فصل: تفسير الآيات رقم (16 - 25)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 25‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏

رُوي عن علي، وابن عباس، وعُبادة بن الصامت، وأبي هُرَيرة، وشداد بن أوس، وابن عمر، ومحمد بن علي بن الحسين، ومكحول، وبكر بن عبد الله المزني، وبُكَيْر بن الأشج، ومالك، وابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجَشُون أنهم قالوا‏:‏ الشفق‏:‏ الحمرة‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ابن خُثَيم عن ابن لبيبة، عن أبي هُرَيرة قال‏:‏ الشفق‏:‏ البياض‏.‏

فالشفق هو‏:‏ حمرة الأفق إما قبل طلوع الشمس- كما قاله مجاهد- وإما بعد غروبها- كما هو معروف عند أهل اللغة‏.‏

قال الخليل بن أحمد‏:‏ الشفق‏:‏ الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب قيل‏:‏ غاب الشفق‏.‏

وقال الجوهري‏:‏ الشفق‏:‏ بقية ضوء الشمس وحمرتُها في أول الليل إلى قريب من العَتمَة‏.‏ وكذا قال عكرمة‏:‏ الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء‏.‏

وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏وقت المغرب ما لم يغب الشفق‏"‏‏.‏

ففي هذا كله دليل على أن الشفق هو كما قاله الجوهري والخليل‏.‏ ولكن صح عن مجاهد أنه

قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ‏}‏ هو النهار كله‏.‏ وفي رواية عنه أيضا أنه قال‏:‏ الشفق‏:‏ الشمس‏.‏ رواهما ابن أبي حاتم‏.‏

وإنما حمله على هذا قَرْنهُ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ‏}‏ أي‏:‏ جمع‏.‏ كأنه أقسم بالضياء والظلام‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ أقسم الله بالنهار مدبرًا، وبالليل مقبلا‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ وقال آخرون‏:‏ الشفق اسم للحمرة والبياض‏.‏ وقالوا‏:‏ هو من الأضداد‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة‏:‏ ‏{‏وَمَا وَسَقَ‏}‏ وما جمع‏.‏ قال قتادة‏:‏ وما جمع من نجم ودابة‏.‏ واستشهد ابن عباس بقول الشاعر‏:‏‏}‏

مُستَوسقات لو تَجِدْنَ سَائقا ***

قد قال عكرمة‏:‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ‏}‏ يقول‏:‏ ما ساق من ظلمة، إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إذا اجتمع واستوى‏.‏ وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومسروق، وأبو صالح، والضحاك، وابن زيد‏.‏

‏{‏وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ‏}‏ إذا استوى‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إذا اجتمع، إذا امتلأ‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إذا استدار‏.‏

ومعنى كلامهم‏:‏ أنه إذا تكامل نوره وأبدر، جعله مقابلا لليل وما وسق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ قال البخاري‏:‏ أخبرنا سعيد بن النضر، أخبرنا هُشَيم، أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ حالا بعد حال- قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم‏.‏

هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ، وهو محتمل أن يكون ابن عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه قال‏:‏ سمعت هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيكون قوله‏:‏ ‏"‏نبيكم‏"‏ مرفوعا على الفاعلية من ‏"‏قال‏"‏ وهو الأظهر، والله أعلم، كما قال أنس‏:‏ لا يأتي عام إلا والذي بعده شَرٌّ منه، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد؛ أن ابن عباس كان يقول‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ قال‏:‏ يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم، يقول‏:‏ حالا بعد حال‏.‏ وهذا لفظه‏.‏ وهو منسوب لابن صرمة‏.‏

وقال علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ حالا بعد حال‏.‏ وكذا قال عكرمة ومُرَة الطّيِّب، ومجاهد، والحسن، والضحاك ‏[‏ومسروق وأبو صالح‏]‏‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ حالا بعد حال‏.‏ قال‏:‏ هذا، يعني المراد بهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيكون مرفوعا على أن ‏"‏هذا‏"‏ و‏"‏نبيكم‏"‏ يكونان مبتدأ وخبرا، والله أعلم‏.‏ ولعل هذا قد يكون هو المتبادر إلى كثير من الرواة، كما قال أبو داود الطيالسي وغُنْدَر‏:‏ حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ قال‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويؤيد هذا المعنى قراءةُ عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعامة أهل مكة والكوفة‏:‏ ‏"‏لَتَرْكَبَنّ‏"‏ بفتح التاء والباء‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن الشعبي‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ قال‏:‏ لتركَبن يا محمد سماء بعد سماء‏.‏ وهكذا رُوي عن ابن مسعود، ومسروق، وأبي العالية‏:‏ ‏{‏طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ سماء بعد سماء‏.‏ قلت‏:‏ يعنون ليلة الإسراء‏.‏

وقال أبو إسحاق، والسدي عن رجل، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ منزلا على منزل‏.‏ وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس مثله- وزاد‏:‏ ‏"‏ويقال‏:‏ أمرا بعد أمر، وحالا بعد حال‏"‏‏.‏

وقال السدي نفسهُ‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ أعمال من قبلكم منزلا بعد منزل‏.‏

قلت‏:‏ كأنه أراد معنى الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم، حَذْو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحر ضَبِّ لدخلتموه‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فمن‏؟‏‏"‏ وهذا محتمل‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا ابن جابر، أنه سمع مكحولا يقول في قول الله‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ قال‏:‏ في كل عشرين سنة، تحدثون أمرا لم تكونوا عليه‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ حدثني إبراهيم قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ قال‏:‏ السماء تنشق ثم تحمر، ثم تكون لونا بعد لون‏.‏

وقال الثوري، عن قيس بن وهب، عن مرة، عن ابن مسعود‏:‏ ‏{‏طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ قال‏:‏ السماء مَرةً كالدهان، ومرة تنشق‏.‏

وروى البزار من طريق جابر الجعفي، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ يا محمد، يعني حالا بعد حال‏.‏ ثم قال‏:‏ ورواه جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ قال‏:‏ قوم كانوا في الدنيا خسيس أمرهم، فارتفعوا في الآخرة، وآخرون كانوا أشرافا في الدنيا، فاتضعوا في الآخرة‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ حالا بعد حال، فطيما بعد ما كان رضيعًا، وشيخًا بعد ما كان شابا‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ يقول‏:‏ حالا بعد حال، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقرا بعد غنى، وصحة بعد سقم، وسَقَما بعد صحة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ ذكر عن عبد الله بن زاهر‏:‏ حدثني أبي، عن عمرو بن شَمِر، عن جابر- هو الجعفي- عن محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن ابن آدم لفي غفلة مما خُلِقَ له؛ إن الله إذا أراد خلقه قال للملك‏:‏ اكتب رزقه، اكتب أجله، اكتب أثره، اكتب شقيا أو سعيدًا، ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله إليه مَلَكا آخر فيحفظه حتى يدرك، ثم يرتفع ذلك الملك، ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته، فإذا حَضَره الموتُ ارتفع ذانك الملكان، وجاءه ملك الموت فقبض روحه، فإذا دخل قبره رَدَّ الروح في جسده، ثم ارتفع ملك الموت، وجاءه مَلَكا القبر فامتحناه، ثم يرتفعان، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات، فانتشطا كتابا معقودا في عنقه، ثم حضرا معه‏:‏ واحدٌ سائقا وآخر شهيدا‏"‏، ثم قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏22‏]‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏حالا بعد حال‏"‏‏.‏ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن قدامكم لأمرا عظيما لا تَقدرُونه، فاستعينوا بالله العظيم‏"‏‏.‏

