها؛ للملابسة، أي‏:‏ ذليلة حقيرة؛ مما عاينت من الأهوال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ مشركي قريش ومن قال بقولهم في إنكار المعاد، يستبعدون وقوعَ البعث بعد المصير إلى الحافرة، وهي القبور، قاله مجاهد‏.‏ وبعد تمزق أجسادهم وتفتت عظامهم ونخورها؛ ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً‏}‏‏؟‏ وقرئ‏:‏ ‏"‏ناخرة‏"‏‏.‏

وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏:‏ أي بالية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وهو العظم إذا بلي ودَخَلت

الريح فيه‏.‏ ‏{‏قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ‏}‏ وعن ابن عباس، ومحمد بن كعب، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي مالك، والسدي، وقتادة‏:‏ الحافرة‏:‏ الحياة بعد الموت‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الحافرة‏:‏ النار‏.‏ وما أكثر أسمائها‏!‏ هي النار، والجحيم، وسقر، وجهنم، والهاوية، والحافرة، ولظى، والحُطَمة‏.‏

وأما قولهم‏:‏ ‏{‏تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ‏}‏ فقال محمد بن كعب‏:‏ قالت قريش‏:‏ لئن أحيانا الله بعد أن نموت لنخسرن‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ فإنما هو أمر من الله لا مثنوية فيه ولا تأكيد، فإذا الناس قيام ينظرون، وهو أن يأمر تعالى إسرافيلَ فينفخ في الصور نفخَة البعث، فإذا الأولون والآخرون قيامٌ بين يَدَي الربّ عز وجل ينظرون، كما قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 52‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 50‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 77‏]‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ‏}‏ صيحة واحدة‏.‏

وقال إبراهيم التيمي‏:‏ أشد ما يكون الرب غَضَبًا على خلقه يوم يبعثهم‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ زجرة من الغضب‏.‏ وقال أبو مالك، والربيع بن أنس‏:‏ زجرة واحدة‏:‏ هي النفخة الآخرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏بِالسَّاهِرَة‏}‏ الأرض كلها‏.‏ وكذا قال سعيد بن جُبَير، وقتادة، وأبو صالح‏.‏

وقال عكرمة، والحسن، والضحاك، وابن زيد‏:‏ ‏{‏بِالسَّاهِرَة‏}‏ وجه الأرض‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاها‏.‏ قال‏:‏ و‏{‏بِالسَّاهِرَة‏}‏ المكان المستوي‏.‏

وقال الثوري‏:‏ ‏{‏بِالسَّاهِرَة‏}‏ أرض الشام، وقال عثمان بن أبي العاتكة‏:‏ ‏{‏بِالسَّاهِرَة‏}‏ أرض بيت المقدس‏.‏ وقال وهب بن مُنَبه‏:‏ ‏{‏الساهرة‏}‏ جبل إلى جانب بيت المقدس‏.‏ وقال قتادة أيضا‏:‏ ‏{‏بِالسَّاهِرَة‏}‏ جهنم‏.‏

وهذه أقوال كلها غريبة، والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا خَزَر بن المبارك الشيخ الصالح، حدثنا بشر بن السري، حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ قال‏:‏ أرض بيضاء عفراء خالية كالخُبزَة النَّقِيّ‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ ويقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏، ويقول‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 105، 106‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏‏:‏ وبرزت الأرض التي عليها الجبال، وهي لا تعد من هذه الأرض، وهي أرض لم يعمل عليها خطيئة، ولم يَهرَاق عليها دم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 26‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى‏}‏

يخبر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم عن عبده ورسوله موسى، عليه السلام، أنه ابتعثه إلى فرعون، وأيده بالمعجزات، ومع هذا استمر على كفره وطغيانه، حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر‏.‏ وكذلك عاقبة من خالفك وكذب بما جئت به؛ ولهذا قال في آخر القصة‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى‏}‏

فقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ هل سمعت بخبره‏؟‏ ‏{‏إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ‏}‏ أي‏:‏ كلمه نداء، ‏{‏بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ‏}‏ أي‏:‏ المطهر، ‏{‏طُوًى‏}‏ وهو اسم الوادي على الصحيح، كما تقدم في سورة طه‏.‏ فقال له‏:‏ ‏{‏اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى‏}‏ أي‏:‏ تجبر وتمرد وعتا، ‏{‏فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ قل له هل لك أن تجيب إلى طريقة ومسلك تَزكَّى به، أي‏:‏ تسلم وتطيع‏.‏ ‏{‏وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ‏}‏ أي‏:‏ أدلك إلى عبادة ربك، ‏{‏فَتَخْشَى‏}‏ أي‏:‏ فيصير قلبك خاضعا له مطيعا خاشيا بعدما كان قاسيا خبيثا بعيدا من الخير‏.‏ ‏{‏فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى‏}‏ يعني‏:‏ فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قويةً، ودليلا واضحا على صدق ما جاءه به من عند الله، ‏{‏فَكَذَّبَ وَعَصَى‏}‏ أي‏:‏ فكذب بالحق وخالف ما أمره به من الطاعة‏.‏ وحاصلُه أنه كَفَر قلبُه فلم ينفعل لموسى بباطنه ولا بظاهره، وعلمُهُ بأن ما جاء به أنه حق لا يلزم منه أنه مؤمن به؛ لأن المعرفة علمُ القلب، والإيمان عمله، وهو الانقياد للحق والخضوع له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى‏}‏ أي‏:‏ في مقابلة الحق بالباطل، وهو جَمعُهُ السحرة ليقابلوا ما جاء به موسى، عليه السلام، من المعجزة الباهرة، ‏{‏فَحَشَرَ فَنَادَى‏}‏ أي‏:‏ في قومه، ‏{‏فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ بأربعين سنة‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى‏}‏ أي‏:‏ انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا، ‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 99‏]‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 41‏]‏‏.‏ هذا هو الصحيح في معنى الآية، أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى‏}‏ أي‏:‏ الدنيا والآخرة، وقيل‏:‏ المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية‏.‏ وقيل‏:‏ كفره وعصيانه‏.‏ والصحيح الذي لا شك فيه الأول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى‏}‏ أي‏:‏ لمن يتعظ وينزجر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27 - 33‏]‏

‏{‏أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ‏}‏

يقول تعالى محتجًا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه‏:‏ ‏{‏أَأَنْتُمْ‏}‏ أيها الناس ‏{‏أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ بل السماءُ أشدّ خلقًا منكم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{‏بَنَاهَا‏}‏ فسره بقوله‏:‏ ‏{‏رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا‏}‏ أي‏:‏ جعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا‏}‏ أي‏:‏ جعل ليلها مظلمًا أسود حالكا، ونهارها مضيئا مشرقا نيرا واضحا‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ أغطش ليلها‏:‏ أظلمه‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وجماعة كثيرون‏.‏ ‏{‏وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا‏}‏ أي‏:‏ أنار نهارها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا‏}‏ فسره بقوله‏:‏ ‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا‏}‏ وقد تقدم في سورة ‏"‏حم السجدة‏"‏ أن الأرض خلقت قبل السماء، ولكن إنما دُحيت بعد خلق السماء، بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل‏.‏ وهذا معنى قول ابن عباس، وغير واحد، واختاره ابن جرير‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا عبيد الله- يعني ابن عمرو- عن زيد بن أبي أنيسة، عن المِنْهال بن عَمْرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏دَحَاهَا‏}‏ وَدَحْيها أن أخرج منها الماء والمرعى، وشقق ‏[‏فيها‏]‏ الأنهار، وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا‏}‏ وقد تقدم تقرير ذلك هنالك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا‏}‏ أي‏:‏ قررها وأثبتها وأكَّدها في أماكنها، وهو الحكيم العليم، الرءوف بخلقه الرحيم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حَوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لما خلق الله الأرض جعلت تَمِيد، فخلق الجبال فألقاها عليها، فاستقرت فتعجبت الملائكةُ من خلق الجبال فقالت‏:‏ يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال‏؟‏ قال نعم، الحديد‏.‏ قالت‏:‏ يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد‏؟‏ قال‏:‏ نعم، النار‏.‏ قالت‏:‏ يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من النار‏؟‏ قال‏:‏ نعم، الماء‏.‏ قالت‏:‏ يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء‏؟‏ قال‏:‏ نعم، الريح‏.‏ قالت‏:‏ يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ابن آدم، يتصدق بيمينه يخفيها من شماله‏"‏‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثنا ابنُ حميد، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ، عن علي قال‏:‏ لما خلق الله الأرض قمصت وقالت‏:‏ تخلق عَلَيّ آدم وذريته، يلقون علي نتنهم ويعملون عَلَيّ بالخطايا، فأرساها الله بالجبال، فمنها ما ترون، ومنها ما لا ترون، وكان أول قَرَار الأرض كلحم الجزور إذا نحِر، يختلج لحمه‏.‏ غريب‏.‏