هذا حديث منكر، وإسناده فيه ضعفاء، ولكن معناه صحيح، والله- سبحانه وتعالى- أعلم‏.‏

ثم قال ابن جرير بعد ما حكى أقوال الناس في هذه الآية من القراء والمفسرين‏:‏ والصواب من التأويل قول من قال لَتَرْكَبَنّ أنت- يا محمد- حالا بعد حال وأمرًا بعد أمر من الشَّدَائد‏.‏ والمراد بذلك- وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَجَّها -جَميعَ الناس، وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ‏}‏ أي‏:‏ فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر‏؟‏ وما لهم إذا قرأت عليهم آيات الرحمن وكلامه- وهو هذا القرآن- لا يسجدون إعظاما وإكرامًا واحتراما‏؟‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ‏}‏ أي‏:‏ من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ يكتمون في صدورهم‏.‏‏{‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ فأخبرهم- يا محمد- بأن الله عز وجل قد أعد لهم عذابا أليما‏.‏

وقوله ‏{‏إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ هذا استثناء منقطع، يعني لكن الذين آمنوا- أي‏:‏ بقلوبهم- وعملوا الصالحات بجوارحهم ‏{‏لَهُمْ أَجْرٌ‏}‏ أي‏:‏ في الدار الآخرة‏.‏

‏{‏غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ غير منقوص‏.‏ وقال مجاهد، والضحاك‏:‏ غير محسوب‏.‏

وحاصل قولهما أنه غير مقطوع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏‏.‏ وقال السدي‏:‏ قال بعضهم‏:‏ ‏{‏غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ غير منقوص‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ عليهم‏.‏

وهذا القول الآخر عن بعضهم قد أنكره غير واحد؛ فإن الله عز وجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة، وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم، فله عليهم المنة دائما سرمدًا، والحمد لله وحده أبدا؛ ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النَّفَس‏:‏ ‏{‏وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏‏.‏ آخر تفسير سورة ‏"‏الانشقاق‏"‏ ولله الحمد‏.‏

تفسير سورة البروج

وهي مكية‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا رُزَيق بن أبي سلمى، حدثنا أبو المهزّم، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا أبو سعيد- مولى بني هاشم- حدثنا حماد بنُ عباد السدوسي، سمعت أبا المهزم يحدث عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسموات في العشاء تفرد به أحمد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 10‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏

يقسم الله بالسماء وبروجها، وهي‏:‏ النجوم العظام، كما تقدم بيان ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 61‏]‏‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي‏:‏ البروج‏:‏ النجوم‏.‏ وعن مجاهد أيضا‏:‏ البروج التي فيها الحرس‏.‏

وقال يحيى بن رافع‏:‏ البروج‏:‏ قصور في السماء‏.‏ وقال المِنْهَال بن عمرو‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ‏}‏ الخلق الحسن‏.‏

واختار ابن جرير أنها‏:‏ منازل الشمس والقمر، وهي اثنا عشر برجا، تسير الشمس في كل واحد منها شهرًا، ويسير القمر في كل واحد يومين وثلثا، فذلك ثمانية وعشرون منزلة ويستسرّ ليلتين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏ اختلف المفسرون في ذلك، وقد قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي حدثنا عُبَيد الله- يعني ابن موسى- حدثنا موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد بن صفوان بن أوس الأنصاري، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏‏{‏وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏وَشَاهِدٍ‏}‏ يوم الجمعة‏.‏ وما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه، ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه، ‏{‏وَمَشْهُودٍ‏}‏ يوم عرفة‏"‏‏.‏ وهكذا روى هذا الحديث ابن خُزَيمة، من طرق عن موسى بن عُبَيدة الربذي- وهو ضعيف الحديث- وقد روي موقوفا على أبي هريرة، وهو أشبه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد، حدثنا شعبة، سمعت علي بن زيد ويونس بن عبيد يحدثان عن عمار- مولى بني هاشم- عن أبي هريرة- أما عليّ فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما يونس فلم يَعْدُ أبا هريرة- أنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏ قال‏:‏ يعني الشاهدَ يومُ الجمعة، ويوم مشهود يوم القيامة‏.‏

وقال أحمد أيضا‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن يونس، سمعت عمارًا- مولى بني هاشم- يحدث عن أبي هريرة وأنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏ قال‏:‏ الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة‏.‏

وقد رُوي عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ اليوم الموعود يوم القيامة‏.‏ وكذلك قال الحسن، وقتادة، وابن زيد‏.‏ ولم أرهم يختلفون في ذلك، ولله الحمد‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن عوف، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثنا ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اليوم الموعود يوم القيامة، وإن الشاهد يوم الجمعة، وإن المشهود يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره الله لنا‏"‏‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ حدثنا سهل بن موسى الرازي، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسَيَّب أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن سيد الأيام يوم الجمعة، وهو الشاهدُ، والمشهود يوم عرفة‏"‏‏.‏ وهذا مرسل من مراسيل سعيد بن المسيَّب، ثم قال ابن جرير‏:‏

حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وكيع، عن شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف المكي، عن ابن عباس قال‏:‏ الشاهد هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم القيامة، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وحدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن شباك قال‏:‏ سأل رجل الحسن بن علي عن‏:‏ ‏{‏وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏ قال‏:‏ سألت أحدًا قبلي‏؟‏ قال‏:‏ نعم، سألت ابن عمر وابن الزبير، فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة‏.‏ فقال‏:‏ لا ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏، والمشهود يوم القيامة، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ‏}‏‏.‏ وهكذا قال الحسن البصري‏.‏ وقال سفيان الثوري، عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيب‏:‏ ‏{‏وَمَشْهُودٍ‏}‏ يوم القيامة‏.‏ وقال مجاهد، وعكرمة، والضحاك‏:‏ الشاهد‏:‏ ابن آدم، والمشهود‏:‏ يوم القيامة‏.‏

وعن عكرمة أيضا‏:‏ الشاهد‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود‏:‏ يوم الجمعة‏.‏ ‏[‏وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ الشاهد‏:‏ الله، والمشهود‏:‏ يوم القيامة‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دُكَيْن، حدثنا سفيان، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏ قال‏:‏ الشاهد‏:‏ الإنسان‏.‏ والمشهود‏:‏ يوم الجمعة‏.‏ هكذا رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏ الشاهد‏:‏ يوم عرفة، والمشهود‏:‏ يوم القيامة‏.‏