وقوله ‏{‏مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ دحا الأرض فأنبع عيونها، وأظهر مكنونها، وأجرى أنهارها، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها، وثبت جبالها، لتستقر بأهلها ويقر قرارها، كل ذلك متاعا لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار إلى أن ينتهي الأمد، وينقضي الأجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 46‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى‏}‏ وهو يوم القيامة‏.‏ قاله ابن عباس، سميت بذلك لأنها تَطُم على كل أمر هائل مفظع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 46‏]‏‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى‏}‏ أي‏:‏ حينئذ يتذكرُ ابنُ آدم جميع عمله خيره وشره، كما قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

‏{‏وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى‏}‏ أي‏:‏ أظهرت للناظرين فرآها الناس عيانا، ‏{‏فَأَمَّا مَنْ طَغَى‏}‏ أي‏:‏ تَمَرّد وعتا، ‏{‏وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ قدمها على أمر دينه وأخراه، ‏{‏فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى‏}‏ أي‏:‏ فإن مصيرَه إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم، ومشربه من الحميم‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏}‏ أي‏:‏ خاف القيام بين يدي الله عز وجل، وخاف حُكْمَ الله فيه، ونهى نفسه عن هواها، ورَدها إلى طاعة مولاها ‏{‏فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى‏}‏ أي‏:‏ منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا‏}‏ أي‏:‏ ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق، بل مَردها ومَرجعها إلى الله عز وجل، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين، ‏{‏ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏، وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا‏}‏ ولهذا لما سأل جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة قال‏:‏ ‏"‏ما المسئول عنها بأعلم من السائل‏"‏‏.‏‏.‏

وقوله ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا‏}‏ أي‏:‏ إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه ، فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده، اتبعك فأفلح وأنجح، والخيبة والخسار على من كذبك وخالفك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ أي‏:‏ إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مُدّة الحياة الدنيا، حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضُحى من يوم‏.‏

قال جُويْبر، عن الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ أما عَشِيَّة‏:‏ فما بين الظهر إلى غروب الشمس، ‏{‏أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار‏.‏ وقال قتادة‏:‏ وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة‏.‏

‏[‏آخر تفسير سورة ‏"‏النازعات‏"‏‏]‏ ‏[‏ولله الحمد والمنة‏]‏

تفسير سورة عبس

وهي مكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 16‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏}‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى‏}‏ ذكر غيرُ واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطبُ بعض عظماء قريش، وقد طَمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابنُ أم مكتوم- وكان ممن أسلم قديما- فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلح عليه، وودَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعا ورغبة في هدايته‏.‏ وعَبَس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله عز وجل‏:‏ أي‏:‏ تتشاغل‏.‏ ومن هاهنا أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يخص بالإنذار أحدًا، بل يساوى فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار‏.‏ ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة‏.‏

قال الحافظ أبو يعلى في مسنده‏:‏ حدثنا محمد- هو ابن مهدي- حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة ‏[‏عن أنس‏]‏ في قوله‏:‏ ‏(‏عَبَسَ وَتَوَلَّى‏)‏ جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبي بن خلف، فأعرض عنه، فأنزل الله‏:‏ ‏(‏عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى‏)‏‏}‏ فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه‏.‏

قال قتادة‏:‏ وأخبرني أنس بن مالك قال‏:‏ رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء-

يعني ابن أم مكتوم‏.‏ ‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى‏}‏ وقال أبو يعلى وابن جرير‏:‏ حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثني أبي، عن هشام بن عروة مما عرضه عليه عن عُرْوَة، عن عائشة قالت‏:‏ أنزلت‏:‏ ‏(‏عَبَسَ وَتَوَلَّى‏)‏ في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول‏:‏ أرشدني‏.‏ قالت‏:‏ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين‏.‏ قالت‏:‏ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول‏:‏ ‏"‏أترى بما أقول بأسا‏؟‏‏"‏‏.‏ فيقول‏:‏ لا‏.‏ ففي هذا أنزلت‏:‏ ‏(‏عَبَسَ وَتَوَلَّى‏)‏‏.‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى‏}‏ وقد روى الترمذي هذا الحديث، عن سعيد بن يحيى الأموي، بإسناده، مثله، ثم قال‏:‏ وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ أنزلَت ‏(‏عَبَسَ وَتَوَلَّى‏)‏ في ابن أم مكتوم، ولم يذكر فيه عن عائشة‏.‏ قلت‏:‏ كذلك هو في الموطأ‏.‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى‏}‏ ثم روى ابن جرير وابن أبي حاتم أيضا من طريق العوفي، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏(‏عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى‏)‏ قال‏:‏ بينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبةَ بن ربيعة، وأبا جهل بنَ هشام، والعباس بن عبد المطلب- وكان يتصدى لهم كثيرا، ويحرص عليهم أن يؤمنوا- فأقبل إليه رجل أعمى- يقال له عبد الله بن أم مكتوم- يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن، وقال‏:‏ يا رسول الله، علمنى مما علمك الله‏.‏ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبس في وجهه، وتولى وكَرهَ كَلامَه، وأقبل على الآخرين، فلما قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نجواه، وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره، ثم خَفَق برأسه، ثم أنزل الله‏:‏ ‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى‏}‏ فلما نزل فيه ما نزل، أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما حاجتك‏؟‏ هل تريد من شيء‏؟‏ ‏"‏ وإذا ذهب من عنده قال‏:‏ ‏"‏هل لك حاجة في شيء‏؟‏‏"‏‏.‏ وذلك لما أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى‏}‏‏.‏

فيه غرابة ونكارة، وقد تُكُلّم في إسناده‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن منصور الرّمادي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثنا يونس، عن ابن شهاب قال‏:‏ قال سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر‏:‏ ‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى‏}‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم‏"‏‏.‏ وهو الأعمى الذي أنزل الله فيه‏:‏ ‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى‏}‏ وكان يؤذن مع بلال‏.‏ قال سالم‏:‏ وكان رَجُلا ضريرَ البصر، فلم يك يؤذن حتى يقول له الناس- حين ينظرون إلى بزوغ الفجر-‏:‏ أذَّن‏.‏

وهكذا ذكر عروة بن الزبير، ومجاهد، وأبو مالك، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وغير واحد من السلف والخلف‏:‏ أنها نزلت في ابن أم مكتوم‏.‏ والمشهور أن اسمه عبد الله، ويقال‏:‏ عمرو‏.‏ والله أعلم‏.‏

‏{‏كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ هذه السورة، أو الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم من ‏(‏3 - وقوله‏:‏ ‏{‏كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ هذه السورة، أو الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم من شريفهم ووضيعهم‏.‏

وقال قتادة والسدي‏:‏ ‏(‏كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ‏)‏ يعني‏:‏ القرآن، ‏(‏فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ‏)‏ أي‏:‏ فمن شاء ذكر الله في جميع أموره‏.‏ ويحتمل عود الضمير على الوحي؛ لدلالة الكلام عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ‏)‏ أي‏:‏ هذه السورة أو العظة، وكلاهما متلازم، بل جميع القرآن ‏(‏فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ‏)‏ أي‏:‏ معظمة موقرة ‏(‏مَرْفُوعَةٍ‏)‏ أي‏:‏ عالية القدر، ‏(‏مُطَهَّرَةٍ‏)‏ أي‏:‏ من الدنس والزيادة والنقص‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بِأَيْدِي سَفَرَةٍ‏)‏ قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد‏:‏ هي الملائكة‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة‏:‏ هم القراء‏.‏ وقال ابن جريج، عن ابن عباس‏:‏ السفرة بالنبطية‏:‏ القراء‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ الصحيح أن السفرة الملائكة، والسفرة يعني بين الله وبين خلقه، ومنه يقال‏:‏ السفير‏:‏ الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير، كما قال الشاعر‏:‏