وبه عن سفيان- هو الثوري- عن مغيرة، عن إبراهيم قال‏:‏ يوم الذبح، ويوم عرفة، يعني الشاهد والمشهود‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقال آخرون‏:‏ المشهود يوم الجمعة‏.‏ ورووا في ذلك ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثني عمي عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نُسَيّ، عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود، تشهده الملائكة‏"‏‏.‏

وعن سعيد بن جبير‏:‏ الشاهد‏:‏ الله، وتلا ‏{‏وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، والمشهود‏:‏نحن‏.‏ حكاه البغوي، وقال‏:‏ الأكثرون على أن الشاهد‏:‏ يوم الجمعة، والمشهود‏:‏ يوم عرفة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ‏}‏ أي‏:‏ لعن أصحاب الأخدود، وجمعه‏:‏ أخاديد، وهي الحفير في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عَمَدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله، عز وجل، فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدُودًا وأججوا فيه نار، وأعدوا لها وقودًا يسعرونها به، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم، فقذفوهم فيها؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ‏}‏ أي‏:‏ مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ أي‏:‏ وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه، المنيع الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، وإن كان قد قَدّر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به، فهو العزيز الحميد، وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ من تمام الصفة أنه المالك لجميع السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، ‏{‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يغيب عنه شيء في جميع السموات والأرض، ولا تخفى عليه خافية‏.‏

وقد اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة، من هم‏.‏ فعن علي، رضي الله عنه، أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم، فامتنع عليه علماؤهم، فعمد إلى حفر أخدود فقذف فيه من أنكر عليه منهم واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم‏.‏

وعنه أنهم كانوا قوما باليمن اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم، فغلب مؤمنوهم على كفارهم، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين، فخدُّوا لهم الأخاديد، وأحرقوهم فيها‏.‏ وعنه أنهم كانوا من أهل الحبشة، واحدهم حَبَشِيٌّ‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ‏}‏ قال‏:‏ ناس من بني إسرائيل، خَدّوا أخدودًا في الأرض، ثم أوقدوا فيه نارا، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء، فعُرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه‏.‏ وهكذا قال الضحاك بن مٌزَاحم، وقيل غير ذلك‏.‏ وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صُهَيب‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك‏:‏ إني قد كبرت سِنِّي وحضر أجلي، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر‏.‏ فدفع إليه غلاما فكان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه، فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال‏:‏ ما حبسك‏؟‏ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا‏:‏ ما حبسك‏؟‏ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال‏:‏ إذا أراد الساحر أن يضربك فقل‏:‏ حبسني أهلي‏.‏ وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل‏:‏ حبسني الساحر‏.‏

قال‏:‏ فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة، قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال‏:‏ اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر‏.‏ قال‏:‏ فأخذ حجرًا فقال‏:‏ اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك وأرضى من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس‏.‏ ورماها فقتلها، ومضى الناس‏.‏ فأخبر الراهب بذلك فقال‏:‏ أيْ بُنَي، أنت أفضل مني، وإنك سَتُبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي‏.‏ فكان الغلام يبُرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان جليس للملك فعمي، فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرة فقال‏:‏ اشفني ولك ما هاهنا أجمعُ‏.‏ فقال‏:‏ ما أنا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله، عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك‏.‏ فآمن فدعا الله فشفاه‏.‏ ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك‏:‏ يا فلان، من رَدّ عليك بصرك‏؟‏ فقال‏:‏ ربي‏؟‏ فقال‏:‏ أنا‏؟‏ قال‏:‏ لا ربي وربك الله‏.‏ قال‏:‏ ولك رب غيري‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ربي وربك الله‏.‏ فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال‏:‏ أيْ بُنَي، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء‏؟‏ قال‏:‏ ما أشفي أنا أحدًا، إنما يشفي الله، عز وجل‏.‏ قال‏:‏ أنا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أولك رب غيري‏؟‏ قال‏:‏ ربي وربك الله‏.‏ فأخذه أيضا بالعذاب، فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى بالراهب فقال‏:‏ ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى‏:‏ ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض‏.‏ وقال للغلام‏:‏ ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال‏:‏ إذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فَدَهدهوه ‏[‏من فوقه‏]‏ فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال‏:‏ اللهم، اكفنيهم بما شئت‏.‏ فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون‏.‏ وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال‏:‏ ما فعل أصحابك‏؟‏ فقال‏:‏ كفانيهم الله‏.‏ فبعث به مع نفر في قُرقُور فقال‏:‏ إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرِّقوه في البحر‏.‏ فلججوا به البحر فقال الغلام‏.‏ اللهم، اكفنيهم بما شئت‏.‏ فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال‏:‏ ما فعل أصحابك‏؟‏ فقال‏:‏ كفانيهم الله‏.‏ ثم قال للملك‏:‏ إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي‏.‏ قال‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهمًا من كنانتي ثم قل‏:‏ ‏"‏بسم الله رب الغلام‏"‏، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني‏.‏ ففعل، ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه، وقال‏:‏ ‏"‏باسم الله رب الغلام‏"‏‏.‏ فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس‏:‏ آمنا برب الغلام‏.‏ فقيل للملك‏:‏ أرأيت ما كنت تحذر‏؟‏ فقد -والله- نزل بك، قد آمن الناس كلهم‏.‏ فأمر بأفواه السكك فَخُدّت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال‏:‏ من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها‏.‏ قال‏:‏ فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي‏:‏ اصبري يا أماه، فإنك على الحق‏"‏‏.‏

وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح عن هُدْبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به نحوه ورواه النسائي عن أحمد بن سليمان، عن عفان، عن حماد بن سلمة ومن طريق حماد بن زيد، كلاهما عن ثابت، به واختصروا أوله‏.‏ وقد جَوّده الإمام أبو عيسى الترمذي، فرواه في تفسير هذه السورة عن محمود بن غَيلانَ وعَبد بن حُمَيد- المعنى واحد- قالا أخبرنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صُهَيب قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر هَمَس- والهَمس في قول بعضهم‏:‏ تحريك شفتيه كأنه يتكلم- فقيل له‏:‏ إنك- يا رسول الله- إذا صليت العصر همست‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إن نبيا من الأنبياء، كان أُعجِب بأمته فقال‏:‏ من يقوم لهؤلاء‏؟‏‏.‏ فأوحى الله إليه أن خيرهم بين أن أنتقم منهم، وبين أن أسلط عليهم عدوهم‏.‏ فاختاروا النقمة، فسلَّط عليهم الموت، فمات منهم في يوم سبعون ألفا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وكان إذا حَدّث بهذا الحديث، حَدّث بهذا الحديث الآخر قال‏:‏ كان مَلك من الملوك، وكان لذلك الملك كاهن تكهن له، فقال الكاهن‏:‏ انظروا لي غلامًا فَهِمًا- أو قال‏:‏ فطنًا لَقنًا- فأعلمه علمي هذا فذكر القصة بتمامها، وقال في آخره يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ‏}‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ قال‏:‏ فأما الغلام فإنه دفن قال‏:‏ فيذكر أنه أخرج في زمان عمر بن الخطاب، وإصبعه على صُدغه كما وضعها حين قتل‏.‏ ثم قال الترمذي‏:‏ حسن غريب‏.‏

وهذا السياق ليس فيه صراحة أن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزِّي‏:‏ فيحتمل أن يكون من كلام صُهَيب الرومي، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، والله أعلم‏.‏

وقد أورد محمد بن إسحاق بن يَسَار هذه القصة في السيرة بسياق آخر، فيها مخالفة لما تقدم فقال‏:‏ حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي- وحدثني أيضًا بعض أهل نجران، عن أهلها-‏:‏ أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريبًا من نجران- ونجران هي القرية العظمى التي إليها جمَاعُ أهل تلك البلاد- ساحرٌ يعلم غلمان أهل نجران السحر فلما نزلها فَيمُون – ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه، قالوا‏:‏ رجل نزلها- ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر، وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث الثامر ابنه عبد الله بن الثامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه، فكتمه إياه وقال له‏:‏ يا ابن أخي، إنك لن تحمله؛ أخشى ضعفك عنه‏.‏ والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه، وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى أقداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدْح،وكل اسم في قدح، حتى إذا أحصاها أوقد نارًا ثم جعل يقذفها فيها قدْحا قدْحًا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بِقدْحه، فوثب القدْح حتى خرج منها لم يضره شيء، فأخذه ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي كتمه فقال‏:‏ وما هو‏:‏ قال‏:‏ هو كذا وكذا‏.‏ قال‏:‏ وكيف علمته‏؟‏ فأخبره بما صنع‏.‏ قال‏:‏ أي ابن أخي، قد أصبته فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل‏.‏

فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدًا به ضر إلا قال‏:‏ يا عبد الله، أتوحدُ الله وتدخلُ في ديني وأدعو الله لك فيعافيكَ مما أنت فيه من البلاء‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏ فيوحد الله ويسلم، فيدعو الله له فَيشفَى حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه، فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي، حتى رُفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له‏:‏ أفسدت عليّ أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلنّ بك‏.‏ قال‏:‏ لا تقدر على ذلك‏.‏ قال‏:‏ فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل، فَيُطرح على رأسه، فيقع إلى الأرض ما به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه نجران، بُحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك، فيلقى به فيها، فيخرج ليس به بأس‏.‏ فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر‏:‏ إنك- والله- لا تقدر على قتلي حتى تُوَحّدَ الله فَتُؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت سُلّطتَ عليّ فقتلتني‏.‏ قال‏:‏ فوحّدَ الله ذلك الملك، وشهد شهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة، فقتله، وهلك الملك مكانه‏.‏ واستجمع أهلُ نجران على دين عبد الله بن الثامر- وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم، عليه السلام، من الإنجيل وحُكمه- ثم أصابهم ما أصاب أهلَ دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر، والله أعلم أيّ ذلك كان‏.‏

قال‏:‏ فسار إليهم ذو نواس بجنده، فدعاهم إلى اليهودية، وخيَّرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخدّ الأخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم، حتى قتل منهم قريبًا من عشرين ألفا، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله، عز وجل، على رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد‏}‏‏.‏

هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواس، واسمه‏:‏ زرعة، ويسمَّى في زمان مملكته بيوسف، وهو ابن تِبَان أسعد أبي كَرب، وهو تُبَّع الذي غزا المدينة وكسى الكعبة، واستصحب معه حبرين من يهود المدينة، فكان تَهَوّد من تَهَوّد من أهل اليمن على يديهما، كما ذكره ابن إسحاق مَبسوطًا، فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفا، ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له‏:‏ دوس ذو ثَعلبان، ذهب فارسا، وطَرَدُوا وراءه فلم يُقدَر عليه، فذهب إلى قيصر ملك الشام، فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، فأرسل معه جيشًا من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة، فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود، وذهب ذو نواس هاربًا فَلَجَّج في البحر، فغرق‏.‏ واستمر مُلْكُ الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة، ثم استنقذه سيف ابن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى، لما استجاش بكسرى ملك الفرس، فأرسل معه من في السجون، وكانوا قريبًا من سبعمائة، ففتح بهم اليمن، ورجع الملك إلى حمير‏.‏ وسنذكر طرفًا من ذلك- إن شاء الله- في تفسير سورة‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ‏}‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم‏:‏ أنه حُدِّث‏:‏ أن رجلا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب، حَفَر خَربَة من خَرِب نجران لبعض حاجته، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دَفْن فيها قاعدا، واضعا يده على ضربة في رأسه، ممسكا عليها بيده، فإذا أخذت يده عنها ثَعبتْ دما، وإذا أرسلت يده رُدّت عليها، فأمسكت دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه‏:‏ ربي الله‏.‏ فكُتِب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم‏:‏ أن أقرّوه على حاله، وردّوا عليه الدّفَن الذي كان عليه‏.‏ ففعلوا‏.‏

وقد قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، رحمه الله‏:‏ حدثنا أبو بلال الأشعري، حدثنا إبراهيم بن محمد عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، حدثني بعض أهل العلم‏:‏ أن أبا موسى لما افتتح أصبهان وجد حائطا من حيطان المدينة قد سقط، فبناه فسقط، ثم بناه فسقط، فقيل له‏:‏ إن تحته رجلا صالحًا‏.‏ فحفر الأساس فوجد فيه رجلا قائمًا معه سيف، فيه مكتوب‏:‏ أنا الحارث بن مضاض، نقمت على أصحاب الأخدود‏.‏ فاستخرجه أبو موسى، وبنى الحائط، فثبت‏.‏

قلت‏:‏ هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مُضاض بن عمرو الجرهمي، أحد ملوك جرهم الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد نَبْت بن إسماعيل بن إبراهيم، وَوَلدُ الحارث هذا هو‏:‏ عمرو بن الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة، لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن، وهو القائل في شعره الذي قال ابن هشام إنه أول شعر قاله العرب‏:‏

كَأن لَم يَكُنْ بَين الحَجُون إلى الصّفا *** أَنِيسٌ، ولم يَسمُر بمكَّةَ سَامِر

بَلَى، نَحنُ كُنَّا أهلَهَا فأبادَنَا *** صُروفُ اللَّيالي والجُدودُ العَوَاثِر

وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديما بعد زمان إسماعيل، عليه السلام، بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها، وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمان الفترة التي بين عيسى ومحمد، عليهما من الله السلام، وهو أشبه، والله أعلم‏.‏