ومَا أدَعُ السّفَارَة بَين قَومي *** وَما أمْشي بغش إن مَشَيت

وقال البخاري‏:‏ سَفَرةٌ‏:‏ الملائكة‏.‏ سَفرت‏:‏ أصلحت بينهم‏.‏ وجعلت الملائكةُ إذا نزلت بوَحْي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏)‏ أي‏:‏ خُلقهم كريم حَسَنٌ شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة‏.‏ ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا هشام، عن قتادة، عن زُرَارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران‏"‏‏.‏ أخرجه الجماعة من طريق قتادة، به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 42‏]‏

‏{‏قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ‏}‏

يقول تعالى ذاما لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم‏:‏ ‏(‏قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ‏)‏ قال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏قُتِلَ الإنْسَانُ‏)‏ لعن الإنسان‏.‏ وكذا قال أبو مالك‏.‏ وهذا لجنس الإنسان المكذب؛ لكثرة تكذيبه بلا مستند، بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم‏.‏

قال ابن جرير ‏(‏مَا أَكْفَرَهُ‏)‏ ما أشد كفره‏!‏ وقال ابن جرير‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد‏:‏ أي شيء جعله كافرا‏؟‏ أي‏:‏ ما حمله على التكذيب بالمعاد‏.‏

وقال قتادة- وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي-‏:‏ ‏(‏مَا أَكْفَرَهُ‏)‏ ما ألعنه‏.‏

‏{‏مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ‏}‏ أي‏:‏ قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد‏.‏ ‏(‏ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ‏)‏ قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه‏.‏ وكذا قال عكرمة، والضحاك، وأبو صالح، وقتادة، والسدي، واختاره ابن جرير ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير، وأنه قادر على إعادته كما بدأه، فقال‏:‏ ‏{‏مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ‏}‏ أي‏:‏ قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد‏.‏ ‏{‏ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ‏}‏ قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه‏.‏ وكذا قال عكرمة، والضحاك، وأبو صالح، وقتادة، والسدي، واختاره ابن جرير‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هذه كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ أي‏:‏ بينا له ووضحناه وسهلنا عليه عمله وهكذا قال الحسن، وابن زيد‏.‏ وهذا هو الأرجح والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ‏}‏ أي‏:‏ إنه بعد خلقه له ‏{‏أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ‏}‏ أي‏:‏ جعله ذا قبر‏.‏ والعرب تقول‏:‏ ‏"‏قبرت الرجل‏"‏‏:‏ إذا ولى ذلك منه، وأقبره الله‏.‏ وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله، وبترت ذنب البعير وأبتره الله‏.‏ وطردت عني فلانا، وأطرده الله، أي‏:‏ جعله طريدا قال الأعشى‏:‏

لَو أسْنَدَتْ مَيتًا إلى نَحْرها *** عَاش، وَلم يُنقَل إلى قَابِر

وقوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ‏)‏ أي‏:‏ بعثه بعد موته، ومنه يقال‏:‏ البعث والنشور، ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 20‏]‏، ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أصبغُ بنُ الفَرج، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث‏:‏ أن دراجا أبا السمح أخبره، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يأكل الترابُ كلَّ شيء من الإنسان إلا عَجْبُ ذَنَبه قيل‏:‏ وما هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏مثل حبة خردل منه ينشئون‏"‏‏.‏

وهذا الحديث ثابت في الصحيح من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بدون هذه الزيادة، ولفظه‏:‏ ‏"‏كل ابن آدم يَبْلى إلا عَجْبُ الذَّنَب، منه خلق وفيه يُركَّب‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ‏)‏ قال ابن جرير‏:‏ يقول‏:‏ كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر؛ من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله، ‏(‏لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ‏)‏ يقول‏:‏ لم يُؤد ما فُرض عليه من الفرائض لربه عز وجل‏.‏

كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ‏)‏ قال‏:‏ لا يقضي أحد أبدا كل ما افتُرض عليه‏.‏ وحكاه البغوي، عن الحسن البصري، بنحو من هذا‏.‏ ولم أجد للمتقدمين فيه كَلامًا سوى هذا‏.‏ والذي يقع لي في معنى ذلك- والله أعلم- أن المعنى‏:‏ ‏(‏ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ‏)‏ أي‏:‏ بعثه، ‏(‏كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ‏)‏ ‏[‏أي‏]‏ ‏(‏4 - ثم روى- هو وابن أبي حاتم- من طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قوله‏:‏ ‏(‏كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ‏)‏ قال‏:‏ لا يقضي أحد أبدا كل ما افتُرض عليه‏.‏ وحكاه البغوي، عن الحسن البصري، بنحو من هذا‏.‏ ولم أجد للمتقدمين فيه كَلامًا سوى هذا‏.‏ والذي يقع لي في معنى ذلك- والله أعلم- أن المعنى‏:‏ ‏(‏ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ‏)‏ أي‏:‏ بعثه، ‏(‏كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ‏)‏ ‏[‏أي‏]‏ لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى له أن سيُوجَدُ منهم، ويخرج إلى الدنيا، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا، فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم‏.‏

وقد روى ابنُ أبي حاتم، عن وهب بن مُنَبّه قال‏:‏ قال عُزَير، عليه السلام‏:‏ قال الملك الذي جاءني‏:‏ فإن القبور هي بطنُ الأرض، وإن الأرض هي أم الخلق، فإذا خلق الله ما أراد أن يخلق وتمت هذه القبورُ التي مَدّ الله لها، انقطعت الدنيا ومات من عليها، ولفظت الأرض ما في جوفها، وأخرجت القبورُ ما فيها، وهذا شبيه بما قلنا من معنى الآية، والله -سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ‏)‏ فيه امتنان، وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعدما كانت عَظَاما بالية وترابا متمزقا، ‏(‏أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا‏)‏ أي‏:‏ أنزلناه من السماء على الأرض، ‏(‏ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا‏)‏‏}‏ أي‏:‏ أسكناه فيها فدخل في تُخُومها وتَخَلَّل في ‏{‏فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا‏}‏ أجزاء الحب المودعَ فيها فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض، فالحب‏:‏ كل ما يذكر من الحبوب، والعنب معروف والقضب هو‏:‏ الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة‏.‏ ويقال لها‏:‏ القَتّ أيضا قال ذلك ابن عباس، وقتادة، والضحاك‏.‏ والسدي‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ القضب العلف‏.‏

‏{‏وَزَيْتُونًا‏}‏ ‏(‏وَزَيْتُونًا‏)‏ وهو معروف، وهو أدْمٌ وعصيره أدم، ويستصبح به، ويدهن به‏.‏ ‏{‏وَنَخْلا‏}‏ يؤكل بلحا بسرا، ورطبا، وتمرا، ونيئا، ومطبوخا، ويعتصر منه رُبٌّ وخل‏.‏ ‏{‏وَحَدَائِقَ غُلْبًا‏}‏ أي‏:‏ بساتين‏.‏ قال الحسن، وقتادة‏:‏ ‏{‏غُلْبًا‏}‏ نخل غلاظ كرام‏.‏ وقال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ ‏"‏الحدائق‏"‏‏:‏ كل ما التف واجتمع‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ ‏{‏غُلْبًا‏}‏ الشجر الذي يستظل به‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَحَدَائِقَ غُلْبًا‏}‏ أي‏:‏ طوال‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏غُلْبًا‏}‏ أي‏:‏ غلاظ الأوساط‏.‏ وفي رواية‏:‏ غلاظ الرقاب، ألم تر إلى الرجل إذا كان غليظ الرقبة قيل‏:‏ والله إنه لأغلب‏.‏ رواه ابن أبي حاتم، وأنشد ابن جرير للفرزدق‏:‏

عَوَى فَأثارَ أغلبَ ضَيْغَمِيًا *** فَويلَ ابن المَراغَة ما استَثَارا

‏{‏وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ أما الفاكهة فهو ما يتفكه به من الثمار‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الفاكهة‏:‏ كل ما أكل رطبا‏.‏ والأبّ ما أنبتت الأرض، مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس- وفي رواية عنه‏:‏ هو الحشيش للبهائم‏.‏ وقال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو مالك‏:‏ الأب‏:‏ الكلأ‏.‏ وعن مجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد‏:‏ الأب للبهائم كالفاكهة لبني آدم‏.‏ وعن عطاء‏:‏ كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أبٌّ‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كل شيء أنبتته الأرض سوى الفاكهة فهو أبٌّ‏.‏