وقد يحتمل أن ذلك قد وقع في العالم كثيرًا، كما قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير قال‏:‏ كانت الأخدود في اليمن زمان تبع، وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد، فاتخذوا أتّونا، وألقى فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد‏.‏ وفي العراق في أرض بابل بختنصر، الذي وضع الصنم وأمر الناس أن يسجدوا له، فامتنع دانيال وصاحباه‏:‏ عزريا وميشائيل، فأوقد لهم أتونا وألقى فيه الحطب والنار، ثم ألقاهما فيه، فجعلها الله عليهما بردًا وسلاما، وأنقذهما منها، وألقى فيها الذين بغوا عليه وهم تسعة رهط، فأكلتهم النار‏.‏

وقال أسباط، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ‏}‏ قال‏:‏ كانت الأخدود ثلاثة‏:‏ خَدّ بالعراق، وخَدّ بالشام، وخَدّ باليمن‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وعن مقاتل قال‏:‏ كانت الأخدود ثلاثة‏:‏ واحدة بنجران باليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس، أما التي بالشام فهو أنطنانوس الرومي، وأما التي بفارس فهو بختنصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس‏.‏ فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله فيهم قرآنا، وأنزل في التي كانت بنجران‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدَّشْتَكي، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع- هو ابن أنس- في قوله‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ‏}‏ قال‏:‏ سمعنا أنهم كانوا قومًا في زمان الفترة فلما رأوا ما وقع في الناس من الفتنة والشر وصاروا أحزابًا، ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 53، الروم‏:‏ 32‏]‏، اعتزلوا إلى قرية سكنوها، وأقاموا على عبادة الله ‏{‏مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏، وكان هذا أمرهم حتى سمع بهم جبار من الجبارين، وحُدّث حديثهم، فأرسل إليهم فأمرهم أن يعبدوا الأوثان التي اتخذوا وأنهم أبوا عليه كلّهم وقالوا‏:‏ لا نعبد إلا الله وحده، لا شريك له‏.‏ فقال لهم‏:‏ إن لم تعبدوا هذه الآلهة التي عبدتُ فإني قاتلكم‏.‏ فأبوا عليه، فخَدَّ أخدودا من نار، وقال لهم الجبار- ووَقَفهم عليها-‏:‏ اختاروا هذه أو الذي نحن فيه‏.‏ فقالوا‏:‏ هذه أحب إلينا‏.‏ وفيهم نساء وذرية، ففزعت الذرية، فقالوا لهم‏:‏ لا نار من بعد اليوم‏.‏ فوقعوا فيها، فقبضت أرواحهم من قبل أن يمسهم حَرّهُا، وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين، فأحرقهم الله بها، ففي ذلك أنزل الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد‏}‏ ورواه ابن جرير‏:‏ حُدِّثت عن عمار، عن عبد الله بن أبي جعفر، به نحوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ أي‏:‏ حَرقوا قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن أبْزَى‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا‏}‏ أي‏:‏ لم يقلعوا عما فعلوا، ويندموا على ما أسلفوا‏.‏

‏{‏فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏ وذلك أن الجزاء من جنس العمل‏.‏ قال الحسن البصري‏:‏ انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 22‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ‏}‏

يخبر تعالى عن عباده المؤمنين أن ‏{‏لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ‏}‏ بخلاف ما أعد لأعدائه من الحريق والجحيم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ إن بطشه وانتقامه من أعدائه الذين كَذَّبوا رسله وخالفوا أمره، لشديد عظيم قوي؛ فإنه تعالى ذو القوة المتين، الذي ما شاء كان كما يشاء في مثل لمح البصر، أو هو أقرب؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد‏}‏ أي‏:‏ من قوته وقدرته التامة يبدئ الخلق ثم يعيده كما بدأه، بلا ممانع ولا مدافع‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود‏}‏ أي‏:‏ يغفر ذنب من تاب إليه وخَضَع لديه، ولو كان الذنب من أي شيء كان‏.‏

والودود- قال ابن عباس وغيره-‏:‏ هو الحبيب، ‏{‏ذُو الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ صاحب العرش‏]‏ المعظم العالي على جميع الخلائق‏.‏ و‏{‏الْمَجِيدُ‏}‏ فيه قراءتان‏:‏ الرفع على أنه صفة للرب، عز وجل‏.‏ والجر على أنه صفة للعرش، وكلاهما معنى صحيح‏.‏

‏{‏فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ‏}‏ أي‏:‏ مهما أراد فعله، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل؛ لعظمته وقهره وحكمته وعدله، كما روينا عن أبي بكر الصديق أنه قيل له- وهو في مرض الموت-‏:‏ هل نظر إليك الطبيب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قالوا‏:‏ فما قال لك‏؟‏ قال‏:‏ قال لي‏:‏ إني فعال لما أريد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ‏}‏ أي‏:‏ هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد‏؟‏‏.‏

وهذا تقرير لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ إذا أخذ الظالم أخذه أخذًا أليمًا شديدا، أخذ عزيز مقتدر‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسِيّ، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال‏:‏ مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ‏}‏ فقام يسمع فقال‏:‏ ‏"‏نعم، قد جاءني‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ‏}‏ أي‏:‏ هم في شك وريب وكفر وعناد، ‏{‏وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ‏}‏ أي‏:‏ هو قادر عليهم، قاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه، ‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ عظيم كريم، ‏{‏فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ‏}‏ أي‏:‏ هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا عمرو بن علي، حدثنا قُرَّة بن سليمان، حدثنا حرب بن سُرَيج حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك في قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ‏}‏ قال‏:‏ إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله‏:‏ ‏{‏بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ‏}‏ في جبهة إسرافيل‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح، حدثنا معاوية بن صالح‏:‏ أن أبا الأعْيَس- هو عبد الرحمن بن سَلْمَان- قال‏:‏ ما من شيء قضى الله- القرآن فما قبله وما بعده- إلا وهو في اللوح المحفوظ‏.‏ واللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل، لا يؤذن له بالنظر فيه‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه‏.‏

وقد روى البغوي من طريق إسحاق بن بشر أخبرني مقاتل وابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ إنه في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله، أدخله الجنة‏.‏ قال‏:‏ واللوح لوح من درة بيضاء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور، وكلامه معقود بالعرش، وأصله في حجر ملك‏.‏ قال مقاتل‏:‏ اللوح المحفوظ عن يمين العرش‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا إبراهيم بن يوسف، حدثنا زياد بن عبد الله، عن ليث، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله خلق لوحًا محفوظًا من دُرَّة بيضاء، صفحاتها من ياقوتة حمراء، قَلَمه نور وكتابه نور، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويفعل ما يشاء‏"‏‏.‏

آخر تفسير سورة ‏"‏البروج‏"‏ ولله الحمد‏.‏

تفسير سورة الطارق

وهي مكية‏.‏

قال عبد الله ابن الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن محمد- قال‏:‏ عبد الله وسمعته أنا منه- حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عبد الرحمن ابن خالد بن أبي جَبل العُدْواني، عن أبيه‏:‏ أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُشرّق ثَقيف وهو قائم على قوس- أو‏:‏ عصا- حين أتاهم يبتغي عندهم النصر، فسمعته يقول‏:‏ ‏"‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ‏"‏ حتى ختمها- قال‏:‏ فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك، ثم قرأتها في الإسلام- قال‏:‏ فدعتني ثقيف فقالوا‏:‏ ماذا سمعت من هذا الرجل‏؟‏ فقرأتها عليهم، فقال من معهم من قريش‏:‏ نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه‏.‏

وقال النسائي‏:‏ حدثنا عمرو بن منصور، حدثنا أبو نعيم، عن مسْعَر، عن محارب بن دِثَار، عن جابر قال‏:‏ صلى معاذ المغرب، فقرأ البقرة والنساء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أفتان يا معاذ‏؟‏ ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق، والشمس وضحاها، ونحو هذا‏؟‏‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 10‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ‏}‏

يقسم تعالى بالسماء وما جعل فيها من الكواكب النيرة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ‏}‏ ثم قال ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ‏}‏ ثم فسره بقوله‏:‏ ‏{‏النَّجْمُ الثَّاقِبُ‏}‏ قال قتادة وغيره‏:‏ إنما سمي النجم طارقا؛ لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار‏.‏ ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح‏:‏ نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا أي‏:‏ يأتيهم فجأة بالليل‏.‏ وفيالحديث الآخر المشتمل على الدعاء‏:‏ ‏"‏إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الثَّاقِبُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ المضيء‏.‏ وقال السدي‏:‏ يثقب الشياطين إذا أرسل عليها‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هو مضيء ومحرق للشيطان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ‏}‏ أي‏:‏ كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ‏}‏ تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خُلق منه، وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد؛ لأن من قدر على البَدَاءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى، كما قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ‏}‏ يعني‏:‏ المني؛ يخرج دَفقًا من الرجل ومن المرأة، فيتولد منهما الولد بإذن الله، عز وجل؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ‏}‏ يعني‏:‏ صلب الرجل وترائب المرأة، وهو صدرها‏.‏

قال شبيب بن بشر، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ‏}‏ صلب الرجل وترائب المرأة، أصفر رقيق، لا يكون الولد إلا منهما‏.‏ وكذا قال سعيد بن جُبَير، وعكرمة، وقتادة والسُّدِّي، وغيرهم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مِسْعَر‏:‏ سمعت الحكم ذكر عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ‏}‏ قال‏:‏ هذه الترائب‏.‏ ووضع يده على صدره‏.‏

وقال الضحاك وعطية، عن ابن عباس‏:‏ تَريبة المرأة موضُع القلادة‏.‏ وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جُبَير‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ الترائب‏:‏ بين ثدييها‏.‏

وعن مجاهد‏:‏ الترائب ما بين المنكبين إلى الصدر‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ الترائب أسفل من التراقي‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ فوق الثديين‏.‏ وعن سعيد بن جُبَير‏:‏ الترائب أربعة أضلاع من هذا الجانب الأسفل‏.‏ وعن الضحاك‏:‏ الترائب بين الثديين والرجلين والعينين‏.‏

وقال الليث بن سعد عن مَعْمَر بن أبي حبيبة المدني‏:‏ أنه بلغه في قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ‏}‏ قال‏:‏ هو عصارة القلب، من هناك يكون الولد‏.‏ وعن قتادة‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ‏}‏ من بين صلبه ونحره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ على رجع هذا الماء الدافق إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك‏.‏ قاله مجاهد، وعكرمة، وغيرهما‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق، أي‏:‏ إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لقادر؛ لأن من قدر على البدء قدر على الإعادة‏.‏

وقد ذكر الله، عز وجل، هذا الدليل في القرآن في غير ما موضع، وهذا القول قال به الضحاك، واختاره ابن جرير، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة تبلى فيه السرائر، أي‏:‏ تظهر وتبدو، ويبقى السر علانية والمكنون مشهورا‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يرفع لكل غادر لواء عند استه يقال‏:‏ هذه غَدْرَةُ فلان بن فلان‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُ‏}‏ أي‏:‏ الإنسان يوم القيامة ‏{‏مِنْ قُوَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ في نفسه ‏{‏وَلا نَاصِرٍ‏}‏ أي‏:‏ من خارج منه، أي‏:‏ لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب الله، ولا يستطيع له أحد ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 17‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ الرجع‏:‏ المطر‏.‏ وعنه‏:‏ هو السحاب فيه المطر‏.‏ وعنه‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ‏}‏ تمطر ثم تمطر‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ترجع رزق العباد كل عام، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ ترجع نجومها وشمسها وقمرها، يأتين من هاهنا‏.‏

‏{‏وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو انصداعها عن النبات‏.‏ وكذا قال سعيد بن جُبَير وعكرمة، وأبو مالك، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، وغير واحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ حق‏.‏ وكذا قال قتادة‏.‏ وقال آخر‏:‏ حكم عدل‏.‏

‏{‏وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ‏}‏ أي‏:‏ بل هو حق جد‏.‏

ثم أخبر عن الكافرين بأنهم يكذبون به ويصدون عن سبيله، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا‏}‏ أي‏:‏ يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ أنظرهم ولا تستعجل لهم، ‏{‏أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا‏}‏ أي‏:‏ قليلا‏.‏ أي‏:‏ وترى ماذا أحل بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك، كما قال‏:‏ ‏{‏نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 24‏]‏‏.‏

آخر تفسير سورة ‏"‏الطارق‏"‏ ولله الحمد‏.‏

تفسير سورة سبح

وهي مكية‏.‏

والدليل على ذلك ما رواه البخاري‏:‏ حدثنا عبدان‏:‏ أخبرني أبي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال‏:‏ أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن‏.‏ ثم جاء عمار وبلال وسعد‏.‏ ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين‏.‏ ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون‏:‏ هذا رسول الله قد جاء، فما جاء حتى قرأت‏:‏ ‏"‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى ‏"‏ في سور مثلها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا إسرائيل، عن ثُوَيْر بن أبي فاختَةَ، عن أبيه، عن علي قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة‏:‏ ‏"‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى ‏"‏ تفرد به أحمد‏.‏

وثبت في الصحيحين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ‏:‏ ‏"‏هلا صَلّيت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن أبيه، عن النعمان بن بشير‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيدين بـ ‏"‏ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى ‏"‏ و‏"‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ‏"‏ وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا‏.‏

هكذا وقع في مسند الإمام أحمد إسناد هذا الحديث‏.‏ وقد رواه مسلم- في صحيحه- وأبو داود والترمذي والنسائي، من حديث أبو عَوَانة وجرير وشعبة، ثلاثتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، به قال الترمذي‏:‏ ‏"‏وكذا رواه الثوري ومسعر، عن إبراهيم- قال‏:‏ ورواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم- عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن أبيه، عن النعمان‏.‏ ولا يعرف لحبيب رواية عن أبيه‏"‏‏.‏