وقال ابن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس‏:‏ الأب‏:‏ نبت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس‏.‏ ورواه ابن جرير من ثلاث طرق، عن ابن إدريس، ثم قال‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، حدثنا عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ عدّ ابن عباس وقال‏:‏ الأب‏:‏ ما أنبتت الأرض للأنعام‏.‏ هذا لفظ أبي كريب، وقال أبو السائب‏:‏ ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس وتأكل الأنعام‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ الأب‏:‏ الكلأ والمرعى‏.‏ وكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد، وغير واحد‏.‏

‏{‏وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ وقال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا العوام بن حَوشَب، عن إبراهيم التَّيمي قال‏:‏ سُئِلَ أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ فقال‏:‏ أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم‏.‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى‏}‏ وهذا منقطع بين إبراهيم التيمي والصديق‏.‏ فأما ما رواه ابن جرير حيث قال‏:‏ حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا حُمَيد، عن أنس قال‏:‏ قرأ عمر بن الخطاب ‏(‏عَبَسَ وَتَوَلَّى‏)‏ فلما أتي على هذه الآية‏:‏ ‏(‏وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏)‏ قال‏:‏ عرفنا ما الفاكهة، فما الأب‏؟‏ فقال‏:‏ لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف‏.‏

‏{‏فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏}‏ فهو إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن أنس، به‏.‏ وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض، لقوله‏:‏

وقوله‏:‏ ‏(‏مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ‏)‏ أي‏:‏ عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33 - 42‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ‏}‏

‏{‏الصَّاخَّةُ‏}‏ اسم من أسماء يوم القيامة، عظمه الله، وحَذّره عباده‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ لعله اسم للنفخة في الصور‏.‏ وقال البَغَويّ‏:‏ ‏(‏الصَّاخَّةُ‏)‏ يعني صيحة القيامة؛ سميت بذلك لأنها تَصُخّ الأسماع، أي‏:‏ تبالغ في إسماعها حتى تكاد تُصمّها قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏الصَّاخَّةُ‏}‏ اسم من أسماء يوم القيامة، عظمه الله، وحَذّره عباده‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ لعله اسم للنفخة في الصور‏.‏ وقال البَغَويّ‏:‏ ‏{‏الصَّاخَّةُ‏}‏ يعني صيحة القيامة؛ سميت بذلك لأنها تَصُخّ الأسماع، أي‏:‏ تبالغ في إسماعها حتى تكاد تُصمّها‏.‏

قال عكرمة‏:‏ يلقى الرجل زوجته فيقول لها‏:‏ يا هذه، أيّ بعل كنتُ لك‏؟‏ فتقول‏:‏ نعم البعل كنتَ‏!‏ وتثنى بخير ما استطاعت، فيقول لها‏:‏ فإني أطلبُ إليك اليومَ حسنًة واحدًة تهبينها لي لعلي أنجو مما ترين‏.‏ فتقول له‏:‏ ما أيسر ما طلبتَ، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف‏.‏ قال‏:‏ وإن الرجل ليلقي ابنه فيتعلق به فيقول‏:‏ يا بني، أيّ والد كنتُ لك‏؟‏ فيثني بخير‏.‏ فيقولُ له‏:‏ يا بني، إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى‏.‏ فيقول ولده‏:‏ يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ‏}‏

وفي الحديث الصحيح- في أمر الشفاعة-‏:‏ أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق، يقول‏:‏ نفسي نفسي، لا أسأله اليومَ إلا نفسي، حتى إن عيسى ابن مريم يقول‏:‏

‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ‏}‏ لا أسأله اليوم إلا نفسي، لا أسأله مريم التي ولدتني‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ الأحب فالأحبَ، والأقرب فالأقربَ، من هول ذلك اليوم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ أي‏:‏ هو في شُغُل شاغل عن غيره‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، حدثنا الوليد بن صالح، حدثنا ثابت أبو زيد العباداني، عن هلال بن خَبَّاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تحشرون حفاة عراة مشاة غُرلا ‏"‏ قال‏:‏ فقالت زوجته‏:‏ يا رسول الله، أوَ يرى بعضنا عورة بعض‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏‏(‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏)‏ أو قال‏:‏ ‏"‏ما أشغله عن النظر‏"‏‏.‏ وقد رواه النسائي منفردا به، عن أبي داود، عن عارم، عن ثابت بن يزيد- وهو أبو زيد الأحول البصري، أحد الثقات- عن هلال بن خَبَّاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به وقد رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيد، عن محمد بن الفضل، عن ثابت بن يزيد، عن هلال ابن خَبَّاب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تُحشَرون حُفاة عُرَاة غُرْلا‏"‏‏.‏ فقالت امرأة‏:‏ أيبصر- أو‏:‏ يرى- بعضنا عورة بعض‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يا فلانة، ‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ ‏.‏ ثم قال الترمذي‏:‏ وهذا حديث حسن صحيح، وقد روى من غير وجه عن ابن عباس، رضي الله عنه‏.‏

‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ وقال النسائي‏:‏ أخبرني عمرو بن عثمان، حدثنا بَقِيَّة، حدثنا الزبيدي، أخبرني الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرلا‏"‏‏.‏ فقالت عائشة‏:‏ يا رسول الله، فكيف بالعورات‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏‏.‏ انفرد به النسائي من هذا الوجه‏.‏

ثم قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أزهر بن حاتم، حدثنا الفضل بن موسى، عن عائد ابن شُرَيح، عن أنس بن مالك قال‏:‏ سألت عائشة، رضي الله عنها، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إني سائلتك عن حديث فتخبرني أنتَ به‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن كان عندي منه علم‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ يا نبي الله، كيف يُحشر الرجال‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏حفاة عراة‏"‏‏.‏ ثم انتظَرتْ ساعة فقالت‏:‏ يا نبي الله، كيف يحشر النساء‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏كذلك حفاة عراة‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ واسوأتاه من يوم القيامة‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏وعن أي ذلك تسألين‏؟‏ إنه قد نزل علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أو لا يكون ‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ قالت‏:‏ أيةُ آية هي يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏‏.‏

‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ وقال البغوي في تفسيره‏:‏ أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشّريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني الحسين بن عبد الله، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا ابن أبي أويس، حدثنا أبي، عن محمد بن أبي عياش، عن عطاء بن يسار، عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يبعث الناس حفاة عراة غُرلا قد ألجمهم العرق، وبلغ شحوم الآذان‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏قد شُغل الناس، ‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏‏.‏ هذا حديث غريب من هذا الوجه جدا، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عمار الحسين بن حريث المروزي، عن الفضل بن موسى، به ‏.‏ ولكن قال أبو حاتم الرازي‏:‏ عائذ بن شريح ضعيف، في حديثه ضعف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ يكون الناس هنالك فريقين‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ مستنيرة، ‏{‏ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ مسرورة فرحة من سرور قلوبهم، قد ظهر البشر على وجوههم، وهؤلاء أهل الجنة‏.‏

‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ يعلوها ويغشاها ‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ يعلوها ويغشاها قترة، أي‏:‏ سواد‏.‏

‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا سهل بن عثمان العسكري، حدثنا أبو علي محمد مولى جعفر بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يلجم الكافرَ العرقُ ثم تقع الغُبْرة على وجوههم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فهو قوله‏:‏ ‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ يغشاها سواد الوجوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ‏}‏ أي‏:‏ الكفرة قلوبهم، الفجرة في أعمالهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 27‏]‏‏.‏

آخر تفسير سورة ‏"‏عبس‏"‏ ولله الحمد والمنة‏.‏

تفسير سورة التكوير

وهي مكية‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا عبد الله بن بحير القاص‏:‏ أن عبد الرحمن بن يزيد الصنعاني أخبره‏:‏ أنه سمع ابن عمر يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من سَرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأيُ عين فليقرأ‏:‏ ‏"‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ‏"‏، و‏"‏ وإذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ‏"‏، و‏"‏ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ‏"‏‏.‏ وهكذا رواه الترمذي، عن العباس بن عبد العظيم العنبري، عن عبد الرزاق، به‏.‏