وقد رواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن المنتشر، عن أبيه عن حبيب بن سالم، عن النعمان به كما رواه الجماعة، والله أعلم‏.‏

ولفظ مسلم وأهل السنن‏:‏ كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بـ ‏"‏ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى ‏"‏ و‏"‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ‏"‏ وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما‏.‏

وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب، وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أبْزَى، وعائشة أم المؤمنين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بـ ‏"‏ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى ‏"‏ و‏"‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‏"‏ و‏"‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏"‏ -زادت عائشة‏:‏ والمعوذتين‏.‏

وهكذا رُوي هذا الحديث- من طريق- جابر وأبي أمامة صُدَيّ بن عجلان، وعبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم ولولا خشية الإطالة لأوردنا ما تيسر من أسانيد ذلك ومتونه ولكن في الإرشاد بهذا الاختصار كفاية، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 13‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى- يعني ابن أيوب الغافقي- حدثنا عمي إياس بن عامر، سمعت عقبة بن عامر الجهني لما نزلت‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏74، 96‏]‏ قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اجعلوها في ركوعكم‏"‏‏.‏ فلما نزلت‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏اجعلوها في سجودكم‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود وابن ماجة، من حديث ابن المبارك، عن موسى بن أيوب، به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم البَطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏‏.‏

وهكذا رواه أبو داود عن زُهَير بن حرب، عن وكيع، به وقال‏:‏ ‏"‏خولف فيه وكيع،رواه أبو وكيع وشعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد، عن ابن عباس، موقوفا‏"‏‏.‏

وقال الثوري، عن السدي، عن عبد خير قال‏:‏ سمعت عليا قرأ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى‏}‏ فقال‏:‏ سبحان ربي الأعلى‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا حَكَّام عن عَنْبَسة، عن أبي إسحاق الهَمْداني‏:‏ أن ابن عباس كان إذا قرأ‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى‏}‏ يقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى، وإذا قرأ‏:‏ ‏{‏لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏1‏]‏ فأتى على آخرها‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏40‏]‏ يقول‏:‏ سبحانك وبلى‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى‏}‏ ذُكِرَ لنا أن نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها، قال‏:‏ ‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ أي‏:‏ خلق الخليقة وسَوّى كل مخلوق في أحسن الهيئات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هدى الإنسان للشقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها‏.‏

وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏ أي‏:‏ قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه، كما ثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله ابن عَمرو‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله قَدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى‏}‏ أي‏:‏ من جميع صنوف النباتات والزروع، ‏{‏فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هشيما متغيرا‏.‏ وعن مجاهد، وقتادة، وابن زيد، نحوه‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام‏:‏ والذي أخرج المرعى أحوى، أي‏:‏ أخضر إلى السواد، فجعله غثاء بعد ذلك‏.‏ ثم قال ابن جرير‏:‏ وهذا وإن كان محتملا إلا أنه غير صواب؛ لمخالفته أقوال أهل التأويل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ‏}‏ أي‏:‏ يا محمد ‏{‏فَلا تَنْسَى‏}‏ وهذا إخبار من الله، عز وجل، ووعد منه له، بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها، ‏{‏إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ‏}‏ وهذا اختيار ابن جرير‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئا إلا ما شاء الله‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏فَلا تَنْسَى‏}‏ طلب، وجعلوا معنى الاستثناء على هذا ما يقع منالنسخ، أي‏:‏ لا تنسى ما نقرئك إلا ما شاء الله رفعه؛ فلا عليك أن تتركه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى‏}‏ أي‏:‏ يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى‏}‏ أي‏:‏ نسهل عليك أفعال الخير وأقواله، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا مستقيما عدلا لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ أي‏:‏ ذكِّر حيث تنفع التذكرة‏.‏ ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه‏:‏ ما أنت بمحدِّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم‏.‏ وقال‏:‏ حدث الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله‏؟‏‏!‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى‏}‏ أي‏:‏ سيتعظ بما تبلغه- يا محمد- من قلبه يخشى الله ويعلم أنه ملاقيه، ‏{‏وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا‏}‏ أي‏:‏ لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه، بل هي مضرة عليه؛ لأن بسببها يشعر ما يعاقب به من أليم العذاب، وأنواع النكال‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن أبي عدي، عن سليمان- يعني التيمي- عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون ولا يحيون، وأما أناس يريد الله بهم الرحمة فيميتهم في النار فيدخل عليهم الشفعاء فيأخذ الرجل أنصارة فينبتهم- أو قال‏:‏ ينبتون- في نهر الحياء- أو قال‏:‏ الحياة- أو قال‏:‏ الحيوان- أو قال‏:‏ نهر الجنة فينبتون- نبات الحبَّة في حميل السيل‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما ترون الشجرة تكون خضراء، ثم تكون صفراء أو قال‏:‏ تكون صفراء ثم تكون خضراء‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقال بعضهم‏:‏ كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالبادية‏.‏

وقال أحمد أيضا‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس- أو كما قال- تصيبهم النار بذنوبهم- أو قال‏:‏ بخطاياهم- فيميتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فنبتوا على أنهار الجنة، فيقال‏:‏ يا أهل الجنة، اقبضوا عليهم‏.‏ فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقال رجل من القوم حينئذ‏:‏ كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية‏.‏

ورواه مسلم في حديث بشر بن المفضل وشعبة، كلاهما عن أبي مَسْلَمة سعيد بن زيد، به مثله ورواه أحمد أيضا عن يزيد، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن أهل النار الذين لا يريد الله إخراجهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأن أهل النار الذين يريد الله إخراجهم يميتهم فيها إماتة، حتى يصيروا فحمًا، ثم يخرجون ضبائر فيلقون على أنهار الجنة، أو‏:‏ يرش عليهم من أنهار الجنة فينبتون كما تنبت الحبَّة في حميل السيل‏"‏‏.‏

وقد قال الله إخبارا عن أهل النار‏:‏ ‏{‏وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏77‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏36‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14 – 19‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏ أي‏:‏ طهَّر نفسه من الأخلاق الرذيلة، وتابع ما أنزل الله على رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، ‏{‏وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ أي‏:‏ أقام الصلاة في أوقاتها؛ ابتغاء رضوان الله وطاعة لأمر الله وامتثالا لشرع الله‏.‏ وقد قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏

حدثنا عباد بن أحمد العرزمي، حدثنا عمي محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله‏"‏، ‏{‏وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها‏"‏‏.‏ ثم قال لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه‏.‏ وكذا قال ابن عباس‏:‏ إن المراد بذلك الصلوات الخمس‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني عَمرو بن عبد الحميد الآملي حدثنا مروان بن معاوية، عن أبي خلدة قال‏:‏ دخلت على أبي العالية فقال لي‏:‏ إذا غدوت غدا إلى العيد فمرّ بي‏.‏ قال‏:‏ فمررت به فقال‏:‏ هل طعمت شيئا‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ أفضت على نفسك من الماء‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فأخبرني ما فعلت بزكاتك‏؟‏ قلت‏:‏ وكأنك قُلت‏:‏ قد وَجّهتهَا‏؟‏ قال‏:‏ إنما أردتك لهذا‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ وقال‏:‏ إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء‏.‏

قلت‏:‏ وكذلك روينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر، ويتلو هذه الآية ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ وقال أبو الأحوص‏:‏ إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة، فليقدم بين يدي صلاته زكاته، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ وقال قتادة في هذه الآية ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ زكى ماله وأرضى خالقه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ تقدمونها على أمر الآخرة، وتبدونها على ما فيه نفعهم وصلاحهم في معاشهم ومعادهم، ‏{‏وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ أي‏:‏ ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى، فإن الدنيا دنيَّة فانية، والآخرة شريفة باقية، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى، ويهتم بما يزول عنه قريبا، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد‏؟‏‏!‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين بن محمد، حدثنا ذُوَيد، عن أبي إسحاق، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الدنيا دَارُ من لا دارَ له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن عَرْفَجة الثقفي قال‏:‏ استقرأت ابن مسعود‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى‏}‏ فلما بلغ‏:‏ ‏{‏بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏ ترك القراءة، وأقبل على أصحابه وقال‏:‏ آثرنا الدنيا على الآخرة‏.‏ فسكت القوم، فقال‏:‏ آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزُويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل‏.‏

وهذا منه على وجه التواضع والهضم، أو هو إخبار عن الجنس من حيث هو، والله أعلم‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله، عن أبي موسى الأشعري‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من أحب دنياه أضر بآخرته، ومَن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقَى على ما يفنى‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقد رواه أيضا عن أبي سلمة الخزاعي، عن الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، به مثله سواء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا نصر بن علي، حدثنا مُعتمر بن سليمان، عن أبيه عن عطاء بن السائب، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كان كل هذا- أو‏:‏ كان هذا- في صحف إبراهيم وموسى‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ لا نعلم أسند الثقات عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس غير هذا، وحديثا آخر أورده قبل هذا‏.‏

وقال النسائي‏:‏ أخبرنا زكريا بن يحيى، أخبرنا نصر بن علي، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى‏}‏ قال‏:‏ كلها في صحف إبراهيم وموسى، فلما نزلت‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏37‏]‏ قال‏:‏ وفَّى ‏{‏أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏38‏]‏‏.‏ يعني أن هذه الآية كقوله في سورة ‏"‏النجم‏"‏‏:‏ ‏{‏أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 36-42‏]‏ الآيات إلى آخرهن‏.‏ وهكذا قال عكرمة- فيما رواه ابن جرير، عن ابن حميد، عن مِهْران، عن سفيان الثوري، عن أبيه، عن عكرمة- في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ يقول‏:‏ الآيات التي في سبح اسم ربك الأعلى‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ قصة هذه السورة في الصحف الأولى‏.‏

واختار ابن جرير أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ إشارة إلى قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي‏:‏ مضمون هذا الكلام ‏{‏لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏‏.‏ وهذا اختيار حسن قوي‏.‏ وقد رُوي عن قتادة وابن زيد، نحوُه‏.‏ والله أعلم‏.‏

آخر تفسير سورة ‏"‏سبح‏"‏ ولله الحمد والمنة‏.‏

تفسير سورة الغاشية

وهي مكية‏.‏

قد تقدم عن النعمان بن بَشير‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بـ ‏"‏ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى ‏"‏ والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة‏.‏

وقال الإمام مالك، عن ضَمْرَة بن سعيد، عن عُبَيد الله بن عبد الله‏:‏ أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير‏:‏ بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ‏"‏‏.‏

رواه أبو داود عن القَعْنَبي، والنسائي عن قتيبة، كلاهما عن مالك، به ورواه مسلم وابن ماجة، من حديث سفيان بن عيينة، عن ضمرة بن سعيد، به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 7‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ‏}‏

الغاشية‏:‏ من أسماء يوم القيامة‏.‏ قاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد؛ لأنها تغشى الناس وتَعُمّهم‏.‏ وقد قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسِيّ، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال‏:‏ مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ‏}‏ فقام يستمع ويقول‏:‏ ‏"‏نعم، قد جاءني‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ‏}‏ أي‏:‏ ذليلة‏.‏ قاله قتادة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تخشع ولا ينفعها عملها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ‏}‏ أي‏:‏ قد عملت عملا كثيرا، ونصبت فيه، وصليت يوم القيامة نارا حامية‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البرقاني‏:‏ حدثنا إبراهيم بن محمد المُزَكّى، حدثنا محمد بن إسحاق السراج، حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا سيار حدثنا جعفر قال‏:‏ سمعت أبا عمران الجَوني يقول‏:‏ مر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بدير راهب، قال‏:‏ فناداه‏:‏ يا راهب ‏[‏يا راهب‏]‏ فأشرف‏.‏ قال‏:‏ فجعل عمر ينظر إليه ويبكي‏.‏ فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين، ما يبكيك من هذا‏؟‏ قال‏:‏ ذكرت قول الله، عز وجل في كتابه‏:‏ ‏{‏عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً‏}‏ فذاك الذي أبكاني‏.‏

وقال البخاري‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ‏}‏ النصارى‏.‏

وعن عكرمة، والسدي‏:‏ ‏{‏عَامِلَةٌ‏}‏ في الدنيا بالمعاصي ‏{‏نَّاصِبَةٌ‏}‏ في النار بالعذاب والأغلال‏.‏

قال ابن عباس، والحسن، وقتادة‏:‏ ‏{‏تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً‏}‏ أي‏:‏ حارة شديدة الحر ‏{‏تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ‏}‏ أي‏:‏ قد انتهى حَرّها وغليانها‏.‏ قاله ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والسّدي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ شجر من نار‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو الزقوم‏.‏ وعنه‏:‏ أنها الحجارة‏.‏

وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو الجوزاء، وقتادة‏:‏ هو الشِّبرِقُ‏.‏ قال قتادة‏:‏ قريش تسميه في الربيع الشِّبرِقُ، وفي الصيف الضريع‏.‏ قال عكرمة‏:‏ وهو شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض‏.‏

وقال البخاري‏:‏ قال مجاهد‏:‏ الضريعُ نبتٌ يقال له‏:‏ الشِّبرِقُ، يسميه أهل الحجاز‏:‏ الضريعَ إذا يبس، وهو سم‏.‏

وقال مَعْمَر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏إِلا مِنْ ضَرِيعٍ‏}‏ هو الشِّبرِقُ، إذا يبس سُمّي الضريع‏.‏

وقال سعيد، عن قتادة‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ‏}‏ من شر الطعام وأبشعه وأخبثه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ‏}‏ يعني‏:‏ لا يحصل به مقصود، ولا يندفع به محذور‏.‏